تابع
وكان أهل بيت النبوة يتبادلون معه هذا الحب والتقدير والاحترام، ولم يستمعوا ولم يصغوا إلى من يتكلم فيه، أو يطعنه بطعنة، أو يعرّض به بتعريض، بل تبرؤا ممن فعل هذا، وأنكروا عليه كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وأكثر من ذلك كافئوه على احترامه لهم وتقديره بهم حتى أعطوه ثمرة من ثمار النبوة، وزوّجوها منه، وأطاعوه، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، وناصحوه، وشاوروه بأحسن ما رأوه، واستوزرهم فرضوا، وأنابهم فقبلوا نيابته، وجاهدوا تحت رايته، ولم يتأخروا في تقديم النصيحة له وما يطلب منهم وفق الكتاب والسنة، وبذلوا له كل غال وثمين.
111- فها هو علي بن أبي طالب يقر بذلك في رسالته التي أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر عامله على مصر، فيقول بعد ذكر الأحداث التي وقعت عقب وفاة الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه: ( فتولى أبو بكر تلك الأمور فلما احتضر بعث إلى عمـر، فولاّه فسمعنا وأطعنا وناصحنا - ثم يمدحه حسب عادته أنه لا يذكره إلا ويبالغ في مدحه – وتولى عمـر الأمر، وكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة ) ([1]).
أي لم نتأخر في بيعته، ولم نبخل بالسمع والطاعة والمناصحة، لأن سيرته كانت طيبة، ونفسه كان ميموناً مباركاً، ناجحاً في أفعاله، مظفراً في مطالبه.
112- ولقد أثبت هذا الطوسي في أماليه حيث يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:(فبايعت عمـر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، ودخلت حيث أدخلني ) ([2]).
113- فبايعه علي بن أبي طالب، وسمع له، وأطاعه، وناصحه، ورضي بما أمر به، ودخل اللجنة التي جعلها لانتخاب الخليفة، وكان وزيره ومشيره وقاضيه، وعمل بمشورته دون غيره كما ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي:( إن عمـر شاور أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء! ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله! هذا الرأي ) ([3]).
114- وكذلك وردت الروايات الكثيرة في المسائل القضائية أن عمـر يرجح قضاء علي، ولقد بوب شيخ الشيعة المفيد باباً مستقلاً بعنوان "ذكر ما جاء من قضاياه في إمرة عمـر بن الخطاب" وأورد تحته قضايا مختلفة كثيرة حكم فيها عمـر بقضاء علي رضي الله عنهما، ومنها:( أن عمـر أتى بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هب أن لك سبيلاً عليها أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول:( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ؟ فقال عمـر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن، ثم قال: فما أصنع بها؟ قال: احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد، فسرى بذلك عن عمـر وعول الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام ) ([4]).
115- وأيضا ذكر المفيد: أن عمـر استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات، فبلغ عمـر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدباً، ولم ترد إلا خيراً، ولا شيء عليك في ذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمـر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا: قال: فما عندك؟ قال: قد قال القوم ما سمعت، قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال: إن كان القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتاؤا فقد قصروا الدية على عاقلتك لأن قتل الصبى خطأ تعلق بك، فقال: أنت والله نصحتني من بينهم والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ([5]).
116- وأيضاً ( عن يونس عن الحسن أن عمـر أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول:( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ويقول جل قائلاً:( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فإذا تمت المرأة الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمـر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) ([6]).
117- وأيضاً:( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها، فأمر عمـر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمـر وقال: وتجرح الشهود أيضاً! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ردوها واسألوها فلعل لها عذراً، فردت وسئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبل أهلي لبن وخرج خليطنا وكان في إبله لبن، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله أكبر ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) فلما سمع ذلك عمـر خلى سبيلها) ([7]).
فعمل الفاروق في جميع هذه القضايا بقضاء عليّ، ونفّذ ما قاله لأنه كان يقول حسب رواية شيعية:( علي أقضانا ) ([8]).
أفبعد هذا يمكن القول بأن علياً كان يخالف عمر رضى الله عنهما، أو كان بينهما شيء؟!
وهل يتصور أن شخصاً لا يعترف ولا يقرّ بولاية أحد وخلافته ثم يشترك معه في الشورى وفي المسائل المهمة والنوائب الملمة، ويبدي رأيه الصائب، ويؤخذ بقوله ويقضى به بين الناس، وينفذ قضاؤه ؟!
118- وأكثر من ذلك: أن عليًا كان ينوب عنه في الحكم والحكومة أحيانًا ؛ حيث أنابه عمـر سنة 15 من الهجرة لما استمد أهل الشام عمـر على أهل فلسطين فشاور أصحابه فمنعه علي، وقال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً، فقال عمـر: إني أبادر بجهاز العدو موت العباس بن عبد المطلب، إنكم لو فقدتم العباس لينقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل".
فشخص عمـر إلى الشام.
119- ( وإن علياً عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة ) ([9]).
120- ولأجل ذلك قال علي رضي الله عنه لما عزموا على بيعته أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) ([10]).
يشير بذلك إلى وزارته أيام الصديق وأيام الفاروق رضي الله عنهم.
ولأجل ذلك كان يقاتل هو وبنوه وأهله وذووه تحت راية عمـر، ويقبلون منه الغنائم والهدايا والجواري والسبايا، ولو لم تكن خلافته حقاً لما كان القتال تحت رايته جهاداً، ولم يكن الجواري والإماء جوارياً وإماءً، ولم يجز قبولها والتمتع بها، وقد ثبت هذا كله كما ذكرناه سابقاً.
121- ومن ذلك ما روى الشيعة أن الحسن بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام قاتل تحت لواء الفاروق، وجاهد أيام خلافته وتحت توجيهاته وإرشاداته في الجيش الذي أرسل إلى غزو إيران ويقولون: إن في أصفهان مسجداً يعرف بلسان الأرض! ولقد سمي بهذا الاسم لأن الحسن لما جاء إلى أصفهان أيام خلافة عمـر بن الخطاب مجاهداً في سبيل الله غازياً وفاتحاً لهذه البلاد مع عساكر الإسلام نزل في موضع هذا المسجد فتكلمت معه الأرض – كما يزعمون - فسميت هذه البقعة لسان الأرض لتكلمها معه ([11]).
122- تسمية أهل البيت أبناءهم باسم الفاروق عمر، حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم للإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة، والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم.
فأول من سمى ابنه باسمه: الإمام الأول عند الشيعة ؛ وهو علي رضي الله عنه، فقد سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية - التي منحها له أبو بكر رضي الله عنه-: عمـر، كما ذكر ذلك المفيد واليعقوبي والمجلسي والأصفهاني وصاحب الفصول، يقول المفيد في باب "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسماءهم":( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين.(6) عمـر (7) رقية كانا توأمين أمهما أم حبيب بنت ربيعة ) ([12]).
ويقول اليعقوبي:( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً الحسن والحسين ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله.. وعمـر، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية ) ([13]).
وأما المجلسي فيذكرأن ( عمـر بن علي من الذين قتلوا مع الحسين في كربلاء، وأمه أم البنين بنت الحزام الكلابية ) ([14]).
وصاحب الفصول يقول تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب:( وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليه خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّر عمـر هذا حتى بلغ خمسة وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي عليه السلام، وذلك أن جميع إخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين (ع) بالطف فورثهم ) ([15]).
ولقد تبعه في هذا الحب لعمر بن الخطاب ابنه الحسن فسمى أحد أبنائه عمـر أيضاً.
يقول المفيد في باب "ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسماؤهم".
( أولاد الحسن بن علي (ع) خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى (1) زيد …. (5) عمر (6) قاسم (7) عبد الله أمهم أم ولد ) ([16]).
ويقول المجلسي:( كان عمر بن الحسن ممن استشهد مع الحسين بكربلاء ) ([17]).
ولكن الأصفهاني يرى أنه لم يقتل، بل كان ممن أسر فيقول:( وحمل أهله (الحسين بعد قتله) أسرى وفيهم عمـر، وزيد، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب ) ([18]).
وكذلك ابنه الثاني الحسين رضي الله عنه أيضاً سمى أحد أبنائه باسم عمـر، كما ذكر المجلسي تحت ذكر من قتل من أهل البيت مع الحسين بكربلاء ( قتل من أبناء الحسين كما هو المشهور علي الأكبر، وعبد الله الذي استشهد في حجره، وبعضهم قالوا: أيضاً قتل من أبنائه هو عمـر وزيد ) ([19]).
ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه أيضاً:عمـر، كما قال المفيد في باب "ذكر ولد علي عليه السلام":( ولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً (1) محمد المكنى بأبي جعفر الباقر (ع) أمه أم عبد الله بنت الحسن (6) عمـر لام ولد ) ([20]).
وأما الأصفهاني فيذكر أن عمـر هذا كان من أشقاء زيد بن على من أمه وأبيه كما يقول تحت ترجمة زيد بن على:( وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيد لعلي بن الحسين فولدت له زيداً وعمـر وعلياً وخديجة. اشترى المختار جارية بثلاثين ألفاً، فقال لها: أدبري فأدبرت، ثم قال لها: أقبلي فأقبلت، ثم قال: ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين فبعث بها إليه وهى أم زيد بن على ) ([21]).
وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم - الإمام السابع لدى الشيعة - سمى أحد أبنائه: عمـر ؛ كما ذكر الأربلي تحت عنوان أولاده ([22]).
فهؤلاء الأئمة الخمسة لدى الشيعة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حب وولاء حتى بعد وفاته ؛ فيسمون أبناءهم باسمه – رضي الله عنهم أجمعين -. شاهدين بفعلهم هذا على كذب ما تحوكه الشيعة من أساطير وخرافات حول العداوة بينهم، مما لا يصدقها عاقل عرف دين وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم.
وبعد هؤلاء: سرى هذا الاسم في أولادهم كما في كتب الأنساب والتاريخ والسير، وأورد بعضاً منها الأصفهاني في "المقاتل" والأربلي في "كشف الغمة"، يقول الأصفهاني: فمن الذين خرجوا طلباً للحكم والحكومة من الطالبيين مثل يحيى بن عمـر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج أيام المستعين.
وعمـر بن إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين "الذي خرج مع الحسين المعروف بصاحب فخ أيام موسى الهادي" ([23]).
و" عمـر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن" ([24]).
وغيرهم كثير، ولكننا اكتفينا بالخمسة الأول لما لهم من مكانة عند القوم لقولهم بعصمتهم وإمامتهم.
[1] - ["الغارات" للثقفي ج1 ص307، والنقيبة هي النفس].
[2] - ["الأمالي" للطوسي ج2 ص121 ط نجف].
[3] - ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص151، 152].
[4] - ["الإرشاد" ص109].
[5] - ["الإرشاد" ص110].
[6] - ["الإرشاد" ص110].
[7] - [" الإرشاد " ص 312].
[8] - ["الأمالي" للطوسي ج1 ص256 ط نجف].
[9] - ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370].
ولقد ذكر المؤرخون أن الفاروق رضي الله عنه أناب عليًا رضي الله عنه ثلاث مرات في الحكم على عاصمة المؤمنين: سنة 14 من الهجرة عندما أراد غزو العراق بنفسه. وسنة 15 عند شخوصه لقتال الروم. وعند خروجه إلى أيلة سنة 17 من الهجرة. [انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير ج7 ص35 وص55 ط بيروت، وأيضاً "الطبري" ج4 ص83، وص159 ط بيروت].
[10] - [نهج البلاغة ص136 تحقيق صبحي] [صـ 173ط دار الغد الجديد].
[11] - [انظر: "تتمة المنتهى" للعباس القمي ص390 ط إيران].
[12] - ["الإرشاد" للمفيد ص176].
[13] - ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213، كذلك "مقاتل الطالبيين" ص84 ط بيروت].
[14] - ["جلاء العيون" فارسي، ذكر من قتل مع الحسين بكربلاء ص570].
[15] - ["الفصول المهمة" منشورات الأعلمي طهران ص143، "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب" ص361 ط نجف، "تحفة الإهاب" ص251، 252، "كشف الغمة" ج1 ص575].
[16] - ["الإرشاد" ص194، "تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، "عمدة الطالب" ص81، "منتهى الآمال" ج1 ص240 "الفصول المهمة" ص166].
[17] - ["جلاء العيون" ص582].
[18] - ["مقاتل الطالبين" ص119].
[19] - ["جلاء العيون" للمجلسي ص582].
[20] - ["الإرشاد" ص261، "كشف الغمة" ج2 ص105، "عمدة الطالب" ص194، "منتهى الآمال" ج2 ص43، "الفصول المهمة" ص209].
[21] - ["مقاتل الطالبين" ص127].
والجدير بالذكر أن كثيراً من أولاد عمـر هذا خرجوا على العباسيين مع من خرج من أبناء عمومتهم ["وتفاصيل هذا موجودة في "المقاتل"].
[22] - ["كشف الغمة" ص216].
[23] - ["مقاتل الطالبين" للأصفهاني ص456 ط بيروت].
[24] - ["مقاتل الطالبين" أيضاً ص446].
حب آل البيت ومبايعتهم للفاروق رضي الله عنهم
وكان أهل بيت النبوة يتبادلون معه هذا الحب والتقدير والاحترام، ولم يستمعوا ولم يصغوا إلى من يتكلم فيه، أو يطعنه بطعنة، أو يعرّض به بتعريض، بل تبرؤا ممن فعل هذا، وأنكروا عليه كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وأكثر من ذلك كافئوه على احترامه لهم وتقديره بهم حتى أعطوه ثمرة من ثمار النبوة، وزوّجوها منه، وأطاعوه، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، وناصحوه، وشاوروه بأحسن ما رأوه، واستوزرهم فرضوا، وأنابهم فقبلوا نيابته، وجاهدوا تحت رايته، ولم يتأخروا في تقديم النصيحة له وما يطلب منهم وفق الكتاب والسنة، وبذلوا له كل غال وثمين.
111- فها هو علي بن أبي طالب يقر بذلك في رسالته التي أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر عامله على مصر، فيقول بعد ذكر الأحداث التي وقعت عقب وفاة الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه: ( فتولى أبو بكر تلك الأمور فلما احتضر بعث إلى عمـر، فولاّه فسمعنا وأطعنا وناصحنا - ثم يمدحه حسب عادته أنه لا يذكره إلا ويبالغ في مدحه – وتولى عمـر الأمر، وكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة ) ([1]).
أي لم نتأخر في بيعته، ولم نبخل بالسمع والطاعة والمناصحة، لأن سيرته كانت طيبة، ونفسه كان ميموناً مباركاً، ناجحاً في أفعاله، مظفراً في مطالبه.
112- ولقد أثبت هذا الطوسي في أماليه حيث يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:(فبايعت عمـر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، ودخلت حيث أدخلني ) ([2]).
113- فبايعه علي بن أبي طالب، وسمع له، وأطاعه، وناصحه، ورضي بما أمر به، ودخل اللجنة التي جعلها لانتخاب الخليفة، وكان وزيره ومشيره وقاضيه، وعمل بمشورته دون غيره كما ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي:( إن عمـر شاور أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء! ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك الله! هذا الرأي ) ([3]).
114- وكذلك وردت الروايات الكثيرة في المسائل القضائية أن عمـر يرجح قضاء علي، ولقد بوب شيخ الشيعة المفيد باباً مستقلاً بعنوان "ذكر ما جاء من قضاياه في إمرة عمـر بن الخطاب" وأورد تحته قضايا مختلفة كثيرة حكم فيها عمـر بقضاء علي رضي الله عنهما، ومنها:( أن عمـر أتى بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هب أن لك سبيلاً عليها أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول:( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ؟ فقال عمـر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن، ثم قال: فما أصنع بها؟ قال: احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد، فسرى بذلك عن عمـر وعول الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام ) ([4]).
115- وأيضا ذكر المفيد: أن عمـر استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات، فبلغ عمـر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدباً، ولم ترد إلا خيراً، ولا شيء عليك في ذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمـر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا: قال: فما عندك؟ قال: قد قال القوم ما سمعت، قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال: إن كان القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتاؤا فقد قصروا الدية على عاقلتك لأن قتل الصبى خطأ تعلق بك، فقال: أنت والله نصحتني من بينهم والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ([5]).
116- وأيضاً ( عن يونس عن الحسن أن عمـر أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول:( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ويقول جل قائلاً:( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فإذا تمت المرأة الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمـر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) ([6]).
117- وأيضاً:( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها، فأمر عمـر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمـر وقال: وتجرح الشهود أيضاً! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ردوها واسألوها فلعل لها عذراً، فردت وسئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبل أهلي لبن وخرج خليطنا وكان في إبله لبن، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله أكبر ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) فلما سمع ذلك عمـر خلى سبيلها) ([7]).
فعمل الفاروق في جميع هذه القضايا بقضاء عليّ، ونفّذ ما قاله لأنه كان يقول حسب رواية شيعية:( علي أقضانا ) ([8]).
أفبعد هذا يمكن القول بأن علياً كان يخالف عمر رضى الله عنهما، أو كان بينهما شيء؟!
وهل يتصور أن شخصاً لا يعترف ولا يقرّ بولاية أحد وخلافته ثم يشترك معه في الشورى وفي المسائل المهمة والنوائب الملمة، ويبدي رأيه الصائب، ويؤخذ بقوله ويقضى به بين الناس، وينفذ قضاؤه ؟!
118- وأكثر من ذلك: أن عليًا كان ينوب عنه في الحكم والحكومة أحيانًا ؛ حيث أنابه عمـر سنة 15 من الهجرة لما استمد أهل الشام عمـر على أهل فلسطين فشاور أصحابه فمنعه علي، وقال له: لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً، فقال عمـر: إني أبادر بجهاز العدو موت العباس بن عبد المطلب، إنكم لو فقدتم العباس لينقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل".
فشخص عمـر إلى الشام.
119- ( وإن علياً عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة ) ([9]).
120- ولأجل ذلك قال علي رضي الله عنه لما عزموا على بيعته أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) ([10]).
يشير بذلك إلى وزارته أيام الصديق وأيام الفاروق رضي الله عنهم.
ولأجل ذلك كان يقاتل هو وبنوه وأهله وذووه تحت راية عمـر، ويقبلون منه الغنائم والهدايا والجواري والسبايا، ولو لم تكن خلافته حقاً لما كان القتال تحت رايته جهاداً، ولم يكن الجواري والإماء جوارياً وإماءً، ولم يجز قبولها والتمتع بها، وقد ثبت هذا كله كما ذكرناه سابقاً.
121- ومن ذلك ما روى الشيعة أن الحسن بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام قاتل تحت لواء الفاروق، وجاهد أيام خلافته وتحت توجيهاته وإرشاداته في الجيش الذي أرسل إلى غزو إيران ويقولون: إن في أصفهان مسجداً يعرف بلسان الأرض! ولقد سمي بهذا الاسم لأن الحسن لما جاء إلى أصفهان أيام خلافة عمـر بن الخطاب مجاهداً في سبيل الله غازياً وفاتحاً لهذه البلاد مع عساكر الإسلام نزل في موضع هذا المسجد فتكلمت معه الأرض – كما يزعمون - فسميت هذه البقعة لسان الأرض لتكلمها معه ([11]).
122- تسمية أهل البيت أبناءهم باسم الفاروق عمر، حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم للإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة، والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم.
فأول من سمى ابنه باسمه: الإمام الأول عند الشيعة ؛ وهو علي رضي الله عنه، فقد سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية - التي منحها له أبو بكر رضي الله عنه-: عمـر، كما ذكر ذلك المفيد واليعقوبي والمجلسي والأصفهاني وصاحب الفصول، يقول المفيد في باب "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسماءهم":( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين.(6) عمـر (7) رقية كانا توأمين أمهما أم حبيب بنت ربيعة ) ([12]).
ويقول اليعقوبي:( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً الحسن والحسين ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله.. وعمـر، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية ) ([13]).
وأما المجلسي فيذكرأن ( عمـر بن علي من الذين قتلوا مع الحسين في كربلاء، وأمه أم البنين بنت الحزام الكلابية ) ([14]).
وصاحب الفصول يقول تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب:( وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليه خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّر عمـر هذا حتى بلغ خمسة وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي عليه السلام، وذلك أن جميع إخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين (ع) بالطف فورثهم ) ([15]).
ولقد تبعه في هذا الحب لعمر بن الخطاب ابنه الحسن فسمى أحد أبنائه عمـر أيضاً.
يقول المفيد في باب "ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسماؤهم".
( أولاد الحسن بن علي (ع) خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى (1) زيد …. (5) عمر (6) قاسم (7) عبد الله أمهم أم ولد ) ([16]).
ويقول المجلسي:( كان عمر بن الحسن ممن استشهد مع الحسين بكربلاء ) ([17]).
ولكن الأصفهاني يرى أنه لم يقتل، بل كان ممن أسر فيقول:( وحمل أهله (الحسين بعد قتله) أسرى وفيهم عمـر، وزيد، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب ) ([18]).
وكذلك ابنه الثاني الحسين رضي الله عنه أيضاً سمى أحد أبنائه باسم عمـر، كما ذكر المجلسي تحت ذكر من قتل من أهل البيت مع الحسين بكربلاء ( قتل من أبناء الحسين كما هو المشهور علي الأكبر، وعبد الله الذي استشهد في حجره، وبعضهم قالوا: أيضاً قتل من أبنائه هو عمـر وزيد ) ([19]).
ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه أيضاً:عمـر، كما قال المفيد في باب "ذكر ولد علي عليه السلام":( ولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً (1) محمد المكنى بأبي جعفر الباقر (ع) أمه أم عبد الله بنت الحسن (6) عمـر لام ولد ) ([20]).
وأما الأصفهاني فيذكر أن عمـر هذا كان من أشقاء زيد بن على من أمه وأبيه كما يقول تحت ترجمة زيد بن على:( وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيد لعلي بن الحسين فولدت له زيداً وعمـر وعلياً وخديجة. اشترى المختار جارية بثلاثين ألفاً، فقال لها: أدبري فأدبرت، ثم قال لها: أقبلي فأقبلت، ثم قال: ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين فبعث بها إليه وهى أم زيد بن على ) ([21]).
وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم - الإمام السابع لدى الشيعة - سمى أحد أبنائه: عمـر ؛ كما ذكر الأربلي تحت عنوان أولاده ([22]).
فهؤلاء الأئمة الخمسة لدى الشيعة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حب وولاء حتى بعد وفاته ؛ فيسمون أبناءهم باسمه – رضي الله عنهم أجمعين -. شاهدين بفعلهم هذا على كذب ما تحوكه الشيعة من أساطير وخرافات حول العداوة بينهم، مما لا يصدقها عاقل عرف دين وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم.
وبعد هؤلاء: سرى هذا الاسم في أولادهم كما في كتب الأنساب والتاريخ والسير، وأورد بعضاً منها الأصفهاني في "المقاتل" والأربلي في "كشف الغمة"، يقول الأصفهاني: فمن الذين خرجوا طلباً للحكم والحكومة من الطالبيين مثل يحيى بن عمـر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج أيام المستعين.
وعمـر بن إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين "الذي خرج مع الحسين المعروف بصاحب فخ أيام موسى الهادي" ([23]).
و" عمـر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن" ([24]).
وغيرهم كثير، ولكننا اكتفينا بالخمسة الأول لما لهم من مكانة عند القوم لقولهم بعصمتهم وإمامتهم.
[1] - ["الغارات" للثقفي ج1 ص307، والنقيبة هي النفس].
[2] - ["الأمالي" للطوسي ج2 ص121 ط نجف].
[3] - ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص151، 152].
[4] - ["الإرشاد" ص109].
[5] - ["الإرشاد" ص110].
[6] - ["الإرشاد" ص110].
[7] - [" الإرشاد " ص 312].
[8] - ["الأمالي" للطوسي ج1 ص256 ط نجف].
[9] - ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370].
ولقد ذكر المؤرخون أن الفاروق رضي الله عنه أناب عليًا رضي الله عنه ثلاث مرات في الحكم على عاصمة المؤمنين: سنة 14 من الهجرة عندما أراد غزو العراق بنفسه. وسنة 15 عند شخوصه لقتال الروم. وعند خروجه إلى أيلة سنة 17 من الهجرة. [انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير ج7 ص35 وص55 ط بيروت، وأيضاً "الطبري" ج4 ص83، وص159 ط بيروت].
[10] - [نهج البلاغة ص136 تحقيق صبحي] [صـ 173ط دار الغد الجديد].
[11] - [انظر: "تتمة المنتهى" للعباس القمي ص390 ط إيران].
[12] - ["الإرشاد" للمفيد ص176].
[13] - ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213، كذلك "مقاتل الطالبيين" ص84 ط بيروت].
[14] - ["جلاء العيون" فارسي، ذكر من قتل مع الحسين بكربلاء ص570].
[15] - ["الفصول المهمة" منشورات الأعلمي طهران ص143، "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب" ص361 ط نجف، "تحفة الإهاب" ص251، 252، "كشف الغمة" ج1 ص575].
[16] - ["الإرشاد" ص194، "تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، "عمدة الطالب" ص81، "منتهى الآمال" ج1 ص240 "الفصول المهمة" ص166].
[17] - ["جلاء العيون" ص582].
[18] - ["مقاتل الطالبين" ص119].
[19] - ["جلاء العيون" للمجلسي ص582].
[20] - ["الإرشاد" ص261، "كشف الغمة" ج2 ص105، "عمدة الطالب" ص194، "منتهى الآمال" ج2 ص43، "الفصول المهمة" ص209].
[21] - ["مقاتل الطالبين" ص127].
والجدير بالذكر أن كثيراً من أولاد عمـر هذا خرجوا على العباسيين مع من خرج من أبناء عمومتهم ["وتفاصيل هذا موجودة في "المقاتل"].
[22] - ["كشف الغمة" ص216].
[23] - ["مقاتل الطالبين" للأصفهاني ص456 ط بيروت].
[24] - ["مقاتل الطالبين" أيضاً ص446].
تعليق