الرد على أهل البدع
والضلال
كتبه:
أبو العباس محمد القصراوي الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله سبحانه وتعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيرها : يقول: إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُججه. اهـ
فنحن في أزمنة كثر فيها الشر وأهل الشر، وقلّ أهل الخير والناصحون لدين لله، وكثر فيها الجدال بغير حق، من المبتدعة الحزبيين وغيرهم من أهل الضلال، ومتتبعين للمتشابه من القرآن، وما وافق أهواءهم من كلام أهل العلم، مبتغين في ذلك الفتنة بين المسلمين، فكان واجبا على أهل السنة بيان حالهم للناس.
اشتمال كلام أهل البدع على حق وباطل
قال ابن جرير رحمه الله تعالى في "تفسيره": وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ، يَقُولُ: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. قال ابن القيم في "الصواعق" (3/926):
ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر. قال شيخ الإسلام في "درء التعارض" (1/208): وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع، فإنّ البدعة لو كانت باطلا محضاً لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا، لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإنّ السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل. اهـ وقال في " درء التعارض " (2/104): فإنّ البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذا لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيها، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولا كن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد. وهذا من شدة تلبيسهم على الناس . كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مقدمة "الرد على الجهمية" (56 ـ 57) ـ في وصف أهل البدع ـ : الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علميتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين.
الواجب على من ردّ على أهل البدع لزوم السنة
وعدم ترك شيء من الحق
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم، فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم، ووجدت كثيراً من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه، يوافقون خصومهم تارة على الباطل، ويخالفونهم في الحق تارة أخرى، ويستطيلون عليهم بما وافقهم عليه من الباطل، وبما خالفوهم فيه من الحق، كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات - أو لبعضها كالعلو وغيره - لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض، أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة، أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك. وقال ابن القيم في "الصواعق" (1255): ولا يمكن الرد على أهل الباطل إلا مع أتباع السنة من كل وجه وإلا فإذا وافقها الرجل من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسنة. .. وليس لمبطل بحمد الله حجة ولا سبيل بوجه من الوجوه على من وافق السنة ولم يخرج عنها حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السنة. فالسنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه من الواصلين وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين فمن وافق مبطلا على شيء من باطله جره بما وافقه منه إلى نفي باطله.
النصرة في اتباع السنة وعدم رد الحق
قال شيخ الإسلام "درء التعارض" (8/ 409): فإنّ الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه،
لا يردّ الباطل بالباطل
.... وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل. اهـ وقال رحمه الله تعالى في "درء التعارض"(7/292):
وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلاً، ولا يدفع بباطل أصلاً فيلزم المؤمن الحق، وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه: لا موافقة لمن قاله، ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلاً. وقال رحمه الله تعالى في "منهاج السنة" (2/342) ـ بعد أن ذكر قوم يقابلون البدعة ببدعة ـ : لَكِنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَهُمْ يَذُمُّونَ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ وَبِدْعَةً بِبِدْعَةٍ، وَيَأْمُرُونَ أَلَّا يَقُولَ الْإِنْسَانُ إِلَّا الْحَقَّ، لَا يَخْرُجُ عَنِ السُّنَّةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ.
الواجب عدم ردّ الحق
أو معارضته بحق آخر
قال رحمه الله تعالى "درءالتعارض" (8/404): ـ بعد أن ذكر الحديث ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاتركوه.: فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة. والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها، ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة، ويرده من طائفة أخرى. ولهذا قال تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} . فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق. فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون.
الواجب على من ناظر أهل البدع
من خالف السنة في رده كان مآله الاضطراب
فلا بدّ من لزوم السنة، فإنه لا اختلاف فيها، ومن خالف السنة كان حليفه التناقض، إما رده بباطل، أو رده للحق.
وقال "تلبيس الجهمية" (1/538ـ539): ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام، ومن يضاهيهم في هذا الأصل، وجدهم عامتهم مضطربين فيه، كل منهم وإن أثبت نوعًا من الحق واعتصم به، فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض، وأكثر عقول الناس تبخس دون تأمل هذا؛ إذ أحدهم يرى نفسه، إما أن يقول حقًّا، ويقول ما ينقضه، أو يقول حقًّا ويكذب بحق آخر، وتناقض القولين باطل، والتكذيب بالحق باطل.اهـ فنسأل الله أن يدحر أهل الباطل، وأن ينصر كل من قام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونسأله أن يثبتنا على طاعته، ويجنبنا البدع والشرور ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله.
كتبه:
أبو العباس محمد القصراوي الجزائري
رمضان ـ 1436 ، الجزائر
تعليق