إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شرح الأصول الثلاثة للشيخ الفوزان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    الإيمان بالرسل
    وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] . [74]
    شرح الشيخ الفوزان - حفظه الله -

    [74] الإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» . فالإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان، فلا بد من الإيمان بالرسل جميعهم من أولهم إلى آخرهم، فمن جحد رسولا واحدًا منهم فهو كافر بالجميع كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151] فلا بد من الإيمان بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم في كتابه ومن لم يسم، فإن الرسل كثيرون؛ ولهذا جاء في الحديث: «أن عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» .
    فهم رسل كثيرون منهم من سمى الله في كتابه ومنهم من لم يسم، فيجب علينا الإيمان بجميعهم من أولهم إلى آخرهم.


    َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] . [75]
    الشرح
    [75] الدليل عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ذكر الله جملة من أسمائهم في هذه الآية كما ذكر جملة من أسمائهم في آية الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى آخر الآيات [الأنعام: 84 - 86] .
    فأولهم نوح عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} بعثه الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين بعد أن كان الناس على دين التوحيد منذ آدم عليه السلام إلى عشرة قرون وهم على التوحيد، فلما جاء قوم نوح كان فيهم رجال صالحون، فلما مات هؤلاء الصالحون حزنوا حزنًا شديدًا، فانتهز الشيطان هذه الفرصة وقال لهم: صوروا صور هؤلاء الصالحين وانصبوها على مجالسكم؛ من أجل إذا رأيتم هذه الصور تتذكرون أحوالهم وتنشطون على العبادة، فقاموا وصوروا صور هؤلاء الموتى، ونصبوها على المجالس، فلم تعبد في أول الأمر لوجود العلماء الذين يبينون للناس التوحيد وينكرون الشرك.
    فلما مات العلماء وذهب الجيل الأول، جاء جيل متأخر وقد مات العلماء، جاء الشيطان إليهم فقال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليعبدوها، وبها كانوا يسقون المطر، فزين لهم عبادتها فعبدوها من دون الله، ومن ثم حدث الشرك في الأرض، فبعث الله نبيه نوحًا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله عز وجل ويردهم إلى التوحيد الذي هو دين أبيهم آدم عليه السلام لكنهم عاندوا واستكبروا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين، صوروا صورهم ونصبوها على مجالسهم فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها من دون الله.
    فلما جاءهم نوح عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله، قالوا: لا تذرون آلهتكم، لا تطيعوا نوحا، واستمروا على كفرهم وطغيانهم وعنادهم.هذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه الصور ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة» «المصورون» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» يؤمرون بنفخ الروح في هذه الصور من باب التعجيز والتعذيب لهم والعياذ بالله؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح.
    فأول الرسل نوح، وأما خاتم الرسل وآخرهم فهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» .
    فبه صلى الله عليه وسلم ختمت الرسالات السماوية فلا يبعث بعده نبي إلى أن تقوم الساعة، ولكن شريعته باقية إلى أن تقوم الساعة، ودينه باق إلى أن تقوم الساعة كما سبق، فمن ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ومن صدقه فهو كافر بالله لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
    وقد ادعى النبوة بعده خلق كثير وفضحهم الله وأظهر كذبهم، ومن آخرهم فيما نعلم، القادياني، غلام أحمد القادياني الهندي، الذي كان في الأول يدعي العلم والعبادة، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، ثم ادعى النبوة، والآن له أتباع يسمون بالقاديانية وقد كفرهم المسلمون ونابذوهم واعتبروهم فرقة كافرة خارجة عن الإسلام، وهم منابذون ومطاردون - ولله الحمد - من بلاد المسلمين، ولهم نشاط، ولكن نشاطهم يبوء بالفشل، الحاصل أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ادعى النبوة فهو كذاب كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون، قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله» .


    وكل أمة بعث الله إليهم رسولا من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 36] . [76]
    الشرح
    [76] المتنبئون كثيرون؛ ولكن الله يفضح أمرهم ويكشف سترهم ويبين خزيهم للناس، وَمَنْ صَدَّقَهُمْ فهو كافر، لأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
    قوله: وكل أمة بعث الله إليهم رسولا، أي: كل أمة من الناس يبعث الله إليها رسولا ليقيم الحجة عليهم، لئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فكل أمة من الأمم السابقة يبعث الله إليها رسولًا كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] لكن يجب أن نعرف ما هي دعوة الرسل؟ دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هي إلى التوحيد؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فكل ما عبد من دون الله طاغوت، كما يأتي في أنواع الطواغيت أن من أنواعهم ما عبد من دون الله وهو راض بذلك كما سيأتي.
    فمعنى قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: اجتنبوا عبادة الأوثان والأصنام والقبور والأضرحة هذه هي الطواغيت فدلت الآية الكريمة على أن دعوة الرسل كلها تتركز على التوحيد من أولهم إلى آخرهم.
    كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] .
    فدعوة الرسل كلهم إلى التوحيد، وإفراد الله جل وعلا بالعبادة، والنهي عن الشرك، هذه هي دعوة الرسل، ثم بعد التوحيد تأتي الشرائع من الحلال والحرام، وتفاصيل الشرائع تختلف باختلاف الأمم وحاجة الأمم، وينسخ الله منها ما يشاء، ثم نسخت كلها بشريعة الإسلام الحلال والحرام والأحكام والعبادات والأوامر والنواهي، أما الأصل وهو التوحيد فهذا لا اختلاف فيه ولا نسخ، هذا دين واحد دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم دينهم واحد.
    كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ودين التوحيد هو عبادة الله بما شرع في كل وقت بحسبه، فإذا نسخ هذا الشرع انتقل إلى الناسخ، فمن أصر وبقي على المنسوخ وترك الناسخ فإنه يكون كافرًا بالله عز وجل؛ لأن الدين المنسوخ لا يكون دينًا بعد نسخه، وإنما هو دين قبل أن ينسخ، فإذا نسخ فلا يكون دينًا ويكون الدين هو الناسخ، فلهذا نسخت شريعة الإسلام ما قبلها من الشرائع، فمن بقي على اليهودية أو النصرانية بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه يعمل بدين منسوخ انتهى وقته.

    الكفر بالطاغوت والإيمان بالله
    وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ والإيمان بالله [77]
    الشرح
    [77] قال الشيخ رحمه الله: وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ثم ذكر تعريف الطاغوت، فالطاغوت ذكره الله جل وعلا في آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة البقرة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 256، 257] وفي سورة النساء، قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] وهذه الآية في اليهود.
    ويقول سبحانه في المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] وفي سورة النحل يقول جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] الطاغوت: مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد، يقال: طغى الماء إذا ارتفع منسوبه.
    قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] .

    قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ من معبود أو متبوع أو مطاع [78]
    الشرح
    [78] أما معنى الطاغوت في الشرع فهو كما ذكر ابن القيم رحمه الله ونقله عنه الشيخ هاهنا، الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، العبد له حد لأنه عبد حدد الله له حدودًا يجب عليه أن يقف عندها، فإذا تجاوزها فإنه يكون طاغوتًا، فمن تجاوز حدود الله التي حددها لعباده وأمرهم أن لا يتجاوزوها وألا يقربوها فهو طاغوت، فإذا عصى الله وتجاوز حدوده وطغى فإنه يسمى طاغوتًا لأنه طغى وتعدى حدود الله.
    فقوله: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أو متبوع أو مطاع.
    هذا التعريف الشامل للطاغوت لأن الله جل وعلا أمر بعبادته وحده لا شريك له، وأمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بطاعته وطاعة رسوله فيما حلل وحرم، فمن تجاوز هذا الأمر فهو طاغوت، من تجاوز حد العبادة التي أوجبها الله واختص بها ونفاها عن غيره، فعبد مع الله غيره فهو طاغوت، المشرك طاغوت؛ لأنه تجاوز الحد في العبادة وعبد مع الله غيره، صرف العبادة لغير مستحقها، وكذلك من عبد وهو راض.
    الذي يعبده الناس بهذا ويفرح ويترأس بهذا الشيء ويتزعم هذا طاغوت، مثل فرعون والنمرود ومشايخ الطرق الصوفية الغلاة الذين يعبدهم أتباعهم ويرضون بذلك، أو يدعون الناس إلى هذا، أي إلى أن يعبدوهم كما سيأتي، فهذا طاغوت في العبادة.
    قوله: أو متبوع: الله جل وعلا أمر جميع الخلق أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يتبع غيره عليه الصلاة والسلام، فمن اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن هذا جائز فإنه يكون طاغوتًا لأنه اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بإتباعه، فالاتباع خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما غيره من العلماء والدعاة فهؤلاء يتبعون إذا اتبعوا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمتبع هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فإنهم مبلغون فقط يتبعون للحق وما وافقوا فيه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وما خالفوا فيه الرسول فلا يجوز اتباعه.
    مثال ذلك مشايخ الطرق الصوفية، يتبعهم مريدوهم وعبيدهم في غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقولون: إننا لسنا بحاجة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نحن نأخذ مما أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ونتلقى عن الله مباشرة، الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله بالواسطة، بواسطة جبريل، ونحن نتلقى عن الله مباشرة ويقولون: أنتم تروون دينكم عن ميت، ونحن نروي ديننا عن الله سبحانه وتعالى، لأنهم يزعمون أن شيوخهم يتصلون بالله ويتلقون من الله مباشرة.
    بلغ بهم الحد إلى هذا الطغيان والعياذ بالله، هذه طريقتهم، لا شك أن هؤلاء هم رؤوس الطواغيت والعياذ بالله؛ لأنه لا طريق إلى الله جل وعلا إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32] .
    فالذي يتبع غير الرسول هذا يعتبر طاغوتا، وكذلك من يدعو إلى اتباعه ويقول للناس: أنا آتيكم بالأمر من الله مباشرة، هذا أكبر الطواغيت في العالم والعياذ بالله.
    قوله: أو مطاع: الطاعة إنما هي لله ولرسوله بما حلل وحرم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وليس لأحد أن يشارك الله في التحليل والتحريم؛ ولذلك حكم الله على من حلل وحرم أو طاع من فعل ذلك بأنه مشرك.
    قال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 118 - 121] لأن أهل الجاهلية يقولون: الميتة حلال لأن الله هو الذي ذبحها، فهي أولى بالحل مما ذبحتم وذكيتم، فالله جل وعلا يقول: لا تأكلوا إلا ما ذكي ذكاة شرعية، وحرم عليكم الميتة.
    وهؤلاء يقولون: لا الميتة حلال هي أولى بالحل من المذكاة لأن المذكاة ذكيتموها أنتم، وأما الميتة فالله هو الذي ذبحها.
    ولهذا رد على المشركين وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن طاعة الله سبحانه عز وجل. وقال بعدها: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: الميتة ذبحها الله والمذكاة أنتم ذبحتموها فكيف تستحلون ما ذبحتم ولا تستحلون ما ذبحه الله؟ هذا مجادلة بالباطل، ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هذا من شرك الطاعة، التحليل والتحريم حق لله جل وعلا. فلا يجوز لأحد أن يحلل أو يحرم من عند نفسه أو يطيع من حلل أو حرم من عنده نفسه، ومن فعل ذلك فإنه طاغوت ومطيع للطواغيت الذين يحللون ويحرمون من دون الله هذا معنى قوله: أو مطاع: أي: مطاع في التحليل والتحريم؛ لأن التحليل والتحريم حق لله جل وعلا، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله ما حلل وحرم.

    أنواع الطواغيت
    وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ، وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ، إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، ومن عبد وهو راض [79]
    الشرح
    [79] قوله: والطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة:
    الطواغيت الذين ينطبق عليهم هذا التعريف: كل معبود أو متبوع أو مطاع كثيرون؛ ولكن رؤوسهم خمسة يعني أكابرهم خمسة.
    الأول: إبليس لعنه الله، أي: طرده الله وأبعده عن رحمته بسبب أنه امتنع من السجود لآدم وعصى الله سبحانه وتعالى وتكبر وقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] فعصى أمر الله وتكبر فلعنه الله وطرده وأبعده، وسمي إبليس قيل: لأنه أبلس من الرحمة يعني يأس من الرحمة، فالْمُبْلِس هو اليائس من الشيء، فإبليس لعنه الله رأس الطواغيت لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، وهو الذي يأمر باتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر بطاعة غير الله بالتحليل والتحريم، فإبليس هو مصدر الشر وهو رأس الطواغيت.
    الثاني: من عُبِدَ وهو راض، أي: عبد وهو راض بعبادة الناس له فهو طاغوت، أما من عبد وهو غير راض بذلك فلا يدخل في هذا؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من دون الله ولكنه غير راض بذلك، وأمه وعزير والأولياء والصالحون من عباد الله لا يرضون بهذا، بل كانوا ينكرون هذا ويحاربون من فعله، فمن عبد وهو غير راض بذلك فإنه لا يسمى طاغوتا.
    ولذلك لما أنزل الله قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فرح المشركون، وقالوا: نحن نعبد المسيح ونعبد ونعبد....، إذًا هم معنا في النار، فأنزل الله تعالى: إِنَّ {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 - 102] . وفي الآية الأخرى قالوا: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] يعنون عيسى عليه السلام ثم قال: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 58، 59] فهو عبد لله ولا يرضى أن يعبد من دون الله بل بعثه الله بإنكار ذلك: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فالذي عبد وهو غير راض بذلك، لا يدخل في هذا الوعيد ولا يكون طاغوتًا؛ لأنه منكر لذلك؛ لأن الطاغوت هو الذي يرضى بأن يعبد من دون الله عز وجل.

    ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه [80]
    الشرح
    [80] والثالث: من دعا الناس إلى عبادة نفسه: مثل رؤوس المشركين الذين يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم مثل فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] .
    ومثل النمرود ومثل غلاة الصوفية الذين يدعون الناس إلى عبادتهم حتى إنهم يوصون الناس أن يعبدوهم بعدما يموتون فيقول أحدهم: إذا أعيتكم الأمور فأتوا إلى قبري، أي: إذا أعجزتكم الأمور فأتوا إلى قبري ولا يحول بينكم وبيني حفنة من التراب، يوصون الناس أن يأتوا إلى قبورهم ويعدونهم أنهم سيقومون بحوائجهم، فمن دعا الناس إلى عبادة نفسه حيا وميتًا فهو من رؤوس الطواغيت، وكذلك من دعا الناس إلى عبادة غيره من الطواغيت وهم دعاة الشرك، هؤلاء طواغيت، الذين يزينون الشرك للناس ويسمونه بغير اسمه ويقولون هذا من باب التوسل، أو هذا من باب الشفاعة وهم كثير.
    إن هؤلاء طواغيت لأنهم يدعون إلى الشرك، فهم يدعون إلى عبادة غير الله ويسمون ذلك بغير اسمه، ويزينونه للناس بالشبهات وزخرف القول هؤلاء هم الطواغيت، دعاة الشرك طواغيت، وكل من عبد من دون الله ورضي بذلك أو دعا الناس إلى عبادة نفسه أو دعا الناس إلى عبادة غير الله فإنه من الطواغيت، بل هو من رؤوس الطواغيت نسأل الله العافية.


    ومن ادعى شيئا من الغيب [81]
    الشرح
    [81] الرابع: من ادعى شيئا من علم الغيب: وهذا يدخل فيه السحرة والمنجمون والكهان والرمالون وكل من يدعي أنه يعلم الغيب ويقول للناس: سيحصل لكم كذا وكذا، أنت سيحصل لك سعادة أو يحصل لك شيء من التعب، أو توفق في زواج أو لا توفق، هؤلاء يدعون علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
    لا يعلمها إلا هو: هذا حصر فلا يعلم الغيب إلا الله أو من أطلعه الله على شيء من الغيب من رسله لأجل مصلحة البشر ومعجزة للرسول، لكن لم يعلم الغيب من ذات نفسه وإنما علمه للغيب من تعليم الله له، فلا يعلم الغيب إلا الله فمن ادعى علم الغيب فإنه يكون مشاركًا لله فيما اختص به سبحانه، فيكون مشركًا وطاغوتًا وكافرًا، وهذا من أعظم أنواع الردة عن الإسلام.

    ومن حكم بغير ما أنزل الله [82]
    الشرح
    [82] الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله: ودليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] فالذي يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك يكون طاغوتًا، والذي يقول: أنه يجوز أن يتحاكموا إلى القانون أو إلى العوائد في الجاهلية أو عوائد القبائل والبادية ويتركوا الشرع، يقول: هذا حلال، أو: هذا يساوي ما أنزل الله، فإذا قال إنه أحسن مما أنزل الله، أو يساوي ما أنزل الله، أو قال إنه حلال فقط، ولم يقل: إنه يساوي، ولا أفضل، قال: حلال جائز، هذا يعتبر طاغوتًا، وهذا بنص القرآن، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} سمي طاغوتًا لأنه تجاوز حده، أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يقر أن ما أنزل الله هو الواجب الاتباع والحق، وأن غيره باطل، وأنه يحكم بباطل، فهذا يعتبر كافرا الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، لكنه على خطر عظيم، على طريق قد يصل به إلى الكفر المخرج من الملة إذا تساهل في هذا الأمر.
    وأما من حكم بغير ما أنزل الله عن غير تعمد بل عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد من الفقهاء واجتهد ولكن لم يصب حكم الله، وأخطأ في اجتهاده فهذا مغفور له، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر» لأنه لم يتعمد الخطأ هو يريد الحق ويريد موافقة حكم الله عز وجل؛ لكنه لم يوفق له فهذا يعتبر معذورًا ومأجورًا؛ ولكن لا يجوز اتباعه على الخطأ، لا يجوز لنا أن نتبعه على الخطأ، ومن هذا اجتهادات الفقهاء التي أخطؤوا فيها أو اجتهادات القضاة في المحاكم إذا اجتهدوا وبذلوا وسعهم في طلب الوصول إلى الحق ولكن لم يوفقوا فخطؤهم مغفور.

    وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . [83]
    الشرح


    [83] قال سبحانه وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا إكراه في الدين، معناه أن أحدًا لا يكره على الدخول في الإسلام؛ لأن الدخول في الإسلام لا بد يكون عن اقتناع واعتقاد بالقلب ولا يكره عليه أحد، لا يمكن هذا؛ لأن القلوب لا يتصرف فيها إلا الله سبحانه وتعالى، لا يكره أحد إلى الإسلام لأننا لا نملك القلوب، وإنما الله جل وعلا هو الذي يملكها ويتصرف فيها ولكن نحن ندعو للإسلام ونرغب فيه، نجاهد في سبيل الله من كفر لأجل نشر الإسلام وإتاحة الفرصة لمن يريد أن يسلم، ولأجل قمع أعداء الله، أما الهداية فهي بيد الله سبحانه وتعالى لا أحد يكره على الإيمان والإسلام.
    وإنما هذا شيء راجع إليه هو، ثم قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} فالإسلام - ولله الحمد - ليس فيه ما يكره بل كله محبوب ومرغوب، والكفر والشرك كله شر وكله مكروه، قد تبين هذا من هذا، تميز الرشد وهو الحق، من الغي وهو الباطل، والإنسان عنده عقل وعنده تفكير يوازن بين الحق والباطل، سيهديه تفكيره إن كان سليما وسالمًا من الهوى والدوافع، سيهديه تفكيره السليم إلى قبول الحق بدون أن يكره، هذا قول في الآية.
    والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، أن أهل الكتاب لا يجبرون على الدخول في الإسلام، بل إذا أرادوا البقاء على دينهم مكنوا من ذلك بشرط أن يدفعوا الجزية للمسلمين وهم صاغرون، أما غيرهم من الكفرة فلا يقبل منهم غير الإسلام أو القتل، لأنهم ليس لهم دين والوثنية دين باطل. والقول الثالث: أن هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، هذه في أول الأمر قبل أن يشرع الجهاد ثم شرع الجهاد فنسخت هذه الآية.
    ولكن القول الأول هو الصحيح أن الآية غير منسوخة وأن الدين لا يدخل في القلوب بالإكراه وإنما يدخل بالاختيار، لكن من لم يقبل الدين يعامل المعاملة اللائقة به من قتل أو أخذ جزية مما شرع الله سبحانه وتعالى في حقه.
    {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} الطاغوت: المراد جميع الطواغيت في العبادة أو الاتباع أو في الطاعة لأن كلمة الطاغوت هنا عامة، قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لأن الإيمان بالله لا ينفع إلا بعد الكفر بالطاغوت، فمن آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت فإنه لا ينفعه إيمانه، فالذي يقول: إنه مؤمن ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل الطاعات لكنه لا يتبرأ من الشرك ولا المشركين ويقول: لا دخل لي فيهم، هذا لا يعتبر مسلمًا لأنه لم يكفر بالطاغوت.
    فلا بد من الكفر بالطاغوت وهو رفض الطاغوت واعتقاد بطلانه، والابتعاد عنه وعن أهله، لا بد من هذا، فلا يصح إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت. وفي الآية الأخرى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فلا تصح عبادة الله إلا باجتناب الطاغوت لا يجتمع ضدان، لا يجتمع الإيمان والكفر في القلب، الإيمان والكفر الأكبر لا يجتمعان في قلب، أما الكفر الأصغر فقد يجتمع.

    وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . [84]
    الشرح


    [84] قال الشيخ: وهذا معنى لا إله إلا الله يعني الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
    الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو رأس أمر الدين، الشهادتان هما رأس الإسلام وهما أصل الإسلام، فلا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أتى بالشهادتين نطقًا وعلمًا وعملًا واعتقادًا، لا يكون الإنسان مسلما إلا بذلك، شبه الدين بالجسم الذي له رأس عمود وسنام فإذا قطع الرأس أو لم يكن هناك رأس فإنه لا بقاء للحياة، كذلك بدون التوحيد لا بقاء للدين؛ لأنه هو الرأس الذي إذا قطع أو زال زالت الحياة وفسد البدن.
    وعموده الذي يقوم عليه هو الصلاة، فبدون عمود لا يقوم الإسلام، مثل بيت الشعر أو الخيمة إذا لم يكن هناك عمود تقوم عليها فإنها لا تقوم، فلا يقوم بيت إلا بعمود فإذا فقد العمود لا يقوم البيت، كذلك الصلاة إذا فقدت فإن الإسلام لا يقوم، ولذلك قال العلماء: إن من ترك الصلاة تكاسلًا فإنه يكفر على الصحيح ولو كان يعترف بوجوبها؛ لأنه لا فائدة من الاعتراف بالوجوب مع عدم التطبيق وعدم العمل، لا فائدة من ذلك، ولذلك حكم المحققون من أهل العلم بكفر من ترك الصلاة متعمدًا ولو كان يقر بوجوبها، أما من كان يجحد وجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين.
    وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله: ذروة سنام الأمر وهو الدين، الجهاد في سبيل الله فالجهاد دليل على قوة الإسلام، إذا وجد الجهاد في سبيل الله فهذا دليل على قوة الإسلام لأن الجهاد لا يكون إلا من قوة إيمان وقوة مادة. فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أشياء للدين: الرأس، والعمود، والسنام، فبعدم الرأس لا وجود للدين أصلًا فالذي لا يحقق الرأس وهو التوحيد لا دين له. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
    والذي لا يصلي لا يقوم له دين وإن شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ لأنه يحتاج إلى عمود يقيم عليه الدين وهو لا يوجد إلا بالصلاة. وإذا فقد الجهاد فقدت القوة في الإسلام وصار إسلامًا ضعيفًا وصار المسلمون مستضعفين، فلا قوة للإسلام والمسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو علامة القوة، وفقده علامة الضعف. هذا وجه تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور الثلاثة بالنسبة للدين، رأس وعمود وسنام، كما أن البعير إذا صار له سنام هذا يدل على أنه قوي وإذا لم يكن له سنام فهذا يدل على أنه هزيل ضعيف.
    كذلك المسلمون اليوم مستضعفين في الأرض ولهذا في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم» فترك الجهاد ذل وضعف للمسلمين، ووجوده دليل القوة والسمن، كالسنام للحيوان.




    وبهذا انتهى شرح هذا الكتاب المبارك ثلاثة الأصول.
    والحمد لله رب العالمين






    تعليق

    يعمل...
    X