إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شرح الأصول الثلاثة للشيخ الفوزان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شرح الأصول الثلاثة للشيخ الفوزان

    بسم الله الرحمن الرحيم
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] .
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
    أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
    أيها الاخوة في الله إني أضع بين أيديكم -شرح الأصول الثلاثة لشيخنا المفضال :صالح بن عبدالله الفوزان -حفظه الله - فهومفيد - إن شاء الله - ونسأل الله أن ينفعنا به
    وهاكم الشرح !
    ...
    شرح الأصول الثلاثة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة الشرح
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فبين أيدينا هذه الرسالة - رسالة ثلاثة الأصول - وهي رسالة جليلة مختصرة مؤيدة بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
    وهذه الرسالة في أصل عظيم من أصول الإسلام وهو العقيدة، وكان العلماء يهتمون بهذه المختصرات يؤلفونها، ويتعبون على اختصارها وتهذيبها ثم يحفظونها لطلبتهم؛ لتبقى أصولا عندهم وذخيرة عندهم يستفيدون منها ويفيدون منها.
    والبداءة بهذه المختصرات هي الأساس لطلبة العلم، فطالب العلم يبدأ بالتعلم شيئا فشيئا يأخذ من مبادئ العلم وأصوله، ويتدرج فيه.
    فهذه المختصرات طريق المطولات. لا يمكن أن تفهم المطولات إلا بعد فهم المختصرات والتدرج منها شيئًا فشيئًا؛ ولهذا قالوا في معنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] إن الربانيين هم الذين يبدؤون بصغائر مسائل العلم قبل كباره، يربون أنفسهم وطلابهم ابتداء من المسائل الصغيرة إلى المسائل الكبيرة، وهذا شيء طبيعي؛ لأن كل الأشياء تبدأ من أصولها وأساساتها ثم تكبر وتعظم بعد ذلك.
    فأما الذي يهجم على العلم هجوما من أعلاه، فهذا يتعب ولا يحصل على شيء، بينما الذي يبدأ من الأصول ويتدرج هذا هو الذي - بإذن الله - يسير مع الطريق الصحيح والاتجاه السليم.
    قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] هؤلاء سألوا عن الأهلة، لماذا يبدأ الهلال صغيرا ثم يكبر ثم يكبر حتى يتكامل ثم يصغر حتى يعود هلالا؟ فعتب الله عليهم، ووجههم أن يسألوا عما ينفعهم، وأن يأتوا بيوت العلم من أبوابها.
    أما السؤال عن الهلال وأحواله وصغره وكبره، فهذا لا فائدة لهم فيه، بل الفائدة هي أن يسألوا عما يحتاجون إليه، وهو معرفة فوائد الأهلة ولهذا قال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} بين لهم فوائدها، وهي أن الله جعلها مواقيت للناس يعرفون بها العبادات والمعاملات والآجال، وغير ذلك.
    فأرشدهم إلى فوائد الأهلة، ولم يجبهم عن سؤالهم عن حقيقة الأهلة، لأنه ليس لهم في ذلك فائدة وليوجههم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، وهو أبواب العلم لا ظهور العلم والمسائل الفضولية التي لا يحتاجون إليها، وإن احتاجوا إليها فهي حاجة قليلة.

  • #2
    مقدمة المؤلف: الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله -
    قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم [1]
    شرح الشيخ الفوزان- حفظه الله -

    [1] ابتدأ رحمه الله هذه الرسالة بالبسملة اقتداء بكتاب الله - عز وجل -، فإن أول ما يقع عليه بصرك في المصحف وقبل كل سورة منه " بسم الله الرحمن الرحيم ".
    فالبداءة بها في الرسائل وفي الكتب وفي المؤلفات اقتداء بكتاب الله - عز وجل -، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتبها في أول رسائله حينما يكتب إلى الأمراء والرؤساء وإلى من في أقطار الأرض يدعوهم إلى الإسلام يبدأ كتابته " ببسم الله الرحمن الرحيم ".
    وكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح أحاديثه وكلامه " ببسم الله الرحمن الرحيم " مما يدل على أن البداءة " ببسم الله الرحمن الرحيم " سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن سليمان - عليه السلام - لما كتب إلى بلقيس ملكة سبأ بدأ كتابه " ببسم الله الرحمن الرحيم ": {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31] ينبغيالبدء " ببسم الله الرحمن الرحيم " في كل أمر له أهمية وكل مؤلف له أهمية وله قيمة، وكل رسالة.وعلى هذا فالذين لا يبدءون مؤلفاتهم ورسائلهم " ببسم الله الرحمن الرحيم " هؤلاء تركوا السنة النبوية والاقتداء بكتاب الله - عز وجل -، وربما بسبب ذلك أن كتبهم هذه ورسائلهم ليس فيها بركة وليس فيها فائدة؛ لأنها إذا خلت من " بسم الله الرحمن الرحيم " فإنها منزوعة الفائدة.
    لماذا تركوا " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ إنما تركوها لأنها سُنة، وهم ينفرون من السنة، أو يقلدون من ينفر من السنة، فينبغي التنبه لمثل هذا.
    فمعنى " بسم الله الرحمن الرحيم ": الاستعانة باسم الله.
    فقوله: بسم الله: جار ومجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أستعين بسم الله الرحمن الرحيم، أو أبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم تبركا بها واستعانة بالله - عز وجل -.
    فهي مطلع عظيم للكلام وللكتب والرسائل، فالإنسان يستعين بالله في بدايتها ويتبرك باسمه سبحانه وتعالى.

    تعليق


    • #3
      المسائل الأربع التي تضمنتها سورة العصر
      الرسالة الأولى
      العلم
      اعلم رحمك الله [2]
      شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
      [2] قوله: اعلم: كلمة تشير إلى الاهتمام بالموضوع فإذا قال اعلم: فمعناه أن الأمر الذي سيلقيه عليك أمر مهم، فهذه الكلمة تدل على أهمية الموضوع التي يبدأ بها فيه.
      ومعنى اعلم: فعل أمر من العلم، أي تعلم، والعلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع أو تصور الشيء على طبق الواقع.
      وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع أو تصور الشيء على خلاف الواقع فهو الجهل وهو ضد العلم.
      قوله: رحمك الله: هذا دعاء لطالب العلم، فالشيخ يدعو لطلبة العلم بأن يرحمهم الله، وأن يلقي عليهم رحمته - سبحانه وتعالى - فهذا فيه التلطف من المعلم بالمتعلم، وأنه يبدأ بالكلام الطيب والدعاء الصالح حتى يؤثر ذلك فيه، ويقبل على معلمه.
      أما إذا بدأ المعلم بالكلام القاسي والكلام غير المناسب فإن هذا يُنفره، فالواجب على المعلم وعلى من يدعو إلى الله، وعلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر التلطف بمن يخاطبه بالدعاء والثناء عليه والكلام اللين فإن هذا أدعى للقبول.
      أما المعاند والمكابر فهذا له خطاب آخر قال الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
      فالذين ظلموا من أهل الكتاب وعاندوا وكابروا هؤلاء لا يخاطبون بالتي هي أحسن بل يخاطبون بما يردعهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] ، المنافقون لا يجاهدون بالسلاح، وإنما يجاهدون بالحجة والكلام والرد عليهم بالغلظة ردعا لهم وتنفيرا للناس عنهم، وقال تعالى فيهم: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] ، هؤلاء لهم خطاب خاص؛ لأنهم أهل عناد ومكابرة ولايريدون الحق بل يريدون تضليل الناس فهؤلاء يخاطبون بما يليق بهم.
      أما الطالب المسترشد فهذا يخاطب بالرفق والرحمة واللطف؛ لأنه يريد الحق ويريد العلم والفائدة.
      قوله: اعلم رحمك الله: دعاء لك بالرحمة، فإذا رحمك الله فإنك تكون سعيدا بها في الدنيا والآخرة. إذا دخلت في رحمة الله، وهذا دعاء ومن عالم جليل ورجل صالح يرجى له القبول إن شاء الله.

      تعليق


      • #4
        أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل [3]
        شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
        قوله: يجب: الواجب: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والمستحب: هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، والمباح: لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه.
        فقوله: يجب: يعني أن هذا الأمر ليس من المستحب، ولا من المباح بل هو من الواجب العيني.
        فإذا تركنا تعلم هذه المسائل فإننا نأثم لأن هذا شأن الواجب، لم يقل يستحب لنا أو يستحسن لنا بل قال يجب علينا وجوبا، والوجوب معناه الحتم، من تركه يأثم، ولأن العلم لا يحصل عليه إلا بالتعلم، والتعلم يحتاج إلى
        عناية وجهد ووقت، ويحتاج إلى فهم وإلى حضور قلب، هذا هو التعلم.
        قوله: أربع مسائل: يعني مباحث، سميت مسائل لأنها يجب أن يُسأل عنها وأن يُعنى بها.



        الأولى: العلم [4]
        شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله-
        شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -[4] قوله: العلم: المراد بالعلم هنا هو العلم الشرعي؛ لأنه هو الذي يجب تعلمه، وهذه المسائل يجب تعلمها على كل مسلم من ذكر أو أنثى أو حر أو عبد أو غني أو فقير أو ملك أو صعلوك، كل مسلم يجب عليه أن يتعلم هذه المسائل الأربع.
        وهذا ما يسميه العلماء بالواجب العيني، وهو الذي يجب على كل أحد من المسلمين، فالصلوات الخمس على الرجال والنساء، وصلاة الجماعة في المساجد على الرجال هذا واجب على كل فرد من المسلمين أن يتعلمها؛ ولذلك قال: يجب علينا، ولم يقل: يجب على بعضنا، وإنما قال: يجب علينا، يعني معشر المسلمين، فهذا من العلم الذي يجب تعلمه على الأعيان؛ لأن العلم على قسمين:
        الأول: ما يجب تعلمه على الأعيان، فلا يعذر أحد بجهله وهو ما لا يستقيم الدين إلا به، مثل أركان الإسلام
        الخمسة التي هي: الشهادتان، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بيت الله الحرام، لا يجوز لمسلم أن يجهلها بل لا بد أن يتعلمها.لأن تعلم معنى الشهادتين إنما هو تعلم العقيدة، يتعلم المسلم العقيدة من أجل العمل بها، ويتعلم ما يضادها من أجل أن يتجنبه، هذا مضمون الشهادتين، كذلك يتعلم أركان الصلاة وشروط الصلاة، وواجبات الصلاة، وسنن الصلاة، يتعلم بالتفصيل هذه الأمور، ليس مجرد أنه يصلي وهو لا يعرف أحكام الصلاة. كيف يعمل الإنسان عملا وهو لا يعلم هذا العمل الذي يؤديه؟ كيف يؤدي الصلاة وهو جاهل بأحكامها؟ فلا بد أن يتعلم أحكام الصلاة، ومبطلات الصلاة، لا بد من تعلم هذا.
        كذلك يتعلم أحكام الزكاة، ويتعلم أحكام الصيام، ويتعلم أحكام الحج، فإذا أراد أن يحج وَجَبَ عليه تعلم أحكام الحج وأحكام العمرة، من أجل أن يؤدي هذه العبادات على الوجه المشروع.
        وهذا القسم لا يعذر أحد بجهله، وهو ما يسمى بالواجب العيني على كل مسلم.
        القسم الثاني من أقسام العلم: فهو ما زاد عن ذلك من الأحكام الشرعية التي تحتاجها الأمة بمجموعها وقد لا يحتاجه كل أحد بعينه مثل أحكام البيع وأحكام المعاملات، وأحكام الأوقاف والمواريث والوصايا، وأحكام الأنكحة، وأحكام الجنايات، هذه لا بد منها للأمة، لكن لا يجب على كل فرد من الأمة أن يتعلمها بل إذا تعلمها من يحصل به المقصود من العلماء كفى هذا؛ ليقوموا بحاجة المسلمين من قضاء وإفتاء وتعليم وغير ذلك، هذا يسمى واجب الكفاية الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعا.
        لا بد للأمة من أناس يتعلمون هذا القسم لأنهم بحاجة إليه؛ لكن ما يقال لكل واحد: يجب عليك أن تتفقه في هذه الأبواب؛ لأنه قد لا يتأتى هذا لكل أحد، وإنما يختص هذا بأهل القدرة وأهل الاستطاعة من الأمة، ولأنه إذا تعلم هذا بعضُ الأمة قام بالواجب، بخلاف القسم الأول فكل واحد مسؤول عنه في نفسه، لأنه لا يمكن أن يعمل هذه الأعمال إلا عن علم، ولهذا قال الشيخ: يجب علينا، ولم يقل: يجب

        على المسلمين، أو يجب على بعضهم، بل قال: يجب علينا، أي على كل واحد منا وجوبا عينيا.
        ولنعلم أيضا قبل الدخول في المسائل أن المراد بالعلم الذي يجب على الأمة إما وجوبا عينيا أو كفائيا أنه العلم الشرعي الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
        أما العلم الدنيوي كعلم الصناعات والحِرَف والحساب والرياضيات والهندسة، فهذا العلم مباح يباح تعلمه وقد يجب إذا احتاجت الأمة إليه، يجب على من يستطيع لكن ليس هو العلم المقصود في القرآن والسنة والذي أثنى الله تعالى على أهله ومدحهم والذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العلماء ورثة الأنبياء» المراد العلم الشرعي.
        وأما العلم الدنيوي فمن جهله فلا إثم عليه، ومن تعلمه فهو مباح له، وإذا نفع به الأمة فهو مأجور عليه ومثاب عليه، ولو مات الإنسان وهو يجهل هذا العلم لم يؤاخذ عليه يوم القيامة لكن من مات وهو يجهل العلم الشرعي خصوصا




        العلم الضروري فإنه يسأل عنه يوم القيامة، لِمَ لَمْ تتعلم؟ لماذا لَمْ تسأل؟ الذي يقول إذا وضع في قبره: ربي الله والإسلام ديني ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا ينجو، يقال له: من أين حصَّلت هذا؟ يقول: قرأت كتاب الله وتعلمته.
        أما الذي أعرض عن ذلك فإنه إذا سئل في قبره فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فهذا يؤجج عليه قبره نارا - والعياذ بالله - ويضيق عليه فيه حتى تختلف أضلاعه، ويصبح في حفرة من حفر النار؛ لأنه ما درى ولا تلا فيقال له: «لا دريت ولا تليت [أو لا تلوت] » فهو لم يتعلم ولم يَقْتَدِ بأهل العلم، وإنما هو ضائع في حياته، فهذا الذي يؤول إلى الشقاء والعياذ بالله.
        فقوله: العلم: هذا هو العلم الشرعي المطلوب منا جماعة وأفرادا، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة حقه علينا وهو عبادته وحده لا شريك له، فأولُ ما يجب على العبد هو معرفةُ ربه - عز وجل - وكيف يعبده.

        تعليق


        • #5
          العلم وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه[5]
          ومعرفة دين الإسلام [6]
          بالأدلة [7]


          شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
          [5] قوله: وهو معرفة الله: كيف يعرف العبد ربه؟ يعرفه بآياته ومخلوقاته فمن آياته الليل والنهار، ومن مخلوقاته الشمس والقمر، كما يأتي بيان هذا إن شاء الله.
          يعرف الله بآياته الكونية وآياته القرآنية. إذا قرأ القرآن، عرف الله - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه هو الذي سخر ما في السماوات والأرض، وأنه هو الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأنه الرحمن الرحيم. فالقرآن يعرف بالله - عز وجل -، وأنه هو الذي أنعم علينا بجميع النعم، وأنه هو الذي خلقنا ورزقنا، فإذا قرأت القرآن عرفت ربك - سبحانه وتعالى - بأسمائه وصفاته وأفعاله.
          وإذا نظرت في الكون عرفت ربك - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي خلق هذا الخلق، وسخر هذا الكون وأجراه بحكمته وعلمه - سبحانه وتعالى -، هذا هو العلم بالله - عز وجل -.
          قوله: ومعرفة نبيه: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ عن الله - عز وجل -، وهو الواسطة بيننا وبين الله - عز وجل - في تبليغ الرسالة، لا بد أن تعرفه، تعرف من هو؟ وتعرف نسبه
          وتعرف بلده، وتعرف ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، تعرف كيف بدأه الوحي؟ وكيف قام بالدعوة إلى الله - عز وجل - في مكة والمدينة، تعرف سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو باختصار.
          الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف إلى آخر النسب النبوي الذي ينتهي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتعرف كيف عاش قبل البعثة، وكيف جاء الوحي من الله - عز وجل -، وماذا عمل - عليه الصلاة والسلام - بعد بعثته، تعرف ذلك بدراسة سيرته - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق بالمسلم أن يجهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف تتبع شخصا وأنت لا تعرفه؟ ! هذا غير معقول.
          [6] قوله: معرفة دين الإسلام: الذي هو دين هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو دين الله - عز وجل - الذي أمر به عباده، والذي أمرك باتباعه وأنت مطالب به لا بد أن تعرف هذا الدين والإسلام هو دين جميع الرسل، كل الرسل دينهم الإسلام بالمعنى العام، فكل من اتبع رسولا من الرسل فهو مسلم لله - عز وجل - منقاد له، موحد له، هذا الإسلام بمعناه العام، إنه دين الرسل جميعا، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله.
          أما الإسلام بمعناه الخاص فهو الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - لأنه بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا دين إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -، والإسلام انحصر في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن لليهودي أن يقول: أنا مسلم، أو النصراني يقول: أنا مسلم، بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يتبعه، فالإسلام بعد بعثة النبي هو اتباعه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] هذا هو الإسلام بمعناه العام وبمعناه الخاص.


          [7] قوله: بالأدلة: لا بالتقليد وإنما بالأدلة من القرآن ومن السنة هذا هو العلم.
          قال ابن القيم في الكافية الشافية:
          العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان
          ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فلان
          هذا هو العلم، العلم هو علم الكتاب والسنة، أما أقوال العلماء فهي تشرح وتوضح فقط كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -

          وقد يكون فيها أو في بعضهما خطأ، والأدلة ليست كلام العلماء إنما الأدلة هي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأما كلام العلماء فهو شارح وموضح ومبين لذلك لا أنه دليل في نفسه.
          هذه هي المسألة الأولى وهي الأساس، بدأ بها الشيخ - رحمه الله - لأنها هي الأساس وإنما يُبدأ بالعقيدة وبالأساس بالتعلم والتعليم والدعوة إلى الله - عز وجل -، يبدأ بالعقيدة لأنها هي الأصل وهي الأساس.





          تعليق


          • #6
            العمل بالعلم

            الثانية: العمل به [8]
            الدعوة إلى العلم
            الثالثة: الدعوة إليه [9]
            الصبر على الأذى فيه
            الرابعة: الصبر على الأذى فيه [10]
            شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله
            [8] قوله: العمل به: أي بالعلم لأنه لا يكفي أن الإنسان يعلم ويتعلم بل لا بد أن يعمل بعلمه، فالعلم بدون عمل إنما هو حجة على الإنسان، فلا يكون العلم نافعا إلا بالعمل، أما من عَلِمَ ولم يعمل فهذا مغضوب عليه؛ لأنه عرف الحق وتركه على بصيرة.

            والناظم يقول:
            وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن].


            وهذا مذكور في الحديث الشريف: «إن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، عالم لم يعمل بعلمه» العلم مقرون بالعمل، والعمل هو ثمرة العلم، فعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، لا فائدة فيها، والعلم إنما أنزل من أجل العمل.
            كما أن العمل بدون علم يكون وبالا وضلالا على صاحبه، إذا كان الإنسان يعمل بدون علم فإن عمله وبال وتعب على صاحبه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
            ولهذا نقرأ في الفاتحة في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7] . فسمى الله الذين يعملون بدونعلم الضالين، والذين يعلمون ولا يعملون بالمغضوب عليهم، فلنتنبه لذلك فإنه مهم جدا.

            [9] قوله: الدعوة إليه، أي لا يكفي أن يتعلم الإنسان ويعمل في نفسه، ولا يدعو إلى الله - عز وجل -، بل لا بد أن يدعو غيره فيكون نافعا لنفسه ونافعا لغيره، ولأن هذا العلم أمانة، ليس بملك لك تختزنه وتحرم الناس منه، والناس بحاجة إليه، فالواجب عليك التبليغ والبيان ودعوة الناس إلى الخير، هذا العلم الذي حملك الله إياه ليس وقفا عليك؛ وإنما هو لك ولغيرك، فلا تحتكره على نفسك وتمنع الناس من الانتفاع به، بل لا بد من تبليغه ولا بد من بيانه للناس، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] .
            هذا ميثاق أخذه الله على العلماء أن يبينوا للناس ما علمهم الله من أجل أن ينشروا الخير، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وهذا عمل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ومن اتبعهم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] هذه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطريقة أتباعه، العلم والعمل والدعوة إلى الله - عز وجل -، «فمن لم يدع وهو قادر على الدعوة وعنده وكتمه، فإنه يلجم بلجام من نار يوم القيامة» كما في الحديث.

            [10] قوله: الصبر على الأذى فيه: معلوم أن من دعا الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإنه سيتعرض للأذى من الأشرار؛ لأن كثيرا من الناس لا يريدون الخير بل يريدون الشهوات والمحرمات والأهواء الباطلة، فإذا جاء من يدعوهم إلى الله ويردهم عن شهواتهم فلا بد أن يكونمنهم رد فعل بالقول أو بالفعل فالواجب على من يدعو إلى الله ويريد وجه الله أن يصبر على الأذى وأن يستمر في الدعوة إلى الله، وقدوته في ذلك الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وخيرتهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
            ماذا لقي من الناس؟ وكم لقي من الأذى بالقول والفعل؟ قالوا: ساحر وكذاب، وقالوا: مجنون، وقالوا فيه من الأقوال التي ذكرها الله - عز وجل - في القرآن، وتناولوه بالأذى، قذفوه بالحجارة حتى أدموا عقبه - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى الله - عز وجل -، وألقوا سلا جزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، وتوعدوه بالقتل وهددوه، وفي غزوة أحد جرى عليه وعلى أصحابه ما جرى، عليه الصلاة والسلام، كسروا رباعيته وشجوه في رأسه - صلى الله عليه وسلم - وقع في حفرة، وهو نبي الله، كل هذا أذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - لكنه صبر وتحمل وهو أفضل الخلق - عليه الصلاة والسلام -، فلا بد للذي يقوم بهذه الدعوة أن يتعرض للأذى على حسب إيمانه ودعوته؛ ولكن عليه أن يصبر، ما دام أنه على حق فإنه يصبر ويتحمل فهو في سبيل الله وما يناله من الأذى فهو في كفة حسناته أجر من الله - سبحانه وتعالى -.

            تعليق


            • #7
              والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] [11]
              -
              شرح الشيخ الفوزان حفظه الله -
              [11] هذه المسائل الأربع يجب أن تتعلمها بالتفصيل، هل من دليل على ما قاله الشيخ؟ إن هذه المسائل الأربع يجب علينا تعلمها، وهو وعدنا أنه لا يقول شيئا إلا بدليل، فأين الدليل؟ قال: الدليل على ذلك قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} إلا الذين آمنوا: هذه هي المسألة الأولى: العلم، لأن الإيمان لا يكون إلا بعلم وهو معرفة الله - عز وجل -، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
              المسألة الثانية: وعملوا الصالحات، هذا العمل بالعلم.
              المسألة الثالثة: وتواصوا بالحق، فهذه الدعوة إلى العلم والعمل.
              المسألة الرابعة: وتواصوا بالصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى العلم والعمل.
              فقوله سبحانه: (والعصر) .
              الواو: واو القسم، والعصر اسم مقسم به مجرور وعلامة جره الكسرة والمراد به الوقت والزمان.
              أقسم الله - تعالى - بالزمان والوقت وهو مخلوق، والله - جل وعلا - يقسم بما شاء من الخلق، والمخلوق لا يقسم إلا بالله، والله لا يقسم إلا بشيء له أهمية، وفيه آية من آياته - سبحانه وتعالى - فهذا الزمان فيه عبرة وله أهمية، ولذلك أقسم الله بالعصر، وبالليل إذا يغشى، وأقسم بالضحى.
              أما المخلوق فإنه لا يقسم إلا بالله، ولا يجوز لنا أن نحلف بغير الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .
              فالله يقسم بما شاء ولا يقسم إلا بما له أهمية وفيه عبرة، ما هي العبرة في هذا الزمان؟ العبر عظيمة تعاقب الليل والنهار، وتقارضهما، هذا يأخذ من هذا، وهذا يأخذ منهذا، يطول هذا، ويقصر هذا، تعاقبهما على هذا النظام العجيب الذي لا يتخلف ولا يتغير.
              هذا دليل على قدرة الله - سبحانه وتعالى -، ثم ما يجري في هذا الوقت من الحوادث والكوارث ومن المصائب ومن النعم ومن الخيرات، ما يجري في هذا الوقت هذا من العبر، وكذلك فإن الليل والنهار مجال للعمل الصالح قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يتعاقبان يخلف هذا هذا {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] وفي بعض القراءات: ( {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} ) .
              فالليل والنهار كسب عظيم لمن استغلهما في طاعة الله - عز وجل - ومجال العمل هو الليل والنهار، ما عندك غير الليل والنهار، هما مجال العمل والكسب الطيب للدنيا والآخرة، في الليل والنهار عبر وفوائد لذلك أقسم الله بالعصر.
              ما هو جواب القسم؟ هو قوله: ( {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ) الإنسان جميع بني آدم لم يستثن أحدا لا الملوك ولا الرؤساء، ولا الأغنياء، ولاالفقراء، ولا الأحرار، ولا العبيد، ولا الذكور ولا الإناث. فـ " أل " في الإنسان للاستغراق، كل بني آدم في خسر؛ أي في خسارة وهلاك إذا ضيعوا هذا الوقت الثمين، واستعملوه في معصية الله، وفيما يضرهم.
              وهذا الوقت الذي هو رخيص عند كثير من الناس يطول عليهم الوقت يملون ويقولون: نريد قتل الوقت، يأتون بالملهيات، أو يسافرون للخارج لقضاء العطلة والوقت، أو يضحكون ويمزحون لقطع الوقت، فهؤلاء الذين قطعوه وضيعوه سيكون خسارة وندامة عليهم يوم القيامة، وهو مصدر سعادتهم لو حافظوا عليه.
              فجميع بني آدم في خسارة وهلاك إلا من اتصف بأربع صفات هي: العلم، والعمل، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى.
              فمن اتصف بهذه الصفات الأربع نجى من هذه الخسارة.
              ولا يمكن الإيمان بالله إلا بالعلم الذي هو معرفة الله.
              {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أي عملوا الأعمال الصالحة من واجبات ومستحبات، فاستغلوا وقتهم بعمل الصالحات بمايفيدهم في دينهم ودنياهم، حتى العمل للدنيا فيه خير وفيه أجر إذا قصد به الاستعانة على الطاعة، فكيف بالعمل للآخرة، المهم أنك لا تضيع الوقت بل تستعمله في شيء يفيدك وينفعك.
              {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} : أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ودعوا إلى الله - عز وجل - وعلموا العلم النافع، ونشروا العلم والخير في الناس أصبحوا دعاة إلى الله - عز وجل -.
              {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} : صبروا على ما ينالهم، والصبر في اللغة: الحبس، والمراد به هنا: حبس النفس على طاعة الله، وهو ثلاثة أنواع:
              الأول: صبر على طاعة الله.
              الثاني: صبر عن محارم الله.
              الثالث: صبر على أقدار الله.
              فالأول: صبر على طاعة الله، لأن النفس تريد الكسل وتريد الراحة، فلا بد أن يصبرها الإنسان على الطاعة وعلى الصلاة وعلى الصيام وعلى الجهاد في سبيل الله وإن كانت تكره هذه الأمور، يصبرها ويحبسها على طاعة الله.

              والثاني: صبر على محارم الله، النفس تريد المحرمات والشهوات، تميل إليها وتنزع إليها، فلا بد أن يربطها ويحبسها عن المحرمات، وهذا يحتاج إلى صبر، وليس من السهل منع النفس عن الشهوات المحرمة، من ليس عنده صبر فإن نفسه تتغلب عليه وتجنح إلى المحرمات.
              الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: المصائب التي تصيب الإنسان من موت قريب، أو ضياع مال، أو مرض يصيب الإنسان، لا بد أن يصبر على قضاء الله وقدره لا يجزع ولا يتسخط بل يحبس اللسان عن النياحة والتسخط ويحبس النفس عن الجزع، ويحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب. هذا هو الصبر على المصائب.
              أما المعائب فلا يصبر عليها بل يتوب إلى الله وينفر منها؛ ولكن عند المصائب التي لا دخل لك فيها، بل هي من الله - عز وجل - قدرها عليك ابتلاء وامتحانًا أو عقوبة لك على ذنوب فعلتها، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 3] .
              فإذا حصلت للمسلم مصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو قريبه أو أحد إخوانه من المسلمين فعليه بالصبر والاحتساب
              قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157] هذا هو الصبر، ومن ذلك الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - فإن هذا من المصائب فعليك أن تصبر على ما تلقى من الأذى في سبيل الخير، ولا تنثني عن فعل الخير؛ لأن بعض الناس يريد فعل الخير لكن إذا واجهه شيء يكرهه قال: ليس من الواجب علي أن أدخل نفسي في هذه الأمور، ثم يترك التعليم إن كان معلمًا، يترك الدعوة إلى الله، يترك الخطابة إن كان خطيب مسجد، يترك إمامة المسجد، يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لم يصبر على ما ناله من الأذى.
              وإذا كنت مخطئًا عليك بالرجوع إلى الحق والصواب، أما إن كنت على حق ولم تخطئ فعليك بالصبر والاحتساب واستشعر أن هذا في سبيل الله - عز وجل - وأنك مأجور عليه، وتذكر ما حصل للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الأذى وكيف صبروا وجاهدوا في سبيل الله حتى نصرهم الله - عز وجل -.


              تعليق


              • #8
                قال الشافعي رحمه الله: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم [12]


                شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -


                [12] قوله: الشافعي: هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي نسبة إلى جده الرابع اسمه شافع، وهو من قريش، من بني المطلب، توفي سنة 204هـ، وهو أحد الأئمة الأربعة، وقال هذه المقالة؛ لأن الله بين في هذه السورة أسباب الشقاوة وأسباب السعادة.
                فأسباب السعادة: أن يتصف الإنسان بهذه الصفات الأربع: العلم، والعمل، والدعوة، والصبر على الأذى في سبيل الله تعالى، فقامت الحجة من الله على خلقه بهذه السورة، إن الله سبحانه يقول لهم أني قد بينت لكم أسباب السعادة في هذه السورة القصيرة المختصرة.
                والقرآن كله والسنة هما تفاصيل لهذه المسائل الأربع، لكن هذه السورة بينت أسباب السعادة مجملة، فقامت بها الحجة على الخلق، وبقية نصوص القرآن والسنة مفصِّلَة ومبينة لهذه المسائل الأربع، وليس معنى كلام الشافعي أن هذه السورة تكفي الناس، لو ما أنزل الله غيرها؛ لكنها أقامت الحجة عليهم لأن الله بين فيها أسباب السعادة وأسبابالشقاوة، فلا أحد يوم القيامة يقول: أنا لا أعرف أسباب السعادة ولا أعرف أسباب الشقاوة وهو يقرأ هذه السورة المختصرة الوجيزة.

                تعليق


                • #9
                  وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَابُ العِلْمُ قبل القول والعمل.
                  والدليل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل [13]
                  __________
                  -شرح الشيخ الفوزان حفظه الله -

                  [13] البخاري: هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، نسبة إلى بخارى بلدة في المشرق، إمام أهل الحديث وجبل الحفظ - رحمه الله -، صاحب الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله.
                  قوله: العلم قبل القول والعمل؛ لأن العمل لا ينفع إلا إذا كان مبنيا على علم، أما العمل المبني على جهل فإنه لا ينفع صاحبه بل يكون وبالًا وضلالًا عليه يوم القيامة، فلا بد أن يقدم تعلم العلم قبل العمل.
                  قوله: والدليل: أي على هذه الترجمة قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} حيث بدأ بالعلم

                  وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ} هذا هو العمل فبدأ سبحانه بالعلم قبل العمل؛ لأن العمل إذا كان على جهل فإنه لا ينفع صاحبه، فيبدأ الإنسان بالعلم أولًا ثم يعمل بما علمه، هذا هو الأساس.

                  تعليق


                  • #10
                    اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ [1]
                    أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن [2]
                    شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
                    [1] قوله: اعلم: هذه الكلمة قلنا فيما سبق أنها كلمة يؤتى بها للاهتمام بما بعدها ومعناها: تعلم وافهم وتيقن.
                    قوله: رحمك الله: هذا دعاء لك بالرحمة، وهذا أيضًا كما سبق في أن المعلم ينبغي أن يتلطف مع المتعلم، وأن يدعو له ويرغبه فإن هذا من أعظم وسائل التعليم، ولا ينبغي له أن يقابل المتعلم بالقسوة والشدة والغلظة؛ لأن هذا ينفر عن العلم، ثم هذا أيضًا يدل على النصح من الشيخ - رحمه الله -، وأنه يريد النصيحة والمنفعة والتوجيه السديد.
                    [2] قوله: أنه يجب: الوجوب معروف عند الأصوليين والواجب هو الشيء الذي لا بد منه، وقد عرفه الأصوليون بأنه ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وأصل الوجوب في اللغة:الثبوت والاستقرار يقال: وجب كذا أي ثبت واستقر قال تعالى في البدن: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض واستقرت ميتة بعد ذكائها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36] .
                    فقوله: يجب، علينا يدل على أن الأمر ليس من باب الاستحباب، من شاء فعل ومن شاء ترك، بل الأمر من باب الإلزام من الله - سبحانه وتعالى - ليس هذا الإيجاب من قبل الشيخ، وإنما هو من قبل الله - عز وجل - فيما أنزل في الكتاب والسنة من إلزام العباد بهذه المسائل.
                    قوله: يجب على كل مسلم ومسلمة: أي يجب على كل ذكر وأنثى من المسلمين سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا أو ذكورًا أو إناثًا، لأن المرأة تشارك الرجل في كثير من الواجبات إلا ما خصه الدليل بالرجال، فإنه يختص بهم مثل وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وصلاة الجمعة ومثل زيارة القبور فإنها خاصة بالرجال، ومثل الجهاد في سبيل الله فإنه خاص بالرجال.
                    فما دل الدليل على اختصاصه بالرجال فإنه يختص بهم، وإلا فإن الأصل أن الرجال والنساء سواء في الواجباتوتجنب المحرمات وسائر التكاليف، ومن ذلك أن تعلم العلم واجب على الرجال والنساء لأنه لا يمكن عبادة الله - جل وعلا - التي خلقنا من أجلها إلا بتعلم العلم الذي نعرف به عبادة ربنا، فهذا واجب على الرجال والنساء أن يتعلموا أمور دينهم لا سيما أمور العقيدة.
                    قوله: ثلاث مسائل: التعلم هنا معناه: التلقي عن العلماء والحفظ والفهم والإدراك، هذا هو التعلم، ليس المراد مجرد قراءة أو مطالعة حرة كما يسمونها هذا ليس تعلما إنما التعلم هو: التلقي عن أهل العلم مع حفظ ذلك وفهمه وإدراكه تمامًا، هذا هو التعلم الصحيح، أما مجرد القراءة والمطالعة فإنها لا تكفي في التعلم وإن كانت مطلوبة، وفيها فائدة لكنها لا تكفي، ولا يكفي الاقتصار عليها.
                    ولا يجوز التتلمذ على الكتب كما هو الواقع في هذا الوقت، لأن التتلمذ على الكتب خطير جدا يحصل منه مفاسد وتعالم أضر من الجهل، لأن الجاهل يعرف أنه جاهل ويقف عند حده، لكن المتعالم يرى أنه عالم فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويتكلم ويقول على الله بلا علم فالمسألة خطيرة جدا.
                    فالعلم لا يؤخذ من الكتب مباشرة إنما الكتب وسائل، أما حقيقة العلم فإنها تؤخذ عن العلماء جيلًا بعد جيل والكتب إنما هي وسائل لطلب العلم.

                    تعليق


                    • #11
                      الإِيمَان بِأَنَّ اللَّه خَلَقَنا وَرَزَقَنَا ولَم يَتْرُكنَا هَمَلًا
                      الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملا [3]
                      بل أرسل إلينا رسولًا [4] .
                      فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار [5]وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16] [6] .


                      -شرح الشيخ الفوزان حفظه الله -
                      [3] قوله: الأولى: أن الله خلقنا: أي أوجدنا من العدم فنحن من قبل أن يخلقنا لم نكن شيئًا، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] ، وقال سبحانه: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] كان الإنسان قبل أن يخلق ليس بشيء، والذي أوجده وخلقه هو الله - عز وجل - قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] .
                      قوله: ورزقنا: لما كنا نحتاج إلى الرزق إلى الطعام والشراب والملابس والمساكن والمراكب والمصالح، علم سبحانه حاجتنا سخر لنا ما في السماوات والأرض كله لمصالحنا من أجل بقائنا على قيد الحياة ومن أجل أن نستعين بذلك على ما خلقنا لأجله، وهو عبادة الله - سبحانه وتعالى -.


                      قوله: ولم يتركنا هملًا: الهمل: هو الشيء المهمل المتروك الذي لا يُعبأ به فالله خلقنا ورزقنا لحكمة، ما خلقنا عبثا ولا سدى قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
                      وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 36 - 38] .
                      وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] .
                      الله إنما خلقنا وخلق لنا هذه الأرزاق والإمكانيات لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي أن نعبده - سبحانه وتعالى - ولم يخلقنا كالبهائم التي خلقت لمصالح العباد ثم تموت وتذهب؛ لأنها ليست مكلفة ولا مأمورة ولا منهية، إنما خلقنا لعبادته كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات: 56 - 58] ولم يخلقنا لهذه الحياة الدنيا فقط نعيش فيها، ونسرح ونمرح ونأكل ونشرب ونتوسع فيها، وليس بعدها شيء، وإنما الحياة
                      مزرعة وسوق للدار الآخرة نتزود فيها بالأعمال الصالحة، ثم نموت وننتقل منها ثم نبعث ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا.
                      هذه هي الغاية من خلق الجن والإنس، والدليل على ذلك آيات كثيرة تدل على البعث والنشور والجزاء والحساب، والعقل يدل على هذا، فإنه لا يليق بحكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يخلق هذا الخلق العجيب، وأن يسخر هذا الكون لبني آدم ثم يتركهم يموتون ويذهبون بدون نتيجة، هذا عبث، فلا بد أن تظهر نتائج هذه الأعمال في الدار الآخرة.
                      ولهذا قد يكون من الناس من يفني عمره في عبادة الله وفي طاعته، وهو في فقر وفي حاجة، وقد يكون مظلومًا مضغوطًا عليه ومضيقًا عليه ولا ينال شيئًا من جزاء عمله في هذه الدنيا، وعلى العكس يكون من الناس كافر ملحد شرير يسرح ويمرح في هذه الحياة، ويتنعم ويعطى ما يشتهي ويرتكب ما حرم الله، ويظلم العباد ويعتدي عليهم ويأكل أموالهم، ويقتل بغير حق، ويتسلط ويتجبر ثم يموت على حاله، ما أصابه شيء من العقوبة، هل يليق بعدل الله - سبحانه وتعالى - وحكمته أن يترك هذا المطيع بدون جزاء، وأن يترك هذا الكافر بدون مجازاة، هذا لا يليق بعدله - سبحانه وتعالى -ولذلك جعل دارًا أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فتظهر فيها ثمرات الأعمال.فالدنيا دار عمل، وأما الآخرة فهي دار جزاء إما جنة وإما نار، ولم يتركنا هملًا كما يظن الملاحدة والدهريون، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] هذه مقالة الملاحدة الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور.
                      وقد أنكر الله - عز وجل - عليهم فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] .
                      وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] . فهذا لا يمكن ولا يكون أبدًا.
                      [4] لما كانت العبادة لا يجوز أن نأخذها من استحساننا أو تقليد فلان وعلان من الناس؛ أرسل الله إلينا رسلًا تبين لناكيف نعبده؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز أن يعبد الله بشيء إلا بما شرعه.
                      فالعبادات توقيفية على ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فالحكمة من إرسال الرسل أن يبينوا للناس كيف يعبدون ربهم، وينهونهم عن الشرك والكفر بالله - عز وجل - هذه مهمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فالعبادة توقيفية، والبدع مردودة، والخرافات مردودة، والتقليد الأعمى مرفوض لا تؤخذ العبادات إلا من الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
                      قوله: بل أرسل إلينا رسولًا: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين أرسله ليبين لنا لماذا خلقنا؟ ويبين لنا كيف نعبد الله - عز وجل -، وينهانا عن الشرك والكفر والمعاصي، هذه مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بلَّغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة - عليه الصلاة والسلام -، وبين ووضح، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كما في قولهتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
                      [5] قوله: من أطاعه: أي فيما أمر به دخل الجنة.
                      وقوله: ومن عصاه: أي فيما نهى عنه دخل النار.
                      وهذا مصداقه كثير في القرآن قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] ، فمن أطاعه اهتدى ودخل الجنة، ومن عصاه ضل ودخل النار، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» .
                      فقوله - صلى الله عليه وسلم -: أبى، أي أبى أن يدخل الجنة.
                      وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به»


                      «إلا دخل النار» . فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار، وهذا هو الفارق بين المؤمن والكافر.
                      [6] قوله: والدليل، أي: على إرسال الرسول.
                      قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} ، قوله تعالى: إنا: الضمير راجع إلى الله - سبحانه وتعالى -، وهذا ضمير المعظم نفسه، لأنه عظيم - سبحانه وتعالى -.
                      أرسلنا: كذلك هذا ضمير العظمة، ومعنى أرسلنا: بعثناه وأوحينا إليه.
                      إليكم: يا معشر الثقلين الجن والإنس، خطاب لجميع الناس؛ لأن رسالة هذا الرسول عامة لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة.
                      رسولًا: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -.شاهدًا عليكم: أي عند الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة بأنه بلغكم رسالة الله وأقام الحجة عليكم كما قال تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فلا أحد يوم القيامة يقول: أنا لم أَدْرِ أني مخلوق للعبادة، أنا لم أَدْرِ ماذا يجب علي، ولم أَدْرِ ماذا يحرم علي، لا يمكن أن يقول هذا، لأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد بلغتهم، وهذه الأمة المحمدية تشهد عليهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة يوم القيامة أن رسلها بلغتها رسالات الله، بما يجدونه من كتاب الله - عز وجل - لأن الله قص علينا نبأ الأمم السابقة والرسل وما قالوه لأممهم. كل هذا عرفناه من كتاب الله - عز وجل - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
                      ويكون الرسول: وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - عليكم، يا أمة محمد شهيدًا، يشهد عليكم عند الله أنه أقام عليكم الحجة وبلغكم الرسالة، ونصحكم في الله فلا حجة لأحد يوم القيامة بأن يقول: ما بلغني شيء، ما جاءني من نذير، حتى الكفاريعترفون عندما يلقون في النار، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9] يقولون للرسل: أنتم في ضلال فهم يكذبون الرسل ويضللونهم.
                      هذه الحكمة في إرسال الرسل؛ إقامة الحجة على العباد، وهداية من أراد الله هدايته، الرسل يهدي الله بهم من يشاء، ويقيم الحجة على من عاند وجحد وكفر.
                      كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا: الرسول هو موسى - عليه الصلاة والسلام -، وفرعون هو الملك الجبار في مصر الذي ادعى الربوبية، وفرعون: لقب لكل من ملك مصر يقال له فرعون، المراد به هنا فرعون الذي أدعى الربوبية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] .
                      فعصى فرعون الرسول: هو موسى، كفر به فرعون كما قص الله في كتابه ما جرى بين موسى وفرعون، وما انتهى إليه أمر فرعون وقومه.
                      فأخذناه، أي: أخذنا فرعون بالعقوبة وهو أن الله أغرقه هو وقومه في البحر ثم أدخلهم النار: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}[نوح: 25] . فصار في النار في البرزخ، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] . هذا في البرزخ قبل الآخرة، يعرضون على النار صباحًا ومساء إلى أن تقوم الساعة، وهذا دليل على عذاب القبر، والعياذ بالله، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] هذه ثلاثة عقوبات:
                      الأولى: أن الله أغرقهم ومحاهم عن آخرهم في لحظة واحدة.
                      الثاني: أنهم يعذبون في البرزخ إلى أن تقوم الساعة.
                      الثالثة: أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يدخلون أشد العذاب، والعياذ بالله.
                      وكذلك من عصى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن مآله أشد من مآل قوم فرعون؛ لأن محمدًا هو أفضل الرسل فمن عصاه تكون عقوبته أشد.
                      أخذًا وبيلا، أي: شديدًا قويا لا هوادة فيه، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .فهذه الآية دليل على منة الله علينا بإرسال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إلينا، وأن الغرض من إرساله أن يبين لنا طريق العبادة، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار كما دخل آل فرعون النار لما عصوا رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام.
                      وكذلك أعداء الرسل كلهم هذا سبيلهم وهذا طريقهم.



                      تعليق


                      • #12
                        المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد غيره في عبادته [7]
                        لا ملك مقرب ولا نبي مرسل [8]
                        وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . [9]

                        شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -

                        [7] هذه المسألة متعلقة بالمسألة الأولى لأن الأولى: هي بيان وجوب عبادة الله واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى الشهادتين معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، والمسألة الثانية: أن العبادة إذا خالطها شرك فإنها لا تقبل؛ لأنه لا بد أن تكون العبادة خالصة لوجه الله - عز وجل -.
                        فمن عبد الله وعبد معه غيره فعبادته باطلة، وجودها كعدمها، لأن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص والتوحيد
                        فإذا خالطها شرك فسدت كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] .
                        وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] . فالعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا خالط الشرك العبادة أفسدها، كما أن الطهارة إذا خالطها ناقض من نواقض الوضوء أفسدها وأبطلها، ولهذا يجمع الله في كثير من الآيات بين الأمر بعبادته والنهي عن الشرك.
                        قال تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] ، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . فقوله تعالى: لا إله إلا أنا، فيه أمران: فيه نفي الشرك، وفيه إثبات العبادة لله تعالى.
                        وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . قرن بين عبادة الله واجتنابالطاغوت؛ لأن عبادة الله لا تكون عبادة إلا مع اجتناب الطاغوت وهو الشرك، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] .
                        فالإيمان بالله لا يكفي إلا مع الكفر بالطاغوت، وإلا فالمشركون يؤمنون بالله لكنهم يشركون به، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . بين سبحانه أن عندهم إيمان بالله ولكن يفسدونه بالشرك والعياذ بالله.
                        هذا معنى قول الشيخ، أن من عبد الله وأطاع الرسول فإنه لا يشرك بالله شيئًا، لأن الله لا يَرْضَى أَنْ يُشرك مَعَهُ أَحَدُ في عبادته.
                        قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» هناك قوم يصلون ويشهدون أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويكثرون من ذلك ويصومون ويحجون لكنهم يدعون الأضرحة، ويعبدون الحسن والحسين والبدويوفلانًا وعلانًا، ويستغيثون بالأموات، هؤلاء عبادتهم باطلة، لأنهم يشركون بالله - عز وجل -، يخلطون العبادة بالشرك، فعملهم باطل حابط حتى يوحدوا الله - عز وجل - ويخلصوا له العبادة ويتركوا عبادة ما سواه.
                        وإلا فإنهم ليسوا على شيء فيجب التنبيه لهذا، أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد كائنًا من كان، لا يرضى سبحانه بمشاركة أحد مهما كان؛ لئلا يقول أحد أنا أتخذ من الأولياء الصالحين والطيبين شفعاء، أنا لا أعبد الأصنام والأوثان كما هو في الجاهلية، أنا أتخذ هؤلاء شفعاء فنقول له: هذه مقالة الجاهلية اتخذوهم شفعاء عند الله لأنهم صالحون وأولياء من أولياء الله، والله لا يرضى بهذا.

                        [8] قوله: لا ملك مقرب ولا نبي مرسل: الملك المقرب هو أفضل الملائكة مثل: جبريل - عليه السلام -، وحملة العرش ومن حوله، والملائكة المقربون من الله - سبحانه وتعالى -، فمع قرب المكان من الله - عز وجل - وقرب العبادة والمكانة عند الله، لو أشركهم أحد مع الله في العبادة فإن الله لا يرضى بأن يشرك معه ملك مقرب ولا نبي مرسل كمحمد - صلى الله عليه وسلم -وعيسى ونوح وإبراهيم أولي العزم، لا يرضى أن يشرك معه أحد ولو كان من أفضل الملائكة، ولو كان من أفضل البشر.

                        فهو لا يرضى أن يشرك معه أحد من الملائكة ولا من الرسل، فكيف بغيرهم من الأولياء والصالحين، فغير الملائكة والرسل من باب أولى لا يرضى الله بإشراكهم معه في العبادة، وهذا رد على أولئك الذين يزعمون أنهم يتخذون الصالحين والأولياء شفعاء عند الله ليقربوهم عند الله زلفى، كما قال أهل الجاهلية: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وإلا فهم يعتقدون أن هؤلاء لا يخلقون ولا يرزقون ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورا؛ وإنما قصدهم التوسط عند الله - عز وجل -؛ ولذلك صرفوا لهم شيئًا من العبادة تقربًا إليهم، ذبحوا للقبور، ونذروا للقبور، واستغاثوا وهتفوا بالأموات.

                        [9] لا يرضى الله بمشاركة أحد كائنًا من كان، وهذا صريح في القرآن والسنة، لكن لمن يعقل ويتدبر وينبذ التقليد الأعمى، والتعلل الباطل، ويتنبه لنفسه والدليل على أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد كائنًا من كان قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} المساجد هي بيوت الله، وهي المواطن المعدة للصلاة، وهي أحب البقاع إلى الله، وهي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يجب أن تكون هذه المساجد مواطنا لعبادة الله وحده لا يحدث فيها شيء لغير الله، فلا يبنى عليها القبور والأضرحة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك، وأخبر أن هذا هو فعل اليهود والنصارى، ونهانا عن ذلك في آخر حياته، وهو في سكرات الموت عليه الصلاة والسلام بقوله: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد» [هذا يقوله وهو في سياق الموت] «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

                        فالمساجد يجب أن تطهر من آثار الشرك والوثنية، وألا تقام على القبور أو يدفن فيها الأموات بعد بنائها بل تكون مواطن عبادة الله وحده، تقام فيها الصلاة ويذكر فيها اسم الله، ويتلى فيها القرآن، وتقام فيه الدروس النافعة، ويعتكف فيها للعبادة هذه هي وظيفة المساجد.
                        أما أن تقام فيها أوثانًا تعبد من دون الله فهذه ليست مساجد، هذه مشاهد شرك وإن سماها أهلها أنها مساجد، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أي: لا لغيره؛ ولأن المساجد هي محل اجتماع الناس وتلاقيهم، فيجب أن تكون طاهرة من الشرك والبدع والخرافات، لأن الناس يتلقون فيها العلم والعبادة، فإذا وجدوا في المساجد شيئًا من الشرك والخرافات تأثروا بذلك ونشروه في الأرض، فيجب أن تكون المساجد مطهرة من الشرك.
                        وأعظمها المسجد الحرام كما أمر الله - جل وعلا - بتطهيره قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . طهره من ماذا؟ طهره من الشرك والبدع والخرافات كما أنه أيضًا يُطهر من النجاسات والقاذورات.
                        فقوله تعالى: لا تدعوا: لا ناهية، وتدعو: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون لأن أصله تدعون فدخل عليه الجازم وهو لا الناهية.فلا تدعوا أيها الناس مع الله أحدًا، لا تستغيثوا بأحد مع الله؛ كأن يقول: يا الله يا محمد، يا الله يا عبد القادر، أو يقول: يا عبد القادر يا محمد، أو ما أشبه ذلك، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يقبله.
                        وقوله تعالى: " أحدًا ": نكرة في سياق النهي فتعم كل أحد، لا يستثنى أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا صنم ولا وثن ولا قبر ولا شيخ ولا ولي ولا حي ولا ميت كائنًا من كان.
                        فهي تعم كل من دعي من دون الله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فدلت هذه الآية على أن العبادة لا تنفع إلا مع التوحيد، وأنها إذا خالطها الشرك فإنها تبطل وتكون وبالًا على صاحبها، ثم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يجب أن تبنى بنية خالصة لا يكون القصد من بنائها الرياء والسمعة وتخليد الذكر كما يقولون وتكون آثارا إسلامية هذا كله باطل.
                        المساجد تبنى للعبادة وبقصد العبادة وتكون النية فيها خالصة لله - عز وجل -، وأيضًا تبنى من كسب طيب، لا تبنى من
                        كسب حرام لأنها لله - عز وجل -، «الله لا يقبل إلا طيبًا» فتبنى المساجد من نفقة حلال، وتكون نية بانيها خالصة لوجه الله - عز وجل - لا يريد من بنائه مدحًا من الناس، أو تخليدًا لذكره، أو رياء أو سمعة فإن بناء المساجد عبادة والعبادة يجب أن تكون خالصة لله - عز وجل -.


                        تعليق


                        • #13
                          الوَلاء وَالبَرَاء
                          الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ، لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله ولو كان أقرب قريب [10]

                          وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . [11]

                          شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
                          [10] لا يجوز لمن فعل ذلك موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.
                          هذه مسألة الولاء والبراء وهي تابعة للتوحيد، من حقوق التوحيد الولاء لأولياء الله والبراء من أعداء الله، والموالاة والولاء بمعنى واحد، والولاء يراد به المحبة بالقلب، ويراد به المناصرة والمعاونة، ويراد به الإرث والعقل في الديات. فالمسلم يوالي أولياء الله بمعنى أنه يحصر محبته على أولياء الله ويناصرهم، فالمسلم يكون مع المسلمين بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . فالتعاقل في ديات الخطأ يكون بين المسلمين، وهو ما يسمى بالتكافل، كل هذا يدخل في الولاء، فلا يكون بين مسلم وكافر، والمحبة والنصرة والميراث والعقل وولاية النكاح وولاية القضاء إلى غير ذلك، فلا يكون بين مسلم وكافر؛ وإنما يكون هذا بين المسلمين لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . هكذا يجب أن يتميز المؤمنون عن الكفار، فلا يجوز لمن وحد الله وأطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - موالاة من حاد الله.
                          والمحادة معناها: أن يكون الإنسان في جانب، والله ورسوله والمؤمنون في جانب، ويكون المحاد في جانب الكفار هذه هي المحادة.
                          قوله: ولو كان أقرب قريب: أي نسبًا، فإذا كان قريبك محادا لله ورسوله فيجب عليك محادته ومقاطعته، ومن كان وليا لله ورسوله وجب عليك أن تحبه وتواليه، ولو كانبعيدًا من النسب عنك، لو كان أعجميا أو أسود أو أبيض أو أحمر يجب عليك أن تواليه وأن تحبه سواء كان من بلدك أو من أقصى الشرق أو من أقصى الغرب، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، أي: بينهم المحبة والتناصر والتعاون، وبينهم الألفة هذا بين المؤمنين.

                          [11] قوله تعالى: (لا تجد) : هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: لا يقع هذا ولا يكون موجودًا أبدًا أن يكون مؤمن بالله ورسوله يحب الكفار، فإن أحبهم؛ فإنه ليس بمؤمن، ولو كان يدعي ذلك قال ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية:
                          أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك بإمكان
                          وكذا تعادي جاهدًا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان
                          فهذا لا يمكن أبدًا أن يحب الكفار، يقول: أنا أحب الله ورسوله لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلى قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . وقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] . هذه ملة إبراهيم تبرأ من أبيه، أقرب الناس إليه لما تبين له أنه عدو الله.
                          ودلت الآية أيضًا على أن محبة الكافر تتنافى مع الإيمان بالله واليوم الآخر، إما مع أصله أو مع كماله، لكن إن كانت محبتهم معها تأييد لمذهبهم وكفرهم فهذا خروج عن الإسلام، أما إن كان مجرد محبة من غير مناصرة لهم فهذا يعتبر منقصًا للإيمان وفسقًا ومضعفًا للإيمان.
                          قيل: إن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه - لما قتل أباه يوم بدر؛ لأن أباه كان على الكفر، وكان يريد أن يقتل ابنه أبا عبيدة، فقتله أبو عبيدة - رضي الله عنه - لأنه عدو الله ولم يمنعه أنه أبوه، لم يمنعه ذلك من قتله غضبًا لله - سبحانه وتعالى -.
                          قوله تعالى: ( {أُولَئِكَ} ) : أي الذين يبتعدون عن محبة ومودة من حاد الله ورسوله.
                          قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} : أي أثبت الله في قلوبهم ورسخ الله في قلوبهم الإيمان.
                          قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : التأييد معناه التقوية، قواهم بروح منه، والروح لها عدة إطلاقات في القرآن، منها الروح التي هي النفس التي بها الحياة، ومنها الوحي كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ومنها جبريل - عليه السلام - أنه روح القدس، والروح الأمين.
                          قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] ومنها ما في هذه الآية وهي القوة.
                          فأيدهم بروح منه أي بقوة منه سبحانه وتعالى، قوة إيمان في الدنيا، وفي الآخرة {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنة، والجنة في اللغة البستان، سمي جنة لأنه مجتن بالأشجار، أي: مستتر ومغطى بالأشجار الملتفة، لأن الجنة ظلال وأشجار وأنهار وقصور وأعلاها وسقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى.
                          قوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} : أي باقين فيها لا يتحولون عنها قال تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] لا يخافون من موت ولا يخافون من أحد يخرجهم ويطردهم، مثل ما في الدنيا، قد يكون الإنسان في الدنيا في قصور لكن لا يسلم من الموت فيخرج منها، ولا يسلم من الأعداء يتسلطون عليه ويخرجونه، الإنسان في الدنيا دائمًا خائف.
                          قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : لما أغضبوا أقرباءهم من الكفار وعادوهم منحهم الله الرضا منه سبحانه وتعالى جزاءً لهم، فهم عوضوا بإغضابهم لأقاربهم الكفار، عوضوا برضا الله سبحانه وتعالى، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
                          قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} : أي جماعة الله، وأما الكفار فهم حزب كما قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] أي جماعة الشيطان وأنصار الشيطان، أما هؤلاء فهم أنصار الرب.
                          فهذه المسألة تتعلق بعداوة الكفار وعدم موالاتهم، وهي لا تقتضي أننا نقاطع الكفار في الأمور والمنافع الدنيوية، بل يستثنى من ذلك أمور:
                          الأول: أنه مع بغضنا لهم وعداوتنا لهم يجب أن ندعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يجب أن ندعوهم إلى الله ولا نتركهم ونقول هؤلاء أعداء الله وأعداؤنا، يجب علينا أن ندعوهم إلى الله لعل الله أن يهديهم، فإن لم يستجيبوا فإنا نقاتلهم مع القدرة، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يبذلوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى أو المجوس وهم صاغرون، ويخضعون لحكم الإسلام، ويتركون على ما هم عليه، لكن بشرط دفع الجزية وخضوعهم لحكم الإسلام، أما إن كانوا غير كتابيين وغير مجوس ففي أخذ الجزية منهم خلاف بين العلماء.
                          الثاني: لا مانع من مهادنة الكفار عند الحاجة، إذا احتاج المسلمون لمهادنتهم لكون المسلمين لا يقدرون على قتالهم ويخشى على المسلمين من شرهم، لا بأس بالمهادنة إلى أن يقوى المسلمون على قتالهم أو إذا طلبوا هم المهادنة {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] فيهادنون، لكن ليس هدنة دائمة، إنما هدنة مؤقتة مؤجلة إلى أجل حسب رأي إمام المسلمين، لما فيه من المصلحة.
                          الثالث: لا مانع من مكافأتهم على الإحسان إذا أحسنوا للمسلمين، لا مانع أنهم يكافئون على إحسانهم قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
                          رابعًا: الوالد الكافر يجب على ولده المسلم أن يبر به، لكنه لا يطيعه في الكفر لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 14، 15] الوالد له حق وإن كان كافرًا، لكن لا تحبه المحبة القلبية، بل تكافئه على تربيته لك، وأنه والد وله حق تكافئه على ذلك.
                          خامسًا: تبادل التجارة معهم والشراء منهم، شراء الحاجات منهم واستيراد البضائع والأسلحة منهم بالثمن لا بأس بذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الكفار وكذلك عامل - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وهم يهود على أن يزرعوا الأرض بجزء مما يخرج منها، ليس هذا من الموالاة والمحبة، وإنما هو تبادل مصالح. يجب أن نعرف هذه الأمور، وأنها لا تدخل في الموالاة، وليس منهيا عنها.
                          كذلك الاستدانة منهم، النبي - صلى الله عليه وسلم - «استدان من اليهودي طعامًا، ورهن درعه عنده ومات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام اشتراه لأهله» ، لا مانع من هذا؛ لأن هذه أمور
                          دنيوية ومصالح، ولا تدل على المحبة والمودة في القلوب، فلا بد أن نفرق بين هذا وهذا، لأن بعض الناس إذا سمع نصوص العداوة للكفار وعدم محبتهم قد يفهم أنه لا يتعامل معهم، ولا يتصل بهم نهائيًا، وأن تكون مقاطعة نهائية. لا! هذا محدد بأحكام وبحدود وبشروط معروفة عند أهل العلم، مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
                          سادسًا: أباح الله التزوج من نساء أهل الكتاب بشرط أن يكن عفيفات في أعراضهن، وأباح الله لنا أكل ذبائحهم.
                          سابعًا: لا بأس بإجابة دعوتهم، وأكل طعامهم المباح كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
                          ثامنًا: الإحسان إلى الجيران من الكفار؛ لأن لهم حق الجوار.
                          تاسعًا: لا يجوز ظلمهم قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .






                          تعليق


                          • #14
                            اعلم أرشدك الله لطاعته [12]
                            إن الحنيفية ملة إبراهيم [13]
                            أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين [14]
                            وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا [15]
                            ومعنى يعبدون: يوحدون [16] .
                            شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
                            [12] قوله: اعلم أرشدك الله: هذا كأنه بداية رسالة ثالثة لأنه مضى رسالتان: الرسالة الأولى: المسائل الأربع
                            التي تضمنتها سورة العصر، والرسالة الثانية: المسائل الثلاث التي سبقت، والرسالة الثالثة: هي هذه، وستأتي الرسالة الرابعة وهي ثلاثة الأصول، فقوله - رحمه الله -: اعلم: تقدم الكلام على لفظها وبيان معناها، والمقصود من الإتيان بها.
                            قوله: أرشدك الله: هذا دعاء من الشيخ - رحمه الله - لكل من يقرأ هذه الرسالة متفهمًا لها يطلب العمل بها بأن يرشده الله، والإرشاد هو الهداية إلى الصواب والتوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، والرشد ضد الغي، قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] والرشد هو دين الإسلام، والغي دين أبي جهل وأمثاله.
                            قوله أرشدك الله لطاعته: هذا دعاء عظيم، فإن المسلم إذا أرشده الله لطاعته فقد سعد في الدنيا والآخرة، والطاعة هي امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه، هذه هي الطاعة، أن تطيع الله في أوامره فتفعلها، وفي نواهيه فتجتنبها امتثالا لأمر الله وابتغاء وجه الله - عز وجل - ترجو ثوابه، وتخاف عقابه، فمن وفق لطاعة الله، وأرشد لطاعة الله فإنه يسعد في الدنيا والآخرة.

                            [13] قوله: إن الحنيفية ملة إبراهيم: أي الذي يجب أن تعلمه وأن تعرفه أن الحنيفية ملة إبراهيم، والحنف في اللغة: الميل.
                            فمعنى الحنيفية هي الملة المائلة عن الشرك إلى التوحيد، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان حنيفا مسلما، حنيفا أي مائلا عن الشرك ومعرضا عنه إلى التوحيد والإخلاص لله - عز وجل -، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فالحنيف من أوصاف إبراهيم - عليه السلام - بمعنى أنه معرض عن الشرك ومائل عنه بالكلية إلى التوحيد، متوجه بكل وجهته إلى التوحيد والإخلاص لله - عز وجل - قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وقال سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] .
                            هذه أوصاف إبراهيم - عليه السلام - العظيمة، منها أنه كان حنيفا، وأن ملته الحنيفية هي الملة الخالصة لله - عز وجل - التي ليس فيها شرك، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع هذه الملة بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وأمرنا نحن كذلك أن نتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وهي دين جميع الرسل.
                            ولكن لكون إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لاقى في سبيل الدعوة إلى التوحيد من التعذيب ومن الامتحان ما لم يلقه غيره، فصبر على ذلك، ولكونه أبا الأنبياء فإن الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته - عليه الصلاة والسلام - فالحنيفية ملة جميع الأنبياء، وهي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، هذه ملة جميع الرسل، لكن لما كان لإبراهيم مواقف خاصة نحو هذه الملة نسبت إليه ولمن جاء بعده، والأنبياء كلهم من بعده كانوا على ملة إبراهيم، وهي ملة التوحيد والإخلاص لله - عز وجل -.
                            ما هي هذه الملة التي أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعها وأمرنا باتباعه؟ يجب علينا أن نعرفها، لأن المسلم يجب عليه أن يعرف ما أوجب الله عليه من أجل أن يمتثله، ومن أجل أن لا يخل به، لا يكفي الانتساب بدون معرفة، لا يكفي أن ينتسب للإسلام وهو لا يعرفه، ولا يعرف ما هي نواقض الإسلام، وما هي شرائع الإسلام، وأحكام الإسلام، ولا يكفي الانتساب لملة إبراهيم وأنت لا تعرفها، وإذا سئلت عنها تقول: لا أدري، هذا لا يجوز، يجب أن تعرفها جيدا من أجل أن تسير عليها على بصيرة، وألا تخل بشيء منها.

                            [14] قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين: هذه ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين. تجمع بين الأمرين: العبادة والإخلاص، فمن عبد الله ولم يخلص له الدين لم تكن عبادته شيئا، فمن عبد الله، فصام وحج وصلى واعتمر وتصدق وزكى وفعل كثيرا من الطاعات؛ لكنه لم يخلص لله - عز وجل - في ذلك، إما لأنه فعل كل ذلك رياء أو سمعة، أو أنه
                            خلط عمله بشيء من الشرك كالدعاء لغير الله، والاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله، فإن هذا لم يكن مخلصا في عبادته، بل هو مشرك، وليس على ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.
                            كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم يقعون في الشرك الأكبر، من دعاء غير الله وعبادة القبور والأضرحة والذبح لها والنذر لها والطواف بها والتبرك بها، والاستغاثة بالأموات، وغير ذلك، وهم يقولون إنهم مسلمون، هؤلاء لم يعرفوا ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - التي عليها نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفوها، أو عرفوها وخالفوها على بصيرة والعياذ بالله، وهذا أشد.
                            فملة إبراهيم لا تقبل الشرك بأي وجه من الوجوه، ومن خلط عمله بشرك فليس على ملة إبراهيم، وإن كان ينتسب إليها ويزعم أنه مسلم، فالواجب أن تعرف ملة إبراهيم، وأن تعمل بها، وأن تلتزمها بأن تعبد الله مخلصا له الدين، لا يكون في عبادتك شيء من الشرك الأصغر أو الأكبر.
                            هذه ملة إبراهيم - عليه السلام -: الحنيفية التي أعرضت عن الشرك بالكلية، وأقبلت على التوحيد بكليتها، أن تعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.

                            [15] قوله: وبذلك أمر الله: الإشارة ترجع إلى قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين، أي وبعبادة الله مخلصا له الدين أمر الله جميع الخلق، أمر الله جميع الناس عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كل الناس من عهد آدم إلى آخر بشر في الدنيا، كلهم أمرهم الله بعبادته مع الإخلاص في العبادة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 21، 22) أنه لا ند له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفؤ له، فهذا نهي عن الشرك الأكبر وعن الشرك الأصغر، أمر الله بذلك جميع الناس من أولهم إلى آخرهم.
                            قوله: وخلقهم لها: أي لعبادته وحده لا شريك له سبحانه، خلقوا من أجلها، ذلك كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وأمروا بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] هذا معنى قول الشيخ: خلقهم لها وأمرهم بها، جمع الأمرين في قوله: وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
                            فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} الله هو الخالق، هو الذي خلق الأشياء كلها، ومن ذلك أنه خلق الجن والإنس، وأعطاهم العقول، وكلفهم بعبادته وحده لا شريك له، خصهم بالأمر بعبادته؛ لأن الله أعطاهم عقولا، وأعطاهم ما يميزون به بين الضار والنافع، والحق والباطل، وخلق الأشياء كلها لمصالحهم ومنافعهم، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] كل مسخر لبني آدم من أجل أن يستعينوا به على ما خلقوا من أجله، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
                            والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم، وهم مكلفون بالعبادة، ومنهيون عن الشرك وعن المعصية مثل بني آدم، لكن يختلفون عن بني آدم في الخلقة.
                            أما من ناحية الأوامر والنواهي فهم مثل بني آدم مأمورون ومنهيون، والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم لكنهم موجودون، والإنس هم بنو آدم، سموا بالإنس لأن بعضهم يأنس ببعض، يجتمعون ويتآلفون، والجن سموا جنا من الاجتنان وهو الاختفاء، ومنه الجنين في البطن، لأنه مختف، وجنه الليل إذا ستره، والمجن الذي يتخذ دون السهام، فالاجتنان والجنان هو الشيء الخفي المستتر، فالجن مستترون عنا لا نراهم.
                            وهم عالم موجود من أنكرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله ولإجماع المسلمين، فقد بين الله - عز وجل - أنه لم يخلق الجن والإنس لشيء إلا لعبادته، فهو لم يخلقهم لأجل أن ينفعوه أو يضروه، أو يعتز بهم من ذلة، أو يتكثر بهم من قلة، لأنه غني عن العالمين، وما خلقهم لحاجة إليهم، ما خلقهم لأجل أن يرزقوه أو يكتسبوا له الأموال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57] .
                            فالله ليس بحاجة إلى الخلق، وإنما خلق الجن والإنس لشيء واحد فقط وهو أن يعبدوه، وهو ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إليها؛ لأنهم إذا عبدوا الله أكرمهم وأدخلهم الجنة، فمصلحة العبادة راجعة إليهم، ومضرة المعصية عائدة إليهم، أما الله - جل وعلا - لا تضره طاعة المطيع ولا معصية العاصي، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] الله لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما هذا راجع إلى الخلق أنفسهم، إن أطاعوه انتفعوا، وإن عصوه تضرروا بمعصيته.

                            [16] قوله: ومعنى يعبدون: يوحدون: أي يفردوني بالعبادة، فالعبادة والتوحيد بمعنى واحد. التوحيد يفسر بالعبادة، والعبادة تفسر بالتوحيد، ومعناهما واحد، ففي هذا رد على من فسر التوحيد بأنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، فهذا ليس هو التوحيد الذي خلق الخلق من أجله، وإنما خلق الخلق من أجل توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية.
                            أما من أقر بتوحيد الربوبية فقط فإنه ليس موحدا، وليس من أهل الجنة، بل هو من أهل النار؛ لأنه لم يأت بالتوحيد الذي خلق من أجله والعبادة.




                            التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبد الله زياد المليكي; الساعة 08-02-2016, 08:48 PM.

                            تعليق


                            • #15
                              أعظم ما أمر الله به التوحيد
                              وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إفراد الله بالعبادة [17]
                              أعظم ما نهى الله عنه الشرك
                              وأعظم ما نهى عنه الشرك [18]وهو دعوة غيره معه [19]
                              وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [20]

                              شرح الشيخ الفوزان - حفظه الله -
                              [17] قوله - رحمه الله -: أعظم ما أمر الله به التوحيد: هذا مهم جدا، إن التوحيد أعظم ما أمر الله به، كل الأوامر التي أمر الله بها كلها بعد التوحيد.
                              ما الدليل على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى آخر الآية [النساء: 36] .
                              هذه الآية فيها عشرة حقوق؛ ولهذا تسمى آية الحقوق العشرة، أول هذه الحقوق حق الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} هذا هو الحق الثاني، {وَذِي الْقُرْبَى} هذا هو الحق الثالث، وذوو القربى هم الذين تجمعك بهم قرابة نسبية من جهة الأب أو الأم، كالآباء والأجداد، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والإخوة والأخوات، وأولاد الإخوه والأخوات، وأولاد الأعمام والعمات، هؤلاء هم ذوو القربى، لهم حق القرابة. ( {وَالْيَتَامَى} ) الأيتام من المسلمين، وهم كل من مات أبوه وهو صغير ولم يبلغ وصار بحاجة إلى من يسد مسد أبيه في رعاية هذا الطفل تربية وإنفاقا والقيام بمصالحه، ورفع ما يضره؛ لأنه ليس له أب يحميه وينفق عليه ويدافع عنه، فهو بحاجة إلى من يساعده، لأنه فقد أباه وعائله، وله حق في الإسلام.
                              المهم أن الله بدأها بحقه سبحانه وتعالى قوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} لم يقتصر على قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} لأن العبادة لا تصح مع الشرك ولا تنفع، ولا تسمى عبادة إلا إذا كانت خالصة لله - عز وجل -، إن كان معها شرك فإنها لا تكون عبادة مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، قرن الأمر بالعبادة بالنهي عن الشرك، إذ لا تصح العبادة مع وجود الشرك أبدا.
                              هذا دليل على قول الشيخ: أعظم ما أمر الله به التوحيد، حيث إن الله بدأ به في آيات كثيرة منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] فبدأ سبحانه وتعالى بالتوحيد، وهذا يدل على أنه أعظم ما أمر الله به. {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] .
                              هذا دليل على ما يأتي أن أعظم ما نهى الله عنه الشرك، إذا كان أعظم ما أمر الله به التوحيد فإنه يجب أن يبدأ الإنسان بتعلم العقيدة قبل كل شيء، العقيدة هي الأساس، فيجب أن يبدأ بها بالتعلم والتعليم، وأن يداوم على تدريسها وبيانها للناس؛ لأنها هي أعظم ما أمر الله به، فليس من المناسب أن تجعلها آخر الأشياء، أو لا يؤبه بها، لأن الآن هناك دعاة يزهدون في تعليم التوحيد والعقيدة، فهناك أناس ابتلوا بهذا، ولأن الإخلال بها إخلال بالدين كله فيجب العناية بها.
                              وما هو التوحيد؟ هل هو أن تقر بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؟ لا؛ التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، لأن الله قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال أهل التفسير: يعبدون أي يوحدون، ففسروا التوحيد بالعبادة.
                              إذًا فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وليس، هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، لأن هذا موجود في الفطر، موجود في عقول العقلاء، لا يوجد عاقل في الدنيا يعتقد أن أحدا خلق السماوات والأرض غير الله سبحانه وتعالى، لا يوجد أحد في العالم كله وما فيه من الكفار والملاحدة يعتقد أن أحدا خلق بشرا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] . لا يوجد عاقل في العالم يعتقد أن بشرا يخلق بشرا إنسانا يمشي على الأرض ويتكلم ويأكل ويشرب، هل يوجد عاقل يعتقد هذا؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . توحيد الربوبية موجود في الفطر والعقول لكنه لا يكفي بدون توحيد العبادة، وهو إفراد الله بالعبادة.
                              ولهذا قال الشيخ: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وليس هو إفراد الله بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، لأن هذا شيء معروف، ولا يكفي توحيد الربوبية في تعريف التوحيد.

                              [18] قوله - رحمه الله -: وأعظم ما نهى الله عنه الشرك: هذه فائدة عظيمة؛ لأن بعض الناس يعتقدون أن هناك أشياء هي أعظم الجرائم، وأعظم ما نهى الله عنه، فيقول: الربا هو أعظم المحرمات، الزنا هو أعظم المحرمات؛ ولذلك يركزون على النهي عن الربا، وعن الزنا، وعن فساد الأخلاق، ولكن لا يهتمون بأمر الشرك، ولا يحذرون منه، وهم يرون الناس واقعين فيه، فهذا من الجهل العظيم بشريعة الله سبحانه وتعالى.
                              فأعظم ما نهى الله عنه هو الشرك، فهو أعظم من الربا، وأعظم من شرب الخمر، وأعظم من السرقة، وأعظم من أكل أموال الناس بالباطل، وأعظم من القمار والميسر، هو أعظم المحرمات، والدليل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى آخر الآيات، وهذه الآيات تسمى بالوصايا العشر، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151، 152] . هذه المحرمات بدأها الله بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فدل على أن الشرك هو أعظم ما نهى الله عنه.
                              وفي سورة الإسراء قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . بدأ بالنهي عن الشرك، وختمها بالنهي عن الشرك فقال: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] . فدل على أنه أعظم ما نهى الله عنه، هذا يدل على قول الشيخ: وأعظم ما نهى الله عنه الشرك.
                              وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سئل: أي الذنب أعظم قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك»
                              وأنزل الله تصديق ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] . فبدأ بالشرك في قوله: أن تجعل لله ندا - أي شريكا - وهو خلقك، وقال: هو أعظم الذنوب؛ لأنه سئل أي الذنب أعظم؟ فبدأ بالشرك.
                              وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات! قيل وما هن يا رسول الله؟ ! قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.» " إلخ الحديث
                              بدأها بالشرك، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، ولذلك المشرك لا يدخل الجنة أبدا، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . المشرك لا يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فدل ذلك على تحريم الجنة على المشرك، وأيضا أن الله لا يغفر له، ودل هذا على أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الذنوب ما عدا الشرك قابلة للمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فالزنا والسرقة وشرب الخمر والربا كله داخل تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه. أما الشرك فإنه لا يغفر، حكم الله أنه لا يغفره، وكذا العاصي وإن كان عنده كبائر دون الشرك فإنه لا تحرم عليه الجنة، مآله إلى الجنة، إما أن يغفر الله له من أول وهلة ويدخله الجنة، وإما أن يخرج من النار بعد تعذيبه ويدخل الجنة، المؤمن مهما كان منه من الفسق والمعاصي التي دون الشرك فإنه لا يقنط من رحمة الله، ولا يحرم من الجنة، وهو داخل تحت المغفرة بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
                              أما المشرك فإنه محروم من ذلك كله والعياذ بالله، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
                              وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] كل هذا يدل على أن الشرك أعظم الذنوب، وإذا كان الشرك أعظم الذنوب فإنه يجب على العلماء والمتعلمين النهي عنه والتحذير منه، وألا يسكتوا عن التحذير من الشرك، وأنه يجب جهاد المشركين مع القدرة كما جاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] فيجب التحذير من الشرك وبيانه للناس حتى يجتنبوه، هذا الذي يجب.
                              أما أن يسكت عن الشرك، ويترك الناس يهيمون في عبادة غير الله، وهم يدعون الإسلام، ولا أحد ينهي ولا أحد يحذر، الأمر خطير جدا، هناك ناس يتجهون إلى النهي عن الربا والزنا وفساد الأخلاق، هذه أمور نعم محرمة وفساد، لكن الشرك أعظم، فلماذا لا يهتم بالنهي عن الشرك، والتحذير من الشرك، وبيان ما يقع فيه كثير من الناس في الشرك الأكبر وهم يدعون الإسلام؟
                              لماذا هذا التساهل في أمر الشرك والتغافل عنه، وترك الناس يقعون فيه، والعلماء موجودون، بل يعيشون مع هؤلاء ويسكتون عنهم؟ الواجب أن يتجه أولا إلى النهي عن هذا الخطر العظيم الذي فتك بالأمة فتكا ذريعا، كل ذنب دونه فهو أهون منه، والواجب أن يبدأ بالأهم فالأهم.


                              [19] هذا تعريف الشرك: هو دعوة غيره معه: بمعنى أن يُصرف شيء من العبادة لغير الله من ملك من الملائكة أونبي من الأنبياء أو صالح من الصالحين أو بنية من البنيات أو غير ذلك من كل المخلوقات، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو أعظم ما نهى الله عنه، هذا هو الشرك.
                              فاعرفوا تفسير التوحيد وتفسير الشرك، لأن هناك من الناس من يفسر التوحيد بغير تفسيره، ومن يفسر الشرك بغير تفسيره.
                              من الناس من يقولون إن الشرك هو الشرك في الحاكمية، وهذا ظهر الآن مع الأسف، الحكم بغير ما أنزل الله نوع من أنواع الشرك يسمى شرك الطاعة، لا شك أن طاعة المخلوق في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله هذا نوع من الشرك؛ لكن هناك ما هو أعظم منه وهو عبادة غير الله - عز وجل - بالذبح والنذر والطواف والاستغاثة، فالواجب أن يحذر من الشرك كله لا يؤخذ منه ويترك ما هو أعظم وأخطر منه، فلا يفسر الشرك بأنه شرك الحاكمية فقط أو الشرك السياسي، ويقولون الشرك بالقبور هذا شرك ساذج، أي هين، هذه جراءة على الله سبحانه وتعالى، الشرك أعظم ما نهى الله عنه، وهو دعوة غيره معه، هذا هو الشرك. ومنهم من يقول الشرك هو محبة الدنيا ومحبة المال. المال جعله الله محبوبا حبا طبيعيا {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] . {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال {لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة: 24] .
                              قال: أحب إليكم، ما أنكر عليهم أنهم يحبونه، لكن أنكر عليهم أنهم يقدمون محبته على محبة الله، محبة المال ليست شركا؛ لأن هذه محبة طبيعية، الناس يحتاجون إلى المال ويحبونه، محبة المال ليست شركا، لأنه من محبة المنافع التي ينتفع بها الإنسان، لكن هؤلاء الذين يقولون هذه المقالات إما أنهم جهال لم يتعلموا التوحيد والشرك، وإما أنهم معرضون يريدون صرف الناس عن هذه الحقائق إلى أشياء هم يريدونها، ومآرب يريدونها، والله أعلم بالمقاصد.
                              المهم أن هذا ليس هو الشرك، الشرك هو دعوة غير الله معه، أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والاستعانة والالتجاء والخوف والرجاء وغير ذلك، هذا هو الشرك الذي هو أعظم الذنوب، دعوة غيره معه سبحانه وتعالى، لأن الدعاء هو أعظم أنواع العبادة كما قال سبحانه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] . وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] . فدعاء غير الله هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله، أما هذه الجزئيات التي يجعلونها هي الشرك فليس كذلك، لكن يقال: إن بعضها جزء من الشرك؛ وإن هناك ما هو أخطر منه وأهم منه، لأن الشرك يتفاوت، بعضه أشد من بعض والعياذ بالله.

                              [20] قوله: والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، قلنا: إن الدليل على أن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ثم ذكر بقية الحقوق، فكونه بدأ بالتوحيد والنهي عن الشرك، هذا دليل على أن التوحيد هو أعظم ما أمر الله به، لأنه قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وأتبعه بقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فهذا نهي، فبدأ الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، فدل على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، لأن الله بدأ بذلك، ولا يبدأ سبحانه إلا بالأهم فالأهم، هذا وجه الدلالة من الآية.


                              تعليق

                              يعمل...
                              X