الرسالة الرابعة
:
الأصول الثلاثة التي تجب معرفتها
الأصل الأول: معرفة الله عز وجل
فإذا قيل لك ما هي الأصول الثلاثة التي تجب مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ محمد - صلى الله عليه وسلم -[1]
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ [2]
وهو معبودي ليس لي معبود سواه [3]
وكل ما سِوَى اللهِ عَالَمٌ وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العالم [4]
فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته [5]
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته: السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما [6]
شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
[1] قوله: الأصول: جمع أصل، والأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره، فهذه سميت بالأصول، لأنها يبنى عليها غيرها من أمر الدين؛ فلذلك سميت أصولا لأنها يبنى عليها أمر الدين. وكل الدين يدور على هذه الأصول الثلاثة.
قوله: معرفة العبد ربه: ربه منصوب، لأنه مفعول لمعرفة، لأن المصدر (معرفة) أضيف إلى اسم الفاعل (العبد) والمصدر إذا أضيف يعمل عمل فعله عند النحويين، فالمصدر هنا أضيف فيعمل عمل الفعل.قوله: ودينه ونبيه: معطوف عليه أي على المنصوب، هذه أصول الدين إجمالا. وسيأتي تفصيلها في كلام الشيخ - رحمه الله - إن شاء الله.
لماذا خص هذه الأصول الثلاثة؟ لأنها هي الأساسات لدين الإسلام، ولأنها هي المسائل التي يسأل عنها العبد حين يوضع في قبره، لأن «العبد إذا وضع في قبره وسوي عليه التراب وانصرف عنه الناس راجعين إلى أهلهم جاءه ملكان في القبر، فتعاد روحه في جسده، ويحيا حياة برزخية، ليست حياة مثل حياة الدنيا، حياة الله أعلم بها، فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي، فيقال له: كيف عرفت؟ يقول: قرأت كتاب الله فدريت وعرفت، فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة، ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه من ريح الجنة وروحها، فينظر إلى مسكنه في الجنة، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي» .
وأما المرتاب الذي عاش على الريبة والشك وعدم اليقين، وإن كان يدعي الإسلام، «إذا كان عنده شكوك وعنده»
«ريب في دين الله كالمنافق فإنه يتلجلج، فإذا قالوا له: من ربك؟ يقول: لا أدري، وإذا قالوا: ما دينك؟ يقول: لا أدري، وإذا قيل: من نبيك؟ يقول: لا أدري، هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» .
يعني أنه في الدنيا يقول ما يقوله الناس من غير إيمان، هذا المنافق والعياذ بالله، هذا المنافق الذي أظهر الإسلام وهو لا يعتقده في قلبه، وإنما أظهره من أجل مصالحه الدنيوية، فيقول في الدنيا: ربي الله، وهو غير مؤمن بها، قلبه منكر والعياذ بالله!! يقول: ديني الإسلام وهو لا يؤمن بالإسلام، قلبه منكر!! يقول: نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يؤمن برسالة محمد في قلبه! ! إنما يقول بلسانه فقط، «هذا هو المنافق، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح بها صيحة لو سمعه الثقلان لصعقوا، يسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعه لصعق، أي لمات من الهول، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فيقول: يا رب لا تقم الساعة، هذه عيشته وحالته في القبر، والعياذ بالله، لأنه ما أجاب بالجواب السديد.
»«ولذلك ينادي مناد: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا من النار» ، والعياذ بالله. فإذا كانت هذه المسائل بهذه الأهمية وجب علينا أن نتعلمها وأن نعتقدها، ولا يكفي التعلم فقط، بل نتعلمها ونعتقدها، ونؤمن بها، ونعمل بها ما دمنا على قيد الحياة، لعل الله أن يثبتنا عند السؤال في القبر، يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] .
فهذه الأصول الثلاثة لها أهمية عظيمة، ولهذا ركز عليها الشيخ في هذه الرسالة ووضحها من أجل أن ندرسها، ونتمعن فيها ونعتقدها ونعمل بها، لعل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
[2] لما بين الشيخ - رحمه الله - الأصول الثلاثة مجملة أراد أن يبينها مفصلة واحدا واحدا بأدلتها من الكتاب والسنة، ومن آيات الله في الكون، ومن الأدلة العقلية، وهكذا يجب أن تبنى العقائد على أدلة الكتاب والسنة، وعلى النظر في آيات الله الكونية من أجل أن ترسخ وتثبت في القلب، وتزول جميع الشبه.
وأما العقائد المبنية على الشبهات وعلى الشكوك وعلى أقوال الناس والتقليد الأعمى فإنها عقائد زائلة لا تثبت، وهي عرضة للنقض، وعرضة للإبطال.
فلا تثبت العقيدة ولا سائر الأحكام الشرعية إلا بأدلة الكتاب والسنة، وبالأدلة العقلية المسلمة. ولهذا أكثر الشيخ - رحمه الله - من سياق الأدلة على هذه الأصول الثلاثة، فلا يمر أصل منها إلا وقد دعمه بالأدلة والبراهين اليقينية التي تطرد الشكوك والأهواء، وترسخ العقيدة في القلب.
قوله - رحمه الله -: فإذا قيل لك: أي سئلت من ربك؟ وهذا سؤال وارد ستسأل عنه في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تعرف ربك - عز وجل - وأن تجيب بجواب صحيح مبني على اليقين والبرهان، فقل: ربي الله - هذا هو الجواب - الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، هذا استدلال عقلي.
فالرب - جل وعلا - هو الذي يربي جميع عباده بنعمه، ويغذيهم برزقه، يخلقهم - بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا - في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، ويوصل إليهم الرزق حتى في بطون أمهاتهم؛ ولذلك ينمو جسم الجنين في بطن أمه ويكبر، لأنه يصل إليه الرزق من الله سبحانه وتعالى، ويصل إليه الغذاء.
ثم تنفخ فيه الروح فيتحرك ويحيا بإذن الله، هذه تربية في البطن، ثم إذا خرج فإن الله سبحانه يربيه بنعمه بالصحة والعافية، ويدر عليه لبن أمه، فيتغذى إلى أن يأكل الطعام ويستغني عن الحليب، ثم ينمو شيئا فشيئا، عقله وسمعه وبصره، ينمو شيئا فشيئا حتى يبلغ الحلم، ثم ينمو وينمو حتى يبلغ أشده ويبلغ أربعين سنة، ويكون في غاية القوة.
فمن الذي يغذيه من يوم أن خلقه في بطن أمه إلى أن يموت، من الذي يغذيه، ثم من الذي يسوغ هذا الطعام وهذا الشراب في جسمه، فيصل إلى كل خلية وعضلة، وإلى كل مكان في جسمه، من الذي يشهي إليه الطعام والشراب، من الذي يصرفه ويخرج منه ضرره، من الذي يفعل هذا ويربي هذا الإنسان، أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي يربي، الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته. كل ما على وجه الأرض من العوالم الآدمية والحيوانية، وعالم البر والبحر، من أكبر مخلوق إلى أصغر مخلوق، في البر والبحر، كلها تتغذى بنعمه ورزقه، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] ، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] . هذا هو الرب سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس: 3] أما غير الله - جل وعلا - فلا يملك من ذلك شيئا، لا الأصنام ولا غيرها، لا أحد يملك من الرزق شيئا، وإنما هو مرزوق، مخلوق مثلك.
[3] قوله: وهو معبودي: الرب الذي هذا شأنه هو الذي يستحق العبادة مني ومن غيري، ثم أيضا نبه الشيخ - رحمه الله - أنه لا يكفي الإقرار بالربوبية، لا يكفي أن تقول ربي الله الذي رباني بنعمه.
هذا لا يكفي، لا بد أن تعترف له بالعبودية، وأن تخلص له بالعبادة، وهذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك، فالموحد يقر بربوبية الله - عز وجل - وبعبوديته وحده لا شريك له، والمشرك يقر بربوبية الله، ولكنه مشرك في عبادته، يشرك معه غيره في عبادته، يشرك معه من لا يخلق ولا يرزق ولا يملك شيئا، هذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك؛ الموحد يقول: ربي الله، وهو معبودي، وليس لي معبود سواه، أما المشرك يقول: ربي الله؛ لكن العبادة عنده ليست خاصة بالله، فيعبد مع الله الأشجار والأحجار والأولياء والصالحين والقبور، فلذلك صار مشركا، ولم ينفعه الإقرار بالربوبية، ولم يدخله في الإسلام.
فقوله: وهو معبودي: أي الإله الذي أعبده.
وقوله: ليس لي معبود سواه: لا من الملائكة ولا من الرسل ولا من الصالحين ولا من الأشجار والأحجار ولا من أي شيء، ليس لي معبود سواه سبحانه وتعالى، هذا تقرير التوحيد بالدليل، وهذا دليل عقلي، ثم ذكر الدليل النقلي من القرآن.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
هذه الآية هي أول القرآن في المصحف، ليس قبلها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آخر كلام أهل الجنة، قال تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، والله - جل وعلا - افتتح بها الخلق، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وختم بها الخلق، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] فتح بها الخلق وختم بها، فهي كلمة عظيمة.
فقوله تعالى: الحمد: الثناء على المحمود مع محبته وإجلاله، و (أل) : في الحمد للاستغراق، أي جميع المحامد لله ملكا واستحقاقا، فهو المستحق للحمد المطلق، وأما غيره فيحمد على قدر ما يفعل من الجميل ومن الخير، وأما الحمد المطلق الكامل فهو لله - عز وجل - لأن النعم كلها منه.
وحتى المخلوق إذا أسدى إليك شيئا من الإحسان فإنه من الله - عز وجل - هو الذي سخر لك هذا المخلوق، وهو الذي مكنه من أن يحسن إليك، فالحمد يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: لله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، أي: الحمد كائن أو مستقر لله - عز وجل -. والله: معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهذا الاسم لا يسمى به غيره سبحانه، لا أحد تسمى بالله، حتى فرعون ما قال أنا الله، لكنه قال: أنا ربكم، فهذا الاسم خاص بالله، لا أحد يتسمى به أبدا، ولا أحد يجرؤ أن يقول أنا الله.
رب: نعت لاسم الجلالة، وهو مجرور، وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
فواضح أن الحمد كله والثناء كله لله رب العالمين.
وعالم الملائكة وعالم الجمادات والطيور وعالم السباع وعالم الحيوانات وعالم الحشرات والذر، عوالم في البر والبحر لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الله، كلها الله ربها.
رب العالمين: وهذا لا يقال إلا على الله سبحانه - عز وجل -، لا يمكن لأحد أن يقال له: رب العالمين.
فإذا قيل: الرب: فهذا لا يطلق إلا على الله - جل وعلا - ولا ينصرف إلا إليه، أما المخلوق فيقيد، فيقال: رب الدار، رب البهيمة، أي: مالكها وصاحبها.
[4] ثم بين الشيخ - رحمه الله - وجه الاستدلال بهذه الآية.
فقوله: وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم: فيكون الله ربي؛ لأن الله رب العالمين، وأنا واحد من العالمين، فيكون الله ربي، فلا أحد يستطيع أن يقول: أنا لي رب غير رب العالمين، لا الكافر ولا المسلم، هذا لا يمكن أبدا، ولا يقوله عاقل، هذا دليل على ربوبية الله - عز وجل - وما دام أنه رب العالمين فهو المستحق للعبادة، وهذا يبطل عبادة غيره سبحانه وتعالى، ولذلك قال بعدها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وهذا يفيد الحصر، لأن تقديم المعمول - إياك - وتأخير العامل - نعبد - يدل على الحصر، فإياك نعبد يختلف عن نعبدك، لأن نعبد هذا إثبات فقط، لكن إياك نعبد يتضمن النفي والإثبات، أي لا نعبد غيرك، والعبادة لا تصح إلا مع النفي والإثبات، وهو معنى لا إله إلا الله، فيها نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله - عز وجل -
[5] أنت قلت: الله ربي، أو ربي الله الذي رباني بنعمه، ما هو الدليل على أن الله ربك الذي رباك بنعمه؟ جاء الشيخ بأدلة من الوحي ومن العقل كما سيأتي، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ لأن من ادعى شيئا فلا بد أن يقيم الدليل على دعواه:
والدعاوى إذا لم يقيموا ... عليها بينات أهلها أدعياء
لا بد لكل مدع أن يقيم الدليل على دعواه، وإلا كانت دعواه غير صحيحة، أنت قلت: ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، ما الدليل؟ فقل: الدليل آياته ومخلوقاته. الآيات: جمع آية، والآية لغة: العلامة على الشيء، والدلالة على الشيء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «آية المنافق ثلاث» " أي: علامته.
قوله: بآياته: أي العلامات والدلالات الدالة عليه سبحانه وتعالى. فجميع هذه الكائنات التي ترونها كلها كانت معدومة، ثم إن الله أوجدها وخلقها بقدرته سبحانه وتعالى.
ومنها خلق يتجدد مثل النبات والمواليد وأشياء ما كانت موجودة ثم وجدت، وأنتم تنظرون إليها، من الذي يخلقها؟ هو الله سبحانه وتعالى. هل تخلق نفسها، هل أحد من البشر خلقها؟ لا أحد ادعى هذا ولا يستطيع أن يدعي.
قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . هذه الأشياء ما أوجدت نفسها، أو أوجدها غيرها من المخلوقات، أبدا ما أحد خلق شجرة، ما أحد خلق بعوضة أو ذبابا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] .
فهذا الخلق يدل على الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا لما قيل لأعرابي على البديهة بم عرفت ربك؟ قال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ألا يدل هذا الكون على اللطيف الخبير.
إذا رأيت أثر قدم على الأرض أما يدلك هذا على أن أحدا مشى على هذه الأرض، إذا رأيت بعر بعير، ألا يدلك هذا على أن هذه الأرض فيها إبل، أو مر عليها بعير، البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير
[6] قوله: ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر: فالآيات على قسمين:
آيات كونية تشاهد مثل السماوات والأرض والنجوم والشمس والقمر والجبال والشجر والبحار، سميت آيات، لأن بها دلالات على خالقها سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الشاعر:
فيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد
فكيف يجحد أحد الله - جل وعلا - ويقول: ليس هناك رب، هذا الكون كله، وهذه المخلوقات وجدت من غير خالق، وإن وجدت بخالق فمن هو هذا الخالق غير الله - جل وعلا - بين لي؟ لا تجد خالقا غير الله سبحانه وتعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] .
القسم الثاني: الآيات القرآنية التي تتلى من الوحي المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه كلها أدلة على وجود الرب سبحانه وتعالى، وعلى كماله وصفاته وأسمائه، وعلى أنه مستحق للعبادة وحده لا شريك له، كلها تدل على ذلك، الآيات الكونية والآيات القرآنية.
الآيات الكونية تدل على خالقها وموجدها ومدبرها، والآيات القرآنية فيها الأمر بعبادة الله، وفيها تقرير توحيد الربوبية، والاستدلال به على توحيد الألوهية، والأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، كل القرآن يدور على هذا المعنى، وأنزل من أجل هذا المعنى.
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، هذه من أعظم آياته سبحانه وتعالى، الليل المظلم الذي يغطي هذا الكون، والنهار المضيء الذي يضيء هذا الكون، فينتشر الناس لأشغالهم، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] .
هذا من أعظم آيات الله، هذا الليل وهذا النهار، لا الوقت كله ليل، ولا الوقت كله نهار، لأنه لو كان كذلك تعطلت مصالح العباد وتعبوا.
جعل الله لهم الليل والنهار يتعاقبان، ثم إن الليل والنهار منتظمان لا يتخلف واحد منهما ولا يتغير، على نظام واحد، مما يدل على حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، أفعال العباد وصناعاتهم تخرب وتختلف مهما كانت وتتعطل، وأما مخلوقات الله - عز وجل - فإنها لا تخرب إلا في وقت يأذن الله فيه بخرابها.
فالليل والنهار مستمران، لم يتعطل أحد فيهما، بينما صناعة الخلق تتعطل وتخرب وتفنى، وإن كانت قوية أو ضخمة.
كم تشاهدون من السيارات المرمية والطائرات والبواخر، مع أنها قوية ومعتنى بها، لكنها تخرب وتتعطل، هل تعطلالليل أو تعطل النهار؟ لأن صانعه قدير حكيم - جل وعلا -: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .
:
الأصول الثلاثة التي تجب معرفتها
الأصل الأول: معرفة الله عز وجل
فإذا قيل لك ما هي الأصول الثلاثة التي تجب مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ محمد - صلى الله عليه وسلم -[1]
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ [2]
وهو معبودي ليس لي معبود سواه [3]
وكل ما سِوَى اللهِ عَالَمٌ وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العالم [4]
فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته [5]
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته: السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما [6]
شرح الشيخ الفوزان -حفظه الله -
[1] قوله: الأصول: جمع أصل، والأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره، فهذه سميت بالأصول، لأنها يبنى عليها غيرها من أمر الدين؛ فلذلك سميت أصولا لأنها يبنى عليها أمر الدين. وكل الدين يدور على هذه الأصول الثلاثة.
قوله: معرفة العبد ربه: ربه منصوب، لأنه مفعول لمعرفة، لأن المصدر (معرفة) أضيف إلى اسم الفاعل (العبد) والمصدر إذا أضيف يعمل عمل فعله عند النحويين، فالمصدر هنا أضيف فيعمل عمل الفعل.قوله: ودينه ونبيه: معطوف عليه أي على المنصوب، هذه أصول الدين إجمالا. وسيأتي تفصيلها في كلام الشيخ - رحمه الله - إن شاء الله.
لماذا خص هذه الأصول الثلاثة؟ لأنها هي الأساسات لدين الإسلام، ولأنها هي المسائل التي يسأل عنها العبد حين يوضع في قبره، لأن «العبد إذا وضع في قبره وسوي عليه التراب وانصرف عنه الناس راجعين إلى أهلهم جاءه ملكان في القبر، فتعاد روحه في جسده، ويحيا حياة برزخية، ليست حياة مثل حياة الدنيا، حياة الله أعلم بها، فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي، فيقال له: كيف عرفت؟ يقول: قرأت كتاب الله فدريت وعرفت، فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة، ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه من ريح الجنة وروحها، فينظر إلى مسكنه في الجنة، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي» .
وأما المرتاب الذي عاش على الريبة والشك وعدم اليقين، وإن كان يدعي الإسلام، «إذا كان عنده شكوك وعنده»
«ريب في دين الله كالمنافق فإنه يتلجلج، فإذا قالوا له: من ربك؟ يقول: لا أدري، وإذا قالوا: ما دينك؟ يقول: لا أدري، وإذا قيل: من نبيك؟ يقول: لا أدري، هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» .
يعني أنه في الدنيا يقول ما يقوله الناس من غير إيمان، هذا المنافق والعياذ بالله، هذا المنافق الذي أظهر الإسلام وهو لا يعتقده في قلبه، وإنما أظهره من أجل مصالحه الدنيوية، فيقول في الدنيا: ربي الله، وهو غير مؤمن بها، قلبه منكر والعياذ بالله!! يقول: ديني الإسلام وهو لا يؤمن بالإسلام، قلبه منكر!! يقول: نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يؤمن برسالة محمد في قلبه! ! إنما يقول بلسانه فقط، «هذا هو المنافق، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح بها صيحة لو سمعه الثقلان لصعقوا، يسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعه لصعق، أي لمات من الهول، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فيقول: يا رب لا تقم الساعة، هذه عيشته وحالته في القبر، والعياذ بالله، لأنه ما أجاب بالجواب السديد.
»«ولذلك ينادي مناد: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا من النار» ، والعياذ بالله. فإذا كانت هذه المسائل بهذه الأهمية وجب علينا أن نتعلمها وأن نعتقدها، ولا يكفي التعلم فقط، بل نتعلمها ونعتقدها، ونؤمن بها، ونعمل بها ما دمنا على قيد الحياة، لعل الله أن يثبتنا عند السؤال في القبر، يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] .
فهذه الأصول الثلاثة لها أهمية عظيمة، ولهذا ركز عليها الشيخ في هذه الرسالة ووضحها من أجل أن ندرسها، ونتمعن فيها ونعتقدها ونعمل بها، لعل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
[2] لما بين الشيخ - رحمه الله - الأصول الثلاثة مجملة أراد أن يبينها مفصلة واحدا واحدا بأدلتها من الكتاب والسنة، ومن آيات الله في الكون، ومن الأدلة العقلية، وهكذا يجب أن تبنى العقائد على أدلة الكتاب والسنة، وعلى النظر في آيات الله الكونية من أجل أن ترسخ وتثبت في القلب، وتزول جميع الشبه.
وأما العقائد المبنية على الشبهات وعلى الشكوك وعلى أقوال الناس والتقليد الأعمى فإنها عقائد زائلة لا تثبت، وهي عرضة للنقض، وعرضة للإبطال.
فلا تثبت العقيدة ولا سائر الأحكام الشرعية إلا بأدلة الكتاب والسنة، وبالأدلة العقلية المسلمة. ولهذا أكثر الشيخ - رحمه الله - من سياق الأدلة على هذه الأصول الثلاثة، فلا يمر أصل منها إلا وقد دعمه بالأدلة والبراهين اليقينية التي تطرد الشكوك والأهواء، وترسخ العقيدة في القلب.
قوله - رحمه الله -: فإذا قيل لك: أي سئلت من ربك؟ وهذا سؤال وارد ستسأل عنه في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تعرف ربك - عز وجل - وأن تجيب بجواب صحيح مبني على اليقين والبرهان، فقل: ربي الله - هذا هو الجواب - الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، هذا استدلال عقلي.
فالرب - جل وعلا - هو الذي يربي جميع عباده بنعمه، ويغذيهم برزقه، يخلقهم - بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا - في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، ويوصل إليهم الرزق حتى في بطون أمهاتهم؛ ولذلك ينمو جسم الجنين في بطن أمه ويكبر، لأنه يصل إليه الرزق من الله سبحانه وتعالى، ويصل إليه الغذاء.
ثم تنفخ فيه الروح فيتحرك ويحيا بإذن الله، هذه تربية في البطن، ثم إذا خرج فإن الله سبحانه يربيه بنعمه بالصحة والعافية، ويدر عليه لبن أمه، فيتغذى إلى أن يأكل الطعام ويستغني عن الحليب، ثم ينمو شيئا فشيئا، عقله وسمعه وبصره، ينمو شيئا فشيئا حتى يبلغ الحلم، ثم ينمو وينمو حتى يبلغ أشده ويبلغ أربعين سنة، ويكون في غاية القوة.
فمن الذي يغذيه من يوم أن خلقه في بطن أمه إلى أن يموت، من الذي يغذيه، ثم من الذي يسوغ هذا الطعام وهذا الشراب في جسمه، فيصل إلى كل خلية وعضلة، وإلى كل مكان في جسمه، من الذي يشهي إليه الطعام والشراب، من الذي يصرفه ويخرج منه ضرره، من الذي يفعل هذا ويربي هذا الإنسان، أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي يربي، الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته. كل ما على وجه الأرض من العوالم الآدمية والحيوانية، وعالم البر والبحر، من أكبر مخلوق إلى أصغر مخلوق، في البر والبحر، كلها تتغذى بنعمه ورزقه، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] ، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] . هذا هو الرب سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس: 3] أما غير الله - جل وعلا - فلا يملك من ذلك شيئا، لا الأصنام ولا غيرها، لا أحد يملك من الرزق شيئا، وإنما هو مرزوق، مخلوق مثلك.
[3] قوله: وهو معبودي: الرب الذي هذا شأنه هو الذي يستحق العبادة مني ومن غيري، ثم أيضا نبه الشيخ - رحمه الله - أنه لا يكفي الإقرار بالربوبية، لا يكفي أن تقول ربي الله الذي رباني بنعمه.
هذا لا يكفي، لا بد أن تعترف له بالعبودية، وأن تخلص له بالعبادة، وهذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك، فالموحد يقر بربوبية الله - عز وجل - وبعبوديته وحده لا شريك له، والمشرك يقر بربوبية الله، ولكنه مشرك في عبادته، يشرك معه غيره في عبادته، يشرك معه من لا يخلق ولا يرزق ولا يملك شيئا، هذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك؛ الموحد يقول: ربي الله، وهو معبودي، وليس لي معبود سواه، أما المشرك يقول: ربي الله؛ لكن العبادة عنده ليست خاصة بالله، فيعبد مع الله الأشجار والأحجار والأولياء والصالحين والقبور، فلذلك صار مشركا، ولم ينفعه الإقرار بالربوبية، ولم يدخله في الإسلام.
فقوله: وهو معبودي: أي الإله الذي أعبده.
وقوله: ليس لي معبود سواه: لا من الملائكة ولا من الرسل ولا من الصالحين ولا من الأشجار والأحجار ولا من أي شيء، ليس لي معبود سواه سبحانه وتعالى، هذا تقرير التوحيد بالدليل، وهذا دليل عقلي، ثم ذكر الدليل النقلي من القرآن.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
هذه الآية هي أول القرآن في المصحف، ليس قبلها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آخر كلام أهل الجنة، قال تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، والله - جل وعلا - افتتح بها الخلق، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وختم بها الخلق، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] فتح بها الخلق وختم بها، فهي كلمة عظيمة.
فقوله تعالى: الحمد: الثناء على المحمود مع محبته وإجلاله، و (أل) : في الحمد للاستغراق، أي جميع المحامد لله ملكا واستحقاقا، فهو المستحق للحمد المطلق، وأما غيره فيحمد على قدر ما يفعل من الجميل ومن الخير، وأما الحمد المطلق الكامل فهو لله - عز وجل - لأن النعم كلها منه.
وحتى المخلوق إذا أسدى إليك شيئا من الإحسان فإنه من الله - عز وجل - هو الذي سخر لك هذا المخلوق، وهو الذي مكنه من أن يحسن إليك، فالحمد يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: لله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، أي: الحمد كائن أو مستقر لله - عز وجل -. والله: معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهذا الاسم لا يسمى به غيره سبحانه، لا أحد تسمى بالله، حتى فرعون ما قال أنا الله، لكنه قال: أنا ربكم، فهذا الاسم خاص بالله، لا أحد يتسمى به أبدا، ولا أحد يجرؤ أن يقول أنا الله.
رب: نعت لاسم الجلالة، وهو مجرور، وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
فواضح أن الحمد كله والثناء كله لله رب العالمين.
وعالم الملائكة وعالم الجمادات والطيور وعالم السباع وعالم الحيوانات وعالم الحشرات والذر، عوالم في البر والبحر لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الله، كلها الله ربها.
رب العالمين: وهذا لا يقال إلا على الله سبحانه - عز وجل -، لا يمكن لأحد أن يقال له: رب العالمين.
فإذا قيل: الرب: فهذا لا يطلق إلا على الله - جل وعلا - ولا ينصرف إلا إليه، أما المخلوق فيقيد، فيقال: رب الدار، رب البهيمة، أي: مالكها وصاحبها.
[4] ثم بين الشيخ - رحمه الله - وجه الاستدلال بهذه الآية.
فقوله: وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم: فيكون الله ربي؛ لأن الله رب العالمين، وأنا واحد من العالمين، فيكون الله ربي، فلا أحد يستطيع أن يقول: أنا لي رب غير رب العالمين، لا الكافر ولا المسلم، هذا لا يمكن أبدا، ولا يقوله عاقل، هذا دليل على ربوبية الله - عز وجل - وما دام أنه رب العالمين فهو المستحق للعبادة، وهذا يبطل عبادة غيره سبحانه وتعالى، ولذلك قال بعدها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وهذا يفيد الحصر، لأن تقديم المعمول - إياك - وتأخير العامل - نعبد - يدل على الحصر، فإياك نعبد يختلف عن نعبدك، لأن نعبد هذا إثبات فقط، لكن إياك نعبد يتضمن النفي والإثبات، أي لا نعبد غيرك، والعبادة لا تصح إلا مع النفي والإثبات، وهو معنى لا إله إلا الله، فيها نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله - عز وجل -
[5] أنت قلت: الله ربي، أو ربي الله الذي رباني بنعمه، ما هو الدليل على أن الله ربك الذي رباك بنعمه؟ جاء الشيخ بأدلة من الوحي ومن العقل كما سيأتي، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ لأن من ادعى شيئا فلا بد أن يقيم الدليل على دعواه:
والدعاوى إذا لم يقيموا ... عليها بينات أهلها أدعياء
لا بد لكل مدع أن يقيم الدليل على دعواه، وإلا كانت دعواه غير صحيحة، أنت قلت: ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، ما الدليل؟ فقل: الدليل آياته ومخلوقاته. الآيات: جمع آية، والآية لغة: العلامة على الشيء، والدلالة على الشيء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «آية المنافق ثلاث» " أي: علامته.
قوله: بآياته: أي العلامات والدلالات الدالة عليه سبحانه وتعالى. فجميع هذه الكائنات التي ترونها كلها كانت معدومة، ثم إن الله أوجدها وخلقها بقدرته سبحانه وتعالى.
ومنها خلق يتجدد مثل النبات والمواليد وأشياء ما كانت موجودة ثم وجدت، وأنتم تنظرون إليها، من الذي يخلقها؟ هو الله سبحانه وتعالى. هل تخلق نفسها، هل أحد من البشر خلقها؟ لا أحد ادعى هذا ولا يستطيع أن يدعي.
قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . هذه الأشياء ما أوجدت نفسها، أو أوجدها غيرها من المخلوقات، أبدا ما أحد خلق شجرة، ما أحد خلق بعوضة أو ذبابا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] .
فهذا الخلق يدل على الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا لما قيل لأعرابي على البديهة بم عرفت ربك؟ قال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ألا يدل هذا الكون على اللطيف الخبير.
إذا رأيت أثر قدم على الأرض أما يدلك هذا على أن أحدا مشى على هذه الأرض، إذا رأيت بعر بعير، ألا يدلك هذا على أن هذه الأرض فيها إبل، أو مر عليها بعير، البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير
[6] قوله: ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر: فالآيات على قسمين:
آيات كونية تشاهد مثل السماوات والأرض والنجوم والشمس والقمر والجبال والشجر والبحار، سميت آيات، لأن بها دلالات على خالقها سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الشاعر:
فيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد
فكيف يجحد أحد الله - جل وعلا - ويقول: ليس هناك رب، هذا الكون كله، وهذه المخلوقات وجدت من غير خالق، وإن وجدت بخالق فمن هو هذا الخالق غير الله - جل وعلا - بين لي؟ لا تجد خالقا غير الله سبحانه وتعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] .
القسم الثاني: الآيات القرآنية التي تتلى من الوحي المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه كلها أدلة على وجود الرب سبحانه وتعالى، وعلى كماله وصفاته وأسمائه، وعلى أنه مستحق للعبادة وحده لا شريك له، كلها تدل على ذلك، الآيات الكونية والآيات القرآنية.
الآيات الكونية تدل على خالقها وموجدها ومدبرها، والآيات القرآنية فيها الأمر بعبادة الله، وفيها تقرير توحيد الربوبية، والاستدلال به على توحيد الألوهية، والأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، كل القرآن يدور على هذا المعنى، وأنزل من أجل هذا المعنى.
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، هذه من أعظم آياته سبحانه وتعالى، الليل المظلم الذي يغطي هذا الكون، والنهار المضيء الذي يضيء هذا الكون، فينتشر الناس لأشغالهم، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] .
هذا من أعظم آيات الله، هذا الليل وهذا النهار، لا الوقت كله ليل، ولا الوقت كله نهار، لأنه لو كان كذلك تعطلت مصالح العباد وتعبوا.
جعل الله لهم الليل والنهار يتعاقبان، ثم إن الليل والنهار منتظمان لا يتخلف واحد منهما ولا يتغير، على نظام واحد، مما يدل على حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، أفعال العباد وصناعاتهم تخرب وتختلف مهما كانت وتتعطل، وأما مخلوقات الله - عز وجل - فإنها لا تخرب إلا في وقت يأذن الله فيه بخرابها.
فالليل والنهار مستمران، لم يتعطل أحد فيهما، بينما صناعة الخلق تتعطل وتخرب وتفنى، وإن كانت قوية أو ضخمة.
كم تشاهدون من السيارات المرمية والطائرات والبواخر، مع أنها قوية ومعتنى بها، لكنها تخرب وتتعطل، هل تعطلالليل أو تعطل النهار؟ لأن صانعه قدير حكيم - جل وعلا -: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .
تعليق