إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

" 40 آية و 40 حديثا في فضائل القرآن الكريم وأهله"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • " 40 آية و 40 حديثا في فضائل القرآن الكريم وأهله"

    بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة
    إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له و أ شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله.
    ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)( ([1]).
    ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ( ([2]).
    ) ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)( ([3]).
    أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ" ([4]). أما بعد :


    [1] - آل عمران.

    [2] - النساء.

    [3] - آل عمران.

    [4] - هذه خطبة الحاجه انظر تخريجها في تعليقي على أحاديث المنتقى للمجد بن تيمية رقم (2687).


    فقد جمعت في هذه الرسالة اللطيفة أربعين آية وأربعين حديثا في فضائل القرآن الكريم وفضائل أهله العاملين، وذم المتأكلين به والمتاجرين، والغالين فيه والجافين عنه، وقد قمت بجمع شرح مبسط لكل آية وحديث لتتم الفائدة في كتاب لطيف عسى أن يستفيد منه مطالعه وخاصة المعتنين بكتاب الله تعالى فيجعلوا من هذه الأدلة نموذجا يسيرون عليه في حياتهم العلمية والعملية، هذا ولم أجعل له ترتيبا معينا ولا عناوين، وعسى أن يكون ذلك في طبعة قادمة، وأسأل الله تعالى القبول لهذا العمل إنه على كل شئ قدير، وأملي من كل من وقف لي فيه على خطإ أو هفوة أن يدلني على ذلك مأجورا مشكورا والحمد لله رب العالمين.
    وهذا جدول بالرموز المستخدمة في الرسالة:

    الرمز معنــــــــــــــــــــــــــــاه الرمز معنــــــــــــــــــــــــــــاه
    خ البخاري حم أحمد
    م مسلم مي الدارمي
    د أبو داود ك الحاكم
    ت الترمذي هق البيهقي
    ن النسائي خد الأدب المفرد للبخاري
    جه ابن ماجة ص صحيح


    إعداد: أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد هامل الحسني
    1/ذو الحجة/1429هـ الموافق 29/ نوفمبر/2008م

    الآيـــــــــــــات
    الآية الأولـى
    قال الله تعالى:{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [الإسراء: 9].
    قال الشيخ السعدي رحمه الله : يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره. { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً } أعده الله لهم في دار كرامته { أَجْراً كَبِيراً } لا يعلم وصفه إلا هو. {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) } [الإسراء: 10] فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة وهو الإيمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك .

    الآية الثانية
    قال الله تعالى:{ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)} [المزمل: 4].
    قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ) وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ( أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطو ل منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدًا، ثم قرأ ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. . وقال ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية، ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقال لصاحب: القرآن: اقرأ وارْقَ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". ورواه أبو داود، والترمذي والنسائي .


    [1] - آل عمران.

    [2] - النساء.

    [3] - [الأحزاب].
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد بن سعيد الجابري اليافعي; الساعة 04-10-2013, 12:33 AM.

  • #2
    تابع

    الآية الثالثة
    قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (31)[الرعد].
    قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد r، ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله: ) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( أي: لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به، جاحدون له، ) بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ( أي: مرجع الأمور كلها إلى الله، عز وجل، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد الله فلا مضل له.
    وقال السعدي رحمه الله: يقول تعالى مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة: ) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا ( من الكتب الإلهية ) سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( عن أماكنها ) أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ ( جنانا وأنهارا ) أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ( لكان هذا القرآن. ) بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا ( فيأتي بالآيات التي تقتضيها حكمته، فما بال المكذبين يقترحون من الآيات ما يقترحون؟ فهل لهم أو لغيرهم من الأمر شيء؟.

    الآية الرابعة
    قال الله تعالى :{ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82)}[الإسراء].
    قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد r وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد -إنه: ) شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( أي: يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله. وهو أيضًا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة. وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا.
    وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: وقوله في هذه الآية ) مَا هُوَ شِفَآءٌ ( يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه . كالشك والنفاق وغير ذلك . وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليها به .كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفانحة ، وهو صحيحة مشهورة. وقرأ أبو عمرو ) وَنُنَزِّلُ ( بإسكان النون وتخفيف الزاي . والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. والعلم عند الله تعالى .
    وقال السعدي رحمه الله: فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين به، وأما الظالمون بعدم التصديق به أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة، فالشفاء الذي تضمنه القرآن عام لشفاء القلوب، من الشبه، والجهالة، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والقصود السيئة . فإنه مشتمل على العلم اليقيني، الذي تزول به كل شبهة وجهالة، والوعظ والتذكير، الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها. وأما الرحمة، فإن ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحث عليها، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل.

    الآية الخامسة
    قال الله تعالى :{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}[الفرقان].
    قال ابن كثير رحمه الله: ترك [علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك] الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء، أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب.
    وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: فيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.

    الآية السادسة
    قال الله تعالى :{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} [النساء].
    قال ابن سعدي رحمه الله: يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (29) [ص] وقال تعالى:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد].
    ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى:{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلا.

    تعليق


    • #3
      تابع

      الآية السابعة
      قوله تعالى:" قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) " [الأنعام: 19].
      قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أي أوحى الله إلي هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودا وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه وقرأ أبو نهيك ) وأوحي ( على البناء للفاعل وقرأ من عداة على البناء للمفعول قوله: ) أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ( الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم وإنما قال: ) آلهة أخرى ( لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كذا قال الفراء ومثله قوله تعالى: ) ولله الأسماء الحسنى ( وقال :) فما بال القرون الأولى ( ) قل لا أشهد ( أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه وذلك لكون هذه الشهادة باطلة ومثله ) فإن شهدوا فلا تشهد معهم ( وما في ) مما تشركون ( موصولة أو مصدرية: أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة أو من إشراككم بالله.

      الآية الثامنة
      قال الله تعالى : " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)" [الأعراف: 204].
      قال السعدي رحمه الله: هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
      وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
      ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها.

      الآية التاسعة
      قال الله تعالى :" وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)" [يونس: 37].
      قال ابن كثير رحمه الله: هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور، ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى: ) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ( أي: مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر، ) وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي: من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.
      وقوله: ) وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب:"فيه خَبَرُ ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم"، أي: خَبَر عما سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.

      الآية العاشرة
      قال الله تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)" [الحجر: 87].
      قال السعدي رحمه الله: يقول تعالى ممتنًّا على رسوله ) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ( وهن -على الصحيح- السور السبع الطوال:" البقرة" و" آل عمران" و" النساء" و" المائدة" و" الأنعام" و" الأعراف" و" الأنفال" مع" التوبة" أو أنها فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات، فيكون عطف" القرآن العظيم" على ذلك من باب عطف العام على الخاص، لكثرة ما في المثاني من التوحيد، وعلوم الغيب، والأحكام الجليلة، وتثنيتها فيها.
      وعلى القول بأن" الفاتحة" هي السبع المثاني معناها: أنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة، وإذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأعظم ما فرح به المؤمنون، ) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ( ولذلك قال بعده: ) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ( أي: لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون، واغترَّ بها الجاهلون، واستغن بما آتاك الله من المثاني والقرآن العظيم.

      تعليق


      • #4
        تابع

        الآية الحادية عشرة
        قال الله تعالى : " الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)" [الحجر].
        قال الإمام ابن كثير : قال الإمام البخاري (3945): قال ابن عناس: ]جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [ قال: هم أهل الكتاب، جَزَّؤوه أجزاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
        قال الإمام الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة، ونحو ذلك. وقيل: هو مأخوذ من عضته: إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا ذلك عوضاً عما لحقها من الحذف؛ وقيل: معنى ]عضين [ إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، ومما يؤيد، أن معنى عضين التفريق، قول رؤبة: وليس دين الله بالعضين ... أي: بالمفرق.

        الآية الثانية عشرة
        قال الله تعالى: " فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)" [النحل].
        قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير: فيه ثلاثة أقوال:
        أحدها: أن المعنى: فاذا أردتَ القراءة فاستعذ، ومثله ] إِذا قمتم إِلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ وقوله: ] وإِذا سألتموهُنَّ متاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ من وراء حجاب [ وقوله: ] إِذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقة [.
        ومثله في الكلام: إِذا أكلت فقل: باسم الله، هذا قول عامة العلماء واللغويين.
        والثاني: أنه على ظاهره، وأن الاستعاذة بعد القراءة...
        والثالث: أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فالمعنى: فاذا استعذت بالله فاقرأ، قاله أبو حاتم السجستاني، والأول أصح. والاستعاذة عند القراءة سُنَّةٌ في الصلاة وغيرها.

        الآية الثالثة عشرة
        قال الله تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)" [الإسراء].
        قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه صرف لعباده في هذا القرآن أي: نوع الأحكام ووضحها وأكثر من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه، ووعظ وذكر لأجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه وما يضرهم فيدعوه. ولكن أبى أكثر الناس إلا نفورا عن آيات الله لبغضهم للحق ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل حتى تعصبوا لباطلهم ولم يعيروا آيات الله لهم سمعا ولا ألقوا لها بالا. ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة التوحيد الذي هو أصل الأصول، فأمر به ونهى عن ضده وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئا كثيرا بحيث من أصغى إلى بعضها لا تدع في قلبه شكا ولا ريبا.
        الآية الرابعة عشرة
        قال تعالى: " وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)" [الإسراء].
        قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن نبيه r إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال" لا إله إلا الله" ولى الكافرون على أدبارهم نفوراً، بغضاً منهم لكمة التوحيد ، ومحبة للإشراك به جل وعلا. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، مبيناً أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار، كقوله: ) وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( وقوله:) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير (، وقوله: ) إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (، وقوله: ) كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ( الآية، وقوله: ) وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا (، وقوله:) وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (. وقوله في هذه الآية : ) نُفُوراً ( جمع نافر. فهو حال. أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك. والفاعل يجمع على فعلو كساجد وسجود، وراكع و ركوع. وقال بعض العلماء:" نفوراً" مصدر، وعليه فهم ما ناب عن المطلق من قوله: ) وَلَّوْاْ ( لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه.

        الآية الخامسة عشرة
        قال تعالى:" وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45)" [الإسراء].
        قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه وأعرضوا عنه أنه يحول بينهم وبين الإيمان فقال: ] وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [ الذي فيه الوعظ والتذكير والهدى والإيمان والخير والعلم الكثير. ] جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [ يسترهم عن فهمه حقيقة وعن التحقق بحقائقه والانقياد إلى ما يدعو إليه من الخير. ] وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [ أي: أغطية وأغشية لا يفقهون معها القرآن بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة، ] وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [ أي: صمما عن سماعه، ] وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآن [ داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به. ] وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [ من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل، كما قال تعالى: ] وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [.

        تعليق


        • #5
          تابع

          الآية السادسة عشرة
          قال تعالى:" قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)" [الإسراء].
          قال السعدي رحمه الله: وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.
          ووقع كما أخبر الله، فإن دواعي أعدائه المكذبين به، متوفرة على رد ما جاء به بأي: وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه. فعلم بذلك، أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا، وعجزوا عن معارضته. وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه، أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا، والأشجار كلها أقلام، لنفذ المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله. فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلا لله في أوصافه فكلامه من أوصافه، التي لا يماثله فيها أحد، فليس كمثله شيء، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله تبارك وتعالى.
          قال الآلوسي رحمه الله: أي اتفقوا ] على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان [ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي r مبعوثاً إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم ] لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [ أي هذا القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازاً عن أن يتوهم أن له مثلا معيناً وإيذاناً بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل : المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليسس بذاك ... ] وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله.

          الآية السابعة عشرة
          قال تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)" [الكهف].
          قال ابن كثير رحمه الله: ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى. ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
          وقال السعدي رحمه الله: يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صرف فيه من كل مثل، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينة، ونورا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل ] لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [ ولهذا قال: ] وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا [ أي: مجادلة ومنازعة فيه، مع أن ذلك، غير لائق بهم، ولا عدل منهم، والذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لقصور في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم.

          الآية الثامنة عشرة
          قال تعالى: " طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)" [طه].
          قال السعدي رحمه الله: ] طه [ من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثير من السور، وليست اسما للنبي r.
          ] مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [ ... الوحي والقرآن والشرع، شرعه الرحيم الرحمن، وجعله موصلا للسعادة والفلاح والفوز، وسهله غاية التسهيل، ويسر كل طرقه وأبوابه، وجعله غذاء للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان، فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان، لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة ] إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [ ... ما فيه من الترغيب إلى أجل المطالب، فيعمل بذلك، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران، فيرهب منه، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة، التي كان مستقرا في عقله حسنها مجملا فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله، ولهذا سماه الله ] تَذْكِرَةً [ والتذكرة لشيء كان موجودا، إلا أن صاحبه غافل عنه، أو غير مستحضر لتفصيله، وخص بالتذكرة ] مَن يَخْشَى [ لأن غيره لا ينتفع به، وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار، ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة؟ هذا ما لا يكون، ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم وأنه تنزيل خالق الأرض والسماوات المدبر لجميع المخلوقات ...وكثيرا ما يقرن بين الخلق والأمر كما في هذه الآية وكما في قوله ] أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ [ وفي قوله ] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ [ الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها ] اسْتَوَى [ استواء يليق بجلاله ويناسب عظمته وجماله فاستوى على العرش واحتوى على الملك.

          الآية التاسعة عشرة
          قال تعالى: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)" [النمل].
          قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان: إنه يقص على بني إسرائيل - وهم حملة التوراة والإنجيل -] أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [ ، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه، فاليهود افتروا، والنصارى غَلَوا، فجاء [إليهم] القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام، عليه [أفضل] الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ] ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [ وقوله: ] وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [ أي: هدى لقلوب المؤمنين، ورحمة لهم في العمليات. ثم قال: ] إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [ أي: يوم القيامة ، ] بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ [ في انتقامه ، ] الْعَلِيمُ [ بأفعال عباده وأقوالهم.

          الآية العشرون
          قال تعالى:" إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92) " [النمل].
          قال السعدي رحمه الله: أي: قل لهم يا محمد } إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ { أي: مكة المكرمة التي حرمها وأنعم على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول. } وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ { من العلويات والسفليات أتى به لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده. } وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ { أي: أبادر إلى الإسلام، وقد فعل r فإنه أول هذه الأمة إسلاما وأعظمها استسلاما. و ) أمرت( يضا } أن أَتْلُوَ { عليكم } الْقُرْآنُ { لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا الذي علي وقد أديته، } فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ { نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه } وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ { وليس بيدي من الهداية شيء.

          تعليق


          • #6
            تابع

            الآية الواحدة والعشرون
            قال تعالى:" وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)" [الروم].
            قال السعدي رحمه الله: أي: ] وَلَقَدْ ضَرَبْنَا [ لأجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا ] لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [ تتضح به الحقائق وتعرف به الأمور وتنقطع به الحجة. وهذا عام في الأمثال التي يضربها اللّه في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة. وفي الإخبار بما سيكون وجلاء حقيقته حتى كأنه وقع.
            ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه لا يقبل منهم عذر ولا عتاب.
            ولكن أبى الظالمون الكافرون إلا معاندة الحق الواضح ولهذا قال: ] وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [ أي: أي آية تدل على صحة ما جئت به ] لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ [ أي: قالوا للحق: إنه باطل. وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال: ]كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [ فلا يدخلها خير ولا تدرك الأشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطلا والباطل حقا.

            الآية الثانية العشرون
            قال تعالى: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2)" [الجن].
            قال السعدي رحمه الله: أي: ) قُلْ ( يا أيها الرسول للناس ] أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ صرفهم الله إلى رسوله لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة وتتم عليهم النعمةويكونوا نذرا لقومهم. وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس، وذلك أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا فهموا معانيه، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم، ] فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [ أي: من العجائب الغالية، والمطالب العالية.
            ] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [ والرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم، ] فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [ فجمعوا بين الإيمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، وبين التقوى، المتضمنة لترك الشر وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، وحجة قاطعة، لمن استنار به، واهتدى بهديه، وهذا الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، والمربى والإلف ونحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات والعوارض الكثيرة.

            الآية الثالثة العشرون
            قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)" [فصلت].
            قال السعدي رحمه الله: أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإياكم أن تلتفتوا، أو تصغوا إليه ولا إلى من جاء به، فإن اتفق أنكم سمعتموه، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه، فـ ] الْغَوْا فِيهِ [ أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا - مع قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه، هذا لسان حالهم، ولسان مقالهم، في الإعراض عن هذا القرآن، ] لَعَلَّكُمْ [ إن فعلتم ذلك ] تَغْلِبُونَ [ وهذه شهادة من الأعداء، وأوضح الحق، ما شهدت به الأعداء، فإنهم لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إلا في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك، ومفهوم كلامهم، أنهم إن لم يلغوا فيه، بل استمعوا إليه، وألقوا أذهانهم، أنهم لا يغلبون، فإن الحق، غالب غير مغلوب، يعرف هذا، أصحاب الحق وأعداؤه.

            الآية الرابعة العشرون
            قال تعالى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)" [البقرة].
            قال السعدي رحمه الله:) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( أي: الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر، هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام. فلما قرره، وبين فضيلته، وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال:) فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ( هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر. ولما كان النسخ للتخيير، بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر، لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات.) وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ( وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان، يحصل المقصود منه ببعضه، دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده، وبالتكبير عند انقضائه، ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.

            الآية الخامسة العشرون
            قال تعالى: " لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)" [الحشر].
            قال السعدي رحمه الله: لما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد.
            ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده في كتابه الحلال والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه.

            تعليق


            • #7
              تابع

              الآية السادسة والعشرون
              قال تعالى: " حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)" [الدخان].
              قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم: إنه أنزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر، كما قال تعالى: ) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( وكان ذلك في شهر رمضان، كما قال: تعالى: ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (.
              وقال السعدي رحمه الله: هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله ) فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ( أي: كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي ولهذا قال: ) إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا ( أي: في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن.

              الآية السابعة والعشرون

              قال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)" [القدر].
              قال السعدي رحمه الله: يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره:) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( كما قال تعالى: ) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ( وذلك أن الله [تعالى]، ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر، ورحم الله بها العباد رحمة عامة، لا يقدر العباد لها شكرًا. وسميت ليلة القدر، لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية. ثم فخم شأنها، وعظم مقدارها فقال: ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم. ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر [خالية منها]، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث من تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلا نيفًا وثمانين سنة. ) تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [ أي: يكثر نزولهم فيها ) مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ ( أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، ) حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( أي: مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر. وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة. ولهذا كان النبي r، يعتكف، ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر الله أعلم.

              الآية الثامنة والعشرون
              قال تعالى: " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)" [ص].
              قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجب أن يعلم أن النبي r بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: )لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ( يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآنـ كعثمان بن عفان، وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي r عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثماني سنين، ذكره مالك. وذلك أن اللّه تعالى قال:) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ (، وقال: ) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (، وقال: ) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ (، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. وأيضًا، فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم ـ كالطب والحساب ـ ولا يستشرحوه، فكيف بكلام اللّه الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟ ([1]).

              الآية التاسعة والعشرون
              قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)" [الفرقان].
              قال السعدي رحمه الله: هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا:) لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ( أي: كما أنزلت الكتب قبله، وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن، ولهذا قال:) كَذَلِكَ ( أنزلناه متفرقا ) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه.
              ) وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ( أي: مهلناه ودرجناك فيه تدريجا. وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن وبرسوله محمد r حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه الدينية.

              الآية الثلاثون
              قال تعالى: " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) "[الأحقاف].
              قال السعدي رحمه الله: كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا r إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
              فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه ) نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ( أي: وصى بعضهم بعضا بذلك، ) فَلَمَّا قُضِي [ وقد وعوه وأثر ذلك فيهم ) وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله r في نشر دعوته في الجن. ) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ( لأن كتاب موسى أصل للإنجيل وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.
              ) مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي ( هذا الكتاب الذي سمعناه ) إِلَى الْحَقِّ ( وهو الصواب في كل مطلوب وخبر ) وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( موصل إلى الله وإلى جنته من العلم بالله وبأحكامه الدينية وأحكام الجزاء.


              [1] - مجموع الفتاوى (13/332).

              تعليق


              • #8
                تابع

                الآية الواحدة والثلاثون
                قال تعالى: " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) " [القمر].
                قال ابن كثير رحمه الله: أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال: ) كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ( وقال تعالى:) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (. قال مجاهد:) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ( يعني: هَوّنّا قراءته. وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن. وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله U.
                وقال السعدي رحمه الله: أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله:) فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (.

                الآية الثانية والثلاثون
                قال تعالى:" وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)" [الأنبياء].
                قال السعدي رحمه الله: ) وَهَذَا ( أي: القرآن ) ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ ( فوصفه بوصفين جليلين، كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب، من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم، ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها، ومن أحكام الجزاء والجنة والنار، فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية، وسماه ذكرا، لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر، من التصديق بالأخبار الصادقة، والأمر بالحسن عقلا والنهي عن القبيح عقلا وكونه ) مباركا ( يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن، فإن كل خير ونعمة، وزيادة دينية أو دنيوية، أو أخروية، فإنها بسببه، وأثر عن العمل به، فإذا كان ذكرا مباركا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد، والتسليم، وشكر الله على هذه المنحة الجليلة، والقيام بها، واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه، وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه، والإضراب عنه، صفحا وإنكاره، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم، ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال: ) أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (.

                الآية الثالثة والثلاثون
                قال تعالى: " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)" [يس].
                قال السعدي رحمه الله: ينزه تعالى نبيه محمدا r، عما رماه به المشركون، من أنه شاعر، وأن الذي جاء به شعر فقال: ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ( أن يكون شاعرا، أي: هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا، لأنه رشيد مهتد، والشعراء غاوون، يتبعهم الغاوون، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له، ) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( أي: ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب، جميع المطالب الدينية، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال، وهو يذكر العقول، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح. ) وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ( أي: مبين لما يطلب بيانه. ولهذا حذف المعمول، ليدل على أنه مبين لجميع الحق، بأدلته التفصيلية والإجمالية، والباطل وأدلة بطلانه، أنزله اللّه كذلك على رسوله. ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ( أي: حي القلب واعيه، فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل، ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية. ) وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( لأنهم قامت عليهم به حجة اللّه، وانقطع احتجاجهم، فلم يبق لهم أدنى عذر وشبهة يُدْلُونَ بها.

                الآية الرابعة والثلاثون
                قال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)" [الزمر].
                قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه ) أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام اللّه، وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه، أجل المعاني، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع. وأما في قوله تعالى: ) هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( فالمراد بها، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم، ولهذا قال:) مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( فجعل التشابه لبعضه، وهنا جعله كله متشابها، أي: في حسنه، لأنه قال: ) أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( وهو سور وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا. ) مَثَانِيَ ( أي: تثنى فيه القصص والأحكام، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر، وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته، وهذا من جلالته، وحسنه، فإنه تعالى، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب، بمنزلة الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام اللّه تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعا، ولم تحصل النتيجة منه، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم، اقتداء بما هو تفسير له، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع، بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى، غير مراع لما مضى مما يشبهه، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن، المتدبر لمعانيه، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير، ونفع غزير. ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين، فلهذا قال تعالى: ) تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( لما فيه من التخويف والترهيب المزعج، ) ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( أي: عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر.

                الآية الخامسة والثلاثون
                قال تعالى: " وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)" [الأنعام].
                قال ابن كثير رحمه الله: أي: كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، ) وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( أي: يقومون بما افترض عليهم، من أداء الصلوات في أوقاتها.
                وقال السعدي رحمه الله: أي: ) وَهَذَا ( القرآن الذي ) أَنزلْنَاهُ ( إليك ) مُبَارَكٌ ( أي: وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. ) مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق. ) وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( أي: وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. ) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله. ) وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( أي: يداومون عليها، ويحفظون أركانها وحدودها وشروطها وآدابها، ومكملاتها. جعلنا الله منهم.

                تعليق


                • #9
                  تابع

                  الآية السادسة والثلاثون
                  قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)" [سبأ].
                  قال ابن الجوزي رحمه الله: وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه يعنون التوراة والإنجيل وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا إن صفة محمد في كتابنا فكفر أهل مكة بكتابهم.
                  ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال ولو ترى إذ الظالمون يعني مشركي مكة موقوفون عند ربهم في الآخرة يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم على بعض في الجدال واللوم يقول الذين استضعفوا وهم الأتباع للذين استكبروا وهم الأشراف والقادة لولا أنتم لكنا مؤمنين أي مصدقين بتوحيد الله والمعنى أنتم منعتمونا عن الإيمان فأجابهم المتبوعون فقالوا أنحن صددناكم عن الهدى أي منعناكم عن الإيمان بعد إذ جاءكم به الرسول بل كنتم مجرمين بترك الإيمان وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سببا للعداوة في الآخرة فرد عليهم الأتباع فقالوا بل مكر الليل والنهار أي بل مكركم بنا في الليل والنهار.
                  وقال البقاعي في نظم الدرر:) لن نؤمن بهذا القرآن ( أي وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المضمنة لبقية الكتب ) ولا بالذي بين يديه ( أي قبله من الكتب التوراة والإنجيل وغيرهما . بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم، فأغضبهم ذلك فقالوه.

                  الآية السابعة والثلاثون
                  قال تعالى: " لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)" [الأنبياء].
                  قال السعدي رحمه الله: لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - كتابا جليلا وقرآنا مبينا ) فِيهِ ذِكْرُكُمْ ( أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، ) أَفَلا تَعْقِلُونَ ( ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق، التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.
                  وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب.
                  قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)" [البقرة].
                  قال السعدي رحمه الله: هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي، ونبذ أمر الله، فأولئك: ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ ( لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، ) وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، ) وَلا يُزَكِّيهِمْ ( أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار، فكيف يصبرون عليها، وأنى لهم الجلد عليها؟.

                  الآية الثامنة والثلاثون
                  قال تعالى:" الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)" [يوسف].
                  قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أن آيات القرآن هي ) آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( أي: البين الواضحة ألفاظه ومعانيه. ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، [المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة] وكل هذا الإيضاح والتبيين ) لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( أي: لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه. فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه، و ) لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( أي: تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية، على أذهانكم،. فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.
                  وقال البغوي رحمه الله:) آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( أي: البيِّن حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه. قال قتادة: مبين -والله-بركتُه وهداه ورشدُه، فهذا مِنْ بان أي: ظهر.
                  وقال الزجاج: مبيّن الحق من الباطل والحلال من الحرام، فهذا من أبان بمعنى أظهر.
                  ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ( يعني: الكتاب، ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه.

                  الآية التاسعة والثلاثون
                  قال تعالى: " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) " [هود].
                  قال ابن كثير: قوله:] كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ [ أي: بُينت معانيه وأحكمت أحكامه، ] قُرْآنًا عَرَبِيًّا [ أي: في حال كونه لفظا عربيا، بينا واضحا، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، كقوله:] كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ أي: هو معجز من حيث لفظه ومعناه، ] لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [.
                  قال السعدي رحمه الله: يقول تعالى: هذا ] كِتَابٌ [ عظيم، ونزل كريم، ] أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [ أي: أتقنت وأحسنت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه.
                  ] ثُمَّ فُصِّلَتْ[ أي: ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان، ] مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ [ يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته، ] خَبِيرٍ [ مطلع على الظواهر والبواطن. فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير، فلا تسأل بعد هذا، عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة، وسعة الرحمة .

                  الآية الأربعون
                  قال تعالى: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (121)" [البقرة].
                  قال الشنقيطي رحمه الله: وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن، وهو قوله تعالى: )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ(. وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من الله حق، وهو قوله: )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ( الآية .
                  قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب، ومنَّ عليهم به منة مطلقة، أنهم ) يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ( أي: يتبعونه حق اتباعه، والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب، الذين عرفوا نعمة الله وشكروها، وآمنوا بكل الرسل، ولم يفرقوا بين أحد منهم.
                  فهؤلاء، هم المؤمنون حقا، لا من قال منهم: ) نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه (.
                  ولهذا توعدهم بقوله ) وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (.

                  تعليق


                  • #10
                    ونبدأ في الأحاديث

                    الأحاديث
                    الحديث الأول
                    عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" ([1]).
                    قال في فيض القدير (2/383): أي بالإيمان بالقرآن وتعظيم شأنه والعمل مقتضاه مخلصا (أقواما) أي درجة أقواما ويشرفهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة"يضع" أي ويحقر ويخفض ويذل"به آخرين" وهم من لم يؤمن به أو آمن ولم يعمل به مخلصا وآخرين بفتح الخاء اسم على أفعل والأنثى أخرى أي يخفض ويذل به قوما آخرين وهم من أعرض عنه ولم يأتمر به أو قرأه أو عمل به مرائيا فيضعه أسفل السافلين لقوله تعالى:) وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (.

                    الحديث الثاني
                    عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ([2]).
                    قال ابن حجر في الفتح: الْقُرْآن أَشْرَف الْعُلُوم فَيَكُون مَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ لِغَيْرِهِ أَشْرَف مِمَّنْ تَعَلَّمَ غَيْر الْقُرْآن وَإِنْ عَلَّمَهُ فَيَثْبُت الْمُدَّعَى. وَلا شَكّ أَنَّ الْجَامِع بَيْن تَعَلُّم الْقُرْآن وَتَعْلِيمه مُكَمِّل لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ جَامِع بَيْن النَّفْع الْقَاصِر وَالنَّفْع الْمُتَعَدِّي وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَل، وَهُوَ مِنْ جُمْلَة مَنْ عَنَى سُبْحَانه وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ : } وَمَنْ أَحْسَن قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ { وَالدُّعَاء إِلَى اللَّه يَقَع بِأُمُورٍ شَتَّى مِنْ جُمْلَتهَا تَعْلِيم الْقُرْآن وَهُوَ أَشْرَف الْجَمِيع، وَعَكْسه الْكَافِر الْمَانِع لِغَيْرِهِ مِنْ الإِسْلام كَمَا قَالَ تَعَالَى: } فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا { فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَم عَلَى هَذَا أَنْ يَكُون الْمُقْرِئ أَفْضَل مِنْ الْفَقِيه قُلْنَا: لا، لأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا فُقَهَاء النُّفُوس لأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْل اللِّسَان فَكَانُوا يَدْرُونَ مَعَانِي الْقُرْآن بِالسَّلِيقَةِ أَكْثَر مِمَّا يَدْرِيهَا مَنْ بَعْدهمْ بِالاكْتِسَابِ، فَكَانَ الْفِقْه لَهُمْ سَجِيَّة، فَمَنْ كَانَ فِي مِثْل شَأْنهمْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ، لا مَنْ كَانَ قَارِئًا أَوْ مُقْرِئًا مَحْضًا لا يَفْهَم شَيْئًا مِنْ مَعَانِي مَا يَقْرَؤُهُ أَوْ يُقْرِئهُ. فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَم أَنْ يَكُون الْمُقْرِئ أَفْضَل مِمَّنْ هُوَ أَعْظَم غِنَاء فِي الإِسْلام بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّبَاط وَالأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَثَلا، قُلْنَا حَرْف الْمَسْأَلَة يَدُور عَلَى النَّفْع الْمُتَعَدِّي فَمَنْ كَانَ حُصُوله عِنْده أَكْثَر كَانَ أَفْضَل، فَلَعَلَّ" مِنْ" مُضْمَرَة فِي الْخَبَر، وَلا بُدّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مُرَاعَاة الإِخْلاص فِي كُلّ صِنْفٍ مِنْهُمْ. وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْخَيْرِيَّة وَإِنْ أُطْلِقَتْ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَة بِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ كَانَ اللائِق بِحَالِهِمْ ذَلِكَ، أَوْ الْمُرَاد خَيْر الْمُتَعَلِّمِينَ مَنْ يُعَلِّم غَيْره لا مَنْ يَقْتَصِر عَلَى نَفْسه، أَوْ الْمُرَاد مُرَاعَاة الْحَيْثِيَّة لأَنَّ الْقُرْآن خَيْر الْكَلام فَمُتَعَلِّمه خَيْر مِنْ مُتَعَلِّم غَيْره بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَيْرِيَّة الْقُرْآن، وَكَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ مَخْصُوص بِمَنْ عَلَّمَ وَتَعَلَّمَ بِحَيْثُ يَكُون قَدْ عَلِمَ مَا يَجِب عَلَيْهِ عَيْنًا.

                    الحديث الثالث
                    عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ" ([3]).
                    قال المناوي في فيض القدير (5/655): - الأترجة- أفضل ما وجد من الثمار في سائر البلدان، وخص الإيمان بالطعم وصفة الحلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن لإمكان حصول الإيمان بدون القراءة والطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريحه ويبقى طعمه وخص الأترجة بالمثل لأنه يداوي بقشرها ويستخرج من جلدها دهن ومنافع .." ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها" من حيث أنه مؤمن غير تال في الحال الذي لا يكون فيه تاليا وإن كان ممن حفظ القرآن ذكره ابن عربي" وطعمها حلو" وفي رواية طيب أي من حيث إنه مؤمن ذو إيمان" ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب" لأن القرآن طيب وليس إلا أنفاس التالي والقارئ وقت قراءته" وطعمها مر" لأن النفاق كفر الباطن والحلاوة إنما هي للإيمان فشبهه بالريحانة لكونه لم ينتفع ببركة القرآن ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق ولا اتصل بالقلب" ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة" وهي معروف تسمى في بعض البلاد بطيخ أبي جهل" ليس لها ريح وطعمها مر" لأنه غير قارئ في الحال .

                    الحديث الرابع
                    عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ" ([4]).
                    قال النووي: السَّفَرَة جَمِيع سَافِر كَكَاتِبٍ وَكَتَبَة ، وَالسَّافِر: الرَّسُول، وَالسَّفَرَة: الرُّسُل، لأَنَّهُمْ يُسْفِرُونَ إِلَى النَّاس بِرِسَالَاتِ اللَّه، وَقِيلَ: السَّفَرَة: الْكَتَبَة، وَالْبَرَرَة: الْمُطِيعُونَ، مِنْ الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة، وَالْمَاهِر: الْحَاذِق الْكَامِل الْحِفْظ الَّذِي لا يَتَوَقَّف وَلا يَشُقّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَة بِجَوْدَةِ حِفْظه وَإِتْقَانه، قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَى كَوْنه مَعَ الْمَلائِكَة أَنَّ لَهُ فِي الآخِرَة مَنَازِل يَكُون فِيهَا رَفِيقًا لِلْمَلائِكَةِ السَّفَرَة، لاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْل كِتَاب اللَّه تَعَالَى. قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد أَنَّهُ عَامِل بِعَمَلِهِمْ وَسَالِك مَسْلَكهمْ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَتَعْتَع فِيهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّد فِي تِلاوَته لِضَعْفِ حِفْظه فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْر بِالْقِرَاءَةِ، وَأَجْر بِتَتَعْتُعِهِ فِي تِلاوَته وَمَشَقَّته. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الَّذِي يَتَتَعْتَع عَلَيْهِ لَهُ مِنْ الأَجْر أَكْثَر مِنْ الْمَاهِر بِهِ، بَلْ الْمَاهِر أَفْضَل وَأَكْثَر أَجْرًا؛ لأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَة وَلَهُ أُجُور كَثِيرَة، وَلَمْ يَذْكُر هَذِهِ الْمَنْزِلَة لِغَيْرِهِ، وَكَيْف يَلْحَق بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَحِفْظه وَإِتْقَانه وَكَثْرَة تِلاوَته وَرِوَايَته كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

                    الحديث الخامس
                    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" ([5]).
                    قال النووي في شرح مسلم : قِيلَ الْمُرَاد بِحَبْلِ اللَّه عَهْدُهُ ، وَقِيلَ : السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ ، وَقِيلَ : هُوَ نُورُهُ الَّذِي يَهْدِي بِهِ .
                    وقال المناوي في فيض القدير: أي هو الوصلة التي يوثق عليها فيستمسك بها من أراد الرقي والعروج إلى معارج القدس وجوار الحق كأنه قيل ما السبب الموصل إلى الله الذي في السماء سلطانه فقال: هو التمسك بالقرآن والسبب في أصل اللغة هو الحبل.


                    [1] - رواه مسلم (1353) وابن ماجة (214) وأحمد (1/230).

                    [2] - رواه البخاري (5027) وأبو داود (1452) والترمذي (2907 و 2908) وابن ماجة (211 و 212) صحيح أبي داود (1306) الصحيحة (1173).

                    [3] - رواه البخاري (5059).

                    [4] - رواه البخاري (4937) ومسلم (798) وأبو داود (1454) والترمذي (2904) وابن ماجة (3779) وأحمد (6/48) والدارمي (3363) والبيهقي (2/395) صحيح أبي داود (1307).

                    [5] - رواه الترمذي (3790) و أحمد (3/14،17،26،59) الألباني في الصحيحة (2024).

                    تعليق


                    • #11
                      تابع

                      الحديث السادس
                      عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" ([1]).
                      قال المباركفوري في شرح الترمذي: قَوْلُهُ:" مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - أَيْ الْقُرْآنِ - َالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا" أَيْ مُضَاعَفَةٌ بِالْعَشْرِ، وَهُوَ أَقَلُّ التَّضَاعُفِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا{ } وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ { وَالْحَرْفُ يُطْلَقُ عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَالْمَعَانِي وَالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَالْكَلِمَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَعَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ. وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لا أَقُولُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ".

                      الحديث السابع
                      عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" ([2]).
                      وفي رواية لغيره:" ما وجدنا فيه حراما حرمناه ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه" ([3]).
                      قال الشيخ الألباني رحمه الله"منزلة السنة في الإسلام" ص14: إن من المؤسف أن بعض الكتاب الأفاضل ألف كتابا في شريعة الإسلام وعقيدته وذكر في مقدمته أنه ألفه وليس لديه من المراجع إلا القرآن. فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة قاطعة على أن الشريعة الإسلامية ليست قرآنا فقط وإنما قرآن وسنة فمن تمسك بأحدهما دون الآخر لم يتمسك بأحدهما لأن كل واحد منهما يأمر بالتمسك بالآخر كما قال تعالى: ) من يطع الرسول فقد أطاع الله ( وقال:) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( وقال: ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ( وقال: ) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (.

                      الحديث الثامن
                      عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :" لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" ([4]).
                      قال الحافظ ابن حجر: قَالَ اِبْن الْمُنِير: الْمُرَاد بِالْحَسَدِ هُنَا الْغِبْطَة، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالنَّفْيِ حَقِيقَته وَإِلا لَزِمَ الْخُلْف، لأَنَّ النَّاس حَسَدُوا فِي غَيْر هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَغَبَطُوا مَنْ فِيهِ سِوَاهُمَا فَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الْحُكْم وَمَعْنَاهُ حَصْر الْمَرْتَبَة الْعُلْيَا مِنْ الْغِبْطَة فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ هُمَا آكَد الْقُرُبَات الَّتِي يُغْبَط بِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْي أَصْل الْغِبْطَة مِمَّا سِوَاهُمَا فَيَكُون مِنْ مَجَاز التَّخْصِيص، أَيْ لا غِبْطَة كَامِلَة التَّأْكِيد لِتَأْكِيدِ أَجْر مُتَعَلَّقهَا إِلا الْغِبْطَة بِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْخَصْلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ هُنَا غِبْطَة لا حَسَد؛ لَكِنْ قَدْ يُطْلَق أَحَدهمَا عَلَى الآخَر، أَوْ الْمَعْنَى لا حَسَد إِلا فِيهِمَا، وَمَا فِيهِمَا لَيْسَ بِحَسَدٍ فَلا حَسَد فَهُوَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى:} لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْت إِلا الْمَوْتَة الأُولَى { وَفِي الْحَدِيث التَّرْغِيب فِي وِلَايَة الْقَضَاء لِمَنْ اِسْتَجْمَعَ شُرُوطه وَقَوِيَ عَلَى أَعْمَال الْحَقّ وَوَجَدَ لَهُ أَعْوَانًا لِمَا فِيهِ مِنْ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَنَصْر الْمَظْلُوم وَأَدَاء الْحَقّ لِمُسْتَحِقِّهِ وَكَفّ يَد الظَّالِم وَالإِصْلاح بَيْن النَّاس وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَات، وَلِذَلِكَ تَوَلاهُ الأَنْبِيَاء وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ ثَمَّ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَة، لأَنَّ أَمْر النَّاس لا يَسْتَقِيم بِدُونِهِ.

                      الحديث التاسع
                      عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن جبريل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا" ([5]).
                      قال النووي: مَعْنَاهُ: لا يَتَجَاوَز أُمَّتك سَبْعَة أَحْرُف وَلَهُمْ الْخِيَار فِي السَّبْعَة وَيَجِب عَلَيْهِمْ نَقْل السَّبْعَة إِلَى مَنْ بَعْدهمْ بِالتَّخَيُّرِ فِيهَا وَإِنَّهَا لا تُتَجَاوَز. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
                      وقال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث وما شاكله: وَهَذِهِ الأَحَادِيث تُقَوِّي أَنَّ الْمُرَاد بِالأَحْرُفِ اللُّغَات أَوْ الْقِرَاءَات، أَيْ أُنْزِلَ الْقُرْآن عَلَى سَبْع لُغَات أَوْ قِرَاءَات، وَالأَحْرُف جَمْع حَرْف مِثْل فَلْس وَأَفْلُس، فَعَلَى الأَوَّل يَكُون الْمَعْنَى عَلَى سَبْعَة أَوْجُه مِنْ اللُّغَات لأَنَّ أَحَد مَعَانِي الْحَرْف فِي اللُّغَة الْوَجْه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ] وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ وَعَلَى الثَّانِي يَكُون الْمُرَاد مِنْ إِطْلاق الْحَرْف عَلَى الْكَلِمَة مَجَازًا لِكَوْنِهِ بَعْضهَا.

                      الحديث العاشر
                      عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول:" أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟" فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال:" أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم ([6]).
                      قال في المنتقى شرح الموطأ : أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا أَلْهَجَ النَّاسِ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الرُّكْبَانِ وَتَدَارُسِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَوْا مِنْ تَفْضِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَتَقْدِيمِهِ فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ وَدُعَائِهِ أَصْحَابَهُ فِي مَوَاطِنِ الشَّدَائِدِ أَيْنَ أَصْحَابُ الْبَقَرَةِ بِأَفْضَلِ مَا يُدْعَوْنَ بِهِ.
                      قال صاحب التحرير والتنوير (12/499): وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة.


                      [1] - رواه الترمذي (2910) الصحيحة (3327).

                      [2] - رواه أبو داود (4605) الترمذي (2663) وابن ماجة (13) والحاكم (368) البيهقي (7/76) هداية الرواة (161).

                      [3] - رواه ابن ماجة (12) وأحمد (4/130) عن المقدام بن معد يكرب هداية الرواة (162).

                      [4] - رواه البخاري (73) ومسلم (816) وابن ماجة (4208) وأحمد (1/432) والبيهقي (10/88).

                      [5] - رواه مسلم (821) والنسائي (939) وأحمد (5/127).

                      [6] - أخرجه البخاري (1343) وأبو داود (3138) والترمذي (1036) والنسائي (1955) وابن ماجة (1514) والبيهقي (4/10) أحكام الجنائز ص184، الإرواء (707).

                      تعليق


                      • #12
                        تابع

                        الحديث الحادي عشر
                        عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" ... واقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ" قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ:" فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ" قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ :" فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ" قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ:" فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ" ([1]).
                        قال الحافظ ابن حجر: قال النووي: وَالاخْتِيَار أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِف بِالأَشْخَاصِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْفَهْم وَتَدْقِيق الْفِكْر اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْتَصِر عَلَى الْقَدْر الَّذِي لا يَخْتَلّ بِهِ الْمَقْصُود مِنْ التَّدَبُّر وَاسْتِخْرَاج الْمَعَانِي، وَكَذَا مَنْ كَانَ لَهُ شُغْل بِالْعِلْمِ أَوْ غَيْره مِنْ مُهِمَّات الدِّين وَمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّة يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَقْتَصِر مِنْهُ عَلَى الْقَدْر الَّذِي لا يُخِلّ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالأَوْلَى لَهُ الاسْتِكْثَار مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْر خُرُوج إِلَى الْمَلَل وَلا يَقْرَؤُهُ هَذْرَمَة. وَاللَّهُ أَعْلَم .

                        الحديث الثاني عشر
                        عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" تعلموا القرآن، و سلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم ، يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، و رجل يستأكل به، و رجل يقرأه لله" ([2]).
                        سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن؟
                        فأجاب بقوله: قراءة القرآن بالأجرة حرام،لأن قراءة القرآن عمل صالح ، والعمل الصالح لا يجوز أن يتخذ وسيلة للدنيا، فإن اتخذ وسيلة لها بطل ثوابه لقوله تعالى: ] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فقاريء القرآن لأخذ الأجرة ليس له ثواب عند الله ([3]).

                        الحديث الثالث عشر
                        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" ([4]).
                        قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في فتح الباري له: والمراد: أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به و يلتذ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر. وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود- أيضاً. وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى، فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة؛ فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم"زنا العينين النظر، وزنا الأذن الاستماع". ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به.

                        الحديث الرابع عشر
                        عن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّؤْيَا قَالَ:" ... أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ" ([5]).
                        قال ابن بطال رحمه الله في شرح صحيح البخاري: قال المهلب: وقوله في حديث سمرة:" يأخذ القرآن فيرفضه"، يعنى يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، لكنه قد أتى في الحديث أنه يحشر يوم القيامة أجذم أي مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة في موضع المعصية.
                        وقوله:" ينام عن الصلاة المكتوبة"، يعنى لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها، لأنها هي التي تبطل بالنوم، وهى التي أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة، وسائرُ الصلوات إذ ضُيعت فحملها محملها، لكن لهذه الفضل.

                        الحديث الخامس عشر
                        عن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِد"ِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ" ([6]).
                        قال ابن بطال رحمه الله في شرح صحيح البخاري: سميت سبعا لأنها سبع آيات باعتبار عد البسملة آية وهو المتصور والمثاني لتكررها في الصلاة أو الإنزال أو لأن غيرها يضم إليها أو لتكرر مضمونها في السور أو مقاصدها جمع مثنى أو مثناة من التثنية بمعنى التكرار فتكرر على مرور الأوقات فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس وقيل جمع مثنى بمعنى الثناء كالمحمدة بمعنى الحمد لاشتمالها على الثناء فهي تثني على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أو لأنها أبدا تدعو بوصفها المعجز إلى غرابة النظم وغزارة المعنى إلى الثناء عليها ثم على من يتعلمها ويعمل بها ولا اختلاف بين قوله في الحديث: السبع المثاني وقوله في القرآن: سبعا من المثاني لأنه من للبيان ذكره التوربشتي (والقرآن العظيم) عطف على السبع عطف صفة الشئ على صفة أخرى له فليس هو من عطف الشئ على نفسه أو عطف على أم القرآن وإفراد الفاتحة بالذكر في الآية مع كونها جزءا من القرآن يدل على مزيد اختصاصها بالفضيلة.


                        [1] - رواه البخاري (5054) ومسلم (1159) وأحمد (2/200).
                        [2] - رواه ابن نصر في " قيام الليل" ص 74، الصحيحة (258).
                        [3] - مجموع فتاواه ورسائله (12/137).
                        [4] - رواه البخاري (7527) والبيهقي (10/229).
                        [5] - رواه البخاري (1143) وأحمد (5/8).
                        [6] - رواه البخاري (4703) وأبو داود (1458) والنسائي (913) وابن ماجة (3785) وأحمد (4/211) والبيهقي (2/268) صحيح أبي داود (1311).

                        تعليق

                        يعمل...
                        X