سئل عن : وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن
سئل شيخ الإسلام عن قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل : ( وما ترددت عن
شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ) ما معنى تردد
الله؟
فأجاب :
هذا حديث شريف ، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وهو أشرف حديث روي في صفة
الأولياء ، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا : إن الله لا يوصف بالتردد ، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب
الأمور ، والله أعلم بالعواقب . وربما قال بعضهم : إن الله يعامل معاملة المتردد .
والتحقيق أن كلام رسوله حق ، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ، ولا أنصح للأمة منه ، ولا أفصح
ولا أحسن بيانًا منه ، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ؛ وأجهلهم وأسوئهم
أدبًا ، بل يجب تأديبه وتعزيره ، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون
الباطلة ؛ والاعتقادات الفاسدة ، ولكن المتردد منا ، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم
عاقبة الأمور ، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا . فإن الله ليس كمثله
شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ثم هذا باطل ؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم
بالعواقب ، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد ، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ،
ويكرهه لما فيه من المفسدة ، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه ، كما
قيل : الشيب كره وكره أن أفارقه فأعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه ، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها
النفس هو من هذا الباب ، وفي الصحيح : ( حفت النار بالشهوات ، وحفت الجنة بالمكاره ) وقال
تعالى : { كُتِبَ عليكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } الآية [ البقرة : 216 ]
ومن هذا الباب ، يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث ، فإنه قال : ( لا يزال عبدي يتقرب إلى
بالنوافل حتى أحبه ) فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق ، محبًا له ، يتقرب إليه أولًا
بالفرائض ، وهو يحبها ، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها ، فأتي بكل ما يقدر عليه من
محبوب الحق ، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين ، بقصد اتفاق الإرادة ، بحيث يحب ما يحبه
محبوبه ، ويكره ما يكرهه محبوبه ، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه ، فلزم من هذا أن يكره
الموت ليزداد من محاب محبوبه .
والله سبحانه وتعالى قد قضي بالموت ، فكل ما قضي به فهو يريده ولابد منه ، فالرب مريد لموته لما
سبق به قضاؤه ، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده ؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت ، فصار
الموت مرادًا للحق من وجه ، مكروهًا له من وجه ، وهذا حقيقة التردد وهو : أن يكون الشيء
الواحد مرادًا من وجه ، مكروهًا من وجه ، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين ، كما ترجح إرادة
الموت ، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده ، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته ،
كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته .
ثم قال بعد كلام سبق ذكره : ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان ، فإن
الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه ، ويكرهه وينهي عنه ، وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته
الكونية ، وإن لم يرده بإرادة دينية ، وهذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس ، من أنه سبحانه
هل يأمر بما لا يريده؟
فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات ، ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده ، وقالت القدرية
والمعتزلة وغيرهم : إنه لا يأمر إلا بما يريده .
والتحقيق أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية ، فالأول كقوله
تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقوله تعالى : { يُرِيدُ
اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ المائدة : 6 ] ، وقوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عليكم }
[ النساء : 26 : 27 ] ، فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا وهي الإرادة الدينية . وإليه
الإشارة بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } [ الأنعام : 125 ] ، ومثل قول
المسلمين : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والإشاءة لا
يخرج عنها خير ولا شر ، ولا عرف ولا نكر ، وهذه الإرادة والإشاءة تتناول ما لا يتناوله الأمر
الشرعي ، وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لايختلفان ، وهذا التقسيم الوارد في اسم
الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات ، والحكم والقضاء ، والكتاب والبعث ، والإرسال ونحوه ؛
فإن هذا كله ينقسم إلى : كوني قدري ، وإلى ديني شرعي .
والكلمات الكونية هي : التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر ، وهي التي استعان بها النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله : ( أعوذ بكلمات الله التامات ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ) قال الله تعالى : {
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
وأما الدينية فهي : الكتب المنزلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قاتل لتكون كلمة
الله هي العليا فهو في سبيل الله ) وقال تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [ التحريم : 12
] .
وكذلك الأمر الديني ، كقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }
[ النساء : 58 ] ، والكونية : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا } [ يس : 82 ] .
والبعث الديني ، كقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ،
والبعث الكوني : { بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا } [ الإسراء : 5 ] .
والإرسال الديني ، كقوله : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ الفتح : 28 ] ،
والكوني : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] .
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية ،
داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وهو -سبحانه- مع ذلك لم يردها إرادة دينية ، ولا
هي موافقة لكلماته الدينية ، ولا يرضي لعباده الكفر ، ولا يأمر بالفحشاء ، فصارت له من وجه
مكروهة . ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن ، فإن ذلك يكرهه ؛ والكراهة مساءة المؤمن ، وهو
يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه ، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به ، فإنه قد
ثبت في الصحيح : ( أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له ، إن أصابته سراء شكر
فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ) .
وأما المنكرات ، فإنه يبغضها ويكرهها ؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها
فيرحمون بالتوبة ، وإن كانت التوبة لابد أن تكون مسبوقة بمعصية ؛ ولهذا يجاب عن قضاء
المعاصي على المؤمن بجوابين :
أحدهما : أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب .
والثاني : أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرًا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى
الله ، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح ، وأما المعاصي التي لا
يتاب منها فهي شر على صاحبها ، والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه ؛ لما له في ذلك من الحكمة ،
كما قال : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] ، وقال تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة .
ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع ، والمقصود هنا التنبيه على أن الشيء المعين يكون
محبوبًا من وجه ، مكروهًا من وجه وأن هذا حقيقة التردد ، وكما أن هذا في الأفعال فهو في
الأشخاص . والله أعلم .
مجموع فتاوي ابن تيمية (مجلد٩ الجزء الثامن صفحة ٧٦)
تعليق