(ولكن لا تحبون الناصحين).
أي: لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده، فلهذا صرتم إلي ما أنتم فيه وليس لي فيكم حيلة ولا لي بالدفع عنكم يدان، والذي وجب علي من النصح لكم قد فعلته وبذلته لكم، ولكن الله يفعل ما يريد.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ) الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ).فَقَالَ الْإِمَام الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه : النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَة الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ . قَالَ : وَيُقَال : هُوَ مِنْ وَجِيز الْأَسْمَاء , وَمُخْتَصَر الْكَلَام , وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كَلِمَة مُفْرَدَة يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَة عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَة . كَمَا قَالُوا فِي الْفَلَاح لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كَلِمَة أَجْمَع لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْهُ . قَالَ : وَقِيلَ : النَّصِيحَة مَأْخُوذَة مِنْ نَصَحَ الرَّجُل ثَوْبه إِذَا خَاطَهُ . فَشَبَّهُوا فِعْل النَّاصِح فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاح الْمَنْصُوح لَهُ بِمَا يَسُدّهُ مِنْ خَلَل الثَّوْب .النصح نقيض الغش، والنصيحة: كلمة جامعة معناها: حيازة الخير للمنصوح له، وقيل إنها مأخوذة من "نصحت العسل" إذا صفيته من الشمع، شبه تخليص القول من الغش، بتخليص العسل من الخلط. لذلك جاء قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الدين النصيحة"، (صحيح الجامع ـ 3417)، فهي عماد الدين وقوامه، كقوله: "الحج عرفة" (صحيح الجامع ـ 3172).
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل ـ عليه السلام ـ وسمى ذلك كله ديناً".
والنصيحة في أيامنا معدن كاد يكون نادراً لضعف الإيمان والجهل في الدين، بل لعل الناصح يكون في مواقف كثيرة هو المذنب لأنه نصح!!! صحيح تحتاج النصيحة للفقه في الدين، فلا يكون الناصح ناصحاً إلا إذا كان فقيهاً في دين الله ـ تعالى ـ.
ومنزلة الناصح رفيعة عند ربه ولا أدل على ذلك من فعل الأنبياء والرسل فهم الرأس في النصح والنصيحة. فاسمع ـ على سبيل المثال ـ ما قاله نوح لقومه:) (أُبَلِّغُكُمْ رِسَلاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)
أخرج البخاري، ومسلم، وأحمد، وغيرهم، عن
جرير، قال: "بايعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (على السمع والطاعة، فلقنني فيما استطعت، والنصح لكل مسلم".)
وجاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"حق المسلم على المسلم ست" فذكر منها:("وإذا استنصحك فانصح له").(
الصحيحة ـ 2154))وقال الغزي
في "آداب العشرة": "ومنها ـ أي من الآداب ـ
(أن يراعي في صحبة إخوانه صلاحهم لا مرادهم، ودلالته على رشدهم لا على ما يحبونه).
وقال أبو صالح المري:
("المؤمن من يعاشرك بالمعروف ويدلك على صلاح دينك ودنياك، والمنافق من يعاشرك بالممادغة ـ يعني التملق والكذب ـ ويدلك على ما تشتهيه، والمعصوم من فرق بين الحالين"(.
وقال ابن حبان ـ رحمه الله
ـ:كما أن خير الأعمال أحمدها عاقبة، وأحسنها إخلاصاً، وضرب الناصح خير من تحية الناشيء.. إلى أن قال .. وليس الناصح بأولى من المنصوح".
وكثيراً ما تحتاج النصيحة إلى مواقف رجوليَّة شجاعة منها ما ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة غافر: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
فمن الأسباب التي اتخذها موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدِّ حيلة فرعون الذي نوى قتله وتصفيته، الاستعاذة بربه من شرور فرعون، فصار موسى ـ عليه السلام ـ ممتنعاً ـ بربوبية رب العالمين ، المدبِّر لجميع الأمور ـ على حيل فرعون وخططه، فسخر الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه السلام ـ رجلاً مؤمناً (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) رجل فرعوني ـ وكان جاري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة ـ آمن بدين موسى ـ عليه السلام ـ وكتمه، فسجَّل موقفاً رجوليَّاً جمع فيه الحجج القوية التالية:
1- (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) وهو استفهام على سبيل الإنكار.أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنىً ، أتقتلونه لأجل (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ(وقد تقدم في النص الأول ـ من هذه المقالة ـ
(النقطة الثالثة: من الرجولة أن تكون على التوحيد)
لجوء أهل الباطل الفجرة إلى مؤامرات شتى من أنواع الأذى بما فيها القتل ، فهؤلاء السفهاء حين تنقطع الحجة عندهم فإنهم يعودون على أهل الحق "الرجال" بالأذى والاعتداء، لشدة غيظهم وحماقتهم.
وقد كان علماء التفسير يستشهدون بما رواه الإمام البخاري وغيره، في تفسير هذه الآية لاستشهاد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بها عندما أوذي النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِى مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ يُصَلِّى ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ).كان لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ موقف رجوليُّ شجاع في الدفاع عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي "تفسير النسائي" (482) عن عمرو بن العاص، أنه سئل: ما أشد شيء رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال: مرَّ بهم ذات يوم ، فقالوا له: أنت الذي تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ قال: "أنا" . فقاموا إليه، فأخذوه بمجامع ثيابه. قال: فرأيت أبا بكر محتضنه من وراءه يصرخ، وإن عيناه تنضحان ـ تتساقط منها الدموع ـ وهو يقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله(
2- وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: جاءكم بما يدل على صدقه، وهذا لا يوجب قتله. لأنه كان يدعو إلى توحيد الله.
3- وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) يعني : فعليه وبال كذبه ، فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة ، ولا برهان.
4- وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) قال أهل المعاني: هذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل. 5- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28) قال قتادة: "مشرك أسرف على نفسه بالشرك". وعادته الكذب.
6- يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ...(29) ذكَّرهم بما فيه من الملك ليشكروا بالإيمان بالله، والمعنى لكم الملك فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل
النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله رب العالمين.
كتبه:أبو الخطاب السنحاني
الحمد لله رب العالمين.
كتبه:أبو الخطاب السنحاني
تعليق