السابع والأربعون: أن الهوى رِقٌ في القلب, وغُلٌ في العنق, وقيد في الرَّجلِ, ومُتابعه أسيرٌ لكل سيء الملكة, فمن خالفه عَتَقَ من رِقه وصار حراً, وخلع الغُلَّ من عنقه والقيدَ من رِجله وصار بمنزلة رجُلٍ سالمٍ لرجل, بعد أن كان رجلاً فيه شركاء متشاكسون1
رُبَ مستورٍ سَبَتْه شهوةُ*******فتعري سترُه فانهتكا
صاحبُ الشهوة عبدُ فإذا*******غلبَ الشهوةَ أضحى مَلِكا
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامةُ*******أن لا يُرى لك عن هواك نزوعُ
العبدُ عبدُ النفس في شهواتها***والحرُ يشبع تارةً ويجوع
الثامن والأربعون: أن مخالفةَ الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبَرَّه, فيقضي له الحوائج أضعافَ أضعاف ما فاته من هواه,فهو كمن رغب عن بعرةٍ فأعطيَ عِوَضَها درةً. ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيءِ ما لا نسبة لما ظفر به من هواه الْبَتَّةَ, فتأمل انبساط يد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ولسانِه وقدمِه ونفسِه بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام.
وقال عبد الرحمن بن مهدي2: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام فقلت له: مافعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى, فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حِساً ولا حركة إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد, فقلت:سفيان بن سعيد, فقال: تحفظ أنك آثرت الله عزوجل على هواك يوماً؟ قلت إي والله, فأخذني النَّثار3 من كل جانب.
وقال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشَّابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم سفيان فاصلُبوه, فجاؤوا ونصبوا الخشب, وطلِبَ ورأسُه في حِجْر الفضيل فقال له أصحابه: اتقِ الله عزوجل ولا تشمت بنا الأعداء, فتقدم إلى الأستار ثم أخذ بيده وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر, فمات قبل أن يدخل مكة فتأمل عاقبةَ مخالفة الهوى كيف أقامه في هذا المقام.
1: متشاكسون: متعاسرون مختلفون.2: عبد الرحمن بن مهدي: هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري اللؤلؤي, أبو سعيد من كبار حفاظ الحديث, وله فيه تصانيف عديدة حدَّث ببغداد, ومولده ووفاته بالبصرة قال عنه الإمام الشافعي: لا أعرف له نظيراً في الدنيا. أه. تهذيب التهذيب *6/279وحلية الأولياء9/3, وتاريخ بغداد 10/240, واللباب 3/72
3: النثار: ما ينثر في حفلات السرور من حلوى ونقود.
يُتبع إنشاء الله تعالى
تعليق