[الإشارات الجديرة إلى أنه لا يقبل من العبادة إلا ما كان على بصيرة]
خطبة جمعة: (21 شوال/ 1428هـ)
للشيخ العلامة المجاهد
أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله تعالى
المادة الصوتية من هنا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الناس! إن الله عز وجل خلق العباد لعبادته، وقال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، وقال عز من قائل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36]، وقال: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[العنكبوت:56]. وهذه العبادة التي خلقهم لها بينها لهم، ولم يتركهم سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، قال الله: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[القيامة:36-40]، بين الله عز وجل في هذه أنه لم يترك العباد سدى، وأنه أوجدهم وأعدهم وأمدهم لما ذكر في الآية الماضية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]. هذه العبادة لا بد لها حتى تكون مقبولة عند الله أن تصير على بيانه عز وجل الذي أنزله في كتبه والذي أرسل به رسله. قال الله في كتابه الكريم مبيناً أن مراده لعباده البيان، وأنه لم يكن ليعذب العباد على غير حجة ماضية، وعلى غير طريقة قاضية: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران:138]، فمن بيانات الله لعباده أنه أنزل كتباً هي بيان للناس، فما من كتاب أنزله الله إلا وفيه هدى ونور، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9]، وقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾[المائدة:44]. وقال سبحانه وتعالى مبيناً مراده لعباده: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النساء:26]، هذا هو مراد الله سبحانه وتعالى من عباده أن يبين لهم ما يتقون، ويبين لهم الهدى، ويحذرهم من سبل الردى، وقد أقام الحجة أعظم بيان وإقامة: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، فليس لأحد على الله حجة، ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾[الأنعام:149]، ولكن الله قطع معاذير من أقام عليه الحجة من عباده. وأبان الله عز وجل في كتابه أن جميع الرسل الذين أرسلهم، ما من رسول أرسله إلا بلسان قومه؛ والحكمة من ذلك: إيصال البلاغ والبيان على أوضح ما يكون: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[إبراهيم:4]، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل:44] أي: السنة، جعلها الله عز وجل بياناً للقرآن؛ حتى لا يكون عند الناس لبس في دينهم، ولا يكون عند الناس اشتباه في دينهم، إلا من كان على هوى، قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾[الأنعام:57]، وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾[محمد:25]، وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾[محمد:32]. وقال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]، أبان الله في هذه الآية أن من شاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين له الهدى وظهرت له الحجة ووضحت له المحجة أن الله يكله إلى نفسه ويوليه ما تولى، ويسلط عليه هواه وشيطانه، فإذا ولاه الله عز وجل ما تولى ولم يحطه برعايته تسلط عليه أعداؤه من الشيطان وجنوده، وقال بعد ذلك: ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]. فالله عز وجل أنزل كتبه وأرسل رسله وأقام حجته على عباده، كل ذلك حتى يعبدوه على بصيرة وعلى بيان وعلى حجة، ولا تكون عبادتهم المأمور بها التي خلقهم الله عز وجل من أجلها على غير بيان وعلى غير بصيرة. ومن بيانات الله لهم: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[الأعراف:3]، وقال سبحانه: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[إبراهيم:1-2]، وقال لنبيه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108]، ينزه الله عز وجل عن أن يدعو إليه على غير بصيرة، أو بغير ما شرع وأمر، فإن هذا جرم. قال الله في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:33]، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء:36]. وقال الله عز وجل ذاماً للنصارى إذ عبدوا على غير بصيرة رهبانية: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾[الحديد:27]، الله ما كتب عليهم رهبانية، ولكنهم اخترعوها وابتدعوها، ولم يأمرهم الله إلا بابتغاء رضوانه عز وجل. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾[الأعراف:152]، الله قد توعد الذين عبدوا الله على غير بصيرة وعلى غير هدى أن لهم الذلة، وأنهم مفترون على الله، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ﴾[الصف:7]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً على أن البصيرة التي دعا إليها أمر أن يدعو إليها تشتمل على أمرين: على الإخلاص لله وعلى المتابعة له عليه الصلاة والسلام، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه». ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[البقرة:277]، قال الله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5]، هذا هو الدين الذي أمر الله به، والذي خلق الله العباد من أجله، وهو دين القيمة، الدين القيم الذي أمر الله به، هذا هو، أن يعبد على البصيرة وعلى الإخلاص. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: غير مقبول؛ لأن الله غني عن العمل الذي يخترع والذي يضار إلى شريعته ولم يشرعه، بل يكون وبالاً على صاحبه. فالله هو الذي شرع لعباده من الدين ما وصى به الأمم: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]. والله هو الذي جعل العباد على شريعة بينة واضحة، ولم يكل ذلك إلى عباده عن غير كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18-19]. الله هو الذي يشرع لعباده ما يصلح لهم وما يعلم أنه خلقهم من أجله: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14]. فهو أعلم بمصالح عباده من عباده، ولم يكل ذلك إلى خلقه أن يشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فإذا عبد الإنسان ربه على غير البصيرة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عمله مردود، سواء كان ذلك في توحيد الله أو في غيره، قال الله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، وقال: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]، الله أغنى الشركاء عن الشرك. وهكذا إذا قامت الطهارة على غير بصيرة وعلى غير هدى من الله في كتابه أو سنة رسوله فإنها لا تثبت ولا تعتبر طهارة شرعية، ولا تعتبر عبادة مقبولة، سواء كان ذلك في الوضوء، أو كان ذلك في الغسل للجمعة، أو كان ذلك في الغسل من الجنابة.. أو ما إلى ذلك مما هو عبادة، استعمال الماء فيه عبادة، لما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..» الحديث، وهذا عمل لا بد أن تقارنه النية، وأن يصير على بصيرة، مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»؛ لأن البصيرة في هذا أن تقوم الصلاة على طهارة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا..﴾[المائدة:6] آية الوضوء. هذه البصيرة فمن أقام وضوءه على غير هذه البصيرة التي جاءت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإن وضوءه غير صحيح وغير معتبر، وصلاته مبنية على غير برهان، وعلى غير حجة، وعلى غير بصيرة من الله ولا من رسوله، مردودة: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وهكذا إذا نكس وضوءه فبدأ برجليه مثلاً ثم رجع إلى الأعلى، ونكس وضوءه على غير هدي رسول الله فإن وضوءه باطل: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»؛ وما ذلك إلا أنه عمل بغير بصيرة، على غير هدى، على غير برهان، واخترع عملاً لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله غني عنه، الله غني عن ما اخترعه العبد ولم يشرعه الله، وغير مقبول. وهكذا إذا صلى الصلاة في غير وقتها، أتى بها على غير هدى وعلى غير بصيرة من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصلاته مردودة، قال الله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النساء:103]، وفي الصحيح عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأولئك الشببة الذين رأى منهم أنهم قد اشتاقوا لأهلهم: «ارجعوا إلى أهليكم وعلموهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم». وعلى ذلك عامة أهل العلم أن الأذان إذا أذن في غير وقت الصلاة أنه يعاد، إذا كان قبل وقت الصلاة، قبل دخول الوقت، وأما الصلاة إذا أديت في غير وقت الصلاة لغير ما جمع بعذر فإنها تعاد؛ لأنها غير مقبولة، فلا يقبل من العمل إلا ما صار على بصيرة بينها ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو قام يصلي بعد أن عمل ما قبل ذلك مما يلزم من الصلاة للصلاة ثم لم يحسنها ولم يؤدها على صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي ترد؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين دخل رجل فجعل يصلي ولا يطمئن في صلاته، قال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»، وفعل ذلك مراراً، ثم قال: «والله يا رسول الله! لا أحسن غيرها، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب، أو قال: ثم قم حتى تعتدل قائماً، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً»، وعلمه الطمأنينة في الصلاة، فمن أخل بتلك الصلاة على ما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له من صلاته إلا التعب. وهكذا قل في سائر ما لها من الشروط، وهكذا قل في أمر الزكاة، إذا أداها الإنسان على غير بصيرة التي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ذهب مالك وليس هناك زكاة ولا مقبولة عند الله، قال الله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾[التوبة:60]، هذه فريضة الله، بينها في كتابه، فمن أداها على غير هذه البصيرة لا تقبل، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تجزئ الصدقة على غني ولا على قوي مكتسب..» الحديث. وهكذا قل فيمن صام على غير بصيرة، ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾[البقرة:187]، قبل تحلة صومه، ففي حديث أبي أمامة بيان عظيم لعقابه يوم القيامة، وأن الذين يفطرون قبل تحلة صومهم يعلقون في عراقيبهم ويهانون بما جاء في ذلك الحديث: «هؤلاء الذين أفطروا قبل تحلة صومهم»، فإذا كان على خطأ وليس عن تعمد وجب عليه قضاؤه، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من قضاء. ونعم لا بد من قضاء عند جمهور العلماء؛ وذلك لأن الله أمر بالصيام إلى الليل، فمن أفطر قبل تحلة صومه خطأ وجب عليه إعادة ما أخطأ فيه. وهناك أيضاً عجائب في أمر الحج مما يرتكبها كثير من الناس على غير بصيرة، ويتسببون في فساد حجهم وحج غيرهم، فالله عز وجل قد بين على لسان نبيه أن الإحرام يكون من الميقات، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه بعد أن بين المواقيت الأربعة: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة»، فمن تعمد مجاوزة الميقات وهو مريد للحج أو العمرة فإن فعله ذلك مخالف للبصيرة المأمور بها، وواجب عليه أن يعود إلى الميقات فيحرم منه، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه التوبة إلى الله عز وجل إن كان متعمداً، فإن كان مخطئاً فلا إثم عليه: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾[البقرة:286]. وبعد ذلك أيضاً إذا جاء إلى بيت الله الحرام فجعل البيت عن يمينه وطاف، فإن هذا العمل مخالف لما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مردود، لا يقبله الله، «خذوا عني مناسككم»، ومن مناسكه: أنه حين أتى البيت جعل البيت عن يساره وطاف سبعاً، ولو طاف ثمانياً أو طاف ستاً أيضاً غير مقبول إذا تعمد ذلك؛ لأن هذا خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف البصيرة المدعو إليها. وإن قدم السعي على الطواف عمداً منه وليس سهواً، فإن سعيه غير مقبول، واجب عليه أن يقدم طواف البيت قبل السعي، هذا الذي قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»، إلا أن يكون ساهياً ناسياً لذلك فإنه في مثل ذلك لا بأس أن يجتزئ به كما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة: «قال رجل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، قال: افعل ولا حرج»؛ وما ذلك إلا لأنه لم يتعمد باعتبار أنه كان جاهلاً. ومن هذا ما تراه أيضاً من الرمي في أيام منى قبل الزوال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى تزول الشمس ثم يرمي، ولم يرم قبل الزوال؛ وما ذلك إلا أن هذا أمر لا بد منه، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، فمن رمى قبل الزوال، أو أفتى بالرمي قبل الزوال، فقد دعا الناس إلى غير البصيرة وإلى غير العلم، وتسبب في بطلان رميهم. وكذا إذا رمى الجمرة العليا ثم الوسطى ثم الدنيا، فإن رميه غير صحيح، فهدي رسول الله والبصيرة في ذلك أن يبدأ بالصغرى في أيام التشريق ثم الوسطى ثم العليا، فمن نكس في ذلك ولم يرتب على الترتيب الصحيح فإن رميه باطل، وعليه الإعادة عند جمهور أهل العلم، وهو الصواب، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا». ومن وقف بعرفة في غير يوم الموقف عمداً، فإن وقوفه غير صحيح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من صلى صلاتنا هذه، ووقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار قبل ذلك تم حجة وقضى تفثه»، فإذا قضى في يوم العيد مثلاً، نعم أو وقف في يوم التروية.. أو ما إلى ذلك هذا ما هو مقبول في سائر العبادة لا بد أن تكون على ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا صارت مردودة، مما يدل على أهمية تحري البصيرة في العبادة، وعلى أهمية تحري هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كذا إذا طاف الوداع وكان منصرفاً إلى أهلها أجزأه ذلك، فإذا طاف الوداع وذهب يتجول من مكان إلى مكان في مكة نفسها فلا يجزئه ذلك؛ خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «اجعلوا آخر عهدكم بالبيت»، هذه هي البصيرة. الخطبة الثانية: الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: ألمحنا إلى هذه الأمور المذكورة في الأركان الخمسة، وفي شروطها، وما يستدعي ذلك؛ لأهميتها، وإلا فإن البصيرة سائرة على جميع حياة الإنسان من قيام وقعود، وسفر وعدم سفر، ومن كذلك نطق وصمت، ومن معاشرة أهله وحسن جواره، ومن دعوته، وفي ليله وفي نهاره، وفي سائر عبادة الله عز وجل، يتطلب في ذلك كله أن يكون على ما جاء به رسول الله عن الله أو بينه عن الله. نعم، ولكن هذه الأمور لأهميتها، ولكثرة المخالفات فيها. ثم اعلموا أن من لم يعمل على بصيرة وكان بإمكانه أن يتدارك على الصواب، فإن ذلك واجب عليه، ولا يعذر بترك ذلك التدارك. ويدل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين فاتته صلاة الفجر، قام وقد طلعت الشمس، انتقل من ذلك المكان، ثم أمر المؤذن فأذن ثم صلى، وتدارك ما فاته، وقال: «من نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها». وعلى ذلك نماذج وأدلة وبراهين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي سار عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. ثبت في الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أراد قتال أهل الردة، أتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، قال عمر: فما هو إلا أني رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للحق، فعلمت أنه الهدى، أو أنه الحق. وأبو بكر نفسه عليه رضوان الله حين حلف ألا ينفق على مسطح؛ لما حصل منه من الخوض في الإفك، أنزل الله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور:22]، فعاد إلى النفقة على مسطح، وجعل ينفق عليه متابعة وطلباً لعفو الله ومغفرة الله عز وجل. وهكذا عمر رضي الله عنه أراد أن يرجم مجنونة زنت بغير شعورها، فأتاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين! ألم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ» ؟ قال: نعم، قال: فما بال مجنونة بني فلان؟ قال: لا شيء، وأمر بها فتركت لم ترجم. خطاب عظيم من علي لأمير المؤمنين، وأدب جم من علي رضي الله عنه لأمير المؤمنين، تذكير له، فكان بهذا الخلق الحسن فيه إنقاذ لتلك المجنونة؛ بسبب أنه لم يكن يذكر الحكم في ذلك إلا الحكم العام رجم الزاني. نعم، واستأذن أبو موسى رضي الله عنه على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثلاثاً ثم انصرف، فدعاه قال: مالك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، إن أذن لك وإلا فارجع، قال: لتأتيني على هذا ببينة، فأتى بأبي سعيد من بين رجال كانوا في مجلس، قالوا: يقوم معك أصغرنا، فلما أخبر عمر بذلك رجع إلى قول أبي موسى. وأبو موسى نفسه أيضاً رضي الله عنه رجع إلى قول ابن مسعود، إلى الحق والصواب والبصيرة والهدى، تطلباً للحق الذي أمر الله وخلق العباد من أجله. أفتى أبو موسى في بنت وبنت ابن وأخت شقيقة: أن البنت لها النصف، وأن الأخت لها النصف، وبنت الابن ليس لها شيء، ثم قال: ائتوا ابن مسعود، فأتوه، قال: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[الأنعام:56] لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكلمة الثلثين، وما بقي فللأخت الشقيقة، وأتوا أبا موسى فقال رضي الله عنه: (لا تسألوني وهذا الحبر فيكم). وهذا قليل من كثير مما ثبت عن سلفنا رضوان الله عليهم من تحريهم للبصيرة وللهدى؛ وما ذلك إلا أنهم أصحاب أهواء، والله يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ..﴾[القصص:50]...
خطبة جمعة: (21 شوال/ 1428هـ)
للشيخ العلامة المجاهد
أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله تعالى
المادة الصوتية من هنا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الناس! إن الله عز وجل خلق العباد لعبادته، وقال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، وقال عز من قائل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36]، وقال: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[العنكبوت:56]. وهذه العبادة التي خلقهم لها بينها لهم، ولم يتركهم سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، قال الله: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[القيامة:36-40]، بين الله عز وجل في هذه أنه لم يترك العباد سدى، وأنه أوجدهم وأعدهم وأمدهم لما ذكر في الآية الماضية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]. هذه العبادة لا بد لها حتى تكون مقبولة عند الله أن تصير على بيانه عز وجل الذي أنزله في كتبه والذي أرسل به رسله. قال الله في كتابه الكريم مبيناً أن مراده لعباده البيان، وأنه لم يكن ليعذب العباد على غير حجة ماضية، وعلى غير طريقة قاضية: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران:138]، فمن بيانات الله لعباده أنه أنزل كتباً هي بيان للناس، فما من كتاب أنزله الله إلا وفيه هدى ونور، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9]، وقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾[المائدة:44]. وقال سبحانه وتعالى مبيناً مراده لعباده: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النساء:26]، هذا هو مراد الله سبحانه وتعالى من عباده أن يبين لهم ما يتقون، ويبين لهم الهدى، ويحذرهم من سبل الردى، وقد أقام الحجة أعظم بيان وإقامة: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، فليس لأحد على الله حجة، ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾[الأنعام:149]، ولكن الله قطع معاذير من أقام عليه الحجة من عباده. وأبان الله عز وجل في كتابه أن جميع الرسل الذين أرسلهم، ما من رسول أرسله إلا بلسان قومه؛ والحكمة من ذلك: إيصال البلاغ والبيان على أوضح ما يكون: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[إبراهيم:4]، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل:44] أي: السنة، جعلها الله عز وجل بياناً للقرآن؛ حتى لا يكون عند الناس لبس في دينهم، ولا يكون عند الناس اشتباه في دينهم، إلا من كان على هوى، قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾[الأنعام:57]، وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾[محمد:25]، وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾[محمد:32]. وقال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]، أبان الله في هذه الآية أن من شاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين له الهدى وظهرت له الحجة ووضحت له المحجة أن الله يكله إلى نفسه ويوليه ما تولى، ويسلط عليه هواه وشيطانه، فإذا ولاه الله عز وجل ما تولى ولم يحطه برعايته تسلط عليه أعداؤه من الشيطان وجنوده، وقال بعد ذلك: ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]. فالله عز وجل أنزل كتبه وأرسل رسله وأقام حجته على عباده، كل ذلك حتى يعبدوه على بصيرة وعلى بيان وعلى حجة، ولا تكون عبادتهم المأمور بها التي خلقهم الله عز وجل من أجلها على غير بيان وعلى غير بصيرة. ومن بيانات الله لهم: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[الأعراف:3]، وقال سبحانه: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[إبراهيم:1-2]، وقال لنبيه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108]، ينزه الله عز وجل عن أن يدعو إليه على غير بصيرة، أو بغير ما شرع وأمر، فإن هذا جرم. قال الله في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:33]، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء:36]. وقال الله عز وجل ذاماً للنصارى إذ عبدوا على غير بصيرة رهبانية: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾[الحديد:27]، الله ما كتب عليهم رهبانية، ولكنهم اخترعوها وابتدعوها، ولم يأمرهم الله إلا بابتغاء رضوانه عز وجل. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾[الأعراف:152]، الله قد توعد الذين عبدوا الله على غير بصيرة وعلى غير هدى أن لهم الذلة، وأنهم مفترون على الله، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ﴾[الصف:7]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً على أن البصيرة التي دعا إليها أمر أن يدعو إليها تشتمل على أمرين: على الإخلاص لله وعلى المتابعة له عليه الصلاة والسلام، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه». ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[البقرة:277]، قال الله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5]، هذا هو الدين الذي أمر الله به، والذي خلق الله العباد من أجله، وهو دين القيمة، الدين القيم الذي أمر الله به، هذا هو، أن يعبد على البصيرة وعلى الإخلاص. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: غير مقبول؛ لأن الله غني عن العمل الذي يخترع والذي يضار إلى شريعته ولم يشرعه، بل يكون وبالاً على صاحبه. فالله هو الذي شرع لعباده من الدين ما وصى به الأمم: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]. والله هو الذي جعل العباد على شريعة بينة واضحة، ولم يكل ذلك إلى عباده عن غير كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18-19]. الله هو الذي يشرع لعباده ما يصلح لهم وما يعلم أنه خلقهم من أجله: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14]. فهو أعلم بمصالح عباده من عباده، ولم يكل ذلك إلى خلقه أن يشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فإذا عبد الإنسان ربه على غير البصيرة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عمله مردود، سواء كان ذلك في توحيد الله أو في غيره، قال الله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، وقال: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]، الله أغنى الشركاء عن الشرك. وهكذا إذا قامت الطهارة على غير بصيرة وعلى غير هدى من الله في كتابه أو سنة رسوله فإنها لا تثبت ولا تعتبر طهارة شرعية، ولا تعتبر عبادة مقبولة، سواء كان ذلك في الوضوء، أو كان ذلك في الغسل للجمعة، أو كان ذلك في الغسل من الجنابة.. أو ما إلى ذلك مما هو عبادة، استعمال الماء فيه عبادة، لما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..» الحديث، وهذا عمل لا بد أن تقارنه النية، وأن يصير على بصيرة، مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»؛ لأن البصيرة في هذا أن تقوم الصلاة على طهارة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا..﴾[المائدة:6] آية الوضوء. هذه البصيرة فمن أقام وضوءه على غير هذه البصيرة التي جاءت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإن وضوءه غير صحيح وغير معتبر، وصلاته مبنية على غير برهان، وعلى غير حجة، وعلى غير بصيرة من الله ولا من رسوله، مردودة: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وهكذا إذا نكس وضوءه فبدأ برجليه مثلاً ثم رجع إلى الأعلى، ونكس وضوءه على غير هدي رسول الله فإن وضوءه باطل: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»؛ وما ذلك إلا أنه عمل بغير بصيرة، على غير هدى، على غير برهان، واخترع عملاً لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله غني عنه، الله غني عن ما اخترعه العبد ولم يشرعه الله، وغير مقبول. وهكذا إذا صلى الصلاة في غير وقتها، أتى بها على غير هدى وعلى غير بصيرة من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصلاته مردودة، قال الله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النساء:103]، وفي الصحيح عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأولئك الشببة الذين رأى منهم أنهم قد اشتاقوا لأهلهم: «ارجعوا إلى أهليكم وعلموهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم». وعلى ذلك عامة أهل العلم أن الأذان إذا أذن في غير وقت الصلاة أنه يعاد، إذا كان قبل وقت الصلاة، قبل دخول الوقت، وأما الصلاة إذا أديت في غير وقت الصلاة لغير ما جمع بعذر فإنها تعاد؛ لأنها غير مقبولة، فلا يقبل من العمل إلا ما صار على بصيرة بينها ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو قام يصلي بعد أن عمل ما قبل ذلك مما يلزم من الصلاة للصلاة ثم لم يحسنها ولم يؤدها على صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي ترد؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين دخل رجل فجعل يصلي ولا يطمئن في صلاته، قال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»، وفعل ذلك مراراً، ثم قال: «والله يا رسول الله! لا أحسن غيرها، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب، أو قال: ثم قم حتى تعتدل قائماً، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً»، وعلمه الطمأنينة في الصلاة، فمن أخل بتلك الصلاة على ما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له من صلاته إلا التعب. وهكذا قل في سائر ما لها من الشروط، وهكذا قل في أمر الزكاة، إذا أداها الإنسان على غير بصيرة التي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ذهب مالك وليس هناك زكاة ولا مقبولة عند الله، قال الله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾[التوبة:60]، هذه فريضة الله، بينها في كتابه، فمن أداها على غير هذه البصيرة لا تقبل، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تجزئ الصدقة على غني ولا على قوي مكتسب..» الحديث. وهكذا قل فيمن صام على غير بصيرة، ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾[البقرة:187]، قبل تحلة صومه، ففي حديث أبي أمامة بيان عظيم لعقابه يوم القيامة، وأن الذين يفطرون قبل تحلة صومهم يعلقون في عراقيبهم ويهانون بما جاء في ذلك الحديث: «هؤلاء الذين أفطروا قبل تحلة صومهم»، فإذا كان على خطأ وليس عن تعمد وجب عليه قضاؤه، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من قضاء. ونعم لا بد من قضاء عند جمهور العلماء؛ وذلك لأن الله أمر بالصيام إلى الليل، فمن أفطر قبل تحلة صومه خطأ وجب عليه إعادة ما أخطأ فيه. وهناك أيضاً عجائب في أمر الحج مما يرتكبها كثير من الناس على غير بصيرة، ويتسببون في فساد حجهم وحج غيرهم، فالله عز وجل قد بين على لسان نبيه أن الإحرام يكون من الميقات، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه بعد أن بين المواقيت الأربعة: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة»، فمن تعمد مجاوزة الميقات وهو مريد للحج أو العمرة فإن فعله ذلك مخالف للبصيرة المأمور بها، وواجب عليه أن يعود إلى الميقات فيحرم منه، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه التوبة إلى الله عز وجل إن كان متعمداً، فإن كان مخطئاً فلا إثم عليه: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾[البقرة:286]. وبعد ذلك أيضاً إذا جاء إلى بيت الله الحرام فجعل البيت عن يمينه وطاف، فإن هذا العمل مخالف لما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مردود، لا يقبله الله، «خذوا عني مناسككم»، ومن مناسكه: أنه حين أتى البيت جعل البيت عن يساره وطاف سبعاً، ولو طاف ثمانياً أو طاف ستاً أيضاً غير مقبول إذا تعمد ذلك؛ لأن هذا خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف البصيرة المدعو إليها. وإن قدم السعي على الطواف عمداً منه وليس سهواً، فإن سعيه غير مقبول، واجب عليه أن يقدم طواف البيت قبل السعي، هذا الذي قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»، إلا أن يكون ساهياً ناسياً لذلك فإنه في مثل ذلك لا بأس أن يجتزئ به كما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة: «قال رجل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، قال: افعل ولا حرج»؛ وما ذلك إلا لأنه لم يتعمد باعتبار أنه كان جاهلاً. ومن هذا ما تراه أيضاً من الرمي في أيام منى قبل الزوال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى تزول الشمس ثم يرمي، ولم يرم قبل الزوال؛ وما ذلك إلا أن هذا أمر لا بد منه، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، فمن رمى قبل الزوال، أو أفتى بالرمي قبل الزوال، فقد دعا الناس إلى غير البصيرة وإلى غير العلم، وتسبب في بطلان رميهم. وكذا إذا رمى الجمرة العليا ثم الوسطى ثم الدنيا، فإن رميه غير صحيح، فهدي رسول الله والبصيرة في ذلك أن يبدأ بالصغرى في أيام التشريق ثم الوسطى ثم العليا، فمن نكس في ذلك ولم يرتب على الترتيب الصحيح فإن رميه باطل، وعليه الإعادة عند جمهور أهل العلم، وهو الصواب، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا». ومن وقف بعرفة في غير يوم الموقف عمداً، فإن وقوفه غير صحيح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من صلى صلاتنا هذه، ووقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار قبل ذلك تم حجة وقضى تفثه»، فإذا قضى في يوم العيد مثلاً، نعم أو وقف في يوم التروية.. أو ما إلى ذلك هذا ما هو مقبول في سائر العبادة لا بد أن تكون على ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا صارت مردودة، مما يدل على أهمية تحري البصيرة في العبادة، وعلى أهمية تحري هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كذا إذا طاف الوداع وكان منصرفاً إلى أهلها أجزأه ذلك، فإذا طاف الوداع وذهب يتجول من مكان إلى مكان في مكة نفسها فلا يجزئه ذلك؛ خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «اجعلوا آخر عهدكم بالبيت»، هذه هي البصيرة. الخطبة الثانية: الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: ألمحنا إلى هذه الأمور المذكورة في الأركان الخمسة، وفي شروطها، وما يستدعي ذلك؛ لأهميتها، وإلا فإن البصيرة سائرة على جميع حياة الإنسان من قيام وقعود، وسفر وعدم سفر، ومن كذلك نطق وصمت، ومن معاشرة أهله وحسن جواره، ومن دعوته، وفي ليله وفي نهاره، وفي سائر عبادة الله عز وجل، يتطلب في ذلك كله أن يكون على ما جاء به رسول الله عن الله أو بينه عن الله. نعم، ولكن هذه الأمور لأهميتها، ولكثرة المخالفات فيها. ثم اعلموا أن من لم يعمل على بصيرة وكان بإمكانه أن يتدارك على الصواب، فإن ذلك واجب عليه، ولا يعذر بترك ذلك التدارك. ويدل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين فاتته صلاة الفجر، قام وقد طلعت الشمس، انتقل من ذلك المكان، ثم أمر المؤذن فأذن ثم صلى، وتدارك ما فاته، وقال: «من نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها». وعلى ذلك نماذج وأدلة وبراهين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي سار عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. ثبت في الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أراد قتال أهل الردة، أتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، قال عمر: فما هو إلا أني رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للحق، فعلمت أنه الهدى، أو أنه الحق. وأبو بكر نفسه عليه رضوان الله حين حلف ألا ينفق على مسطح؛ لما حصل منه من الخوض في الإفك، أنزل الله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور:22]، فعاد إلى النفقة على مسطح، وجعل ينفق عليه متابعة وطلباً لعفو الله ومغفرة الله عز وجل. وهكذا عمر رضي الله عنه أراد أن يرجم مجنونة زنت بغير شعورها، فأتاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين! ألم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ» ؟ قال: نعم، قال: فما بال مجنونة بني فلان؟ قال: لا شيء، وأمر بها فتركت لم ترجم. خطاب عظيم من علي لأمير المؤمنين، وأدب جم من علي رضي الله عنه لأمير المؤمنين، تذكير له، فكان بهذا الخلق الحسن فيه إنقاذ لتلك المجنونة؛ بسبب أنه لم يكن يذكر الحكم في ذلك إلا الحكم العام رجم الزاني. نعم، واستأذن أبو موسى رضي الله عنه على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثلاثاً ثم انصرف، فدعاه قال: مالك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، إن أذن لك وإلا فارجع، قال: لتأتيني على هذا ببينة، فأتى بأبي سعيد من بين رجال كانوا في مجلس، قالوا: يقوم معك أصغرنا، فلما أخبر عمر بذلك رجع إلى قول أبي موسى. وأبو موسى نفسه أيضاً رضي الله عنه رجع إلى قول ابن مسعود، إلى الحق والصواب والبصيرة والهدى، تطلباً للحق الذي أمر الله وخلق العباد من أجله. أفتى أبو موسى في بنت وبنت ابن وأخت شقيقة: أن البنت لها النصف، وأن الأخت لها النصف، وبنت الابن ليس لها شيء، ثم قال: ائتوا ابن مسعود، فأتوه، قال: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[الأنعام:56] لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكلمة الثلثين، وما بقي فللأخت الشقيقة، وأتوا أبا موسى فقال رضي الله عنه: (لا تسألوني وهذا الحبر فيكم). وهذا قليل من كثير مما ثبت عن سلفنا رضوان الله عليهم من تحريهم للبصيرة وللهدى؛ وما ذلك إلا أنهم أصحاب أهواء، والله يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ..﴾[القصص:50]...