إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الزهد والورع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الزهد والورع

    لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

    تقديم شيخنا العلامة
    أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
    حفظه الله تعالى ورعاه

    اعتنى به
    أبو تراب سيف بن حضر الجاوي
    وفقه الله
    دار الحديث بدماج
    تقديم شيخنا العلامة
    أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
    حفظه الله تعالى
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله حمدا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .
    أما بعد:
    فما جمعه أخونا الفاضل المبارك أبو تراب سيف الجاوي فى هذه الرسالة فى " الزهد والورع " لشيح الإسلام بمصادر ذلك من كتبه رحمه الله ، هذا جمع طيب ، ويا حبذا لو أن أخانا أبا تراب – حفظه الله – أضاف إلى ذلك بعض صحاح الأحاديث والآثار فى الورع فى جزء نحو هذا ويذكر تحت كل حديث نص أهل العلم على موضع الورع فيه (1)، بهذا يصير البحث أجمل وأنفع ، وبالله التوفيق .
    كتبه
    أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
    دار الحديث بدماج 29 ربيع الأول سنة 1428 هـ

    سم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده روسوله.
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102] .﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1] .﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[الأحزاب: 70-71].
    أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
    فهذه كلمات جامعات نافعات فى " الزهد والورع " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى جمعتها ورتبتها من متفرقات كلامه فى كتبه ، تيسيرا وتسهيلا لمن أراد الوقوف عليها والاستفادة منها . أسأل الله التوفيق والإخلاص و السداد فى جميع أموري وأعمالي . والله الموفق إلى أقوم الطريق. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

    وكتبه
    أبو تراب سيف بن حضر الجاوي
    17 صفر 1428 هـ
    دار الحديث بدماج

    ترجمة موجزة لشيخ الإسلام رحمه الله

    قال الذهبي رحمه الله فى تذكرة الحفاظ - (ج 4 / ص 1496) :
    ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع، شيخ الإسلام ،علم الزهاد نادرة العصر تقى الدين أبو العباس أحمد بن المفتى شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم الحرانى أحد الأعلام .
    ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مائة، وقدم مع أهله سنة سبع ، فسمع من ابن عبد الدائم وابن أبى اليسر والكمال بن عبد وابن الصيرفى وابن أبى الخير وخلق كثير، وعنى بالحديث ونسخ الأجزاء ، ودار على الشيوخ وخرج وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه وفى علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك.

    وكان من بحور العلم و من الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد والشجعان الكبار والكرماء الأجواد أثنى عليه الموافق والمخالف وسارت بتصانيفه الركبان لعلها ثلاث مائة مجلد.
    حدث بدمشق ومصر والثغر، وقد امتحن وأوذى مرات ، وحبس بقلعة مصر والقاهرة والإسكندرية، وبقلعة دمشق مرتين، وبها توفي فى العشرين من ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة في قاعة معتقلا ثم جهز وأخرج إلى جامع البلد، فشهده أمم لا يحصون فحزروا بستين ألفا ، ودفن إلى جنب أخيه الإمام شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية رحمهما الله تعالى، ورئيت له منامات حسنة ورثى بعدة قصائد، وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها وهى مغمورة في بحر علمه فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه فما رأيت مثله. اهـ


    الـزهـد
    تعريف الزهد

    قال شيخ الإسلام رحمه الله:
    فصل: قد كتبت في كراسة الحوادث فصلا في " جماع الزهد والورع " :
    وأن الزهد هو: عما لا ينفع إما لانتفاء نفعه أو لكونه مرجوحا ؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه أو محصل لما يربو ضرره على نفعه . وأما المنافع الخالصة أو الراجحة : فالزهد فيها حمق.
    والزهد : خلاف الرغبة . يقال : فلان زاهد في كذا . وفلان راغب فيه . و " الرغبة " هي من جنس الإرادة . فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له ، إما مع وجود كراهته ، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث لا يكون لا مريدا له، ولا كارها له وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه .
    قال : وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي من غيره ، وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية من غيرها، وهي الرغبة المحمودة فإنه كثيرا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية وكثيرا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص والطمع والعمل الذي ضل سعي صاحبه.(1)
    فتلخص أن " الزهد " من باب عدم الرغبة والإرادة في المزهود فيه.(2)
    ." الزهد المشروع " هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه ، أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [ المائدة :87]، كما أن الاشتغال بفضول المباحات هو ضد الزهد المشروع فإن اشتغل بها عن فعل واجبٍ أو ترك محرمٍ كان عاصيا وإلا كان منقوصا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين .اهـ(3)

    $ $ $ $ $
    أصول علم الزهد وغيره
    فالعلم المشروع والنسك المشروع؛ مأخوذ عن أصحاب رسول الله ﷺ ، وأما ما جاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلا، وإن كان صاحبه معذورا بل مأجورا لاجتهاد أو تقليدٍ . فمن بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين ؛ فقد أصاب طريق النبوة وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها، من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدي الذي كان عليه محمد ﷺ وأصحابه ، فقد أصاب طريق النبوة. وهذه طريق أئمة الهدى .تجد الإمام أحمد (1)، إذا ذكر أصول السنة قال : هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ . وكتب كتب التفسير المأثور عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين . وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين ، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه ، حتى قال في رسالته إلى خليفة وقته : " المتوكل " : لا أحب الكلام في شيءٍ من ذلك إلا ما كان في كتاب الله أو في حديثٍ عن رسول الله ﷺ . أو الصحابة أو التابعين فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمودٍ . وكذلك في " الزهد " و " الرقاق " و " الأحوال " فإنه اعتمد في " كتاب الزهد " على المأثور عن الأنبياء صلوات الله عليهم من آدم ﷺ إلى محمدٍ ﷺ ثم على طريق الصحابة والتابعين ، ولم يذكر من بعدهم . وكذلك وصفه لآخذ العلم أن يكتب ما جاء عن النبي ﷺ ثم عن الصحابة ثم عن التابعين . - وفي روايةٍ أخرى - ثم أنت في التابعين مخير.(1)
    والصواب : للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ ، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم ، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم كما قال الله تعالى : ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن: 16] وقال ﷺ :" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".(2) وقال : ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾[ البقرة : 286] . وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة ، فيتقي الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده ، فلا بد أن يصدر منه خطأ ، إما في علومه وأقواله، وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم ؛ فإن الله تعالى قال : ﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾- إلى قوله – ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾قال الله تعالى : قد فعلت . فمن جعل طريق أحدٍ من العلماء والفقهاء أو طريق أحدٍ من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة، فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهدٍ في طاعةٍ أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا ، فهو مخطئ ضال مبتدع(1) .
    $ $ $ $$

    حقيقـة الـزهد
    و " الزهد " النافع المشروع الذي يحبه الله ورسوله ، هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك فالزهد فيه زهد في نوعٍ من عبادة الله وطاعته ، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال؛ كما قال النبي ﷺ : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن " .(1)
    والنافع للعبد هو عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله، وكلما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع ، ثم الأنفع له ؛ أن تكون كل أعم
    اله عبادة لله وطاعة له ، وإن أدى الفرائض وفعل مباحا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره.(2)
    وكذلك الزهد والرغبة من لم يراع ما يحبه الله ورسوله ، من الرغبة والزهد وما يكرهه من ذلك ؛ وإلا فقد يدع واجباتٍ ويفعل محرماتٍ؛ مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله، أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى، أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار، فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك . وقد قال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة :217] يقول سبحانه وتعالى : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر ، وظهور أهله أعظم من ذلك فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما .
    وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلما له هو جاهل ، فإن هذا الحيوان لا بد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين وحاجتهم كان خيرا من أن يموت موتا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك ؛ لكن ما لا يحتاج إليه من تعذيبه نهى الله عنه ؛كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح.(1)
    فصل :
    في الصراط المستقيم : في " الزهد " و " العبادة " و " الورع " في ترك المحرمات والشهوات و " الاقتصاد " في العبادة . وأن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة فإن أصحابها لا بد أن يقعوا في الآصار والأغلال وإن كانوا متأولين فلا بد لهم من اتباع الهوى ؛ ولهذا سمي أصحاب البدع أصحاب الأهواء ؛ فإن طريق السنة علم وعدل وهدى ؛ وفي البدعة جهل وظلم وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس.(2) "الزهد المشروع " هو ترك كل شيءٍ لا ينفع في الدار الآخرة وثقة القلب بما عند الله . كما في الحديث الذي في الترمذي " ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك "(2) لأن الله تعالى يقول :﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ ﴾ [الحديد :23] . فهذا صفة " القلب " . وأما في " الظاهر " فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله، من مطعمٍ وملبسٍ ومالٍ وغير ذلك ؛ كما قال الإمام أحمد : إنما هو طعام دون طعامٍ ولباسٍ دون لباسٍ وصبر أيامٍ قلائل .
    وجماع ذلك خلق رسول الله ﷺ كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول : " خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعةٍ ضلالة "(3) .
    وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا ويلبس من اللباس ما تيسر من قطنٍ وصوفٍ وغير ذلك وكان القطن أحب إليه ، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد أو العبادة على المشروع ويقول : أينا مثل رسول الله ﷺ ؟ يغضب لذلك ويقول :" والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدود الله تعالى وبلغه أن بعض أصحابه قال : أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم فقال ﷺ : " لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني "(1) .
    فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله ، ولا هو من دين الأنبياء ؛ بل قد قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾[الرعد: 38] ، والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبا تارة ومستحبا أخرى.(2)
    ولا ريب أن لفظ " الفقر " في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم، لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله وفعل ما أمر به . وترك ما نهي عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك ؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى . و " الفقراء " هم الذين ذكرهم الله في قوله : ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾[التوبة :60] وفي قوله : ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾[البقرة :273] وفي قوله : ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [ الحشر: 8] َ و " الغني " هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة أو الذي تجب عليه الزكاة أو ما يشبه ذلك ؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها ؛ إذ من العصمة أن لا تقدر وصار المتأخرون كثيرا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير.(1)


    $ $ $ $ $
    الترغيب فى الزهد
    وكما أن سبيل الله يحمد فيه الزهد فيما زهد الله فيه من فضول الدنيا فتحمد فيه الرغبة والإرادة لما حمد الله إرادته والرغبة فيه ؛ ولهذا كان أساس الطريق الإرادة . كما قال تعالى : ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾[ الأنعام : 52 ] وقال تعالى : ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾[ الإسراء :19] ونظائره متعددة . كما رغب في " الزهد " وذم ضده في قوله : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾[ هود :15] وقال تعالى : ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾[ التكاثر:1] السورة . وقال تعالى : ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [ الفجر: 19-20] وقال : ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾[العاديات : 6-8 ] وقال تعالى : ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾[ الحديد: 20] الآية ،وهذا باب واسع. (1)
    وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان :
    ( منها ) ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك . فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه ، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه ؛ بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعا إذا مسه الشر جزوعا ؛ وإذا مسه الخير منوعا .
    و ( منها ) ما لا يحتاج العبد إليه فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها ؛ فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها ؛ وربما صار معتمدا على غير الله ، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه ؛ بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله ﷺ : " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار ؛ تعس عبد القطيفة ؛ تعس عبد الخميصة ".(1) وهذا هو عبد هذه الأمور فلو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي ؛ وإذا منعه إياها سخط؛ وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ؛ ويسخطه ما يسخط الله ؛ ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ؛ ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى ؛ وهذا هو الذي استكمل الإيمان . كما في الحديث :" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان "(2).
    وقال ﷺ : " أوثق عرى الإيمان الحب في الله ؛ والبغض في الله"(1) (*)
    ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفسٍ ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلعٍ ؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء . وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره : " من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وفرق عليه ضيعته ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له . ومن أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه ؟ وأتته الدنيا وهي راغمة "(1) . وقال بعض السلف : أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مر على نصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظاما !. قال الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات: 56- 58]. فأما تعيين مكسبٍ على مكسبٍ من صناعةٍ أو تجارةٍ أو بنايةٍ أو حراثةٍ أو غير ذلك؛ فهذا يختلف باختلاف الناس ، ولا أعلم في ذلك شيئا عاما، لكن إذا عن للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير ﷺ ، فإن فيها من البركة ما لا يحاط به . ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية .(1)


    هل الغني يمكن أن يكون زاهدا ؟
    وأما حكم الإسلام في ذلك : فالذي يعاقب الرجل عليه الحب الذي يستلزم المعاصي : فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش ، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا كما في الصحيحين أنه قال : " إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا "(1) وعن كعبٍ عن النبي ﷺ أنه قال : " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " (2). قال الترمذي حديث حسن . فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذي في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه ، ويخاف مقام ربه وينهى النفس عن الهوى ، فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه ؛ لكن إخراج فضول المال، والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب، وأجمع للهم ، وأنفع في الدنيا والآخرة . وقال النبي ﷺ " من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة"(1).
    ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعا في الآخرة كإضاعة المال والعبادات الشاقة التي لم يأمر الله بها ولا رسوله وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس والأموال في الجهاد في سبيل الله وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثيرٍ من العبادات وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود أيضا فالأقسام سبعة : فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود سواء ضر في الدنيا أو نفع أو لم ينفع ولم يضر . وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا .
    وبقي ثلاثة أقسامٍ : ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة وضارا في الدنيا غير نافعٍ في الآخرة والنافع محمود والضار مذموم . والقسم الثالث فيه قولان : قيل : لا حمد فيه ولا ذم . وقيل : بل هو مذموم فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه .
    وأعلى وجوه الذم ، هو ما شغل عن الآخرة ، ولكن الإنسان قد يعدد المصائب وينسى النعم ، فقد يذم أمورا كثيرة لمضرةٍ تلحقه ، ويكون فيها منافع كثيرة لا يذكرها، وهذا الذم من نوع الهلع والجزع كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾[ المعارج : 19-22] إنما الذم المحقق هو : ما يشغل عن مصلحة الآخرة من الواجب ، والنقص هو ما يشغل عن مصلحتها المستحبة ويذم ما ترجحت مضرته على منفعته فيها فهذه ثلاثة أمورٍ هي فصل الخطاب فقد تبين أن المحمود فيها وجودي أو عدمي.(1)
    وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل إلا بفساد وظلمٍ وأما نفس وجود السلطان والمال الذي يبتغى به وجه الله ، والقيام بالحق والدار الآخرة ويستعان به على طاعة الله ، ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله، والجهاد في سبيله ، كما كان النبي ﷺ وأبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ، ولا يصده عن ذكر الله؛ فهذا من أكبر نعم الله تعالى على عبده إذا كان كذلك . ولكن قل أن تجد ذا سلطانٍ أو مالٍ إلا وهو مبطئ مثبط عن طاعة الله ومحبته، متبع هواه فيما آتاه الله ، وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا وأخرى .
    وقد قال تعالى لنبيه ﷺ وأصحابه : ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [ ال عمران:139] فأخبر أنهم هم الأعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وقال تعالى : ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[ محمد: 35]﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾[التوبة : 111] وقال : ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾[النساء :5] فالشرف والمال لا يحمد مطلقا، ولا يذم مطلقا، بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله ، وقد يكون ذلك واجبا؛ وهو ما لا بد منه في فعل الواجبات . وقد يكون مستحبا ؛ وإنما يحمد إذا كان بهذه النية . ويذم ما استعين به على معصية الله ، أو صد عن الواجبات فهذا محرم . وينتقص منه ما شغل عن المستحبات ، وأوقع في المكروهات - والله أعلم - كما جاء في الحديث : " من طلب هذا المال استغناء عن الناس ، واستعفافا عن المسألة ، وعودا على جاره الضعيف والأرملة والمسكين ؛ لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبه مرائيا مفاخرا مكاثرا لقي الله وهو عليه غضبان "(1) وقال : " التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " (2)وقال : " نعم المال الصالح للرجل الصالح".(3)

    $ $ $ $ $
    المطلوب بالزهد
    فظهر بذلك أن المطلوب بالزهد فعل المأمور به من ثلاثة أوجهٍ :
    أحدها : أنه لولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها، بل كان يكون فعله وتركه سواء ، أو يرجح هذا أو يرجح هذا ترجحا دنيويا .
    الثاني : أنه إذا قدر أن شخصين أحدهما يريد الآخرة ويريد الدنيا، والآخر زاهد في الدنيا وفي الآخرة ، لكان الأول منهما مؤمنا محمودا، والثاني كافرا ملعونا ؛ مع أن الثاني زاهد في الدنيا والأول طالب لها، لكن امتاز الأول بفعل مأمورٍ مع ارتكاب محظورٍ ، والثاني لم يكن معه ذلك المأمور به . فثبت أن فعل المأمور به من إرادة الآخرة ينفع؛ والزهد بدون فعل هذا المأمور لا ينفع .
    الثالث : المحمود في الكتاب والسنة إنما هو إرادة الدار الآخرة، والمذموم إنما هو من ترك إرادة الدار الآخرة واشتغل بإرادة الدنيا عنها فأما مجرد مدح ترك الدنيا ، فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ ، ولا تنظر إلى كثرة ذم الناس الدنيا ذما غير ديني، فإن أكثر العامة إنما يذمونها لعدم حصول أغراضهم منها، فإنها لم تصف لأحد قط - ولو نال منها - ما عساه أن ينال ، وما امتلأت دار حبرة إلا امتلأت عبرة .
    فالعقلاء يذمون الجهال الذين يركنون إليها ، ويظنون بقاء الرياسة والمال ، وتناول الشهوات فيها ، وهم مع هذا يحتاجون إلى ما لا بد لهم منه منها ، وأكثرهم طالب لما يذمه منها، وهؤلاء حقيقة ذمهم لها ذم دنيوي لما فيها من الضرر الدنيوي ، كما يذم العقلاء التجارة والصناعة التي لا ربح فيها بل فيها تعب، وكما تذم معاشرة من يضرك ولا ينفعك في التزويج بسيئة الخلق ونحو ذلك من الأمور التي لا تعود مضرتها ومنفعتها إلا إلى الدنيا أيضا
    ولا ريب أن ما فيه ضرر في الدنيا مذموم؛ إذا لم يكن نافعا في الآخرة ، كإضاعة المال والعبادات الشاقة التي لم يأمر الله بها ، ولا رسوله ﷺ ، وما فيه منفعة في الدنيا مذموم إذا كان ضارا في الآخرة ؛ كنيل اللذات وإدراك الشهوات المحرمة ، وكذلك اللذات والشهوات المباحات إذا حصل للعبد بها وهنا وتأخيرا في أمر الآخرة وطلبها؛ وما كان مضرا في الدنيا والآخرة فهو شر وشدة، وما كان نافعا في الآخرة فهو محمود ، وإن كان ضارا في الدنيا كإذهاب النفوس ، والأموال في الجهاد في سبيل الله ، وكذلك ما لم يكن ضارا في الدنيا مثل كثيرٍ من العبادات ، وما كان نافعا في الدنيا والآخرة فهو محمود ؛ أيضا فالأقسام سبعة : فما كان نافعا في الآخرة فهو محمود، سواء ضر في الدنيا أو نفع أو لم ينفع ولم يضر . وما كان ضارا في الآخرة فهو مذموم ، وإن كان نافعا في الدنيا أو ضارا أو لا نافعا ولا ضارا . وبقي ثلاثة أقسامٍ : ما كان نافعا في الدنيا غير ضار في الآخرة ، وضارا في الدنيا غير نافعٍ في الآخرة، والنافع محمود والضار مذموم . والقسم الثالث فيه قولان : قيل : لا حمد فيه ولا ذم . وقيل : بل هو مذموم ؛ فأكثر ذم الناس للدنيا ليس من جهة شغلها لهم عن الآخرة، وإنما هو من جهة ما يلحقهم من الضرر فيها وهي مذمومة من ذلك الوجه . وأعلى وجوه الذم هو ما شغل عن الآخرة.(1)

    $ $ $ $ $

    أنـواع الـزهـد
    فثبت أن مجرد الزهد في الدنيا لا حمد فيه، كما لا حمد على الرغبة فيها، وإنما الحمد على إرادة الله والدار الآخرة والذم على إرادة الدنيا المانعة من إرادة ذلك كما تقدم وكما في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28- 29] ولهذا جرت عادة أهل المعرفة بتسمية هذا : الطالب المريد ؛ فإن أول الخير إرادة الله ورسوله والدار الآخرة ولهذا قال النبي ﷺ " إنما الأعمال بالنيات "(1)
    فثبت أن الزهد الواجب : هو ترك ما ينفع عن الواجب من إرادة الله والدار الآخرة .
    والزهد المستحب : هو ما يشغل عن المستحب من أعمال المقربين والصديقين .
    قال : فمن ترك بزهده حسناتٍ مأمورٍ بها كان ما تركه خيرا من زهده أو فعل سيئاتٍ منهيا عنها . أو دخل في الكسل والبطالات فهو من ﴿ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف: 103-104] . ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقتصدين أصحاب اليمين . ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين . فهذه جملة مختصرة في الزهد وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به ؛ لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم . واحذر أن تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين ؛ فإن الفاسق المؤمن الذي يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا.(1)






    $ $ $ $ $
    أعـلام الزهـاد
    وأما حال " أهل الصفة " هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة، أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم، ومستحقي الفيء منهم . فقال : ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة :271-273] وقال في أهل الفيء : ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8] .
    وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم، يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله ورسوله ﷺ من الكسب ، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله ﷺ ، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام يبعث إليهم النبي ﷺ بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق .
    وأما " المسألة " فكانوا فيها كما أدبهم النبي ﷺ حيث حرمها على المستغني عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان، أن يعطيه حقه من مال الله، أو يسأل إذا كان لا بد سائلا الصالحين الموسرين (1) إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقا حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد : ناولني إياه . وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل . وكلام العلماء لا يسعه هذا المكان . مثل قوله ﷺ لعمر بن الخطاب :" ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائلٍ ولا مشرفٍ فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ." (2) ومثل قوله ﷺ :" من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ." (1) ومثل قوله ﷺ : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه ." (2) ومثل قوله ﷺ : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ". (3) إلى غير ذلك من الأحاديث . وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر : أنهما أتيا أهل قريةٍ فاستطعما أهلها . ومثل قوله ﷺ : " لا تحل المسألة إلا لذي دمٍ موجعٍ أو غرمٍ مفظعٍ أو فقرٍ مدقعٍ "(4) ومثل قوله ﷺ : " لقبيصة بن مخارق الهلالي : يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لثلاثة : رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله : فسأل حتى يجد سدادا من عيشٍ أو قواما من عيشٍ ثم يمسك ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة فسأل حتى يجد سدادا من عيشٍ أو قواما من عيشٍ ثم يمسك . ورجل تحمل حمالة فسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك . وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتا " (1) . ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس ولا الإلحاف في المسألة ، والشحاذة ، لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك (1) كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضولٍ من الأموال يتركون لا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب . بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر؛ من مانعي الزكاة والحقوق الواجبة ، والمتعدين حدود الله تعالى في أخذ أموال الناس ؛ كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم.(2)
    قال : وكانت " مواضع الأئمة ومجامع الأمة " هي المساجد ؛ فإن النبي ﷺ أسس مسجده المبارك على التقوى : ففيه الصلاة والقراءة والذكر ؛ وتعليم العلم والخطب . وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء . وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم . وكذلك عماله في : مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى ، وكذلك عماله على البوادي ؛ فإن لهم مجمعا فيه يصلون وفيه يساسون، كما قال النبي ﷺ :" إن بني إسرائيل كان تسوسهم الأنبياء ؛ كلما ذهب نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : أوفوا ببيعة الأول فالأول واسألوا الله لكم ؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم " (1) . وكان " الخلفاء والأمراء " يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم ؛ لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع . وكان سعد بن أبي وقاص قد بنى له بالكوفة قصرا وقال : أقطع عني الناس فأرسل إليه عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه فاشترى من نبطي حزمة حطب وشرط عليه حملها إلى قصره فحرقه (2)؛ فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته ؛ ولكن بنيت قصور الأمراء . فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي واتخذ المقاصير في المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته واتخذ المراكب ؛ فاستن به الخلفاء الملوك بذلك فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد وإقامة الحدود : لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رءوس الناس فيها كما كانت " الخضراء " لبني أمية قبلي المسجد الجامع والمساجد يجتمع فيها للعبادات والعلم ونحو ذلك .(1)


    $ $ $ $ $ أغلاط الزهاد
    وهؤلاء الذين زهدوا في " الإرادات " حتى فيما يحبه الله ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان :
    (1) - طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله و الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان
    (2) - طائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله لكن لهوى أنفسهم لا لعبادة الله تعالى .
    وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات كما في الصحيحين عن النبي ﷺ : " أنه قيل له : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " (1). قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء :142] وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة ؛ فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم . وهم يشبهون اليهود كما يشبه أولئك النصارى . قال تعالى : ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾[آل عمران :112﴾ وقال تعالى : ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾[ الأعراف : 146] وقال تعالى : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[الأنعام : 175-176] فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق؛ وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق ؛ كما قال تعالى : ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾[المائدة :77]وكلا الطائفتين تاركة ما أمر الله ورسوله به من الإرادات والأعمال الصالحة مرتكبة لما نهى الله ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة .(1)
    وقد يقع الغلط في الزهد من وجوه :
    أحدها : أن قوما زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء واللحم ونحو ذلك وقد قال ﷺ : " لكني أصوم وأفطر ؛ وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني " .(2)
    والثاني : أن زهد هذا أوقعه في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام ، أو سأل الناس المسألة المحرمة ، أو استشرف إليهم والاستشراف مكروه .
    والثالث : من زهد زهد الكسل والبطالة والراحة؛ لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع ؛ فإن العبد إذا كان زاهدا بطالا ، فسد أعظم فساد ؛ فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة، كما قال عبد الله بن مسعود : إني لأكره أن أرى الرجل بطالا ليس في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة . وهؤلاء من أهل النار وكما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ؛ عن عياض بن حمار ؛ عن النبي ﷺ قال : أهل الجنة خمسة فذكر منهم : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا " (1) .
    * فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها ، كان ما تركه خيرا من زهده ؛ أو فعل سيئات منهيا عنها ، أو دخل في الكسل والبطالات فهو من ﴿ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾[الكهف :103 – 104].
    * ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقتصدين أصحاب اليمين .
    * ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقدمين السابقين .
    فهذه جملة مختصرة في الزهد وقد تبين المطلوب الأول إنما هو فعل المأمور به ؛ لأنه يعين عليه وهذا هو المقصود هنا والله أعلم . واحذر أن تغتر بزهد الكافرين والمبتدعين ؛ فإن الفاسق المؤمن الذي يريد الآخرة ويريد الدنيا خير من زهاد أهل البدع وزهاد الكفار إما لفساد عقدهم وإما لفساد قصدهم وإما لفسادهما جميعا (1) .
    فأما كونه مشقا فليس هو سببا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقا ففضله لمعنى غير مشقته؛ والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة ؛كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر : يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي ﷺ لعائشة في العمرة : " أجرك على قدر نصبك " (1) لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر وكذلك الجهاد وقوله ﷺ :" الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ". (2) فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ؛ ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ولم يجعل علينا فيه حرج ولا أريد بنا فيه العسر ؛ وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .
    وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبا مقربا إلى الله ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم . ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ولا منفعة إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .
    ونظير هذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح . وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون وأما الحنفاء فقد قال النبي ﷺ :" لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ".وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد وهو مذموم كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم. والناس أقسام :
    * أصحاب " دنيا محضة " وهم المعرضون عن الآخرة .
    * وأصحاب " دين فاسد " وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات .
    * و " القسم الثالث " وهم أهل الدين الصحيح أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق. (1)
    وأما المعطلة من المتفلسفة ونحوهم : فيغلب عليهم النفي والنهي ؛ فإنهم في عقائدهم الغالب عليهم السلب : ليس بكذا ليس بكذا ليس بكذا . وفي الأفعال الغالب عليهم الذم والترك : من الزهد الفاسد والورع الفاسد : لا يفعل لا يفعل لا يفعل . من غير أن يأتوا بأعمال صالحة يعملها الرجل تنفعه وتمنع ما يضره من الأعمال الفاسدة ؛ ولهذا كان غالب من سلك طرائقهم بطالا متعطلا معطلا في عقائده وأعماله . واتباع الرسل في العلم والهدى والصلاح والخير في عقائدهم وأعمالهم، وهذا بين في أن الذي جاءت به الرسل يغلب عليه الأمر والإثبات وطريق الكافرين من المعطلة ونحوهم يغلب عليه النهي والنفي وهذا من أوضح الأدلة على ترجيح الأمر والإثبات على النهي والنفي.(1)

    $$$$$
    بين الزهادة و الصوفية
    أما لفظ " الصوفية " فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة ، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك،(1) وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ : كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني(2) وغيرهما . وقد روي عن سفيان الثوري(3) أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك
    عن الحسن البصري(1) وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي - فإنه من أسماء النسب : كالقرشي والمدني وأمثال ذلك .
    فقيل : إنه نسبة إلى " أهل الصفة " وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفي .
    وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضا غلط ؛ فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي .
    وقيل نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفوي.
    وقيل : نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن طانجة قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا ؛ لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى ، ولأن غالب من تكلم باسم " الصوفي " لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام .
    وقيل : - وهو المعروف - إنه نسبة إلى لبس الصوف ؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة ، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد،(1) وعبدالواحد من أصحاب الحسن وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ولهذا كان يقال : فقه كوفي وعبادة بصرية .
    وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين(1) : أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال : إن قوما يتخيرون الصوف يقولون : إنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا ، وكان النبي ﷺ يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا . ولهذا غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة ؛ مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه . كقصة زرارة بن أوفى(1) قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر : ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴾[المدثر:8] فخر ميتا . وكقصة أبي جهير الأعمى (2) ، الذي قرأ عليه صالح المري فمات(1) ، وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته ،وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ،ولم يكن في الصحابة من هذا حاله ؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين : كأسماء بنت أبي بكر(2) وعبد الله بن الزبير(3) ومحمد بن سيرين ونحوهم . والمنكرون لهم مأخذان : منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا . يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال : ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم، وهو على حائط فإن خر فهو صادق . ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة، كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله .
    والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء، إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه ، وإن كان حال الثابت أكمل منه ؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان(1) فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد ، فما رأيت أعقل منه ونحو هذا . وقد نقل عن الشافعي (2) أنه أصابه ذلك ، وعلي بن الفضيل بن عياض(1) قصته مشهورة ؛ وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه . لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين ، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال:2] وقال تعالى : ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ل[الزمر :23] وقال تعالى : ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾[مريم :58] وقال : ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾المائدة:َ 83] وقال : ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء :109] . وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين ما هو مذموم، وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها ؛ وكلا طرفي هذه الأمور ذميم . بل المراتب ثلاث :
    أحدها :حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود . قال الله تعالى : ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾[البقرة :74] وقال تعالى : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد: 16]
    و الثانية : حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه؛ فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي، فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد ، وضعف القلب عن حمله. وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية ، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله .
    ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره؛ ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك . فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان ، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة . كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك ، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه : السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها ؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا ، لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة ، فإنه يحرم بلا نزاع بين المسلمين. ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر.
    * وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل : سكران : سكر هوى وسكر مدامة ، ومتى إفاقة من به سكران ، وهذا مذموم لأن سببه محظور.
    * وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضا مذموم فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله، إذ إزالة العقل محرم ومتى أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما ، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا الله أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا ؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع . أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه.
    * وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه ويحرك ساكنه ونحو ذلك.وهذا لا ملام عليه فيه وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور ؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم كالمغمى عليه والمجنون ونحوهما . ومن زال عقله بالخمر . فهل هو مكلف حال زوال عقله ؟ فيه قولان مشهوران وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور.
    * ومن زال عقله بالبنج يلحق به ، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وقيل يفرق بينه وبين الخمر ؛ لأن هذا يشتهى وهذا لا يشتهى ؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا ، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة .
    ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونا إما بسبب خلط يغلب عليه وإما بغير ذلك ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك وقد يسمون المولهين . قال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا ؛ فسلب عقولهم وأسقط ما فرض بما سلب .
    فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك إذا كانت أسبابها مشروعة، وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه، وأصابه بغير اختياره ، وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم، ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله . ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله، أو أكمل منه ؛ فهو أفضل منهم .
    وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا ﷺ فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى ﷺ الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل، وحال موسى حال جليلة علية فاضلة : لكن حال محمد ﷺ أكمل وأعلى وأفضل .
    والمقصود : أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال، خرجت من البصرة وذلك لشدة الخوف فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام (1) وعطاء السليمي(1) وأمثالهما أمر عظيم . ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم .
    ومن خاف الله خوفا مقتصدا، يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة، فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء ؛ وهو حال الصحابة رضي الله عنهم وقد روي : أن عطاء السليمي - رضي الله عنه - رئي بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : قال لي : يا عطاء أما استحيت مني أن تخافني كل هذا أما بلغك أني غفور رحيم . وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة، وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى ما سنه الرسول ﷺ أمور توجب أن يصير الناس طرفين:
    قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم؛ وربما أسرفوا في ذلك .
    وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها .
    والتحقيق ؛ أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون ، كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك . وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس .
    وخيار الناس من " أهل الفقه والرأي " في أولئك الكوفيين على طرفين :
    قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم .
    وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة .
    كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة وهذا باب يفترق فيه الناس
    والصواب : للمسلم أن يعلم؛ أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم ، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم ، كما قال الله تعالى : ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾[التغابن: 16] وقال ﷺ :" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ."(1) وقال : ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾[البقرة :286] . وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة فيتقي الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده فلا بد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم ؛ فإن الله تعالى قال : ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة :285- 286] قال الله تعالى : قد فعلت.(2)
    فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة، فهو مخطئ ضال مبتدع .
    ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع .
    ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته. وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا وأعرض عن حسناته محاط ؟ وحال من يقول بالتحافظ ؟ ( هكذا فى الأصل )، وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة .
    وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو : أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته ، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه فهذا هذا .
    وإذا عرف أن منشأ " التصوف " كان من البصرة وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد مما له فيه اجتهاد ،كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ما له فيه اجتهاد وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف . فقيل في أحدهم : " صوفي " وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال .
    ثم " التصوف " عندهم له حقائق وأحوال معروفة، قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه كقول بعضهم : " الصوفي " من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر . التصوف كتمان المعاني وترك الدعاوى. وأشباه ذلك (1). وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون . كما قال الله تعالى : ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾[النساء : 69] ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي ؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق كما يقال : صديقو العلماء وصديقو الأمراء ، فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم . فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة إنهم صديقون أيضا ، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده ، وقد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع ؛ ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه .
    ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم :
    فطائفة ذمت " الصوفية والتصوف " . وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام .
    وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .
    و " الصواب " أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب . ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه .
    وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج(1) مثلا ؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق . مثل : الجنيد بن محمد سيد الطائفة (1)وغيره .
    كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي (1)؛ في " طبقات الصوفية " وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد . فهذا أصل التصوف .
    ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع وصارت " الصوفية " ثلاثة أصناف : صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم .
    فأما " صوفية الحقائق " : فهم الذين وصفناهم .
    وأما " صوفية الأرزاق " فهم الذين وقفت عليهم الوقوف . كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق . فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك ؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط :
    أحدها : العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .
    و الثاني : التأدب بآداب أهل الطريق وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها .
    و الثالث : أن لا يكون أحدهم متمسكا بفضول الدنيا فأما من كان جماعا للمال أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة ولا يتأدب بالآداب الشرعية أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك .
    وأما " صوفية الرسم " فهم المقتصرون على النسبة فهمهم في اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.(1)
    قال : فهذه الأحوال الفاسدة ، من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال، من جنس خفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى والمشركين والصابئين . في بعض ما لهم من الأحوال ومن كان كاذبا فهو منافق ضال . قال سيد المسلمين في وقته - الفضيل بن عياض (2)- في قوله تعالى ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف : 2] قال : أخلصه وأصوبه . قيل له : يا أبا علي ما أخلصه ؟ وأصوبه ؟ . قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة . وكان يقول : من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا .
    وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشايخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال كما قال عن النصارى ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾[الحديد :27] وقال ابن مسعود : " عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ، فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة .(1) فاحرصوا أن تكون أعمالكم - إن كانت اجتهادا أو اقتصادا - على منهاج الأنبياء وسنتهم " .
    وأما قول القائل : هذه شبكة يصاد بها العوام ، فقد صدق فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس على الطعام . كما قال الله فيهم : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[التوبة : 34] ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذين قيل في رءوسهم : ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾[الأحزاب :66 – 68]. وأما الصادقون منهم : فهم يتخذونه شبكة ، لكن هي شبكة مخرقة ، يخرج منها الصيد إذا دخل فيها كما هو الواقع كثيرا ؛ فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله أورثتهم أحوالا فاسدة . وإلى عبادته ومحبته وطاعته والرغبة إليه والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية والشريعة القرآنية والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة . وإذا كان غير مشروع ولا مأمور به، فالتطهر أو الإنصات له ، واستفتاح باب الرحمة، هو من جنس عادة الرهبان ليس من عبادة أهل الإسلام والإيمان ولا عبادة أهل القرآن ولا من أهل السنة والإحسان . والحمد لله وحده(1).
    $ $ $ $ $

    تسمية الزهّاد بالصوفية
    وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم " القراء " فيدخل فيهم العلماء والنساك ثم حدث بعد ذلك اسم " الصوفية والفقراء " .
    واسم " الصوفية " هو نسبة إلى لباس الصوف ؛ هذا هو الصحيح ، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء ، وقيل إلى صوفة بن أد بن طانجة قبيلة من العرب؛ كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة وقيل إلى الصفا وقيل إلى الصفوة ، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى ، وهذه أقوال ضعيفة ، فإنه لو كان كذلك لقيل صفي أو صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل صوفي . وصار أيضا اسم " الفقراء "، يعني به أهل السلوك وهذا عرف حادث . (1)
    وكان " للزهاد " عدة أسماء : يسمون بالشام " الجوعية " ويسمون بالبصرة " الفقرية " و " الفكرية " ويسمون بخراسان " المغاربة " ويسمون أيضا " الصوفية والفقراء " .
    والنسبة في " الصوفية " إلى الصوف ؛ لأنه غالب لباس الزهاد . وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت . وأما من قال : هم نسبة إلى " الصفة " فقد قيل : كان حقه أن يقال : صفية وكذلك من قال : نسبة إلى الصفا ؛ قيل له : كان حقه أن يقال : صفائية . ولو كان مقصورا لقيل صفوية ؛ وإن نسب إلى الصفوة قيل : صفوية . ومن قال : نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله . قيل له : كان حقه أن يقال : صفية ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة ؛ إذا أعطي الاسم حقه من جهة العربية .
    لكن " التحقيق " أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط دون الاشتقاق الأصغر ؛ كما قال أبو جعفر " العامة " اسم مشتق من العمى ؛ فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب، وهو الاشتقاق الأوسط أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر . وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين " الاسم " مشتق من السمة . وكذلك إذا قيل الصوفي من " الصفا " وأما إذا قيل هو من " الصفة " أو " الصف " فهو على الأكبر .
    وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة : كأحمد بن حنبل وغيره . وقد تكلم به أبو سليمان الداراني ، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية وكذلك مالك (1)- فيما أظن - وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني وليوسف بن الحسين الرازي ولبدر بن أبي بدر المغازلي وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم، ومن العباد أيضا من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأهل الحديث والعباد ومدحه آخرون .
    و " التحقيق " فيه : أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره . من الطريق وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا وقد لا يكون وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في " الرأي " فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة و " القاعدة " التي قدمتها تجمع ذلك كله وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يحصى عده.(1)





    $ $ $ $ $

    زهد عوام أهل السنة أرجح من زهد كبار الصوفية

    المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال : إما عن سوء عقيدة ونفاق ، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان . ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهر لكل أحد ، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة ، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه .(1)



    $ $ $ $ $
    الفقير فى كتاب الله
    أصل هذه " المسألة " أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة، علينا أن نتبع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان والصبر والشكر والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله ، من القلب والبدن . فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله ، مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله : كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك .
    فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله ، فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه . هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
    وهذا " الصراط المستقيم " يشتمل على علم وعمل : علم شرعي وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا ، ومن عمل بغير علم كان ضالا ، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ . قال النبي ﷺ :" اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به والنصارى عبدوا الله بغير علم "(1) .
    ولهذا كان السلف يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . وكانوا يقولون : من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى . فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلا ، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع ؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات .
    وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع ، فيعمل أعمالا تخالف الأعمال المشروعة، يظنها عبادات وهي ضلالات . فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر ؛ يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل والعمل دون العلم ، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة . وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافقا الشريعة .
    فالسالك طريق " الفقر والتصوف والزهد والعبادة " إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالا عن الطريق وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه .
    والسالك من " الفقه والعلم والنظر والكلام " إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه ، وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق . فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم .
    وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ؛ فهو من عمل الجاهلية . ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾[القصص:50] . ولا ريب أن لفظ " الفقر " في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم، لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله وفعل ما أمر به . وترك ما نهي عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك ؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى .
    و " الفقراء " هم الذين ذكرهم الله في قوله : ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾[التوبة :60] وفي قوله : ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾[البقرة : 273]وفي قوله : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾[الحشر: 8].
    و " الغني " هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة أو الذي تجب عليه الزكاة أو ما يشبه ذلك ؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها ؛ إذ من العصمة أن لا تقدر وصار المتأخرون كثيرا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد ، والزهد قد يكون مع الغنى وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير . (1)



    $ $ $ $ $
    أيهما أفضل الفقير الصابر أم الغني الشاكر ؟
    قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل " الفقير الصابر أو الغني الشاكر " ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة ، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب " التمام لكتاب الروايتين والوجهين " لأبيه فيها عن أحمد روايتين :
    إحداهما : أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحاق بن شاقلا ووالده القاضي أبو يعلى ونصرها هو . (1)
    و الثانية : أن الغني الشاكر أفضل اختاره جماعة منهم ابن قتيبة .
    و " القول الأول " يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه والصلاح من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره
    و " القول الثاني " يرجحه طائفة منهم . كأبي العباس بن عطاء وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعا وهو غلط .
    وفي المسألة " قول ثالث " وهو الصواب ، أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقا ، ولا هذا أفضل من هذا مطلقا ، بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم﴾[الحجرات :13] وقال عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيتهما ركبت (1). وقد قال تعالى : ﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ وهذا القول اختيار طائفة منهم: الشيخ ابن حفص السهروردي (2)، وقد يكون هذا أفضل لقوم وفي بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم وفي بعض الأحوال ، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه ؛ هذا هو الحكم العام .
    والفقر والغني حالان يعرضان للعبد باختياره تارة، وبغير اختياره أخرى ، كالمقام والسفر والصحة والمرض والإمارة والائتمار والإمامة والائتمام . وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر ؛ بل قد يكون هذا أفضل في حال ؛ وهذا في حال وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في شرح السنة للبغوي عن أنس عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه تعالى : " وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ؛ ولو أفقرته لأفسده ذلك ؛ وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي ؛ إني بهم خبير بصير " (1). وفي هذا المعنى ما يروى : " إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا ؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب " (1). ويروى في مناجاة موسى نحو هذا . ذكره أحمد في الزهد . فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر كما في الحديث الآخر :" نعم المال الصالح للرجل الصالح ".(2)
    وكما أن الأقوال في المسألة " ثلاثة " فالناس ثلاثة أصناف :
    غني وهو من ملك ما يفضل عن حاجته .
    وفقير ؛ وهو من لا يقدر على تمام كفايته .
    وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته ؛
    * ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيا : كإبراهيم الخليل وأيوب وداود وسليمان وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري وعبادة بن الصامت ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .
    * وفيهم من كان فقيرا : كالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري ومصعب بن عمير وسلمان الفارسي ونحوهم ، ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.
    * وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى ؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا ﷺ . وأبي بكر وعمر . والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط ؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر ولا غنى كما لم يفضل أحدا بصحة ولا مرض . ولا إقامة ولا سفر ولا إمارة ولا ائتمار ولا إمامة ولا ائتمام ؛ بل قال : ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ وفضلهم بالأعمال الصالحة : من الإيمان ودعائمه وشعبه كاليقين والمعرفة ومحبة الله والإنابة إليه والتوكل عليه ورجائه وخشيته وشكره والصبر له . وقال في آية العدل : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾[المائدة:135] . ولذلك كان النبي ﷺ وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين . غنيهم وفقيرهم في أمورهم . ولما طلب بعض الأغنياء من النبي ﷺ إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك . وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه . فقال : ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه ﴾[الأنعام : 52] . وقال : ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾[الكهف :28] ولما طلب بعض الفقراء من النبي ﷺ ما لا يصلح له نهاه عن ذلك . وقال : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين . ولا تولين مال يتيم "(1) . وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده وفي الاصطفاف خلفه ؛ وغير ذلك .
    ومن اختص منهم بفضل عرف النبي ﷺ له ذلك الفضل كما قنت للقراء السبعين ، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضا لعثمان وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد بن بشر ونحوهم من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء .
    وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد وابن المبارك ومالك وأحمد بن حنبل . وغيرهم . في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء . وفي الأئمة كالثوري ونحوه، من كان يميل إلى الفقراء ويميل على الأغنياء، مجتهدا في ذلك طالبا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره ورجع عنه . وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري ورجاء بن حيوة وأبي الزناد وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين ، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك ، ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هو العدل والقسط الذي دل عليه الكتاب والسنة .
    ونصوص النبي ﷺ معتدلة فإنه قد روي :" أن الفقراء قالوا له : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور . يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال : ألا أعلمكم شيئا ؟ إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة . فجاءوا إليه فقالوا : إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه فقال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ."(1) وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح (2)فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية . وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه ﷺ قال :" يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم - خمسمائة عام - وفي رواية بأربعين خريفا ."(1)
    فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين، بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين وكلاهما حق ؛ فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب؛ فيسبق في الدخول وهو أحوج إلى سرعة الثواب لما فاته في الدنيا من الطيبات .
    والغني يحاسب ، فإن كان محسنا في غناه غير مسيء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول، وإن كان مثله ساواه ، وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .
    ونظير هذا قوله ﷺ في " حوضه " : الذي طوله شهر وعرضه شهر : " ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، أول الناس علي وردا فقراء المهاجرين : الدنسين ثيابا الشعث رءوسا الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء ."(1) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا، من اللأواء والشدة . وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعا في الإطعام ، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين، لاستحقاقه ذلك ، ببذله عنده أو غير ذلك .
    وليس في المسألة عن النبي ﷺ أصح من هذين الحديثين، وفيها الحكم الفصل : إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل . وهذا قد يترجح تارة ، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومع كل ألف سبعون ألفا ؛ وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم .
    وما روي : " أن ابن عوف يدخل الجنة حبوا "(1) كلام موضوع لا أصل له ؛ فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة ، أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة . وقد ثبت في الصحاح أنه قال : " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ."(1) وثبت في الصحاح أيضا أنه قال : " احتجت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار : ما لي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ."(2) وقوله : " وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين وإذا أصحاب الجد محبوسون إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار "(3) هذا مع قوله ﷺ في الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ." (4)
    فهذه الأحاديث فيها معنيان :
    أحدهما : أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين لا دار المتكبرين الجبارين ، سواء كانوا أغنياء أو فقراء ؛ فإنه قد ثبت في الصحيح :" أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان . فقيل : يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال : لا - إن الله جميل يحب الجمال ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس ." (1) فأخبر ﷺ أن الله يحب التجمل في اللباس الذي لا يحصل إلا بالغنى وأن ذلك ليس من الكبر . وفي الحديث الصحيح : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : فقير مختال وشيخ زان وملك كذاب ."(2) وكذلك الحديث المروي : " لا يزال الرجل يذهب بنفسه ثم يذهب بنفسه ثم يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله جبارا وما يملك إلا أهله "(3) .
    فعلم بهذين الحديثين : أن من الفقراء من يكون مختالا ؛ لا يدخل الجنة . وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر ؛ يحب الله جماله . مع قوله ﷺ في الحديث الصحيح :" إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ."(1) ومن هذا الباب قول هرقل لأبي سفيان : أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : وهم أتباع الأنبياء .(2) وقد قالوا لنوح : ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾[الشعراء:111] . فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته ؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك بخلاف المستضعفين .
    وفي هذا المعنى الحديث المأثور - إن كان محفوظا – " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين "(3) فالمساكين ضد المتكبرين . وهم الخاشعون لله . المتواضعون لعظمته الذين لا يريدون علوا في الأرض . سواء كانوا أغنياء أو فقراء .
    ومن هذا الباب إن الله خيره ﷺ : بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا (1)؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده ؛ لا لأجل حظه وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه وإن كان مباحا . كما قيل لسليمان : ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[ص: 39] .
    ففي هذه الأحاديث : أنه اختار العبودية والتواضع . وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه . كما قال : ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[آل عمران :139] وقال : ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾[المنافقون :8] ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له .
    وقد أعطي مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره ، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق والإنفاق في سبيل الله والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع بل قد يضر، وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على ما لم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين وكان سابقا في حالي الفقر والغنى لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما كبعض أصحابه وأمته .
    المعنى الثاني : أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء؛ فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر ، فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط ؛ ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء لأن المظنة فيهم أكثر . فهذا هذا والله أعلم .
    فلهذا السبب ؛ صارت المسكنة نسبته ، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر؛ وليس كذلك . بل الفقر هنا عدم المال والمسكنة خضوع القلب وكان النبي ﷺ يستعيذ من فتنة الفقر وشر فتنة الغنى (1)وقال بعض الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر وقد قال ﷺ :" والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها ."(2) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى والمهاجرون أفضل من الأنصار وكان في المهاجرين أغنياؤهم من أفضل المهاجرين مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه.(1)



    $ $ $ $ $
    الكتب المصنفة فى الزهد
    والذين جمعوا الأحاديث في " الزهد والرقائق " يذكرون ما روي في هذا الباب ، ومن أجل ما صنف في ذلك وأندره " كتاب الزهد " لعبد الله بن المبارك .(1) وفيه أحاديث واهية ، كذلك " كتاب الزهد " لهناد بن السري(2)
    ولأسد بن موسى(1) وغيرهما . وأجود ما صنف في ذلك : " الزهد " للإمام أحمد لكنه مكتوب على الأسماء ، وزهد ابن المبارك على الأبواب . وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء والصحابة والتابعين . ثم إن المتأخرين على صنفين :
    منهم من ذكر زهد المتقدمين والمتأخرين . كأبي نعيم في الحلية(2) وأبي الفرج بن الجوزي(3) في " صفة الصفوة " . ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين من حين حدث اسم الصوفية، كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في " طبقات الصوفية " وصاحبه أبو القاسم القشيري(1) في الرسالة، ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء بمجردها :
    مثل ابن خميس(2) وأمثاله فيذكرون حكايات مرسلة بعضها صحيح وبعضها باطل .
    مثل ذكرهم : أن الحسن صحب عليا . وقد اتفق أهل المعرفة على أن " الحسن البصري " لم يلق عليا ولا أخذ عنه شيئا وإنما أخذ عن أصحابه : كالأحنف بن قيس وقيس بن معاذ وغيرهما .
    وكذلك حكاياتهم : أن الشافعي وأحمد اجتمعا لشيبان الراعي ، وسألاه عن سجود السهو. وكذلك اتفق أهل المعرفة على أن الشافعي وأحمد لم يلقيا شيبان الراعي بل ولا أدركاه .
    وقد ذكر أبو عبد الرحمن في " حقائق التفسير " عن جعفر بن محمد وأمثاله من الأقوال المأثورة ما يعلم أهل المعرفة أنه كذب على جعفر بن محمد، فإن جعفرا كذب عليه ما لم يكذب على أحد ؛ لأنه كان فيه من العلم والدين ما ميزه الله به، وكان هو وأبوه - أبو جعفر - وجده - علي بن الحسين - من أعيان الأئمة علما ودينا ولم يجئ بعد جعفر مثله [ وفي أهل البيت ] . فصار كثير من أهل الزندقة والبدع ينسب مقالته إليه حتى أصحاب " رسائل إخوان الصفا "(1) ينسبونها إليه .
    وهذه الرسائل صنفت بعد موته بأكثر من مائتي سنة، صنفت عند ظهور مذهب الإسماعيلية العبيديين الذين بنوا القاهرة وصنفت على مذهبهم الذي ركبوه من قول الفلاسفة اليونان ومجوس الفرس والشيعة من أهل القبلة ؛ ولهذا قال العلماء : إن ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض . ونسبوا إلى جعفر أنه تكلم في تقدم المعرفة عن حوادث الكون : مثل اختلاج الأعضاء والرعود والبروق والهفت وغير ذلك مما نزه الله جعفرا وأئمة أهل بيته عن الكلام فيه . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
    و المقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات : ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وضعيفه كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات والنظريات، وكذلك في الأذواق والمواجيد والمكاشفات والمخاطبات ؛ فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة ؛ فيها حق وباطل ولا بد من التمييز في هذا وهذا .
    وجماع ذلك: أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه وما كان عليه أصحابه فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل . فإن الله يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء:59] وقال تعالى . ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[البقرة :213]. وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ : كان إذا قام من الليل يقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "(1) . والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.(*)
    وكذلك من صنف في " التصوف " و " الزهد " جعل الأصل ما روي عن متأخري الزهاد - وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين كما فعل صاحب " الرسالة " أبو القاسم القشيري وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي وابن خميس الموصلي في " مناقب الأبرار " ؛ وأبو عبد الرحمن السلمي في " تاريخ الصوفية" لكن أبو عبد الرحمن صنف أيضا " سير السلف " من الأولياء والصالحين . وسير الصالحين من السلف كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم من ذكرهم لأخبار أهل " الزهد والأحوال " من بعد القرون الثلاثة ، من عند إبراهيم بن أدهم(1) والفضيل بن عياض وأبي سليمان ا لداراني ومعروف الكرخي(1) ومن بعدهم وإعراضهم عن حال الصحابة والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم والثناء عليهم والرضوان عنهم . وكان أحسن من هذا أن يفعلوا كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في " الحلية " من ذكره للمتقدمين والمتأخرين . وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في " صفوة الصفوة " وكذلك أبو القاسم التيمي في " سير السلف " وكذلك ابن أسد بن موسى إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد الله بن المبارك . وأحمد بن حنبل . وهناد بن السري وغيرهم في كتبهم في الزهد فهذا هذا . والله أعلم وأحكم . فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعا . إذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة.

    الــــورع

    تعريف الورع(1)

    "الورع المشروع " هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة وهو ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾[المائدة:87](2)
    وكذلك " الورع " المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته، وهو ما يعلم تحريمه وما يشك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله - مثل محرم معين - مثل من يترك أخذ الشبهة ورعا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينا تحريمه ، أو يترك واجبا تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة؛ كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها ، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة، فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة. وكذلك من " الورع " الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه .



    $ $ $ $ $

    تـمام الــورع
    وتمام " الورع " أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات ، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق ، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.(1)


    $ $ $ $ $

    أهمـية الـــورع
    وقررت أيضا أن الورع المشروع هو أداء الواجب وترك المحرم ليس هو ترك المحرم فقط وكذلك التقوى اسم لأداء الواجبات وترك المحرمات . كما بين الله حدها في قوله : ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[البقرة :177] .
    ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل أو المال من كراهة توجب تركه ، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله . مثال ذلك ما سئل عنه أحمد : عن رجل ترك مالا فيه شبهة وعليه دين فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه ؟ فقال له أحمد : أتترك ذمة أبيك مرتهنة ، ذكرها أبو طالب وابن حامد .
    وهذا عين الفقه ؛ فإن قضاء الدين واجب والغريم حقه متعلق بالتركة فإن لم يوف الوارث الدين، وإلا فله استيفاؤه من التركة فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة التي تعلق بها حق الغريم ولا يجوز أيضا إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة .
    ففي الإعراض عن التركة إضرار الميت وإضرار المستحق وهذان ظلمان محققان بترك واجبين . وأخذ المال المشتبه يجوز أن يكون فيه ضرر المظلوم . فقال أحمد للوارث : أبرئ ذمة أبيك . فهذا المال المشتبه خير من تركها مرتهنة بالأعراض . وهذا الفعل واجب على الوارث وجوب عين إن لم يقم غيره فيه مقامه أو وجوب كفاية أو مستحب استحبابا مؤكدا أكثر من الاستحباب في ترك الشبهة ؛ لما في ذلك من المصلحة الراجحة .
    وهكذا جميع الخلق عليهم واجبات : من نفقات أنفسهم وأقاربهم وقضاء ديونهم وغير ذلك . فإذا تركوها كانوا ظالمين ظلما محققا . وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم . فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق ولهذا قال سعيد بن المسيب : لا خير فيمن لا يحب المال : يعبد به ربه ويؤدي به أمانته ويصون به نفسه ويستغني به عن الخلق (1). وفي السنن عن النبي ﷺ قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغارم يريد الوفاء " (2)فذكر في هذا الحديث ما يحتاج إليه المؤمن : عفة فرجه ؛ وتخليص رقبته وبراءة ذمته . فأخبر أن هذه الواجبات من عبادة الله وقضاء الديون ؛ وصيانة النفس والاستغناء عن الناس . لا تتمم إلا بالمال . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ومن لا يحب أداء مثل هذا الواجب العظيم الذي لا يقوم الدين إلا به فلا خير فيه . فهذه ملة ولها تفاصيل كثيرة ، والله أعلم(1).


    $ $ $ $ $
    حقيقــة الـورع
    وأما " الورع " فإنه الإمساك عما قد يضر فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر . فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه . وأما " الورع " عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة - لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة - فجهل وظلم . وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة : كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة .(2)
    وأما " الورع " فهو اجتناب الفعل واتقاؤه والكف والإمساك عنه والحذر منه ؛ وهو يعود إلى كراهة الأمر والنفرة منه والبغض له وهو أمر وجودي أيضا - وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي . هل هو عدم المنهي عنه أو فعل ضده ؟ وأكثر أهل الإثبات على الثاني - فلا ريب أنه لا يسمى ورعا ومتورعا ومتقيا إلا إذا وجد منه الامتناع والإمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه .
    التحقيق : أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك ومع وجود الامتناع والاتقاء والاجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى فيحصل له منفعة هذا العمل من حمده وثوابه وغير ذلك . فعدم المضرة لعدم السيئات ووجود المنفعة لوجود الحسنات .(1)
    فأما الْورع الْمشْروع الْمسْتحب الذي بعث الله به محمدا ﷺ فهو : اتقاء منْ يخاف أنْ يكون سببا للذم والْعذاب عنْد عدم الْمعارض الراجح . ويدْخل في ذلك أداء الْواجبات والْمشْتبهات التي تشْبه الْواجب وترْك الْمحرمات والْمشْتبهات التي تشْبه الْحرام وإنْ أدْخلتْ فيها الْمكْروهات قلْت : نخاف أنْ يكون سببا للنقْص والْعذاب .(2) والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما .




    $ $ $ $ $
    القواعد والأصول فى الورع
    و " الورع " من قواعد الدين ففي الصحيح عن نعمان بن بشير عن النبي ﷺ أنه قال : " الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب "(3) . وفي الحديث الآخر : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "(1) ،" ورأى تمرة ساقطة فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها " (2). وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . وهذا يتبين بذكر أصول:
    أحدها : أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما ؛ إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول . ومن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيها معينا أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك وهذا غلط ولهذا نظائر .(1)
    $ $ $ $ $

    أحــكام الــورع
    * وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب ، وهو فعل الواجب وترك المحرم والفرق بينهما فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه ؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه ؛ فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع ، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع .
    وقولي عند عدم المعارض الراجح؛ فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثما من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه .(1)
    * فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمدا ﷺ فهو : اتقاء من يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح . ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام،وإن أدخلت فيها المكروهات قلت:نخاف أن يكون سببا للنقص والعذاب .(1)
    * والأصل في الورع المشتبه قول النبي ﷺ " الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه " وهذا في الصحيحين . وفي السنن قوله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وقوله : " البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب " وقوله في صحيح مسلم في رواية : " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس " وإنه رأى على فراشه تمرة فقال : لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها ".(2)


    $ $ $ $ $

    شـروط الــورع

    واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به ؛ من الإخلاص أما في الورع بفعل المأمور به فظاهر ؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه.
    وأما بترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ، ورعا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها ؛ وإن لم يعاقب عليها . وإن تركها لوجه الله أثيب عليها ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه؛ من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه .
    ورجاء رحمته وخشية عذابه من الأمور الوجودية المأمور بها ، فتبين أن الورع لا يكون عملا صالحا إلا بفعل المأمور به من الرجاء والخشية وإلا فمجرد الترك العدمي لا ثواب فيه .(1)

    $ $ $ $ $

    الأغـلاط فى الــورع
    يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات :
    * أحدها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك ، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب ، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة ؛ ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة ؛ لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه ، إما عينا وإما كفاية ، وقد تعينت عليه من صلة رحم ؛ وحق جار ومسكين ؛ وصاحب ويتيم وابن سبيل ؛ وحق مسلم وذي سلطان ؛ وذي علم . وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر ؛ وعن الجهاد في سبيل الله ؛ إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه؛ أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك . وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار ؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة ؛ والحج والجهاد ؛ ونصيحة المسلمين والرحمة لهم وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة كالأئمة الأربعة وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة .
    * الجهة الثانية : من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه؛ فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى ؛ وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة ؛ فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه :﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّاالظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾[النجم :23] وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات ؛ فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم ؛ وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة ، أو كلها وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان ؛ لأنه مستحق لها وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ، ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة .
    وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وذم المتنطعين في الورع . وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :" هلك المتنطعون قالها ثلاثا "(1) .
    وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب . بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام .
    ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول ﷺ في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال : " ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم" وفي رواية : " أخشاهم وأعلمهم بحدوده له "(1) وكذلك حديث صاحب القبلة (2).
    ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم .
    * الثالثة : جهة المعارض الراجح . هذا أصعب من الذي قبله ؛ فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع ؛ ولا لحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح ؛ وبالعكس فهذا هذا . وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط ؛ وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة ، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه؛ فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب
    وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة ؛ فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد وكذلك أهل الزهد الناقص أو الفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح فترك فضول المباح الذي لا ينفع في الدين زهد وليس بورع ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " قال الترمذي حديث حسن صحيح(1)
    فذم النبي ﷺ الحرص على المال والشرف وهو الرياسة والسلطان وأخبر أن ذلك يفسد الدين ؛ مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم . وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل الصالح، فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل وهذان هما المذكوران في قوله تعالى ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾[الحاقة :28-29] وهما اللذان : ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون ، وذكر علوه في الأرض وهو الرياسة والشرف والسلطان ، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال، هذا ثم قال : ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ﴾[القصص: 83] كحال فرعون وقارون ؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد .
    وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق ، لا يحصل إلا بفساد وظلم. وأما نفس وجود السلطان والمال الذي يبتغى به وجه الله والقيام بالحق والدار الآخرة، ويستعان به على طاعة الله ولا يفتر القلب عن محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما كان النبي ﷺ وأبو بكر وعمر ولا يصده عن ذكر الله؛ فهذا من أكبر نعم الله تعالى على عبده إذا كان كذلك . ولكن قل أن تجد ذا سلطان أو مال إلا وهو مبطئ مثبط عن طاعة الله ومحبته ، متبع هواه فيما آتاه الله ، وفيه نكول حال الحرب والقتال في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فبهذه الخصال يكتسب المهانة والذم دنيا وأخرى .
    وقد قال تعالى لنبيه وأصحابه : ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾[آل عمران:139] فأخبر أنهم هم الأعلون وهم مع ذلك لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وقال تعالى : ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾[محمد:35] ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾[التوبة : 111]وقال:﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء:5]
    فالشرف والمال لا يحمد مطلقا، ولا يذم مطلقا بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله، وقد يكون ذلك واجبا وهو ما لا بد منه في فعل الواجبات . وقد يكون مستحبا . وإنما يحمد إذا كان بهذه النية . ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات فهذا محرم . وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات . والله أعلم.(1)
    ومن الناس من آل به الإفراط في الورع إلى أمر اجتهد فيه فيثاب على حسن قصده ؛ وإن كان المشروع خلاف ما فعله . مثل من امتنع من أكل ما في الأسواق ولم يأكل إلا ما ينبت في البراري ولم يأكل من أموال المسلمين ؛ وإنما يأكل من أموال أهل الحرث وأمثال ذلك مما يكون فاعله حسن القصد ولا فيما فعل تأويل ؛ لكن الصواب المشروع خلاف ذلك ؛ فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بذلك وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾[المؤمنون:51] وقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾[البقرة : 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء . يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ."(2) فقد بين ﷺ أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين من أكل الطيبات . كما أمرهم بالعمل الصالح؛ والعمل الصالح لا يمكن إلا بأكل وشرب ولباس ، وما يحتاج إليه العبد من مسكن ومركب وسلاح يقاتل به ، وكراع يقاتل عليه وكتب يتعلم منها، وأمثال ذلك مما لا يقوم ما أمر الله به إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    فإذا كان القيام بالواجبات فرضا على جميع العباد، وهي لا تتم إلا بهذه الأموال فكيف يقال : إنه قليل ؛ بل هو كثير غالب ؛ بل هو الغالب على أموال الناس . ولو كان الحرام هو الأغلب والدين لا يقوم في الجمهور إلا به للزم أحد أمرين : إما ترك الواجبات من أكثر الخلق . وإما إباحة الحرام لأكثر الخلق وكلاهما باطل .(1)
    فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد؛ كيف أورث الانحلال عن دين الإسلام، وهؤلاء يحكون في الورع الفاسد حكايات بعضها كذب ممن نقل عنه وبعضها غلط . كما يحكون عن الإمام أحمد : أن ابنه صالحا لما تولى القضاء لم يكن يخبز في داره ، وأن أهله خبزوا في تنوره، فلم يأكل الخبز فألقوه في دجلة فلم يكن يأكل من صيد دجلة . وهذا من أعظم الكذب والفرية على مثل هذا الإمام ؛ ولا يفعل مثل هذا إلا من هو من أجهل الناس أو أعظمهم مكرا بالناس واحتيالا على أموالهم ؛ وقد نزهه الله عن هذا وهذا .
    وكل عالم يعلم أن ابنه لم يتول القضاء في حياته وإنما تولاه بعد موته ؛ ولكن كان الخليفة المتوكل قد أجاز أولاده وأهل بيته جوائز من بيت المال فأمرهم أبو عبد الله أن لا يقبلوا جوائز السلطان ،فاعتذروا إليه بالحاجة، فقبلها من قبلها منهم فترك الأكل من أموالهم والانتفاع بنيرانهم في خبز أو ماء ؛ لكونهم قبلوا جوائز السلطان . وسألوه عن هذا المال : أحرام هو ؟ فقال : لا . فقالوا أنحج منه ؟ فقال : نعم . وبين لهم أنه إنما امتنع منه لئلا يصير ذلك سببا إلى أن يداخل الخليفة فيما يريد كما قال النبي ﷺ :" خذ العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا يأخذه ".(1) ولو ألقي في دجلة الدم والميتة ولحم الخنزير وكل حرام في الوجود لم يحرم صيدها ولم تحرم .(2)

    $ $ $ $ $
    الفرق بين الزهد و الورع
    الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح فترك فضول المباح الذي لا ينفع في الدين زهد وليس بورع.(1)
    فتلخص أن " الزهد " من باب عدم الرغبة والإرادة في المزهود فيه . و " الورع " من باب وجود النفرة والكراهة للمتورع عنه، وانتفاء الإرادة إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة " .
    وأما وجود الكراهة فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة فأما إذا فرض ما لا منفعة فيه ولا مضرة أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه ؛ فهذا لا يصلح أن يراد ولا يصلح أن يكره فيصلح فيه الزهد ولا يصلح فيه الورع.
    فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد من غير عكس وهذا بين . فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه ، صلح ألا يراد ولا يرغب فيه فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة ؛ ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس . وليس كل ما صلح ألا يراد يصلح أن يكره ؛ بل قد يعرض من الأمور ما لا تصلح إرادته ولا كراهته ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به ولا النهي عنه .
    وبهذا يتبين : أن الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع ؛ وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع .
    وأما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل . وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل . هل هو مأمور به ؟ أو منهي عنه ؟ أو مباح ؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأمورا به أو منهيا عنه أو اقترن بالمأمور به ما يجعله منهيا عنه وبالعكس . فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها ؛ يحتاج إلى الفرقان .(1)




    $ $ $ $ $

    b

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

    فهرس الموضوعات
    تقديم شيخنا العلامة أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
    حفظه الله تعالى 1
    المقدمة 2
    ترجمة موجزة لشيخ الإسلام رحمه الله 3
    الـزهـد 4
    تعريف الزهد 4
    أصول علم الزهد وغيره 6
    حقيقـة الـزهد 10
    فصل : 11
    الترغيب فى الزهد 14
    هل الغني يمكن أن يكون زاهدا ؟ 18
    المطلوب بالزهد 23
    أنـواع الـزهـد 25
    أعـلام الزهـاد 27
    أغلاط الزهاد 34
    بين الزهادة و الصوفية 39
    تسمية الزهّاد بالصوفية 65
    زهد عوام أهل السنة أرجح من زهد كبار الصوفية 69
    الفقير فى كتاب الله 70
    أيهما أفضل الفقير الصابر أم الغني الشاكر ؟ 74
    الكتب المصنفة فى الزهد 90
    الــــورع 102
    تعريف الورع 102
    تـمام الــورع 104
    أهمـية الـــورع 105
    حقيقــة الـورع 108
    القواعد والأصول فى الورع 110
    أحــكام الــورع 112
    شـروط الــورع 114
    الأغـلاط فى الــورع 115
    الفرق بين الزهد و الورع 122
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو إبراهيم علي مثنى; الساعة 17-05-2009, 07:33 PM.
يعمل...
X