[أعراض القلوب]
خطبة جمعة بتاريخ: (19 رمضان 1429هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
================================
منقول من موقع الشيح -حفظه الله-
خطبة جمعة بتاريخ: (19 رمضان 1429هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
================================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[الأنفال:24] , في هذه الآية أبان الله سبحانه وتعالى علاجاً عظيماً للقلوب وهو الاستجابة لله ولرسول فإن دعوه الله ودعوه رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حياة القلوب، ولا حياة للقلوب إلا بذلك، وأن من لم يعمل بذلك هو عرضة إلى أن يحال بينه وبين قلبه، وإنها والله لمصيبة عظيمة حين أن يحال بين الإنسان وبين قلبه وهو في جوفه، فلا يستطيع أن يقول ما يريد، ولا أن يفعل ما يريد ما يراه أنفع وما يرى المؤمنين يعملونه، وما ذلك إلا لتمرد قلبه عليه، هذه آية تدل على أن القلب قد يتمرد إذا أصيب بالإحالة بينه وبين ما يريد صاحبه أو يراه صاحبه يعمله المؤمنون، فإن القلوب قد تمرض قال الله عز وجل في أول سورة البقرة: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[البقرة:10], أي زاد الله تلك القلوب مرضاً وإن كانت أجسامهم صحيحة، لكن لما مرضت القلوب، مرض القلوب يجر بعضه بعضاً ويتزايد إلا أن يتدارك الله صاحبه، فهو أشد وأعتى وأعصى وأصعب من أمراض الأجسام، فإن مرض الجسم أهون على ابن آدم بكثير من ذلك، القلوب قد تشمئز وتنقبض قال الله مبيناً ذلك: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الزمر:45]، هذه قلوب مختلفة، عند ذكر الله عز وجل تشمئز وتنقبض، وعند ذكر غير الله سبحانه وتعالى وذكر المعاصي واللهو تستبشر وتستريح، قلوب مختلفة قلوب مرضى، هذه القلوب قد تغفل، القلوب قد تغفل وسرعان ما تغفل، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[الأعراف:179].
فبسبب غفلة قلوبهم المسيطرة عليهم صاروا في عداد الأنعام، وصاروا في حيز الحيوانات وإن كانوا في صور وأشكال بني آدم بل صاروا أضل: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾[الأعراف:179]، وقال الله عز وجل: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[الفرقان:44], ما الذي أدى بهم إلى هذا الانحطاط؟ إنها غفلة القلوب كما ذكر الله في هذه الآية، الغفلة عن دين الله عز وجل، الغفلة عن الهدى، هذه القلوب قد تقسو القلوب قد تقسو وهذه كلها من الحيلولة بين الإنسان وقلبه، فإن الحيلولة تتفاوت: فمنهم من يحال بينه وبين قلبه، حتى يصير لا يملك من قلبه شيئاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ومنهم من ربما يكون ذلك أهون عليه، ولكنها حيلولة تعتبر فإن القسوة حيلولة والغفلة حيلولة بين الإنسان وبين قلبه، وهي تتفاوت في حق المؤمن والكافر، وتتفاوت بين مؤمن وآخر، بل وبين كافر وآخر، فإن الكفار منهم من هو أشد كفراًَ من الآخر، وكل ذلك بسبب الحيلولة بين الإنسان وقلبه، والقلب أيضاً يتقلب وهذا الانقلاب خطير جداًَ، هذا الانقلاب إذا تمادى بالإنسان أدى به إلى الهلكة، إنه انقلاب هلاك، القلوب تتقلب فقد كان كثير ما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من أيمانه هكذا «لا ومقلب القلوب» القلوب تزيغ، حيلولة عظيمة حالت بين الإنسان وبين قلبه، معناها: أن قلبه فتك به، وأنه انهار عليه، وأنه أطاح بدنياه وأخراه، في مثل هذا الحال قال الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[الصف:5], أي لما علم الله الزيغ من العبد صير قلبه إلى ذلك الحال، صار قلباً زائغاً، فإذا زاغ زاغت سائر الجوارح؛ لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يدعو وسائر المؤمنين بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران:8] دلت هذه الآية على أن من زاغ قلبه فارق الهداية، من زاغ قلبه انحرف عن الهداية ومال إلى غيرها، وأن من زاغ قلبه في ذلك الحال مبتعد عن رحمة الله، وأن من زاغ قلبه محروم من رحمة الله سبحانه وتعالى ومننه، ومن أعظم مننه.
القلوب أمرها عجيب جداً من ذلك: أنها تقسو جداً، حتى أخبر الله عز وجل عن بني إسرائيل فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[البقرة:74], يا سبحان الله! الحجارة أشياء صلبة يضرب بها المثل بالصلابة ثم القلوب هذه المضغة التي هي مضغة دم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة», أي مثل اللقمة الممضوغة، القلب هذا يصير مثل الحجر، نعم من حيث القسوة وإن كان مضغة لو أن شوكة خدشته لخرقته، ولكن مع ذلك يصير أشد وأصلب من الحجارة بحيث أنك إذا صببت على الحجر الأملس ماء لا يخلص إلى جوفه شيء، ولا شيء يخلص إلى جوفه، يتزلق من عليه ولا يخلص إليه شيء، فكذلك القلب القاسي لا يخلص إليه وعظ، ولا يخلص إليه نفع، ولا تخلص إليه خشية، ولا يخلص إليه تدبر، صار مثل الحجر، وقال سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21], أي أن قلوب بعض الناس لا تنتفع بالقرآن، ولو نزل هذا القرآن على جبال لتصدعت منه، وهذا في الحقيقة هو عقاب من الله سبحانه من بلغ به الحال إلى هذا الحال فإن الله قد عذبه في الدنيا، وعاقبه في الدنيا إذا ابتلي بقسوة القلب، فإن هذا عقاب عليه من ربه يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾[المائدة:13], فلما ابتلوا بهذا المرض الخطير وهذا العقاب الشديد، أيضاً استحقوا لعنة الله بسبب قسوة قلوبهم: ﴿لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[المائدة:13], أي: شدد عليهم قسوة قلوبهم، وسبب المرض عليهم تحريف دين الله عز وجل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾[المائدة:13], سواء كان الكتب التي أنزلت عليهم ما حرفوها إلا لما قست قلوبهم ولما أصيبوا بهذا المرض الفتاك: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾[البقرة:79], استحقوا عذاباً على عذاب، والسبب في ذلك كله قسوة قلوبهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فإن قسوة القلوب تراكم على الشخص أعراضاً أخرى وأمراضاً أخرى، هذا عقاب من الله سبحانه وتعالى، القلوب لها ميول ولها اشمئزاز ولها غلظة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران:159]. فإذا ابتلي الإنسان أيضاً بالغلظ، صار قلبه غليظاً ليس بخاشع وليس بمتدبر وليس كذلك بمطمئن، فإن هذا يسبب فظاظة.
أيها الناس! إذا كان الأمر هكذا، وهي لمحة سريعة إلى ما في القلوب من أعراض، فإن هذه الأعراض والأمراض قد جعل الله سبحانه وتعالى لها أدوية عظيمة، وعلاجات نافعة ناجعة، «فما جعل الله داءً إلا جعل له دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله» وإن أهم ما يعتني به الإنسان علاج قلبه، فإن صحة حياته كلها عليه في الدنيا والأخرى، فإذا مات القلب أو مرض القلب هدم سائر الجسم، فهو بالنسبة للجسم كالملك، بل كالملك على سائر الرعية، الملك المطاع ما هو الملك المتمرد عليه كالملك المطاع لسائر الرعية، فلا يخالفه شخص من الأشخاص كذا القلب لا يخالفه عضو من الأعضاء، فإذا استقام استقامت وإذا اعوج اعوجت وإذا مات ماتت، وإن كان صاحبه يأكل ويشرب، قال الله عز وجل: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام:122], فسمى الله المشركين الذين تبحرت غفلة قلوبهم أمواتاً، ميتاً فأحياه الله بالحق وبالهدى، ليس هناك علاج ولا هناك أيضاً نفع للقلوب أعظم من كتاب الله عز وجل، ما هناك علاج لأمراض القلوب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة إلى علاجات أخرى هي خاضعة إلى هذين الأصلين ومندرجة تحت هذين الأمرين، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾[يونس:57].
فنحمد الله سبحانه وتعالى، والله هذا من أعظم المنن على العباد: أن الله أنزل شفاءً لما في الصدور، فيها أمراض شفاؤها القرآن هذه أعظم موعظة، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]، هذا القرآن هدى.. هذا القرآن رحمة للمؤمنين، ثم ذكر بنعمته، وبالفرح بذلك فقال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].
فأعظم ما يجمعه الإنسان في هذه الدنيا هو استقامته، استقامة قلبه هذا أعظم خير له، فذلك متحقق في هذا العلاج العظيم كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل في كتابه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:23], فهذا معناه علاج لتليين القلب القاسي، هذا القلب الذي قد يقسو ويتمادى به القسوة إلى أن لا يخلص شيء هذا القرآن علاجه، هذا القرآن دواءه: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[التوبة:124], فبدلاً من أنه كان يستبشر بالباطل ويشمئز قلبه من الحق، إذا أقبل على هذا القرآن استبشر بالحق: ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[التوبة:124], وإذا استبشر القلب البشارة تدخل عليه السرور والخير اندفع إلى الخير أكثر، فصار هذا علاجاً للقلوب لا نظير له، كتاب الله سبحانه وتعالى ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24], أي هل معنى ذلك أن هذه القلوب صارت مقفلة لا يخلص إليها شيء؟ ومع ذلك فإن تدبر القرآن لمن وفقه الله أعظم مفتاح لهذه الأقفال التي تكون على القلوب، وقد أخبر جبير بن مطعم رضي الله عنه قال حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور: (والله أن كاد قلبي ليطير من بين جنبي -والحديث في الصحيح- عند قول الله عز وجل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور:35]), صارت هذه الآية مفتاح لقلبه، انفتحت تلك الأقفال التي على قلبه، وسبب الخير في هذه الآية عليه فما زال ذلك في قلبه حتى أسلم، فرب قفل من الأقفال تفتحه موعظة من القرآن، بل أعداد الأقفال على القلب يفتحه كتاب الله سبحانه وتعالى عند التأمل والتدبر فيه والتفكر فيه، هذا الكتاب هداية: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[الإسراء:9].
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فعلى المؤمن أن يحافظ على سلامة قلبه حتى يكون يوم القيامة من الذين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾[الشعراء:89-91], أي أن أهل الجنة وأهل السلامة هم أصحاب سلامة القلوب، فالقلب هو موطن نظر رب العالمين سبحانه، الله يرى العبد جميعاً: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾[النساء:126], لا تخفى عليه خافية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾[آل عمران:5], ولكن نظره إلى هذا القلب، فإن صلح ذلك القلب صلحت الجوارح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب», هذه المضغة موطن نظر رب العالمين سبحانه وتعالى، أعظم نظر لها وإلا فينظر إلى الأجسام وينظر إلى الوجوه.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم», أي لا ينظر إلى جمالكم، مهما كان جماله ومهما كانت هيئته، فالله عز وجل ليس هذا موطن نظره باعتبار أن القلب إذا صلح ولو كان الجسم على غير الهيئة الجميلة فذلك العبد جميل، والقلب إذا صلح ولو كان الإنسان فقيراًَ فذلك الإنسان غني، إن الغنى غنى القلب؛ فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم», هذا هو أعظم نظر الله سبحانه وتعالى إليه.
ومن علاج القلوب التواضع، التواضع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التواضع للحق، والتواضع للمؤمنين يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[الحجرات:1-3], وتعظيم شعائر الله علاج عظيم لهذا القلب: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج:32], تعظيم الحق تعظيم أهله.. تعظيم القرآن.. تعظيم السنة.. تعظيم سائر دين الله كل ذلك تعظيم بقدره على ما جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[النور:50], قال قبلها: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا﴾[النور:48-50], أي: على أن عدم التحاكم والرضا بالحق أن هذا سبب المرض، وأن البعد عن ذلك سبب السلامة، هكذا علاج عظيم للقلوب إنكار المنكرات بقدر ما يستطيع الإنسان كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «من رأى منكم منكراً فل يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان», قال في حديث حذيفة «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عودا فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء», إذاً صار هذا علاج لقلبه وصفاء قلبه وصقل قلبه عن المعاصي «وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى تصير القلوب على قلبين أبيض مثل الصفاء» يصقل بسبب إنكاره المنكرات «أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» صار حصناً حصيناًَ لهذا القلب صفاءه بسبب إنكاره المنكرات، «والآخر أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه».
الإيمان بالله سبحانه وتعالى، بالقرآن بقدر الله عز وجل، بما أراده سبحانه وتعالى والقضاء، هذا علاج عظيم للقلوب: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن:11], ومن يؤمن بالله, قال أهل العلم أي: الإيمان بقدر الله وبقضائه: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[التغابن:11].
هكذا تجنب الشبهات على القلب، تجنب الفتن هذا علاج له يعتبر، قال الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[آل عمران:7], أي يتجنبون الشبهات، ويدعون الله عز وجل.. ويدعون الله سبحانه وتعالى ويعملون بمحكم كتاب الله عز وجل، هذا هو الصواب، دعاء الله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلح على ربه أن يهدِ قلبه: «رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ واهدني ويسر هداي إليّ، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً لك راهباً، لك مطواعاً إليك مخبتاً ومنيباً، ربّ تقبل توبتي واغسل حوبتي، وثبت حجتي واهدِ قلبي، واسلل سخيمة قلبي», هذا الدعاء العظيم عن ابن عباس رضي الله عنه ثابت، وهو من أجل أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظمها في تثبيت قلبه: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران:8].
أيضاً كما تقدم: التواضع والبعد عن الكبر فإن هذا علاج يجعل القرآن ينقع صاحبه، وإذا ابتلي بضد ذلك فإن القرآن لا يصل إليه بل يصرف عن العمل به ويصرف عن حفظه، ويصرف عن تدبره، ويصرف عن الخشية فيه يقول الله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف:146], ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد:16], أي: أن هذا حث من الله على التخشع عند تلاوة كتاب الله عز وجل؛ لأنه علاج عظيم، الخشوع عند تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى علاج عظيم.
هكذا على الإنسان: أن يعلم أنه في طمأنينة فيطمئن بالقرآن: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد:28], قال الله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾[الفتح:4], فإذا نزلت السكينة بسبب ذكر الله سبحانه وتعالى فإن ذلك يطمئنه ويهدئ باله ويقشعر منه جلده ويخشع قلبه ويكون ذلك أنجع وأنفع علاج لهذا القلب، الذي إن صلح صلحَ سائر الجسد، وإن فسد فسدَ سائر الجسد، نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[الأنفال:24] , في هذه الآية أبان الله سبحانه وتعالى علاجاً عظيماً للقلوب وهو الاستجابة لله ولرسول فإن دعوه الله ودعوه رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حياة القلوب، ولا حياة للقلوب إلا بذلك، وأن من لم يعمل بذلك هو عرضة إلى أن يحال بينه وبين قلبه، وإنها والله لمصيبة عظيمة حين أن يحال بين الإنسان وبين قلبه وهو في جوفه، فلا يستطيع أن يقول ما يريد، ولا أن يفعل ما يريد ما يراه أنفع وما يرى المؤمنين يعملونه، وما ذلك إلا لتمرد قلبه عليه، هذه آية تدل على أن القلب قد يتمرد إذا أصيب بالإحالة بينه وبين ما يريد صاحبه أو يراه صاحبه يعمله المؤمنون، فإن القلوب قد تمرض قال الله عز وجل في أول سورة البقرة: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[البقرة:10], أي زاد الله تلك القلوب مرضاً وإن كانت أجسامهم صحيحة، لكن لما مرضت القلوب، مرض القلوب يجر بعضه بعضاً ويتزايد إلا أن يتدارك الله صاحبه، فهو أشد وأعتى وأعصى وأصعب من أمراض الأجسام، فإن مرض الجسم أهون على ابن آدم بكثير من ذلك، القلوب قد تشمئز وتنقبض قال الله مبيناً ذلك: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الزمر:45]، هذه قلوب مختلفة، عند ذكر الله عز وجل تشمئز وتنقبض، وعند ذكر غير الله سبحانه وتعالى وذكر المعاصي واللهو تستبشر وتستريح، قلوب مختلفة قلوب مرضى، هذه القلوب قد تغفل، القلوب قد تغفل وسرعان ما تغفل، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[الأعراف:179].
فبسبب غفلة قلوبهم المسيطرة عليهم صاروا في عداد الأنعام، وصاروا في حيز الحيوانات وإن كانوا في صور وأشكال بني آدم بل صاروا أضل: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾[الأعراف:179]، وقال الله عز وجل: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[الفرقان:44], ما الذي أدى بهم إلى هذا الانحطاط؟ إنها غفلة القلوب كما ذكر الله في هذه الآية، الغفلة عن دين الله عز وجل، الغفلة عن الهدى، هذه القلوب قد تقسو القلوب قد تقسو وهذه كلها من الحيلولة بين الإنسان وقلبه، فإن الحيلولة تتفاوت: فمنهم من يحال بينه وبين قلبه، حتى يصير لا يملك من قلبه شيئاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ومنهم من ربما يكون ذلك أهون عليه، ولكنها حيلولة تعتبر فإن القسوة حيلولة والغفلة حيلولة بين الإنسان وبين قلبه، وهي تتفاوت في حق المؤمن والكافر، وتتفاوت بين مؤمن وآخر، بل وبين كافر وآخر، فإن الكفار منهم من هو أشد كفراًَ من الآخر، وكل ذلك بسبب الحيلولة بين الإنسان وقلبه، والقلب أيضاً يتقلب وهذا الانقلاب خطير جداًَ، هذا الانقلاب إذا تمادى بالإنسان أدى به إلى الهلكة، إنه انقلاب هلاك، القلوب تتقلب فقد كان كثير ما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من أيمانه هكذا «لا ومقلب القلوب» القلوب تزيغ، حيلولة عظيمة حالت بين الإنسان وبين قلبه، معناها: أن قلبه فتك به، وأنه انهار عليه، وأنه أطاح بدنياه وأخراه، في مثل هذا الحال قال الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[الصف:5], أي لما علم الله الزيغ من العبد صير قلبه إلى ذلك الحال، صار قلباً زائغاً، فإذا زاغ زاغت سائر الجوارح؛ لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يدعو وسائر المؤمنين بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران:8] دلت هذه الآية على أن من زاغ قلبه فارق الهداية، من زاغ قلبه انحرف عن الهداية ومال إلى غيرها، وأن من زاغ قلبه في ذلك الحال مبتعد عن رحمة الله، وأن من زاغ قلبه محروم من رحمة الله سبحانه وتعالى ومننه، ومن أعظم مننه.
القلوب أمرها عجيب جداً من ذلك: أنها تقسو جداً، حتى أخبر الله عز وجل عن بني إسرائيل فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[البقرة:74], يا سبحان الله! الحجارة أشياء صلبة يضرب بها المثل بالصلابة ثم القلوب هذه المضغة التي هي مضغة دم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة», أي مثل اللقمة الممضوغة، القلب هذا يصير مثل الحجر، نعم من حيث القسوة وإن كان مضغة لو أن شوكة خدشته لخرقته، ولكن مع ذلك يصير أشد وأصلب من الحجارة بحيث أنك إذا صببت على الحجر الأملس ماء لا يخلص إلى جوفه شيء، ولا شيء يخلص إلى جوفه، يتزلق من عليه ولا يخلص إليه شيء، فكذلك القلب القاسي لا يخلص إليه وعظ، ولا يخلص إليه نفع، ولا تخلص إليه خشية، ولا يخلص إليه تدبر، صار مثل الحجر، وقال سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21], أي أن قلوب بعض الناس لا تنتفع بالقرآن، ولو نزل هذا القرآن على جبال لتصدعت منه، وهذا في الحقيقة هو عقاب من الله سبحانه من بلغ به الحال إلى هذا الحال فإن الله قد عذبه في الدنيا، وعاقبه في الدنيا إذا ابتلي بقسوة القلب، فإن هذا عقاب عليه من ربه يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾[المائدة:13], فلما ابتلوا بهذا المرض الخطير وهذا العقاب الشديد، أيضاً استحقوا لعنة الله بسبب قسوة قلوبهم: ﴿لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[المائدة:13], أي: شدد عليهم قسوة قلوبهم، وسبب المرض عليهم تحريف دين الله عز وجل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾[المائدة:13], سواء كان الكتب التي أنزلت عليهم ما حرفوها إلا لما قست قلوبهم ولما أصيبوا بهذا المرض الفتاك: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾[البقرة:79], استحقوا عذاباً على عذاب، والسبب في ذلك كله قسوة قلوبهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فإن قسوة القلوب تراكم على الشخص أعراضاً أخرى وأمراضاً أخرى، هذا عقاب من الله سبحانه وتعالى، القلوب لها ميول ولها اشمئزاز ولها غلظة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران:159]. فإذا ابتلي الإنسان أيضاً بالغلظ، صار قلبه غليظاً ليس بخاشع وليس بمتدبر وليس كذلك بمطمئن، فإن هذا يسبب فظاظة.
أيها الناس! إذا كان الأمر هكذا، وهي لمحة سريعة إلى ما في القلوب من أعراض، فإن هذه الأعراض والأمراض قد جعل الله سبحانه وتعالى لها أدوية عظيمة، وعلاجات نافعة ناجعة، «فما جعل الله داءً إلا جعل له دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله» وإن أهم ما يعتني به الإنسان علاج قلبه، فإن صحة حياته كلها عليه في الدنيا والأخرى، فإذا مات القلب أو مرض القلب هدم سائر الجسم، فهو بالنسبة للجسم كالملك، بل كالملك على سائر الرعية، الملك المطاع ما هو الملك المتمرد عليه كالملك المطاع لسائر الرعية، فلا يخالفه شخص من الأشخاص كذا القلب لا يخالفه عضو من الأعضاء، فإذا استقام استقامت وإذا اعوج اعوجت وإذا مات ماتت، وإن كان صاحبه يأكل ويشرب، قال الله عز وجل: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام:122], فسمى الله المشركين الذين تبحرت غفلة قلوبهم أمواتاً، ميتاً فأحياه الله بالحق وبالهدى، ليس هناك علاج ولا هناك أيضاً نفع للقلوب أعظم من كتاب الله عز وجل، ما هناك علاج لأمراض القلوب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة إلى علاجات أخرى هي خاضعة إلى هذين الأصلين ومندرجة تحت هذين الأمرين، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾[يونس:57].
فنحمد الله سبحانه وتعالى، والله هذا من أعظم المنن على العباد: أن الله أنزل شفاءً لما في الصدور، فيها أمراض شفاؤها القرآن هذه أعظم موعظة، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]، هذا القرآن هدى.. هذا القرآن رحمة للمؤمنين، ثم ذكر بنعمته، وبالفرح بذلك فقال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].
فأعظم ما يجمعه الإنسان في هذه الدنيا هو استقامته، استقامة قلبه هذا أعظم خير له، فذلك متحقق في هذا العلاج العظيم كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل في كتابه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:23], فهذا معناه علاج لتليين القلب القاسي، هذا القلب الذي قد يقسو ويتمادى به القسوة إلى أن لا يخلص شيء هذا القرآن علاجه، هذا القرآن دواءه: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[التوبة:124], فبدلاً من أنه كان يستبشر بالباطل ويشمئز قلبه من الحق، إذا أقبل على هذا القرآن استبشر بالحق: ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[التوبة:124], وإذا استبشر القلب البشارة تدخل عليه السرور والخير اندفع إلى الخير أكثر، فصار هذا علاجاً للقلوب لا نظير له، كتاب الله سبحانه وتعالى ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24], أي هل معنى ذلك أن هذه القلوب صارت مقفلة لا يخلص إليها شيء؟ ومع ذلك فإن تدبر القرآن لمن وفقه الله أعظم مفتاح لهذه الأقفال التي تكون على القلوب، وقد أخبر جبير بن مطعم رضي الله عنه قال حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور: (والله أن كاد قلبي ليطير من بين جنبي -والحديث في الصحيح- عند قول الله عز وجل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور:35]), صارت هذه الآية مفتاح لقلبه، انفتحت تلك الأقفال التي على قلبه، وسبب الخير في هذه الآية عليه فما زال ذلك في قلبه حتى أسلم، فرب قفل من الأقفال تفتحه موعظة من القرآن، بل أعداد الأقفال على القلب يفتحه كتاب الله سبحانه وتعالى عند التأمل والتدبر فيه والتفكر فيه، هذا الكتاب هداية: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[الإسراء:9].
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فعلى المؤمن أن يحافظ على سلامة قلبه حتى يكون يوم القيامة من الذين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾[الشعراء:89-91], أي أن أهل الجنة وأهل السلامة هم أصحاب سلامة القلوب، فالقلب هو موطن نظر رب العالمين سبحانه، الله يرى العبد جميعاً: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾[النساء:126], لا تخفى عليه خافية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾[آل عمران:5], ولكن نظره إلى هذا القلب، فإن صلح ذلك القلب صلحت الجوارح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب», هذه المضغة موطن نظر رب العالمين سبحانه وتعالى، أعظم نظر لها وإلا فينظر إلى الأجسام وينظر إلى الوجوه.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم», أي لا ينظر إلى جمالكم، مهما كان جماله ومهما كانت هيئته، فالله عز وجل ليس هذا موطن نظره باعتبار أن القلب إذا صلح ولو كان الجسم على غير الهيئة الجميلة فذلك العبد جميل، والقلب إذا صلح ولو كان الإنسان فقيراًَ فذلك الإنسان غني، إن الغنى غنى القلب؛ فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم», هذا هو أعظم نظر الله سبحانه وتعالى إليه.
ومن علاج القلوب التواضع، التواضع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التواضع للحق، والتواضع للمؤمنين يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[الحجرات:1-3], وتعظيم شعائر الله علاج عظيم لهذا القلب: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج:32], تعظيم الحق تعظيم أهله.. تعظيم القرآن.. تعظيم السنة.. تعظيم سائر دين الله كل ذلك تعظيم بقدره على ما جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[النور:50], قال قبلها: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا﴾[النور:48-50], أي: على أن عدم التحاكم والرضا بالحق أن هذا سبب المرض، وأن البعد عن ذلك سبب السلامة، هكذا علاج عظيم للقلوب إنكار المنكرات بقدر ما يستطيع الإنسان كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «من رأى منكم منكراً فل يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان», قال في حديث حذيفة «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عودا فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء», إذاً صار هذا علاج لقلبه وصفاء قلبه وصقل قلبه عن المعاصي «وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى تصير القلوب على قلبين أبيض مثل الصفاء» يصقل بسبب إنكاره المنكرات «أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» صار حصناً حصيناًَ لهذا القلب صفاءه بسبب إنكاره المنكرات، «والآخر أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه».
الإيمان بالله سبحانه وتعالى، بالقرآن بقدر الله عز وجل، بما أراده سبحانه وتعالى والقضاء، هذا علاج عظيم للقلوب: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن:11], ومن يؤمن بالله, قال أهل العلم أي: الإيمان بقدر الله وبقضائه: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[التغابن:11].
هكذا تجنب الشبهات على القلب، تجنب الفتن هذا علاج له يعتبر، قال الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[آل عمران:7], أي يتجنبون الشبهات، ويدعون الله عز وجل.. ويدعون الله سبحانه وتعالى ويعملون بمحكم كتاب الله عز وجل، هذا هو الصواب، دعاء الله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلح على ربه أن يهدِ قلبه: «رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ واهدني ويسر هداي إليّ، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً لك راهباً، لك مطواعاً إليك مخبتاً ومنيباً، ربّ تقبل توبتي واغسل حوبتي، وثبت حجتي واهدِ قلبي، واسلل سخيمة قلبي», هذا الدعاء العظيم عن ابن عباس رضي الله عنه ثابت، وهو من أجل أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظمها في تثبيت قلبه: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[آل عمران:8].
أيضاً كما تقدم: التواضع والبعد عن الكبر فإن هذا علاج يجعل القرآن ينقع صاحبه، وإذا ابتلي بضد ذلك فإن القرآن لا يصل إليه بل يصرف عن العمل به ويصرف عن حفظه، ويصرف عن تدبره، ويصرف عن الخشية فيه يقول الله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف:146], ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد:16], أي: أن هذا حث من الله على التخشع عند تلاوة كتاب الله عز وجل؛ لأنه علاج عظيم، الخشوع عند تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى علاج عظيم.
هكذا على الإنسان: أن يعلم أنه في طمأنينة فيطمئن بالقرآن: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد:28], قال الله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾[الفتح:4], فإذا نزلت السكينة بسبب ذكر الله سبحانه وتعالى فإن ذلك يطمئنه ويهدئ باله ويقشعر منه جلده ويخشع قلبه ويكون ذلك أنجع وأنفع علاج لهذا القلب، الذي إن صلح صلحَ سائر الجسد، وإن فسد فسدَ سائر الجسد، نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه.
منقول من موقع الشيح -حفظه الله-
تعليق