اليوم الآخر
خطبتي جمعة
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[وجه شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.
نشهد أنه بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة، وكشف علينا من الدين الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
ونشهد أنه لا خير لنا إلا دلنا عليه ولا شر لنا إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلّم، وكفاء ما هدى وألهم، وكفاء ما جاهد في الله حق الجهاد، اللهم صلِّ وسلم على نبينك ورسولك محمد ما تتابع الليل والنهار.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله يقول الله جل وعلا ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68)وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾[الزمر:68-70]، في هذه الآيات ذكرى للإيمان بيوم الله الآخر، للإيمان بيوم المَعَاد الذي هو كائن لا محالة، فإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، لا يصح إيمان عبد حتى يعلم ويتيقن دون ريب ولا تردد: أنّ ثَم يوما يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسب المحسن والمسيء؛ فيجازى المحسن بإحسانه ويجازى المسيء بإساءته. والله جل جلاله قال في هذه الآيات (وَأَشْرَقَتْ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) حين تُشرق الأرض بنور الله جل وعلا يضع الله جل وعلا كتاب الناس -كتاب كل أحد- الذي فيه أعماله، الذي فيه ما عمله من صالح واتبع فيه رسوله الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما عمل فيه من طالح خالف ففيه أمر الله جل وعلا وأمر رسوله، ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الاسراء:13-14]، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يعني ما يطير عنه وما ينفصل عنه من عمل -صالح كان أو غير صالح- فإنه مع المرء يلازمه حتى يُخرج له يوم القيامة يُخرج له يوم القيامة كتاب يلقاه منشورا أمامه، فيقرره الله جل وعلا بما فيه من العمل؛ ألم تعمل يا عبدي يوم كذا: كذا وكذا؟ ألم تعمل يوم كذا: كذا وكذا؟ فيقرر الله جل وعلا عباده بما عملوا من خير ومن سوء، فأما المؤمن فإنه يقر بذلك وهو يرجو عفو الله، وأما الكافر أو المنافق أو الفاسق فربما جادل في ذلك، والله جل جلاله يقيم عليه الحجة حتى يقول بعض أولئك المجادلين: يا ربنا أنت الحَكم العدل لا نقبل علينا شهيدا إلا من أنفسنا. فيُنطق الله جل وعلا جلودهم، وينطق الله جل وعلا سمعهم، ويُنطق الله جل وعلا أبصارهم، ويُنطق الله جل وعلا جوارحهم بما اكتسبوا، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ﴾[فصلت:21-24]، إنّه في ذلك اليوم تُنشر الكتب ويعرف المرء عمله، فيكون المؤمن فرحا مسرورا يأخذ كتابه بيمينه، ويكون الكافر أو الفاجر خائفا وَجِلا لا يدري ما يصنع به وترفع النار فيساق إليها الكفار وردا يساقون إليها فيتهافتون فيها تهافت الجراد.
وأما أهل الإيمان فإنهم يتأخرون، وكذلك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا في أمر عصيب وتفصيل في ذلك اليوم حتى تقام الظلمة دون الجسر ويُنصب الصراط على النار، والأنبياء يقولون وهم على الصراط: اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم. من شدة ما يرون من الهول وكلٌّ لا يهمه إلا نفسُه، فإن المرء تهمه نفسُه، فيأتي أهلُ الإيمان يمشون على الصراط بقدر أعمالهم، ويرون الصراط ودونه الظلمة؛ لأنهم يُعطون نورا فيعبر بعض أهل الإيمان كالبرق سرعة، وبعضهم يعبر كالراكب بسرعة، وبعضهم يمشي مشيا، وبعضهم يحبو حبوا، والقلوب خائفة وجلة في أمر عصيب؛ لأنه بعده عذاب صرمدي أو نعيم صرمدي، والناس إذا عبروا على الصراط فمن ناج مسلَّم ومن مكربس في النار فينقي الله أهل الإيمان في النار إذا لم يشأ أن يغفر لهم؛ ينقي متا في قلوبهم من الخبث؛ لأنّ العاصي في قلبه خبث لابد أن يُطهَّر إنْ لم يغفر الله له ذلك، ويطهره بمنّه وكرمه، وتكون النار للكفار، وتكون طبقتها العليا لأهل التوحيد يمكثون فيها زمانا طويلا وهم في عذاب شديد، عذاب شديد شديد في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يشفع الشفعاء وتبقى شفاعة رب العالمين، إلى آخر ما يحصل من ذلك، وإذا جاوز أهل الإيمان القنطرة جاوزوا الصراط اجتمعوا دون الجنة، فتأخر الأغنياء عن دخول الجنة بنصف يوم يعني بخمسمائة سنة، ويدخل الفقراء الجنة أول الأمر؛ لأن حقوق المال عظيمة ولأن حقوق ما آتى الله عباده فيها أمر شديد وفيها حساب فيؤخَّر الأغنياء حتى يعطى الناس منهم حقوقهم، وعن ذلك يحصل بلوغ المنازل لهم، ثم يدخل أولئك الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾[الحج:47]، ثم يدخل أهل الجنة الجنة، ودرجاتهم متفاوتة وإنّ منهم لمن يتراء درجة إخوانه كما نرى اليوم الكوكب الدري الغابر في السماء نرى بصيص نوره ولا نرى ما فيه لأجل شدة ارتفاعه، وإنّ من الناس من هو مع الأنبياء ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ﴾[النساء:69-70].
أيها المؤمن: إنّ الإيمان باليوم الآخر لابد أن نتيقنه، وما يحصل فيه يجب أن يكون في قلوبنا من غير شك ولا مِرْية، نرى الجنة أمامنا دائما لا تغيب عنا، ونرى النار بهولها وعذابها وما فيها، نراها دائما لا تغيب عنا.
وهذه العقيدة وهذا الإيمان يُثمر في قلب المؤمن الرجاء في أن يكون من أهل الجنة، فيحمله رجاؤه على طاعة الله وعلى خوف الله وعلى أن يتنكب أن يأتي ما لم يأذن به الله جل وعلا، فترى الذي يخاف الدارَ الآخرة تراه مراقبا لنفسه، فيأتي الواجبات مسرعا مطيعا؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك ما أمر الله به من أداء الأمانة، وكذلك ما أمر الله به من العدل في الناس، وكذلك ما أمر الله جل وعلا به من أنواع الأوامر في التعامل مع النفس ومع الأهل في البيت ومع المسلمين ومع غير المسلمين، إنّ لله في ذلك كله أوامر، فيرى المؤمن الذي يرى أمامه الجنة والنار، ويرى أمامه تتطاير الصحف، ويرى أمامه الميزان والصراط وذلك الهول بما سمع في القرآن والسنة، يرى نفسه لابد أن يُلْزِمَها يتقوى الله، والمؤمن الذي يعي ذلك سيجد نفسه عظيما عليها أن يخالف أمر الله جل وعلا، يرى نفسه عظيما عليها أن تخالف الحق أو أن تأتي بالباطل.
إنّ العقيدة هذه بالنار وبوجودها وبأنه يدخلها الكفار وبأنه يدخلها العصاة إنْ لم يغفر الله لهم وذلك في حق غير التائبين، إن لم يشأ الله مغفرته لهم فإنهم يعذبون في ذلك، وعذاب النار من يصبر عليه؟ ويتذكر المؤمن أن من أولئك الذين يعذبون من يقول الكلمة لا يُلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا، يُلقي الرجل الكلمة وتُلقي المرأة الكلمة لا تلقي لها بالا تظن أنها سهلة وهي تهوي بها في نار سبعين خريفا، وقد جاء أنَّ: من الناس من يقرب من الجنة فيُلقي كلمة يتكلم ما يدري ما فيها يتباعد -كما جاء في الأثر- عن الجنة كبعد صنعاء عن المدينة. وهذا من شدة أثر الكلام لأنه نوع من أنواع ما يحاسب به العبد.
كذلك أعمال القلوب من الصالحات كالإيمان والتوكل والرغب في ما عند الله وخشية الله والبكاء من خشية الله وكتعليق القلب بالله وبأوامره، هذا يؤجر عليه، فيسعى المؤمن إليه.
وأعمال القلوب المحرمة يراها من الكبر وسوء الظن ومن سوء الظن بالمسلمين من غير جهة، وكذلك من أنواع الإعجاب بالنفس وتزكية النفس ونحو ذلك من أعمال القلوب المحرمة يراها تَعْظُم عليه، وقد قال بعض أهل العلم: رُبّ طالح كان أعظم عند الله من فاعل طاعة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: ذاك عمل بمعصية فلم تزل في قلبه عظيمة يتعاظمها في حق الله حتى يغفر الله له، وذاك صالح عمل بطاعة فما زال يتعاظم فعلَه ويعجبه ذلك ويتكبر به ولا يَجِلُ من ربه ويخاف منه حتى يحبط الله عمله.
فالأمر أيها المؤمن -لأنك مؤمن بالآخرة- الأمر خطير والناس في غفلاتهم، وأعظم ما يعاقب به القلب أن يكون غافلا لا يتذكر الجنة ولا يتذكّر النار، لا يتذكر اليوم الآخر، تذكّر قول الله جل وعلا ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾[الزمر:69]، يشهد النبيون والشهداء أنه قد أقيمت الجنة على عباد الله كما قال الله سبحانه ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾[الأعراف:6]، يسأل الله جل وعلا المرسلين: هل أديتم هل بلغتم الأمانة؟ فيقولون يا رب اللهم بلَّغْنا. فيسأل الذين أرسل إليهم: هل بلغتم الأمانة وهل أتتكم رسلي فأعلمتكم بما أمرت ونهيت؟ فيقول الذين أرسل إليهم: نعم يا رب بُلِّغنا، قال جل وعلا بعد ذلك ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾[الأعراف:8].
أيها المؤمنون: إنّ الذي تثقل موازينه هو المفلح، والذي تخف موازينه هو الخاسر، وأنت رقيب على نفسك، والدنيا لن تنفعنا، لن تنفعنا إلا إذا كانت ميدانا للطاعة، وإن غدا لناظره قريب، إن يوم القيامة لناظره قريب، وسيقول الناس يوم القيامة ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا﴾[الأعراف:44]، سيرون ذلك حقا حقا، المؤمن يؤمن بذلك؛ ولكنْ عليه أن يكون إيمانه بذلك قويا قويا متيقَّنا وأن يستحضر ذلك الإيمان، فإن استحضاره دائما يقي المرء الهلكة، والهلكة ليست في الدنيا وإنما الهلكة الصحيحة في الآخرة لمن خسر وخفت موازينه ودخل النار، قال جل وعلا ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾[الزمر:70] (وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) كل الأنفس توفى ما عملت، ما عملت من خير فستوفى، وما عملت من شر فستوفى، وسترى ذلك أمامك، ويأتي المؤمن وينظر إلى ساعة من ساعات عمره قضاها في غير طاعة، قال عليه الصلاة والسلام «فتتقطع نفسه حسرات على أن أمضى ساعات من عمره ليست في طاعة الله»، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) يوفى أهل الطاعة في طاعاتهم، يوفى أهل الإيمان درجاتهم، يوفون أجورهم، وأما العصاة فأيضا يوفَّون أجورهم، ويعطون سيئاتهم، ولا يظلم ربك أحدا، فيكون المؤمن يعلم أنه سيوفى عمله.
فإذا كنت تٌقِرُّ بذلك -ولا شك في ذلك أبدا- فاعمل ليوم تريد أن ترى فيه ما يسرك، وحذار من شهوة تعقبك ندما دائما، حذار من شهوة مال أو من شهوة جاه أو من شهوة دنيا أو من شهوة نساء أو من شهوة طمع تُذْهب عنك لذة يقين وتُذْهب عنك الأجر في الآخرة؛ بل وتحمل عليك من الوزر ما لا تطيقه.
أيها المؤمن: تذكر في كل حياتك قول الله جل جلاله (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) يوفى كل أحد بما عمل، يوفى أهل السنة أعمالهم، ويوفى أهل البدع أعمالهم، يوفى أهل الصلاح عملهم، ويوفى أهل السوء عملهم، والله جل جلاله حَكَم عدل ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[فصلت:46].
أسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يجعلنا من أتباع نبيه.
اللهم اجعلنا من الذين يرون الحق حقّا فيتبعونه، ومن الذين يرون الباطل باطلا فيجتنبونه.
اللهم إنا ضعاف فاحملنا على طاعتك.
اللهم نعوذ بك من كيد الشياطين علينا.
اللهم نعوذ بك -وأنت المستعاذ به- نعوذ بك من كيد الشياطين علينا، ومن شر أنفسنا فلا تكلنا لأنفسنا يا ربنا طرفة عين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الزمر:75].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم يوم القيامة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولا كريما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر عبادك الذين يجاهدون لتكون كلمةُ الله هي العليا، اللهم تنصرهم وأيدهم بتأييدك وأمدّهم بمدد من عندك، فإنك أنت القوي العزيز.
اللهم نسألك أن تؤمننا في دُورِنا، وأن تُصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأن تدلّهم على الرشاد وتباعد بينهم وبين سبيل البغي والفساد، يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن ترفع عنّا الربا والزنا وأسبابه، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه بخاصة وعن سائر بلاد المؤمنين بعامة، يا أجود الأجودين.
اللهم إنّا نسألك أن لا تميتنا إلا وقد وفقتنا لتوبة نصوح، اللهم وفقنا لتوبة نصوح قبل الممات.
اللهم وفقنا لعملٍ صالح به ترضى عنا وأنت أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين؛ فإنه لا غنى لنا عن عافية الله وعن رحمة الله.
اللهم فعافنا، نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
عباد الرحمن: إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان والإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه عن النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
اليوم الآخر
خطبتي جمعة
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[وجه شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.
نشهد أنه بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة، وكشف علينا من الدين الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
ونشهد أنه لا خير لنا إلا دلنا عليه ولا شر لنا إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلّم، وكفاء ما هدى وألهم، وكفاء ما جاهد في الله حق الجهاد، اللهم صلِّ وسلم على نبينك ورسولك محمد ما تتابع الليل والنهار.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله يقول الله جل وعلا ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68)وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾[الزمر:68-70]، في هذه الآيات ذكرى للإيمان بيوم الله الآخر، للإيمان بيوم المَعَاد الذي هو كائن لا محالة، فإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، لا يصح إيمان عبد حتى يعلم ويتيقن دون ريب ولا تردد: أنّ ثَم يوما يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسب المحسن والمسيء؛ فيجازى المحسن بإحسانه ويجازى المسيء بإساءته. والله جل جلاله قال في هذه الآيات (وَأَشْرَقَتْ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) حين تُشرق الأرض بنور الله جل وعلا يضع الله جل وعلا كتاب الناس -كتاب كل أحد- الذي فيه أعماله، الذي فيه ما عمله من صالح واتبع فيه رسوله الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما عمل فيه من طالح خالف ففيه أمر الله جل وعلا وأمر رسوله، ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الاسراء:13-14]، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يعني ما يطير عنه وما ينفصل عنه من عمل -صالح كان أو غير صالح- فإنه مع المرء يلازمه حتى يُخرج له يوم القيامة يُخرج له يوم القيامة كتاب يلقاه منشورا أمامه، فيقرره الله جل وعلا بما فيه من العمل؛ ألم تعمل يا عبدي يوم كذا: كذا وكذا؟ ألم تعمل يوم كذا: كذا وكذا؟ فيقرر الله جل وعلا عباده بما عملوا من خير ومن سوء، فأما المؤمن فإنه يقر بذلك وهو يرجو عفو الله، وأما الكافر أو المنافق أو الفاسق فربما جادل في ذلك، والله جل جلاله يقيم عليه الحجة حتى يقول بعض أولئك المجادلين: يا ربنا أنت الحَكم العدل لا نقبل علينا شهيدا إلا من أنفسنا. فيُنطق الله جل وعلا جلودهم، وينطق الله جل وعلا سمعهم، ويُنطق الله جل وعلا أبصارهم، ويُنطق الله جل وعلا جوارحهم بما اكتسبوا، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ﴾[فصلت:21-24]، إنّه في ذلك اليوم تُنشر الكتب ويعرف المرء عمله، فيكون المؤمن فرحا مسرورا يأخذ كتابه بيمينه، ويكون الكافر أو الفاجر خائفا وَجِلا لا يدري ما يصنع به وترفع النار فيساق إليها الكفار وردا يساقون إليها فيتهافتون فيها تهافت الجراد.
وأما أهل الإيمان فإنهم يتأخرون، وكذلك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا في أمر عصيب وتفصيل في ذلك اليوم حتى تقام الظلمة دون الجسر ويُنصب الصراط على النار، والأنبياء يقولون وهم على الصراط: اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم. من شدة ما يرون من الهول وكلٌّ لا يهمه إلا نفسُه، فإن المرء تهمه نفسُه، فيأتي أهلُ الإيمان يمشون على الصراط بقدر أعمالهم، ويرون الصراط ودونه الظلمة؛ لأنهم يُعطون نورا فيعبر بعض أهل الإيمان كالبرق سرعة، وبعضهم يعبر كالراكب بسرعة، وبعضهم يمشي مشيا، وبعضهم يحبو حبوا، والقلوب خائفة وجلة في أمر عصيب؛ لأنه بعده عذاب صرمدي أو نعيم صرمدي، والناس إذا عبروا على الصراط فمن ناج مسلَّم ومن مكربس في النار فينقي الله أهل الإيمان في النار إذا لم يشأ أن يغفر لهم؛ ينقي متا في قلوبهم من الخبث؛ لأنّ العاصي في قلبه خبث لابد أن يُطهَّر إنْ لم يغفر الله له ذلك، ويطهره بمنّه وكرمه، وتكون النار للكفار، وتكون طبقتها العليا لأهل التوحيد يمكثون فيها زمانا طويلا وهم في عذاب شديد، عذاب شديد شديد في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يشفع الشفعاء وتبقى شفاعة رب العالمين، إلى آخر ما يحصل من ذلك، وإذا جاوز أهل الإيمان القنطرة جاوزوا الصراط اجتمعوا دون الجنة، فتأخر الأغنياء عن دخول الجنة بنصف يوم يعني بخمسمائة سنة، ويدخل الفقراء الجنة أول الأمر؛ لأن حقوق المال عظيمة ولأن حقوق ما آتى الله عباده فيها أمر شديد وفيها حساب فيؤخَّر الأغنياء حتى يعطى الناس منهم حقوقهم، وعن ذلك يحصل بلوغ المنازل لهم، ثم يدخل أولئك الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾[الحج:47]، ثم يدخل أهل الجنة الجنة، ودرجاتهم متفاوتة وإنّ منهم لمن يتراء درجة إخوانه كما نرى اليوم الكوكب الدري الغابر في السماء نرى بصيص نوره ولا نرى ما فيه لأجل شدة ارتفاعه، وإنّ من الناس من هو مع الأنبياء ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ﴾[النساء:69-70].
أيها المؤمن: إنّ الإيمان باليوم الآخر لابد أن نتيقنه، وما يحصل فيه يجب أن يكون في قلوبنا من غير شك ولا مِرْية، نرى الجنة أمامنا دائما لا تغيب عنا، ونرى النار بهولها وعذابها وما فيها، نراها دائما لا تغيب عنا.
وهذه العقيدة وهذا الإيمان يُثمر في قلب المؤمن الرجاء في أن يكون من أهل الجنة، فيحمله رجاؤه على طاعة الله وعلى خوف الله وعلى أن يتنكب أن يأتي ما لم يأذن به الله جل وعلا، فترى الذي يخاف الدارَ الآخرة تراه مراقبا لنفسه، فيأتي الواجبات مسرعا مطيعا؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك ما أمر الله به من أداء الأمانة، وكذلك ما أمر الله به من العدل في الناس، وكذلك ما أمر الله جل وعلا به من أنواع الأوامر في التعامل مع النفس ومع الأهل في البيت ومع المسلمين ومع غير المسلمين، إنّ لله في ذلك كله أوامر، فيرى المؤمن الذي يرى أمامه الجنة والنار، ويرى أمامه تتطاير الصحف، ويرى أمامه الميزان والصراط وذلك الهول بما سمع في القرآن والسنة، يرى نفسه لابد أن يُلْزِمَها يتقوى الله، والمؤمن الذي يعي ذلك سيجد نفسه عظيما عليها أن يخالف أمر الله جل وعلا، يرى نفسه عظيما عليها أن تخالف الحق أو أن تأتي بالباطل.
إنّ العقيدة هذه بالنار وبوجودها وبأنه يدخلها الكفار وبأنه يدخلها العصاة إنْ لم يغفر الله لهم وذلك في حق غير التائبين، إن لم يشأ الله مغفرته لهم فإنهم يعذبون في ذلك، وعذاب النار من يصبر عليه؟ ويتذكر المؤمن أن من أولئك الذين يعذبون من يقول الكلمة لا يُلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا، يُلقي الرجل الكلمة وتُلقي المرأة الكلمة لا تلقي لها بالا تظن أنها سهلة وهي تهوي بها في نار سبعين خريفا، وقد جاء أنَّ: من الناس من يقرب من الجنة فيُلقي كلمة يتكلم ما يدري ما فيها يتباعد -كما جاء في الأثر- عن الجنة كبعد صنعاء عن المدينة. وهذا من شدة أثر الكلام لأنه نوع من أنواع ما يحاسب به العبد.
كذلك أعمال القلوب من الصالحات كالإيمان والتوكل والرغب في ما عند الله وخشية الله والبكاء من خشية الله وكتعليق القلب بالله وبأوامره، هذا يؤجر عليه، فيسعى المؤمن إليه.
وأعمال القلوب المحرمة يراها من الكبر وسوء الظن ومن سوء الظن بالمسلمين من غير جهة، وكذلك من أنواع الإعجاب بالنفس وتزكية النفس ونحو ذلك من أعمال القلوب المحرمة يراها تَعْظُم عليه، وقد قال بعض أهل العلم: رُبّ طالح كان أعظم عند الله من فاعل طاعة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: ذاك عمل بمعصية فلم تزل في قلبه عظيمة يتعاظمها في حق الله حتى يغفر الله له، وذاك صالح عمل بطاعة فما زال يتعاظم فعلَه ويعجبه ذلك ويتكبر به ولا يَجِلُ من ربه ويخاف منه حتى يحبط الله عمله.
فالأمر أيها المؤمن -لأنك مؤمن بالآخرة- الأمر خطير والناس في غفلاتهم، وأعظم ما يعاقب به القلب أن يكون غافلا لا يتذكر الجنة ولا يتذكّر النار، لا يتذكر اليوم الآخر، تذكّر قول الله جل وعلا ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾[الزمر:69]، يشهد النبيون والشهداء أنه قد أقيمت الجنة على عباد الله كما قال الله سبحانه ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾[الأعراف:6]، يسأل الله جل وعلا المرسلين: هل أديتم هل بلغتم الأمانة؟ فيقولون يا رب اللهم بلَّغْنا. فيسأل الذين أرسل إليهم: هل بلغتم الأمانة وهل أتتكم رسلي فأعلمتكم بما أمرت ونهيت؟ فيقول الذين أرسل إليهم: نعم يا رب بُلِّغنا، قال جل وعلا بعد ذلك ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾[الأعراف:8].
أيها المؤمنون: إنّ الذي تثقل موازينه هو المفلح، والذي تخف موازينه هو الخاسر، وأنت رقيب على نفسك، والدنيا لن تنفعنا، لن تنفعنا إلا إذا كانت ميدانا للطاعة، وإن غدا لناظره قريب، إن يوم القيامة لناظره قريب، وسيقول الناس يوم القيامة ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا﴾[الأعراف:44]، سيرون ذلك حقا حقا، المؤمن يؤمن بذلك؛ ولكنْ عليه أن يكون إيمانه بذلك قويا قويا متيقَّنا وأن يستحضر ذلك الإيمان، فإن استحضاره دائما يقي المرء الهلكة، والهلكة ليست في الدنيا وإنما الهلكة الصحيحة في الآخرة لمن خسر وخفت موازينه ودخل النار، قال جل وعلا ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾[الزمر:70] (وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) كل الأنفس توفى ما عملت، ما عملت من خير فستوفى، وما عملت من شر فستوفى، وسترى ذلك أمامك، ويأتي المؤمن وينظر إلى ساعة من ساعات عمره قضاها في غير طاعة، قال عليه الصلاة والسلام «فتتقطع نفسه حسرات على أن أمضى ساعات من عمره ليست في طاعة الله»، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) يوفى أهل الطاعة في طاعاتهم، يوفى أهل الإيمان درجاتهم، يوفون أجورهم، وأما العصاة فأيضا يوفَّون أجورهم، ويعطون سيئاتهم، ولا يظلم ربك أحدا، فيكون المؤمن يعلم أنه سيوفى عمله.
فإذا كنت تٌقِرُّ بذلك -ولا شك في ذلك أبدا- فاعمل ليوم تريد أن ترى فيه ما يسرك، وحذار من شهوة تعقبك ندما دائما، حذار من شهوة مال أو من شهوة جاه أو من شهوة دنيا أو من شهوة نساء أو من شهوة طمع تُذْهب عنك لذة يقين وتُذْهب عنك الأجر في الآخرة؛ بل وتحمل عليك من الوزر ما لا تطيقه.
أيها المؤمن: تذكر في كل حياتك قول الله جل جلاله (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) يوفى كل أحد بما عمل، يوفى أهل السنة أعمالهم، ويوفى أهل البدع أعمالهم، يوفى أهل الصلاح عملهم، ويوفى أهل السوء عملهم، والله جل جلاله حَكَم عدل ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[فصلت:46].
أسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يجعلنا من أتباع نبيه.
اللهم اجعلنا من الذين يرون الحق حقّا فيتبعونه، ومن الذين يرون الباطل باطلا فيجتنبونه.
اللهم إنا ضعاف فاحملنا على طاعتك.
اللهم نعوذ بك من كيد الشياطين علينا.
اللهم نعوذ بك -وأنت المستعاذ به- نعوذ بك من كيد الشياطين علينا، ومن شر أنفسنا فلا تكلنا لأنفسنا يا ربنا طرفة عين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الزمر:75].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم يوم القيامة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولا كريما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر عبادك الذين يجاهدون لتكون كلمةُ الله هي العليا، اللهم تنصرهم وأيدهم بتأييدك وأمدّهم بمدد من عندك، فإنك أنت القوي العزيز.
اللهم نسألك أن تؤمننا في دُورِنا، وأن تُصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأن تدلّهم على الرشاد وتباعد بينهم وبين سبيل البغي والفساد، يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن ترفع عنّا الربا والزنا وأسبابه، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه بخاصة وعن سائر بلاد المؤمنين بعامة، يا أجود الأجودين.
اللهم إنّا نسألك أن لا تميتنا إلا وقد وفقتنا لتوبة نصوح، اللهم وفقنا لتوبة نصوح قبل الممات.
اللهم وفقنا لعملٍ صالح به ترضى عنا وأنت أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين؛ فإنه لا غنى لنا عن عافية الله وعن رحمة الله.
اللهم فعافنا، نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
عباد الرحمن: إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان والإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه عن النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
أعد هذه المادة: سالم الجزائري