• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

طلب الفلاح السرمدي بشرح فوائد الجهاد للسعدي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طلب الفلاح السرمدي بشرح فوائد الجهاد للسعدي

    طلب الفلاح السرمدي
    بشرح فوائد الجهاد للسعدي
    (والرد على المستشرقين، والمخذلين، وأصحاب الجهاد الإفسادي)

    تقديم فضيلة الشيخ:
    أبي اليمان عدنان بن حسين المصقري حفظه الله

    كتبه الفقير إلى الله:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه
    بسم الله الرحمن الرحيم
    تقديم فضيلة الشيخ أبي اليمان عدنان بن حسين المصقري حفظه الله

    الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة الذي شرع الجهاد لهذه الامة وجعله سببا لكشف الكرب والغمة. وعد عباده بالنصر والتمكين فقال: ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين﴾. وذم المخذلين والمتقاعسين فقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75] . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وأصلي وأسلم على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في سنته: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم»([1]).
    وبعد: فقد اطلعت على رسالة أخينا المفضال أبي فيروز الاندونيسي الذي وفقه الله للجهاد بالقول والمقال والدفع بالنفس والبيان، التي أسماها "طلب الفلاح السرمدي بشرح الجهاد للسعدي". فرأيتها طيبة الموردة حسنة المقصد محفزة للمؤمنين وبلسم للمتقين.
    فجزى الله أبا فيروز وإخوانه خيراً الذين ذبوا عن السنة ودافعوا عن عرينها كل فتنة تلك الدار التي عم نفعها البلاد وانتشر خيرها بين العباد. كم فيها من الفقهاء والعلماء والمحدثين والشعراء والمؤلفين والمحققين والأدباء. من أجل هذا يكيد لها الكائدون ويمكر بها الماكرون ويتربص بها المتربصون . لكن لابد من البلاء ولا بد من أن يعقبه الرفعة والرخاء سنة التي قد خلت من قبل.
    نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يعزّ أوليائه، وأن يعافي إخواننا ودارنا، وأن يحفظ شيخنا بحفظه وهو خير الحافظين.
    والحمد لله رب العالمين.
    كتبه / أبو اليمان: عدنان بن حسين أحمد المصقري.



    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة المؤلف عفا الله عنه
    الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين أما بعد:
    فقد أرسل إليّ أخونا الفاضل الغيور لدينه أبو عبد الرحمن حمزة التيارتي الجزائري حفظه الله رسالة مكتوب فيها:
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين الصادقين وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد: فهذا كلامٌ قيّم للعلاّمة المفسر الأصولي عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله رحمةً واسعة- في كتابه الماتع "مجموع الفوائد" بيّن فيه فوائد الجهاد وثماره. أسأل الله أن ينفع بهذه الكلمة المختصرة.
    قال -رحمه الله-:
    جهاد هذه الأمة هو الجهاد المشروع في الكتاب والسنة؛ وله فائدتان عظيمتان ضروريتان:
    إحداهما: دفع عدوان المعتدين على الإسلام والمسلمين الذي لولاه لذهبت الأديان؛ واضمحل الإسلام من عدوان الظالمين: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا﴾ [ الحج:39]. ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج:38].

    والفائدة الثانية: الإحسان إلى الخلق كلهم بنشر الدين الواجب على الخلق كلهم الذي لا تحصل سعادتهم وفلاحهم إلا به؛ ودعوة المكلفين كلهم إلى ما خلقوا له من عبادة الله وحده لا شريك له وتركهم كل ما ينافي ذلك ويضاده.
    وهذا غاية نفع الخلق والإحسان إليهم: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ [الأنفال:39].
    وهذا من أعظم محاسن الإسلام؛ فإنه لم يكن الغرض من جهاد الدين مجرد السيطرة على الخلق ولا استعبادهم للمخلوقين؛ ولا القصد الفناء والتدمير؛ ولا هو للظلم المتنوع باسم العدالة كما هو مقاصد حروب المنحرفين عن الدين؛ ولذلك اختلفت آثارها؛ فآثار جهاد الدين الإسلامي نشر العدل والرحمة والخيرات والسعادة والفلاح والصلاح المتنوع؛ وآثار غيره الفناء والتدمير واستبعاد الخلق وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم." اهـ
    ("مجموع الفوائد واقتناص الأوابد" /ص:86).
    قلت –أي أبو عبد الرحمن-: صدقت أيها الإمام؛ نعم اختلفت الآثار وأقرب مثال على كلامه -رحمه الله - جهاد أهل السنة ضد الروافض في دماج؛ وكأن الشيخ -رحمه الله- يتكلم عن جهاد إخواننا ضد الروافض المعتدين؛ فيصف بأن ما يفعله إخواننا هو الجهاد الشرعي وأن ما يفعله الرافضة باسم العدالة إنما هو من مقاصد المنحرفين عن الدين. وبعد ذلك بيّن -رحمه الله- أن من آثار جهاد المؤمنين نشر العدل والرحمة وغير ذلك من الخصال الطيّبة وأما آثار غيرهم -كالروافض- الفناء والتدمير واستبعاد الخلق وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم وغير ذلك من الخصال المذمومة -وهذا ما حصل- !! ؛ والواقع أكبر شاهد على كلام هذا الإمام الجهبذ. فنسأل الله أن يرحمه و أن يرفع درجاته في جنات النعيم وأن يدمّر الرافضة أعداء الله المحاربين لأوليائه وأن يجعلهم آية لكل معتبر.
    وفي الأخير أذكّر نفسي وإخواني فأقول: ومالنا أن لا ننصر إخواننا وقد استنصرونا في الدين؟!!! فأوصي إخواني بعدم التقاعس في نصرة إخواننا المحاصرين. فمن لم يستطع الرحلة فليعنهم بالمال؛ ومن لم يستطع فبالكتابة وفضح ما عليه الروافض من كفر وزندقة؛ ومن لم يستطع فعليه بالدعاء والإلحاح في ذلك وهكذا؛ وهذا واجبنا نحو إخواننا وهذا أقل ما نستطيع تقديمه لهم والله المستعان والحمد لله رب العالمين.
    انتهت رسالته المهمة، وجزاه الله خيرا.
    ثم طلب مني أخونا أبو عبد الرحمن مطلباً عزيزاً بأن أعلّق على ما سطره الإمام السعدي رحمه الله بما فتح الله عليّ –عفا الله عني-.
    وقد اعتذرت عنده بشدة الظروف في دماج في هذه الأيام من حصار الرافضة الحوثيين ومشاغلنا بشؤون قتال الدفاع، مع ما عندي من ضعف في بعض الجوانب، ولكن أرى بعد ذلك تلبية مطلبه بما يسره الله لي عساه أن يبارك لنا جميعاً وأن يجعل هذا العمل ذخيرة طيبة للحياة بعد الموت، فالله المستعان وعليه التكلان. وأشكر للأخ أبي عبد الرحمن حمزة على هذا الاقتراح العزيز.
    وأشكر لشيخنا الكريم أبي اليمان عدنان بن خسين الذماري حفظه الله على تواضعه وبذل جهوده في مراجعة هذه الرسالة رغمَ كثرة مشاغله بالدعوة إلى الله تعالى في أرض تنزانيا، وقد نفع الله به نفعاً عظيماً يحث الناس على التوحيد والسنة ومناصرة أهل الحق، وله يد طويل في تحريض الناس على نصرة أهل السنة المحاصرين في دماج بالمحاضرات والنصائح والتوجيهات، وقد قام أبوه الشيخ الفاضل حسين الذماري بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله، فنعمت الأسرة هم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
    أقول –وبالله التوفيق-:


    الباب الأول: احتياج الناس إلى الوقاية من شدة الموت

    إنه ما من أهل الدنيا إلا وقد ضرب الله له أجلا. قال جل جلاله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]. فكل إنسان مهما طال عمره، ومهما حسن عيشه إذا جاء أجله لا يستطيع الفرار من الموت. قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجمعة: 8].
    وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]. فلا بد من الموت وفراق الدنيا، ولكن بعض الناس مات على حسن الخاتمة ويقال له: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 - 30].
    والآخرون ماتوا معذبين، فقال تعالى في شأن الكفار: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال: 50، 51]. وقال في شأن المنافقين: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [محمد: 26، 27].
    والموت شديد على الجسد والنفوس. قال الله تعالى عن نفس المؤمن: «يكره الموت وأنا أكره مساءته». (أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قدسيا).
    وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ... فكلنا نكره الموت. (أخرجه البخاري (6507) ومسلم (2684) واللفظ له).
    وقال الله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19].
    قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ أي: غمرته وشدته. ("الجامع لأحكام القرآن"/للقرطبي /17 /ص12).
    وعن عائشة رضي الله عنها في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : ... فأمره وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه يقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ثم نصب يده فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قبض ومالت يده. (أخرجه البخاري (4449)).
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: والموت: هو مفارقة الروح للجسد، ولا يحصل ذلك إلا بألم عظيم جدا، وهو أعظم الآلام التي تصيب العبد في الدنيا. ("جامع العلوم والحكم"/شرح الحديث: 38/ص639/دار ابن رجب).
    ولكن الله قد أكرم الشهيد في سبيله بموت سهل. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة». (أخرجه الترمذي (1668) والنسائي (3161) وابن ماجه (2802) وهو حديث حسن).
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن المعلوم : أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله. وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة. فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم. فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل. بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظن أنه بفراره يطول عمره فيتمتع بالعيش وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول : ﴿قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا﴾. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع فلا فائدة فيه وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلاً إذ لا بد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه. ("إغاثة اللهفان"/ص434/ط. دار ابن الهيثم).
    والإنسان مفطور على الفرار مما يؤلمه إلى ما هو أهون وأنفع وأطيب له. قال شيخ الإسلام رحمه الله: أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض ما يضرّه. ("مجموع الفتاوى"/10/ص465).
    والعاقل إذا علم ذلك يسعى فيما يوافق فطرته. قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يعد عاقلاً إلا من فعل ما ينفعه، واجتنب ما يضرّه. ("مجموع الفتاوى"/15 /ص108).
    ومن أعظم أبواب الشهادة هي الجهاد في سبيل الله الذي جاء به الشرع وبينه العلماء بياناً شافياً كافياً، يستبشر به المسلم العاقل لما فيه من الفوائد التي لا تنحصر على الفائدة الجليلة عند الموت فقط بل تشتمل على فوائد عظيمة في الدنيا ومنافع كثيرة في الآخرة.


    الباب الثاني: التنبيه على حقيقة الجهاد الشرعي

    قال الإمام السعدي -رحمه الله-: (جهاد هذه الأمة هو الجهاد المشروع في الكتاب والسنة؛ وله فائدتان عظيمتان ضروريتان).
    قوله: (جهاد هذه الأمة) الجهاد هو بذل الجهد وتحمل المشاقّ في محاربة العدو لنيل مرضاة الله. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: والجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاده﴿وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴿إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله﴾. ("مفردات غريب القرآن"/للأصفهاني /ص 101).
    والأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة، وهم جميع الجن والإنس، والثاني أمة الاستجابة، وهم المؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الجن والإنس. هذا هو المشهور. وقد قسم بعض العلماء الأمة إلى ثلاثة أقسام. قال الكلاباذي رحمه الله: المراد بالأمة أولاً: أمة الإجابة وبقوله آخرا (أمتي) أمة الاتباع، فإن أمته صلى الله عليه و سلم على ثلاثة أقسام، أحدها أخص من الآخر: أمة الاتباع، ثم أمة الإجابة، ثم أمة الدعوة. فالأولى أهل العمل الصالح، والثانية مطلق المسلمين، والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم. (نقله ابن حجر في "فتح الباري"/11/ص411).
    ومراد الإمام السعدي رحمه الله بـ: (هذه الأمة) هي أمة الإجابة وأمة الاتباع، لأنهم هم الذين قاموا بهذا الجهاد الشرعي، على حسب طاقتهم وعلمهم وإيمانهم.
    وقوله: (هذه الأمة) خرج بذلك أمم قبل مجيء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فلسنا مخاطبين بشريعة قوم موسى أو عيسى أو من قبلهما من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلا ما قرره هذا الشرع المحمدي. فمن أجل ذلك قال المؤلف رحمه الله: (جهاد هذه الأمة هو الجهاد المشروع) فليس علينا مثلاً أن تكون المائةُ مقاومة للألف: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65].
    كانت هذه الشريعة القديمة جارية على بعض الأمم السالفة، ثم نسخت بقول الله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66].
    فلا حجة للخوارج الانتحاريين أمثال "القاعدة" و"الحوثة" أن يفجِّر أحدهم نفسه في جماعة من الناس. فليس ذلك مشروعاً في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان المقتولون من المسلمين الأبرياء؟!
    وقول المؤلف رحمه الله: (المشروع في الكتاب والسنة) ردّ على من أحدث في الدين، إما برأيه وإما بذوقه، أو بتقليد أحد من البشر. قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]. وقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
    قال الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله : وهذا في القرآن كثير في نيف وثلاثين موضعاً أوجب طاعة رسوله ، وقرنها مع طاعته عز وجل ، ثم حذر خلقه مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن لا يجعلوا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بشيء ، أو نهاهم عن شيء كسائر الخلق ، وأعلمهم عظيم ما يلحق من خالفه من الفتنة التي تلحقه. ("الشريعة"/للآجري/ص306/دار ابن حزم).
    قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
    وهذا رد على الخوارج والرافضة وجميع من أنكر السنة بعلة الاكتفاء بالقرآن –زعم-. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول. فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([2])
    وقال: «إنما الطاعة في المعروف»([3]) وقال في ولاة الأمور: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة»([4]). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم وظناً أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر صلى الله عليه وسلم، وما قد علم من دينه إرادة خلافه فقصوا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله؟ ثم أمر تعالى بردّ ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل أو حسن تأويلا في العاقبة. ("إعلام الموقعين"/1/ص38-39/دار الكتب العلمية).
    وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم، وعقولهم، وأذواقهم، وسياستهم، ومعارفهم على ما جاء به، ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟! ("إعلام الموقعين"/النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله/1/ص 41/دار الكتب العلمية).
    فهذه الأدلة والتوضيحات وأمثالها تدل على أن من ادّعى الجهاد في سبيل الله وخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم فادعاؤه مردود عليه. ولعله لم يحصل على فضل الجهاد والشهادة، بل دخل النار، والعياذ بالله.
    فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقال: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه من أهل النار». فقال رجل من القوم: أنا صاحبه. قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: «وما ذاك؟» قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة». (أخرجه البخاري (2898) ومسلم (112)).
    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابه النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها -أو عباءة-» ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون». قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. (أخرجه مسلم (114)).
    فكلام المؤلف رحمه الله (المشروع) تنبيه عظيم لا يهمله إلا الخاسرون في سعيهم.
    ذلك لأن هذا الجهاد المشروع لا يحبه الخوارج ولا غيرهم من المنحرفين لأنه مخالف للهوى. فلا يقوم بهذا الجهاد الشرعي إلا من جاهد هواه وشيطانه لطاعة الله.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً وأعظمهم عند الله قدراً .
    وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال: ﴿ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا﴾ ( الفرقان : 52 ) فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى : ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير﴾ ( التوبة : 73 ) فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً.
    ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه.
    ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([5]) كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلا له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج. فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
    فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ وفوت اللذات والمشتهيات. ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان قال تعالى : ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا﴾ ( فاطر : 6 )، والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.
    فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها وجهادها وقد بلى بمحاربتها فى هذه الدار وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء فأعطى الله العبد مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد وأعطى أعداءه مدداً وعدة وأعوانا وسلاحا وبلا أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه كما قال تعالى : ﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا﴾ ( الفرقان : 20 )، وقال تعالى ﴿ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض﴾ ( محمد : 4 ) وقال تعالى : ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم﴾ ( محمد : 31 )، فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى وأنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله وأمدهم بملائكته وقال لهم : ﴿أني معكم فثبتوا الذين آمنوا﴾ ( الأنفال : 12). وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلطه عليهم فلتركهم بعض ما أمروا به ولمعصيتهم له ثم لم يؤيسهم ولم يقنطهم، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ويداووا جراحهم ويعودوا إلى مناهضة عدوهم، فينصرهم عليه ويظفرهم بهم، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ومع المحسنين ومع الصابرين ومع المؤمنين وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم. وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره فإن قوي الإيمان قويت المدافعة. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
    ("زاد المعاد"/3/ص5-7/ط. الرسالة).
    فمن جاهد نفسه لطاعة الله فقد نصر اللهَ فنصره الله على أعدائه ومكنه في الأرض وثبت قدميه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
    فلا بد من مجاهدة الهوى والثبات على الشريعة. فصاحب الهوى لا يستطيع القيام بهذا الجهاد الإسلامي. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وثبت عنه أنه قال : «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله»، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد . كما قال : «والمهاجر من هجر السيئات».
    ثم هذا لا يكون محمودا فيه، إلا إذا غَلب، بخلاف الأول فإنه من ﴿فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما﴾ [ النساء : 74 ] ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة . . . »([6]) إلخ؛ وذلك لأن الله أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، ... إلخ. ("مجموع الفتاوى"/10/ص635-636).
    ثم قول المؤلف السعدي رحمه الله: (وله فائدتان عظيمتان ضروريتان).
    الفَائِدَةُ هي: الزيادة تحصل للإنسان، وهي اسم فاعل من قولك ( فَادَتْ ) له ( فَائِدَةٌ ) ( فَيْداً ) من باب باع و ( أَفَدْتُهُ ) مالا أعطيته و ( أَفَدْتُ ) منه مالا أخذت. ("المصباح المنير"/2/ص485).
    ونفوس كثير من الناس تكره الجهاد لما فيه من المتاعب والآلام وترك الملذات وغير ذلك، ولكن إذا علمت أن فيه منافع عظمى انبعثت إليه طاعة لربها عز وجل ورغبة في تلك المنافع الموعودة. قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿وهو كره لكم﴾ أي: شديد عليكم ومشقة. وهو كذلك، فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم﴾ أي: لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولادهم. ﴿وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم﴾ وهذا عام في الأمور كلها، قد يحب المرء شيئاً، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة. ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى: ﴿والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون. ("تفسير القرآن العظيم"/1/ص548/دار الحديث).
    فبيان فوائد الجهاد الشرعي أمر مهمّ لأن النفس لا تترك مألوفاتها ولا تتحرك إلى غيرها إلا إذا علمت أن التي تتقدم إليها خير لها مما تركتها، أو أن البقاء مع مألوفاتها أضرّ عليها من تركها. وهذا أيضاً يحتاج إلى تقوية العزم. فلا يفلح بفوائد الجهاد الشرعي إلا من جمع بين العلم بها والعزم على العمل لنيلها.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن النفس لا تترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروه حصوله أضرّ عليه من فوات هذا المحبوب. وهذ يحتاج صاحبه إلى أمرين، إن فقدا أو أحداً منهما لم ينتفع بنفسه. أحدهما: بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين لتخلص من أعلاهما. وهذا خاصة العقل، ولا يعدّ عاقلا من كان بضد ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالاً منه. الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك، فكثير ما يعرف الرجل قدر التفاوت، ولكن يأتي له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته. ("الجواب الكافي"/ص 127).
    فمن أجل ذلك ذكر الله تعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته أدلة كثيرة على فضائل الجهاد. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقد ورد في فضل الجهاد ، ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها. ("فتح القدير"/1/ص289).
    وقول المؤلف رحمه الله: (عظيمتان ضروريتان). الضرورة هنا بمعنى الجزم لا شك فيه، لا يستطيع القلب لدفعه. قال السمعاني رحمه الله: العلم الضرورى، وهو العلم الذى لا يخالجه شك ولا يدخله ريب ولا يمكن للإنسان دفعه عن نفسه بوجه ما. ("قواطع الأدلة في الأصول"/للسمعانى /1 /ص313).
    وهذا العلم الضروري يحصل بوضوح الدليل عليه في القلوب. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وفي الحقيقة فجميع الأدلة اليقينية توجب علمًا ضروريًّا. والأدلة السمعية الخبرية توجب علمًا ضروريًّا بأخبار الرسول. ("مجموع الفتاوى"/13/ص 140).
    فمن أجل وضوح الأدلة على فوائد الجهاد اضطرّ القلب إلى قبولها وتصديقها. والأدلة المتواترة تفيد علما ضرورياً على الصواب. وقد ذُكر: أن المتواتر يفيد العلم الضروري، وهو للجمهور. ("شرح تنقيح الفصول"/2 /ص421/للقرافي رحمه الله).
    والآن نشرع فيما ذكره المؤلف رحمه الله من فوائد الجهاد.


    الباب الثالث: الفائدة الأولى للجهاد في سبيل الله

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (إحداهما: دفع عدوان المعتدين على الإسلام والمسلمين الذي لولاه لذهبت الأديان؛ واضمحل الإسلام من عدوان الظالمين: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا﴾ [ الحج:39]. ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج:38]).
    الشرح بالله التوفيق-:
    الفائدة الأولى للجهاد الشرعي: دفع عدوان المعتدين على الإسلام والمسلمين الذي لولاه لذهبت الأديان؛ واضمحل الإسلام من عدوان الظالمين. ذلك لأن الشيطان حريص على إضلال الناس ليكونوا من أحزابه في النار، والأدلة في ذلك معروفة. فإذا عجز الشيطان عن إضلال أولياء الرحمن حرّض أولياءَه على إهلاكهم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر مراتب إغواء الشيطان للعباد: فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه، سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني، فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال. ("بدائع الفوائد"/2/ص485).
    هذا وجه. وفي وجه آخر: أن الإنسان في الأصل ظلوم جهول. قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب/72].
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافى جهله، وعدل ينافى ظلمه، فإن لم يمنّ الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم. ("مجموع الفتاوى"/14/ص38).
    وبعد أن ذكر هذه الآية وغيرها من شأن الإنسان قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذى يكمله بذلك ويعطيه إياه، وليس له ذلك من نفسه بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل. وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه، فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له وجعله مريدا للآخرة، ...إلخ. ("عدة الصابرين"/ص 161).
    فبهذا البيان علمنا أن الناس إذا تُركوا على أصلهم في الجهل والضلال سيفسدون في الأرض، فلا بد من الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا كله جهاد في سبيل الله تحصل به للعباد مصالحهم واندفعت عنهم المفاسد. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». (أخرجه البخاري (2493)).
    قال الحافظ رحمه الله: وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. وقال: وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف وتبين العالم الحكم بضرب المثل ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضرراً، وأنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضرراً لزمه إصلاحه، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر. ("فتح الباري"/ابن حجر /5 /ص296).
    ثم استدل المؤلف رحمه الله بعموم قول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا﴾ [ الحج:39].
    قال الإمام الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض، لهُدم ما ذكر، من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض، وكفِّه المشركين بالمسلمين عن ذلك; ومنه كفه ببعضهم التظالم، كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم; ومنه كفُّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق، ونحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض، لولا ذلك لتظالموا، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جل ثناؤه. ("جامع البيان"/للطبري /18/ص647).
    فبالجهاد في سبيل الله اندفع شرّ الكفار. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ [التوبة: 12].
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿لعلهم ينتهون﴾ أي: عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين. وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا. ("الجامع لأحكام القرآن"/8/ص86).
    ثم ذكر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج:38].
    هذا يدل على أن قتال الدفع جهاد في سبيل الله، ومن مات فيه فهو شهيد.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا﴾ ]الحج : 39[ وقال النبي: «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد»([7])، لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة، فإن قتل فيه فهو شهيد. فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً. ولهذا يتعين على كل أحد يقم ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه والولد بدون إذن أبويه والغريم بغير إذن غريمه. وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق. ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار –إلى قوله:- فجهاد الدفع يقصده كل أحد ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعا وعقلا.
    ("الفروسية"/ص 121-122/دار عالم الفوائد).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً. فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا. لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان. وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده والجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم. ("الاختيارات الفقهية"/ص 332/ط. دار الاستقامة).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة فإن قتل فيه فهو شهيد. فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوبا ولهذا يتعين على كل أحد يقم ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه والولد بدون إذن أبويه والغريم بغير إذن غريمه وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق. ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع وهل تباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرته فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد. ("الفروسية"/ص122-123/ط. دار عالم الفوائد).
    فما أعظم منقية الجهاد في سبيل الله، وما أكرم الشهداء في سبيل الله. عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز و جل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز و جل أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز و جل هؤلاء الآيات على رسوله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء. (أخرجه أحمد (2388)/حسن الإسناد، وهو صحيح لغيره)).
    وجاء تفسير هذه الآية من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضا. (أخرجه مسلم (1887)).
    انتهينا بتوفيق الله وحده من شرح مختصر على الفائدة الأولى من الجهاد الشرعي. وتحت هذه الفائدة فوائد كثيرة ومنافع عظيمة تعرف من خلال استنباط الأدلة السابقة وبيانات الأئمة رحمهم الله. وأدلة على فضائل الجهاد في سبيل الله كثيرة جدا كما ذكر في "الصحيحين" للإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله، و"الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" للإمام الوادعي رحمه الله، وغير ذلك.
    ويكفينا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله. والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل». (أخرجه البخاري (2797)).
    قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ومعنى الحديث الذي من أجله ورد فضل الجهاد وفضل القتال في سبيل الله وفضائل الشهداء والشهادة كثيرة جدا. ("الاستذكار"/5/ص96).
    وقد صنف في ذلك تصانيف منها: "الاجتهاد في حكم الجهاد" للإمام ابن كثير، و"مشارق الأشواق إلى مصارع العشّاق" للإمام ابن النحاس الدمشقي. وقد أشرت إلى شيء من ذلك في رسالتي: "بهجة طلاب الشهادة في صدّ عدوان الرافضة"، و"تراجم مشايخ دار الحديث السلفية الذين قتلهم الرافضة الكفرية". والتوفيق من الله وحده. وسيأتي ذكر بعض الأدلة على فضائل الجهاد من خلال كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر هذه الرسالة إن شاء الله.
    وإنما أقتصر على شرح عبارات المؤلف رحمه الله مراعاة لضيق الوقت وشدة الظروف في هذه الأيام، والله الموفق إلى أقوم الطريق. والفوائد التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعتبر ردا على المستشرقين وكثير من الطاعنين في الإسلام، ومن خلال شرحه رد على المخذلين عن الجهاد في نصرة المظلومين.



    الباب الرابع: الفائدة الثانية للجهاد في سبيل الله

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (والفائدة الثانية: الإحسان إلى الخلق كلهم بنشر الدين الواجب على الخلق كلهم الذي لا تحصل سعادتهم وفلاحهم إلا به؛ ودعوة المكلفين كلهم إلى ما خلقوا له من عبادة الله وحده لا شريك له وتركهم كل ما ينافي ذلك ويضاده. وهذا غاية نفع الخلق والإحسان إليهم: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾ [الأنفال:39]).
    الشرح بالله التوفيق-:
    إن الفائدة الثانية للجهاد في سبيل الله نشر الدين الحق الذي لا سعادة ولا فلاح إلا به. ذلك لأن الجهاد يشرع من أجل تحقيق الحق وإبطال الباطل فينال العباد بذلك مصالحهم الحقيقية وينجون من المفاسد. قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193].
    فلما كان حقيقة الجهاد تخقيق الإيمان ومحو الكفر شرع إبلاغ دعوة الإيمان قبل القتال. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله». (أخرجه البخاري (2518) ومسلم (84)).
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وقوله في حديث أبي هريرة: «ثم الجهاد في سبيل الله»، وفي حديث أبي ذر: «والجهاد»- بالواو- يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله في مواضع، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾، وقوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [الصف: 10 ، 11] الآية. فالإيمان بالله ورسوله: التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان. والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان، بعد دعائهم بالحجة والبيان، ولهذا يشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال. ("فتح الباري"/لابن رجب/4/ص19).
    وانظروا إلى نفائس شريعة الله في الجهاد، فيها أخلاق سامية وغايات عالية.
    عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمر أمير على جيش أو سرية أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ( أو خلال )، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم». الحديث (أخرجه مسلم (1731)).
    وبعض الكفار لما رأوا محاسن الإسلام وعبادات المؤمنين وأخلاقهم من خلال الحروب وشؤون الأسارى وغير ذلك دخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم، فأنقذهم الله من النار، فهذه فوائد عظيمة.
    وأخذ الجزية من الكفار مع تركهم على دينهم ليس مناقضاً لعلو كلمة الله، لأن الكفار أذلة تحت قهر المسلمين. بل في ذلك مصالح كثيرة توافق حكمة الجهاد.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وعمر بن الخطاب لما فتح الشام وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون أسلم منهم خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، فإن العامة والفلاحين وغيرهم كان عامتهم نصارى ولم يكن في المسلمين من يعمل فلاحة ولم يكن للمسلمين في دمشق مسجد يصلون فيه إلا مسجد واحد لقلتهم ثم صار أكثر أهل الشام وغيرهم مسلمين طوعا لا كرها فإن إكراه أهل الذمة على الإسلام غير جائز كما قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]. قال أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن الزبير قال كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية. (انتهى من "الجواب الصحيح"/1 /ص110/دار ابن الهيثم).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذه كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الأرض. كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه، أو يهادنه، أو يدخل تحت قهره بالجزية، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث بريدة. فإذا ترك الكفار محاربة أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون كان في ذلك مصلحة لأهل الإسلام وللمشركين.
    أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوة للإسلام مع صغار الكفر وإذلاله، وذلك أنفع لهم من ترك الكفار بلا جزية.
    وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه، أو بلغتهم أخباره، فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم: وهذا أحب إلى الله من قتلهم، والمقصود إنما هو أن تكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله لله. وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هدا المعنى، كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كون كلمة الله هي العليا، وكون الدين كله لله، فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجرية على رؤوس أهله، والرق على رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة - والله أعلم.
    (انتهى من "أحكام أهل الذمة"/ص 7).
    وبعض الناس أسلموا لما رأوا شدة قوة جيش المسلمين.
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في قصة غزوة عمورية: ... ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها وقد تحصن أهلها تحصنا شديدا وملؤا أبراجها بالرجال والسلاح وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم، وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبنى بناء ضعيفا بلا أساس فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير. ("البداية والنهاية"/10/ص287).
    ومنهم من أُسر ثم بعد الأيام علم محاسن الإسلام فأحبه فأسلم وحسن إسلامه. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل». (أخرجه البخاري (3010)).
    قال الحافظ رحمه الله: المراد بكون السلاسل في أعناقهم مقيد بحالة الدنيا فلا مانع من حمله على حقيقته والتقدير يدخلون الجنة وكانوا قبل أن يسلموا في السلاسل. وسيأتي في تفسير آل عمران من وجه آخر عن أبي هريرة في قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ قال: «خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام». ("فتح الباري"/لابن حجر /6 /ص145).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك. فقال: «أطلقوا ثمامة» فانطلق إلى نجل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت. قال: لا ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم. (أخرجه البخاري (4372) ومسلم (1764)).
    نعم إن الجهاد في سبيل الله سبب انتشار الخير والعز لمن قبل هذا الدين الصافي.
    عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر الا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر». وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية. (أخرجه أحمد بن حنبل (16998)/صحيح).
    قال علي القاري رحمه الله: وقوله: «بعز عزيز» حال، أي: أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت ملتبسة بعز شخص عزيز أي: يعزه الله بها حيث قبلها من غير سبي وقتال. و«ذل ذليل» أي: أو يذله الله بها حيث أباها، وهو يشمل الحربي والذمي. والمعنى: يذله الله بسبب إبائها بذل سبي أو قتال حتى ينقاد إليها كرها أو طوعا أو يذعن لها ببدل الجزية. والحديث مقتبس من قوله تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/1 /ص276).
    فجزى الله سلفنا الصالح خيرا الجزاء وقد نشر الخيرات في البلاد والعباد بجهادهم في سبيل الله.
    قال الإمام يعقوب الفساوي رحمه الله: رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس رحمهما الله: حدثنا أبو يوسف حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس: ... وأما ما ذكرت من قول الله عز وجل: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بأحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم﴾. فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيهم ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون - لله - كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقوموهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لأقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلّموهموه، فإذا جاء أمر عملوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره، ... إلخ.
    ("المعرفة والتاريخ"/ص 167-168/صحيح).
    وقال الإمام الآجري رحمه الله : فقد والله أنجز الله عز وجل الكريم للمهاجرين والأنصار ما وعدهم به، جعلهم الخلفاء من بعد الرسول ، ومكنهم في البلاد، ففتحوا الفتوح، وغنموا الأموال، وسبوا ذراري الكفار ، وأسلم على أيديهم من الكفار خلق كثير، وأعزوا دين الله عز جلّ، وأذلوا أعداء الله عز وجل ، وظهر أمر الله ولو كره المشركون، وسنوا للمسلمين السنن الشريفة، وكانوا بركة على جميع الأمة ، أبو بكر وعمر ، وعثمان، وعلي ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾ اهـ. ("الشريعة" للآجري /3 /ص 229).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ... فرأينا أصحاب رسول الله فتحوا بلاد الكفر وقلبوها بلاد إسلام وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى، فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ("مدارج السالكين"/1/ ص64/دار الحديث).
    وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد كان قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي من سادات الأمراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة. وقد هدى الله على يديه خلقا لا يحصيهم إلا الله فأسلموا ودانوا لله عز و جل. ("البداية والنهاية"/9 /ص167).
    قول المؤلف رحمه الله: (الدين الواجب على الخلق كلهم الذي لا تحصل سعادتهم وفلاحهم إلا به) يدل على أن الناس كلهم يجب عليهم الدخول في الإسلام الدين الفطري الحنيف. والأدلة على هذا معروفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ... فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين وهذا هو دين الإسلام الذى بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، فلا يقبل من أحد ديناً غيره. قال تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين﴾ ]سورة آل عمران: 85[. وكان نوح، وإبراهيم، وموسى، والمسيح، وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام. قال نوح: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾([8]) ]سورة يونس: 72[، وقال عن إبراهيم: ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وأنه فى الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني أن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ ]سورة البقرة: 130-132[. وقال موسى: ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ ]سورة يونس: 84[، وقالت السحرة: ﴿ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين﴾ ]سورة الأعراف: 126[، وقال يوسف: ﴿توفني مسلما وألحقني بالصالحين﴾ ]سورة يوسف: 121[، وقال تعالى: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا﴾ ]سورة المائدة: 44[، وقال عن الحواريين: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾ ]سورة المائدة:111[. اهـ ("مجموع الفتاوى"/1 / ص 188-189/مكتبة ابن تيمية).
    والإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وآله وسلم هو تحقيق الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعباده ربه أحدا﴾ وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه. وفي الثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة اهـ. ("مجموع الفتاوى" / 10 / ص 234/مكتبة ابن تيمية).
    فمن تمسك بهذا الدين فاز بالفلاح والسعادة، ومن أعرض عنه أصابته تعاسة الحياة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والانابة إليه ومحبته والاخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ويتم نعيمهم فلا يعطيهم في الآخرة شيئا هو أحب إليهم ولا أقر لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم : من النظر اليه وسماع كلامه منه بلا واسطة ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم ولا أقر لعيونهم من الإيمان به ومحبته والشوق إلى لقائه والأنس بقربه والتنعم بذكره. ("إغاثة اللهفان"/1/ص28).
    ثم قال المؤلف رحمه الله: (وهذا من أعظم محاسن الإسلام؛ فإنه لم يكن الغرض من جهاد الدين مجرد السيطرة على الخلق ولا استعبادهم للمخلوقين؛ ولا القصد الفناء والتدمير؛ ولا هو للظلم المتنوع باسم العدالة كما هو مقاصد حروب المنحرفين عن الدين)؛
    الشرح بالله التوفيق-:
    من أعظم محاسن الإسلام: إنقاذ الناس من عبودية الشيطان إلى عبادة بارئهم عز وجل، ومن أسباب الخسارة إلى طرق السعادة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 106، 107]. وقال جل ذكره: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: 2، 3].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: لما أظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقا وأحزابا لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم، فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال النبي فيما يروي عن ربه أنه قال: «إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»([9]). فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به، فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم، فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجا منيرا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا، فأبصروا بنور الوحي مالم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة لما لم يكونوا بآرائهم يرونه، فكانوا كما قال الله تعالى : ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾ ]البقرة: 257[ وقال: ﴿الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ ]إبراهيم: 1[ . ("الصواعق المرسلة"/1/ص500).
    فليس غرض الجهاد في سبيل الله السيطرة على الناس كشأن الملوك، ولا إهلاك الغير كشأن الجبابرة، ولكن هداية الناس من الظلمات ومقت الرحمن وأسباب هلاكهم إلى النور ورضى الرب وأسباب الفلاحهم. هذا هو جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن كان إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب كان إلى المقصود الأصلي أزلف. فلا بد من معرفة حقيقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالتها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا، يتلو علىنا آيات الله ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين . وقال أهل الجنة : ﴿الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ [الأعراف : 43] . والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة .
    وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهىه، وهم السفراء بينه وبين عباده .
    وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة»([10])، وقال الله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [ الأنبياء : 107 ] ، وقال صلوات الله وسلامه عليه : «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل، فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره، والقيام بأداء حقوقه، وسد إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين .
    أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب حين حرف الكلم، وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وجعله قسيم الجنة والنار، وفرق ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته، والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/19/ص101-103).
    وقد علم عقلاء المتأملين للتواريخ أن شرائع اليهود والنصارى مبدلة من قِبل أحبارهم ورهبانهم، فانسلخوا عن الصراط المستقيم فتباعدوا عن المصالح. بل لو كانت تلك الشرائع باقية على ما كانت عليه في زمن أنبيائهم بلا أي تبديل، فشريعة الله الآخيرة المحمدية هي الأكمل والأنسب لهذه الأزمان إلى قيام الساعة والأكثر مصلحة وأبعد عن المفاسد. فانتشارها في الأرض رحمة لأهلها لو كانوا يعقلون.
    قال الله تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 156، 157]
    قال الإمام البغوي رحمه الله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ يعني: ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ يعني: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والزنا وغيرها من المحرمات. ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ قرأ ابن عامر "آصارهم" بالجمع. والإصر: كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل. قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد: يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة. وقال قتادة: يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين، ﴿وَالأغْلالَ﴾ يعني: الأثقال ﴿الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ وذلك مثل: قتل الأنفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية، وترك العمل في السبت، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلك من الشدائد. وشبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ﴾ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ وقّروه، ﴿وَنَصَرُوهُ﴾ على الأعداء ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ يعني: القرآن ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ("معالم التنزيل"/للبغوي /3 /289-290).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل. فتوجب العدل وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي جمع فيه بين العدل والفضل، مع أنا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل وكذلك المسيح أيضا أوجب العدل وندب إلى الفضل.
    وأما من يقول: إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين، لكن قد يقال: إن ذكر العدل في التوراة أكثر وذكر الفضل في الإنجيل أكثر، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
    والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة وهم أولياء الله نوعان أبرار مقتصدون ومقربون سابقون، فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات والثانية لا تحصل إلا بالفضل وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات. فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل كقوله تعالى: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة﴾ فهذا عدل واجب من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة. ثم قال: ﴿وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾، فهذا فضل مستحب مندوب إليه من فعله أثابه الله ورفع درجته ومن تركه لم يعاقبه.
    وقال تعالى: ﴿ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله﴾ فهذا عدل. ثم قال تعالى: ﴿إلا أن يصدقوا﴾ فهذا فضل. وقال تعالى: ﴿والجروح قصاص﴾ فهذا عدل، ثم قال: ﴿فمن تصدق به فهو كفارة له﴾ فهذا فضل. وقال تعالى: ﴿وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم﴾ فهذا عدل، ثم قال: ﴿إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾ فهذا فضل.
    وقال تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ فهذا عدل، ثم قال: ﴿ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾ فهذا فضل، وقال تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ فهذا عدل، ثم قال: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ فهذا فضل.
    وهو سبحانه دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل، كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال والناس فيها إما محسن وإما عادل وإما ظالم، فالمحسن المتصدق والعادل المعاوض كالبايع والظالم كالمرابي. فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261 - 263] .
    ثم ذكر تحريم الربا فقال: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
    ثم لما أحل البيع ذكر المداينات وحكم البيع الحال والمؤجل وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن وختم السورة بأصول الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل، وهو سبحانه بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس وهم ثلاثة إما مؤمن وإما كافر وإما منافق، فذكر نعت المؤمنين ثم ذكر نعت الكافرين ثم ذكر نعت المنافقين، ثم مهد أصول الإيمان فأمر بعبادة الله تعالى وذكر آياته وآلائه، ثم قرر نبوة رسله ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض.
    ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق خص أهل الكتاب، فخاطبهم خاطب اليهود أولا بني إسرائيل ثم النصارى ثم خاطب المؤمنين، فقرر لهم قواعد دينه فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة ووكد الأمر بملة إبراهيم، ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة، ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما ثم للذين آمنوا خصوصا ... إلخ.
    ("الجواب الصحيح" /2/ص274-276/دار ابن الهيثم).
    وقال رحمه الله: ففي إرسال محمد من الحكم والمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق، فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله، فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها بخلاف شريعة من قبله فإن موسى بعث إلى بني إسرائيل وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى وبعد موته ما هو معروف وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن.
    ("الجواب الصحيح" /2/ص278-279/دار ابن الهيثم).
    انظروا إلى هذه الفضائل الشرعية التي جاء بها المجاهدون في سبيل الله إلى من قبلها فأسلم. وانظر إلى مثال آخر:
    قال القرافي رحمه الله: أن الله تعالى جوز في شريعة موسى عليه السلام أن يتزوج الرجل من شاء من النساء، فراعى مصلحة الرجال دون النساء، فإنهن يتضررن بالغيرة والإهمال إذا كثرن، وحجر شريعة عيسى عليه السلام على ما زاد على المرأة الواحدة، فقد على تلائم فتكون في حيز العدم. وفي شريعتنا جمع بين مصالح الفريقين فجعل للرجل أربعة نسوة، فلا ضرر عليه ولم يكثر ضرر المرأة بأكثر من ثلاث، فكانت شريعتنا أتم. واليهود اليوم لا يزيدون على الأربع تشبها بالمسلمين. ("الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة"/للقرافي/ص61/دار ابن الجوزي).
    وانظر إلى فضائل الدين الإسلام المحمدي: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». (أخرجه البخاري (335)).
    قال القرافي رحمه الله –في الموازنة بين الشريعة القديمة والشريعة المحمدية-: وجميع الشرائع إنما يؤذن لهم في الصلاة في البيع، وشريعتنا وردت بالصلاة في كل موضع طاهر في جميع أقطار الأرض، ومعلوم أن الصلاة فيها تعظيم الله تعالى، وبها يكون أكثر من الأول لأن الإنسان قد يتعذر عليه البيعة لكونه في البرية والسفر، أو يتيسر له لكن تبدو له، وتفتر عزيمته قبل وصوله إليها، فيكون الصلاة وتعظيم الله تعالى بها في غاية القلة. وفي هذه الشريعة جميع الأرض مسجد فيكون تعظيم الله تعالى وإجلاله في غاية الكثرة، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع. ("الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة"/للقرافي/ص61/دار ابن الجوزي).
    وقال رحمه الله: إن جميع الشرائع لم تحل فيها الغنائم لأحد بل تقدم للنيران فتحرقها، وأحلت الغنائم في هذه الشريعة. ومعلوم بالضرورة أن صون المالية عن الضياع والاستعانة على الدين والدنيا بها أنفع في نظر الحكمة، وأتم في مراعاة المصلحة، فتكون هذه الشريعة أفضل الشرائع. (نفس المصدر).
    وحتى في النداء الإسلامي المحمدي للصلاة معاني جليلة ليست مجرد الإعلام. قال القرافي رحمه الله: إنا لا نعلم في شريعة من الشرائع إلا إعلاما بالأوقات المعينة للصلوات بشيء يشتمل على مصلحة غير الإعلام، فاليهود يعلمون بالبوق، والنصارى بضرب خشبة على خشبة، أو نوع آخر من الجمادات يسمونه الناقوس، وغير هاتين الملتين تُعلم بالنيران. ومعلوم أن هذه الأمور لا تحصل إلا مصلحة الإعلام. وشرع في هذه الشريعة وحدها: الأذان. فحصل الإعلام ومصلحة أفضل، وهي الثناء على الملك العلام، وتجديد كلمة الإيمان، وتفخيم قدر رسول الملك الديان، والحض على الصلاة وجميع سبل النجاة بقوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح). والفلاح خير الدنيا والآخرة. وكلمة (حي) أمر وتحضيض على ما بعدها، وفيه إيقاظ الغافلين، وانتشار ذكر الذاكرين بالمجاوبة للمؤذنين، وفيه إشعار للتوحيد، وأنواع التمجيد بدوي الأصوات بين الأرض والسماوات على أعلى البينات. وأين هذا من النفخ في البوقات، وقراقع الخشبات؟ ومعلوم أن هذه المصالح جليلة، ومناقب فضيلة، لم تقرر إلا في هذه الشريعة المحمدية، وهذه الأمة الطاهرة الزكية، وذلك مما يوجب شرفها على غيرها. (نفس المصدر في ص62).
    هذا رأس القلم لجلالة القرآن وسمو شريعة محمد صلى الله عليه وسلم المشتملة على كل مصلحة، وقد اعترف الأعداء على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأفضل. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإنهم كما قال ابن سينا : اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي . ("مجموع الفتاوى"/4 /ص100).
    فلا يرغب عنها بعد ما علمها إلا من سفه نفسه لاتباع هواه. فمن اتبعها نال هذه المناقب الجليلة والمصالح العظيمة. ولا شك أن نشر هذه الشريعة يحتاج إلى الجهد والبذل والصبر في سبيل الله.
    عن طارق المحاربي رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في سوق ذي المجاز وعليه حلة حمراء، وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، وهو يقول : يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : غلام بني عبد المطلب ، فقلت : من هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة ؟ قالوا : هذا عبد العزى أبو لهب. (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم (160)، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح"/(4426))).

    ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا هو للظلم المتنوع باسم العدالة كما هو مقاصد حروب المنحرفين عن الدين). إن بعض الناس يضرب الآخرين ويتعالى عليهم ويتطاول عليهم بأنواع الظلم سماها: العدالة كشأن المستعمرين الكقار، سموا أنفسهم مستعمرين وهم مستعبدين عباد الله. وهذا كله تقليب للحقائق، ولا يغير حقيقة الحال. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن الحقائق لا تتغير بتغيير الألفاظ. ("إعلام الموقعين"/1/ص179/دار الحديث).
    وقال الإمام محمد الصنعاني رحمه الله: الأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية. ("تطهير الاعتقاد"/ص67/دار ابن حزم).
    وقد سجل التاريخ في شدة ظلم النصارى إذا سيطروا على البلاد.
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وفي هذة السنة أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة قبل فيها خلقا كثيرا من المسلمين وأسر مالا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله. ("البداية والنهاية"/10/ص285).
    وقال رحمه الله: فلما كان في سنة بضع وتسعين وأربعمائة، و قد ضعفت الدول الشامية والمصرية في الدولة الفاطمية تدنت الفرنج لعنهم الله إلى بعض السواحل فملكوها ، فمن ذلك مدينة إنطاكية ، واطرابلس ، وتلك السواحل المتاخمة للبحر ودخل ملكهم كندهري لعنهم الله فأخذ بيت المقدس المطهر يوم جمعة فجمع ممن فيه من العباد والزهاد والقاطنين به من المسلمين نحواً من سبعين ألفاً فقتلهم في صبيحة واحدة رحمهم الله ولعن كندهري وقومه. واستمر بيت المقدس في أيديهم نحواً من تسعين سنة حتى انتزعه من أيديهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، واسترجع ما كانوا استحوذوا عليه - من بلاد غزة ونابلس وعجلون والغور وبلاد الكرك والشوبك وما إليه من البلاد ، واسترد منهم (صفد) وأكثر السواحل البحرية إلا (عكا وصور) ، فاقتدى به الملوك بعده ، فاستنقذوا منهم بقية السواحل ، حتى كان آخرها (عكا) التي فتحها الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون رحمه الله، وذلك في سنة تسعين وستمائة، فلم يبق للفرنج في السواحل جليل ولا حقير ولا مقدار قطمير ، ولا فتيل ولا نقير ، ولله الحمد والمنة ، وبه التأييد والعصمة . ("الاجتهاد في طلب الجهاد"/لابن كثير /ص 67-69/ط. دار الإمام أحمد).
    وقد علم المؤمنون المخلصون أن جهادهم لإقامة الدين وإعلاء كلمة الله لا من أجل الدنيا. عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب». (أخرجه أحمد (21261)/حديث صحيح).
    انظروا إلى رسول الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه يجاهد لله لا من أجل الدنيا. قال الله تعالى عن ملكة سبأ: ﴿وأني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ - إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 35- 37].
    قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿وإني مرسلة إليهم بهدية﴾ هذا من حسن نظرها وتدبيرها، أي إنى أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الاموال، وأغرب عليه بأمور المملكة، فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة. –إلى قوله:- وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها، على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا، لانه قال لها في كتابه: ﴿ألا تعلوا على وأتوني مسلمين﴾ وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذى تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهى الرشوة التى لا تحل. ("الجامع لأحكام القرآن"/13 /ص196-198).
    فجهاد المؤمنين هو من أجل إعلاء كلمة الله، فإذا مكنهم الله في الأرض أصلحوها بالأعمال الجليلة. قال الله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40، 41].
    فإقامة الصلاة سبب صلاح العلاقة بين العباد وربهم عز وجل. قال الإمام ابن رجب رحمه الله: والصلاة صلة بين العبد وربه ؛ لأن المصلي يناجي ربه. ("فتح الباري"/لابن رجب/3/ص 292).
    وإذا حسنت صلاة العبد حسنت أعماله وبعُد من المعاصي. قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
    وكما أن المعاصي سبب الفساد في البلاد فالصلاح والتقوى سبب البركات والأمن. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ [الأعراف/96].
    وكذلك الزكاة التي هي الإحسان إلى خلق الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وفي الزكاة الإحسان إلى خلقه. ("مجموع الفتاوى"/25/ص 6).
    وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة البينة: ﴿ويؤتوا الزكاة﴾ وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج. ("تفسير القرآن العظيم/8/ص457).
    وأما قوله: ﴿وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، قد مر بنا أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه من أسباب صلاح العباد والبلاد، كما أن المنكرات والسكوت عنها سبب انتشار الفساد وعموم العقوبات.
    عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله عز و جل وأثنى عليه فقال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ إلى آخر الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه». قال: وسمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان. (أخرجه أحمد (16) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، صحيح).
    قال أبو جعفر ابن النحاس الدمشقي رحمه الله: شؤم المعاصي عقوبة في الدنيا والآخرة تعمّ المداهن الذي لم ينكر المنكر قطعا. ("تنبيه الغافلين"/ص94).
    وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ القواعد الإسلامية، وأجلّ الفرائض الشرعية ، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ، ومستحقاً لغضب الله وانتقامه. ("فتح القدير"/2/ص344).
    ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولذلك اختلفت آثارها؛ فآثار جهاد الدين الإسلامي نشر العدل والرحمة والخيرات والسعادة والفلاح والصلاح المتنوع؛ وآثار غيره الفناء والتدمير واستبعاد الخلق وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم).
    الشرح بالله التوفيق-:
    زاد المؤلف رحمه الله بياناً على ما سبق بطلب النظر إلى آثار الأفعال، لأن الآثار تدل على المؤثر، كما قال أعرابي: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير. ("نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" / لأحمد بن المقري التلمساني/5 / ص 289).
    وكما قيل: قد يستدلّ بظاهرٍ عن باطنٍ ... حيث الدّخان يكون موقد نار . ("التمثيل والمحاضرة"/ للثعالبي/1/ص 88).
    قول المؤلف رحمه الله: (فآثار جهاد الدين الإسلامي نشر العدل والرحمة والخيرات والسعادة والفلاح والصلاح المتنوع) يدل على أن جلالة الثمار تدل على جلالة المثمِر. قال القرافي رحمه الله: ومتى كانت الثمرة أفضل كان المثمر أفضل. ("الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة"/للقرافي/ص60/دار ابن الجوزي).
    وهذا يحتاج إلى حسن الاعتبار بالسيرة الإسلامية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والاعتبار هو أن يعبر نظره من الأثر إلى المؤثر ومن الصنعة إلى الصانع ومن الدليل إلى المدلول فينتقل إليه بسرعة لطف إدراك فينتقل ذهنه من الملزوم إلى لازمه قال الله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار والاعتبار افتعال من العبور وهو عبور القلب من الملزوم إلى لازمه ومن النظير إلى نظيره. ("مدارج السالكين"/3 /ص357).
    من تتبع أحوال العالم وجد أن اتساع مماليك الإسلام في صدر هذه الأمة بالجهاد في سبيل الله يتبعه اتساع العدل والرحمة والسعادة. ذلك لأنهم آمنوا بقول الله تعلاى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ الآية. [الشورى: 15]. وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].
    عن ابن عباس رضي الله عنهما: - أن النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر اشترط عليهم أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء . يعني الذهب والفضة . وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض . فأعطناها على أن نعملها ويكون لنا نصف الثمرة ولكم نصفها . فزعم أنه أعطاهم على ذلك . فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة . فحزر النخل . وهو الذي يدعونه أهل المدينة الخرص فقال: في ذا كذا وكذا . فقالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة . فقال: أحزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلت . قال: فقالوا: هذا الحق، وبه تقوم السماء والأرض . فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قلت. (أخرجه أبو داود (3410) وابن ماجه (1820)/صحيح).
    ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ... وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر قال : فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شدة حرصه وأرادوا أن يرشوه فقال : يا أعداء الله أتطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولايحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض. (أخرجه ابن حبان (5199) والبيهقي (18168)/صحيح).
    قال شمس الحق رحمه الله: ( قالوا ) أي أهل خيبر ( هذا الحق وبه تقوم السماء والأرض ) أي بهذا الحق والعدل قامت السماوات فوق الرؤوس بغير عمد والأرض استقرت على الماء تحت الأقدم. ("عون المعبود"/9 /ص197).
    وانظر إلى شدة تحري عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعدل والرحمة والنصح لرعيته.
    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا قال فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. (أخرجه البخاري (3700)).
    وقال عمر رضي الله عنه: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار خيرا ﴿الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم﴾ أن يقبل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم. وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. (أخرجه البخاري (3700)).
    إذا قيل: قد حصل القتل والتخريب والإجلاء في إمارة المؤمنين!
    الجواب –بالله التوفيق-: إن من عصى الله وجاهر بمضادة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق العقوبة. ومع ذلك ظهر في الواقع أن المؤمنين أرحم الناس وأتقاهم لله. انظر في قصة اليهود.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: هذه الأمة الغضبية أوفر الأمم حظا من ذلك، فإنها أقدم الأمم عهدا، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانين والكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى، حتى لم يبق لهم مدينة ولا جيش ولا حصن إلا بأرض الحجاز وخيبر فأعز ما كانوا هناك، فلما قام الاسلام واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل والصبي وتخريب الديار ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء فكتب الله عليهم الجلاء وشتتهم ومزقهم بالاسلام كل ممزق، ومع هذا لم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين ولا آمن، فإن الذي نالهم من النصارى والفرس وعباد الأصنام لم ينهلم من المسلمين مثله، وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في طلبهم وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشرع موسى أزمنة طويلة وأعصارا متصلة، فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم كالنصارى الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وكالفرس والكلدانيين وغيرهم. وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا ارض كنعان، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة، فرأت اليهود أن الفرس قد جدوا في منعهم من الصلاة فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم سموها الخزنة وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة أن الصلاة بغير لحن ويكون المصلى فيها وحده الخزانة بلحن يشاركه غيره فيه، فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود نحن نغني وننوح على أنفسنا فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنة فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعوضوا بها عن الصلاة.
    (انتهى من "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"/ص 185-186/دار الآثار).
    فمن فضل الله على الناس أن يجعل خلفاء صدر هذه الأمة يسيطرون عليهم ويتحرون القسط والعدل مع شدة خوف الله، وأتم الله عليهم نعمه ببطانة الخير يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويذكرونهم بما نسوا من حقوق الله وحقوق الرعية.
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي الهيثم : «هل لك خادم؟» قال: لا. قال: «فإذا أتانا سبى فأتنا». فأتي النبي صلى الله عليه و سلم برأسين ليس معهما ثالث فأتاه أبو الهيثم قال النبي صلى الله عليه و سلم: «اختر منهما» قال: يا رسول الله اختر لي. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «إن المستشار مؤتمن خذ هذا فإني رايته يصلى واستوص به خيرا». فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن تعتقه. قال: فهو عتيق. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانه تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة السوء فقد وقي». (أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (256)/صحيح).
    ومن أروع الأمثلة في حياة التابعين عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما كان وزيراً لأمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك رحمه الله، ولما صار أميرا للمؤمنين، فما أصدقه في القول والعمل، وما أنصحه للأمير والأمة، وما أعظم تحريه للعدل.
    قال سعيد بن عبد العزيز: ولي سليمان، فقال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص ! إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة، فمر به، فكان من ذلك عزل عمال الحجاج، وأقيمت الصلوات في أوقاتها بعد ما كانت أميتت عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقيل: إن سليمان حج، فرأى الخلائق بالموقف، فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله ؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غدا خصماؤك، فبكى بكاء شديدا. ("سير أعلام النبلاء"/5/ص125).
    وعن عبد العزيز بن يزيد الايلي قال: حج سليمان، ومعه عمر بن عبد العزيز، فأصابهم برق ورعد حتى كادت تنخلع قلوبهم، فقال سليمان: يا أبا حفص ! هل رأيت مثل هذه الليلة قط، أو سمعت بها ؟ قال: يا أمير المؤمنين ! هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله ! ؟ وروى ابن عيينة عن رجل: قال عمر بن عبد العزيز: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله. ("سير أعلام النبلاء"/5 /ص121).
    وعن نعيم بن عبد الله كاتب عمر بن عبد العزيز أن عمر قال: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة. وعن جرير بن حازم، عن مغيرة بن حكيم: قالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: حدثنا مغيرة أنه يكون في الناس من هو أكثر صلاة وصياما من عمر بن عبد العزيز، وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان إذا صلى العشاء، قعد في مسجده، ثم يرفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم ينتبه، فلا يزال يدعو رافعا يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع.
    وعن ابن المبارك، عن هشام بن الغاز، عن مكحول: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز. قال النفيلي : حدثنا النضر بن عربي قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فكان ينتفض أبدا، كأن عليه حزن الخلق.
    (انظر كله في "سير أعلام النبلاء"/5 /ص137).
    فمن أجل ذلك أحبه الخالق والمخلوق. عن سهيل بن أبي صالح قال : كنا بعرفة فمر عمر بن عبدالعزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبدالعزيز. قال: وما ذاك ؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس. فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض». (أخرجه مسلم (2637)).
    وقد جرى دأب السلف من مناصحة ولاة الأمور لإصلاح البلاد والعباد، بأدب شرعي. والأدلة في ذلك معروفة.
    قال وكيع صاحب "أخبار القضاة": أخبرني غير واحد، منهم أبو عبد الله بن الحسن بن أحمد، أن أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري دفع إليهم كتاباً؛ ذكر أن أباه عبيد الله بن الحسن كتب به إلى المهدي، وقرأه أحمد بن عبد الله عليهم بسر من رأى:
    بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين ومد له في اليسر والعافية، إني رأيت، وإن كنت أعلم أن الله قد أعطى أمير المؤمنين وصالح وزرائه من العلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما سلف من الأئمة ما قد استحق به الشكر له عليه، والعمل له به، وكنت أعلم أني بكثير من الأمور غير عالم، ولا كفران لله، بل لله علي المنّ والفضل العظيم، وله مني الشكر والحمد الكبير على كبير نعمه علي، أني أذكره الذي علمه الله من ذلك وأنهى إليه النصيحة فيما علمت، بأدبه مني إليه إن شاء الله بحق الله علي في ذلك، وحق أمير المؤمنين ونصيحته مني له وللرعية رجاء أن ينسى الله بذلك حسباً، ويمحو عني بذلك سبباً، وإياه أسأل ذلك وأرغب إليه فيه في توفيقه أمير المؤمنين وإياي لما يحب ويرضى، وإن نسبة هذا الأمر الذي جعله الله سبيلاً لإيمان المؤمنين وإسلامهم، واجتماع جماعتهم وائتلاف ألفتهم، وأمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليستتموا نعمة ربهم عليهم، وليبلغوا تمام المدة التي: ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾، جرت بإذن الله بأعذاره بآياته إلى خلقه، واستخلافه منهم أنبياءه ورسله المرسلين والخلفاء الراشدين والأئمة الفقهاء الصديقين منا من الله على عباده، وإحساناً إليهم، وعائدة منهم، وعطفاً عليهم، وإبلاغاً منه بالحجة إليهم ليعبدوا الله، لا يشركوا به شيئاً، وليشكروه ولا يكفروه، وليستقيموا إليه، ويستغفروه، وليأخذوا ما آتاهم من ذلك بقوة، ويجتمعوا عليه، ولا يفترقوا فيه، فجرب، أصلح الله أمير المؤمنين، سنة أولى ذلك الأمر ذلك بأنهم قاموا بنور الكتاب الذي أنزل الله، وأمالهم على ألسنتهم، وأيديهم، ولمن يتبعهم عليه، فنعم التابع، ونعم المتبوع، وهنيئاً لهم أجرهم، وجزاءهم بما كانوا يعملون، وأنهم هم الهداة المهتدون، والأئمة العائدون، الأشراف الأكرمون، والمتواضعون المرتفعون، والعلماء الخلفاء المعتصم بهم، والمعصومون، وأنهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكرم أولئك أئمة وأخواناً ورفقاء، فإنهم هم أعز الله هذا الدين وأظهره، وبهم أقام عموده، وأنهج سبيله، وبهم يقذف للناس أحكامه، حتى أخذ لضعيفهم من قويهم، ولمظلومهم من ظالمهم، ولصغيرهم من كبيرهم، ولبرهم من فاجرهم، وحتى استقامت سبلهم وحيى فيهم ودرت حلوبتهم وسكنت البلاد واستقرت العباد، وبهم ثبت الله ثغورهم، ونفى عنهم عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضاً لم يطئوها وكان الله على كل شيء قديراً، فعظم بذلك على العباد حقهم وألزمهم بذلك محبتهم، والنصيحة لهم، وما برحوا بذلك مقسطين في حكمهم، منيبين إلى ربهم، مقتصدين في سيرهم، توابين من خطاياهم، أوابين إلى خالقهم، مستكينين له متضرعين إليه، في فكاك رقابهم، وفي عصمتهم والمغفرة لهم، حتى رضي عنهم وأحسن الثناء عليهم، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؛ قال: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً﴾ حتى قال في آخر هذا الثناء: ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً، خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً﴾ في آي من القرآن كثير حتى قال: ﴿هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب﴾ ولعمري ما فعل القوم ما فعلوا من ذلك عبثاً، ولا بطراً، ولا لعباً، ولا لغواً، ولكنهم نظروا فأبصروا، وأبصروا فأنصفوا، وأنصتوا وهربوا، وأدركوا واداركوا فنجوا بعد ما شف الهرب والطلب أجسامهم، وغبر ألوانهم، وأسهر ليلهم وأحمض نهارهم، وكف ألسنتهم، وأسماعهم وأبصارهم، وجوارحهم، عن مظالم الناس، وسائر معاصي الله، وحتى قتل الهم والطلب كثيراً منهم على البيع الذي بايعهم الله به، واشتروا به أنفسهم منهم، فأحياهم بقتله إياهم، فربحوا كثيراً وأنالوا جسيماً، وفازوا فوزاً عظيماً، وانقلب باقيهم بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم، قرت العيون في ولايتهم وقوماتهم وعيشهم علينا، وسكنت له النفوس فاطمأنت له القلوب، وعز لذلك عند فراقهم فقدهم، وحسب البلاد ومن بعدهم، فطوبى لتلك الأوراح الطيبة أرواحاً، وطوبى لتلك الأجساد الطاهرة أجساداً، وطوبى لمن تبعهم بمثل عملهم وكان لهم تابعاً وولياً، وطوبى لهم، ما أحرص المسارعين إلى الخيرات على إتباعهم، وأقل التابعين لهم بمثل هديهم، وسيرتهم، وأعزبهم فيمن هو بين ظهرانيه من الناس، وأولئك كانت النوائب فيهم نوائب الدهر، هي النوائب حق النوائب، فأولئك عليهم من ربهم الصلوات والرحمة، وأولئك هم المهتدون فبهداهم وسيرتهم فليقتد المقتدون، وبهديهم فليهتد المهتدون.
    (إلى آخره كما في "أخبار القضاة" /ص 142-143).
    ذكرت هذا ليعلم الناس محاسن الإسلام لو تمسكوا بها لنجحوا من المفاسد وفازوا بالفلاح العظيم.
    فيا لها من نعمة من الله على أهل هذه الأرض في تلك العصور المباركة، حيث جعلهم تحت قيادة الأمراء المتقين والوزراء الناصحين، فصار تلك القرون خير القرون على الإطلاق. عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن». (أخرجه البخاري (2651) ومسلم (2535)).
    ومن فضل الله على أهل الأرض أن يمحو عنهم سيطرة ملوك الكفار الظلمة الفجرة ويبدلهم بأمارة السلف الصالح ملؤوا الدنيا بالعدل والتقوى والخيرات في وقت قصير.
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم -في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه -ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم، والفرس، والترك، والصقالبة والبربر، والحبُوش، وأصناف السودان، والقبْط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب. ("تفسير القرآن العظيم"/4 /ص72).
    وما أعظم منقبة المجاهدين في سبيل الله، وما أكرم الشهداء المخلصين عند الله.
    قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، ثنا ابن أبي زكريا ، ومعنا مكحول : أن رجلا ، مر بكرم بأرض الروم ، فقال لغلامه : أعطني مخلاتي حتى آتيكم من هذا العنب. فأخذها ثم دفع فرسه ، فبينا هو في الكرم إذ هو بامرأة على مثل لم ير مثلها قط ، فلما رآها صد عنها ، فقالت : لا تصد عني ؛ فإني زوجتك، فامض أمامك ، فسترى ما هو أفضل مني ، فمضى فإذا هو بأخرى ، فقالت له مثل ذلك . وأظنه أبا مخرمة. قال عبد الرحمن بن يزيد : فأخبرني عطاء بن قرة السلولي ، قال : كنا مع أبي مخرمة ، فما غدا أن جاءنا من ذلك العنب ، فوضعه ودعا بقرطاس ودواة ، فكتب وصيته ، فلما رآه أبو كريب الغساني كتب وصيته ، ثم قام مقاتل الليثي فكتب وصيته ، ثم قام عمار بن أبي أيوب ، وكتب وصيته ، ثم قام عوف اللخمي ، فكتب وصيته ، ثم لقينا برجان ، فما بقي من هؤلاء الخمسة إلا قتل ، ولم نكتب نحن وصايانا ، فلم نقتل. (أخرجه ابن المبارك في "الجهاد" برقم (146-147)، ومن طريقه أبو بكر الشافعي في "الفوائد" الشهير بـ: "الغيلانيات" رقم (870)، وهو صحيح).
    وكلما بعد عهد الأمة عن صدرها نقص الخير والبركة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول. ("مجموع الفتاوى"/3/ص 228).
    وعكس ذلك قال رحمه الله: كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ، ونقص إيمانهم، عوضوا ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره اهـ. ("اقتضاء الصراط المستقيم"/ 2/ص 243/مكتبة الرشد).
    فكلما كان الزمن أبعد عن عصر السلف كان العلم أنقص، وسيكون بعض العلوم والحقائق غريبة على كثير من الناس. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء». (أخرجه مسلم (كتاب الإيمان/بيان أن الإسلام بدأ غريبا/(147)).
    وهكذا حال حامل علوم الكتاب والسنة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز و جل فيهم: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله﴾. ("مدارج السالكين"/الغربة/3 / ص 195-196).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب كان أعظم في تفرقهم واختلافهم، فإنهم يكونون أضلّ. ("مجموع الفتاوى"/9 / ص 229/مكتبة ابن تيمية).
    وكلما كثرت البدع والضلالات كثر الفساد والأرض عقوبة من الله.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل، وانتصر لهم. ("مجموع الفتاوى"/13/ص177).
    وقال رحمه الله: فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شىء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة . فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار؛ تحقيقًا لقوله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [ الصف : 10-13 ] .
    وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى : ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [ الإسراء : 4-8] .
    ("مجموع الفتاوى"/13 /ص178-179).
    غفرانك ربنا وإليك المصير.
    قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير سورة البقرة: (249): فهذه أسباب النصر وشروطه، وهى معدومة عندنا غير موجودة فينا. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه، لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برّا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم! ("الجامع لأحكام القرآن"/3/ص255).
    والجهاد في سبيل الله ماض إلى قيام الساعة، وإذا قدر الله على المؤمنين بأن يغلب عليهم الكفار –بسبب معاصي بعض المقاتلين- فليس بمعنى أن المؤمنين المطيعين المقتولين صاروا من الخاسرين. بل الله اتخذهم شهداء وضمن لهم أجرا عظيما.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير أي ألوف كثيرة وانهم ما ضعفوا ولا استكانوا لذلك بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سبب ظهور العدو وأن الله آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. فإذا كان هذا قتلى المؤمنين فما الظن بقتلى الأنبياء ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح وظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد فإن تابوا انتصروا على الكفار وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار. وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله وأظهرهم على المخالفين له فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر.
    وقولنا من غير مزاحمة وصف آخر يزيل النقوض الواردة فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه وأن يجعل لهم السعادة ولمن خالفهم الشقاء وهذا يوجب العلم بنبوته وأن من اتبعه كان سعيدا ومن خالفه كان شقيا ومن هذا ظهور بخت نصر على بني إسرائيل فإنه من دلائل نبوة موسى إذ كان ظهور بخت نصر إنما كان لما غيروا عهود موسى وتركوا اتباعه فعوقبوا بذلك وكانوا إذ كانوا متبعين لعهود موسى منصورين مؤيدين كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما قال تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتلعن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة وظهور عدوهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه و سلم وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه و سلم على عدوهم تارة وظهور عدوهم عليهم تارة هو من دلائل رسالته محمد وأعلام نبوته وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته كما جرى لهم مع يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه و سلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها .
    ("الجواب الصحيح" /2/ص599-600/دار ابن الهيثم).
    ولم نيأس من رحمة الله، فهذه خيول الله باقية إلى يوم القيامة ينصرها الله في كل عصر مع قلة عددها. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». (أخرجه مسلم (1920)).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين وبينه وبلغه البلاغ المبين فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق حتى تقوم الساعة فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأظهره بالحجة والبيان وأظهره باليد والسنان ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة. ("الجواب الصحيح" /1/ص128/دار ابن الهيثم).
    ثم قال المؤلف رحمه الله: (وآثار غيره الفناء والتدمير واستبعاد الخلق وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم).
    الشرح بالله التوفيق-:
    آثار الدعوة الكفار وسيطرتهم على العباد والبلاد الإفناء والتدمير واستعباد خلق الله والظلم في دمائهم وأموالهم وأخلاقهم. وقد مر بنا ذكر أمثلة ذلك.
    وانظر على استعباد فرعون على بني إسرائيل، وقد كانوا على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]
    وعلى هذا دعا يوسف عليه الصلاة والسلام. قال الله عنه: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِالله مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 38 - 40]
    وكانت بنو إسرائيل مكرمين في مصر، ولما طال عليهم العهد وقسقت قلوبهم وصار كثير منهم فاسقين خارجين عن طاعة الله عاقبهم الله بطغيان فرعون عليهم فاستعبدهم ومحى دين آبائهم الحق. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]. وقال سبحانه عنه: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24].
    ومن شدة اندراس دين الإسلام في قلوب بني إسرائيل أنهم لما نجاهم الله بموسى عليه السلام من فرعون يطلبون إلها غير الله، حتى ذكرهم موسى بنعمة الله عليهم. قال الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [الأعراف: 138 - 141].
    انظروا إلى شؤم سيطرة الكفار على المسلمين. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها ودرست معالم دينها وآثارها، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان اولوها وأسلافها؛ لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات وخراب البلاد إحراقها وجلاء أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها إلى أن تستحيل رسوم دياناتها وتضمحل أصول شرعها وتتلاشى قواعد دينها، وكلما كانت الأمة أقدم اختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار كان حظها من اندراس دينها أوفر. ("هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"/ص 185/دار الآثار).
    ففسدت ديانة بني إسرائيل وأخلاقهم.
    قول المؤلف رحمه الله: (وأخلاقهم).
    قال أبو السعادات المبارك رحمه الله: الخلق - بضم اللام وسكونها - : الدين والطبع والسجية وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة والثواب والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة. ("النهاية في غريب الأثر"/1/62/ط. المكتبة العصرية).
    وقد كانت العرب على أخلاق جليلة فيها مصالح كثيرة، فلما غير عظماؤُهم الكفارُ دين إبراهيم، فسدت ديانتهم وأخلاقهم، فأراد الله تعالى أن ينقذهم من الرذائل فأرسل إليهم أعظم الرسل بأجلّ الشرائع محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال الله سبحانه: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].
    وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق». (أخرجه الإمام أحمد (8939)، والبزار (8949)، حديث صحيح).
    قال ابن عبد البر رحمه الله: ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه صلى الله عليه و سلم. ("التمهيد"/24/ص334).
    وقال المناوي رحمه الله: ( إنما بعثت ) أي أرسلت ( لأتمم ) أي لأجل أن أكمل ( صالح ) وفي رواية بدله مكارم ( الأخلاق ) بعد ما كانت ناقصة وأجمعها بعد التفرقة قال الحكيم : أنبأنا به أن الرسل قد مضت ولم تتم هذه الأخلاق فبعث بإتمام ما بقي عليهم وقال بعضهم : أشار إلى أن الأنبياء عليهم السلام قبله بعثوا بمكارم الأخلاق وبقيت بقية فبعث المصطفى صلى الله عليه و سلم بما كان معهم وبتمامها. ("فيض القدير"/تحت رقم (2584)).
    فلما جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حق جهاده أنقذهم الله به من الرذائل إلى سمو معاني الحياة، فصار خير أمة على الإطلاق.
    فشأنهم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي رحمه الله: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا. الحديث. (أخرجه الإمام أحمد (22498)/ط. الرسالة، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (1651)/دار الآثار).
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما العمل : فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس. وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم ، فهم أقرب للسخاء ، والحلم ، والشجاعة ، والوفاء ، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة ، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير ، معطلة عن فعله ، ليس عندهم علم منزل من السماء ، ولا شريعة موروثة عن نبي ، ولا هم أيضا مشتغلين ببعض العلوم العقلية المحضة ، كالطب والحساب ، ونحوها ، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم : من الشعر والخطب ، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم ، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم ، أو من الحروب .
    فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى : الذي ما جعل الله في الأرض - ولا يجعل - أمرا أجل منه وأعظم قدرا ، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية ، والظلمات الكفرية ، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها ، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم، زالت تلك الريون عن قلوبهم ، واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله . فأخذوا هذا الهدى العظيم ، بتلك الفطرة الجيدة ، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم ، والكمال الذي أنزل الله إليهم : بمنزلة أرض جيدة في نفسها ، لكن هي معطلة عن الحرث ، أو قد نبت فيها شجر العضاة ، والعوسج ، وصارت مأوى الخنازير والسباع ، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب ، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار ، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله ، فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء ، وصار أفضل الناس بعدهم : من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة : من العرب والعجم .
    ("اقتضاء الصراط المستقيم"/1/ص447-448/مكتبة الرشد).
    انظروا إلى شؤم سيطرة الكفار ودينهم، ولم تخلص البشرية من هذه المفاسد والخسائر إلا بالجهاد في سبي الله تحت ضوء أشعة شمس الرسالة المحمدية.


    الباب الخامس: نصيحة جليلة من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

    أختم هذا الشرح المتواضع بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما فيه من العبر والنصائح في فوائد الجهاد الشرعي، والنصائح للمخذلين، والبشائر للسلفيين المجاهدين في سبيل الله.
    قال رحمه الله: فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق : الطائفة المنصورة، وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين . والطائفة المخالفة، وهم هؤلاء القوم، ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام . والطائفة المخذلة، وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام . فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة ؟ فما بقي قسم رابع .
    واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه : ﴿قل هل تربصون بنا إلا إحدي الحسنيين﴾ [ التوبة : 52 ] يعني : إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة . فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يعطي الشهيد ست خصال : يغفر له بأول قطرة من دمه، ويري مقعده من الجنة، ويكسي حلة من الإيمان، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويوقي فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر». رواه أهل السنن([11]) . وقال صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله»([12])، فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد . وقال صلى الله عليه وسلم : «مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام»([13])، وقال رجل : أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : «لا تستطيعه». قال : أخبرني به ؟ قال : «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر ؟» قال : لا، قال : «فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله»([14]). وهذه الأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما .
    وكذلك اتفق العلماء فيما أعلم على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد . فهو أفضل من الحج، وأفضل من الصوم التطوع، وأفضل من الصلاة التطوع .
    والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود . فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالى عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها : أنهم كانوا مرابطين بالمدينة . فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو، فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل». رواه أهل السنن([15]) وصححوه . وفي "صحيح مسلم" عن سلمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان»([16])، يعني : منكر ونكير . فهذا في الرباط فكيف الجهاد ؟! قال صلى الله عليه وسلم : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدا»([17])، وقال : «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار»([18])، فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل، فكيف بما هو أشق منه، كالثلج، والبرد، والوحل ؟ !
    ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق، كالحر والبرد، فقال سبحانه وتعالى : ﴿فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون﴾ [ التوبة : 81 ] ، وهكذا الذين يقولون : لا تنفروا في البرد، فيقال : نار جهنم أشد برداً . كما أخرجاه في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «اشتكت النار إلى ربها، فقالت : ربي أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم»([19])، فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها، والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها .
    واعلموا أصلحكم الله أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون . والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ [ آل عمران : 139 ] ، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه، والحمد لله رب العالمين . ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين * يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ﴾ [ الصف : 10- 14 ] .
    واعلموا أصلحكم الله أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيراً أن أحياه إلى هذا الوقت الذي يجدد الله فيه الدين، ويحيى فيه شعار المسلمين، وأحوال المؤمنين والمجاهدين، حتى يكون شبيهاً بالسابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار. فمن قام في هذا الوقت بذلك، كان من التابعين لهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم . فينبغي للمؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه المحنة التي حقيقتها منحة كريمة من الله، وهذه الفتنة التى باطنها نعمة جسيمة، حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وغيرهم حاضرين في هذا الزمان، لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين.
    ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته، وسفه نفسه، وحرم حظا عظيما من الدنيا والآخرة، إلا أن يكون ممن عذر الله تعالى كالمريض، والفقير، والأعمى وغيرهم، وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله . ففي "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا([20])»، ومن كان قادراً ببدنه وهو فقير، فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة، أو صلة، أو من بيت المال، أو غير ذلك، حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام، وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك، أو كان بيده ودائع أو رهون أو عوار قد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها في سبيل الله، فإن ذلك مصرفها .
    ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله عز وجل يغفر ذنوبه، كما أخبر الله فى كتابه بقوله سبحانه وتعالى : ﴿يغفر لكم ذنوبكم﴾ [ الصف : 12 ] . ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه فى سبيل الله على أصحابه، فإن ذلك طريق حسنة إلى خلاصه، مع ما يحصل له من أجر الجهاد .
    وكذلك من أراد أن يكفر الله عنه سيئاته فى دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد؛ فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل مثل قيس ويمن، وهلال وأسد ونحو ذلك كل هؤلاء إذا قتلوا، فإن القاتل والمقتول فى النار، كذلك صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار». قيل : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : «إنه كان حريصاً على قتل أخيه». أخرجاه في "الصحيحين"([21]). وقال صلى الله عليه وسلم : «من قتل تحت راية عمية : يغضب لعصبية، ويدعو لعصبية فهو فى النار». رواه مسلم([22]) . وقال صلى الله عليه وسلم : «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا»، فسمع أبيّ بن كعب رجلا يقول : يا لفلان، فقال : اعضض أير أبيك، فقال : يا أبا المنذر، ما كنت فاحشاً . فقال : بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد في مسنده([23]) .
    ومعنى قوله : «من تعزى بعزاء الجاهلية» يعنى : يتعزى بعزواتهم، وهى الانتساب إليهم فى الدعوة، مثل قوله : يا لقيس ! يا ليمن ! ويا لهلال ! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله .
    (انتهى المراد من النقل من "مجموع الفتاوى" /28 /ص416-422).

    والله تعالى أعلم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
    والحمد لله رب العالمين.
    دماج المحاصرة، 26 صفر 1435 هـ.



    فهرس الرسالة
    Table of Contents
    تقديم فضيلة الشيخ أبي اليمان عدنان بن حسين المصقري حفظه الله.. 2
    مقدمة المؤلف عفا الله عنه. 4
    الباب الأول: احتياج الناس إلى الوقاية من شدة الموت.. 7
    الباب الثاني: التنبيه على حقيقة الجهاد الشرعي.. 10
    الباب الثالث: الفائدة الأولى للجهاد في سبيل الله.. 19
    الباب الرابع: الفائدة الثانية للجهاد في سبيل الله.. 24
    الباب الخامس: نصيحة جليلة من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.. 56
    فهرس الرسالة. 61






    ([1]) قلت –وفقني الله:- الحديث أخرجه الأئمة أحمد رحمه الله (12246)، وأبو داود رحمه الله (2504)، والنسائي (4289)/الرسالة) كلهم من طريق حماد –وهو ابن سلمة- عن حميد عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال به. وهذا السند صحيح. وصححه الإمام الألباني رحمه الله كما في "صحيح سنن أبي داود" ((2504)/مؤسسة غراس).


    ([2]) أخرجه الإمام أحمد (1095) عن علي رضي الله عنه بسند صحيح.
    وأخرجه أيضاً الإمام أحمد (20675) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما بسند صحيح أيضاً.

    ([3]) أخرجه البخاري (7145) ومسلم (1840) عن علي رضي الله عنه.

    ([4]) أخرجه البخاري (2955) ومسلم (1839) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

    ([5]) عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». (أخرجه الإمام أحمد (24004)/صحيح).

    ([6]) أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([7]) أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن غبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مختصرا. وأخرجه أبو داود (4772) والترمذي (1421) بسند صحيح عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما.

    ([8]) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين جميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [ المائدة : 48 ]. ("تفسير القرآن العظيم"/3/ص688/دار الآثار).

    ([9]) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.

    ([10]) أخرجه ابن أبي شيبة (31782) عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
    مرسلا.
    وأخرجه الدارمي (15) من طريق علي بن مسهر عن وكيع مثل السابق مرسلا.
    وجاء موصولا من طريق مالك بن سعير بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم به. أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1160) والبيهقي في "دلائل النبوة" (65).
    مالك بن سعير ثقة، ولكن خالفه وكيع، فالمرسل أصح، والموصول شاذ.

    ([11]) أخرجه الإمام أحمد (17221) الترمذي (1665) وابن ماجه (2799) عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، صحيح لغيره.

    ([12]) أخرجه البخاري (1790) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([13]) أخرجه ابن ماجه (2754) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

    ([14]) أخرجه البخاري (2785) ومسلم (1878) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([15]) صحيح، أخرجه الترمذي (1667) والنسائي (3169) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

    ([16]) أخرجه مسلم (1913) عن سلمان رضي الله عنه.

    ([17]) صحيح، أخرجه الترمذي (1633) وابن ماجه (2774) والنسائي (3107) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([18]) أخرجه البخاري (2811) عن عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه.

    ([19]) أخرجه البخاري (3260) ومسلم (617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([20]) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد رضي الله عنه.

    ([21]) أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888) عن أبي بكرة رضي الله عنه.

    ([22]) أخرجه مسلم (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    ([23]) حسن، أخرجه الإمام أحمد (21256) والنسائي في الكبرى (10812) عن أبي بن كعب رضي الله عنه.

  • #2
    الله المستعان

    لله درك يا أبا فيروز؛ لله درك يا بطل
    كلامٌ رائع وتعليقٌ ممتع وفوائد تشدُّ لها الرحال كما عهدناك فأسأل الله أن يكتب لك أجر هذا العمل يوم تلقاه؛
    وأن يرزقك الشهادة في سبيله.
    هكذا هم أهل دماج مع ماهم فيه من هم وغم لم يثنيهم ذلك عن مقارعة أهل الرفض والزندقة
    بل إن كلامك هذا أشدُّ على رؤوسهم من الصواعق؛ وهل حاربوا أهل السنة لأسلحة يملكونها أو غير ذلك من متاع الدنيا؟
    لا والله؛ بل للعلم الذي يملكونه والقرآن الذي يحفظونه والسنة التي يعملون بها
    فبارك الله فيك أخي الحبيب على تلبية طلبك رغم ما تعانيه أنت وإخوانك من متاعب وأمراض وتشريد وووو إلى غير ذلك؛
    وأنا والله دون ما قلت فيّ بمفاوز لو كنت تعلم!!!
    ولا أملك إلا أن أقول جزاك الله خيرًا على تلبيتك لطلبي وعلى حسن ظنّك بي والله المستعان
    وبارك الله فيك ونسأل الله أن ينصركم وينكِّل بعدوّكم.
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبد الرحمن حمزة بن عبد القادر التيارتي; الساعة 08-01-2014, 09:22 PM.

    تعليق

    يعمل...
    X