نصيحة "للقاعدين" عن الجهاد
ونصرة المظلومين في دماج
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن النحاس الدمياطي رحمه الله:
فصل :
( اعلم أيها الراغب عما افترض عليه من الجهاد ، الناكب عن سنن التوفيق والسداد ، إنك قد تعرضت للطرد والإبعاد ، وحرمت ـ والله ـ الإسعاد بنيل المراد ،
ليت شعري هل سبب إحجامك عن القتال ؟
واقتحامك معارك الأبطال ؟
وبخلك في سبيل الله بالنفس والمال ؟
إلا طول أمل ،
أو خوف هجوم أجل ،
أو فراق محبوب من أهل ومال ،
أو ولد وخدم وعيال ،
أو أخ لك شقيق ،
أو قريب عليك شفيق ،
أو ولي كريم ،
أو صديق حميم ،
أو ازدياد من صالح الأعمال ،
أو حب زوجة ذات حسن وجمال ،
أو جاه منيع ،
أو منصب رفيع،
أو قصر مشيد،
أو ظل مديد،
أو ملبس بهي،
أو مأكل هني ؟!!
ليس غير هذا يقعدك عن الجهاد ، ولا سواه يبعدك عن رب العباد ،
وتالله ما هذا منك أيها الأخ بجميل ،
ألا تسمع قوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة : 38) .
اصغ لما أملي عليك من الحجج القاطعة ، واستمع ما ألقي عليك من البراهين الساطعة ،
لتعلم أنه ما يقعدك عن الجهاد سوى الحرمان ، وليس لتأخرك سبب إلا النفس والشيطان ، أما سكونك إلى طول الأمل ، وخوف هجوم الأجل ، والاحتراز من الموت الذي لا بُدَّ من نزوله ، والإشفاق من الطريق الذي لا بد من سلوك سبيله ، فوالله إن الإقدام لا ينقص عمر المقدمين ، كما لا يزيد الإحجام عمر المستأخرين :
( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )(الأعراف : 34) ،( ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) (المنافقون : 11) ، ( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ) (العنكبوت : 57) .
وإن للموت لسكرات أيها المفتون ، وإن هول المطلع شديد ولكن لا تشعرون ، وإن للقبر عذاباً لا ينجو منه إلا الصالحون ، وإن فيه لسؤال الملكين الفاتنين :
( يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين )( إبراهيم : 27 )
ثم بعد ذلك الخطر العظيم ، إما سعيداً فإلى النعيم المقيم، وإما شقياً فإلى عذاب الجحيم، والشهيد أمن من جميع ذلك لا يخشى شيئاً من هذه المهالك.
وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم:
( لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمسِّ القرصة ) .
فما يقعدك أيها الأخ عن انتهاز هذه الفرصة ، ثم تجار في القبر من العذاب ، وتفوز عند الله بحسن المآب ، وتأمن من فتنة السؤال ، وما بعد ذلك من الشدائد والأهوال ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون :
فرحين بما آتاهم الله من فضله مستبشرين ، أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في عليين فكم بين هذا القتل الكريم ، وبين الموت الأليم ***
وإن قلت : يعوقني عن الجهاد أهلي ومالي ، وأطفالي وعيالي ، فقد قال الله تعالى قولاً بيناً لا يخفى :
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) (سبأ : 37) ، وقال تعالى : ( زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (آل عمران : 14) .
وقال تعالى : ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (الحديد : 20) .
والآيات في مثل هذا كثيرة ، والحجج واضحة منيرة .
وفي الحديث : ( لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ) .
وقال صل الله عليه وسلم : ( موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، وغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، وخمار جارية من أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها ) .
فكيف يصدك عن هذا الملك العظيم ، أهل عن قليل يكونون في الأموات ، وتمزقهم أيدي الشتات ، وتفرقهم نوازل الآفات ، مع ما يصدر منهم من النكد والعداوات ، والأخلاق السيئات ، والحقد على عرضت من حظوظهم منك للفوات ، وهجرانهم إياك عند قلة المال ، وتحولهم عن ودِّك عند تغير الأحوال ، وأعظم من ذلك فرارهم منك في المآل ، ومحاسبتهم إياك على مثاقيل الذر في موقف السؤال ، حتى يود كل واحد منهم لو نجا ، وحمَّلك ما عليه من الذنوب والأثقال ***.
أم كيف يصدك ما هو في معرض الذهاب والزوال ، ينفر عنك عند فقده الأخلاء وتتفرق العيال ، ويهجرك كل صديق كان يكثر لك الوصال ، ثم يوم القيامة تسأل عنه
من أين اكتسبت ، وفيم أنفقت ؟
ويا له من سؤال ، في يوم تشيب فيه الأطفال ، وتعظم فيه الأهوال وتكثر فيه الزحام ويشتد الخصام وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها من هول ذلك المقام ويعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ويحاسب فيه الأغنياء على النقير والقطمير ، والخطير والحقير ، والناقص والتمام ، ويسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام ، فيأكلون ويشربون ويتنعمون في دار السلام ، وأنت أيها الغني محبوس عنهم بسبب مالك ، تخشى أن يؤمر بك إلى مالك .
أفتحزن على فراق ما إن قلَّ أكثر همك وعنّاك ، أو كثر فأغناك وأطغاك وإن مت وتركته وراءك أرداك ، وبين يديك موقف الحساب عليه وما أدراك ، وهب أن لك الدنيا بحذافيرها ، أليس إلى الفناء مصيرها ولا بد من فراقك لها ، وإن ركنت إلى غرورها .
جاء في الحديث أن النبي صل الله عليه واله وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه : ألا أريك الدنيا جميعاً بما فيها ، قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة ، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس ، وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم ، قال : أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم ، وتأمل آمالكم ، ثم هي اليوم تَسَاقَط عظام بلا جلد ، ثم هي صائرة رماداً رميداً ، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم ، اكتسبوها من حيث اكتسبوها ، فقذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها ، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم ثم أصبحت والرياح تصفقها ، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد ، فمن كان باكياً على الدنيا فليبك ، قال : فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا .
***
وإن تذكرت ولدك الكريم وحنوت عليه حنو الأب الشفيق الرحيم ،
فقد قال الله تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) (التغابن : 15) .
وتاالله لَلَهُ أرحم بالولد من أبيه وأمه ، وأخيه وعمه ،
وكيف لا وهو قد رباه قبلهم بثدي رحمته في ظلمات الأحشاء ، وقلبه بيد لطفه ورأفته في أرحام الأمهات وأصلاب الآباء ، فأين كانت شفقتك عليه إذ ذاك ، وحنوك وبعدك عنه ودنوك ، وكيف يقعدك عن دار النعيم ، وجوار الرب الكريم ، ولد إن كان صغيراً فأنت به مهموم ، أو كبيراً فأنت به مغموم ، أو صحيحاً فأنت عليه خائف ، أو سقيماً فقلبك لضعفه واجف ، إن أدبته غضب وشرد ، أو نصحته حرد وحقد ، مع ما تتوقعه من العقوق المعتاد من كثير من الأولاد ، إن أقدمت جبنك ، وإن سمحت بخلك ، وإن زهدت رغبك ، عظمت به الفتنة ، وأنت تعدها مِنَّة ، وعمَّ به البلاء ، وأنت تراه من النعماء ، تود سروره بهمك ، وفرحه بحزنك ، وربحه بخسرانك ، وزيادة درهمه وديناره بخفة ميزانك ، تتكلف من أجله ما لا تطيق ، وتدخل بسببه في كل مضيق ، ألقه يا هذا عن بالك إلى من خلقك وخلقه وتوكل في رزقه بعدك على الذي رزقك ورزقه ، أسلمت إلى الله تدبيره في الملك والملكوت ، ولا تسلم إليه في تدبير ولدك بعدما تموت ، وهل إليك من تدبيره قليل أو كثير : ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) (المائدة : 18) ،
والله لا تملك له ولا لنفسك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا تستطيع أن تزيد في عمره يسيراً ، ولا في رزقه نقيراً ، وقد تفترسك المنية بغتة ، فتمسي في قبرك صريعاً وبعملك أسيراً ، ويصبح ولدك العزيز بعدك يتيماً ، ويقسم مالك وارثُك عدواً كان أو رحيماً ، ويفترق عيالك ظاعناً ومقيماً .
وتقول يا ليتني كنت مع الشهداء فأفوز فوزاً عظيماً ، فيقال لك هيهات هيهات ، فات ما فات ، وعظمت الحسرات ، وخلوت بما قدمت من حسنات أو سيئات ،
ألا واسمع قول الله العزيز الغفور محذراً لك ما أنت فيه من الغرور : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) (لقمان : 33) .
هذا وإن كان ولدك من السعداء ، فستجمع بينك وبينه الجنان ، وإن كان من الأشقياء ، فليكن من الآن لا يجتمع أهل الجنة مع أهل النار ، ولا الأخيار مع الأشرار ، ولعل الله يرزقك الشهادة فتشفع فيه ، وتكون بفراقك له ساعياً في أن تنجيه ، إحرص على ما ينجيك من العذاب ، واجهد فيه ، فغداً يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرءٍ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه )(عبس : 34-37) إن هذا لهو البيان العظيم : ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) (البقرة : 213) .
***
وإن قلت : يشق عليَّ فراق الأخ والقريب ، والصديق والحبيب ، فكأنك بالقيامة وقد قامت على الخلق أجمعين :
( الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) (الزخرف : 67) ، فإن كانت الصداقة لله فستجمع بينكما عليون ، في نعيم أنتم فيه خالدون ، وإن كانت الصحبة لغير الله ،
فالفراق الفراق ، قبل أن يحشر الرفاق مع الرفاق ، لأن المرء في الآخرة مع محبوبه ، لمشاركته إياه في مطلوبه ، فإن كان من الأتقياء نفعه أخاه ، وإن كان من الأشقياء ضره وأرداه ، مع ما يتوقع في هذه الدار من الأقرباء والأصدقاء من الجفاء ، والصدّ وقلة الوفاء ، وكثرة الكدر وعدم الصفاء ، وتغيرهم لديك ، وتلونهم عليك ، وإساءتهم إليك ، وهجرهم إياك عند فوات الأغراض ، وما تجُنُّه قلوبهم من العلل والأمراض ، إن وقعت في شدة تخلُّو عنك ، أو واقعت زلة تبرؤوا منك ، إخوان السراء وأعداء الضراء ، صداقتهم مقرونة بالغنا ، وصحبتهم مشحونة بالعناء ، إن قلَّ مالُك ملُّوك وإن حال حالك فما أخوك أخوك ، وإن شككت في شيء من هذا البيان ، فسيظهر لك يقيناً عند الإمتحان ، وإن ظفرت يدك منهم بأخ من إخوان الصفا ! وأين ذاك ، أو خِل من خِلاّن الوفا وما أُراك ، فأنتما غداً كما قال أصدق القائلين ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍ إخواناً على سرر متقابلين ) (الحجر : 47) .
ولا يقعدك يا هذا عن الجهاد حبيب أو قريب ، فربما افترقتما قبل المغيب ، ففاتك الثواب العظيم ، وبان عنك الصديق الحميم ، وحرمت ما ترومه من الدرجات ، وندمت فلم يغنك الندم على ما فات .
وفي الحديث : إن جبريل عليه السلام قال للنبي يا محمد إن الله يقول لك : عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به .
فانظر ما اشتملت عليه هذه الكلمات اليسيرة من ذكر الموت وفراق الأحبة والجزاء على الأعمال أبعد هذا الإنذار إنذار
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (آل عمران : 13) .
***
وإن قلت : يقعدني منصبي وجاهي الرفيع ، وعزي وحجابي المنيع ، فليت شعري كم فارق منصبك ، محباً له إلى أن وصل إليك ، وكم زال ظله من مُغبِط نفسه به إلى أن ظلل عليك ، وسيبين عنك كما عنهم بان ، وكأنك بذلك وقد كان ، فإذا أنت لفراقه ثكلان ، وقلبك مغمور بالحسد ، وصدرك معمور بالأحزان ، فلم يدم لك ما أنت فيه من المنصب والجاه ، ولم تفز بما أنت طالبه من أسباب النجاة ، وإن لِآخِرَ من يخرج من النار ويدخل بعد الداخلين ، مثل ملك أعظم من ملوك الدنيا ، وعشرة أمثاله معه أجمعين .
فما ظنك بمن يكون مع السابقين الأولين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مع ما لا يخفى عليك مما في المنصب من النصب والتعب وشر العاقبة وسوء المنقلب ، وما تكسب به من كثرة الأعداء والحساد ، وما اشتملت عليه بواطنهم من الضغائن والأحقاد، وشماتتهم بك عند زواله ، وتلهفك حزناً على ما فات من إقباله ، وزوال أكثر حشمك وخدمك ، وإعراض من كان يُسر بتقبيل قدمك .
وفي الحديث : ( إن أدنى أهل الجنة منـزلة من يقف على رأسه خمسة عشر ألف خادم وإن أدنى لؤلؤة على رأس أحدهم لتضيء ما بين المشرق والمغرب ) .
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه : أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء ، واسمع قول العزيز الغفار : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعمَ عُقبى الدار )(الرعد : 23،24) .
تالله هذا ما تقر به العيون ، و( لمثل هذا فليعمل العاملون ) (الصافات : 61) .
***
وإن قلت : يشق علي فراق قصري وظله ، وبنائه المشيد وعلو محله ، وحشمي فيه وخدمي ، وسروري ونعمي ،
فليت شعري هل هو إلا بيت من طين وحجر وتراب ، ومدر وحديد وخشب ، وجريد وقصب ، إن لم يكنس كثرت فيه القمامة ، وإن لم يسرج فما أشد ظلامه ، وإن لم يتعاهد بالبناء ، فما أسرع انهدامه ، وإن تعاهدته فمآله إلى الخراب ، وعن قليل يصير كالتراب ، يتفرق عنه السكان ، وتنتقل عنه القُطَّان ، ويعفو أثره ويندرس خبره ، ويُمحى رسمه ويُنسى أسمه .
وقد روي : أن الله عز وجل لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال : ابن للخراب ولد للفناء .
وفي الخبر : إن لله ملكاً ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب .
استبدل أيها المغرور قصرك مع سرعة فنائه بدار باقية قصورها عالية ، وأنوارها زاهية ، وأنهارها جارية ، وقطوفها دانية ، وأفراحها متوالية .
إن سألت عن بنائها ، فَلَبِنَةُ فضة ، ولبنِة ذهب ، ولا تعب فيها ، كلا ولا نصب ،
وإن سألت عن ترابها ، فالمسك الأذفر ، وإن سألت عن حصبائها فاللؤلؤ والجوهر .
وإن سألت عن أنهارها ، فأنهار من لبن ، وأنهار من عسل ، ونهر الكوثر .
وإن سألت عن قصورها ، فالقصر من لؤلؤة مجوفة ، طولها سبعون ميلاً في الهواء ، أو من زمردة خضراء ، باهرة السنا ، أو ياقوتة حمراء ، عالية البناء ، وللمؤمن في كل زاوية من زواياها أهل وخدم ، لا يبصر بعضهم بعضاً لسعة الفنا .
وإن سألت عن فروشها فمن استبرق بطائنها ، فما ظنك بظهائرها .
وهي مرفوعة بين الفراشين أربعين سنة ، وليس عليها نوم ولا سِنَة ، بل هم عليها متكئون مقبل :
( بعضهم على بعض يتساءلون ) (الطور : 25) .
وإن سألت عن أكلها ، فموائدها موضوعة ، وأكلها على الدوام ، وثمارها لا ممنوعة ولا مقطوعة لطول المقام ، بل فاكهة نضيجة ، ( مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون ) (الواقعة : 20و21) ويسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )(المطففين : 25و26) .
لا يتغوط أهلها ، ولا يبولون ، ولا يبصقون ، ولا يمتخطون ، أكلهم يرشح من جلودهم كالمسك ريحاً ، ولوناً كالجمان ، فإذا البطن قد ضمر كما كان .
وإن سألت عن خدمها ، فالولدان المخلدون : ( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمَ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً عالِيَهم ثياب سُندسٍ خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً ) (الإنسان : 19-22) .
وبالجملة فكل ما ذكرت لك ، هو كما جاء في الخبر ، وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وإن سألت عن مدة بقائهم في هذا النعيم العظيم ، والمقام الكريم الجسيم ، فهم أبداً فيه خالدون ، أحياء لا يموتون ، شباب لا يهرمون ، أصحاء لا يسقمون ، فرحون لا يحزنون ، راضون لا يسخطون ، من خوف القطيعة والطرد أبداً آمنين ، في مقام أمين : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (يونس : 10)
فقس بعقلك ما بين هذا الملك العظيم الخطير ، وبين قصرك ذي العمر القصير ، والقدر اليسير ، وانظر إذا فارقته بالشهادة إلى ماذا يصير ، إن المقام فيما أنت فيه لغرور
( ولا يُنَبِّئُك مِثلُ خبير ) (فاطر : 14) .
***
وإن قلت أرغب في التأخير لإصلاح العمل ، فهذا أيضاً ناتج من الغرور ، وطول الأمل ، وتا الله ما تمَّ تأخير في الأجل المقدور :
( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) (فاطر : 5و6) .
ليس هذا والله إلا من مصايد إبليس اللعين ، لا من مقاصد الأولياء والصالحين ، أليس الصحابة وأخيار التابعين أولى منك بهذا القصد إن كنت من الصادقين ، لو ركنوا إلى تأخير الآجال ، لما ارتكبوا في الله عظيم الأهوال ، ولما جاهدوا المشركين والكفار ، واقتحموا البلاد والأمصار ، ألا تصغي بأذنك يا هذا المفتون ، إلى قوله تعالى : ( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (التوبة : 41) .
ألا تلقي بالك ؟ إن كنت فطيناً فهيماً ، وتفكر في قوله تعالى :
( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ) (النساء : 95) .
وفي الحديث : ( إن قيام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل من عبادته في أهله سبعين عاماً ) .
أيها المغرور، وإن نوم المجاهد أفضل من قيام الليل وصيام الدهور، وسيأتي لهذا مزيد بيان ، وبالله المستعان.
وهب أنك صادق فيما تقول ،
أليس عملك متردداً بين الردِّ والقبول ؟ أليس أمامك ما يفزع ويهول ، أليس قدامك يوم الحشر المهول ؟ ولا والله تدري هل ينجيك عملك إن عملت أو يرديك .
( والله يعلم ما تخفون وما تعلنون ) (النمل : 25) ، ( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) (آل عمران : 158) .
***
وإن قلت : لا تطيب نفسي بفراق زوجتي وجمالها ، وأنسي بقربها ، وسروري بوصالها ،
فهب أن زوجتك أحسن النسوان ، وأجمل أهل الزمان ، أليس أولها نطفة مذرة وآخرها جيفة قذرة ، وهي فيما بين ذلك تحمل العذرة ، حيضها يمنعك شطر عمرها ، وعقوقها لك أكثر من برها ، وإن لم تكتحل تعمَّشت عينها ، وإن لم تتزين ظهر شينُها ، وإن لم تمتشط شعثت شعورها ، وإن لم تدّهن طفى نورها ، وإن لم تطيب تفلت ، وإن لم تتطهر نتنت ، كثيرة العلل ، سريعة الملل ، إن كبرت أيست ، وإن عجزت هرمت ، تحسن إليها جهدك ، فتنكر ذلك عند السخط .
كما قال صل الله عليه واله وسلم لو أحسنت إلى إحداهنَّ الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ).
تروم منها أقذر ما فيها ، وتخاف هجرها وتخشى تجافيها ، يحملك حبها على الكد والتعب والشقاء الشديد والنصب ، توردك الموارد المهلكة ، وترضى في أدنى هواها بهلاكك وما أوشكه ، تودك لمرادها منك ، فإن فات أعرضت عنك ، وهجرتك وطلبت سواك ، وملَّتك وأظهرت قلاك ، وقالت بلسان حالها إن لم تفصح بمقالها ، واصلني وأنفق ، أو فارقني وطلق ، وبالجملة لا يمكن أن تستمتع بها إلا على عِوَج ، ولا تدوم صحبتك إياها إلا مع ضيق وحرج ، يالله العجب ، كيف يقعدك حب هذه عن وصال من خُلقت من النور ، ونشأت في ظلال القصور ، مع الولدان والحور ، في دار النعيم والسرور ، والله لا يجفُّ دم الشهيد حتى تلقاه ، وتستمتع بشهود نورها عيناه ، حوراء عيناء جميلة حسناء ، بِكر عذراء ، كأنها الياقوت ، لم يطمثها إنس قبلك ولا جان ، كلامها رخيم ، وقدُّها قويم ، وشعرُها بهيم ، وقدرها عظيم ، جفنها فاتر ، وحسنها باهر ، وجمالها زاهر ، ودلالها ظاهر ، كحيل طرفها ، جميل ظرفها ، عذب نطقها ، عجب خلقُها ، زاهية الحلي ، بهية الحلل ، كثيرة الوداد ، عديمة الملل ، قد قصرت طرفها عليك ، فلم تنظر سواك ، وتحببت إليك بكل ما وافق هواك ، لو برز ظفرها لطمس بدر التمام ، ولو ظهر سوارها ليلاً لم يبق في الكون ظلام ، ولو بدا معصمها لسبى كل الأنام ، ولو اطلعت بين السماء والأرض لملأ ريحها ما بينهما ، ولو تفلت في البحر المالح عاد كأعذب الماء ، كلما نظرت إليها ازدادت في عينك حسناً ، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسناً ، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها ، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها .
واعلم أن فراق زوجتك تلك لا بد منه ، وكأن قد وقع ، والجنة إن شاء الله تجمع بينكما ونعم المجتمع ،
وما بينك وبين وصلها إن كانت من الصالحات ، إلا وقت لا بد من فراقك لها فيه وهو الممات ، فتجدها في الآخرة أجمل من الحور العين بما لا يعلمه إلا رب العالمين ، قد ذهب ما تكره منها ، وزال ما يسوء عنها ، وحسن خُلُقُها ، وكمل خَلقُها ، كحلاء نجلاء ، حسناء زهراء ، بكراً عذراء ، قد طهرت من الحيض والنفاس ، وكرمت منها الأنواع والأجناس ، وزال اعوجاجها ، وزاد ابتهاجها ، وعظمت أنوارها ، وجلَّ مقدارها ، وفضلت على الحور العين في الجمال ، والأنوار ، كفضلهن عليها في هذه الدار ، فأعرض عنها اليوم لله فسيعوضك الله عنها ، وإن كانت من أهل الجنة فلا بد لك منها
***
ولا يلهينك يا هذا عن دار القرار الاغترار بشيء من زخرف هذه الدار ، فوالله ما هي بدار مقام ، ولا محل اجتماع والتئام ،
دارٌ إن أضحكت اليوم أبكت غداً ، وإن سرَّت أعقب سرورها الردى ، وإن جلَّت فيها النعم جميعاً حلَّت فيها النقم سريعاً ، وإن أخصبت أجدبت ، وإن جمعت فرَّقت ، وإن ضمت شتت ، وإن نقصت تغصت ، وإن أغنت عنت ، وإن زادت أبادت ، وإن عمَّرت دمَّرت ، وإن أسفرت أدبرت ، وإن راقت أراقت ، وإن صافت حافت ، وإن عمَّت بنوالها غمَّت بوبالها ، وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ، قربها بعيد ، وحبيبها طريد ، شرابها سراب ، وعذْبُها عذاب ، دار الهموم والأحزان ، والغموم والأشجان ، والبين والفراق ، والشقاء والشقاق ، والوصب والنصب ، والمشقة والتعب ، كثيرها قليل ، وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، وجليلها حقير ، غزيرة الآفات ، كثيرة الحسرات ، قليلة الصفا ، عديمة الوفا ، لا ثقة بعهودها ، ولا وفت لوعودها ، محبها تعبان ، وعاشقها ولهان ، والواثق بها خجلان ، قد سترت معايبها ، وكتمت مصائبها ، وأخفت نوائبها ، وخدعت بأباطيلها ، وغرت ببراطيلها ، ونصبت شباكها ، ووضعت أشراكها ، وبهرجت زيفها ، وجردت سيفها ، وأبدت ملامحها ، وسترت قبائحها ، ونادت الوصال الوصال أيها الرجال ، فمن رام وصالها وقع في حبالها ، وبدا له سوء حالها ، وعظم نكالها ، ووقع في أسرها ، لجهله بشرها ، وحاق به مكرها حيث لم يتبصر في أمرها فعض يديه ندماً ، وبكى بعد الدمع دماً ، وأسلمه ما طلب إلى سوء المنقلب ، وجهد في الفرار فما أمكنه الهرب ، فتيقظ لنفسك يا هذا قبل الهلاك ، وأطلق نفسك من أسرها قبل أن يعسر الفكاك ، وانهض على قدم التوفيق والسعادة عسى الله أن يرزقك من فضله الشهادة ، ولا يقعدك عن هذا الثواب ، سبب من الأسباب ، فذو الحزم السديد من جرَّد العزم الشديد ، وذو الرأي المصيب من كان له في الجهاد نصيب ، ومن أخلد إلى الكسل وغرَّه الأمل ، زلت منه القدم ، وندم حيث لا يغني الندم ، وقرع السنَّ على ما فرط وفات ، إذا شاهد الشهداء في أعلى الغرفات : ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) (الأحزاب : 4) ( وحسبنا الله ونعم الوكيل ) (آل عمران : 173) ) .
ونصرة المظلومين في دماج
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن النحاس الدمياطي رحمه الله:
فصل :
( اعلم أيها الراغب عما افترض عليه من الجهاد ، الناكب عن سنن التوفيق والسداد ، إنك قد تعرضت للطرد والإبعاد ، وحرمت ـ والله ـ الإسعاد بنيل المراد ،
ليت شعري هل سبب إحجامك عن القتال ؟
واقتحامك معارك الأبطال ؟
وبخلك في سبيل الله بالنفس والمال ؟
إلا طول أمل ،
أو خوف هجوم أجل ،
أو فراق محبوب من أهل ومال ،
أو ولد وخدم وعيال ،
أو أخ لك شقيق ،
أو قريب عليك شفيق ،
أو ولي كريم ،
أو صديق حميم ،
أو ازدياد من صالح الأعمال ،
أو حب زوجة ذات حسن وجمال ،
أو جاه منيع ،
أو منصب رفيع،
أو قصر مشيد،
أو ظل مديد،
أو ملبس بهي،
أو مأكل هني ؟!!
ليس غير هذا يقعدك عن الجهاد ، ولا سواه يبعدك عن رب العباد ،
وتالله ما هذا منك أيها الأخ بجميل ،
ألا تسمع قوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة : 38) .
اصغ لما أملي عليك من الحجج القاطعة ، واستمع ما ألقي عليك من البراهين الساطعة ،
لتعلم أنه ما يقعدك عن الجهاد سوى الحرمان ، وليس لتأخرك سبب إلا النفس والشيطان ، أما سكونك إلى طول الأمل ، وخوف هجوم الأجل ، والاحتراز من الموت الذي لا بُدَّ من نزوله ، والإشفاق من الطريق الذي لا بد من سلوك سبيله ، فوالله إن الإقدام لا ينقص عمر المقدمين ، كما لا يزيد الإحجام عمر المستأخرين :
( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )(الأعراف : 34) ،( ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) (المنافقون : 11) ، ( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ) (العنكبوت : 57) .
وإن للموت لسكرات أيها المفتون ، وإن هول المطلع شديد ولكن لا تشعرون ، وإن للقبر عذاباً لا ينجو منه إلا الصالحون ، وإن فيه لسؤال الملكين الفاتنين :
( يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين )( إبراهيم : 27 )
ثم بعد ذلك الخطر العظيم ، إما سعيداً فإلى النعيم المقيم، وإما شقياً فإلى عذاب الجحيم، والشهيد أمن من جميع ذلك لا يخشى شيئاً من هذه المهالك.
وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم:
( لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمسِّ القرصة ) .
فما يقعدك أيها الأخ عن انتهاز هذه الفرصة ، ثم تجار في القبر من العذاب ، وتفوز عند الله بحسن المآب ، وتأمن من فتنة السؤال ، وما بعد ذلك من الشدائد والأهوال ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون :
فرحين بما آتاهم الله من فضله مستبشرين ، أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في عليين فكم بين هذا القتل الكريم ، وبين الموت الأليم ***
وإن قلت : يعوقني عن الجهاد أهلي ومالي ، وأطفالي وعيالي ، فقد قال الله تعالى قولاً بيناً لا يخفى :
( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) (سبأ : 37) ، وقال تعالى : ( زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (آل عمران : 14) .
وقال تعالى : ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (الحديد : 20) .
والآيات في مثل هذا كثيرة ، والحجج واضحة منيرة .
وفي الحديث : ( لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ) .
وقال صل الله عليه وسلم : ( موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، وغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، وخمار جارية من أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها ) .
فكيف يصدك عن هذا الملك العظيم ، أهل عن قليل يكونون في الأموات ، وتمزقهم أيدي الشتات ، وتفرقهم نوازل الآفات ، مع ما يصدر منهم من النكد والعداوات ، والأخلاق السيئات ، والحقد على عرضت من حظوظهم منك للفوات ، وهجرانهم إياك عند قلة المال ، وتحولهم عن ودِّك عند تغير الأحوال ، وأعظم من ذلك فرارهم منك في المآل ، ومحاسبتهم إياك على مثاقيل الذر في موقف السؤال ، حتى يود كل واحد منهم لو نجا ، وحمَّلك ما عليه من الذنوب والأثقال ***.
أم كيف يصدك ما هو في معرض الذهاب والزوال ، ينفر عنك عند فقده الأخلاء وتتفرق العيال ، ويهجرك كل صديق كان يكثر لك الوصال ، ثم يوم القيامة تسأل عنه
من أين اكتسبت ، وفيم أنفقت ؟
ويا له من سؤال ، في يوم تشيب فيه الأطفال ، وتعظم فيه الأهوال وتكثر فيه الزحام ويشتد الخصام وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها من هول ذلك المقام ويعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ويحاسب فيه الأغنياء على النقير والقطمير ، والخطير والحقير ، والناقص والتمام ، ويسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام ، فيأكلون ويشربون ويتنعمون في دار السلام ، وأنت أيها الغني محبوس عنهم بسبب مالك ، تخشى أن يؤمر بك إلى مالك .
أفتحزن على فراق ما إن قلَّ أكثر همك وعنّاك ، أو كثر فأغناك وأطغاك وإن مت وتركته وراءك أرداك ، وبين يديك موقف الحساب عليه وما أدراك ، وهب أن لك الدنيا بحذافيرها ، أليس إلى الفناء مصيرها ولا بد من فراقك لها ، وإن ركنت إلى غرورها .
جاء في الحديث أن النبي صل الله عليه واله وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه : ألا أريك الدنيا جميعاً بما فيها ، قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة ، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس ، وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم ، قال : أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم ، وتأمل آمالكم ، ثم هي اليوم تَسَاقَط عظام بلا جلد ، ثم هي صائرة رماداً رميداً ، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم ، اكتسبوها من حيث اكتسبوها ، فقذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها ، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم ثم أصبحت والرياح تصفقها ، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد ، فمن كان باكياً على الدنيا فليبك ، قال : فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا .
***
وإن تذكرت ولدك الكريم وحنوت عليه حنو الأب الشفيق الرحيم ،
فقد قال الله تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) (التغابن : 15) .
وتاالله لَلَهُ أرحم بالولد من أبيه وأمه ، وأخيه وعمه ،
وكيف لا وهو قد رباه قبلهم بثدي رحمته في ظلمات الأحشاء ، وقلبه بيد لطفه ورأفته في أرحام الأمهات وأصلاب الآباء ، فأين كانت شفقتك عليه إذ ذاك ، وحنوك وبعدك عنه ودنوك ، وكيف يقعدك عن دار النعيم ، وجوار الرب الكريم ، ولد إن كان صغيراً فأنت به مهموم ، أو كبيراً فأنت به مغموم ، أو صحيحاً فأنت عليه خائف ، أو سقيماً فقلبك لضعفه واجف ، إن أدبته غضب وشرد ، أو نصحته حرد وحقد ، مع ما تتوقعه من العقوق المعتاد من كثير من الأولاد ، إن أقدمت جبنك ، وإن سمحت بخلك ، وإن زهدت رغبك ، عظمت به الفتنة ، وأنت تعدها مِنَّة ، وعمَّ به البلاء ، وأنت تراه من النعماء ، تود سروره بهمك ، وفرحه بحزنك ، وربحه بخسرانك ، وزيادة درهمه وديناره بخفة ميزانك ، تتكلف من أجله ما لا تطيق ، وتدخل بسببه في كل مضيق ، ألقه يا هذا عن بالك إلى من خلقك وخلقه وتوكل في رزقه بعدك على الذي رزقك ورزقه ، أسلمت إلى الله تدبيره في الملك والملكوت ، ولا تسلم إليه في تدبير ولدك بعدما تموت ، وهل إليك من تدبيره قليل أو كثير : ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) (المائدة : 18) ،
والله لا تملك له ولا لنفسك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا تستطيع أن تزيد في عمره يسيراً ، ولا في رزقه نقيراً ، وقد تفترسك المنية بغتة ، فتمسي في قبرك صريعاً وبعملك أسيراً ، ويصبح ولدك العزيز بعدك يتيماً ، ويقسم مالك وارثُك عدواً كان أو رحيماً ، ويفترق عيالك ظاعناً ومقيماً .
وتقول يا ليتني كنت مع الشهداء فأفوز فوزاً عظيماً ، فيقال لك هيهات هيهات ، فات ما فات ، وعظمت الحسرات ، وخلوت بما قدمت من حسنات أو سيئات ،
ألا واسمع قول الله العزيز الغفور محذراً لك ما أنت فيه من الغرور : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) (لقمان : 33) .
هذا وإن كان ولدك من السعداء ، فستجمع بينك وبينه الجنان ، وإن كان من الأشقياء ، فليكن من الآن لا يجتمع أهل الجنة مع أهل النار ، ولا الأخيار مع الأشرار ، ولعل الله يرزقك الشهادة فتشفع فيه ، وتكون بفراقك له ساعياً في أن تنجيه ، إحرص على ما ينجيك من العذاب ، واجهد فيه ، فغداً يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرءٍ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه )(عبس : 34-37) إن هذا لهو البيان العظيم : ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) (البقرة : 213) .
***
وإن قلت : يشق عليَّ فراق الأخ والقريب ، والصديق والحبيب ، فكأنك بالقيامة وقد قامت على الخلق أجمعين :
( الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) (الزخرف : 67) ، فإن كانت الصداقة لله فستجمع بينكما عليون ، في نعيم أنتم فيه خالدون ، وإن كانت الصحبة لغير الله ،
فالفراق الفراق ، قبل أن يحشر الرفاق مع الرفاق ، لأن المرء في الآخرة مع محبوبه ، لمشاركته إياه في مطلوبه ، فإن كان من الأتقياء نفعه أخاه ، وإن كان من الأشقياء ضره وأرداه ، مع ما يتوقع في هذه الدار من الأقرباء والأصدقاء من الجفاء ، والصدّ وقلة الوفاء ، وكثرة الكدر وعدم الصفاء ، وتغيرهم لديك ، وتلونهم عليك ، وإساءتهم إليك ، وهجرهم إياك عند فوات الأغراض ، وما تجُنُّه قلوبهم من العلل والأمراض ، إن وقعت في شدة تخلُّو عنك ، أو واقعت زلة تبرؤوا منك ، إخوان السراء وأعداء الضراء ، صداقتهم مقرونة بالغنا ، وصحبتهم مشحونة بالعناء ، إن قلَّ مالُك ملُّوك وإن حال حالك فما أخوك أخوك ، وإن شككت في شيء من هذا البيان ، فسيظهر لك يقيناً عند الإمتحان ، وإن ظفرت يدك منهم بأخ من إخوان الصفا ! وأين ذاك ، أو خِل من خِلاّن الوفا وما أُراك ، فأنتما غداً كما قال أصدق القائلين ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍ إخواناً على سرر متقابلين ) (الحجر : 47) .
ولا يقعدك يا هذا عن الجهاد حبيب أو قريب ، فربما افترقتما قبل المغيب ، ففاتك الثواب العظيم ، وبان عنك الصديق الحميم ، وحرمت ما ترومه من الدرجات ، وندمت فلم يغنك الندم على ما فات .
وفي الحديث : إن جبريل عليه السلام قال للنبي يا محمد إن الله يقول لك : عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به .
فانظر ما اشتملت عليه هذه الكلمات اليسيرة من ذكر الموت وفراق الأحبة والجزاء على الأعمال أبعد هذا الإنذار إنذار
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (آل عمران : 13) .
***
وإن قلت : يقعدني منصبي وجاهي الرفيع ، وعزي وحجابي المنيع ، فليت شعري كم فارق منصبك ، محباً له إلى أن وصل إليك ، وكم زال ظله من مُغبِط نفسه به إلى أن ظلل عليك ، وسيبين عنك كما عنهم بان ، وكأنك بذلك وقد كان ، فإذا أنت لفراقه ثكلان ، وقلبك مغمور بالحسد ، وصدرك معمور بالأحزان ، فلم يدم لك ما أنت فيه من المنصب والجاه ، ولم تفز بما أنت طالبه من أسباب النجاة ، وإن لِآخِرَ من يخرج من النار ويدخل بعد الداخلين ، مثل ملك أعظم من ملوك الدنيا ، وعشرة أمثاله معه أجمعين .
فما ظنك بمن يكون مع السابقين الأولين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مع ما لا يخفى عليك مما في المنصب من النصب والتعب وشر العاقبة وسوء المنقلب ، وما تكسب به من كثرة الأعداء والحساد ، وما اشتملت عليه بواطنهم من الضغائن والأحقاد، وشماتتهم بك عند زواله ، وتلهفك حزناً على ما فات من إقباله ، وزوال أكثر حشمك وخدمك ، وإعراض من كان يُسر بتقبيل قدمك .
وفي الحديث : ( إن أدنى أهل الجنة منـزلة من يقف على رأسه خمسة عشر ألف خادم وإن أدنى لؤلؤة على رأس أحدهم لتضيء ما بين المشرق والمغرب ) .
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه : أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء ، واسمع قول العزيز الغفار : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعمَ عُقبى الدار )(الرعد : 23،24) .
تالله هذا ما تقر به العيون ، و( لمثل هذا فليعمل العاملون ) (الصافات : 61) .
***
وإن قلت : يشق علي فراق قصري وظله ، وبنائه المشيد وعلو محله ، وحشمي فيه وخدمي ، وسروري ونعمي ،
فليت شعري هل هو إلا بيت من طين وحجر وتراب ، ومدر وحديد وخشب ، وجريد وقصب ، إن لم يكنس كثرت فيه القمامة ، وإن لم يسرج فما أشد ظلامه ، وإن لم يتعاهد بالبناء ، فما أسرع انهدامه ، وإن تعاهدته فمآله إلى الخراب ، وعن قليل يصير كالتراب ، يتفرق عنه السكان ، وتنتقل عنه القُطَّان ، ويعفو أثره ويندرس خبره ، ويُمحى رسمه ويُنسى أسمه .
وقد روي : أن الله عز وجل لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال : ابن للخراب ولد للفناء .
وفي الخبر : إن لله ملكاً ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب .
استبدل أيها المغرور قصرك مع سرعة فنائه بدار باقية قصورها عالية ، وأنوارها زاهية ، وأنهارها جارية ، وقطوفها دانية ، وأفراحها متوالية .
إن سألت عن بنائها ، فَلَبِنَةُ فضة ، ولبنِة ذهب ، ولا تعب فيها ، كلا ولا نصب ،
وإن سألت عن ترابها ، فالمسك الأذفر ، وإن سألت عن حصبائها فاللؤلؤ والجوهر .
وإن سألت عن أنهارها ، فأنهار من لبن ، وأنهار من عسل ، ونهر الكوثر .
وإن سألت عن قصورها ، فالقصر من لؤلؤة مجوفة ، طولها سبعون ميلاً في الهواء ، أو من زمردة خضراء ، باهرة السنا ، أو ياقوتة حمراء ، عالية البناء ، وللمؤمن في كل زاوية من زواياها أهل وخدم ، لا يبصر بعضهم بعضاً لسعة الفنا .
وإن سألت عن فروشها فمن استبرق بطائنها ، فما ظنك بظهائرها .
وهي مرفوعة بين الفراشين أربعين سنة ، وليس عليها نوم ولا سِنَة ، بل هم عليها متكئون مقبل :
( بعضهم على بعض يتساءلون ) (الطور : 25) .
وإن سألت عن أكلها ، فموائدها موضوعة ، وأكلها على الدوام ، وثمارها لا ممنوعة ولا مقطوعة لطول المقام ، بل فاكهة نضيجة ، ( مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون ) (الواقعة : 20و21) ويسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )(المطففين : 25و26) .
لا يتغوط أهلها ، ولا يبولون ، ولا يبصقون ، ولا يمتخطون ، أكلهم يرشح من جلودهم كالمسك ريحاً ، ولوناً كالجمان ، فإذا البطن قد ضمر كما كان .
وإن سألت عن خدمها ، فالولدان المخلدون : ( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمَ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً عالِيَهم ثياب سُندسٍ خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً ) (الإنسان : 19-22) .
وبالجملة فكل ما ذكرت لك ، هو كما جاء في الخبر ، وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وإن سألت عن مدة بقائهم في هذا النعيم العظيم ، والمقام الكريم الجسيم ، فهم أبداً فيه خالدون ، أحياء لا يموتون ، شباب لا يهرمون ، أصحاء لا يسقمون ، فرحون لا يحزنون ، راضون لا يسخطون ، من خوف القطيعة والطرد أبداً آمنين ، في مقام أمين : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (يونس : 10)
فقس بعقلك ما بين هذا الملك العظيم الخطير ، وبين قصرك ذي العمر القصير ، والقدر اليسير ، وانظر إذا فارقته بالشهادة إلى ماذا يصير ، إن المقام فيما أنت فيه لغرور
( ولا يُنَبِّئُك مِثلُ خبير ) (فاطر : 14) .
***
وإن قلت أرغب في التأخير لإصلاح العمل ، فهذا أيضاً ناتج من الغرور ، وطول الأمل ، وتا الله ما تمَّ تأخير في الأجل المقدور :
( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) (فاطر : 5و6) .
ليس هذا والله إلا من مصايد إبليس اللعين ، لا من مقاصد الأولياء والصالحين ، أليس الصحابة وأخيار التابعين أولى منك بهذا القصد إن كنت من الصادقين ، لو ركنوا إلى تأخير الآجال ، لما ارتكبوا في الله عظيم الأهوال ، ولما جاهدوا المشركين والكفار ، واقتحموا البلاد والأمصار ، ألا تصغي بأذنك يا هذا المفتون ، إلى قوله تعالى : ( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (التوبة : 41) .
ألا تلقي بالك ؟ إن كنت فطيناً فهيماً ، وتفكر في قوله تعالى :
( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ) (النساء : 95) .
وفي الحديث : ( إن قيام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل من عبادته في أهله سبعين عاماً ) .
أيها المغرور، وإن نوم المجاهد أفضل من قيام الليل وصيام الدهور، وسيأتي لهذا مزيد بيان ، وبالله المستعان.
وهب أنك صادق فيما تقول ،
أليس عملك متردداً بين الردِّ والقبول ؟ أليس أمامك ما يفزع ويهول ، أليس قدامك يوم الحشر المهول ؟ ولا والله تدري هل ينجيك عملك إن عملت أو يرديك .
( والله يعلم ما تخفون وما تعلنون ) (النمل : 25) ، ( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) (آل عمران : 158) .
***
وإن قلت : لا تطيب نفسي بفراق زوجتي وجمالها ، وأنسي بقربها ، وسروري بوصالها ،
فهب أن زوجتك أحسن النسوان ، وأجمل أهل الزمان ، أليس أولها نطفة مذرة وآخرها جيفة قذرة ، وهي فيما بين ذلك تحمل العذرة ، حيضها يمنعك شطر عمرها ، وعقوقها لك أكثر من برها ، وإن لم تكتحل تعمَّشت عينها ، وإن لم تتزين ظهر شينُها ، وإن لم تمتشط شعثت شعورها ، وإن لم تدّهن طفى نورها ، وإن لم تطيب تفلت ، وإن لم تتطهر نتنت ، كثيرة العلل ، سريعة الملل ، إن كبرت أيست ، وإن عجزت هرمت ، تحسن إليها جهدك ، فتنكر ذلك عند السخط .
كما قال صل الله عليه واله وسلم لو أحسنت إلى إحداهنَّ الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ).
تروم منها أقذر ما فيها ، وتخاف هجرها وتخشى تجافيها ، يحملك حبها على الكد والتعب والشقاء الشديد والنصب ، توردك الموارد المهلكة ، وترضى في أدنى هواها بهلاكك وما أوشكه ، تودك لمرادها منك ، فإن فات أعرضت عنك ، وهجرتك وطلبت سواك ، وملَّتك وأظهرت قلاك ، وقالت بلسان حالها إن لم تفصح بمقالها ، واصلني وأنفق ، أو فارقني وطلق ، وبالجملة لا يمكن أن تستمتع بها إلا على عِوَج ، ولا تدوم صحبتك إياها إلا مع ضيق وحرج ، يالله العجب ، كيف يقعدك حب هذه عن وصال من خُلقت من النور ، ونشأت في ظلال القصور ، مع الولدان والحور ، في دار النعيم والسرور ، والله لا يجفُّ دم الشهيد حتى تلقاه ، وتستمتع بشهود نورها عيناه ، حوراء عيناء جميلة حسناء ، بِكر عذراء ، كأنها الياقوت ، لم يطمثها إنس قبلك ولا جان ، كلامها رخيم ، وقدُّها قويم ، وشعرُها بهيم ، وقدرها عظيم ، جفنها فاتر ، وحسنها باهر ، وجمالها زاهر ، ودلالها ظاهر ، كحيل طرفها ، جميل ظرفها ، عذب نطقها ، عجب خلقُها ، زاهية الحلي ، بهية الحلل ، كثيرة الوداد ، عديمة الملل ، قد قصرت طرفها عليك ، فلم تنظر سواك ، وتحببت إليك بكل ما وافق هواك ، لو برز ظفرها لطمس بدر التمام ، ولو ظهر سوارها ليلاً لم يبق في الكون ظلام ، ولو بدا معصمها لسبى كل الأنام ، ولو اطلعت بين السماء والأرض لملأ ريحها ما بينهما ، ولو تفلت في البحر المالح عاد كأعذب الماء ، كلما نظرت إليها ازدادت في عينك حسناً ، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسناً ، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها ، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها .
واعلم أن فراق زوجتك تلك لا بد منه ، وكأن قد وقع ، والجنة إن شاء الله تجمع بينكما ونعم المجتمع ،
وما بينك وبين وصلها إن كانت من الصالحات ، إلا وقت لا بد من فراقك لها فيه وهو الممات ، فتجدها في الآخرة أجمل من الحور العين بما لا يعلمه إلا رب العالمين ، قد ذهب ما تكره منها ، وزال ما يسوء عنها ، وحسن خُلُقُها ، وكمل خَلقُها ، كحلاء نجلاء ، حسناء زهراء ، بكراً عذراء ، قد طهرت من الحيض والنفاس ، وكرمت منها الأنواع والأجناس ، وزال اعوجاجها ، وزاد ابتهاجها ، وعظمت أنوارها ، وجلَّ مقدارها ، وفضلت على الحور العين في الجمال ، والأنوار ، كفضلهن عليها في هذه الدار ، فأعرض عنها اليوم لله فسيعوضك الله عنها ، وإن كانت من أهل الجنة فلا بد لك منها
***
ولا يلهينك يا هذا عن دار القرار الاغترار بشيء من زخرف هذه الدار ، فوالله ما هي بدار مقام ، ولا محل اجتماع والتئام ،
دارٌ إن أضحكت اليوم أبكت غداً ، وإن سرَّت أعقب سرورها الردى ، وإن جلَّت فيها النعم جميعاً حلَّت فيها النقم سريعاً ، وإن أخصبت أجدبت ، وإن جمعت فرَّقت ، وإن ضمت شتت ، وإن نقصت تغصت ، وإن أغنت عنت ، وإن زادت أبادت ، وإن عمَّرت دمَّرت ، وإن أسفرت أدبرت ، وإن راقت أراقت ، وإن صافت حافت ، وإن عمَّت بنوالها غمَّت بوبالها ، وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ، قربها بعيد ، وحبيبها طريد ، شرابها سراب ، وعذْبُها عذاب ، دار الهموم والأحزان ، والغموم والأشجان ، والبين والفراق ، والشقاء والشقاق ، والوصب والنصب ، والمشقة والتعب ، كثيرها قليل ، وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، وجليلها حقير ، غزيرة الآفات ، كثيرة الحسرات ، قليلة الصفا ، عديمة الوفا ، لا ثقة بعهودها ، ولا وفت لوعودها ، محبها تعبان ، وعاشقها ولهان ، والواثق بها خجلان ، قد سترت معايبها ، وكتمت مصائبها ، وأخفت نوائبها ، وخدعت بأباطيلها ، وغرت ببراطيلها ، ونصبت شباكها ، ووضعت أشراكها ، وبهرجت زيفها ، وجردت سيفها ، وأبدت ملامحها ، وسترت قبائحها ، ونادت الوصال الوصال أيها الرجال ، فمن رام وصالها وقع في حبالها ، وبدا له سوء حالها ، وعظم نكالها ، ووقع في أسرها ، لجهله بشرها ، وحاق به مكرها حيث لم يتبصر في أمرها فعض يديه ندماً ، وبكى بعد الدمع دماً ، وأسلمه ما طلب إلى سوء المنقلب ، وجهد في الفرار فما أمكنه الهرب ، فتيقظ لنفسك يا هذا قبل الهلاك ، وأطلق نفسك من أسرها قبل أن يعسر الفكاك ، وانهض على قدم التوفيق والسعادة عسى الله أن يرزقك من فضله الشهادة ، ولا يقعدك عن هذا الثواب ، سبب من الأسباب ، فذو الحزم السديد من جرَّد العزم الشديد ، وذو الرأي المصيب من كان له في الجهاد نصيب ، ومن أخلد إلى الكسل وغرَّه الأمل ، زلت منه القدم ، وندم حيث لا يغني الندم ، وقرع السنَّ على ما فرط وفات ، إذا شاهد الشهداء في أعلى الغرفات : ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) (الأحزاب : 4) ( وحسبنا الله ونعم الوكيل ) (آل عمران : 173) ) .