بهجة طلاب الشهادة
في صدّ عدوان الرافضة
كتبها:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا
الإندونيسي عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف عفا الله عنه
فإن هجوم الرافضة على أهل السنة قد تكرر وما أظنّهم سينتهون حتى يقتلهم الله بدداً ولا يبقى منهم أحداً وقد أحصاهم عدداً. ولا تنفعهم نصائح متكررة ولا كثرة المثلات، فما كان على أهل السنة إلا الرباط والاستعداد بما يستطيعون متوكلين على الله لصدّ عدوان أنصار الشيطان، وقد وعد الله أولياءه إحدى الحسنيين. قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 52]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].
ومن أجل المشاركة على الخيرات -مع كثرة تخاذيل المنافقين والذين في قلوبهم مرض- أسطر لإخواننا السلفيين المجاهدين في سبيل الله بشائر من الكتاب والسنة والآثار مع اختصار لتسهيل النشر والتناول، فنسأل الله أن يتقبل منا ويغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.
الباب الاول: مشروعية قتال الرافضة
قد ثبت أن الرافضة مرتدون عن الإسلام، وهم كافرون بغاة منافقون، فقتالهم مشروع، وجهادهم جهاد في سبيل الله، بالأدلة السابقة. وقتال المارقين مشروع، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». (أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064)).
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» أي قتلا عاما مستأصلا كما قال تعالى: ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾، وفيه الحث على قتالهم، وفضيلة لعلي رضي الله عنه في قتالهم. ("شرح النووي على مسلم"/7/ ص162).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الممتنعين عن شرائع الإسلام: فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب. وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين. وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ وقال : إنه يرزقه، أو يسقط عنه الصلاة، أو أن شيخه أفضل من النبي، أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى. وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم. وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا. والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين. فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به. وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين ؛ بل بعض هؤلاء شرّ من الخوارج الحرورية ؛ مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية وكل من اعتقد في بشر أنه إله أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين : فهو شر من الخوارج الحرورية . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده ؛ بل أولهم خرج في حياته . ("مجموع الفتاوى"/28/ص 475-476).
إن شرور الرافضة أعظم من شر الخوارج، فقتالهم حتم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم ؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط ؛ دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك . والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين. فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم ولهذا يكفرون أعلام الملة : مثل سعيد بن المسيب، وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومثل مالك، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء . ويستحلون دماء من خرج عنهم ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو والعامة وأهل الحديث . –إلى قوله:-
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور . وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق؛ وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم ؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم.
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى.
وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين.
وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم.
وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال ؛ أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة : إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم . فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية. ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة. فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس. ("مجموع الفتاوى"/28 / ص 477-479).
الباب الثاني: عظيم أجر من جاهد الرافضة في سبيل الله
إن في جهاد هؤلاء المارقين أجورا عظيمة. فعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة». (أخرجه البخاري (3611) ومسلم (1066)).
وعن أبي غالب رحمه الله يقول: لَمَّا أُتِىَ بِرُءُوسِ الأَزَارِقَةِ فَنُصِبَتْ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ جَاءَ أَبُو أُمَامَةَ فَلَمَّا رَآهُمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: «كِلاَبُ النَّارِ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - هَؤُلاَءِ شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَخَيْرُ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ هَؤُلاَءِ». قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا شَأْنُكَ دَمَعَتْ عَيْنَاكَ؟ قَالَ: رَحْمَةً لَهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ. قَالَ: قُلْنَا: أَبِرَأْيِكَ قُلْتَ هَؤُلاَءِ كِلاَبُ النَّارِ، أَوْ شَيءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنِّي لَجَرِيءٌ بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ ثِنْتَيْنِ وَلاَ ثَلاَثٍ. قَالَ: فَعَدَّ مِرَاراً. (أخرجه الإمام أحمد ((22314)/الرسالة) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (482) /دار الآثار).
فطوبى للشهداء في سبيل الله. قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران : 169].
وهذا صريح في نعيم القبر للشهداء. عن مسروق قال: سألنا عبد الله –يعني ابن مسعود- عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا قالوا: أي شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». (أخرجه مسلم (1887)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح مسك». (أخرجه البخاري (5533)).
وعن سمرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء». (أخرجه البخاري (2791)).
الفصل الأول: هذه قصة عجيبة واقعية
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة، فربما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» فإذا رأى الرجل رؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه. قال: فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني دخلت الجنة، فسمعت بها وجبة ارتجت لها الجنة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان بن فلان، وفلان بن فلان، حتى عدت اثني عشر رجلا وقد بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية قبل ذلك. قالت: فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم. قال: فقيل اذهبوا بهم إلى نهر السدخ -أو قال: إلى نهر البيدج- قال: فغمسوا فيه فخرجوا منه وجوههم كالقمر ليلة البدر. قال: ثم أتوا بكراسي من ذهب فقعدوا عليها، وأتي بصحفة -أو كلمة نحوها- فيها بسرة، فأكلوا منها، فما يقلبونها لشق إلا أكلوا من فاكهة ما أرادوا، وأكلتُ معهم. قال: فجاء البشير من تلك السرية فقال: يا رسول الله، كان من أمرنا كذا وكذا، وأصيب فلان، وفلان، حتى عد الاثني عشر الذين عدتهم المرأة. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «عليّ بالمرأة». فجاءت. قال: «قصّي على هذا رؤياك». فقصّت. قال: هو كما قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم. (أخرجه الإمام أحمد (12408) بسند صحيح).
الفصل الثاني: هذه قصة أخرى عجيبة واقعية
قال الحاكم رحمه الله: سمعت أبا زكرياء يحيى بن محمد العنبري([1]) يقول: سمعت أبا العباس عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني المروزي([2]) يقول: إن الله سبحانه وتعالى يظهر إذا شاء ما شاء من الآيات والعبر في بريته فيزيد الإسلام بها عزا وقوة، ويؤيد ما أنزل من الهدى والبينات، وينشر أعلام النبوة، ويوضح دلائل الرسالة، ويوثق عرى الإسلام، ويثبت حقائق الإيمان منا منه على أوليائه وزيادة في البرهان بهم، وحجة على من عند عن طاعته وألحد في دينه: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ فله الحمد لا إله إلا هو ذو الحجة البالغة، والعز القاهر، والطول الباهر. وصلى الله على سيدنا محمد نبي الرحمة ورسول الهدى وعليه وعلى آله الطاهرين السلام ورحمة الله وبركاته.
وإن مما أدركناه عيانا وشاهدناه في زماننا وأحطنا علما به فزادنا يقينا في ديننا وتصديقا لما جاء به نبينا محمد ودعا إليه من الحق فرغَّب فيه من الجهاد من فضيلة الشهداء وبلغ عن الله عز وجل فيهم إذ يقول جل ثناؤه: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين﴾ أني وردت في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن "خوارزم" تدعى "هزاراسب" وهي في غربي وادي "جيحون" ومنها إلى المدينة العظمى مسافة نصف يوم فخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا كأنها أطعمت في منامها شيئا، فهي لا تأكل شيئا ولا تشرب شيئا منذ عهد أبي العباس بن طاهر والي "خراسان" وكان توفي قبل ذلك بثمان سنين رضي الله عنه ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنتين وأربعين ومائتين فرأيتها وحدثتني بحديثها، فلم أستقص عليها لحداثة سني ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنتين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ووجدت حديثها شائعا مستفيضا. وهذه المدينة على مدرجة القوافل، وكان الكثير ممن نزلها إذا بلغهم قصتها أحبوا أن ينظروا إليها، فلا يسألون عنها رجلا ولا امرأة ولا غلاما إلا عرفها ودل عليها.
فلما وافيت الناحية طلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ، فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية، وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة حسنة البدن ظاهرة الدم متوردة الخدين ذكية الفؤاد فسايرتني وأنا راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه، وأقبلت تمشي معي بقوة، وحضر مجلسي قوم من التجار والدهاقين، وفيهم فقيه يسمى محمد بن حمدويه الحارثي، وقد كتب عنه موسى بن هارون البزار بمكة، وكمل له عبادة ورواية للحديث، وشاب حسن يسمى عبد الله بن عبد الرحمن، وكان يخلف أصحاب المظالم بناحيته، فسألتهم عنها، فأحسنوا الثناء عليها، وقالوا عنها خيرا، وقالوا: (إن أمرها ظاهر عندنا فليس فيها من يختلف فيها). قال المسمى عبد الله بن عبد الرحمن: (أنا أسمع حديثها منذ أيام الحداثة ونشأت والناس يتفاوضون في خبرها، وقد فرغت بالي لها، وشغلت نفسي للاستقصاء عليها، فلم أر إلا سترا وعفافا، ولم أعثر منها على كذب في دعواها، ولا حيلة في التلبيس). وذكر أن من كان يلي خوارزم من العمال كانوا فيما خلا يستخصونها، ويحضرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها، ويوكلون بها من يراعيها، فلا يرونها تأكل ولا تشرب ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط، فيبرّونها ويكسونها ويخلون سبيلها.
فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها استقصصتها عن حديثها وسألتها عن اسمها وشأنها كله، فذكرت أن اسمها: "رحمة بنت إبراهيم" وأنه كان لها زوج نجار فقير، معيشته من عمل يده، يأتيه رزقه يوما ويوما، لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأنها ولدت منه عدة أولاد، وجاء "الأقطع" ملك الترك إلى القرية فعبر الوادي عند جموده إلينا في زهاء ثلاثة آلاف فارس وأهل خوارزم يدعونه "كسرة".
وقال أبو العباس: و"الأقطع" هذا فإنه كان كافرا عاتيا شديد العداوة للمسلمين، قد أثر على أهل الثُغور وألحّ على أهل خوارزم بالسبي والقتل والغارات، وكانت ولاة خراسان يتألفونه وأنسابه من عظماء الأعاجم ليكفوا غارتهم عن الرعية، ويحقنوا دماء المسلمين، فيبعثون إلى كل واحد منهم بأموال وألطاف كثيرة وأنواع من فاخر الثياب، وأن هذا الكافر انساب في بعض السنين على السلطان، ولا أدري لم ذاك أستبطأ المبار عن وقتها أم استقل ما بعث إليه في جنب ما بعث إلى نظرائه من ملوك الجريجية والثغرغدية.
فأقبل في جنوده وتورد الثغر واستعرض الطرق فعاث وأفسد وقتل ومثل فعجزت عنه خيول خوارزم. وبلغ خبره أبا العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله فأنهض إليهم أربعة من القواد: طاهر بن إبراهيم بن مدرك، ويعقوب بن منصور بن طلحة، وميكال مولى طاهر، وهارون القباض، وشحن البلد بالعساكر والأسلحة ورتبهم في أرباع البلد كل في ربع فحموا الحريم بإذن الله تعالى، ثم إن وادي جيحون وهو الذي في نهر بلخ جمد لما اشتد البرد وهو واد عظيم شديد الطغيان كثير الآفات. وإذا امتد كان عرضه نحوا من فرسخ وإذا جمد انطبق فلم يوصل منه إلى شيء حتى يحفر فيه كما تحفر الآبار في الصخور وقد رأيت كثيف الجمد عشرة أشبار وأخبرت أنه كان فيما مضى يزيد على عشرين شبرا، وإذا هو انطبق صار الجمد جسرا لأهل البلد تسير عليه العساكر والعجل والقوافل، فينطم ما بين الشاطئين، وربما دام الجمد مائة وعشرين يوما وإذا قل البرد في عام بقي سبعين يوما إلى نحو ثلاثة أشهر.
قالت المرأة: فعبر الكافر في خيله إلى باب الحصن وقد تحصن الناس وضموا أمتعتهم فضجوا بالمسلمين وخربوهم فحصر من ذلك أهل الناحية وأرادوا الخروج فمنعهم العامل دون أن تتوافى عساكر السلطان وتتلاحق المطوعة فشد طائفة من شبان الناس وأحداثهم فتقاربوا من السور بما أطاقوا حمله من السلاح وحملوا على الكفرة فتهارج الكفرة واستجروهم من بين الأبنية والحيطان فلما أصحروا كر الترك عليهم وصار المسلمون في مثل الحرجة فتخلصوا واتخذوا دارة يحاربون من ورائها وانقطع ما بينهم وبين الخصم وبعدت المؤنة عنهم فحاربوا كأشد حرب وثبتوا حتى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التعب ومسهم الجوع والعطش وقتل عامتهم وأثخن الباقون بالجراحات ولما جن عليهم الليل تحاجز الفريقان.
قالت المرأة: ورفعت النار على المناظر ساعة عبور الكافر فاتصلت بالجرجانية وهي مدينة عظيمة في قاصية خوارزم وكان ميكال مولى طاهر من أبياتها في عسكر فحث في الطلب هيبة للأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله وركض إلى هزاراسب في يوم وليلة أربعين فرسخا بفراسخ خوارزم وفيها فضل كثير على فراسخ خراسان وعد الترك الفراغ من أمر أولئك النفر فبينما هم كذلك إذ ارتفعت لهم الأعلام السود وسمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عن القوم ووافى ميكال موضع المعركة فوارى القتلى وحمل الجرحى. قالت المرأة: وأدخل الحصن علينا عشية ذلك أربعمائة جنازة فلم تبق دار إلا حمل إليها قتيل وعمت المصيبة وارتجَت الناحية بالبكاء.
قالت: ووضع زوجي بين يدي قتيلا فأدركني من الجزع والهلع عليه ما يدرك المرأة الشابة على زوج أبي الأولاد وكانت لنا عيال.
قالت: فاجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني على البكاء وجاء الصبيان وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا، يطلبون الخبز، وليس عندي ما أعطيهم فضقت صدرا بأمري، ثم إني سمعت أذان المغرب ففزعت إلى الصلاة، فصليت ما قضى لي ربي، ثم سجدت أدعو وأتضرع إلى الله وأسأله الصبر بأن يجبر يتم صبياني.
قالت: فذهب بي النوم في سجودي فرأيت في منامي كأني في أرض حسناء ذات حجارة، وأنا أطلب زوجي، فناداني رجل إلى أين أيتها الحرة؟ قلت: أطلب زوجي. فقال: خذي ذات اليمين. قالت: فأخذت ذات اليمين، فرفع لي أرض سهلة طيبة الري، ظاهرة العشب، وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها أو لم أر مثلها، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض عبر أخاديد ليست لها حافات، فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا عليهم ثياب خضر قد علاهم النور، فإذا هم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي لكي ينظرني، فناداني: يا رحمة يا رحمة، فيممت الصوت، فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء، وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنون لي أن أناولها شيئا تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز. قالت: وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كيف يخبز؟ هو أشد بياضا من الثلج واللبن وأحلى من العسل والسكر وألين من الزبد والسمن. فأكلته فلما استقر في جوفي قال: اذهبي كفاك الله مؤنة الطعام والشراب ما حييت الدنيا([3]).
فانتبهت من نومي شبعى ريا، لا أحتاج إلى طعام ولا شراب. وما ذقتهما منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا، ولا شيئا يأكله الناس. قال أبو العباس: وكانت تحضرنا وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها تزعم أنها تتأذى من رائحة الطعام. فسألتها هل تتغذى بشيء أو تشرب شيئا غير الماء؟ فقالت: لا.
فسألتها هل يخرج منها ريح أو أذى كما يخرج من الناس؟ فقالت: لا عهد لي بالأذى منذ ذلك الزمان. قلت: والحيض؟ و أظنها قالت: انقطع بانقطاع الطعم.
قلت: فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال؟ قالت: أما تستحيي مني تسألني عن مثل هذا؟ قلت: إني لعلي أحدثُ الناس عنك، ولا بد أن أستقصي. قالت: لا أحتاج.
قلت: فتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم. قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: مثل ما ترون. قلت: فتجدين لفقد الطعام وهناً في نفسك؟ قالت: ما أحسست بجوع منذ طعمت ذلك الطعام.
وكانت تقبل الصدقة. فقلت لها: ما تصنعين بها؟ قالت: أكتسي وأكسو ولدي. قلت: فهل تجدين البرد وتتأذين بالحر؟ قالت: نعم. قلت: فهل تدرين كلل اللغوب والإعياء إذا مشيت؟ قالت: نعم. ألست من البشر؟ قلت: فتتوضئين للصلاة؟ قالت: نعم. قلت: لم؟ قالت: أمرني بذلك الفقهاء. فقلت: إنهم أفتوها على حديث: «لا وضوء إلا من حدث أو نوم».
وذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها. فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت فإذا بطنها كما وصفت، وإذا قد اتخذت كيسا فضمت القطن وشدته على بطنها كي لا ينقصف ظهرها إذا مشت. ثم لم أزل أختلف إلى هزاراسب بين السنتين والثلاث، فتحضرني فأعيد مسألتها، فلا تزيد ولا تنقص. وعرضت كلامها على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه، فقال: أنا أسمع هذا الكلام منذ نشأت، فلا أجد من يدفعه أو يزعم أنه سمع أنها تأكل أو تشرب أو تتغوط.
(انتهى النقل من "طبقات الشافعية الكبرى"/لابن السبكي/8/ص2-7).
الفصل الثالث: قصة أخرى عجيبة واقعية
وعن ثابت البناني رحمه الله قال : كنت عند أنس بن مالك إذ قدم عليه ابن له من غزاة له ، يقال له أبو بكر ، فسأله ، فقال : ألا أخبرك عن صاحبنا ، فلان ؟ بينا نحن قافلين في غزاتنا ، إذ ثار وهو يقول : واأهلاه واأهلاه ، فثرنا إليه ، وظننا أن عارضا عرض له ، فقلنا : ما لك ؟ فقال : إني كنت أحدث نفسي ألا أتزوج حتى أستشهد ، فيزوجني الله تعالى من حور العين ، فلما طالت علي الشهادة ، قلت في سفري هذا : إن أنا رجعت هذه المرة تزوجت ، فأتاني آت قبيل في المنام ، فقال : أنت القائل : إن رجعت تزوجت ؟ قم فقد زوجك الله "العيناء" ، فانطلق بي إلى روضة خضراء معشبة ، فيها عشر جوار ، بيد كل واحدة صنعة تصنعها ، لم أر مثلهن في الحسن والجمال([4]) ، فقلت : فيكن العيناء ؟ فقلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك فمضيت ، فإذا روضة أعشب من الأولى وأحسن ، فيها عشرون جارية ، في يد كل واحدة صنعة تصنعها ليس العشر إليهن بشيء في الحسن والجمال ، قلت : فيكن العيناء ؟ قلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك ، فمضيت ، فإذا أنا بروضة ، وهي أعشب من الأولى والثانية في الحسن ، فيها أربعون جارية ، في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها ليس العشر والعشرون إليها بشىء في الحسن والجمال ، قلت : فيكن العيناء ؟ قلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك ، فمضيت ، فإذا أنا بياقوتة مجوفة فيها سرير عليه امرأة قد فضل جنباها السرير ، قلت: أنت العيناء ؟ قالت : نعم مرحباً ، فذهبت أضع يدي عليها ، قالت: مه ؛ إن فيك شيئا من الروح بعد ، ولكن تفطر عندنا الليلة ، قال : فانتبهت ، قال : فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي : يا خيل الله اركبي ، قال : فركبنا ، فصافنا العدو ، قال : فإني لأنظر إلى الرجل ، وأنظر إلى الشمس ، وأذكر حديثه ، فما أدري رأسه سقط أم الشمس سقطت.
(انتهى النقل من "الغيلانيات"/لأبي بكر الشافعي /2/ص421).
السند صحيح، رجاله ثقات.
والأثر أخرجه أيضا الإمام ابن المبارك في "الجهاد" برقم (149) من طريق السري بن يحيى عن ثابت به، وفيه: ثم انتهيت إلى قبة من ياقوتة حمراء مجوفة قد أضاء لها ما حولها، فقال لي صاحبي: ادخل، فدخلت، فإذا امرأة ليس للقبة معها ضوء، فجلست فتحدثت ساعة، فجعلت تحدثني، فقال صاحبي: اخرج انطلق. قال: ولا أستطيع أن أعصيه. قال: فقمت فأخذتْ بطرف ردائي فقالت: أفطر عندنا الليلة. فلما أيقظتموني رأيت إنما هو حلم فبكيت. فلم يلبثوا أن نودي في الخيل. قال: فركب الناس، فما زالوا يتطاردون حتى إذا غابت الشمس وحلّ للصائم الإفطار أصيب تلك الساعة، وكان صائما. وظننت أنه من الأنصار، وظننت أن ثابتاً كان يعلم نسبه اهـ.
الباب الثالث: وجوب الشجاعة في سبيل الله
إن أهل الإيمان لا يخافون من الرافضة. قال الله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 13]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
ولا يجوز للمؤمن أن يخافهم لأنه يدل على ضعف الإيمان، وذلك لأن الإيمان يطلب توحيد الله في الخوف. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر. وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا قال: ﴿إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوفم وخافون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران: 175]
والمعنى عند جميع المفسرين: يخوّفكم بأوليائه. قال قتادة: يعظِّمهم في صدوركم. ولهذا قال: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم. ("إغاثة اللهفان"/ص 110).
الباب الرابع: من أهمّ عوامل النصر
إن أسباب النصر كثيرة مبثوثة في بعض كتب الأئمة رحمه الله، وإنما أذكر بعضها مراعاة للاختصار. فمن أهمها:
السبب الأول: إخلاص العمل لله
قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
وقول الله تعالى في آخر الآية: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ دليل على أن المشرك مخذول. ذلك لأن الله تعالى لا ينصر إلا الحق. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن الله لا ينصر إلا الحق. ("إعلام الموقعين"/فصل: عاقبة الإخلاص لله/2/ص 178).
وأعظم الحق الذي من أجله خلق الله الأكوان هو توحيد الله. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والحق الذي خلقت به السموات والأرض ولأجله هو التوحيد، وحقوقه من الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب. ("مدارج السالكين"/3/ص 456).
فالمشرك لما لم يوف هذا الحق الأعظم ليس له من ولي ولا نصير. قال الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [الحج/71]. وقال تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران/151].
فهنيئًا للموحدين، وقد خاب من حمل ظلمًا. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [غافر/78].
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: والحق منصور، والباطل مخذول، ولله الحمد. ("أدب الطلب"/ص142/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملا، فهو صديق. ومن ضعف، فلا أقل من التألم والانكار بالقلب. ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله. ("سير أعلام النبلاء"/11/ص234).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فمن كان –يعني: الله- معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجاً مخرجاً. ("إعلام الموقعين" /2 /ص178).
فلا بد من مجاهدة النفس على الإخلاص لله، فهو المجاهد حقّاً. عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ميت يختم على عمله الا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر». وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المجاهد من جاهد نفسه لله» -أو قال: «في الله عز وجل». (أخرجه الإمام أحمد (23951)/صحيح).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج. فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج. ("زاد المعاد"/3 /ص5).
السبب الثاني: كثرة العبادات الشرعية
قال الله عز وجل: ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر: 36، 37]
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ("الوابل الصيب" /ص 11).
فلا بد من ملازمة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ومن عبادات. فمن أضاعها أهانه الله. قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ [الفرقان: 77].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: أي : دعاؤكم إياه، وقيل : دعاؤه إياكم إلى عبادته، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، ومحل الأول مضافا إلى الفاعل، وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا، فالمراد به نوعى الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهر، أي : ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه، وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه. ("مجموع الفتاوى"/15/ص12).
عن جبير بن نفير رحمه الله قال: لما فتحت قبرس، وفرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي. فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره. بينا هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترى. ("الزهد للإمام أحمد بن حنبل"/ص 142/سنده صحيح).
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير سورة البقرة: (249): فهذه أسباب النصر وشروطه، وهى معدومة عندنا غير موجودة فينا. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه، لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برّا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم! ("الجامع لأحكام القرآن"/3/ص255).
نعم، من أسباب نصر الله: إقامة الصلاة وغير ذلك من واجبات دينه. قال الله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُور﴾ [الحج/40، 41].
قال الإمام السعدي رحمه الله: قال في وعده الصادق المطابق للواقع: ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ أي: يقوم بنصر دينه، مخلصا له في ذلك، يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا. ﴿إن الله لقوي عزيز﴾ أي: كامل القوة، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق، وأخذ بنواصيهم، فأبشروا، يا معشر المسلمين، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم، وقوي عدد عدوكم وعدتهم، فإن ركنكم القوي العزيز، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون، فاعملوا بالأسباب المأمور بها، ثم اطلبوا منه نصركم، فلا بد أن ينصركم.
-إلى قوله:- ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: ﴿الذين إن مكناهم في الأرض﴾ أي: ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض، ﴿أقاموا الصلاة﴾ في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات.
﴿وآتوا الزكاة﴾ التي عليهم خصوصا، وعلى رعيتهم عموما، آتوها أهلها، الذين هم أهلها، ﴿وأمروا بالمعروف﴾ وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا من حقوق الله، وحقوق الآدميين، ﴿ونهوا عن المنكر﴾ كل منكر شرعا وعقلا معروف قبحه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص 539).
السبب الثالث: التوكل على الله
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت خلفت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف». (أخرجه الترمذي (2516)/صحيح).
والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفي به منه. قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾ ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره .
(انظر الكلام في ضمن بحث جميل لابن القيم في "بدائع الفوائد" /2 /ص238-246/دار الكتاب العربي).
وقال رحمه الله: فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله. ("مدارج السالكين"/1/ص81).
السبب الرابع: الصبر والمصابرة
قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة. فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبّد بالتقوى. فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها. فقال ﴿واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذى يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته. ("عدة الصابرين"/ص 30/دار ابن الجوزي).
السبب الخامس: رباط الثغور
قد مر بنا آنفاً ذكر الرباط. ومن أجل أهمية هذا العمل ضمن الله للمرابطين في سبيله بأجور عظيمة. عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان». (أخرجه مسلم (1913)).
السبب السادس: تقوى الله والإيمان به
قد ذكر التقوى آنفاً. والمتقين لا يجوز لهم أن يشكوا في وعد الله. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل. قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾ وقال: ﴿فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾. فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد. ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوّه عليه فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾ ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الآخرة. ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الحجة.
والتحقيق : أنها مثل هذه الآيات وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً، وقد قال تعالى للمؤمنين: ﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾، وقال تعالى: ﴿فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم﴾.
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
فصل: وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائماً بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده بل إما أن يجعل ذلك خاص بطائفة دون طائفة أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقاً بالمشيئة وإن لم يصرح بها
وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى ومن سوء الفهم في كتابه. والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾. وقال تعالى: ﴿ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون﴾، وقال تعالى: ﴿إن الذين يحادون الله ورسوله أولكئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾. وهذا كثير في القرآن.
وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة أو إدالة عدو أو كسر وغير ذلك فبذنوبه. فبين سبحانه في كتابه كلا المقدمتين. فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر وزال الإشكال بالكلية واستغنيت عن تلك التكلفات الباردة والتأويلات البعيدة فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير : منها ما تقدم ومنها : أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين كقوله : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين﴾ ﴿ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين ا منوا فإن حزب الله هم الغالبون﴾.
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه وأخبر أن حزبه هم الغالبون. ونظير هذا : قوله: ﴿بشّر المنافقين بأن لهم عذابا أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً﴾. وقال تعالى: ﴿يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون﴾. وقال تعالى: ﴿من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾. أي من كان يزيد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله﴾. وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين﴾ أي: ويعطيكم أخرى فوق مغفرة الذنوب ودخول الجنة وهي النصر والفتح.
﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾. وقال تعالى للمسيح: ﴿إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة﴾ فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة. ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة.
وقال تعالى للمؤمنين: ﴿ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾. فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهراً وباطناً.
وقال تعالى: ﴿إن العاقبة للمتقين﴾. وقال: ﴿والعاقبة للتقوى﴾ والمراد : العاقبة في الدنيا قبل الآخرة لأنه ذكر عقيب قصة نوح ونصره وصبره على قومه فقال تعالى: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾ أي: عاقبة النصر لك ولمن معك كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه.
وكذلك قوله: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى﴾. وقال تعالى: ﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا﴾. وقال : ﴿بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين﴾.
وقال إخباراً عن يوسف عليه السلام أنه نصر بتقواه وصبره فقال: ﴿أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم﴾ والفرقان : هو العز والنصر والنجاة والنور الذي يفرق بين الحق والباطل. وقال تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب * ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً﴾.
("إغاثة اللهفان"/2 /ص182-186).
السبب السابع: الثبات
قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكرو الله كثيراً لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ ]الأنفال: 45-46[ .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والشجاعة ليست هي قوة البدن وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته . فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به . والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح . ("مجموع الفتاوى"/28 /ص158).
السبب الثامن: ذكر الله كثيراً
قال الله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾ ]الأنفال: 45[ .
قال الإمام القيم رحمه الله: فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معا ليكونوا على رجاء من الفلاح، وقد قال تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا﴾ وقال تعالى: ﴿والذاكرين الله كثيرا والذاكرات﴾ أي: كثيراً. وقال تعالى: ﴿فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا﴾. ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين. فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز و جل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله. ("الوابل الصيب"/ص 56).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة». (أخرجه البخاري (7405)).
السبب التاسع: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ونختم هذا الكتاب بآية من كتاب الله تعالى جمع فيها تدبير الحروف بأحسن تدبير وهي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكرو الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ ]الأنفال: 45[ .
فأمر المجاهدين فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت في فئة قط إلا نصرت وإن قلّت وكثر عدوها. أحدها: الثبات. الثاني: كثرة ذكره سبحانه وتعالى. الثالث: طاعته وطاعة رسوله. الرابع: اتفاق الكلمة وعدم التنازع الذي يوجب الفشل والوهن، وهو جند يقوي به المتنازعون عدوهم عليهم، فإنهم في اجتماعهم كالحزمة من السهام لا يستطيع أحد كسرها، فإذا فرقها وصار كل منهم وحده كلها. الخامس ملاك ذلك كله وقوامه وأساسه: وهو الصبر.
فهذه خمسة أشياء تبتنى عليها قبة النصر ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها، وإذا اجتمعت قوى بعضها بعضا وصار لها أثر عظيم في النصر. ولما اجتمعت في الصحابة لم تقم لهم أمة من الأمم وفتحوا الدنيا ودانت لهم العباد و البلاد ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر إلى ما آل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
("الفروسية"/ص 472-473/دار عالم الفوائد).
السبب العاشر: اتفاق الكلمة وعدم التنازع
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم. ﴿وتذهب ريحكم﴾ أي: قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال. ("تفسير القرآن العظيم"/4/ص72).
السبب الحادي عشر: استعداد القوة
قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
وقد جاء تفسير القوة من حديث عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر يقول: «﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي». (أخرجه مسلم (1917)).
هذا يدل على عظيم منافع الرمي في سبيل الله. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه». (أخرجه مسلم (1918)).
وعن فقيم اللخمي أنه قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين وأنت كبير يشق عليك. قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم أعاينه. قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى». (أخرجه مسلم (1919)).
قال النووي رحمه الله: وفيه وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمى والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد فى سبيل الله تعالى. وكذلك المشاجعة وسائر أنواع استعمال السلاح. وكذا المسابقة بالخيل وغيرها كما سبق في بابه. والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك. ("شرح النووي على مسلم" /13/ص64).
وقد أعد الله للرامي في سبيله درجة، كما جاء من حديث أبي نجيح السلمي قال : حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بقصر الطائف بحصن الصائف كل ذلك فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «من بلغ بسهم في سبيل الله عز وجل فله درجة». (أخرجه أبو داود (3965) والنسائي (3143) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح" (2003)).
السبب الثاني عشر: كثرة الدعاء
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]. وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها أثم ولا قطيعة رحم الا أعطاه الله بها إحدى ثلاث أما أن تعجل له دعوته واما أن يدخرها له في الآخرة واما أن يصرف عنه من السوء مثلها». قالوا: إذاً نكثر. قال: «الله أكثر». (أخرجه الإمام أحمد (11133)/صحيح).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصحّ أن يقال: (لا فائدة في الدعاء) كما لا يقال: (لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال). وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب. ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. ("الداء والدواء"/ص 28/ط. دار ابن الجوزي).
السبب الثالث عشر: كثرة الاستغفار
فالتوبة والاستغفار من المعاصي من أسباب النصر من الله والظفر على الأعداء. قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146 - 148].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ أي: النصر والظفر والعاقبة. ("تفسير القرآن العظيم"/2/ص131).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولابد في انتظار الوعد من الصبر. فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد. وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: ﴿فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار﴾. ("إغاثة اللهفان" /2/ص187).
الباب الخامس: بعض الشبهات والجواب عنها
قال بعض الحزبيين –المتسترين بالسلفية- في حين هجوم الرافضة على السلفيين: (طلب العلم هذا جهاد وأي جهاد، هذا هو الجهاد الأكبر، طلب العلم ونشر الخير بين الناس...).
الجواب –بالله التوفيق-: لا شك أن أعظم الجهاد في الجملة في هذا العصر هو طلب العلم ونشره والرد على المبطلين، بأدلتها المعروفة، قد بينتها في رسالة أخرى. ولكن ما وراء هذا الكلام وتكرار في حين شدة حاجة السلفيين إلى النصرة، وقد قُتل منهم عدد وجرح الآخرون؟ ألم تعلموا أن المفضول قد يرتقي إلى حدّ الأفضل بسبب من الأسباب؟ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا جاءت النوافل فههنا معترك التردد فإن أمكن القيام إليها به فذاك فذلك به، وإلا نظر في الأرجح والأحب إلى الله هل هو القيام إلى تلك النافلة. ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك، فههنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة ومتى قدمهما لله رغبة فيه وتقربا إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر. وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت. وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال، وتقديم الأهم منها فالأهم. والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه. ("الفوائد" /ص 143).
وقال رحمه الله في شأن من ترك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلّة الاشتغال بالأذكار وقراءة القرآن ونحو ذلك: وقد غرّ إبليس أكثر الخلق بأن حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها. وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقلّ الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه. ("إعلام الموقعين" /2/ص176-177).
وقالت الرافضة لأهل السنة في دماج: (إنكم تعتدون علينا!)
فالجواب –بالله التوفيق-: إنما هذا الكلام من مكر الرافضة الكاذبين. إنهم هم الذين ذهبوا إلى دماج، ويعملون النقط التفتيشية العسكرية، ويمنعون أهل دماج يخرجون في الطرقات بأسلحتهم، ويقتلون بعضهم، ويأذخون بعض البيوت. وأهل السنة لم يذهبوا إلى ضحيان ولا إلى غيرها من أماكن الرافضة. وأما الذين في كتاف، قد كان أهل الإسلام والسنة من جميع أنحاء اليمن يطلبون الدخول في دماج لإغاثة إخوانهم المحصورين الجياع، فلم يأذن لهم الرافضة بل طردوهم فما كان على أهل الإسلام والسنة إلا أن يحاربوا أنصار الشياطين حتى يصلوا إلى كتاف. وما دام هجوم الرافضة على دماج متوقعاً –وقد تكرر- فالرباط في دماج وكتاف باقياً مستمرّاً، ولو كره المجرمون وإخوانهم القائلون: (لا نستحل دماء الرافضة!).
وقال أحد رؤوس المخذلين: (إنكم تقطعون الطريق!)
فالجواب –بالله التوفيق-: إنما يقطع أهل السنة على الرافضة المرتدين الكافرين لا على المسلمين، والأدلة التي ذكرتَ تنطبق على من قطع الطريق على المسلمين لا على الكفار الحربيين. ولما دليل من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. (أخرجه البخاري (3951) ومسلم (2769)).
والدليل الثاني قصة أبي بصير رضي الله عنه كما في حديث مسور بن مخرمة رضي الله عنهما: ... فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. (أخرجه البخاري (2732)).
كيف تدافعون عن قوم ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 8 - 13]
وأهل السنة فرحانون بقول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14، 15].
والله تعالى أعلم، ونسأله من فضله، والحمد لله رب العالمين.
دماج، 10 ذو الحجة 1434 هـ.
فهرس الرسالة
مشروعية قتال الرافضة. 2
عظيم أجر من جاهد الرافضة في سبيل الله.. 5
وهذه قصة عجيبة واقعية. 6
وهذه قصة أخرى عجيبة واقعية. 7
قصة أخرى عجيبة واقعية. 11
وجوب الشجاعة في سبيل الله.. 12
كفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً 13
فهرس الرسالة. 30
([1]) وهو ثقة كما في "الطبقات الشافعية الكبرى" برقم (244).
([2]) وهو ثقة كما في "تاريخ بغداد" برقم (5870).
([3]) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة صلاة الكسوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أريت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا». (أخرجه البخاري (748) ومسلم (907)).
([4]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها». (أخرجه البخاري (2796)).
تعليق