مراقي السعود
في
رمي المتخلفين عن الجهاد
بالقعود
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم -رحمني الله وإياك- أنه لو لم يكن من ذم الله للمتخلفين عن الجهاد الواجب سوى وصفهم بالقعود، لكفى به ذمًا، قال -تعالى-:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ *فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}
وقال -عز وجل-:
{وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ}.
وقال -سبحانه-:
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
فسمى الله المتخلف عن الجهاد الواجب قاعدًا،ولو كان متحركًا في قضاء حوائجه، ولكنها حركة بلا بركة، بخلاف المجاهد فإن الله سماه مجاهدًا، وإن كان مرابطًا قاعدًا في مترسه، أو قاعدًا على فرسه التي تعدو به في ساحة الجهاد، أو قاعدًا على مركبته التي تجري به في ميدانه، فقعوده قعود مبارك، وحركته حركة مباركة، بل سمى الله المتخلف من المؤمنين عن الجهاد في حالة ما إذا كان الجهاد فرضًا كفائيًا لا عينيًا، سماه قاعدًا، ذلك؛ لتفويته على نفسه الفضل العظيم والأجر الكبير للجهاد في سبيل الله، فهو قاعد، ولو جرت به أعماله الأخرى، قال-تعالى-:
{لاَّيَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
وإليك ما ذكره الله -عز وجل- في كتابه، من قصة نبي الله موسى مع قومه، حيث أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وقول قومه له، وما ردوا به عليه، وعقوبة الله لهم بسبب نكولهم عن الجهاد الواجب، وطول أمد تلك العقوبة، بما فيه عبرة عظيمة وعظة جسيمة لأولي الألباب، قال -عز وجل-:
{وَإِذْقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ *قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
فتأمل قولهم: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} مؤكَّدًا بعدة مؤكدات.
هذا، وإن كثيرًا من القاعدين عن الجهاد مع أهل السنة ضد الرافضة اليوم بشمال اليمن، يقولون ذلك بلسان حالهم وإن لم يقولوه بلسان مقالهم، وتأمل قول قوم موسى:{إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} وقارن بينه وبين قول بعض الناس اليوم عن القرى التي بين جبهة القتال في وائلة وبين دار الحديث السلفية بدماج المراد رفع الحصارعنها حينئذ: كلها!! قرى حوثية، تجد شبهًا، وفي الآيتين الأخيرتين دليل على أن تارك الجهاد الواجب فاسق.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره:
"وقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى -عليه السلام- وقال داعيًا عليهم: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} أي: ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قال العوفي (ضعيف) عن ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم، وكذا علي بن أبي طلحة (لم يسمع التفسير من ابن عباس) عن ابن عباس، وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر:
يا رب فافرق بينه وبيني *** أشد ما فرقت بين اثنين
وقوله -تعالى- : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} الآية، لما دعا عليهم موسى -عليه السلام- حين نكلوا عن الجهاد، حكم الله عليهم بتحريم دخولها قَدَرًا، مدة أربعين سنة، فوقعوا في التِّيه، يسيرون دائمًا، لا يهتدون للخروج منه
...
وقوله -تعالى-: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تسلية لموسى -عليه السلام- عنهم، أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم، فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم، وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا، وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فقبح الله وجوههم، التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضى لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد في جميع الوجود"
انتهى هذا الكلام السديد من ذاك الإمام الرشيد -أورثه الله فردوس الخلود-.
وكأن ابن كثير -رحمه الله- في بعض كلامه هذا، يتكلم عن المتخاذلين عن جهاد الرافضة في هذا الزمان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.
تم الفراغ منه في ليلة الأربعاء الموافق السابع من شهر
ربيع الآخر لسنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف
من الهجرة النبوية على صاحبها
الصلاة والسلام
وكتب
أبو بكر بن ماهر بن عطية بن جمعة المصري
أبو عبدالله
تعليق