كتاب (( ذم المسألة )) للشيخ / ابو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمدًا مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإني لما رأيت أقوامًا ممن يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصصوا للتسول، وتركوا الإحتراف، فرب زرّاع يأكل أكلاً حلالاً من كسب يده، بل عمله من أفضل القربات، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلاّ كان له به صدقة)) .
ورب شخص يعمل في التجارة، وهي أيضًا من أفضل القربات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل: أيّ الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) .
بل ربما يكون الرجل بدويًّا يأكل مما تنتجه غنمه وإبله، فيرى المتسولين يفتحون المعارض، ويبنون العمائر، فيعفو لحيته ويتشبه بالدعاة إلى الله، ويحترف التسول، أفّ لها من وظيفة مشينة مزرية، وأقبح من هذا أن أناسًا يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصّصوا للتسوّل باسم الدعوة، والله عزوجل يقول في نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} 1.
ويقول سبحانه وتعالى: {أم تسألهم أجرًا فهم من مغرم مثقلون} 2.
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن بعض الصالحين إذ ينصح قومه: {اتّبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون} 3.
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن نبي الله نوح عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين} 4.
ويقول سبحانه وتعالى عن نبي الله هود عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين?}.
وهكذا حكى عن صالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام.
هذا فما ظنك بمن لا تهمّه الدعوة، ولا يهمه إلا اختلاس الأموال والوثوب على مصارف الزكاة الثمانية، إنّها لأحدى الكبر.
من الذي يظن أن محمدًا المهدي تهمّه الدعوة؟ وهو قد انسلخ من السنة، ويخشى عليه أن ينسلخ من الدين، وإليكم قضية حدثت في هذه الأيام، فقد حصل خصام بين فئتين، فانبرى محمد المهدي ومدير الناحية، وثالث يقال له: عبدالكريم، فحكموا بذبح أربعة أثوار عند المخطإ عليه، وهذا الذبح لغير الله حرام، وأكله حرام، لأنه ذبح لغير الله، فقيل: يا محمد هذا حرام. قال: ما هو إلا صلح.
وأخيرًا فإنني أنصح لأهل السنة أن يصبروا على الفقر، فهي الحال التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} 5.
وإليك نبذة من صبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم? والصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع والعري:
1- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1609): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة))؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا، والّذي نفسي بيده، لأخرجني الّذي أخرجكما، قوموا))، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أين فلان))؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه، ثمّ قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إيّاك والحلوب))، فذبح لهم فأكلوا من الشّاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر وعمر: ((والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن هذا النّعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثمّ لم ترجعوا حتّى أصابكم هذا النّعيم)).
وحدثني إسحق بن منصور أخبرنا أبوهشام يعني المغيرة بن سلمة حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا يزيد حدثنا أبوحازم قال سمعت أبا هريرة يقول: بينا أبوبكر قاعد وعمر معه، إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ما أقعدكما هاهنا))؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والّذي بعثك بالحقّ. ثمّ ذكر نحو حديث خلف بن خليفة.
2- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص610): حدثنا محمد بن الحكم أخبرنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا سعد الطائي أخبرنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قطع السّبيل، فقال: ((يا عديّ هل رأيت الحيرة))؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: ((فإن طالت بك حياة لترينّ الظّعينة ترتحل من الحيرة، حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله))، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيّئ، الّذين قد سعّروا البلاد؟، ((ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى)) قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينّ الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضّة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنّم))، قال عديّ: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّ تمرة، فبكلمة طيّبة))، قال عديّ: فرأيت الظّعينة ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النّبيّ أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج ملء كفّه.
3- قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج7 ص33): حدثنا العباس بن محمد أخبرنا عبدالله بن يزيد المقرئ أخبرنا حيوة بن شريح حدثني أبوهانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة بن عبيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا صلّى بالنّاس يخرّ رجال من قامتهم في الصّلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصّفّة، حتّى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، أو مجانون. فإذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا حديث حسن صحيح.
4- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2278): حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم، وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا، ووالله لتملأنّ، أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتّى قرحت أشداقنا.
5- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج13 ص303): حدثنا سليمان ابن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن محمد قال: كنّا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشّقان من كتّان، فتمخّط، فقال: بخ بخ أبوهريرة يتمخّط في الكتّان! لقد رأيتني وإنّي لأخرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنّي مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع.
وأخرجه الترمذي (ج7 ص33) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
6- قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله (ج3 ص1625) بتحقيق محمد فؤاد عبدالباقي: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احتلبوا هذا اللّبن بيننا)) قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصيبه، قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان، قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشّيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت في بطني، وعلمت أنّه ليس إليها سبيل، قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك، فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السّماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: ((اللهمّ أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني))، قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ، وأخذت الشّفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلّهنّ، فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتّى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أشربتم شرابكم اللّيلة))، قال: قلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت، حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إحدى سوآتك يا مقداد)) فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)) قال: فقلت: والّذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من النّاس.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر بن شميل حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد.
7- قال البخاري رحمه الله (ج2 ص427) حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبوغسان قال حدثني أبوحازم عن سهل قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقًا، فكانت إذا كان يوم جمعة تنْزع أصول السّلق فتجعله في قدر، ثمّ تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها، فتكون أصول السّلق عرقه، وكنّا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلّم عليها، فتقرّب ذلك الطّعام إلينا، فنلعقه، وكنّا نتمنّى يوم الجمعة لطعامها ذلك.
8- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص83): حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد بن عبدالله عن إسماعيل عن قيس قال: سمعت سعدًا رضي الله عنه يقول: إنّي لأوّل العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنّا نغزو مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشّجر، حتّى إنّ أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشّاة ما له خلط، ثمّ أصبحت بنو أسد تعزّرني على الإسلام، لقد خبت إذًا وضلّ عملي. وكانوا وشوا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلّي.
9- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1 ص55): حدثنا أبوبكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبوالنضر هاشم بن القاسم حدثنا عبيدالله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتّى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البرّ ببرّه، وذو التّمر بتمره، -قال: وقال مجاهد-: وذو النّواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنّوى؟ قال: كانوا يمصّونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها، حتّى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنّة)).
حدثنا سهل بن عثمان وأبوكريب محمد بن العلاء جميعًا عن أبي معاوية، قال أبوكريب: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد6 -شك الأعمش- قال: لمّا كان غزوة تبوك أصاب النّاس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((افعلوا)) قال: فجاء عمر، فقال: يارسول الله إن فعلت قلّ الظّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلّ الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة، قال: ويجيء الآخر بكفّ تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه بالبركة، ثمّ قال: ((خذوا في أوعيتكم))، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتّى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتّى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة)).
10- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا بشر بن مرحوم حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: خفّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ناد في النّاس فيأتون بفضل أزوادهم)) فبسط لذلك نطع، وجعلوه على النّطع، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعا وبرّك عليه، ثمّ دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى النّاس حتّى فرغوا، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله)).
11- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص281): حدثني أبونعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أنّ أبا هريرة كان يقول: والله الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبوبكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي، ثمّ قال: ((يا أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحقْ)) ومضى، فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللّبن))؟ قالوا: أهداه لك فلان، أو فلانة. قال: ((أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي))، قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة، كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربةً أتقوّى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد روي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: ((أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله. قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: ((اشرب))، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكًا. قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى، وشرب الفضلة.
12- قال البخاري رحمه الله (ج9 ص226): وقال إبراهيم عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مرّ بنا في مسجد بني رفاعة، فسمعته يقول: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا مرّ بجنبات أمّ سليم دخل عليها، فسلّم عليها، ثمّ قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عروسًا بزينب، فقالت لي أمّ سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديّةً، فقلت لها: افعلي. فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتّخذت حيسةً في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه. فقال لي: ((ضعها))، ثمّ أمرني، فقال:((ادع لي رجالاً –سمّاهم- وادع لي من لقيت))، قال: ففعلت الّذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاصّ بأهله، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع يديه على تلك الحيسة، وتكلّم بها ما شاء الله، ثمّ جعل يدعو عشرةً عشرةً، يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلّ رجل ممّا يليه)) قال: حتّى تصدّعوا كلّهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفر يتحدّثون، قال: وجعلت أغتمّ، ثمّ خرج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنّهم قد ذهبوا فرجع، فدخل البيت وأرخى السّتر، وإنّي لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ} قال أبوعثمان: قال أنس: إنّه خدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشر سنين.
13- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص586): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنّه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبوطلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا من شعير، ثمّ أخرجت خمارًا لها، فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد ومعه النّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((آرسلك أبوطلحة))؟ فقلت: نعم، قال: ((بطعام))؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبوطلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنّاس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبوطلحة، حتّى لقي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلمّي يا أمّ سليم ما عندك))، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففتّ وعصرت أمّ سليم عكّةً، فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأكل القوم كلّهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً.
أخرجه مسلم (ج3 ص1612).
14- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص395): حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان أخبرنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لمّا حفر الخندق رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا. فأخرجت إليّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشّعير، ففرغتْ إلى فراغي وقطّعتها في برمتها، ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبمن معه. فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمةً لنا، وطحنّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك. فصاح النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ياأهل الخندق، إنّ جابرًا قد صنع سورًا، فحيّ هلاً بكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تنْزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم، حتّى أجيء)) فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقدم النّاس، حتّى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الّذي قلت، فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثمّ قال:((ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم، ولا تنْزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو.
قال البخاري رحمه الله (ج7 ص 395): حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبدالواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا رضي الله عنه، فقال: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشّعير، حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: ((كم هو))؟ فذكرت له، قال: ((كثير طيّب))، قال: ((قل لها: لا تنْزع البرمة، ولا الخبز من التّنّور، حتّى آتي)) فقال: ((قوموا))، فقام المهاجرون والأنصار، فلمّا دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه ويقرّب إلى أصحابه، ثمّ ينْزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف، حتّى شبعوا، وبقي بقيّة، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)).
وأخرجه مسلم (ج3 ص1610).
15- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنّه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثًا قبل السّاحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، وهم ثلاث مائة، وأنا فيهم، فخرجنا، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، فني الزّاد، فأمر أبوعبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمر، فكان يقوّتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً، حتّى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثمّ انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثمّ أمر أبوعبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمّ أمر براحلة فرحلت، ثمّ مرّت تحتهما، فلم تصبهما.
وأخرجه مسلم (ج3 ص 1536).
16- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص230): حدثنا أبوالنعمان حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثين ومائةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام)) فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن ثمّ جاء رجل مشرك مشعانّ طويل بغنم يسوقها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بيعًا أم عطيّةً))؟ -أو قال: ((أم هبةً))؟- قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاةً، فصنعت، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثّلاثين والمائة، إلا قد حزّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم له حزّةً من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إيّاه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير. أو كما قال.
وأخرجه مسلم (ج3 ص1637).
17- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص215): حدثنا أحمد بن أبي بكر أبومصعب قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إنّي أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ((ابسط رداءك))، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثمّ قال: ((ضمّه))، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن أبي فديك بهذا أو قال: غرف بيده فيه.
وقال رحمه الله (ج4 ص287): حدثنا أبواليمان حدثنا شعيب عن الزهريّ قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبوسلمة بن عبدالرحمن أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: إنّكم تقولون: إنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإنّ إخوتي من المهاجرين، كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصّفّة أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث يحدّثه: ((إنّه لن يبسط أحد ثوبه حتّى أقضي مقالتي هذه، ثمّ يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول))، فبسطت نمرةً عليّ حتّى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك من شيء.
وأخرجه مسلم (ج4 ص1939، 1940).
18- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص417): حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا عبدالله يعني ابن مبارك قال أخبرنا الأوزاعيّ قال حدثني المطلب بن حنطب المخزوميّ قال حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ حدثني أبي قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة، فاستأذن النّاس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلّغنا الله به، فلمّا رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدًا جياعًا أرجالاً، ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله فيها بالبركة، فإنّ الله تبارك وتعالى سيبلّغنا بدعوتك. أو قال: سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام، وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيتهم فأمرهم أن يحتثوا. فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه، وبقي مثله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة)).
حديث صحيح ورجاله ثقات.
19- قال الإمام ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(418): أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلم7 حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن نافع بن جبير عن ابن عباس أنّه قيل لعمر بن الخطاب: حدّثنا عن شأن العسرة. قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع، حتّى إنْ كان الرّجل ليذهب يلتمس المًاء فلا يرجع حتّى نظنّ أنّ رقبته ستنقطع حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصّدّيق: يارسول الله قد عوّدك الله في الدّعاء خيرًا، فادع؟ قال: ((أتحبّ ذّلك))؟ قال: نعم. قال: فرفع يديه صلى الله عليه وعلى آله وسلمفلم يرجعها حتّى أطلّت سحابة ثمّ سكبت، فملأوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
حديث صحيح، وحرملة بن يحيى أعلم الناس في ابن وهب قاله الدوري عن ابن معين كما في "تهذيب التهذيب".
20- قال الإمام محمد بن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(526): أنبأنا عمر بن محمد الهمداني8 حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يحيى بن سليم حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمّا نزل مران حيث صالح قريشًا، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ قريشًا تقول: إنّما بايع أصحاب محمّد ضعفًا وهولاً9 فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لو نحرنا ظهرنا فأكلنا لحومها وشحومها، وحسونا من المرق، أصبحنا غدًا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: ((لا ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم))، فبسطوا أنطاعًا ثمّ صبّوا عليها مافضل من أزوادهم، فدعا لهم النّبيّصلى الله عليه وعلى آله وسلم? بالبركة، فأكلوا حتّى تضلّعوا شبعًا، ثمّ كفتوا مافضل من أزوادهم في جربهم.
هذا حديث حسن، ويحيى بن سليم قد تكلّم فيه، ولكنه قال الإمام أحمد: قد أتقن حديث ابن خثيم، كما في "تهذيب التهذيب" وخص النسائي ضعفه في عبيدالله بن عمر العمري كما في "تهذيب التهذيب)).
21- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص487): حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث قال حدثني أبي حدثنا داود يعني ابن أبي هند عن أبي حرب، أنّ طلحة حدّثه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة، فنزلت في الصّفّة مع رجل، فكان بيني وبينه كلّ يوم مدّ من تمر، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم، فلمّا انصرف، قال رجل من أصحاب الصّفّة: يا رسول الله أحرق بطوننا التّمر، وتخرّقت عنّا الخنف. فصعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب ثمّ قال: ((والله لو وجدت خبزًا، أو لحمًا لاطعمتكموه، أما إنّكم توشكون أن تدركوا، ومن أدرك ذلك منكم أن يراح عليكم بالجفان، وتلبسون مثل أستار الكعبة))، قال: فمكثت أنا وصاحبي ثمانية عشر يومًا وليلةً، ما لنا طعام إلا البرير10، حتّى جئنا إلى إخواننا من الأنصار، فواسونا، وكان خير ما أصبنا هذا التّمر.
حديث صحيح على شرط مسلم.
22- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص324): حدثنا عبدالصمد حدثني أبي ثنا الجريري عن عبدالله بن شقيق قال: أقمت بالمدينة مع أبي هريرة سنةً، فقال لي ذات يوم، ونحن عند حجرة عائشة: لقد رأيتنا وما لنا ثياب إلا البراد المفتّقة، وإنّه ليأتي على أحدنا الأيّام ما يجد طعامًا يقيم به صلبه، حتّى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشدّه على أخمص بطنه، ثمّ يشدّه بثوبه ليقيم به صلبه، فقسّم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم بيننا تمرًا، فأصاب كلّ إنسان منّا سبع تمرات فيهنّ حشفة، فما سرّني أنّ لي مكانها تمرةً جيّدةً، قال: قلت: لم، قال: تشدّ لي من مضغي.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والجريري هو: سعيد بن إياس مختلط، ولكن عبدالوارث بن سعيد، سمع منه قبل الإختلاط كما في "الكواكب النيرات".
23- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج2 ص298): حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان النّاس يصلّون مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم عاقدو أزرهم من الصّغر على رقابهم، فقيل للنّساء: لا ترفعن رءوسكنّ حتّى يستوي الرّجال جلوسًا.
قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص348): وفي رواية أبي داود من طريق وكيع عن الثوري: عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر. اهـ المراد من "الفتح".
24- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص348): حدثنا سريج بن النعمان قال ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معشر النّساء، من كان منكنّ تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ترفع رأسها حتّى يرفع الإمام رأسه))، من ضيق ثياب الرّجال.
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
25- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله أخبرنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير منّي، كفّن في بردة إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منّي، ثمّ بسط لنا من الدّنيا ما بسط. أو قال: أعطينا من الدّنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا، ثمّ جعل يبكي، حتّى ترك الطّعام.
26- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق حدثنا خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفّنه، إلا بردةً، إذا غطّينا بها رأسه، خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر.
27- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص322): حدثنا عبدالله ابن مسلمة حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم أنّه سمع سهلاً يقول: جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: جئت أهب نفسي. فقامت طويلاً، فنظر وصوّب، فلمّا طال مقامها، فقال رجل: زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. قال: ((عندك شيء تصدقها))؟ قال: لا. قال: ((انظر)) فذهب، ثمّ رجع، فقال: والله إنْ وجدت شيئًا. قال: ((اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد)) فذهب، ثمّ رجع قال: لا والله ولا خاتمًا من حديد. وعليه إزار ما عليه رداء، فقال: أصدقها إزاري؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إزارك إن لبسته لم يكن عليك منه شيء، وإن لبسْته لم يكن عليها منه شيء))، فتنحّى الرّجل فجلس، فرآه النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مولّيًا، فأمر به فدعي، فقال: ((ما معك من القرآن))؟ قال: سورة كذا وكذا، لسور عدّدها، قال: ((قد ملّكتكها بما معك من القرآن)).
28- قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج8 ص306): حدثنا أبوتوبة الربيع بن نافع أخبرنا معاوية بن سلاّم عن زيد أنّه سمع أبا سلاّم قال حدثني عبدالله11 الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الّذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفّي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتّى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إنّ عندي سعةً فلا تستقرضْ من أحد إلاّ منّي. ففعلت فلمّا أن كان ذات يوم توضّأت ثمّ قمت لأؤذّن بالصّلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التّجّار، فلمّا أن رآني قال: يا حبشيّ. قلت: يا لبّاه. فتجهّمني، وقال لي قولاً غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشّهر؟ قال: قلت: قريب. قال: إنّما بينك وبينه أربع، فآخذك بالّذي عليك فأردّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس النّاس، حتّى إذا صلّيت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي إنّ المشرك الّذي كنت أتديّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عنّي ولا عندي وهو فاضحي، فأذنْ لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الّذين قد أسلموا حتّى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقضي عنّي. فخرجت حتّى إذا أتيت منْزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجنّي عند رأسي، حتّى إذا انشقّ عمود الصّبح الأوّل أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت، حتّى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهنّ أحمالهنّ، فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله بقضائك)) ثمّ قال: ((ألم تر الرّكائب المناخات الأربع))؟ فقلت: بلى، فقال: ((إنّ لك رقابهنّ، وما عليهنّ، فإنّ عليهنّ كسوةً وطعامًا، أهداهنّ إليّ عظيم فدك، فاقبضهنّ واقض دينك))، ففعلت، فذكر الحديث: ثمّ انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاعد في المسجد فسلّمت عليه، فقال: ((ما فعل ما قبلك))؟ قلت: قد قضى الله كلّ شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق شيء، قال: ((أفضل شيء))؟ قلت: نعم، قال: ((انظر أن تريحني منه، فإنّي لست بداخل على أحد من أهلي حتّى تريحني منه))، فلمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العتمة دعاني، فقال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد، وقصّ الحديث: حتّى إذا صلّى العتمة –يعني- من الغد دعاني، قال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله، فكبّر وحمد الله شفقًا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثمّ اتّبعته حتّى إذا جاء أزواجه فسلّم على امرأة امرأة حتّى أتى مبيته، فهذا الّذي سألتني عنه.
هذا حديث صحيح ورواته ثقات.
هذا وقد ذكرت بحمد الله في "ذم المسألة" آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة بأسانيدها الصحيحة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
وبهذا تنتهي مقدمة الطبعة الثانية، وهي بحمد الله تعتبر متممة.
والحمد لله رب العالمين.
مقدمة الطبعة ألأولى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة المال. فبه يوصل الرحم، الذي يكون سببًا لطول العمر، والبركة في المال، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)). متفق عليه من حديث أنس، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
وبه ينال صاحبه إذا صرفه في مصارفه مخلصًا في ذلك الأجر العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 12
وقال سبحانه وتعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 13.
وبه يتألّف الشارد والمعاند، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطي الرجل في حال كونه يبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما يأتى زمن إلا وهو أحب الخلق إليه.
ذلكم المال الذي أساء التصرف فيه نوعان:
أحدهما: التجار، فلا يتحرّون إنفاقه في مصارفه الشرعية، بل ربما بعضهم لا يؤدّي الزكاة، وبعضهم يصرفها في غير مصارفها الشرعية، فهو يدعم الحزبية التي شتتت المسلمين وأضعفت قواهم.
والتجار بصنيعهم هذا لا يدرون أنّهم يعاونون على الباطل، وربما يعاونون على انتشار الصوفية، أو التشيع المبتدعين اللذيْن وقفا حجر عثرة في طريق سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والثاني: قوم يتلصّصون لأخذ الزكوات وليسوا مصرفًا، ثم يصرفونها في مصالحهم الشخصية.
وأقبح من هذا ما يحصل من بعض طلبة العلم يضيع وقته، ويهين العلم والدعوة، ركضًا من أرض الحرمين إلى الكويت، إلى قطر، إلى أبي ظبي، مالك يا فلان؟ فيقول: عليّ دين، أو أريد أن أبني مسجدًا وسكنًا للإمام (وهو نفسه الإمام)، وأريد سيارةً للدعوة، وأريد أن أتزوج.
آه آه، وإنّ طلب علم نهايته الشحاذة لا خير فيه:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ولو عظّموه في النّفوس لعظّما
محيّاه بالأطماع حتى تجهّما ولم أر أحدًا أبصر في التلصص لاستخراج المال، من الإخوان المفلسين، فهم يصورون للناس أن القضية التي يدعون إليها هي الإسلام، وإذا لم يبذل المال في هذه القضية، انتصر الكفر على الإسلام، وهكذا القضية تلو القضية، وكلما انتهت تلك القضية ولم ير الناس لها أثرًا في نصرة الدين، بل ربما تكون عارًا على الإسلام، شغلوا الناس بقضية أخرى، فأين ثمرة تلكم المظاهرات التي يقلّدون فيها أعداء الإسلام، وأين ثمرات مؤتمر الوحدة والسلام؟ وأين ثمرات الانتخابات الطاغوتية؟ نحن نقول هذا حزنًا على الدين، وتألّمًا من قلب الحقائق، لا أننا نغبطهم على جمع الأموال، فهم سيسألون عنها يوم القيامة.
وأخيرًا، فإني أنصح الذين يلهثون بعد جمع الأموال، فالذي لم يتزوج قد أرشده الله ماذا يعمل فقال: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم الله من فضله} 14.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :((يا معشر الشّباب، من استطاع الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء)).
على أني أنصح الأغنياء بمساعدته من غير أن يسأل، حتى يتفرغ للعلم والتعليم.
والذي عليه دين أنصحه أن يعمل حتى يقضي الله دينه.
وهكذا بناء المسجد لا يجوز أن يهين نفسه، ويهين العلم والدعوة، من أجل بناء مسجد، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أراد أن يبني مسجدًا قال: ((يا بني النّجّار ثامنوني بحائطكم))، أي: من أجل أن يبني فيه مسجدًا، فقالوا: بل هو لله ولرسوله.
على أنه يمكن أن يبني مسجدًا من الطين واللبن بنحو مائة ألف ريال يمني، والوقت الذي تصرفه في المسألة، يمكن أن تصرفه في عمارة المسجد والعمل فيه ودعوة الناس إلى العمل بأيديهم.
فالأموال التي تكون فيها إهانة للعلم وللدعاة إلى الله، أو دعوة إلى حزبية، أو جعل المساجد للشحاذة، فلسنا بحاجتها.
ويالله كم من داعية كبير تراه يحفظ الآيات التي فيها ترغيب في الصدقة، وينتقل من هذا المسجد إلى هذا المسجد: {وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا} 15.
وانقلب المسكين من داعية إلى شحاذ، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: ((لكلّ أمّة فتنةً، وفتنة أمّتي المال)).
وتلكم الجمعيات التي لا يؤذن لها إلا بشروط أن تكون تحت رقابة الشئون الاجتماعية، وأن يكون فيها انتخابات، وأن يوضع مالها في البنوك الربوية، ثم يلبّس أصحابها على الناس ويقولون: هل بناء المساجد، وحفر الآبار، وكفالة اليتامى حرام؟ فيقال لهم: ياأيها الملبّسون: من قال لكم: إن هذه حرام؟ فالحرام هي الحزبية، وفرقة المسلمين، وضياع أوقاتكم في الشحاذة، ولقد انقلبت العمرة في رمضان إلى شحاذة:
يا مشعر القراء ويا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
وهناك غير واحد يركضون باسم دعوة أهل السنة بدماج، وذاك يطلب تزكية، وذاك يطلب شفاعة، وأنا بسبب كثرة شواغلي أشغل عن التفكير في التاريخ، فتبقى هذه الشفاعة صالحة لأي وقت، وربما صوّرت لآخر، وبعد اطلاعي على هذا التلاعب المخزي فإني أبطل كل الشفاعات السابقة وتنتهي من يومنا هذا (4/شهر ذي الحجة/ سنة 1413هـ) حتى لا نعين على إهانة الدعوة.
ولا داعي لعرض ما يحصل من المتسولين باسم الدعوة، فذاك يزور له ختمًا، وذاك يركض إلى هنا وهناك وكأنه الوكيل الوحيد للدعوة.
بلغنى ذلك عن شخص بالمدينة، وآخر بمكة، نسأل الله أن يهديهما وأن يتوب عليهما، فمن أجل هذه الدناءة رأيت أن أجمع رسالة في (ذم المسألة) ليعلم أنني بريء مما يحدث، وإني أنكره، ومن أجل أنّ أخوةً مستفيدين صرفوا عن مواصلة طلب العلم، وشغلوا، وأصبحوا يجرون بعد الدنيا، ويقولون: نحن من طلبة (الوادعي)، هدانا الله وإياهم. آمين.
وبعد الانتهاء من المقدمة، فإلى الرسالة.
والحمد لله.
وفي الاخير:
وبعد فنصيحتي للدعاة إلى الله، أن يستعفّوا، ولأصحاب الأموال أن يتحرّوا إنفاقها في مصارفها المشروعة، وهكذا نصيحتي للفقراء أن يصبروا، ولا يستثيرنّهم الشيوعيون على المجتمع، ويكونوا سببًا للفتن وسفك دماء المسلمين، وأنصحهم أن يسألوا الله من فضله، والأغنياء الذين لا يؤدون الزكاة أو يؤدونها ولكنها في غير مصرفها إما لضابط دائرة، أو مرور، من أجل إذا حدث عليه أمر يساعده، وهكذا لصوص الدعوة الذين يستغلون الأموال لصالح الحزبيّة.
نسأل الله أن يرزقنا القناعة، وأن يغنينا من فضله، إنه جواد كريم.
وللمزيد يتم التحميل من المرفقات للكتاب:
أما بعد: فإني لما رأيت أقوامًا ممن يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصصوا للتسول، وتركوا الإحتراف، فرب زرّاع يأكل أكلاً حلالاً من كسب يده، بل عمله من أفضل القربات، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلاّ كان له به صدقة)) .
ورب شخص يعمل في التجارة، وهي أيضًا من أفضل القربات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل: أيّ الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) .
بل ربما يكون الرجل بدويًّا يأكل مما تنتجه غنمه وإبله، فيرى المتسولين يفتحون المعارض، ويبنون العمائر، فيعفو لحيته ويتشبه بالدعاة إلى الله، ويحترف التسول، أفّ لها من وظيفة مشينة مزرية، وأقبح من هذا أن أناسًا يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصّصوا للتسوّل باسم الدعوة، والله عزوجل يقول في نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} 1.
ويقول سبحانه وتعالى: {أم تسألهم أجرًا فهم من مغرم مثقلون} 2.
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن بعض الصالحين إذ ينصح قومه: {اتّبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون} 3.
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن نبي الله نوح عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين} 4.
ويقول سبحانه وتعالى عن نبي الله هود عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين?}.
وهكذا حكى عن صالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام.
هذا فما ظنك بمن لا تهمّه الدعوة، ولا يهمه إلا اختلاس الأموال والوثوب على مصارف الزكاة الثمانية، إنّها لأحدى الكبر.
من الذي يظن أن محمدًا المهدي تهمّه الدعوة؟ وهو قد انسلخ من السنة، ويخشى عليه أن ينسلخ من الدين، وإليكم قضية حدثت في هذه الأيام، فقد حصل خصام بين فئتين، فانبرى محمد المهدي ومدير الناحية، وثالث يقال له: عبدالكريم، فحكموا بذبح أربعة أثوار عند المخطإ عليه، وهذا الذبح لغير الله حرام، وأكله حرام، لأنه ذبح لغير الله، فقيل: يا محمد هذا حرام. قال: ما هو إلا صلح.
وأخيرًا فإنني أنصح لأهل السنة أن يصبروا على الفقر، فهي الحال التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} 5.
وإليك نبذة من صبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم? والصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع والعري:
1- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1609): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة))؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا، والّذي نفسي بيده، لأخرجني الّذي أخرجكما، قوموا))، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أين فلان))؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه، ثمّ قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إيّاك والحلوب))، فذبح لهم فأكلوا من الشّاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر وعمر: ((والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن هذا النّعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثمّ لم ترجعوا حتّى أصابكم هذا النّعيم)).
وحدثني إسحق بن منصور أخبرنا أبوهشام يعني المغيرة بن سلمة حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا يزيد حدثنا أبوحازم قال سمعت أبا هريرة يقول: بينا أبوبكر قاعد وعمر معه، إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ما أقعدكما هاهنا))؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والّذي بعثك بالحقّ. ثمّ ذكر نحو حديث خلف بن خليفة.
2- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص610): حدثنا محمد بن الحكم أخبرنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا سعد الطائي أخبرنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قطع السّبيل، فقال: ((يا عديّ هل رأيت الحيرة))؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: ((فإن طالت بك حياة لترينّ الظّعينة ترتحل من الحيرة، حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله))، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيّئ، الّذين قد سعّروا البلاد؟، ((ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى)) قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينّ الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضّة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنّم))، قال عديّ: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّ تمرة، فبكلمة طيّبة))، قال عديّ: فرأيت الظّعينة ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النّبيّ أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج ملء كفّه.
3- قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج7 ص33): حدثنا العباس بن محمد أخبرنا عبدالله بن يزيد المقرئ أخبرنا حيوة بن شريح حدثني أبوهانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة بن عبيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا صلّى بالنّاس يخرّ رجال من قامتهم في الصّلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصّفّة، حتّى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، أو مجانون. فإذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا حديث حسن صحيح.
4- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2278): حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم، وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا، ووالله لتملأنّ، أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتّى قرحت أشداقنا.
5- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج13 ص303): حدثنا سليمان ابن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن محمد قال: كنّا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشّقان من كتّان، فتمخّط، فقال: بخ بخ أبوهريرة يتمخّط في الكتّان! لقد رأيتني وإنّي لأخرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنّي مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع.
وأخرجه الترمذي (ج7 ص33) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
6- قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله (ج3 ص1625) بتحقيق محمد فؤاد عبدالباقي: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احتلبوا هذا اللّبن بيننا)) قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصيبه، قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان، قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشّيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت في بطني، وعلمت أنّه ليس إليها سبيل، قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك، فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السّماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: ((اللهمّ أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني))، قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ، وأخذت الشّفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلّهنّ، فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتّى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أشربتم شرابكم اللّيلة))، قال: قلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت، حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إحدى سوآتك يا مقداد)) فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)) قال: فقلت: والّذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من النّاس.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر بن شميل حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد.
7- قال البخاري رحمه الله (ج2 ص427) حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبوغسان قال حدثني أبوحازم عن سهل قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقًا، فكانت إذا كان يوم جمعة تنْزع أصول السّلق فتجعله في قدر، ثمّ تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها، فتكون أصول السّلق عرقه، وكنّا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلّم عليها، فتقرّب ذلك الطّعام إلينا، فنلعقه، وكنّا نتمنّى يوم الجمعة لطعامها ذلك.
8- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص83): حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد بن عبدالله عن إسماعيل عن قيس قال: سمعت سعدًا رضي الله عنه يقول: إنّي لأوّل العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنّا نغزو مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشّجر، حتّى إنّ أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشّاة ما له خلط، ثمّ أصبحت بنو أسد تعزّرني على الإسلام، لقد خبت إذًا وضلّ عملي. وكانوا وشوا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلّي.
9- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1 ص55): حدثنا أبوبكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبوالنضر هاشم بن القاسم حدثنا عبيدالله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتّى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البرّ ببرّه، وذو التّمر بتمره، -قال: وقال مجاهد-: وذو النّواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنّوى؟ قال: كانوا يمصّونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها، حتّى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنّة)).
حدثنا سهل بن عثمان وأبوكريب محمد بن العلاء جميعًا عن أبي معاوية، قال أبوكريب: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد6 -شك الأعمش- قال: لمّا كان غزوة تبوك أصاب النّاس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((افعلوا)) قال: فجاء عمر، فقال: يارسول الله إن فعلت قلّ الظّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلّ الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة، قال: ويجيء الآخر بكفّ تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه بالبركة، ثمّ قال: ((خذوا في أوعيتكم))، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتّى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتّى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة)).
10- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا بشر بن مرحوم حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: خفّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ناد في النّاس فيأتون بفضل أزوادهم)) فبسط لذلك نطع، وجعلوه على النّطع، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعا وبرّك عليه، ثمّ دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى النّاس حتّى فرغوا، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله)).
11- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص281): حدثني أبونعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أنّ أبا هريرة كان يقول: والله الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبوبكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي، ثمّ قال: ((يا أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحقْ)) ومضى، فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللّبن))؟ قالوا: أهداه لك فلان، أو فلانة. قال: ((أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي))، قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة، كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربةً أتقوّى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد روي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: ((أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله. قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: ((اشرب))، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكًا. قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى، وشرب الفضلة.
12- قال البخاري رحمه الله (ج9 ص226): وقال إبراهيم عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مرّ بنا في مسجد بني رفاعة، فسمعته يقول: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا مرّ بجنبات أمّ سليم دخل عليها، فسلّم عليها، ثمّ قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عروسًا بزينب، فقالت لي أمّ سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديّةً، فقلت لها: افعلي. فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتّخذت حيسةً في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه. فقال لي: ((ضعها))، ثمّ أمرني، فقال:((ادع لي رجالاً –سمّاهم- وادع لي من لقيت))، قال: ففعلت الّذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاصّ بأهله، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع يديه على تلك الحيسة، وتكلّم بها ما شاء الله، ثمّ جعل يدعو عشرةً عشرةً، يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلّ رجل ممّا يليه)) قال: حتّى تصدّعوا كلّهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفر يتحدّثون، قال: وجعلت أغتمّ، ثمّ خرج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنّهم قد ذهبوا فرجع، فدخل البيت وأرخى السّتر، وإنّي لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ} قال أبوعثمان: قال أنس: إنّه خدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشر سنين.
13- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص586): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنّه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبوطلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا من شعير، ثمّ أخرجت خمارًا لها، فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد ومعه النّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((آرسلك أبوطلحة))؟ فقلت: نعم، قال: ((بطعام))؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبوطلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنّاس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبوطلحة، حتّى لقي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلمّي يا أمّ سليم ما عندك))، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففتّ وعصرت أمّ سليم عكّةً، فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأكل القوم كلّهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً.
أخرجه مسلم (ج3 ص1612).
14- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص395): حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان أخبرنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لمّا حفر الخندق رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا. فأخرجت إليّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشّعير، ففرغتْ إلى فراغي وقطّعتها في برمتها، ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبمن معه. فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمةً لنا، وطحنّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك. فصاح النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ياأهل الخندق، إنّ جابرًا قد صنع سورًا، فحيّ هلاً بكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تنْزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم، حتّى أجيء)) فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقدم النّاس، حتّى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الّذي قلت، فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثمّ قال:((ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم، ولا تنْزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو.
قال البخاري رحمه الله (ج7 ص 395): حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبدالواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا رضي الله عنه، فقال: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشّعير، حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: ((كم هو))؟ فذكرت له، قال: ((كثير طيّب))، قال: ((قل لها: لا تنْزع البرمة، ولا الخبز من التّنّور، حتّى آتي)) فقال: ((قوموا))، فقام المهاجرون والأنصار، فلمّا دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه ويقرّب إلى أصحابه، ثمّ ينْزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف، حتّى شبعوا، وبقي بقيّة، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)).
وأخرجه مسلم (ج3 ص1610).
15- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنّه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثًا قبل السّاحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، وهم ثلاث مائة، وأنا فيهم، فخرجنا، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، فني الزّاد، فأمر أبوعبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمر، فكان يقوّتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً، حتّى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثمّ انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثمّ أمر أبوعبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمّ أمر براحلة فرحلت، ثمّ مرّت تحتهما، فلم تصبهما.
وأخرجه مسلم (ج3 ص 1536).
16- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص230): حدثنا أبوالنعمان حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثين ومائةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام)) فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن ثمّ جاء رجل مشرك مشعانّ طويل بغنم يسوقها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بيعًا أم عطيّةً))؟ -أو قال: ((أم هبةً))؟- قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاةً، فصنعت، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثّلاثين والمائة، إلا قد حزّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم له حزّةً من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إيّاه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير. أو كما قال.
وأخرجه مسلم (ج3 ص1637).
17- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص215): حدثنا أحمد بن أبي بكر أبومصعب قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إنّي أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ((ابسط رداءك))، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثمّ قال: ((ضمّه))، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن أبي فديك بهذا أو قال: غرف بيده فيه.
وقال رحمه الله (ج4 ص287): حدثنا أبواليمان حدثنا شعيب عن الزهريّ قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبوسلمة بن عبدالرحمن أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: إنّكم تقولون: إنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإنّ إخوتي من المهاجرين، كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصّفّة أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث يحدّثه: ((إنّه لن يبسط أحد ثوبه حتّى أقضي مقالتي هذه، ثمّ يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول))، فبسطت نمرةً عليّ حتّى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك من شيء.
وأخرجه مسلم (ج4 ص1939، 1940).
18- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص417): حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا عبدالله يعني ابن مبارك قال أخبرنا الأوزاعيّ قال حدثني المطلب بن حنطب المخزوميّ قال حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ حدثني أبي قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة، فاستأذن النّاس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلّغنا الله به، فلمّا رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدًا جياعًا أرجالاً، ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله فيها بالبركة، فإنّ الله تبارك وتعالى سيبلّغنا بدعوتك. أو قال: سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام، وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيتهم فأمرهم أن يحتثوا. فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه، وبقي مثله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة)).
حديث صحيح ورجاله ثقات.
19- قال الإمام ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(418): أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلم7 حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن نافع بن جبير عن ابن عباس أنّه قيل لعمر بن الخطاب: حدّثنا عن شأن العسرة. قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع، حتّى إنْ كان الرّجل ليذهب يلتمس المًاء فلا يرجع حتّى نظنّ أنّ رقبته ستنقطع حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصّدّيق: يارسول الله قد عوّدك الله في الدّعاء خيرًا، فادع؟ قال: ((أتحبّ ذّلك))؟ قال: نعم. قال: فرفع يديه صلى الله عليه وعلى آله وسلمفلم يرجعها حتّى أطلّت سحابة ثمّ سكبت، فملأوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
حديث صحيح، وحرملة بن يحيى أعلم الناس في ابن وهب قاله الدوري عن ابن معين كما في "تهذيب التهذيب".
20- قال الإمام محمد بن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(526): أنبأنا عمر بن محمد الهمداني8 حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يحيى بن سليم حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمّا نزل مران حيث صالح قريشًا، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ قريشًا تقول: إنّما بايع أصحاب محمّد ضعفًا وهولاً9 فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لو نحرنا ظهرنا فأكلنا لحومها وشحومها، وحسونا من المرق، أصبحنا غدًا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: ((لا ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم))، فبسطوا أنطاعًا ثمّ صبّوا عليها مافضل من أزوادهم، فدعا لهم النّبيّصلى الله عليه وعلى آله وسلم? بالبركة، فأكلوا حتّى تضلّعوا شبعًا، ثمّ كفتوا مافضل من أزوادهم في جربهم.
هذا حديث حسن، ويحيى بن سليم قد تكلّم فيه، ولكنه قال الإمام أحمد: قد أتقن حديث ابن خثيم، كما في "تهذيب التهذيب" وخص النسائي ضعفه في عبيدالله بن عمر العمري كما في "تهذيب التهذيب)).
21- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص487): حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث قال حدثني أبي حدثنا داود يعني ابن أبي هند عن أبي حرب، أنّ طلحة حدّثه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة، فنزلت في الصّفّة مع رجل، فكان بيني وبينه كلّ يوم مدّ من تمر، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم، فلمّا انصرف، قال رجل من أصحاب الصّفّة: يا رسول الله أحرق بطوننا التّمر، وتخرّقت عنّا الخنف. فصعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب ثمّ قال: ((والله لو وجدت خبزًا، أو لحمًا لاطعمتكموه، أما إنّكم توشكون أن تدركوا، ومن أدرك ذلك منكم أن يراح عليكم بالجفان، وتلبسون مثل أستار الكعبة))، قال: فمكثت أنا وصاحبي ثمانية عشر يومًا وليلةً، ما لنا طعام إلا البرير10، حتّى جئنا إلى إخواننا من الأنصار، فواسونا، وكان خير ما أصبنا هذا التّمر.
حديث صحيح على شرط مسلم.
22- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص324): حدثنا عبدالصمد حدثني أبي ثنا الجريري عن عبدالله بن شقيق قال: أقمت بالمدينة مع أبي هريرة سنةً، فقال لي ذات يوم، ونحن عند حجرة عائشة: لقد رأيتنا وما لنا ثياب إلا البراد المفتّقة، وإنّه ليأتي على أحدنا الأيّام ما يجد طعامًا يقيم به صلبه، حتّى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشدّه على أخمص بطنه، ثمّ يشدّه بثوبه ليقيم به صلبه، فقسّم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم بيننا تمرًا، فأصاب كلّ إنسان منّا سبع تمرات فيهنّ حشفة، فما سرّني أنّ لي مكانها تمرةً جيّدةً، قال: قلت: لم، قال: تشدّ لي من مضغي.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والجريري هو: سعيد بن إياس مختلط، ولكن عبدالوارث بن سعيد، سمع منه قبل الإختلاط كما في "الكواكب النيرات".
23- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج2 ص298): حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان النّاس يصلّون مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم عاقدو أزرهم من الصّغر على رقابهم، فقيل للنّساء: لا ترفعن رءوسكنّ حتّى يستوي الرّجال جلوسًا.
قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص348): وفي رواية أبي داود من طريق وكيع عن الثوري: عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر. اهـ المراد من "الفتح".
24- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص348): حدثنا سريج بن النعمان قال ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معشر النّساء، من كان منكنّ تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ترفع رأسها حتّى يرفع الإمام رأسه))، من ضيق ثياب الرّجال.
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
25- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله أخبرنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير منّي، كفّن في بردة إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منّي، ثمّ بسط لنا من الدّنيا ما بسط. أو قال: أعطينا من الدّنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا، ثمّ جعل يبكي، حتّى ترك الطّعام.
26- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق حدثنا خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفّنه، إلا بردةً، إذا غطّينا بها رأسه، خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر.
27- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص322): حدثنا عبدالله ابن مسلمة حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم أنّه سمع سهلاً يقول: جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: جئت أهب نفسي. فقامت طويلاً، فنظر وصوّب، فلمّا طال مقامها، فقال رجل: زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. قال: ((عندك شيء تصدقها))؟ قال: لا. قال: ((انظر)) فذهب، ثمّ رجع، فقال: والله إنْ وجدت شيئًا. قال: ((اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد)) فذهب، ثمّ رجع قال: لا والله ولا خاتمًا من حديد. وعليه إزار ما عليه رداء، فقال: أصدقها إزاري؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إزارك إن لبسته لم يكن عليك منه شيء، وإن لبسْته لم يكن عليها منه شيء))، فتنحّى الرّجل فجلس، فرآه النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مولّيًا، فأمر به فدعي، فقال: ((ما معك من القرآن))؟ قال: سورة كذا وكذا، لسور عدّدها، قال: ((قد ملّكتكها بما معك من القرآن)).
28- قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج8 ص306): حدثنا أبوتوبة الربيع بن نافع أخبرنا معاوية بن سلاّم عن زيد أنّه سمع أبا سلاّم قال حدثني عبدالله11 الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الّذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفّي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتّى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إنّ عندي سعةً فلا تستقرضْ من أحد إلاّ منّي. ففعلت فلمّا أن كان ذات يوم توضّأت ثمّ قمت لأؤذّن بالصّلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التّجّار، فلمّا أن رآني قال: يا حبشيّ. قلت: يا لبّاه. فتجهّمني، وقال لي قولاً غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشّهر؟ قال: قلت: قريب. قال: إنّما بينك وبينه أربع، فآخذك بالّذي عليك فأردّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس النّاس، حتّى إذا صلّيت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي إنّ المشرك الّذي كنت أتديّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عنّي ولا عندي وهو فاضحي، فأذنْ لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الّذين قد أسلموا حتّى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقضي عنّي. فخرجت حتّى إذا أتيت منْزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجنّي عند رأسي، حتّى إذا انشقّ عمود الصّبح الأوّل أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت، حتّى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهنّ أحمالهنّ، فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله بقضائك)) ثمّ قال: ((ألم تر الرّكائب المناخات الأربع))؟ فقلت: بلى، فقال: ((إنّ لك رقابهنّ، وما عليهنّ، فإنّ عليهنّ كسوةً وطعامًا، أهداهنّ إليّ عظيم فدك، فاقبضهنّ واقض دينك))، ففعلت، فذكر الحديث: ثمّ انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاعد في المسجد فسلّمت عليه، فقال: ((ما فعل ما قبلك))؟ قلت: قد قضى الله كلّ شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق شيء، قال: ((أفضل شيء))؟ قلت: نعم، قال: ((انظر أن تريحني منه، فإنّي لست بداخل على أحد من أهلي حتّى تريحني منه))، فلمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العتمة دعاني، فقال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد، وقصّ الحديث: حتّى إذا صلّى العتمة –يعني- من الغد دعاني، قال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله، فكبّر وحمد الله شفقًا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثمّ اتّبعته حتّى إذا جاء أزواجه فسلّم على امرأة امرأة حتّى أتى مبيته، فهذا الّذي سألتني عنه.
هذا حديث صحيح ورواته ثقات.
هذا وقد ذكرت بحمد الله في "ذم المسألة" آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة بأسانيدها الصحيحة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
وبهذا تنتهي مقدمة الطبعة الثانية، وهي بحمد الله تعتبر متممة.
والحمد لله رب العالمين.
مقدمة الطبعة ألأولى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة المال. فبه يوصل الرحم، الذي يكون سببًا لطول العمر، والبركة في المال، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)). متفق عليه من حديث أنس، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
وبه ينال صاحبه إذا صرفه في مصارفه مخلصًا في ذلك الأجر العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 12
وقال سبحانه وتعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 13.
وبه يتألّف الشارد والمعاند، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطي الرجل في حال كونه يبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما يأتى زمن إلا وهو أحب الخلق إليه.
ذلكم المال الذي أساء التصرف فيه نوعان:
أحدهما: التجار، فلا يتحرّون إنفاقه في مصارفه الشرعية، بل ربما بعضهم لا يؤدّي الزكاة، وبعضهم يصرفها في غير مصارفها الشرعية، فهو يدعم الحزبية التي شتتت المسلمين وأضعفت قواهم.
والتجار بصنيعهم هذا لا يدرون أنّهم يعاونون على الباطل، وربما يعاونون على انتشار الصوفية، أو التشيع المبتدعين اللذيْن وقفا حجر عثرة في طريق سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والثاني: قوم يتلصّصون لأخذ الزكوات وليسوا مصرفًا، ثم يصرفونها في مصالحهم الشخصية.
وأقبح من هذا ما يحصل من بعض طلبة العلم يضيع وقته، ويهين العلم والدعوة، ركضًا من أرض الحرمين إلى الكويت، إلى قطر، إلى أبي ظبي، مالك يا فلان؟ فيقول: عليّ دين، أو أريد أن أبني مسجدًا وسكنًا للإمام (وهو نفسه الإمام)، وأريد سيارةً للدعوة، وأريد أن أتزوج.
آه آه، وإنّ طلب علم نهايته الشحاذة لا خير فيه:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ولو عظّموه في النّفوس لعظّما
محيّاه بالأطماع حتى تجهّما ولم أر أحدًا أبصر في التلصص لاستخراج المال، من الإخوان المفلسين، فهم يصورون للناس أن القضية التي يدعون إليها هي الإسلام، وإذا لم يبذل المال في هذه القضية، انتصر الكفر على الإسلام، وهكذا القضية تلو القضية، وكلما انتهت تلك القضية ولم ير الناس لها أثرًا في نصرة الدين، بل ربما تكون عارًا على الإسلام، شغلوا الناس بقضية أخرى، فأين ثمرة تلكم المظاهرات التي يقلّدون فيها أعداء الإسلام، وأين ثمرات مؤتمر الوحدة والسلام؟ وأين ثمرات الانتخابات الطاغوتية؟ نحن نقول هذا حزنًا على الدين، وتألّمًا من قلب الحقائق، لا أننا نغبطهم على جمع الأموال، فهم سيسألون عنها يوم القيامة.
وأخيرًا، فإني أنصح الذين يلهثون بعد جمع الأموال، فالذي لم يتزوج قد أرشده الله ماذا يعمل فقال: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم الله من فضله} 14.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :((يا معشر الشّباب، من استطاع الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء)).
على أني أنصح الأغنياء بمساعدته من غير أن يسأل، حتى يتفرغ للعلم والتعليم.
والذي عليه دين أنصحه أن يعمل حتى يقضي الله دينه.
وهكذا بناء المسجد لا يجوز أن يهين نفسه، ويهين العلم والدعوة، من أجل بناء مسجد، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أراد أن يبني مسجدًا قال: ((يا بني النّجّار ثامنوني بحائطكم))، أي: من أجل أن يبني فيه مسجدًا، فقالوا: بل هو لله ولرسوله.
على أنه يمكن أن يبني مسجدًا من الطين واللبن بنحو مائة ألف ريال يمني، والوقت الذي تصرفه في المسألة، يمكن أن تصرفه في عمارة المسجد والعمل فيه ودعوة الناس إلى العمل بأيديهم.
فالأموال التي تكون فيها إهانة للعلم وللدعاة إلى الله، أو دعوة إلى حزبية، أو جعل المساجد للشحاذة، فلسنا بحاجتها.
ويالله كم من داعية كبير تراه يحفظ الآيات التي فيها ترغيب في الصدقة، وينتقل من هذا المسجد إلى هذا المسجد: {وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا} 15.
وانقلب المسكين من داعية إلى شحاذ، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: ((لكلّ أمّة فتنةً، وفتنة أمّتي المال)).
وتلكم الجمعيات التي لا يؤذن لها إلا بشروط أن تكون تحت رقابة الشئون الاجتماعية، وأن يكون فيها انتخابات، وأن يوضع مالها في البنوك الربوية، ثم يلبّس أصحابها على الناس ويقولون: هل بناء المساجد، وحفر الآبار، وكفالة اليتامى حرام؟ فيقال لهم: ياأيها الملبّسون: من قال لكم: إن هذه حرام؟ فالحرام هي الحزبية، وفرقة المسلمين، وضياع أوقاتكم في الشحاذة، ولقد انقلبت العمرة في رمضان إلى شحاذة:
يا مشعر القراء ويا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
وهناك غير واحد يركضون باسم دعوة أهل السنة بدماج، وذاك يطلب تزكية، وذاك يطلب شفاعة، وأنا بسبب كثرة شواغلي أشغل عن التفكير في التاريخ، فتبقى هذه الشفاعة صالحة لأي وقت، وربما صوّرت لآخر، وبعد اطلاعي على هذا التلاعب المخزي فإني أبطل كل الشفاعات السابقة وتنتهي من يومنا هذا (4/شهر ذي الحجة/ سنة 1413هـ) حتى لا نعين على إهانة الدعوة.
ولا داعي لعرض ما يحصل من المتسولين باسم الدعوة، فذاك يزور له ختمًا، وذاك يركض إلى هنا وهناك وكأنه الوكيل الوحيد للدعوة.
بلغنى ذلك عن شخص بالمدينة، وآخر بمكة، نسأل الله أن يهديهما وأن يتوب عليهما، فمن أجل هذه الدناءة رأيت أن أجمع رسالة في (ذم المسألة) ليعلم أنني بريء مما يحدث، وإني أنكره، ومن أجل أنّ أخوةً مستفيدين صرفوا عن مواصلة طلب العلم، وشغلوا، وأصبحوا يجرون بعد الدنيا، ويقولون: نحن من طلبة (الوادعي)، هدانا الله وإياهم. آمين.
وبعد الانتهاء من المقدمة، فإلى الرسالة.
والحمد لله.
وفي الاخير:
وبعد فنصيحتي للدعاة إلى الله، أن يستعفّوا، ولأصحاب الأموال أن يتحرّوا إنفاقها في مصارفها المشروعة، وهكذا نصيحتي للفقراء أن يصبروا، ولا يستثيرنّهم الشيوعيون على المجتمع، ويكونوا سببًا للفتن وسفك دماء المسلمين، وأنصحهم أن يسألوا الله من فضله، والأغنياء الذين لا يؤدون الزكاة أو يؤدونها ولكنها في غير مصرفها إما لضابط دائرة، أو مرور، من أجل إذا حدث عليه أمر يساعده، وهكذا لصوص الدعوة الذين يستغلون الأموال لصالح الحزبيّة.
نسأل الله أن يرزقنا القناعة، وأن يغنينا من فضله، إنه جواد كريم.
وللمزيد يتم التحميل من المرفقات للكتاب:
تعليق