إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التحفة الجزائرية بتسلية المبتلين في الطريقة السلفية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التحفة الجزائرية بتسلية المبتلين في الطريقة السلفية




    التحفة الجزائرية
    بتسلية المبتلين في الطريقة السلفية


    كتبه الفقير إلى الله:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي



    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة مؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:فقد ساءني ما أصاب بعض أحبابي من السلفيين الجزائريين من حبس بغير جريمة شرعية، وما نُقم منهم إلا أنهم ثبتوا على الحق المبني على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، ومن أجل أنهم يرحمون المستضعفين السلفيين في اليمن الذين ظلمهم كلاب الرافضة، فبذلوا دماءهم وأرواحهم وأموالهم في سبيل الله تعالى لنصرة المستضعفين السلفيين وإنقاظهم من جريمة الرافضة الذين دمروا البلاد، وخربوا مساجد الله، وداسوا مصاحف المسلمين ومزقوها ولوّثوها بالأقذار، وقتّلوا حفظة الدين والعُبَّاد، وأجروا في اليمن سيول الدماء.وهؤلاء إخواننا السلفيون الذين حُبسوا مظلومين لم يعملوا انقلاباً على الحكومة سددهم الله-، ولم يصنعوا ثورة على ولاة الأمور أرشدهم الله إلى أقوم الطريق-، وهم يؤمنون بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء/59].وبحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه و سلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان». (أخرجه البخاري (7199-7200) ومسلم (1709)).وبحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع». (أخرجه مسلم (1847) ، وأصل الحديث متفق عليه).فلما كان يسرني ما يسرهم من الخير ويسوؤني ما يسوؤهم من الشر ويبكيني ما يبكيهم من الآلام والأحزان أسطّر هذه التحفة المتواضعة، وأتكلم أيضا في بعض الأمور الأُخر لها علاقة بما قبلها.فأقول مستعينا بالله مولاي الكريم:

    الباب الأول: لا بد من الابتلاء في طريق إلى الجنة

    قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب . ("مجموع الفتاوى"/10/ص41).فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الثابتين على الحق الصابرين على السداد هم الأعلون، وإن جند الله هم الغالبون.قال الله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 51، 52].وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فلا نترك دين الإسلام لشناعة المشنع ولا لتكفير مكفر، ولا لتضليل ضال، فإن إياب الخلق إلى الله وعليه حسابهم، فالموحد لله سبحانه يظهر الحق حيث كان، خاصا وعاما، وكتابا، حتى لو طلب منه يكتم الحق في وقت الخوف الشديد لم يكتم اهـ. ("الرد على البكري"/2/ص765-766).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فعزى سبحانه نبيه بذلك وأنى له أسوة بمن تقدمه من المرسلين وعزى أتباعه بقوله : ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾ ( البقرة : 214) وقوله : ﴿ الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين * ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين﴾ ( العنكبوت : 1 - 11 ) .فليتأمل العبد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا وإما ألا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة : الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل : آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه ( وكيف يفرالمرء عنه بذنبه ... إذا كان تطوى في يديه المراحل ) فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكان هذا المؤلم له أعظم ألما وأدوم من ألم أتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم وسئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وإنما يتفاوت أهل الالآم في العقول فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد والنسيئة، والنفس موكلة بحب العاجل. ﴿ كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة﴾ ( القيامة : 20 ) ﴿إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا﴾ ( الدهر : 27 ) وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية : من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا.ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عدوانهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم.ولما كان الألم لا محيص منه البتة عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله : ﴿ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم﴾ ( العنكبوت : 5 ) فضرب لمدة هذا الألم أجلا لا بد أن يأتي وهو يوم لقائه فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهذا سأل النبي صلى الله عليه و سلم ربه الشوق إلى لقائه فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان : «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين».فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ويقرب عليه الطريق ويطوي له البعيد ويهون عليه الآلام و المشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه فتصلح عنده هذه النعمة ويصلح بها كما قال تعالى : ﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ ( الأنعام : 53 ) فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه : ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ .ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم وأنه غني عن العالمين ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين. ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منهم وتركه السبب الذي ناله كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.والمقصود : أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان إذ النفس فى الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة.(انتهى من "زاد المعاد"/3/ص11).

    الباب الثاني: علاج حرارة المصيبة

    ثم إن هذه المصيبة لها حرارة يحتاج العبد إلى علاجها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فصل في هديه صلى الله عليه و سلم في علاج حر المصيبة وحزنها. قال تعالى : ﴿وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ [البقرة : 155]. وفي المسند عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها».وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبتهأحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز و جل حقيقة وقد جعله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير. وأيضا فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله وعدم بعده وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقي عليه وجوده، فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ولكن بالحسنات والسيئات فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه قال تعالى : ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور﴾ [ الحديد : 22 ] .ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي
    ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لكل فرحة ترحة وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء .
    وقالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس وأنه حق على الله ألا يملأ دارا خيرة إلا ملأها عبرة. وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت : أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا . وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل لها : ما يبكيك لعل أحدا آذاك ؟ قالت : لا ولكن رأيت غضارة في أهلي وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا.قال إسحاق بن طلحة : دخلت عليها يوما فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت :( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف )ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض
    ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.
    ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات والكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور .ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والإحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه فلينظر : أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة العاجلة أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد وفي الترمذي مرفوعا: «يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء»
    وقال بعض السلف : لو لا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس .
    ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله فإنه من كل شئ عوض إلا الله فما منه عوض كما قيل : ( من كل شئ إذا ضيعته عوض ... وما من الله إن ضيعته عوض )ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط فحظك منها ما أحدثته لك فاختر خير الحظوظ أو شرها فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم كتب في ديوان المفرطين وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كتب في ديوان الصابرين وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين.وفي مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث محمود بن لبيد يرفعه : «إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط» زاد أحمد : «ومن جزع فله الجزع».ومن علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب قال بعض الحكماء : العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم وفي الصحيح مرفوعا : «الصبر عند الصدمة الأولى» وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت سلو البهائم .ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وتمقت إلى محبوبه. وقال أبو الدرداء : أن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به. وكان عمران بن حصين يقول في علته : أحبه إلي أحبه إليه. وكذلك قال أبو العالية .وهذا دواء وعلاج، لا يعمل إلا مع المحبين، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به. ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ولذة تمتعه بثواب الله له فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه.ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه.قال الشيخ عبد القادر : يا بني ! إن المصيبة ما جاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني ! القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة .والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله فإما أن يخرج ذهبا أحمر وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل : ( سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد )فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك وأنه لا بد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل.
    ومن علاجها : أن يعلم أنه لو لا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل :
    ( قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم ) فلو لا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدوية المحن والإبتلاء لطغوا وبغوا وعتوا والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه.ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق : «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»([1]).وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر . فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ثم اختر أي القسمين أليق بك وكل يعمل على شاكلته وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به ولا تستطل هذا العلاج فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه وبالله التوفيق . (انتهى من "زاد المعاد" /4 /ص173/ط. الرسالة).

    الباب الثالث: ارتفاع درجات المؤمن بالابتلاءات

    نؤمن أن الله إذا ابتلى عبده المؤمن بمصيبة فإنها خير له، لتكفر خطاياه، ولترفع درجاته.عن الأسود رحمه الله قال: دخل شباب من قريش على عائشة -رضي الله عنه- وهي بمنى وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه خطيئة». (أخرجه مسلم (2572)).قال الإمام النووي رحمه الله: فيه النهي عن الضحك من مثل هذا إلا أن يحصل غلبة لا يمكن دفعه، وأما تعمده فمذموم ؛ لأن فيه إشماتا بالمسلم وكسرا لقلبه... إلى قوله:- في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين ، فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور. وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها، إن قلت مشقتها. وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور، وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء. وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط، ولا ترفع درجة، ولا تكتب حسنة. قال: وروي نحوه عن ابن مسعود قال: الوجع لا يكتب به أجر، لكن تكفر به الخطايا فقط، واعتمد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا، ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرحة برفع الدرجات، وكتب الحسنات اهـ. ("المنهاج"/16/ص364/مكتبة المعارف).وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل فما يزال الله يبتليه بما يكره، حتى يبلغه إياها».(أخرجه أبو يعلى (6095)/دار المأمون للتراث)، وابن حبان (2908) وغيره/سند الحديث حسن من أجل يحيى بن أيوب البجلي).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر ... إلخ. ("مجموع الفتاوى"/28 / ص 152-153/ط. مكتبة ابن تيمية).وبعد ذكر محنة الإمام مالك رحمه الله قال الإمام الذهبي رحمه الله: هذا ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، «ومن يرد الله به خيرا يصب منه»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل قضاء المؤمن خير له» وقال الله تعالى: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين﴾ [ محمد:31 ]، وأنزل تعالى في وقعة أحد قوله: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم﴾ [ آل عمران: 165 ].وقال: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾ [ الشورى: 30 ].فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ، واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.(انتهى من "سير أعلام النبلاء"/8 /ص81).

    الباب الرابع: الاعتبار بمحن بعض الأكابر من السجن في سبيل الله تعالى

    قد سجن بعض أسلافنا في سبيل الله، وقد صار من دأب أهل الظلم أنهم إذا عجزوا عن مقاومة حجة أهل الحق رفعوا أمرهم إلى الحكومة للبطش بهم.قال العلامة الشاطبي رحمه الله في بعض أهل الباطل: كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل ("الاعتصام" /ص91/دار العقيدة).وقال أيضا رحمه الله: إن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى. ("الاعتصام" / ص 308/دار العقيدة).وقد سجن نبي الله يوسف عليه السلام مظلوما.قال الله تعالى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ [يوسف: 32 - 35].العالم بالله يتبع يوسف وسائر الأنبياء في تحمل الأذى في سبيل الله، فله الفوز والفلاح. والجاهل آثر الشهوات على مرضاة الله فله الخيبة والخسارة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإنه لا بد من أذى لكل من كان في الدنيا فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله بل اختار المعصية كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فرّ منه بكثير. ﴿ومنهم من يقول إئذن لي ولا تفتنى ألا في الفتنة سقطوا﴾. ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيماً وسروراً كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزناً وثبوراً. فيوسف خاف الله من الذنوب ولم يخف من أذى الخلق وحبسهم إذ أطاع الله بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق إمراة العزيز نال الشهوة وأكرمته المرأة بالمال والرياسة وزوجها في طاعتها. ("مجموع الفتاوى"/15 /ص132-133).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: هذا باب إنما يدخل منه رجلان، أحدهما: من تمكن من قلبه الإيمان بالآخرة وما أعد الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه، فآثر أدنى الفوتين، واختار أسهل العقوبتين. والثاني: رجل غلب عقله على هواه، فعلم ما في الفاحشة من المفاسد وما في العدول عنها من المصالح، فآثر الأعلى على الأدنى. وقد جمع الله سبحانه وتعالى ليوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه بين الأمرين فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الحرام فقالت المرأة: ﴿ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾. فاختار السجن على الفاحشة ثم تبرأ إلى الله من حوله وقوته وأخبر أن ذلك ليس إلا بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده لا من نفسه فقال: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾. فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره وحاله وعفته ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله وأحاط به الخذلان. وقد قال الله تعالى لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه: ﴿ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا﴾. ولهذا كان من دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». وكانت أكثر يمينه: «لا ومقلب القلوب». كيف وهو الذي أنزل عليه: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾. وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة وإن هلك فالفوز العظم. والله تعالى لا يضيع ما تحمل عبده لأجله. ("روضة المحبين"/ص459-460).وقد حبس بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مظلومين.عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا. قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر اللهم أخبر عنا نبيك. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم. إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى. فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه. فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر.فلبث خبيب عندهم أسيرا فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي فقال: تخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك. والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خبيبا. فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها. اللهم أحصهم عددا.ما أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فقتله ابن الحارث. فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطع من لحمه شيئا.(أخرجه البخاري (3045)).وقد حبس الإمام إبراهيم التيمي رحمه الله مظلوماً.قال الإمام ابن سعد رحمه الله: أخبرنا علي بن محمد قال: كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي فجاء الذي طلبه فقال: أريد إبراهيم. فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم. فأخذه وهو يعلم أنه يريد إبراهيم النخعي، فلم يستحل أن يدله عليه، فأتى به الحجاج فأمر بحبسه في الديماس. ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة. فتغير إبراهيم، فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها، فمات في السجن، فرأى الحجاج في منامه قائلا يقول: مات في هذه البلدة الليلة رجل من أهل الجنة. فلما أصبح قال: هل مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا: نعم إبراهيم التيمي مات في السجن. فقال: حلم نزغة من نزغات الشيطان. وأمر به فألقي على الكناسة. ("الطبقات الكبرى"/لابن سعد/6/ص285).وقد حبس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مظلوما.قال الأصمّ رحمه الله: حدثنا عباس الدوري: سمعت أبا جعفر الأنباري، يقول: لما حمل أحمد إلى المأمون، أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر، تعنيت. فقلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن، ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب، ليمتنعن خلق من الناس كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله. ثم قال: يا أبا جعفر، أعد علي فأعدت عليه، وهو يقول: ما شاء الله. ("سير أعلام النبلاء"/11/ص238-238).وقال الإمام الذهبي رحمه الله: وبقي أحمد محبوسا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه، فرد أحمد إلى بغداد. إلى قوله:- قال صالح: لما صدر أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس، ردا في أقيادهما. فلما صار إلى الرقة، حملا في سفينة، فلما وصلا إلى عانة ، توفي محمد، وفك قيده، وصلى عليه أبي. وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ما رأيت أحدا على حداثة سنه، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لارجو أن يكون قد ختم له بخير. قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي. أنت رجل يقتدى بك. قد مد الخلق أعناقهم اليك، لما يكون منك، فاتق الله واثبت لامر الله، أو نحو هذا. فمات، وصليت عليه، ودفنته. أظن قال: بعانة.قال صالح: وصار أبي إلى بغداد مقيدا. فمكث بالياسرية أياما، ثم حبس في دار اكتريت عند دار عمارة، ثم حول إلى حبس العامة في درب الموصلية. فقال: كنت أصلي بأهل السجن، وأنا مقيد.فلما كان في رمضان سنة تسع عشر - قلت: وذلك بعد موت المأمون بأربعة عشر شهرا - حولت إلى دار إسحاق بن إبراهيم، يعني: نائب بغداد.وأما حنبل، فقال: حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد في إصطبل الامير محمد بن إبراهيم أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبس ضيق، ومرض في رمضان.ثم حول بعد قليل إلى سجن العامة، فمكث في السجن نحوا من ثلاثين شهرا. وكنا نأتيه، فقرأ علي كتاب " الارجاء " وغيره في الحبس، ورأيته يصلي بهم في القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم.قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا قاما دعي بقيد، فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد.-في قصة طويلة:-قال محمد بن إبراهيم البوشنجي رحمه الله: ذكروا أن المعتصم ألان في أمر أحمد لما علق في العقابين، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته، حتى أغراه أحمد بن أبي دواد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته، قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله، فهاجه ذلك على ضربه. وقال صالح: قال أبي: ولما جئ بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شد، قطع الله يدك ! ثم يتنحى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد، قطع الله يدك ! فلما ضربت سبعة عشر سوطا، قام إلي، يعني: المعتصم، فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك ! إمامك على رأسك قائم. وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائم، وأنت في الشمس قائم! فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول ؟ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به. فرجع وجلس... إلخ ("سير أعلام النبلاء"/11 / ص 242-251/الرسالة).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقد شذّ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذّون وكان الإمام احمد وحده هو الجماعة ولما لم يتحمل هذا عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق. فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. اهـ ("إعلام الموقعين" / 3/ ص287/دار الحديث).والأخبار في هذا الباب كثيرة معروفة.

    الباب الخامس: معرفة جمال تدبير الله على عباده، وهو الحكيم العليم

    نؤمن بأن الله قد جعل لكل شيء قدرا، وهو أرحم بنا منا بأنفسنا وهو أرحم الراحمين. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].قال الإمام الحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب رحمه الله: وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27] دليل على أن كثرة المال سبب لفساد الدين إلا من عصمه الله عز وجل لم يجعله فتنة عليه، فهو معصوم مخصوص بالكرامة، كمن كان غنيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن لم يعصمه فكثرة المال له مهلكة. ("نكت القرآن"/4/112/ط. دار ابن القيم). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا.وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك. وذكر قتادة حديث: "إنما أخاف عليكم ما يخرج الله من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر؟ الحديث.وقوله: ﴿ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير﴾ أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر.(انتهى من "تفسير القرآن العظيم"/7/ص 206).وقال الإمام القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح. والامر على الجملة مفوض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى. ("الجامع لأحكام القرآن"/16/ص28).ورزق الله عام.قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: الرزق يقال للعطاء الجارى تارة دنيويا كان أم أخرويا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة. ("المفردات في غريب القرآن"/ص200/ط. المكتبة التوفيقية).حتى النصر والظفر والظهور كل ذلك من الرزق، وهو تحت تدبير الله عز وجل.قال الإمام ابن القيم رحمه الله في حكمة هزيمة الصحابة رضي الله عنهم في يوم أحد: ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير.ومنها : أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى : ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة﴾ ( آل عمران : 123 ) وقال : ﴿ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا﴾ ( التوبة : 25) فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.ومنها : أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التى توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هى من جملة أسباب وصولهم إليها.ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة وذلك مرض يعوقها عن جدها فى سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراح الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.(انتهى من "زاد المعاد"/3/ص196).في هذا البيان كله ظهر عظيم حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض وما فيهن وما بينهما، وأنه قد وضع كل شيء موضعه، وهو رد على الجهمية والأشاعرةوالجبرية نفاة الحكمة.قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فهو سبحانه بها الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلا وصوابا يمدح به وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلا وصوابا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها فمن وضع العمامة على الرأس والنعل في الرجل والكحل في العين والزبالة في الكناسة فقد وضع الشيء موضعه ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له وهو سبحانه له الخلق والأمر. فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده.(انتهى من "شفاء العليل"/ص: 180).

    الباب السادس: الرد على المعتزلة

    إن هذه الآية دليل على بطلان عقيدة المعتزلة. في استقلال العبد عن قدر الله تعالى. فاسماه: الخبير والبصير يقتضي كمال العلم والإحاطة بجميع المبصرات، وجميع تصرفاته في عباده مبنية على العلم التامّ والحكمة البالغة.وفيه رد عليهم أيضا في زعمهم أن أسماء الله أعلام محصة لا تدل على المعاني الجميلة والأوصاف الجليلة.قال الإمام الطبري رحمه الله: وقوله: ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ يقول تعالى ذكره: إن الله بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار، وغير ذلك من مصالحهم ومضارهم، ذو خبرة، وعلم، بصير بتدبيرهم، وصرفهم فيما فيه صلاحهم. ("جامع البيان"/21/ ص536).قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكذلك أسماء الرب تعالى كلها أسماء مدح ولو كانت ألفاظا مجردة لا معاني لها لم تدل على المدح وقد وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها فقال: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون﴾ (الأعراف: 18)، فهي لم تكن حسنى لمجرد اللفظ بل لدلالتها على أوصاف الكمال ولهذا لما سمع بعض العرب قارئا يقرأ: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم). قال: ليس هذا كلام الله تعالى فقال القارئ: أتكذب بكلام الله تعالى، فقال: لا ولكن ليس هذا بكلام الله فعاد إلى حفظه، وقرأ: ﴿والله عزيز حكيم﴾. فقال الأعرابي: صدقت عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم عذاب أو بالعكس ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه .وفي السنن من حديث أبي بن كعب قراءة القرآن على سبعة أحرف ثم قال: ليس منهن إلا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. إسناده صحيح. ولو كانت هذه الأسماء أعلاما محضة لا معنى لها لم يكن فرق بين ختم الآية بهذا أو بهذا.وأيضا فإنه سبحانه يعلل أحكامه وأفعاله بأسمائه ولو لم يكن لها معنى لما كان التعليل صحيحا كقوله تعالى: ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾ (نوح: 10) وقوله تعالى: ﴿للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم﴾ (البقرة: 226 -227). فختم حكم الفيء الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة والإحسان إليها بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه. والجزاء من جنس العم،ل فكما رجع إلى التي هي أحسن رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة. ﴿وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم﴾ فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع ومعنى يقصد عقبه باسم السميع للنطق به العليم بمضمونه.وكقوله تعالى: ﴿ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو اكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم﴾ (البقرة: 235 ).فلما ذكر سبحانه وتعالى التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها ورفع الجناح عن التعريض وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة ونفي مواعدتهن سرا فقيل هو النكاح والمعنى لا تصرحوا لهن بالتزويج إلا أن تعرضوا تعريضا وهو القول المعروف وقيل هو أن يتزوجها في عدتها سرا، فإذا انقضت العدة أظهر العقد ويدل على هذا قوله ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وهو انقضاء العدة ومن رجح القول الأول قال: دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح وتحريم التصريح بنفي المواعدة سرا وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة فلو كان معنى مواعدة السر هو إسرار العقد كان تكرارا ثم عقب ذلك بقوله: ﴿واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه﴾ أن تتعدوا ما حد لكم فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون. ثم قال: ﴿واعلموا أن الله غفور حليم﴾، لولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت فإنه سبحانه مطلع عليكم يعلم ما في قلوبكم ويعلم ما تعملون فإن وقعتم في شيء مما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار فإنه الغفور الحليم.وهذه طريقة القرآن يقرن بين أسماء الرجاء وأسماء المخافة كقوله تعالى: ﴿اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفوررحيم﴾ (المائدة: 98). وقال أهل الجنة: ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور﴾ (سبأ: 34) لما صاروا إلى كرامته بمغفرته ذنوبهم وشكره إحسانهم قالوا إن ربنا لغفور شكور. وفي هذا معنى التعليل أي بمغفرته وشكره وصلنا إلى دار كرامته فإنه غفر لنا السيئات وشكر لنا الحسنات. وقال تعالى: ﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما﴾ (النساء: 147) فهذا جزاء لشكرهم أي إن شكرتم ربكم شكركم وهو عليم بشكركم لا يخفى عليه من شكره ممن كفره .والقرآن مملوء من هذا والمقصود التنبيه عليه وأيضا فإنه سبحانه يستدل بأسمائه على توحيده ونفي الشرك عنه ولو كانت أسماء لا معنى لها لم تدل على ذلك كقول هارون لعبدة العجل: ﴿يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن﴾ (طه: 90 ).وقوله سبحانه في القصة: ﴿إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما﴾ (طه: 98 ).وقوله تعالى: ﴿وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾ (البقرة: 163 ).وقوله سبحانه في آخر سورة الحشر: ﴿هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون﴾ (الحشر: 22 -23) فسبح نزه نفسه عن شرك المشركين به عقب تمدحه بأسمائه الحسنى المقتضية لتوحيده واستحالة إثبات شريك له.ومن تدبر هذا المعنى في القرآن هبط به على رياض من العلم حماها الله عن كل أفاك معرض عن كتاب الله واقتباس الهدى منه اهـ المراد.(انتهى من "جلاء الأفهام"/ص172-176).

    الباب السابع: الرضى بتدبير الله تعالى

    ومما يعين العبد على معرفة جلالة حكمة الله وعلى التسلي من آلام المحن: تدبّر آيات الله الكونية والشرعية.قال الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]. وقال جل ذكره: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية علي نفسه منه. وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده ويحب الموادعة و المتاركة. وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده. وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها خير كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أصافها وله في أمساكها شر كثير لا يعرفه لانسان كما وصفه وصفه به خالقه ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يصره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه بل المعيار علي ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعةربه بظاهره وباطنه وأضر الأشياء عليه علي الاطلاق معصيته بظاهره وباطنه فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له. فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له وذا تخلي عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينا ان المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب .فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها. فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتي أثمرت أشجارها فاقبل عليها يفصل اوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتي اذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها اقبل بقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يترك الماء عليها دائما وان كان ذلك انضرّ لورقها وأسرع لنباتها ثم يعمد الى تلك الزينة التى زينت بها من الأوراق فيلقى عنها كثيرا منها لان تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقى عنها كثيرا من زينتها وذلك عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت ان ذلك إفساد لها وأضرار بها وإنما هو عين مصلحتها.وكذلك الأب الشفيق علي ولده العالم بمصلحته اذا رأى مصلحته في اخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه واذاقه الالم الشديد وان رأى شفاة في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه كان ذلك رحمة به وشفقة عليه وإن رأى مصلحته فى ان يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه لعلمه ان ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه. فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعبادة منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم نظرا منه لهم واحسانا اليهم ولطفا بهم. ولو مكنوا من الاختيار لإنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وإرادة وعملا، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته أحبوا أم كرهوا. فعرف ذلك الموقنون باسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهل به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا فى حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا ولا لمصالحهم حصلوا والله الموفق .ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة فانه لا يزال راضيا عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التى هي عين اختيار الله له وطمأنينتها الى أحكامه الدينية وهذا هو الرضا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره. فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضي فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة لا يخرج عن ذلك البته.(انتهى من "الفوائد"/ص 91-93).

    الباب الثامن: شرعية التكسب والتسبب الحلال لنيل الخير

    من باب إتمام الفائدة، نتطرق إلى سؤال مهمّ، وهو: (هل أدلة الأبواب السابقة تدل على عدم التسبب لأن الأرزاق قد كتبت وتكون تحت قدر الله؟)ليس كذلك. وقد كثرت الأدلة على التكسب الجائز. وهو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنه، من صنيع العقلاء، لأن الله تعالى قد ربط المسببات بأسبابها، وهو الحكيم العليم.قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «كان زكرياء نجاراً». (أخرجه مسلم (2379)).وعن المقدام رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده». (أخرجه البخاري (2072)).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه». (أخرجه البخاري (274)).وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول أنه سمع نبي الله صلى الله عليه و سلم يقول : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (205) والترمذي (2344) وابن ماجه (4164)/صحيح).قال الإمام ابن رجب رحمه الله: واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له ، والتوكل بالقلب عليه إيمان به ، كما قال الله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم﴾، وقال : ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل﴾، وقال : ﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله﴾. ("جامع العلوم والحكم"/ص752-753/دار ابن رجب).وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب رحمه الله: وأما ما عليه الصوفية المحرمين للكسب، فإن الله جل وعلا لما تضمن الأرزاق، وقدّر تنزيلها، لم يَعِد أحدا في كتابه أنه يوصله إليه بغير واسطة سبب، بل خلق المكاسب، وأباحها لخلقه، فقال: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 267]، وجعل رزق نبيه صلى الله عليه وسلم تحت ظل رمحه، يصل إليه بقتال العدو. فالغنائم والتجارات وأعمال اليد كلها- مكاسب. ("نكت القرآن"/4/114/ط. دار ابن القيم).وقال شيخ الإسلام رحمه الله: قال من قال من العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سببا لهذا، فإذا قال القائل : إن كان هذا مقدرا حصل بدون السبب وإلا لم يحصل، جوابه أنه مقدر بالسبب وليس مقدرا بدون السبب. ("مجموع الفتاوى"/8/ ص138-139).وقد سألنا أحد الإخوة الفضلاء عن حديث متداول عند الناس، وهو حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم: يقول الله عز وجل: «إن من عبادي المؤمنين من يريد باباً من العبادة فأكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك. وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتنقل لي حتى أحبه. ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً. إن دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت له أفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده. ذلك إني أدبر عبادي بعلمي في قلوبهم إني عليم خبير».أقول مستعينا بالله عز وجل متعاوناً مع عباده على البر والتقوى:

    الباب التاسع: حال حديث تدبير الله على العباد

    وقد سألنا أحد الإخوة الفضلاء عن حديث قدسي متداول عند الناس، وهو حديث أنس رضي الله عنه في حسن تدبير الله تعالى.لفظ حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم: عن جبريل عليه السلام: عن ربه تعالى وتقدس قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. ما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته. ولا بد له منه. وإن من عبادي المؤمنين من يريد باباً من العبادة فأكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك. وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتنقل لي حتى أحبه. ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً. إن دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت له أفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده. ذلك إني أدبر عبادي بعلمي في قلوبهم إني عليم خبير».أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ص318-129)، من طريق عبد الملك بن يحيى الحسني عن صدقة الدمشقي عن هشام الكناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه به. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه "الأولياء" (ص 9)، من طريق الحسن بن يحيى الخشني، عن صدقة الدمشقي به.وأخرجه البغوي رحمه الله في "شرح السنة" (2/ص381)، من طريق أبي حفص عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا صدقة بن عبد الله به.فمدار الحديث: صدقة بن عبد الله هو أبو معاوية السمين، ويقال أبو محمد الدمشقي، وهو ضعيف جدا. ("تهذيب التهذيب"/4/ص365).وشيخه هشام الكناني، يروي عن أنس رضي الله عنه، لا يدرى من هو؟إن كان هو هشام بن زيد بن أنس بن مالك الأنصاري روى عن جده، فهو ثقة. ("تهذيب التهذيب"/11/ص37).فالآفة هو صدقة بن عبد الله، وهو ضعيف جدا، بل قال بعض الأئمة: منكر الحديث. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما كان من حديثه مرفوعا فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلا عن مكحول فهو أسهل. ("تهذيب التهذيب"/4/ص365).وقد رواه مرفوعاً. فالحديث منكر. وأين كبار تلاميذ أنس بن مالك رضي الله عنهم من هذا الحديث؟وقد قال أبو نعيم بعد رواية الحديث: غريب من حديث أنس لم يروه عنه بهذا السياق إلا هشام الكتاني، وعنه صدقة بن عبدالله أبو معاوية الدمشقي، تفرد به الحسن بن يحيى الحسني. ("حلية الأولياء"/8/ص319).والحديث ضعفه أيضا ابن الجوزي رحمه الله في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" (1/ص32).والله أعلم بالصواب.والحمد لله رب العالمين.صنعاء، 10 شعبان 1435 هـ.

    ([1])أخرجه البخاري (6487) ومسلم (2882) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    الملفات المرفقة

  • #2
    جزاك الله كل خير،أخي الفاضل المبارك:أبا فيروز على هذا الموضوع المهم،فإخواننا مظلومون نسأل الله أن يفرج عنهم،ووالله قد أحزننا هذا كثيرا،ولم نجد ما نواسيهم به سوى الدعاء وهو أعظم شيء لمن خلصت نيته،حتى الكتابة لا نستطيعها والله يعلم ذلك.
    وهناك سؤال لمن يكرمنا بالإجابة عليه،أوينقل لنا فتاوى العلماء.
    وهو:هل يشترط إذن ولي الأمر في جهاد الدفع؟

    تعليق


    • #3
      وهناك سؤال لمن يكرمنا بالإجابة عليه،أوينقل لنا فتاوى العلماء.
      وهو:هل يشترط إذن ولي الأمر في جهاد الدفع؟


      عليك بهذا البحث تجد البغية ان شاء الله

      بحث علمي [النهاية في بيان أنّ دفع بغي الحوثيين فرض عين لا كفاية]

      تعليق

      يعمل...
      X