إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

محاسبة الأعمال والعواقب عند حلول البلايا والمصائب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محاسبة الأعمال والعواقب عند حلول البلايا والمصائب


    محاسبة الأعمال والعواقب
    عند حلول البلايا والمصائب

    كتبها
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
    عفا الله عنه



    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد لأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى لله عليه وعلى آله وسلم. وبعد:
    فقد جاءتني قلب ثلاثة أشهر رسالة أخبرنا فيها بعض الإخوة عن كثرة ما يصيبهم من المصائب، واشتكى الآخرون من ظلم الغير عليهم، فيطلبون الجواب والتسلية عما نابهم من الابتلاءات.
    ولم يتيسر لي إتمام الإجابة إلا الآن، ولا سهل إلا من جعله الله سهلاً، فعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.
    فأحثّ جميع الإخوة على محاسبة النفوس فإنها من أنفع السعي في مثل هذه النوازل. عن ميمون بن مهران رحمه الله قال: لا يكون العبد تقيّاً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه. (أخرجه هناد السري في "الزهد" /رقم (1228)/حسن الإسناد([1])).
    ولا بد من معرفة العبد أهمية هذه المحاسبة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة : معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره. وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا. ويعينه عليها أيضاً : معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه وخسارتها : دخول النار والحجاب عن الرب تعالى. فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم. فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها. فكل نفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلّهم عقلاً. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن : ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ [ آل عمران : 30 ]
    (انتهى من "إغاثة اللهفان"/ص80-81).
    أقول مستعيناً بالله رب العالمين:


    الباب الأول: من أعظم أسباب المصائب

    قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].
    قال الخازن رحمه الله: قوله عز وجل : ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع والأسقام والقحط والغلاء والغرق والصواعق وغير ذلك من المصائب، فبما كسبت أيديكم من الذنوب والمعاصي. ("تفسير الخازن"/5/ص366).
    وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ [ فاطر : 45 ]. ("تفسير القرآن العظيم"/7 /ص207).
    فعلينا جميعا أن نكثر محاسبة النفوس وننظر في كثرة خطايانا من تضييع حقوق الله وحقوق عباده.
    وقال جل شأنه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165].
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: ﴿مصيبة﴾ أي غلبة. ﴿قد أصبتم مثليها﴾ يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين. والأسير في حكم المقتول، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. أي فهزمتموهم يوم بدر ويوم أحد أيضاً في الابتداء، وقتلتم فيه قريباً من عشرين، قتلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم أحد. ﴿قلتم أنى هذا﴾ أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون ؟ ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. ("الجامع لأحكام القرآن"/4/ص264-265).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم . فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم . فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه . ("مجموع الفتاوى"/8 /ص240).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في حكمة غزوة أحد: فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى : ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم﴾ ( آل عمران : 152 )
    فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظةً وتحرزاً من أسباب الخذلان. ("زاد المعاد"/3 /ص196).
    قال الله سبحانه: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]
    قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك. وأما قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه ﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك. ("جامع البيان"/8/ص558).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالحسنة والسيئة ها هنا : النعمة والمصيبة فالنعمة من الله من بها عليك والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك. فالأول فضله والثاني عدله والعبد يتقلب بين فضله وعدله جارعليه فضله ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه. ("زاد المعاد"/3 /ص213).
    فعلينا أن نعرف أن هذه المصائب المتكاثرة المتنوعة دليل أو إشارة من الله على كثرة ذنوبنا وخطايانا، فلنكثر التوبة إلى الله تعالى. عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «... يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم». الحديث. (أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة/تحريم الظلم/(2577)).
    هذا جواب عن سؤال أحد الإخوة: إني قد أطعت الله ليلا ونهارا، فأنى هذه المصائب؟
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والإنسان يذنب دائماً، فهو فقير مذنب، وربه تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه لما وجد خير إصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولولا مغفرته لما وقى العبد شر ذنوبه، وهو محتاج دائماً إلى حصول النعمة، ودفع الضر والشر ولا تحصل النعمة إلا برحمته، ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى : ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ [ النساء : 79 ] ، والمراد بالسيئات : ما يسوء العبد من المصائب، وبالحسنات : ما يسره من النعم، كما قال : ﴿وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون﴾ [ الأعراف : 168 ]. ("مجموع الفتاوى"/1/ص42).
    وقال تعالى: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].
    قال الإمام ابن جرير رحمه الله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ يقول: وإن أصابتهم فاقة وفقر وضيق عيش. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ يقول: بما أسلفت من معصية الله عقوبة له على معصيته إياه، جحد نعمة الله، وأيس من الخير﴿فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ يقول تعالى ذكره: فإن الإنسان جحود نعم ربه، يعدد المصائب ويجحد النعم. ("جامع البيان"/21/ص556).
    فيها تنبيه مهم على سوء معاملة كثير من الناس مع ربهم حيث إنهم ينسون كثرة نعم الله عليهم، ولكن إذا ابتلاهم بسيئة وهي بسبب معاصيهم يسخطون ربهم ويستعظمون تلك الابتلاءات ويحقرون نعم الله.
    قال النسفي رحمه الله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بسبب معاصيهم ﴿فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾ ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال : ﴿إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم : 34 ] . والكفور البليغ الكفران . والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها . قيل : أريد به كفران النعمة . ("تفسير النسفي/3 /ص286).
    وقال الله سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه. ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها وسلب منافعها، أو نقصانها أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضاً. فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى : ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس﴾ [ الروم : 41 ] ونزل هذه الآية على أحوال العالم وطابق بين الواقع وبينها وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان. وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة بعضها آخذ برقاب بعض. وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
    ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكثر مما هي اليوم كما كانت البركة فيها أعظم –إلى قوله:- وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم حكما قسطاً وقضاءً عدلاً. وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا بقوله في الطاعون : «إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل» ([2]) .
    وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة.
    (انتهى من "زاد المعاد"/4/ص326).
    وهذا الفساد المذكور فتلك الآية عام شامل لما هو ضدّ الصلاح والمصلحة، عقوبة ونكالاً من الله ليتوب العباد إليه، ويتضرع بين يديه عز وجل.
    قال الإمام الشوكاني رحمه الله: والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات ، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم ، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار . ("فتح القدير"/5/ص476).
    فهذه الأدلة وأمثالها تدل على أن عموم المصائب –سواء كانت قحطاً أو فيضانات أو سيلاً أو بركاناً أو خسفاً أو زلزالاً أو ظلم الغير أو تسلط الأعداء أو غير ذلك- فإن ذلك بسبب ذنوبنا أنفسنا. إلا إن قدر أننا من المعصومين –حاشا وكلا- فالمصائب في حقنا رفعة للدرجات وزيادة للمثوبات كما هو معروف من الأدلة.
    هذا هو المعروف من فهم السلف.
    عن ابن عون رحمه الله: عن محمد بن سيرين أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة. (أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2 /ص271)([3])).
    وعن عبدالله بن السرى رحمه الله قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل علي به الدين ما هو؟ قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس. فحدث به أبا سليمان الداراني فقال: قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون؟ وكثرت ذنوبنا وذنوبك فليس ندري من أين نؤتى. (أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2 /ص271)([4])).
    فالسلف الصالح كان أحدهم مع صلاحه ودقة علومه يعرف أن ما أصابه فهو بذنوبه ويشعر أنه يستحق ذلك، فيحاسب نفسه. قال يحيى بن معين رحمه الله في قصة الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: جعل جار له يشتمه، ويقع فيه، ويقول: هذا الخوزي، ونحن في المسجد، قال: فجعل يبكي، ويقول: صدق، ومن أنا ؟ وما أنا ؟ ("سير أعلام النبلاء"/9/ص180/ط. الرسالة).
    ويحيى بن سعيد القطان رحمه الله أشهر من أن يترجم له في العلم والعبادة.
    فأنفع ما يكون للعبد إذا أصابته مصيبة أن يحاسب نفسه ثم يكثر التوبة إلى ربه ويكثر إصلاح نفسه والإحسان إلى عباد الله.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي ما حصل في أيامه: وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا فى العام الماضي. وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة، من فساد النيات، والفخر والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم فى أول الأمر راضياً منهم بالموادعة والمسالمة، شارعاً في الدخول في الإسلام. وكان مبتدئاً في الإيمان والأمان، وكانوا قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان.
    فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا، وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر، والنكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام .
    فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم الذي هو على الحال المذكورة لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف . كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة . وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له»([5]).
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/28 /ص431-432).
    فليتنبه المسلم أن كثرة المصائب تدل على تكفير خطاياه فليكثر التوبة إلى الله والخوف منه.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والمقصود أن المبطلين لا سبيل لهم على أتباع الرسول البتة قال تعالى: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾ ]النساء: 141 [
    قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم. وقيل: هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى. وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم ويستقر النصر لأتباع الرسول. وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها. ولا إشكال فيها بحمد الله فإن الله سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، فحيث كانت لهم سبيل ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به أو ارتكاب بعض ما نهوا عنه، فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله في ما أوجب تسلط عدوهم عليهم من هذه الثغرة التي أخلوها كما أخلى الصحابة يوم أحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها فوجد العدو منها طريقاً إليهم فدخلوا منها. ("الصواعق المرسلة"/4 /ص1393-1394).


    الباب الثاني: نوعي المصيبة ونوعي الصبر

    اعلم أن هناك فرقا بين المصائب العالمية –كالبراكين والزلازل والسيول- وبين المصائب الآدمية –كالقتل، والنهب، والشتم، والنميمة، والغيبة والتهمة-. فالصبر على الأولى صبر اضطراري حيث عجز الإنسان عن الانتقام لنفسه، والصبر على الثانية صبر اختياري لأنه يمكنه أن ينتقم ممن ظلمه فلم يفعله طلباً لتمام الأجر من الله. والصبر الاختياري أعظم منقبة عند الله وأكثر مثوبة للعبد من الصبر الاضتراري.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس، فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا، فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر، بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس، فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه، فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف صلوات الله عليه وسلامه وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية، ويكون أيضا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، وليسلم قلبه من الغل للناس، وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه، وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب، وأيضا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه. ("مجموع الفتاوى"/17 /ص26-27).


    الباب الثالث: سوء ظن من جهل بربه عز وجل

    إن بعض الناس يسيئون الظن بربهم حيث إنهم لما كانوا في معاصي حصلوا على رغد العيش، فلما أطاعوا الله جاءهم بعض الابتلاءات فيظنون أنها بسبب طاعتهم لله ولرسوله، وتركوا الطاعة ورجعوا إلى المعاصي. وهذا ضلال بعيد. فطاعتهم سبب للنصر والظفر والفلاح، وأما البلايا فهي لا بد منه في هذه الحياة، ولا سيما أن الناس لم يسلموا من الذنوب. فالله بتلك البلايا يمحصهم ويطهرهم، ويبتلي صبرهم وصدق طاعتهم. وهو يجزيهم بأعمالهم الصلالحات، لإنه لا يضيع أجر المحسنين.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهدياً منصوراً بنصرة الله في الدينا والآخرة كما قال تعالى : ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾ [غافر : 51] ، وقال تعالى: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون﴾ [ الصافات : 171 : 173 ] ، وإذا أصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، بل باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم يرحم وينصر، وبذنوبه يعذب ويخذل، قال تعالى : ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾ [ الشوري : 30 ] .
    ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم، قال تعالى: ﴿إن الذين تولوا منكم يوم التقي الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم﴾ [ آل عمران : 155 ] ، وقال تعالى : ﴿أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم﴾ [ آل عمران : 165] ، وبين سبحانه حكمة ابتلائهم، فقال تعالى: ﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين﴾ [ آل عمران : 137 : 141 ] ، وقال تعالى : ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ [النساء : 79 ] ، والله قدرها، وقدر كل شيء . لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه وإحسانه اليه، فالخير كله من الله، وليس للعبد من نفسه شيء، بل هو فقير لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وما أصابه من مصيبة فبذنوبه والله تعالى يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب، ويؤجرهم على الصبر عليها، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه»([6])، ولما أنزل الله تعالى قوله: ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾ [النساء : 123] ، قال أبو بكر : يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر ! وأينا لم يعمل سوءا ؟ قال : «يا أبا بكر، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به»([7]).
    وقد قص الله علينا في القرآن أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب أتباعهم المؤمنين من الأذي في الله، ثم إنه تعالى نصرهم، وجعل العاقبة لهم، وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى : ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [ يوسف : 111 ] .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/35/ص374-376).
    فلا يجوز لأحد أن يسيء الظن بربه، فهو أرحم بنا منا بأنفسنا، وهو أرحم الراحمين، ولكن علينا جميعا أن يحاسب أنفسنا. قال الإمام الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: ومن الذي أفاض هذه البركات وأتى بهذه الخيرات ومن بهذه النعم التي ملأت ما بين الأرضين والسماوات ومن ذا الذي يستخرج من ظلمات الكفر ويستنقذ من غمرات الجهل ويغفر الذنوب ويستر العيوب وينفس عن المكروب ويجيب المضطر إذا دعاه ولا يبالي أطاعه عبده أم عصاه من هو إلا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين رب العالمين إله الأولين والآخرين لا إله إلا الله هو الملك الحق المبين. ("العاقبة في ذكر الموت"/ص 318).
    فيا إخوتي، لا تكثروا من تعداد مظالم الناس عليكم، ولكن اهتموا بتذكر معايبكم وضياع أوقاتكم فيما مضى من أعماركم.
    قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله: أيها العبد : لا شيء أعز عليك من عمرك و أنت تضيعه، و لا عدو لك كالشيطان و أنت تطيعه، و لا أضر من موافقة نفسك و أنت تصافيها. و لا بضاعة سوى ساعات السلامة و أنت تسرف فيها. لقد مضى من عمرك الأطايب فما بقي بعد شيب الذوائب ؟ يا حاضر البدن و القلب غائب اجتماع العيب الشيب من جملة المصائب يمضي زمن الصبا و حب الحبائب كفى زاجرا واعظا تشيب منه الذوائب. يا غافلا فإنه أفضل المناقب أين البكاء لخوف العظيم الطالب؟ أين الزمان الذي ضاع في الملاعب ؟ نظرت فيه آخر العواقب كم في القيامة مع دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب ! من لي إذا قمت في موقف المحاسب و قيل لي : ما صنعت في كل واجب ؟
    كيف ترجو النجاة و تلهو باسر الملاعب إذا أتتك الأماني بظن الكاذب الموت صعب شديد مر المشارب يلقي شره بكأس صدور الكتائب فانظر لنفسك و انتظر قدوم الغائب يأتي بقهر و يرمي بسهم صائب يا آملا أن تبقى سليما من النوائب بنيت بيتا كنسيج العناكب؟ أين الذين علوا متون الركايب ضاقت بهم المنايا سبل المذاهب و أنت بعد قليل حليف المصايب؟ فانظر و تفكر و تدبر قبل العجايب
    (انتهى من "الكبائر"/ص 125).


    الباب الرابع: ارتقاء العبد الموفق إلى درجة الصبر، ثم الرضا، ثم الصبر

    فعلينا أن نصبر على ما أصابنا، فإن النجاة والنجاح في الصبر. قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 - 157].
    وقال جل ذكره: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: 34، 35].
    وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
    ولنتب إلى الله من ذنوبنا لننجو من هذه الشدة ونفوز بفلاح. قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح. فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم. ("مدارج السالكين"/1/ص149/دار الحديث).
    وينبغي لنا أن نرضى بما قسم الله لنا في السراء والضراء. عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: «عظم الجزاء مع عظم البلاء . إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم . فمن رضى فله الرضا . ومن سخط فله السخط». (أخرجه الترمذي (2396) وابن ماجه (4031)/حسن).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صباراً شكوراً، أو كان قد استخار الله وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على رضي الله عنه قال : «إن الله يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط». ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر. ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرا له، فكيف مع الرضا ؟
    ("مجموع الفتاوى"/10 /ص46).
    فمن وصل إلى درجة الرضا فله وفور الأجر مع حلاوة الإيمان. عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسول». (أخرجه مسلم (34)).
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة»، فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله. ففعل، ثم قال: «وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله». (أخرجه مسلم (1884)).
    وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه». (أخرجه مسلم (386)).
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: والرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له ، وبالرضا بتدبيره للعبد واختياره له . والرضا بالإسلام دينا يقتضي اختياره على سائر الأديان . والرضا بمحمد رسولا يقتضي الرضا بجميع ما جاء به من عند الله ، وقبول ذلك بالتسليم والانشراح ، كما قال تعالى : ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾. ("جامع العلوم والحكم" /شرح الحديث الثاني).
    فليحاسب العبد نفسه ولينظر إلى صدقه في قوله يوميا: (رضيت بالله رباً)؟
    فمن كان راضيا حقا عن قضاء الله يجد طعم الإيمان. ومن وفقه الله على أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما استوفى بقية الشروط فقط ذاق ما هو أعظم من طعم الإيمان، وهو حلاوته.
    عن أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار». (أخرجه البخاري (21) ومسلم (43)).
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر وهذا الميل يلازم الإيمان، بل هو روح الإيمان ولبه فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة.
    وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في "الصحيح" عنه أنه قال : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كمان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار».
    فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربا وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله. ولما كان هذا الحب التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه: كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان وثمرة الرضى: ذوق طعم الإيمان فهذا وجد حلاوة وذلك ذوق طعم، والله المستعان.
    وإنما ترتب هذا وهذا على الرضى به وحده ربا والبراءة من عبودية ما سواه وميل القلب بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضى به. فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا. ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يرض به رباً وبنبيه رسولاً وبالإسلام ديناً، فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ولكن لا يرضى به وحده معبوداً وإلهاً. ولهذا إنما ضمن رضي العبد يوم القيامة لمن رضى به ربا كما قال النبي : «من قال كل يوم : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة»([8]).
    (انتهى من "مدارج السالكين"/2 /ص186-187).
    فليعلم العبد أن ربه حكيم عليم، وقد وضع كل شيء موضعه بكمال العلم وغاية الحكمة، فلا يظلم أحمداً وهو قادر على كل شيء، وهو أرحم الراحمين. فإذا علم هذا فليحب ربه وليرض قضاءه مع عظيم رجائه.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل. فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره، وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه. فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر، وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن. والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة. استأثر الله بالمحامد والف ... ضل وولي الملامة الرجلاً
    ("طريق الهجرتين"/ص 69).
    فإذا فهمنا منزلة الرضا عن الله وقضائه، فلنرتق إلى منزلة الشكر، وما توفيقنا إلا بالله.
    فمن فهم حقيقة هذه المصائب ينبغي له أن يشكر الله على هذه النعم العظيمة وهي تكفير الذنوب والخطايا. قال الله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123].
    وقد مر بنا بعض الأدلة على تكفير الذنوب بالمصائب. وما قضاه الله لنا فهو خير لنا عنده.
    منزلة الشكر على المصيبة أرفع منازل، لأن العبد يرتقي بعلمه بحقيقة المصائب إلى مرتبة الصبر، ومن مرتبة الصبر إلى مرتبة الرضا، ومن مرتبة الرضا إلى مرتبة الشكر، ولا يبلغ هذه المراتب إلا من وفقه الله لنيل حظ عظيم.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأيضا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه، وإن ارتقى إلى الرضا، رأي أن الرضا جنة الدنيا، ومستراح العابدين، وباب الله الأعظم، وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله، وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم .
    فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور، ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها، هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينا عظيما، ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمرا قدره الله وقضاه وهو الخالق له، فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر، وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي : «لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم([9]) . وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له، وهذا يورث الشكر . وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة، وإن لم ير هذا نعمة، فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر، وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته، وهو محمود على كل ما يفعله، فإنه عليم حكيم رحيم، لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه، فهذا تسليم عبد عابد حامد، وهذا من الحمادين الذين هم أول من يدعى إلى الجنة، ومن بينهم صاحب لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وهذا يكون القضاء خيرا له ونعمة من الله عليه .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/17 /ص27-28).


    الباب الخامس: ضرورة العلم في مقابلة المصائب

    إن التنبيه لا بد منه: أن هذه المراتب لا تنال بالجهل، بل يفتقر إلى رسوخ العلم بحقيقة لا إله إلا الله، أنه لا يصدر من أقواله وأفعاله إلا الحسن والأحسن والحكمة، فهو المستحق للحمد وحده، فلا يستحق أن يعبد إلا الله وحده لا شريك له. وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده، لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له، فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة، وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله، والإله عنده هو المستحق للعبادة، بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته، أو مجرد إحسانه ونعمته، فإنهما مشهدان ناقصان قاصران، وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه؛ كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة، فإن الأول مشهد أولئك، والثاني مشهد هؤلاء، وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده، هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . ("مجموع الفتاوى"/17 /ص28-29).
    وإذا علمنا هذا كله مع الفهم، علمنا أنه لا ينبغي لنا أن نكثر الشكوى إلى فلان وفلان بعد أن عرفنا أن المصائب هي بسبب كثرة ذنوبنا، وأن الله قد اختار لنا خيراً بهذه المصائب.
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يصب منه». (أخرجه البخاري (5645)).


    الباب السادس: سلوا الله العافية

    وليس هذا البيان كله بمعنى أنه يجوز لنا التعرض للبلاء، بل علينا دعاء الحسنة والعافية.
    فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه ؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ؟». قال: فدعا الله له فشفاه. (أخرجه مسلم (2688)).
    هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أنس قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». (أخرجه البخاري (6389) ومسلم (2690)).
    فنحن نستيقن بحكمة الله ورحمته، ونسأله العفو والعافية.
    عن أوسط بن عامر رحمه الله قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم مقامي هذا عام الأول وبكى أبو بكر. فقال أبو بكر: سلوا الله المعافاة أو قال العافية فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية أو المعافاة عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا إخوانا كما أمركم الله تعالى. ("مسند أحمد" /رقم (5) /الرسالة/حسنه الإمام الوادعي رحمه الله/"الصحيح المسند" /706/ط. دار الآثار).


    الباب السابع: الجزاء من جنس العمل

    علينا في هذه المصائب المحيرة أن نتأمل أن الجزاء من جنس العمل، فلعلنا قد ارتكبنا بعض المعاصي على بعض عباد الله فارتكب الظالمون علينا بمثل ذلك، فلنحاسب أنفسنا مع التدقيق لأن الله حكم مقسط. قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]. وقال جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: 23].
    فالجزاء من جنس العمل. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: لذلك كان الجزاء مماثلاً للعمل من جنسه في الخير والشر: فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن أقال نادماً أقاله الله عثرته يوم القيامة. ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته. ومن ضارّ مسلماً ضارّ الله به. ومن شاقّ شاقّ الله عليه. ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه. ومن سمح سمح الله له، والراحمون يرحمهم الرحمن، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ومن أنفق أنفق عليه، ومن أوعى أوعي عليه. ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه، ومن جاوز تجاوز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه. فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل. ("إعلام الموقعين"/1 /ص196).
    فكما تدين تدان. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: اعلم أن لك ذنوباً بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا. فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك. فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه. (انتهى من "بدائع الفوائد" /2 /ص246/دار الكتاب العربي).


    الباب الثامن: اتركوا كثرة شكاية الناس

    لم يمكن أن نسكت ولا نشاور أحداً أبداً في المصائب، ولا سيما إذا كانت تقتضي عملا مهما فنحتاج إلى مشورة الصديق الخبير حتى يكون سعينا سديداً رشيداً. ولكن المذموم الإكثار من شكاية المخلوق فيشقّ عليهم أو يشعر ضعف الاعتماد على الله أو يومئ وجود الغيبة أو النميمة أو غير ذلك من أضرار الشكاية.
    قال الله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام مع شدة حزنه من مكائد بعض أولاده: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86].
    قال النسفي رحمه الله في تفسير الآية: أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه فخلوني وشكايتي . –إلى قوله:- ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وأعلم من رحمته أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. ("تفسير النسفي"/2/ص85).
    أترون حزن أحدكم أعظم من حزن نبي الله يعقوب عليه السلام. اقرؤوا الآيات التي قبلها. ومع ذلك لم يشك إلا إلى الله أرجم الراحمين.
    قال الخازن رحمه الله: قوله تعالى: ﴿وتولى عنهم﴾ يعني: وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم ﴿وقال يا أسفى على يوسف﴾ الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة، لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جيداً جدد حزنه على أخيه مالك :
    يقول أتبكي كل قبر رأيته ... لقد ثوى بين اللوى والدكادك
    فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك
    فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن ، وقيل : إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين، فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة. وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله: ﴿يا أسفا على يوسف﴾ فقال: هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك. وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله: ﴿يا أسفا على يوسف﴾ معناه: يا رب ارحم أسفي على يوسف. وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى، ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل. فلما كان قوله: ﴿يا أسفا على يوسف﴾ شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه. وقيل: إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال: ﴿يا أسفا على يوسف﴾ أي: أشكوا إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق، بدليل قوله: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾.
    ﴿وابيضت عيناه من الحزن﴾ أي: عمي من شدة الحزن على يوسف. ﴿قال﴾ يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه ﴿إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله﴾ أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر ، قال ابن قتيبة : البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هماً فإذا ذكره لغيره كان بثاً فالبث أشد الحزن والحزن الهم([10]). فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكوا حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم .
    -إلى قوله:- ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء على فقدهما، وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئاً مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى الله عز وجل، بدليل قوله: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام . وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذماً ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال: «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا»([11]) فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحاً لا حرج فيه على أحد من الناس([12]). وقوله: ﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ يعني: أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه.
    (انتهى من "تفسير الخازن"/4 /ص45-48).
    فبعد هذا البيان علمنا أنه لا ينبغي لنا أن نكثر أن نشكو من ربنا عز وجل إلى المخلوقين.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقتَه وضرورتَه فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك. وفي ذلك قيل:
    إذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم
    والعارف إنما يشكو إلى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، فهو ناظر إلى قوله تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم﴾، وقوله: ﴿وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾، وقوله: ﴿أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم﴾. فالمراتب ثلاثة، أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.
    (انتهى من "الفوائد"/ص 87-88).
    ففي هذه المصائب المتنوعة أقول لإخوتي المسلمين عموماً والسلفيين خصوصاً كما قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50، 51].
    فلا بد من الجمع بين التوبة وإخلاص العبادة، لا يركن إلى نفسه ولا إلى التمائم ولا المقابر ولا السحرة ولا الكهنة. قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه. فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها. ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون﴾. وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها. ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه اتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة. ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل. هذه سنة الله في عباده فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد([13])، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد([14]). فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها، وبالله التوفيق. ("الفوائد"/ص 53).


    الباب التاسع: انظروا إلى مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

    إن الله قد اختار ورسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم ببعض المصائب لينال بها أرفع الدرجات وأعظم المناقب وأعلا المنازل، ووفقه ليكون على أروع الأمثال في الصبر الجميل ليكون أحسن أسوة لأمته المرحومة. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
    وقد أفادني أخونا الفاضل أبو الفتح الريمي حفظه الله بكلمات في السيرة مهمة، وسأهذبها مع شيئ من بسط الكلام فيها وهي بعض الأسئلة المهمة المتعلقة بمصائب الإنسان:
    الأول: هل فقدت أحد والديك ؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ يتيم الأب والأم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: 6].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ثم قال تعالى يعدد نعمه عل عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ألم يجدك يتيما فآوى﴾، وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل: بعد أن ولد، عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب. ("تفسير القرآن العظيم"/8/ص426).
    الثاني: هل فقدت أحد أولادك ؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي كل أولاده في حياته باستثناء فاطمة رضي الله عنها توفيت بعده بأشهر قليلة!! وقد مر بنا بكاؤه عند موت ثمرة فؤاده إبراهيم. بل شهد وفاة سبطه. عن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رسول إحدى بناته يدعوه إلى ابنها في الموت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب». فأعادت الرسول أنها قد أقسمت لتأتينها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، فدفع الصبي إليه ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه فقال له سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». (أخرجه البخاري (7377) ومسلم (923)).
    الثالث: هل اتُّهمت في عرضك ؟ هل اتُّهمت في عقلك أو خلقك؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتهم بالسحر، والكذب، والجنون، وتفريق الناس، والجور في تقسيم الأموال وغير ذلك. وشدة ألم قلبه صلى الله عليه وسلم تُعلم من قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97 - 99].
    فلم يأمره الله بالفتور عن العبادة، بل جعلها شفاء ودأب له إلى يوم لقائه.
    وقد اتهم أيضاً صلى الله عليه وسلم في عرض زوجته عائشة رضي الله عنها. وهذا يؤذيه أشد الأذى. عن عائشة رضي الله عنها: ... فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً. وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي». (أخرجه البخاري (2661) ومسلم (2770)).
    ثم برأها الله من فوق سبع سموات، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
    الرابع: هل أنت مديون ؟
    إن رسول الله مات ودرعه مرهونة عند يهودي ! عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير. (أخرجه البخاري (2916) ومسلم ()).
    وليس دينه لمجرد التمتع والتنعم الدنيوي ولكن لأمر لا بد منه من نفقات عياله، أو لجهاد في سبيل الله عز وجل. وقد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء الأدب من أناس بسبب ذلك فصبر وأحسن. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه، فقال: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه». وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه. قال: «اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء». (أخرجه البخاري (2390) ومسلم (1601)).
    الخامس: هل ضاق بك الحال فلا تملك قوت يومك ؟
    بيت الرسول تمرّ عليه شهور لم يوقد فيه نار !! عن عروة: عن عائشة أنها كانت تقول : والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه و سلم نار. قال: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت: الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من ألبانها فيسقيناه. (أخرجه البخاري (2567) ومسلم (2972)).
    السادس: هل تطلقت إحدى قريباتك ؟
    رسول الله تطلقت ابنتيه !! قال ابن كثير رحمه الله: وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة بن أبي لهب كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة بن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنزل الله: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد﴾، فتزوج عثمان ابن عفان رضي الله عنه رقية وهاجرت معه إلى أرض الحبشة. ويقال: إنه أول من هاجر إليها، ثم رجعا إلى مكة كما قدمنا، وهاجرا إلى المدينة وولدت له ابنه عبد الله. فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه فمات، وبه كان يكنى أولاً ثم اكتنى بابنه عمرو. وتوفيت وقد انتصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة وهو زيد بن حارثة وجدهم قد ساووا على قبرها التراب. وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وضرب له بسهمه وأجره. ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضاً. ولهذاكان يقال له "ذو النورين". ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئاً. وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان». وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لو كن عشرا لزوجتهن عثمان»([15]).
    (انتهى من "البداية والنهاية"/5 /ص308-309).
    السابع: هل تغربت من بلدك مختارا أو مجبورا ؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرده قومه. قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ [محمد: 13].
    عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه سلم واقفا على الحزورة فقال: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». (أخرجه الترمذي (3925)/صحيح).
    الثامن: هل تعرضت لمحاولة قتل متعمدة ؟
    إن رسول الله تعرض لها من اليهود والمشركين !! قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]
    وقد سمت اليهودية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه رضي الله عنهم، فمات أحدهم، وسلم الله رسوله مع بقاء تأثير السم في جسده الطاهرة حتى يأتيه الوفاة. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر. فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم». (أخرجه البخاري (4428)).
    ذكر هذه القصة الحافظ ابن مفلح رحمه الله: ... وعاش هو صلى الله عليه وسلم سنين على حاله قبل الأكل يتصرف كما كان، فلم تقتله اليهود بفعلها كما قتلت غيره ، وأحسن الله سبحانه صنيعه إليه على جاري عادته تعالى ، فأظهر أثراً بعد سنين إكراماً له بالشهادة. ("الآداب الشرعية"/3 /ص203).
    التاسع: هل آذاك أحد جيرانك ؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آذاه المشركون والمنافقون واليهود، فيصبر حيث أمره الله! عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال في قصة أذية عبد الله بن أبي: ... وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله عز وجل: ﴿ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا﴾ الآية وقال الله: ﴿ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم﴾ إلى آخر الآية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم. فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا. (أخرجه البخاري (4566)).
    العاشر: هل عصاك من تحبّ وسمع كلام أعدائك ؟
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عصاه عمه أبو طالب وأطاع أبا جهل !!عن المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله». فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب، وأبي أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك». فأنزل الله عز و جل: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾ [التوبة / الآية 113 ] وأنزل الله تعالى في أبي طالب: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين﴾ [القصص / آية 56 ] . (أخرجه البخاري (1360) ومسلم (24)).
    الحادي عشر: هل تعرضت لإهانة من أحد ؟
    إن رسول الله شتمه قومه ووضعوا فوقه أحشاء. عن عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئاً. لو كان لي منعة. قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رأسه ثم قال: «اللهم عليك بقريش» ثلاث مرات، فشقّ عليهم إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة. ثم سمى: «اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط» وعدّ السابع فلم يحفظ. قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر. (أخرجه البخاري (240) ومسلم (1794)).
    الثاني عشر: هل شعرت بتضييق الرزق عليك ومحاصرة من حولك؟
    إن رسول الله حاصره قومه في الشعب مدة ثلاث سنين !!
    عن الزهري رحمه الله قال: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم علانية. فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله. فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً. فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش، فاجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتل. وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل. فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق فلا، يتركوا لهم طعاماً يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه، فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه و سلم. (كما في "البداية والنهاية"/3 /ص84).
    رواية الزهري مرسلة، ولكن لها شواهد كثيرة، والقصة ثابتة مقبولة عند الأئمة.
    السؤال الثالث عشر: هل تحمل همّ وعناء أمرٍ ما ؟
    إن رسول الله حمل همّ الدعوة والرسالة !!قال الله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5].
    عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : كان نبي الله صلى الله عليه و سلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه. (أخرجه مسلم (1690)).
    وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ ﴿والمجاهدون في سبيل الله﴾. قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان رجلا أعمى. فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل: ﴿غير أولي الضرر﴾. (أخرجه البخاري (2832)).
    هذا يدل على ثقل الوحي. وانظر أيضا إلى ثقل أعباء الدعوة المقتضية على الصبر على أذية المنافقين. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام و ما يعاملهم من الصفح و العفو و الاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له: ﴿ولا تطع الكافرين و المنافقين ودع أذاهم﴾ [الأحزاب: 48] لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم و خشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم و قد صرح صلى الله عليه و سلم لما قال ابن أبي: ﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقين: 8] و لما قال ذو الخويصرة (اعدل فإنك لم تعدل) و عند غير هذه القصة : «إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» (([16])). فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من أصحابه قد قتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام. ("الصارم المسلول"/ص 243).
    السؤال الرابع عشر: هل كذّبك أحد وردّ قولك ؟
    إن رسول الله كذّبه قومه وردّوا قوله !! قال الله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 4، 5].
    وعن طارق المحاربي رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في سوق ذي المجاز وعليه حلة حمراء، وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، وهو يقول : يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : غلام بني عبد المطلب ، فقلت : من هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة ؟ قالوا : هذا عبد العزى أبو لهب. (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم (160)، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح"/(4426))).
    السؤال الخامس عشر: هل تؤلمك أسنانك ؟
    إن رسول الله كسرت رباعيته !!عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما أنه يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد ؟ فقال : جرح وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه. فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجنّ. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. (أخرجه البخاري (5722) ومسلم (1790)).
    السؤال السادس عشر: هل تعبت من عبادة الله ؟
    إن رسول الله تفطرت قدماه من طول القيام . فعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله؟ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟» فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. (أخرجه البخاري (4837) ومسلم (2820)).
    قد يكون أصابك واحداً أو أكثر من هذه المتاعب، فحملت ما حملت من الهموم والكدر . فكيف بمن اجتمعت فيه جميعها ؟؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد . ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد . ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال». (أخرجه ابن ماجه (151)/صحيح).
    ومع هذا كله ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيداً متفائلاً لأنه وجد راحته في طاعة ربه. فقد قال في أمر الصلاة: «أرحنا بها يا بلال» (([17])).
    قلت –بالله توفيق-: هذه هي اللذة الحقيقية والسعادة الحقيقية: قرب العبد من ربه وتلذذه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، مع مشاهدة رحمته وفضله وحكمته وعدله وآياته في الآفاق وفي نفسه. وأما سوى ذلك من الملذات الدنيوية فسرعان ما تزول، مع كثرة الآفات فيها، وضررها أكثر من نفعها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذى لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه. ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك . ("مجموع الفتاوى"/1/ص24-25).


    الباب العاشر: الرد على تخرصات الشامتين

    أما ما ذكره بعض أهل الأهواء أن أهل دماج أصابهم هجوم الرافضة والتهجير من بلدهم بسبب ذنوبهم ومكرهم بالدعوة السلفية وكلامهم في العلماء، فهذه التخرصات باطلة قطعاً.
    لا يهجم علينا الرافضة إلا لقيام علماء دماج ومن معهم بواجبات الدين من الردود على أهل الباطل، وكشف مكرهم بدين الله والمسلمين والبلاد الإسلامية، وثباتهم على طاعة ولاة الأمور، بهداية القرآن والسنة على طريقة السلف.
    هذا الجعل الرافضة تبغضهم وتبين لهم مكايد ليلاً ونهاراً ، حتى تحاصرهم وتقاتلهم. وأهل السنة والجماعة لا يخافون في الله لومة لائم، ويصدعون بالحق ولو كره المبطلون.
    عن أبي ذر قال : أمرني خليلي صلى الله عليه و سلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومه لائم، وأمرني ان أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش. (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (21453)/صحيح).
    فإذا كان العبد قام بالحق على ضوء الأدلة فهجم عليه العدو، فلا يقال إنه أصابه الهجوم بذنوبه، بل هذا من لوازم الصدع بالحق كما حصل في الأنبياء وورثتهم. بل هذا يدل على صحة سبيلهم.
    وليس علماء دماج يمكرون بالدعوة السلفية، ولا يفترون علىها كما قاله الشيخ ربيع هداه الله، ولا يتكلمون في العلماء بالباطل كما قاله محمد الوصابي، ولكن الثبات على الحق وعدم الخضوع لأغراض الحاسدين هو الذي جعل أهل الباطل يتبرمون منهم ويسعون في إهلاكهم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر مراتب إغواء الشيطان للعباد: فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه، سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني، فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال. ("بدائع الفوائد"/2/ص485).
    والحمد لله الذي نجا علماء دماج ومن معهم من كيد الرافضة على شدة هجومهم، بل قتل الله من الرافضة أعداداً يتعجب منها الناظر، واجتبى الله من أهل السنة شهداء –إن شاء الله-،([18]) وأظهر الله دين أهل السنة والجماعة وجعلهم في عزّ رافعين رؤوسهم، وخرجوا من دماج بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، ﴿وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيم﴾ [آل عمران: 174].
    ولم يخرجوا من دماج إلا طاعة لولاة الأمور. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع». (أخرجه مسلم (1847)/دار ابن الجوزي)).
    وفتح الله لكثير من علماء دماج ومستفيديهم مراكز كثيرة لم تفتح لهم قبل، فانتشرت الدعوة السلفية الصافية النقية أضعاف أضعاف ما كانت قبل، فصارت فرحة لأهل الخير وحسرة على أهل الشر، ولله الحمد والمنة.
    والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
    دار الحديث بالفتح صنعاء
    19 رجب 1435 هـ.





    فهرس الرسالة
    Contents
    مقدمة. 2
    الباب الأول: من أعظم أسباب المصائب.. 4
    الباب الثاني: نوعي المصيبة ونوعي الصبر.. 14
    الباب الثالث: سوء ظن من جهل بربه عز وجل.. 15
    الباب الرابع: ارتقاء العبد الموفق إلى درجة الصبر، ثم الرضا، ثم الصبر.. 19
    الباب الخامس: ضرورة العلم في مقابلة المصائب.. 26
    الباب السادس: سلوا الله العافية. 28
    الباب السابع: الجزاء من جنس العمل.. 30
    الباب الثامن: اتركوا كثرة شكاية الناس... 32
    الباب التاسع: انظروا إلى مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 39
    الباب العاشر: الرد على تخرصات الشامتين.. 51
    فهرس الرسالة. 54




    ([1]) سنده حسن. أخرجه هناد السري رحمه الله فقال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران به.
    أبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان التيمي، صدوق.
    وأما جعفر بن برقان هو أبو عبد الله الكلابي، روايته عن الزهري تضعف، فأما حديثه عن ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم فثابت صحيح كما قاله الدارقطني. (راجع "تهذيب التهذيب"/2 /ص73).

    ([2]) أخرجه مسلم (2218) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

    ([3]) في سنده أبو بكر بن مالك، وهو أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب بن عبد الله أبو بكر القطيعي. قال محمد بن أبي الفوارس: أبو بكر بن مالك كان مستوراً صاحب سنة ولم يكن في الحديث بذاك. ("تاريخ بغداد"/2 /ص209).

    ([4]) في سنده عبدالله بن محمد بن جعفر هو أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ الثقة.
    وعمر بن بحر الأسدي هو عمر بن بحر أبو حفص الأسدي، لا ينزل من درجة الصدق. (راجع "تاريخ دمشق"/43 /ص545).
    وأحمد بن أبي الحواري هو أحمد بن عبد الله بن ميمون بن العباس بن الحارث الغطفاني التغلبي أبو الحسن بن أبي الحواري، ثقة. ("تهذيب الكمال"/1 /ص369).
    وعبدالله بن السري هو أنطاكي صدوق روى مناكر كثيرة. فهو يصلح للشواهيد ما لم تكن روايته مما أنكرت عليه.
    فأرجو أن الأثر مع ما تقدم صار حسناً.

    ([5]) أخرجه أحمد (12181) ومحمد القضاعي في مسنده (596) وأبو يعلى (4217) عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول: «عجبت للمؤمن ان الله لم يقض قضاء الا كان خيرا له». سنده لم ينزل عن درجة الحسن.
    وله شاهد من حديث صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له». (أخرجه مسلم (2999)).

    ([6]) أخرجه البخاري (5640) ومسلم (2572) عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري (5641 و5642) ومسلم (2573) عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.

    ([7]) أخرجه الترمذي (3039) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف، يروي عن مولى ابن سباع، وهو مجهول.
    وله متابع أخرجه ابن حبان (2901) عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي : عن أبي بكر الصديق. ولم يسمع منه.
    وله شاهد من رواية يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه ابن حبان (2917). ويزيد بن أبي يزيد مجهول الحال.
    وله شاهد آخر من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، أخرجه البيهقي ("شعب الإيمان" (9814)). وفي سنده روح بن أسلم، وهو ضعيف.
    فالحديث حسن لغيره.
    وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾ [النساء /123] بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها». (أخرجه مسلم (2574)).

    ([8]) أخرجه الإمام أحمد (18967/ط. الرسالة) عن أبي سلام عن رجل من خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سنده سابق بن ناجية وهو مجهول الحال كما يعلم من ترجمته في "تهذيب التهذيب" رقم (797).
    وله شاهد في شرعية هذا الذكر كما أخرجخ الإمام أحمد (11102/ط. الرسالة) عن أبي سعيد رضي الله عنه، وفي سنده ابن لهيعة سيء الحفظ.
    وأحاديث الباب تشهد على شرعية هذا الذكر.

    ([9]) قد مرّ بنا ذكر لفظ الحديث ومصدره.

    ([10]) هناك فرق لطيف بين الحزن والهم والغم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهمّ، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغمّ والله أعلم. ("الفوائد"/ص 26).

    ([11]) أخرجه البخاري (1303) ومسلم (2315) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئراً لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه. ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

    ([12]) قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الله. لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال : «إن هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحك وقال : رأيت أن الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع . وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله تعالى كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل . كما قال تعالى : ﴿ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة﴾ [ البلد : 17 ] ، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والمرحمة . ("مجموع الفتاوى"/10/ص46-47).

    ([13]) أخرجه البخاري (6345) ومسلم (2730) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم».
    قال ابن بطال رحمه الله: وحدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند الشيخ أبي نعيم أكتب عنه الحديث، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبي بكر بن علي، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد فبغَّاه عند السلطان، فأمر بسجنه، وكان ذلك في شهر رمضان. قال أبو بكر: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لأبي بكر بن على: يدعو بدعاء الكرب الذي في "صحيح البخاري" حتى يفرج الله عنه، فأصبحت فأتيت إليه وأخبرته بالرؤيا، فدعا به، فما بقى إلا قليلاً حتى أخرج من السجن. ففي هذه الرؤيا شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكتاب البخاري بالصحة بحضرة جبريل - صلى الله عليه وسلم -، والشيطان لا يتصور بصورة النبي في المنام. ("شرح صحيح البخاري"/لابن بطال /19/ص148).

    ([14]) قال الله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
    وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له». (أخرجه أحمد بن حنبل (1462/الرسالة) والترمذي (3505)/حسن من أجل يونس بن أبي إسحاق).

    ([15]) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2646) والطبراني في "الكبير" (1063) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ضعيف.

    (([16])) أخرجه البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر رضي الله عنه.

    (([17])) أخرجه أبو داود (4985) عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من الصحابة رضي الله عنه. سنده صحيح.

    ([18]) وأبقى أجسادهم كما في –كما أخبرنا عدد من الإخوة في قضية المطر هذا الشهر: رجب 1435 هـ- علامات على كرماتهم عند الله وعلى صحة سبيلهم-، كما حصل في إخوانهم في الحصار الأول.
    الملفات المرفقة

  • #2
    جزاك الله كل خير أخي الفاضل أبا فيروز على هذا الموضوع القيم،وعلى كل ماتبذله نصرة للدين ونفعا للمسلمين.

    تعليق

    يعمل...
    X