محكمة بين ذوي الحِجر
في أفضل أصناف زكاة الفِطر
تقديم فضيلة الشيخ العلامة الفقيه:
أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام اليمني الإبي
حفظه الله
كتبها الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن الإندونيسي الجاوي غفر الله له
في أفضل أصناف زكاة الفِطر
تقديم فضيلة الشيخ العلامة الفقيه:
أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام اليمني الإبي
حفظه الله
كتبها الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن الإندونيسي الجاوي غفر الله له
صورة تقديم فضيلة الشيخ العلامة الفقيه أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام الإبي حفظه الله
[IMG]file:///C:/Users/Asus/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image002.jpg[/IMG]
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم فضيلة الشيخ العلامة الفقيه أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام الإبي حفظه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله أما بعد: فقد اطلعت على كتاب أخينا الفاضل الشيخ أبي فيروز الأندونيسي وفقه الله وثبّته: الكتاب الذي سماه «محكمة بين ذوي الحجر في أفضل أصناف زكاة الفطر» فرأيته قد جمع فيه جمعاً طيباً في الكلام على هذه المسألة فوفّقه الله ونفع به وبكتابه.تقديم فضيلة الشيخ العلامة الفقيه أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام الإبي حفظه الله
وهذه المسألة المذكورة لم يأت تنصيص فيها عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فالصحيح في هذه المسألة أن الأفضل هو إخراج ما كان أنفع للناس، وإليه أحوج. وتختلف هذا باختلاف البلدان.
وأما البرّ فقد ظهر لنا أن الواجب إخراج صاع منه كسائر الأقوات. فبعد اطلاعنا وجمعنا لطرق الحديث تبيّن لنا أن الأحاديث المرفوعة الواردة بنصف صاع كلها معلّة وغير محفوظة، وكذلك الآثار عن الخلفاء الراشدين أُعلّت ولم تثبت. وبجمع الطرق يتبيّن ذلك، وبالله التوفيق.
كتبه
أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني
يوم الثلثاء الموافق 19/شوال/1436 هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف وفقه الله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثات بدعة وكل بدعة ضلالة.
فقد أخبرني بعض الإخوة عن اختلاف الحاصل بين بعض الدعاة في أفضل أصناف زكاة الفطر، فطلب مني بيان الصواب في ذلك.
فأقول مستعيناً بالله:
الباب الأول: ذكر المذهب الأول أن الأفضل إخراج التمر
قبل شروع ذكر المذهب الأول؛ نذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة». (أخرجه البخاري (1503) ومسلم (984)).
ثم نذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب». (أخرجه البخاري (1506) ومسلم (985)).
ولا شك أن إخراج التمر أو البرّ أو الأقط أو غير ذلك من أقوات البلد في زكاة الفطر مجزئ على الراجح، فمن أخرج واحداً منها بعد استيفاء الشروط الشرعية فإن زكاته مقبولة مأجورة إن شاء الله.
وأما من حيث الأفضلية؛ اختلف العلماء في ذلك قديماً وحديثاً.
فالمذهب الأول: أن التمر هو الأفضل.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: واختيار أبي عبد الله إخراج التمر. وبهذا قال مالك. قال ابن المنذر: واستحب مالك إخراج العجوة منه. واختار الشافعي، وأبو عبيد إخراج البرّ. وقال بعض أصحاب الشافعي: يحتمل أن يكون الشافعي قال ذلك؛ لأن البرّ كان أغلى في وقته ومكانه لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمناً وأنفسها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد سئل عن أفضل الرقاب، فقال: «أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها»([1]).
وإنما اختار أحمد إخراج التمر اقتداء بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – واتباعاً له. وروى بإسناده، عن أبي مجلز، قال: قلت لابن عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر» قال: إن أصحابي سلكوا طريقاً، وأنا أحب أن أسلكه.
وظاهر هذا أن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم، وسلوك طريقتهم، وأحب أحمد، أيضا الاقتداء بهم واتباعهم.
وروى البخاري، عن ابن عمر، أنه قال: «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر، صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فعدل الناس به صاعا من بر» فكان ابن عمر يخرج التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر، فأعطى شعيراً.
ولأن التمر فيه قوة وحلاوة وهو أقرب تناولاً وأقلّ كلفة، فكان أولى.
فصل: والأفضل بعد التمر البرّ. وقال بعض أصحابنا: الأفضل بعده الزبيب؛ لأنه أقرب تناولاً وأقل كلفة فأشبه التمر. ولنا: أن البر أنفع في الاقتيات، وأبلغ في دفع حاجة الفقير. وكذلك قال أبو مجلز لابن عمر: البر أفضل من التمر. يعني أنفع وأكثر قيمة. ولم ينكره ابن عمر وإنما عدل عنه اتباعاً لأصحابه، وسلوكاً لطريقتهم. ولهذا عدل نصف صاع منه بصاع من غيره([2]).
وقال معاوية: إني لأرى مُدّين من سمراء الشام يعدل صاعاً من التمر. فأخذ الناس به([3]). وتفضيل التمر إنما كان لاتباع الصحابة، ففيما عداه يبقى على مقتضى الدليل في تفضيل البرّ. ويحتمل أن يكون الأفضل بعد التمر ما كان أعلى قيمة وأكثر نفعاً.
(انتهى من "المغني"/ لابن قدامة /3/ص84-85).
فتبيّن من هذا أن عند الأئمة مالك وأحمد وابن قدامة رحمهم الله: أن الأفضل: التمر اتباعاً ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قادرين على إخراج البرّ. وأيضاً: لأن التمر فيه قوة وحلاوة وهو أقرب تناولاً وأقل كلفة، فكان أولى.
ثم الأفضل بعد التمر البرّ عند ابن قدامة، لأن البر أنفع في الاقتيات، وأبلغ في دفع حاجة الفقير. وقال: ويحتمل أن يكون الأفضل بعد التمر ما كان أعلى قيمة وأكثر نفعاً.
والأثر الذي ذكره، فإنه أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" (2390) عن أبي مجلز، قال: قلت لابن عمر: قد أكثر الله الخير، والبرّ أفضل من التمر، فقال: «إني أعطي ما كان يعطي أصحابي، سلكوا طريقاً فأريد أن أسلكه». سنده صحيح.
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصّ على الأفضلية لما يجوز لأحد خلافه. ولكن لم ينصّ أيّة هذه الأجناس أفضل. وحديثا الباب لا يدلان على ترتيب الأفضلية من هذه الأجناس. وليس فعل بعض الصحابة دليلاً على أن التمر هو الأفضل على الإطلاق في الشرع. وأما اختيار ابن عمر رضي الله عنهما يدلّ على أن ذلك هو الأفضل عنده.
ولا شك أن التمر من أفضل الغذاء. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: والتمر حارّ في الثانية، يابس في الأولى. وقيل: رطب فيها. وقيل: معتدل، وهو غذاء فاضل حافظ للصحة لا سيما لمن اعتاد الغذاء به، كأهل المدينة وغيرهم، وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردة والحارة التي حرارتها في الدرجة الثانية، وهو لهم أنفع منه لأهل البلاد الباردة؛ لبرودة بواطن سكانها، وحرارة بواطن سكان البلاد الباردة؛ ولذلك يكثر أهل الحجاز واليمن والطائف وما يليهم من البلاد المشابهة لها من الأغذية الحارّة ما لا يتأتى لغيرهم، كالتمر والعسل. ("زاد المعاد" /4/ص89).
الباب الثاني: ذكر المذهب الثاني أن الأفضل التخيير
قال بعض الأئمة: يخير الرجل في إخراج هذه الأصناف ما يسهل له ويحبه في زكاة الفطر بدون الترتيب. وهذا أحد أقوال الإمام الشافعي رحمه الله.
قال القاضي الماوردي رحمه الله: اختلف قول الشافعي في الأقوات المدخرة، هل هي على الترتيب أو على التخيير؟ فله فيه قولان: أحدهما: نص عليه في بعض كتبه أنها على التخيير، والمزكي مخيَّر بين جميعها، فمن أيها أخرج أجزأه، لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعاً من شعير فجاء بلفظ التخيير. ولأن زكاة الفطر مواساة، والتخيير فيها أيسر. والتسوية بين جميعها أرفق، فعلى هذا من أي قوت أخرجها أجزأه. وبعض الأقوات أولى من بعض. فالتمر والبر أولى من غيرهما. ("الحاوي الكبير" /3/ص 378).
وليس في حديث ابن عمر ما يقتضي الترتيب.
وقد سألت فضيلة شيخنا الفقيه عبد الرقيب الكوكباني حفظه الله: قد علمنا أن زكاة الفطر بأي قوت من قوت البلد يجزئ. ولكن هل نفهَمُ من حديث ابن عمر: (صاعا من تمر أو صاعا من شعير... ) أن الأفضل مطلقاً في زكاة الفطر هو التمر؟ ولا سيما ابن عمر كان يلتزم بإخراج التمر؟
فأجاب حفظه الله: لا نفهم منه ذلك لأن غالب قوتهم آنذاك كان هو الشعير والتمر. وما من شك أن إخراج المنصوص عليه في الروايات ألصق بالامتثال. والحديث يدل على التخيير. انتهى.
الباب الثالث: ذكر المذهب الثالث أن الأفضل إخراج البرّ
فقد اختار بعض الأئمة أفضلية البرّ.
قال الماوردي رحمه الله: والوجه الثاني: وقد مال إليه الشافعي أن البر أولى. وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب عليه السلام. ومن الفقهاء إسحاق بن راهويه. ("الحاوي الكبير" /3/ص 378).
وفي "المجموع شرح المهذب" (6/ص 134): والمشهور ترجيح البر مطلقاً. والبر خير من الأرز بالاتفاق. وفي التمر والشعير وجهان (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني: ترجيح التمر. (وأصحهما) عند البغوي ترجيح الشعير، وهذا أصح لأنه أبلغ في الاقتيات. انتهى.
قال ابن القيم رحمه الله: فالخبز أفضل الأقوات. ("زاد المعاد"/4/ص271).
وليس في كلام ابن القيم أنه يرجح إخراج البر أو الشعير على غيرهما في الزكاة، وإنما تنصيص على أفضلية غذاء هذا النوع.
الباب الرابع: ذكر المذهب الرابع أن الأفضل الأغلى ثمن والأشق على النفوس
بعض العلماء ذكر أن الأفضل الأغلى ثمن والأشق على النفوس.
قال أبو حنيفة: أفضل ذلك أكثره ثمناً. ("اختلاف الأئمة العلماء" /لابن هبيرة/1/ص 214).
وقال محمد بن أحمد القفال الشافعي رحمه الله: قال القاضي أبو الطيب رحمه الله: مِن أصحابنا مَن قال: الأفضل أغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس. ("حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء" /3/ص 110).
فقد جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه الدالة على أن الأفضل إعطاء الأحبّ للنفوس والأشقّ عليها إخراجها والأعلى ثمناً.
عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله»، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها». (أخرجه البخاري (2518) ومسلم (84)).
وعن أبو هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى». (أخرجه البخاري (1419) ومسلم (1032)).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك». (أخرجه البخاري (1787) ومسلم (1211)).
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المقل، وابدأ بمن تعول». (أخرجه أحمد (8702) وأبو داود (1677) /صحيح).
الباب الخامس: ذكر المذهب الخامس في أن الأفضل ما كان أنفع
لا بدّ من سؤال: ماذا نقول في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى». (أخرجه البخاري (1426) ومسلم (1034))، لأن ظاهره يخالف بعض تلك الأحاديث؟
الجواب: نؤمن أن جميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين بعضها بعضاً، ولا يختلف بعضها ببعض. فلا يجوز لنا أخذ بعض مع ترك الآخر مع صحة الكل وإمكان الجمع.
قال الإمام محمد بن الأمير الصنعاني رحمه الله: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» وقوله «أفضل الصدقة جهد المقل» أنه يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية. ("سبل السلام" /1/ص 544).
وقال شمس الحق آبادي رحمه الله في الجمع بين الحديثين: أن الفضيلة تتفاوت بحسب الأشخاص وقوة التوكل وضعف اليقين. ("عون المعبود" /4/ص227).
ومن عادات النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينصّ الخيرية والأفضلية وهي تكون بحسبها.
مثال: حديث الله بن عمرو بن العاص، يقول: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده». (أخرجه البخاري (11) ومسلم (40) وهذا لفظه).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». (أخرجه البخاري (12) ومسلم (39)).
كيف نجمع بين الهذين الحديثين؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جواب مشهور: وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين فيمكن أن يراد في الجواب الأول تحذير من خشي منه الإيذاء بيد أو لسان فأرشد إلى الكف وفي الثاني ترغيب من رجي فيه النفع العام بالفعل والقول فأرشد إلى ذلك وخص هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت لما كانوا فيه من الجهد ولمصلحة التأليف. ("فتح الباري" /1/ص 56).
فعُلم أن من عادات النبي صلى الله عليه وسلم: أن يجعل الأفضلية على حسب الأحوال. والأدلة على ذلك كثيرة.
فمن هنا علمنا أن أفضلية الأعمال والأشياء تكون على عظيم الانتفاع؛ فالأفضل هو الأنفع، وذلك يختلف بختلاف الأماكن وحاجة سكانها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال. فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقاً في حق جميع الناس كما تقدم. وقد يكون أفضل لبعض الناس لأن انتفاعه به أتمّ. وهذه حال أكثر الناس؛ قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله. ("مجموع الفتاوى"/22/ص 348).
وما مثال هذه المسألة؟
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الفصل الثالث: في قراءة القرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء. هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً. وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة –إلى قوله:- وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المفيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة من استغفار أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه. وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعا وخشوعا وابتهالا، فهذا يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة فيعطى كل ذي حق حقه ويوضع كل شيء موضعه : فللعين موضع وللرجل موضع وللماء موضع وللحم موضع وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله تعالى الموفق .
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوما: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال : إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد أنفع له وإذا كان دنسا فالصابون والماء الحار أنفع له فقال لي رحمه الله تعالى : فكيف والثياب لا تزال دنسة ؟ ومن هذا الباب أن سورة ﴿قل هو الله أحد﴾ تعدل ثلث القرآن ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص .
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء فهذا أصل نافع جدا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الفضل الذي بينهما أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه وتنزله في مرتبته وتفويته لما هو أهم منه أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل لإمكان تداركه والعود إليه. وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه فالاشتغال به أولى ـ وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس ـ وإن كان القرآن أفضل لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت والله تعالى الموفق .
("الوابل الصيب"/121-122).
فمن هنا: أن المذهب الخامس في الأفضلية: ما كان أسدّ لحاجة أساسية لاقتيات أهل ذلك البلد. وذلك لأن من حِكمِ زكاة الفطر: تسديد حاجة الفقراء للأقوات.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات». (أخرجه أبو داود (1609) وابن ماجه (1827) /حسن).
قال العلامة علي القاري رحمه الله: (وطعمة للمساكين) أي: ليكون قوتهم يوم العيد مهيئا تسوية بين الفقير والغني في وجدان القوت ذلك اليوم. ("مرقاة المفاتيح" /4/ ص1299).
قال القاضي الماوردي رحمه الله لما ذكر أقوال العلماء في أفضلية أجناس زكاة الفطر: ولو قيل: إن أولاهما مختلف باختلاف البلاد لكان مذهبا،ً ولكان له في الاعتبار وجه. ("الحاوي الكبير" /3/ص 378).
فمن أجل هذا نقول: لا شك أن التمر والبر أفضل من الرزّ من حيث الغذاء. ولكن إذا كان أغلب أقوات أهل البلد رزّاً فهو الأفضل لهم في إخراج زكاة الفطر، لأنه أنفع له وأسدّ لحاجتهم الأساسية من حيث الطعام، وأنسب لحكمة زكاة الفطر.
فمن أجل ذلك ذهب الإمام ابن عثيمين رحمه الله إلى أن الرزّ أفضل لأنه صار قوت أغلب الناس، يعني: الرزّ أكثر انتفاعاً عند كثير من الناس وأسهل طلباً.
قال رحمه الله: لا شك في جواز إخراج الرز في زكاة الفطر، بل ربما نقول: إنه أفضل من غيره في عصرنا؛ لأنه غالب قوت الناس اليوم، ويدل لذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري قال: «كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر» ، فتخصيص هذه الأنواع ليس مقصودا بعينها، ولكن لأنها كانت طعامهم ذلك الوقت. ("مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" /18/ص283).
وأيهما الأفضل: البرّ أم الرزّ؟
لا شكّ أن البرّ أحسن من الرزّ غذاءً. ولكن إذا كان قوت البلد رزّاً فالرزّ أفضل من البرّ لأن المقصود: مواساة الفقراء، فإذا كان قوت فقراء ذلك البلد رزّاً كان الرزّ أنسب لهم.
قال الإمام ابن باز رحمه الله: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرض زكاة الفطر على المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، أعني صلاة العيد. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب». وقد فسر جمع من أهل العلم الطعام في هذا الحديث بأنه البر، وفسره آخرون بأن المقصود بالطعام ما يقتاته أهل البلاد أيا كان، سواء كان برا أو ذرة أو دخنا أو غير ذلك. وهذا هو الصواب؛ لأن الزكاة مواساة من الأغنياء للفقراء، ولا يجب على المسلم أن يواسي من غير قوت بلده. ولا شك أن الأرز قوت في المملكة وطعام طيب ونفيس، وهو أفضل من الشعير الذي جاء النص بإجزائه. وبذلك يعلم أنه لا حرج في إخراج الأرز في زكاة الفطر.
والواجب صاع من جميع الأجناس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربع حفنات باليدين المعتدلتين الممتلئتين، كما في القاموس وغيره، وهو بالوزن يقارب ثلاثة كيلو غرام، فإذا أخرج المسلم صاعاً من الأرز أو غيره من قوت بلده أجزأه ذلك، وإن كان من غير الأصناف المذكورة في هذا الحديث في أصح قولي العلماء، ولا بأس أن يخرج مقداره بالوزن وهو ثلاثة كيلو تقريباً.
(انتهى "مجموع فتاوى ابن باز" /14/ ص200-201).
فالرزّ وإن لم ينصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو داخل تحت قوله: (صاعاً من طعام) كما مرّ بنا. فإخراج الرزّ في زكاة الفطر لمن قوت بلده رزّاً يجزئ على الراجح.
قال الإمام مالك رحمه الله: يؤدي صدقة الفطر ما كان جل عيش أهل ذلك البلد، ويؤدي من القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والزبيب والتمر والأقط. ("مختصر اختلاف العلماء" /لأبي جعفر الطحاوي/1/ص 475).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن زكاة الفطر مما يقتات الرجل ومما فيه زكاة (قال) : وأي قوت كان الأغلب على رجل أدى منه زكاة الفطر. ("الأم" /للشافعي /2/ص72).
وقال الشيخ الإسلام رحمه الله: وعلى هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير. فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز، أو يخرجون من التمر والشعير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض ذلك فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى، حر أو عبد، من المسلمين» . وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده، وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: ﴿من أوسط ما تطعمون أهليكم﴾ [المائدة: 89] . ("الفتاوى الكبرى لابن تيمية" /2/ص157).
نعم، من حِكم الزكاة –الفطر والمال-: مواساة الفقراء، كما مرّ بنا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن الشارع أوجب الزكاة مواساة للفقراء، وطهرة للمال، وعبودية للرب، وتقربا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته. ("إعلام الموقعين" /2/ص 69).
فلا يبلغ هذه الحكمة كما ينبغي إلا بإخراج ما يناسب الفقراء من قوت بلدهم أنفسهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو أصح الأقوال؛ فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء كما قال تعالى: ﴿من أوسط ما تطعمون أهليكم﴾ . والنبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير؛ لأن هذا كان قوت أهل المدينة ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه كما لم يأمر الله بذلك في الكفارات. وصدقة الفطر من جنس الكفارات هذه معلقة بالبدن. ("مجموع الفتاوى" /25/ص 69).
فهذا المذهب الخامس هو الراجح: أن الأفضل: إخراج القوت الأنفع والأنسب لأهل ذلك البلد. والله أعلم
الباب السادس: شرعية إخراج البرّ أو الحنطة في زكاة الفطر
إذا قال قائل: إن البرّ والحنطة لم يذكرا في حديثي ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهم في إخراج زكاة الفطر، فكيف يشرع لنا إخراجه، بل يكون أفضل عند بعض الأئمة؟
سنذكر إن شاء الله الكلام على البرّ، وهو الحنطة. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: البرّ وهي الحنطة. ("الاستذكار" /3/ص 268).
الجواب مستعيناً بالله من وجوه:
الوجه الأول: أن البرّ أو الحنطة داخلان تحت لفظة الطعام في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. (أخرجه البخاري (1506) ومسلم (985)).
بل جعل بعض الأئمة: أن البرّ ونحوه هو المراد في لفظة "الطعام" في هذا الحديث.
قال الإمام القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله: وقوله: «صاعاً من طعام»، والطعام في كلام العرب واقع على كل ما يتطعم، ولكنه في عرف الاستعمال واقع على قوت الناس من البر. وهذا يدل على أن إخراج البر في زكاة الفطر جائز. وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء. وقال بعض من لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر: (لا يجزئ إخراج البر في الزكاة)، وهذا خلاف لا يعتد به؛ لأنه خلاف الإجماع. والدليل على ما نقوله حديث أبي سعيد هكذا «كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير» والطعام إذا أطلق توجه بعرف الاستعمال إلى البر، يدل على ذلك أن القائل: (اذهب بنا إلى سوق الطعام) لا يفهم منه سوق الجزارين، ولا سوق الزيت، ولا سوق شيء من الأطعمة إلا البر. فإن قيل: هذا اللفظ يستعمل في الشعير على حسب ما يستعمل في البر، فالجواب: أن مثل هذا لا ينطلق على سوق الشعير إذا انفرد، وإنما ينطلق على سوق القمح، والشعير على سبيل التبع للقمح، وأما سوق الشعير إذا انفرد فإن هذا الاسم لا ينطلق عليه. ووجه ثان: أنه قال: (صاع من طعام أو صاع من شعير) فصرح أن المراد بالطعام غير الشعير كما بُيِّن أن المراد بالشعير غير ما بعده، لما أورد بينهما لفظ التقسيم أو التخيير. ولا يقسم الشيء في نفسه، كما لا يخير بينه وبين نفسه. فإن قيل: فقد روى حفص بن ميسرة هذا الحديث عن زيد بن أسلم فقال: «كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعا من طعام». قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر؛ إن ذلك كان قوتهم الغالب في ذلك الزمان، ولا يدل على أن اسم الطعام ينطلق عليه.
(انتهى من "المنتقى شرح الموطإ" /2/ص187-188).
وقال ابن بطال رحمه الله: لم يختلف العلماء أن الطعام المذكور فى هذا الحديث هو البرّ. ("شرح صحيح البخاري"/ لابن بطال /3/ص 564).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: فبان بذكره الطعام هنا أنه أراد البر والله أعلم. ("الاستذكار" /3/ص 269).
وقال الإمام النووي رحمه الله: إن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة. ("شرح النووي على مسلم" /7/ص 60).
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: وقول أبي سعيد: (صاعا من طعام) يريد به البر. –إلى قوله:- وقد كانت لفظة "الطعام" تستعمل في "البر" عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فهم منه سوق البر، وإذا غلب العرف بذلك نزل اللفظ عليه. لأن الغالب أن الإطلاق في الألفاظ: على حسب ما يخطر في البال من المعاني والمدلولات. وما غلب استعمال اللفظ عليه فخطوره عند الإطلاق أقرب. فينزل اللفظ عليه. وهذا بناء على أن يكون هذا العرف موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ("إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" /1/ص 388).
وذهب الآخرون بأن المراد بالطعام ليس برّاً أو حنطةً.
قال ابن حجر رحمه الله: وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وهي قوت غالب لهم. ("فتح الباري" /3/ص 373).
اختلف العلماء في معنى الطعام، ولكن نستفيد من الجميع أن المراد بالطعام عند إطلاق العرب: القوت. فلا شكّ أن البرّ أو الحنطة أو القمح داخل في ذلك. فبان بذلك أن إخراج البرّ ونحوه مجزئ في زكاة الفطر. ويوضّح ذلك ما يلي:
الوجه الثاني: أن أحاديث ابن عمر، وأبي سعيد، وابن عباس رضي الله عنهم تشير إلى أن المخرج في زكاة الفطر هو قوت البلد.
والبرّ أو الحنطة أو القمح من أقوات البلدان فيجوز إخراجه في زكاة الفطر. قال الإمام الشافعي رحمه الله: ويؤدي الرجل من أيّ قوت كان الأغلب عليه من الحنطة، أو الذرة، أو العلس، أو الشعير، أو التمر، أو الزبيب وما أدى من هذا أدى صاعا بصاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ("الأم"/للشافعي /2/ص 73).
وقال النووي رحمه الله: فأجمعوا أنه يجوز البرّ والزبيب والتمر والشعير، إلا خلافاً في البر لمن لا يعتد بخلافه. ("شرح النووي على مسلم" /7/ ص60).
الوجه الثالث: أن البرّ أو القمح أو الحنطة مذكورة في أقوال السلف في زكاة الفطر، كما سيأتي ذكره إن شاء الله:
فصل: أحاديث مرفوعة في شرعية إخراج البر أو الحنطة أو القمح في زكاة الفطر
هناك أحاديث مرفوعة في شرعية إخراج البر أو الحنطة في زكاة الفطر.
الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (1493): حدثني محمد بن يعقوب بن إسحاق القلوسي، ثنا بكر بن الأسود، ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حض على صدقة رمضان، على كل إنسان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من قمح».
محمد بن يعقوب بن إسحاق القلوسي لم يدر من هو؟
بكر بن الأسود هو بكر بن الأسود العائذي الكوفي، صدوق. ("لسان الميزان" /2/ص47).
عباد بن العوام ثقة.
سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي، صدوق، ولكنه كثير الخطأ في أحاديث الزهري. قال أبو يعلى: قلت لابن معين عن حديث سفيان بن حسين عن الزهري في الصدقات فقال: لم يتابعه عليه أحد ليس يصح. ("تهذيب التهذيب" /4/ص 108).
هذا الحديث ضعيف من أجله، ومن أجل محمد بن يعقوب بن إسحاق القلوسي.
الحديث الثاني: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (26936): حدثنا عتاب بن زياد، قال: حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدين من قمح، بالمد الذي تقتاتون به.
وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (2377) والطبراني في الأوسط (8972) من طريق أبي الأسود، أنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن فاطمة ابنة المنذر به.
وأخرجه الحارث كما في "بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث" (293) عن يحيى بن إسحاق، ثنا ابن لهيعة به.
ومدار السند إلى ابن لهيعة وهو سيء الحفظ، ولكن روى عنه ابن المبارك.
قال عبد الغني بن سعيد الأزدي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح بن المبارك وابن وهب والمقري. وذكر الساجي وغيره مثله. ("تهذيب التهذيب" /5/ص 378).
والراجح أن روايتهم عنه ليست بحجة، ولكنها قوية بالنسبة إلى غيرها فهي بتقوية يسيرة ترتقي إلى الحُسن.
الحديث الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال الترمذي في سننه (674) والدارقطني في سننه (2080) من طريق سالم بن نوح، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة: «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح، أو سواه صاع من طعام».
سالم بن نوح هو ابن أبي عطاء البصري، صدوق له أوهام. ("تهذيب التهذيب"/3/ص443).
ابن جريج ثقة مدلس. وقال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل: لم يسمع بن جريج من عمرو بن شعيب. ("تهذيب التهذيب" /6/ص 405).
فالحديث منقطع.
وقد تابع سالماً بن نوح: علي بن صالح. فأخرجه الدارقطني في سننه (2083) من طريق علي بن صالح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً.
علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني أبو محمد ويقال أبو الحسن الكوفي، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /7/ص332).
وخالفهما: عبد الرزاق الصنعاني فأخرج في مصنف (5800): عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال: ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، الولد للفراش وللعاهر الحجر» ثم بعث صارخا يصرخ في أهل مكة: «ألا إن زكاة الفطر حق واجب على كل مسلم من ذكر وأنثى حر، أو عبد صغير أو كبير، حاضر أو باد، مدان من حنطة، أو صاع مما سوى ذلك من الطعام».
وتابع عبد الرزاق: عبد الوهاب، فأخرجه الدارقطني في سننه (2082) من طريق عبد الوهاب، ثنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن شعيب: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صارخا يصرخ على كل مسلم ثم ذكر مثله.
وهو عبد الوهاب بن همام بن نافع. قال فيه أبو حاتم: كان أغلى في التشيع من أخيه عبد الرزاق. وقال ابن معين: كان ثقة مغفلاً. ("الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال" /ص 278).
فالحديث معقطع بين ابن جريج وبين عمرو بن شعيب، وهو أيضاً معضل بين عمرو وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحديث ضعيف جداً.
الحديث الرابع: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
أخرجه الدارقطني في سننه (2084): حدثنا ابن مخلد، ثنا أحمد بن عبد الله الحداد، وحمدان بن علي، قالا: نا داود بن شبيب، ثنا يحيى بن عباد السعدي وكان من خيار الناس، نا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صارخا ببطن مكة: ألا إن زكاة الفطر حق واجب على كل مسلم من ذكر وأنثى حر، أو عبد صغير أو كبير، حاضر أو باد، مدان من حنطة، أو صاع مما سوى ذلك من الطعام.
في سنده يحيى بن عباد، وهو ضعيف.
قال العقيلي: يحيى بن عباد البصري صاحب حديث ابن جريج في صدقات الفطر، فدلت روايته على أنه واه. ("الضعفاء الكبير"/4/ص 416).
نعم، خالفه عبد الوهاب، فرواه مقطوعا على عطاء.
قال الدارقطني في سننه (2085): حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي، حدثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب، ثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: مدين من قمح، أو صاعا من تمر أو شعير، الحر والعبد فيه سواء.
فرواية يحيى بن عباد هذه تعتبر منكرة.
قال البيهقي رحمه الله: وهذا حديث ينفرد به يحيى بن عباد، عن ابن جريج هكذا، وإنما رواه غيره عن ابن جريج عن عطاء من قوله في المدين، وعن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سائر ألفاظه. ("السنن الكبرى" /للبيهقي /4/ص 289).
ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما طريق آخر:
قال ابن أبي شيبة في "مصنف" (10334): حدثنا أبو بكر قال: حدثنا سهل بن يوسف، ويزيد بن هارون، عن حميد، عن الحسن، عن ابن عباس، قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل حر أو عبد صغير أو كبير ذكر أو أنثى صاعا من تمر، أو شعير، أو نصف صاع من بر».
الحسن البصري له يسمع ابن عباس.
قال بهز بن أسد: لم يسمع الحسن من بن عباس. وكذلك قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أيضا. قال ابن المديني في قول الحسن: (خطبنا بن عباس بالبصرة): إنما هو كقول ثابت قدم علينا عمران بن حصين. ("جامع التحصيل" /ص 163).
فالحديث منقطع.
الحديث الخامس: حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه
قال الدارقطني في سننه (2115): حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق ، ثنا أحمد بن رشدين ، ثنا سعيد بن عفير ، ثنا الفضل بن المختار ، حدثني عبد الله بن موهب ، عن عصمة بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم «في صدقة الفطر مدان من قمح ، أو صاع من شعير ، أو تمر أو زبيب ، فمن لم يكن عنده أقط وعنده لبن فصاعين من لبن».
محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق هو أبو العباس العتكي وكان ثقة. ("تاريخ بغداد" /2/ص 176).
أحمد بن رشدين هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد أبو جعفر المصري، ضعيف جداً. ("لسان الميزان"/1/ص 257).
سعيد بن عفير هو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /4/ص 74).
الفضل بن المختار، قال فيه أبو حاتم: أحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. ("ميزان الاعتدال" /3/ص 358).
عبد الله بن موهب هو أبو خالد الشامي الهمداني ثقة. ("تهذيب التهذيب" /6/ص47).
عصمة بن مالك ذكره بعض المؤرخين في الصحابة.
فالحديث ضعيف جدّاً من أجل أحمد ابن رشدين والفضل بن المختار.
الحديث السادس: حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه
قال الطبراني في "المعجم الكبير" (4806): حدثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي، ثنا علي بن نصر بن علي، ثنا عثمان بن اليمان، ثنا عبد الصمد بن سليمان قال: حدثني يحيى بن عبد الحميد، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا زيد، أعط زكاة رأسك مع الناس وإن لم تجد إلا صاعاً من حنطة».
محمد بن محمد الجذوعي القاضي هو ابن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله الأنصاري القاضي المعروف بالجذوعي، وكان ثقة. ("تاريخ بغداد" /4/ص 336).
علي بن نصر بن علي هو الجهضمي ثقة. ("تهذيب التهذيب" /7/ص 390)
عثمان بن اليمان هو ابن هارون. ذكره ابن حبان في "الثقات" (8/ص 450) وقال: ربما أخطأ.
عبد الصمد بن سليمان هو الحافظ، لقبه عبدوس. ("تهذيب التهذيب"/6/ص 326).
يحيى بن عبد الحميد هو الحماني. واختلفت أقوال الحفاظ فيه اختلافاً شديداً بين متهم له بسرقة الحديث وبين مدافع عنه. كما في "تهذيب التهذيب". قال الحافظ في "تقريب التهذيب" (ص 593): حافظ إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث.
عبد الله بن يزيد هو بن زيد بن حصين. قال الدارطقني: ثقة وأبوه وجده صحابيان. ("تهذيب التهذيب" /6/ص 79).
فالحديث ضعيف.
الحديث السابع: حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري
قال الإمام أحمد في المسند (23663): حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: وقال ابن شهاب: قال عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيومين فقال: «أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر وعبد، وصغير وكبير».
روي هذا الحديث من طرق مختلفة. والصواب كما قال الدارقطني: والمحفوظ عن الزهري، عن سعيد مرسلاً. ("علل الدارقطني" /9/ص 107).
الحديث الثامن: حديث ابن عمر رضي الله عنهما
قال الإمام البيهقي رحمه الله في "السنن الكبرى" (4 /ص166): وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ انبأ أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ثنا أحمد بن علي الخزاز ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ثنا سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكوة الفطر صاعا من تمر أو صاعاً من بر علي كل حر أو عبد ذكر أو انثى من المسلمين.
سعيد بن عبد الرحمن الجمحي اختلفت أقوال الأئمة فيه والخلاصة أنه صدوق له أوهام. فمن أجل ذلك قال ابن عدي: له غرائب وأرجو أنها مستقيمة وإنما يهم في الشيء بعد الشيء فيرفع موقوفا ويصل مرسلا لا عن تعمد. ("تهذيب التهذيب"/4 /ص50).
وهذه الزيادة: (أو صاعاً من بر) تفرد بها الجمحي عن الثقات الذين رووا أصل الحديث عن عبيد الله بن عمر العمري.
فهم: يحيى بن سعيد القطان (أخرجه الإمام أحمد (5174) والبخاري (1512))،
و عبد الله بن نمير وأبو أسامة (أخرجه مسلم (2326))،
ومحمد بن عبيد (أخرجه الإمام أحمد (5781) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4 /ص159)،
وغيرهم.
فزيادة سعيد بن عبد الرحمن الجمحي هذه تعتبر منكرة أو شاذّة.
فلذلك قال البيهقي رحمه الله: كذا قاله سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وذكر البر فيه ليس بمحفوظ. ("السنن الكبرى" /4 /ص166).
وللحديث وجه آخر:
أخرجه الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار (2874) فقال: حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن ابن شوذب ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من برّ» قال : ثم عدل الناس نصف صاع من بر بصاع مما سواه.
ابن شوذب هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن شوذب البلخي، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /5 /ص225).
ولكنه تفرد بزيادة (صاعاً من برّ) عن حماد بن زيد.
وقد رجح الإمام البخاري رواية حماد بن زيد فقال في صحيحه (1511): حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير. فعدل الناس به نصف صاع من بر. فكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطي التمر فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرا. فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان ليعطي عن بني. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها الذين يقبلونها. وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
وكذلك أخرجه مسلم في صحيحه (984) من طريق يزيد بن زريع عن أيوب بغير هذه الزيادة.
وكذلك أخرجه النسائي (2499) من طريق عبد الوارث عن أيوب بدون الزيادة.
وكذلك أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (2545) من طريق الشافعي عن سفيان قال : حدثنا أيوب، بدون الزيادة.
وغيرهم من الثقات الكثير لم يروا هذه الزيادة عن حماد، كما أخرجه الطحاوي.
فهي تعتبر شادّة.
فلذلك قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: ولا نعلم أحداً من أصحاب أيوب تابع ابن شوذب على زيادة هذا الجنس في هذا الحديث ، مع أن كل واحد من حماد بن زيد ومن حماد بن سلمة حجة عليه في ذلك ، وليس هو بحجة عليهما فيه ، فكيف وقد اجتمعا جميعا على خلافه في ذلك ، وفي حديثه ما يدل على خطئه فيه ، وهو قوله : « ثم عدل الناس نصف صاع من بر بصاع مما سواه». فكيف يجوز أن يعدلوا صنفاً مفروضاً ببعض صنف مفروض معه ، وإنما يجوز أن يعدل المفروض مما سواه مما ليس بمفروض . ثم قد روى هذا الحديث أيضا عن نافع غير أيوب ، كما رواه حماد وحماد عن أيوب ، لا كما رواه ابن شوذب عنه ، منهم عبيد الله بن عمر العمري . ("مشكل الآثار"/7 /ص423).
الحديث التاسع: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قد مر بنا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه متفق عليه مراراً في هذه المسألة ولم يذكر فيه البر ولا القمح ولا الحنطة.
والحديث أيضاً أخرجه الإمام أبو داود في سننه (1616)، ثم قال: رواه ابن علية وعبدة وغيرهما عن ابن إسحق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض عن أبي سعيد بمعناه وذكر رجل واحد فيه عن ابن علية: (أو صاعاً من حنطة) وليس بمحفوظ.
ثم قال في رقم (1617): حدثنا مسدد أخبرنا إسمعيل ليس فيه ذكر الحنطة. قال أبو داود: وقد ذكر معاوية بن هشام في هذا الحديث عن الثوري عن زيد بن أسلم عن عياض عن أبي سعيد: (نصف صاع من برّ) وهو وهم من معاوية بن هشام أو ممن رواه عنه. انتهى.
خلاصة الكلام:
لا يثبت من المرفوعات في ذلك شيء. قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه و سلم يعتمد، عليه ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه. (كما في "فتح الباري"/ لابن حجر /3 /ص374).
وقال الإمام البيهقي رحمه الله: وقد وردت أخبار عن النبى -صلى الله عليه وسلم- في صاع من برّ، ووردت أخبار في نصف صاع ، ولا يصح شيء من ذلك، قد بينت علة كل واحد منها في "الخلافيات". ("سنن البيهقي"/2 /ص97).
فليس في الحديث الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ينصّ على إخراج زكاة الفطر بالبرّ أو القمح، فضلاً عن أن يكون نصف صاع منه يعدل صاعاً من غيره.
ولكن الصواب: أنه يجوز إخراج صاع منه في زكاة الفطر لأنه من أقوات البلدان، بل من أنفسها كما تقدم.
فصل: مرسل سعيد بن المسيب رحمه الله
نعم، أخرجه المزني في "السنن المأثورة للشافعي" (378) عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد القرشي، وعبد الرحمن بن خالد يعني ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من حنطة.
يحيى بن حسان هو ابن حيان التنيسي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/11/ص197).
ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ ص284).
وله متابع آخر:
قال أبو داود في "المراسيل" برقم (121): حدثنا قتيبة، أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب به.
والسند صحيح كالشمس.
ثم وجدت كلام الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله: وأما حديث سعيد بن المسيب الذي رواه أبو داود: فإسناده صحيح كالشمس، لكنه مرسل، ومرسل سعيد حجة. ("تنقيح التحقيق"/3/ ص128).
والحمد لله على توفيقه.
وله متابع آخر: أخرج ابن أبي شيبة في "مصنف" (10337): حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب يرفعه أنه سئل عن صدقة الفطر، فقال: «عن الصغير والكبير، والحر والمملوك، نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير».
وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري، ولكنه في الشواهد.
وله متابع آخر: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (2370): ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، أنا عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن صدقة الفطر مدان من قمح، أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، على كل حر ومملوك».
في سنده عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه لين.
فالخلاصة: السند إلى سعيد بن المسيب صحيح.
بقي سؤال: هل مرسل سعيد بن المسيب حجة بنفسه؟
قال الإمام العلائي رحمه الله: وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل- يقول: مرسلات ابن المسيب صحاح، لا ترى أصح منها. وقال يحيى بن معين: أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب. فهذا كله يعضد أن مراد الشافعي رحمه الله بكلامه استثناء مراسيل ابن المسيب وقبولها مطلقاً من غير أن يعتضد بشيء مما تقدم. وقد حكى القفال المروزي عن الشافعي أنه قال في كتاب "الرهن الصغير": إرسال ابن المسيب عندنا حجة وذلك أيضا يؤيد ما اخترناه. ("جامع التحصيل"/ص 47).
وقال رحمه الله: وقد قال في "مختصر المزني": إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن. ("جامع التحصيل"/ص 46).
هذا يدل عل قوة مراسيل الإمام سعيد بن المسيب في الجملة، ولكن تنصيصه على نصف صاع من البر في الظاهر يخالف ما اشتهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معروف من حديثي ابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ولا شك أنهما أعلم بما حدث في زمن النبي منه، ولا سيما أن سعيد بن المسيب لم يصرّح بمن أخبره بتعديل نصف صاع من البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا بد من تحقيق مسألة مراسيل سعيد بن المسيب.
فالإمام الشافعي رحمه الله يَقبَل مراسيل ابن المسيب لما كانت القرائن تدل على ثبوتها. وهذا لا يدل على أن جميع مراسيله معصومة من الخطأ. فما دام سعيد بن المسيب لم يصرح بالواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فالاحتمال قائم، وليست مراسيله في قوة الحديث المسند الصحيح.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله في تحقيق كلام الشافعي رحمه الله: فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً ، وقبل واحتج به .
ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائط فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به .
ولو عضده حديث متصل صحيح ، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً .
وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون كتلقى عن غير مقبول الرواية .
وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل، ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه ، ثم أرسله ولم يسم الصحابي . فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات .
وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم ، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء ، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً .
("شرح علل الترمذي" /لابن رجب /ص 199).
ومن هنا علمنا أن الشافعي قد يترك الاحتجاج بمرسل كبار التابعين إذا كانت عارية من القرائن المقوية.
قال الإمام البيهقي رحمه الله: وترك من مراسيل كبار التابعين:
- ما لم يقترن به ما يشده من الأسباب التي ذكرها في كتاب ((الرسالة)) .
- أو وجد من الحجج ما هو أقوى منها.
("رسالة البيهقي إلى الجويني"/ص88).
ثم أتى ببعض الأمثلة في الاحتجاج بمراسيل كبار التابعين إذا عاضدها معاضد، إلى أن قال:
وترك عليهم من مراسيلهم ما لم يجد معه ما يؤكده، أو وجد ما هو أقوى منه؛ كما لم يقل:
- بمرسل سعيد بن المسيب حيث روى عنه -بإسناد صحيح-: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر مدين من حنطةٍ)) .
- ولا بمرسله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا بأس بالتولية في الطعام قبل أن يستوفي، ولا بأس بالشرك في الطعام قبل أن يستوفي)) .
- ولا بمرسله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دية كل ذي عهد [في عهده] ألف دينار)) .
- ولا بمرسله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ضرب أباه، فاقتلوه)) .
- ولا بسائر ما روي عنه من مراسيله التي لم يقترن بها من الأسباب -التي ذكرها الشافعي في ((الرسالتين)) جميعاً- ما يشدها، أو وجد في معارضتها ما هو أقوى منها.
وإذا كان الأمر على هذا؛ فتخصيص مرسل ابن المسيب بالقبول دون من كان في مثل حاله من كبار التابعين، على أصل الشافعي، لا معنى له، والله أعلم.
(انتهى من "رسالة البيهقي إلى الجويني"/ص94-96).
هذا بيان واضح أن مراسيل سعيد بن المسيب مقبولة في الجملة، فإذا ظهرت بيّنةٌ على خطأ بعضها رُدّت.
وقد نقل الإمام ابن رجب رحمه الله كلام الإمام البيهقي مختصراً إلى قوله: (ولم يقل بمرسل ابن المسيب في زكاة الفطر بمدين من حنطة . ولا بمرسلة في التولية قبل أن يستوفي . ولا بمرسلة في دية المعاهد، ولا بمرسلة (( من ضرب إباه فاقتلوه )) ، لما لم يقترن بها من الأسباب ما يؤكدها، أو لما وجد من المعارض لها ما هو أقوى منه ). ("شرح علل الترمذي" /لابن رجب /ص 199).
وقد أقرّ ذلك للبيهقي واحتج به.
وهذا ليس بغريب لأن أحداً غير معصوم من الخطأ. لا أحد من ثقات المحدثين إلا وله أوهام وأخطاء.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : وكان ابن مهدي ذكر له عن ابن المبارك عن ورقاء عن سعيد بن جبير إذا أقر بالحد ثم أنكر لم يقم عليه، فأنكره إنكاراً شديداً، ثم نظر فوجده في كتابه.
وقال مهنا لأحمد: كان غندر يغلط. قال: أليس هو من الناس؟
وقال البويطي : سمعت الشافعي يقول : قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ إن الله تعالى يقول : ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً﴾. فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه.
وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول: ما رأيت أحداً أقلّ خطأ من يحيى بن سعيد –يعني: القطان-، ولقد أخطأ في أحاديث.
قال أبو عبد الله: ومن يعرى من الخطإ والتصحيف؟
ونقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد: كان وكيع يحفظ عن المشايخ ولم يكن يصحف، وكل من كتب يتكل على الكتاب يصحف .
ونقل إسحاق أيضا عن أحمد : ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسام.
وقال عباس الدوري : سمعت يحيى يقول : من لا يخطئ في الحديث فهو كذاب.
وقال عبد الرحمن بن مهدي : من يبرئ نفسه من الخطإ فهو مجنون.
وقال مالك: ومن ذا الذي لا يخطئ ؟
(انتهى من "الآداب الشرعية" /1 /ص245-246).
بهذا البيان علمنا أن أحداً لا يسلم من الخطأ غير الأنبياء والمرسلين. فمن أجل ذلك: فقد حكم الإمامُ الشافعي رحمه الله بخطأ سعيد بن المسيب في هذا الحديث مع عظيم نصرة الشافعي لمراسيل سعيد.
قال الإمام المزني رحمه الله: قال الشافعي رحمه الله: خطأٌ حديث المدّين. ("السنن المأثورة للشافعي" /للمزني/تحت رقم (361)).
وبعد أن ذكر كلام الشافعي هذا، قال الإمام البيهقي رحمه الله: هو كما قال، فالأخبار الثابتة تدل على أن التعديل بمدّين كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ("السنن الكبرى"/4 /ص169).
فصل: مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله رحمهم الله
أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3415): حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي الجيزي قال: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: حدثنا حيوة بن شريح قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب أنه سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقولون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو بمدين من حنطة.
والربيع بن سليمان الأزدي هو أبو محمد الأعرج ثقة. ("تهذيب التهذيب"/3/ص 245).
أبو زرعة وهب الله بن راشد هو وهب الله بن راشد، أبو زرعة المصري، حديثه في الشواهد. غمزه سعيد بن أبي مريم، وغيره. قال أبو حاتم: محله الصدق. وفضّل ابن وارة عليه عنبسة بن خالد. ("ميزان الاعتدال" /4/ص 352).
وله متابع: أخرجه ابن ابن زنجويه في "الأموال" (2371): أخبرنا حميد أنا أبو الأسود، أنا ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، أنهم قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر بصاع من شعير، أو مدين من حنطة.
في سنده ابن لهيعة، سيء الحفظ.
وله متابع آخر: أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3416) فقال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم، وسالم قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر بصاع من شعير أو مدين من قمح.
ويحيى بن أيوب الراوي عن عقيل وروى عنه ابن أبي مريم –وهو سعيد-، هو يحيى بن أيوب الغافقي أبو العباس، صدوق يخطئ. ("تهذيب التهذيب" /11/ص 186).
فمرسل عبيد الله بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله حسن لغيره.
وحكمه كحكم المرسل السابق: أنه خطأ وغلط ومخالف لصريح روايات الصحابة الذين هم شهدوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقوى تلك المراسيل على تلك الأحاديث المسندة الصحاح. وتعمّدهم إخفاء الواسطة بينهم وبين النبي يؤدّي إلى بعض الاحتمالات.
ويحتمل أنهم وجدوا بعض الصحابة اجتهدوا في قضية البرّ ويرون أن ذلك له أصل من النبي صلى الله عليه وسلم.
فصل: الموقوفات على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
اعلم أن الأحناف يزعمون إجماع الخلفاء الراشدين على شرعية إخراج القمح أو البر نصف صاع. بل ادعى بعضهم إجماع الصحابة على ذلك. فسأذكر هنا بعض الموقوفات في إخراج القمح أو البر نصف صاع، مع تتبع أسانيدها بما يسّر الله.
الأثر الأول: أثر أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10336) و عبد الرزاق في "مصنفه" (5776) من طريق عاصم، عن أبي قلابة، قال: أخبرني من أدى إلى أبي بكر: «صدقة الفطر نصف صاع من طعام».
وأخرجه ابن منجويه في "الأموال" (2372) من طريق الثوري عن عاصم به.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3133)، وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ص 250) من طريق عاصم بن سليمان الأحول به.
وقد أبهم أبو قلابة شيخه وأثبت أنه أدى زكاته إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وله متابع: أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3421) عن أحمد بن داود، عن سليمان بن حرب ذكر ما كانوا يعطون في عهد أبي بكر وعمر في ذلك وأنه نصف صاع من حنطة.
هذا منطقع.
وله متابع آخر: قال أبو داود في "المراسيل" برقم (124): حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبد الخالق الشيباني، عن سعيد بن المسيب، قال: كانت الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر نصف صاع من قمح. قال أبو داود: رواه شعبة، وبشر بن المفضل عن عبد الخالق مثله.
هذا كما مرّ بنا أنه خطأ.
قال الإمام البيهقي رحمه الله: هو عن أبي بكر منقطع. ("السنن الكبرى"/4 /ص169).
الأثر الثاني: أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أخرج أبو داود في سننه (1614) فقال: حدثنا الهيثم بن خالد الجهني ثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: «كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير، أو تمر، أو سلت، أو زبيب» ، قال: قال عبد الله: فلما كان عمر رضي الله عنه، وكثرت الحنطة، جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء.
الهيثم بن خالد الجهني هو أبو الحسن الكوفي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/11 /ص84).
رجال السند ثقات، إلا عبد العزيز بن أبي رواد واسمه ميمون، وهو صدوق ربما وهم.
وقد خالف عبد العزيز بن أبي رواد هذا جماعة من ثقات أصحاب نافع فلم يرووا النسبة إلى عمر.
فمن أجل ذلك قال الحافظ البيهقي رحمه الله: ورواه عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فخالف الجماعة في لفظ الحديث ، وقال فيه : فلما كان عمر ، وكثرت الحنطة ، جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء ، وابن أبي رواد كان معروفا بسوء الحفظ ، وكثرة الغلط ، والصحيح أن ذلك كان زمن معاوية والله أعلم. وقد أطال مسلم بن الحجاج الكلام في تخطئة رواية ابن أبي رواد لهذا الحديث ، ومخالفته رواية الجماعة في لفظ الحديث ، وزيادة : السلت ، والزبيب ، وتعديل عمر فيه. ("معرفة السنن والآثار"/ للبيهقي /7 /ص64).
وله متابع: قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3135): حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، قال: «كنا نخرج زكاة الفطر على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف صاع».
نعيم هو ابن حماد الخزاعي، سيء الحفظ.
ابن أبي صعير هو عبد الله بن ثعلبة بن صعير، صحابي ابن صحابي. قال فيه أبو حاتم: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير. ("تهذيب التهذيب" /5/ص 166).
فالسند ضعيف أيضاً.
وله متابع: قال ابن زنجويه في الأموال (2373): ثنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن ابن قارظ أخبره، أن عمر بن الخطاب كتب إلى الأجناد في زكاة الفطر: «أن أدوا صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو مدين من قمح، وأعطوا من أصفى ما عندكم».
عبيد الله بن أبي جعفر هو عبيد الله بن يسار أبو بكر الفقيه، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /7/ص5).
ابن قارظ هو إبراهيم بن عبد الله بن قارظ صدوق كما في "تقريب التهذيب".
وسند الأثر ضعيف يسير من أجل ابن لهيعة، وقد رواه عنه ابن المبارك.
وله متابع: قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3134): حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا حماد، عن الحجاج بن أرطاة، قال: ذهبت أنا والحكم بن عتيبة، إلى زياد بن النضر، فحدثنا عن عبد الله بن نافع، أن أباه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني رجل مملوك، فهل في مالي زكاة؟ فقال عمر رضي الله عنه: إنما زكاتك على سيدك، أن يؤدي عنك عند كل فطر، صاعا من شعير، أو تمر، أو نصف صاع من بر.
الحجاج بن أرطاة مدلس وفيه تيه، ولكنه قد صرح بالتحديث.
زياد بن النضر هو أبو النضر، مجهول الحال.
عبد الله بن نافع هو العدوي يروي عن نافع مولى ابن عمر. وهو متروك الحديث. ("تهذيب التهذيب" /6/ ص53).
هذا السند ضعيف جداً.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والمعروف: أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من برّ مكان الصاع من هذه الأشياء، ذكره أبو داود. ("زاد المعاد في هدي خير العباد" /2/ص 18).
ولكن الصواب: أن هذه المتابعات من هؤلاء الضعفاء لا تقوى على إثبات ما يخالف ما في "الصحيحين".
ولو كانت ثابتة فهي تدل على ذلك محض اجتهاد من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في هذه المسألة، ولم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يثبت إخراج نصف صاع بر في عهد النبي لزكاة الفطر، وإنما كان ذلك بعد وفاته لاجتهاد بعض الصحابة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعاً من شعير. فعدل الناس به نصف صاع من برّ. (أخرجه البخاري (1511)).
الأثر الثالث: أثر عثمان بن عفان رضي الله عنه
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10335)، وابن زنجويه في الأموال (2374) من طريق خالد، عن أبي قلابة: قال عثمان في صدقة رمضان: «عن الصغير والكبير، الحر والعبد، الذكر والأنثى، حتى ذكر الحمل صاعا من تمر، أو نصف صاع من بر عن كل إنسان».
خالد هو ابن مهران الحذاء أبو المنازل، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /3/ ص120).
والظاهر أن أبا قلابة لم يسمع من عثمان رضي الله عنه، وقد نص الحفاظ على أنه لم يسمع من ابن عمر ولا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وأن روايته عن علي رضي الله عنه مرسلة.
فسند الأثر منقطع.
وله متابع: أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (9/ص39)، وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص250) من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث قال: خطبنا عثمان رضي الله عنه فقال: أدوا زكاة الفطر مدين من حنطة.
أبو الأشعث هو شراحبيل بن آدة الصنعاني، وثقه العجلي وذكره ابن حبان في "الثقات". ("تهذيب التهذيب" /4/ص 319).
فالسند ضعيف من أجله.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: لا يثبت ذلك عن أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما. (كما في "السنن الكبرى"/ للبيهقي /4 /ص169).
الأثر الرابع: أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (5773) وابن أبي شيبة في مصنفه (10350) وابن زنجويه في "الأموال" (2375) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص250) من طريق الثوري، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: «على من جرت عليه نفقتك نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر».
في سنده عبد الأعلى، وهو عبد الأعلى بن عامر الثعلبي الكوفي، ضعيف. ("تهذيب التهذيب" /6/ص86).
فالأثر ضعيف.
وله متابع: أخرجه الدارقطني في سننه (2113): حدثنا محمد بن عبد الله بن غيلان ، ثنا الحسن بن الصباح البزاز ، ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال في صدقة الفطر: «عن كل صغير وكبير حر وعبد نصف صاع من بر ، أو صاعا من تمر». كذا حدثنا مرفوعا.
ثم قال (2114): وحدثنا عبد الله بن أحمد المارستاني ، ثنا الحسن بن البزاز ، ثنا أبو بكر بن عياش. بهذا موقوفا ، قال: وهو الصواب.
في سنده الحارث وهو الأعور، كذب.
الأثر الخامس: أثر أبي هريرة رضي الله عنه
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (5761)، وابن زنجويه في الأموال (2376)، وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ص251) والدارقطني في سننه (2116) من طريق الأعرج عن أبي هريرة قال: زكاة الفطر على كل حر وعبد، ذكر وأنثى: صغير وكبير، غني وفقير، صاع من تمر، أو نصف صاع من قمح.
هذا السند صحيح.
الأثر السادس: أثر ابن مسعود رضي الله عنه
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5769) وابن أبي شيبة في مصنفه (10342) من طريق ابن جريج، عن عبد الكريم، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن عبد الله، أنه قال: «مدان من قمح، أو صاع من تمر، أو شعير» .
في سنده عبد الكريم وهو أبو أمية ابن أبي المخارق، متروك الحديث.
الأثر السابع: أثر عائشة رضي الله عنها
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10357): حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: «إني أحب إذا وسع الله على الناس أن يتمّوا صاعا من قمح عن كل إنسان»
سنده صحيح.
هذا يدل على أن الواجب عند عائشة رضي الله عنه: إخراج نصف صاع من قمح في زكاة الفطر، لعلها وافقت رأي معاوية في ذلك.
والأثر أخرجه ابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص250) من طريق جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين بلفظ: كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع، فأما إذ أوسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع.
ولا شك أن إتمام صاع هو الأحبّ –بل واجب- لتنصيص النبي صلى الله عليه وسلم بصاع كامل في جميع أصناف الأقوات.
الأثر الثامن: أثر ابن عباس رضي الله عنهما
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5767): عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس قال: «زكاة الفطر على كل عبد أو حر صغير وكبير، من أدى زبيبا قبل منه، ومن أدى تمرا قبل منه، ومن أدى شعيرا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه صاعا صاعا».
سنده منقطع. قال أحمد وابن المديني في شأن محمد بن سيرين: لم يسمع من بن عباس شيئاً. ("جامع التحصيل"/ص 264).
وله متابع: قال الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه (10353): حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: «الصدقة صاع من تمر، أو نصف صاع من طعام».
عبد الرحمن بن سليمان مجهول الحال.
وله متابع: قال ابن زنجويه في الأموال (2379): ثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: «أمرت أهل البصرة حين كنت عليهم، أن يطعموا عن كل صغير أو كبير، حر وعبد، مدين من بر».
في سنده قبيصة وهو ابن عقبة الكوفي، في روايته عن الثوري ضعف، وهو في الشواهد.
وله متابع: قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3138): حدثنا محمد بن عمرو قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمرت أهل البصرة إذ كنت فيهم أن يعطوا عن الصغير والكبير، والحر والمملوك، مدين من حنطة».
يحيى بن عيسى هو يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الكوفي، ضعيف في الشواهد. ("تهذيب التهذيب"/11/ص 262).
وابن أبي ليلى هنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فيه ضعف. ("تهذيب التهذيب"/7/ص 200).
فأثر ابن عباس رضي الله عنهما حسن لغيره.
الأثر التاسع: أثر ابن الزبير رضي الله عنهما
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5766) وابن أبي شيبة في مصنفه (10347) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص251) من طريق ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع ابن الزبير، يقول على المنبر: «زكاة الفطر مدان من قمح، أو صاع من تمر أو شعير، الحر والعبد سواء».
سنده صحيح.
الأثر العاشر: أثر جابر رضي الله عنه
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5772) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص251)، من طريق ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «صدقة الفطر على كل مسلم صغير وكبير عبد أو حر مدان من قمح، أو صاع من تمر، أو شعير».
سنده صحيح.
الأثر الحادي عشر: أثر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
عن أبي سعيد الخدري، قال: «كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغير، وكبير، حر أو مملوك، صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب» فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجا، أو معتمرا فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: «إني أرى أن مدين من سمراء الشام، تعدل صاعا من تمر» فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد: «فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه، أبدا ما عشت». (أخرجه البخاري (1508) ومسلم (985)).
قال النووي رحمه الله: تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة، وفيه نظر لأنه فعل صحابي قد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه و سلم، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم. وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك العدول إلى الإجتهاد مع وجود النص. وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الإجتهاد وهو محمود، لكنّه مع وجود النص فاسد الإعتبار. (كما في "فتح الباري"/ لابن حجر /3 /ص374).
الأثر الثاني عشر: أثر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10351) وابن زنجويه في الأموال (2378) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص250-251) من طريق عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء، أنها كانت تعطي زكاة الفطر عمن يموت ومن أهلها الشاهد، والغائب نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير.
السند صحيح.
الخلاصة:
قد اجتهد بعض الصحابة رضي الله عنهم على إخراج نصف صاع من البر أو الحنطة أو القمح في زكاة الفطر، حتى ادعى بعض الحنفية الإجماع على ذلك. وهذا ليس بصواب لوجود الخلاف بين الصحابة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافاً للطحاوي. وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها. هذه حجة الشافعي ومن تبعه. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناء منه على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن. لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال، ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة. ("فتح الباري"/3 /ص374).
ولم ينكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على أصل شرعية إخراج البر أو الحنطة أو القمح في زكاة الفطر، وإنما أنكر على معاوية رضي الله عنه تعديله مدّين من البرّ صاعاً من غيره من الأقوات.
فمن هنا علمنا أن إخراج البر أو الحنطة أو القمح في زكاة الفطر مشروع ومعروف عند الصحابة رضي الله عنهم.
الباب السابع: ليس حديث ابن عمر يدل على ترتيب الأفضلية
إذا قال قائل: هل نقول كما قاله بعض الناس: إن إخراج التمر في زكاة الفطر أفضل على الإطلاق لأن التمر ذُكر قبل غيره من الأصناف في حديث ابن عمر، ولأن ابن عمر رضي الله عنهما يلازمه، وهو راوي الحديث؛ والراوي أدرى بروايته؟
الجواب مستعيناً بالله: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. (أخرجه البخاري (1503) ومسلم (984)).
لم ينصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يريد بهذا الحديث ترتيب الأفضلية، فيبقى الحديث على ظاهر التخيير.
الجواب الثاني: أن ابن عمر رضي الله عنه لم ينصّ على أن حديثه هذا يدل على الترتيب. فابن عمر رضي الله عنه وإن استحب إخراج التمر فإنه لم يعلّل ذلك بهذا الحديث وهو راويه، وهو -على قول القائل- أدرى بروايته. بل يميل ابن عمر إلى علة أخرى كما في رواية ابن مجلز.
أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" (2390) عن أبي مجلز، قال: قلت لابن عمر: قد أكثر الله الخير، والبر أفضل من التمر، فقال: «إني أعطي ما كان يعطي أصحابي، سلكوا طريقا فأريد أن أسلكه». سند صحيح.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وكذلك قال أبو مجلز لابن عمر: البر أفضل من التمر. يعني أنفع وأكثر قيمة. ولم ينكره ابن عمر وإنما عدل عنه اتباعاً لأصحابه، وسلوكاً لطريقتهم. انتهى.
هذا واضح أن ابن عمر لم يستدل بمتن الحديث، وإنما بطريقة بعض من رآه من الصحابة. فابن عمر عربي أصلي يعرف أن مجرد عطف الأشياء بحرف (أو) لا يقتضي الترتيب.
الجواب الثالث: مما يقوي أن حرف (أو) لا تقتضي الترتيب، قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74]
هذه الآية واضحة أن ما قبل (أو) ليس بأقسى مما بعدها.
وكذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 140]،
ليس فيها دليل على أن الذي قبل (أو) خير مما بعدها. بل خبث النصارى قد يكون أهون من خبث اليهود.
قال الإمام السعدي رحمه الله: يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين، وإلى ولايتهم ومحبتهم، وأبعدهم من ذلك: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا. ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ وذكر تعالى لذلك عدة أسباب: منها: أن ﴿مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ أي: علماء متزهدين، وعُبَّادًا في الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص 241).
وكذلك قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]
ليس فيها دليل على أن الصيام أفضل من الصدقة، وأن الصدقة أفضل من الذبح.
ومما يقوي أن هذه الآية لا تقتضي ترتيب الفضيلة؛ حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له –في بعض الروايات-: «فاحلق رأسك، وأطعم فرقا بين ستة مساكين، - والفرق ثلاثة آصع -، أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة». (أخرجه البخاري (4159) ومسلم (1201)).
قد تغير ترتيب ذكر هذه الأشياء. فهذا يدل على أن مجرد (أو) يدل على التخيير –إن لم يدل على الشك-، ولا يدل على التخيير. وقد يكون المذكور الأخير هو الأفضل.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع، وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أي ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل: ﴿ففدية من صيام أو صدقة أو نسك﴾ ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام. فكل حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة. ("تفسير القرآن العظيم"/1/ص 536).
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200].
فهل نقول إن (ذكر الله كذكر الآباء) أفضل من (ذكر الله أشد من ذكر الآباء) استناداً إلى أن (أو) تقتضي ترتيب؟ بل لا شك أن الذي يقع بعد (أو) هنا أفضل من الذي قبلها.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأفضل الأعمال ما كثر ذكر الله تعالى فيها. ("تفسير ابن رجب الحنبلي"/جمع وترتيب طارق بن عوض الله/2/ص 566).
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ [البقرة: 282].
هذه واضحة أن الآية لا تقتضي الترتيب. بل كتابة الدين الكبير أولى من كتابة الدين الصغير. أم نقول إن المذكور الأول أولى من الثاني لأن (أو) تقتضي الترتيب؟ هذا يدل على أن ذكر الأشياء بواسطة (أو) لا يدل على ترتيب الأولوية.
وكذلك قول الله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144].
أيهما أفضل: الموت الطبيعي أم القتل في سبيل الله؟ لا شك أن الثاني أفضل وإنْ ذُكر مؤخراً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل». (أخرجه البخاري (2797)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله. وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة. فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم. فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل. بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظن أنه بفراره يطول عمره فيتمتع بالعيش وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول : ﴿قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا﴾. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع فلا فائدة فيه وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلاً إذ لا بد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه. ("إغاثة اللهفان"/ص434/ط. دار ابن الهيثم).
هذا الدليل واضح في أن (أو) لا تفيد ترتيب الفضيلة.
وبقية أدلة كثيرة دالة على ذلك.
الجواب الرابع: أنه معلوم في اللغة العربية أن مجرد عطف الشيء على الشيء بواسطة حرف (أو) لا يدل على الترتيب. بل هو يدل على التخيير –أو الشكّ- لا الترتيب.
قال العلامة سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي رحمه الله: ... ورود النص بلفظ «أو» المقتضية للتخيير في اللسان. ("شرح مختصر الروضة"/1/ص 306).
وقال العلامة أحمد بن محمد الشاشي رحمه الله: قال علماؤنا رحمهم الله: إذا قال لامرأته: (إن كلمت زيداً أو عمراً فأنت طالق) فكلمت عمراً ثم زيداً طلقت، ولا يشترط فيه معنى الترتيب والمقارنة. ("أصول الشاشي"/ص 189).
الجواب الخامس: لو فرض أن (أو) تقتضي الترتيب، فاعلم أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بدئ بغير التمر. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. (أخرجه البخاري (1506) ومسلم (985)).
فجعل التمر في الرتبة الثالثة. فلو قبلنا أن (أو) تقتضي الترتيب؛ فلنقبل أن الطعام والشعير أفضل من التمر.
فإذا قيل: إن هذا كلام أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لا كلام النبي صلى الله عليه وسلم!
يقال: إن الحديث له حكم المرفوع كما لا يخفى، فصار من الحكم الشرعي.
قال الإمام السمعاني رحمه الله: إذا قال الصحابي: (كنا نفعل كذا) فالظاهر منه أنه قصد بهذا الكلام أن يعلِّمنا حكماً ويفيدنا شرعاً. ولن يكون كذلك إلا إذا كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه يظهر له ذلك، ولا ينكره. ("قواطع الأدلة في الأصول" /1/ص 389).
ولو قبلنا إفادة الترتيب بـ: أو، لدلّ حديث أبي سعيد رضي الله عنه على أن عدداً من الصحابة –أو كثيراً منهم- لم يقدّموا التمر على غيره. فبهذا: إذا ظنّ ظانٌّ: (أن تفضيل التمر على غيره هو الوحيد من مذهب الصحابة، وأن من اختار غير التمر لم يتبع طريقة الصحابة)، فظنّه لا يصيب.
الجواب السادس: لو كان لفظ أبي سعيد رضي الله عنه كما تقدم ذكره؛ لكان كافياً في الرد إن شاء الله. فكيف وقد صرّح في رواية أخرى بإسناده إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟
عن أبي سعيد الخدري، قال: «كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من زبيب». (أخرجه البخاري (1508)).
وفي لفظ مسلم: «كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغير، وكبير، حر أو مملوك، صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب» فلم نزل نخرجه ... الحديث. (أخرجه مسلم (985)).
فهذا الحديث واضح جدّاً على أن عدم تفضيل التمر على غيره في زكاة الفطر قد صار عادة لعدد من الصحابة منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن مجيء معاوية رضي الله عنه حاجّاً أو معتمراً في أمارته، وهي مدة طويلة أكثر من ثلاثين عاماً.
قال العلامة الزركشي رحمه الله: كقول أبي سعيد: «كنا نخرج صدقة الفطر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعا من بر أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر»، وعلى هذا إذا أخرج الراوي الرواية مخرج التكثير بأن قال: كانوا يفعلون كذا، حملت الرواية على عمله وإقراره، فصار المقول شرعاً. ("البحر المحيط في أصول الفقه" /6/ص 307).
فمن فضّل التمر على غيره مستدلاً بترتيب (أو) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ فليستدل أيضاً بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لأنهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل التمر في الرقم الثاني أو الثالث أو الرابع. ولا ينبغي لنا أخذ حديث وترك غيره وكلاهما صحيح محكم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ("فتح الباري"/1/ص 245).
الجواب السابع: ومما يقوي أن الصحابة ليسوا مجمعين على تفضيل التمر: أثر جابر عبد الله رضي الله عنهما، أنه يقول: «صدقة الفطر على كل مسلم صغير وكبير عبد أو حر مدان من قمح، أو صاع من تمر، أو شعير». (أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (5772) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص251)، بسند صحيح كما تقدم).
فقد قدّم جابر رضي الله عنه القمح على التمر.
وكذلك أثر ابن الزيبر رضي الله عنه، أنه يقول على المنبر: «زكاة الفطر مدان من قمح، أو صاع من تمر أو شعير، الحر والعبد سواء». (أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (5766) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (10347) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص251)، سنده صحيح كما تقدم).
فقد قدّم ابن الزبير القمح على التمر.
وكذلك أثر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها كانت تعطي زكاة الفطر عمن يموت ومن أهلها الشاهد، والغائب نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير. (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10351) وابن زنجويه في الأموال (2378) وابن حزم في "المحلى بالآثار" (4/ ص250-251)، وسنده صحيح كما تقدم).
فقد قدّمت أسماء رضي الله عنها البرّ على التمر.
هذا كل يدل على أن عدداً من الصحابة يفضّلون البر أو القمح أو الشعير على التمر.
فإذا ظنّ ظانّ أن الصحابة كانوا يفضِّلون التمر على غيره بما يظنه مقتضى حديث ابن عمر، فهذه النقولات ردٌّّ عليه، لأن عدداً من الصحابة يفضِّلون غير التمر عليه.
الجواب الثامن: إذا قال قائل: إن لفظ "الطعام" في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عامّ فيشمل التمر وغيره، فصار التمر مما ذُكر مقدَّماً.
فالجواب: نعم، هذا محتمل، كما جاء في رواية أخرى: «كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام» ، وقال أبو سعيد: «وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر». (أخرجه البخاري (1510)).
وكذلك جميع ما ذكر في الحديث: «الشعير والزبيب والأقط والتمر» كلها داخل في مسمى الطعام، فلم يكن التمر أقدم على غيره.
بل على مذهب القائل في الأفضلية بمجرد ترتيب الذكر: بقية الترتيب يدل على أن غير التمر هو الأفضل، بل التمر في آخر ما ذكر: «الشعير والزبيب والأقط والتمر»، فصار هذا الحديث ردّاً عليه.
الجواب التاسع: إن الجواب السابق مبني على أن الطعام المذكور يشمل ما بعدها. وأما لو نظرنا بمجرد الرواية الأولى التي جاءت بحرف (أو) لقلنا: إن العطف أصلاً يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف إليه، كما هو معروف في الأحاديث.
مثال ذلك: عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر». (أخرجه البخاري (1483)).
العثري قد يكون داخلاً في عموم ما سقت السماء. ولكن سياق الحديث يدل على المغايرة بينهما. فيكون العثري: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، أو المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له. واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها. ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فيصل إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي. هكذا ذكره ابن حجر عن بعض الأئمة، ثم قال رحمه الله: وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن العثري ما سقته السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة. ("فتح الباري" /3/ص 349).
هذا يدل على العطف يقتضي المغايرة أصلاً.
مثال آخر:
حديث جابر رضي الله عنه، قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثاً، لم يذوقوا طعاماً، فقالوا: يا رسول الله، إن هاهنا كدية من الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رشوها بالماء»، فرشوها، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول - أو المسحاة. (أخرجه أحمد (14211)/صحيح).
قد تكون في اللغة: أن المعول بمعنى المسحاة. ولكن عطفهما في نسق واحد يدل على المغايرة.
من أجل ذلك قال القاضي العيني رحمه الله: هذا التفسير غير صحيح، والمعول الفأس كما ذكرنا، والميم فيه زائدة، والمسحاة المجرفة من الحديد، والميم فيها أيضا زائدة لأنها من السحو وهو الكشف والإزالة، ومن الدليل على المغايرة رواية أحمد، رحمه الله: فأخذ المعول أو المسحاة، بالشك. ("عمدة القاري شرح صحيح البخاري"/17/ص 180).
فبهذا البيان علمنا أن أصل العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال القاضي العيني رحمه الله: لأن العطف يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه. ("عمدة القاري"/1/110).
وقال شمس الحق آبادي رحمه الله: لأن العطف يقتضي التغاير بين الشيئين. ("عون المعبود"/10/ص92).
من أجل ذلك قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (في زمان النبي صلى الله عليه وسلم) هذا حكمه الرفع لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ففيه إشعار باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له، ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها. قوله: (صاعاً من طعام أو صاعا من تمر) هذا يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده. ("فتح الباري" /3/ص373).
فعلى هذا: لم يكن التمر أفضل من غيره.
ولا شكّ أن الجواب الثامن أقوى من هذا الجواب التاسع، لأن أبا سعيد رضي الله عنه فسّر الطعام بما بعده: «وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر».
قال ابن حجر رحمه الله: ... وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: ظنّ بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد: (صاعاً من طعام) حجة لمن قال: صاعاً من حنطة. وهذا غلط منه. وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام، ثم فسره. ثم أورد طريق حفص بن ميسرة المذكورة في الباب الذي يلي هذا، وهي ظاهرة فيما قال، ولفظه: (كنا نخرج صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر). ("فتح الباري"/3/ص373).
ومع ذلك؛ فالجوابان الثامن والتاسع –وكذلك بقية الأجوبة- يدلّ على ضعف قول من قال: إن العطف بحرف (أو) يقتضي ترتيب الأفضلية.
الجواب العاشر: جاء حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بروايات مختلفة في ترتيب ذكر الأصناف. ففي روايةٍ: جعل التمر في الرقم الأول: كنا نخرج زكاة الفطر ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، عن كل صغير وكبير، حر ومملوك، من ثلاثة أصناف: ًصاعا من تمر، صاعاً من أقط، صاعا من شعير. (أخرجه مسلم (985)).
وفي روايةٍ: جعل التمر في الرقم الثاني: كنا نخرج زكاة الفطر من ثلاثة أصناف: الأقط، والتمر، والشعير. (أخرجه مسلم (985)).
وفي روايةٍ: جعل التمر في الرقم الثالث: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. (أخرجه البخاري (1506) ومسلم (985)).
وفي رواية جعل التمر في الرقم الرابع: «كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغير، وكبير، حر أو مملوك، صاعاً من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب».(أخرجه البخاري (1508) ومسلم (985)).
فهل سيأخذ ذاك القائل رواية تقديم التمر في الذكر على غير، ويترك بقية الروايات الصحيحة؟ أم يأخذ جميعها فاضطرب ترتيب الأفضلية عنده بتغيّرات ترتيب الذكر؟
فحديث أبي سعيد رضي الله عنه يدل دلالة واضحة على أن مجرد ترتيب الذكر بحرف (أو) لا يقتضي ترتيب الأفضلية.
الخلاصة:
أن من فضّل التمر على غيره في زكاة الفطر، وزعم أن له حجة واضحة من حديث ابن عمر واختياره إخراج التمر، ثم زعم أن المذاهب الأخرى مبنية على مجرد الآراء، فزعمه خاطئ.
فهذه الأجوبة كلها تدلّ دلالة واضحة على أن مجرد ترتيب الذكر بحرف (أو) في حديث ابن عمر لا يقتضي ترتيب الأفضلية. فمن أراد أن يرجّح فضيلة التمر على غيره في زكاة الفطر فليسلك طريقاً آخر معتبراً.
الباب الثامن: نصيحة علمية سلفية
قد ذكرنا في بداية الرسالة: أن هذه الأصناف مجزئة في زكاة الفطر. ولا ينبغي تطويل الاختلاف بين الإخوة بمجرد هذا الأمر. ولولا الطلب من بعض الإخوة لما كتبت هذا الجواب. وكل شيء بإذن الله تعالى.
فأُتحف لجميع الإخوة نصائح ثمينة تنفعنا في جميع قضايا الدينية الشرعية إن شاء الله، وهي:
أن نكثر من تدبّر القرآن، لأن من تعلم القرآن وتدبّره ازدادت معرفته ورسخ علمه بإذن الله. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: من حفظ القرآن عظمت حرمته. (أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" برقم (822) بسند حسن).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن تدبر هذه المعاني اللطيفة تبين له بعض حِكم القرآن وأسراره. فتبارك الذي نزل الفرقان على عبده، فإنه كتاب مبارك تنزيل من حكيم حميد، لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء. من ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، ومن تركه من جبار قصمه الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو قرآن عجب، يهدي إلى الرشد، أنزله الله هدى ورحمة وشفاء وبياناً وبصائر وتذكرة. ("مجموع الفتاوى" /6/ص 212).
ثم نكثر النظر في السنن النبوية، فإن من أكثر النظر في الروايات والأدلة اتضحت له الأمور أكثر بتوفيق الله، وتصير حجته أقوى من الاقتصار على معرفة رواية أو روايتين.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن عرف الحديث، قويت حجته. (أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" برقم (822) بسند حسن).
ثم أنصحُ الجميع بتفهّم طريقة السلف كما ينبغي، حتى لا ندّعي اتباعهم ونحن لا ندري مرادهم ووجه احتجاجهم.
وهذا الذي بيّنتُه ووضّحته من مراد ابن عمر رضي الله عنهما ليس تأويلاً كما زعمه بعض من لم يفهم. بل هو من العمل بالظاهر، والظواهر تختلف باختلاف القرائن.
قال الشيخ أحمد بن محمد الزرقا رحمه الله: وأما الظاهر: وهو الحالة القائمة التي تدل على أمر من الأمور. ("شرح القواعد الفقهية" /للزرقا/1/ص 51).
وهذه الحالة تختلف باختلاف بانيها من العلامات والقرائن. قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام. ("شرح القواعد المثلى" /القاعدة الرابعة/ص192/دار الحديث).
وقد أمرنا الشارع أن نتدبر كلام المتكلم حتى نعلم مراده، فلا نغلط من أجل ظواهر الألفاظ مع بروز العلامات الدالة على أن المراد خلاف ذلك، أو أعمّ من ذلك أو أخصّ.
وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم. قال عنهم الإمام أبو شامة عبدالرحمن بن إسماعيل الشافعي رحمه الله: ... وعاينوا المصطفى، وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فيما خاطبهم بقرائن الأحوال. (مختـصر كتاب "المؤمل في الرد إلى الأمر الأول"/ص26/المكتبة الإسلامية).
وهذا هو الفقه الحقيقي.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه. وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم -إلى قوله:- والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته. ("إعلام الموقعين"/1/ص 175-176/دار الحديث).
ثم إذا فهمنا مراد الصحابة، وفهمنا طريقتهم ألا نحيد عنها، فإن الهدى معهم، والضلال حليف المعرضين. قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة: 137]. وقال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
وإذا اختلف السلف، فلا يجوز لنا أن نأتي بقول جديد لم يقله أحد منهم، لأن الحق لم يخرج عنهم أبداً، فلا بدّ أن يكون الحق مع أحد المختلفين منهم.
قال الإمـام ابن القيم رحمـه الله: الأصل الثالث من أصوله –يعني: الإمام أحمد-: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ في مسائله: قيل لأبي عبد الله: يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف. قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه... إلخ. ("إعلام الموقعين" /1/ص31).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله –قبل ذلك-: وهذا بمثابة ما لو اختلفت الصحابة في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه، فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث، لأن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواهما، كما أن إجماعهم على قول إجماع على إبطال كل قول سواه، فكما لم يجز إحداث قول ثان فيما أجمعوا فيه على قول لم يجز إحداث قول ثالث فيما أجمعوا فيه على قولين. ("الفقيه والمتفقه" /1/ص435 /مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال رحمه الله في شأن الأئمة المشهورين من أتباع التابعين: ولهم نظراء كثيرون من أهل كل عصر أولو نظر واجتهاد، فما أجمعوا عليه فهو الحجة، ويسقط الاجتهاد مع إجماعهم، فكذلك إذا اختلفوا على قولين، لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. ("الفقيه والمتفقه" /1/ص433/مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على... وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه وعما اختلفوا فيه أو في تأويله لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم. ("رسالة إلى أهل الثغر" /ص306-307/مكتبة العلوم والحكم).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. ("مجموع الفتاوى" /21/ص291).
ثم أنصح نفسي والجميع ألا نتكلم في الدين إلا بالدليل وبهداية السلف ومن تبعهم بإحسان في فهم ذلك الدليل، وألا ننفرد بالرأي المجرد عن الدليل وفهم العلماء.
قد قال الإمام محمد بن سيرين رحمه الله: كانوا يرون أنهم على الطريق ما داموا على الأثر. ("جامع بيان العلم وفضله"/لابن عبد البر رحمه الله/1/ص 783/سنده صحيح).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن أصبت فيه أثراً عنهم: فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر فيه شيئاً فتسقط في النار. ( "شرح السنة" /للبربهاري /ص18/ط. دار الآثار).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. ("مجموع الفتاوى" /13/ص243).
لا شكّ أننا نخطئ السروريين الذين لم يقبلوا كلام صغار العلماء –زعموا- حتى يقوله كبار العلماء المشهورين. فهذا يعتبر بدعة شنيعة يصدّون الناس بها عن الحقّ.
بل العالِم الواحد وإن كان صغيراً ولكن كلامه موافق للأدلة وفهم السلف؛ فالحقّ معه، سواء وافقه كبار العلماء أم خالفه جميع من في الأرض في عصره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا ظفرت برجل واحد من أولى العلم طالب للدليل محكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفرك أو يبدعك بلا حجة وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة. فلا تغتر بكثرة هذا الضرب وفإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم. والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم. واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض.
-إلى قوله:- وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدرى ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه. فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عياراً على السنة وجعلوا السنة بدعةً والمعروف منكراً لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: من شذ شذ الله به في النار. وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحداً منهم فهم الشاذون. وقد شد الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون. وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة. ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق. فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل، فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.[الأحزاب/23]. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
("إعلام الموقعين"/3/ص285-287/ط. دار الحديث).
وأما المنهي عنه: أن يقول رجل –ولم يكن عالماً من العلماء- بمجرد الرأي ويفهم النصوص بدون فهم عالم من علماء السنة.
وقال الميموني رحمه الله: قال لي أحمد –ابن حنبل رحمه الله-: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام اهـ. ("سير أعلام النبلاء" /11/ص 296/الرسالة).
وأما شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله سأله الأخ ماهر بن علي الصباحي حفظه الله: هل يشترط لكل مسألة سلف؟ فأجاب حفظه الله: (لكل مسألة سلف). ("مختصر البيان"/ص63).
وليس المراد بالإمام من كلام الإمام أحمد رحمه الله- إماماً كبيراً كابن المبارك أو الثوري أو الزهري رحمهم الله، ولكن المراد: رجل عالم يقتدى به في معرفة الحق.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾ [البقرة/124].
قال الإمام الطبري رَحِمَـهُ اللهُ في تفسير الآية: فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به. ("جامع البيان"/2/ص 18).
والعلماء مع اختلاف مراتبهم جعلهم الله قدوة للأمة. قال الإمام الآجري رَحِمَـهُ اللهُ: وهـذا النعت ونحـوه في القرآن، يـدل على فضـل العلمـاء، وأن الله عـز وجل جعلهم أئمة للخلق يقتدون بهم. ("أخلاق العلماء"/للآجري/ص11/ط. دار الآثار).
قال فضيلة شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله في ردّه على من أعرض عن أقوال السلف: فكيف ستضلّ هذه الأمة إذا أخذت بأقوال سلفها في فهم أدلة القرآن والسنة؟ الضلال بعينه إذا تركْت أقوال وفهم سلفها الصالح. فكيف تفسِّر القرآن؟ وكيف تفهم الحديث؟ وغير ذلك، فلا يفهم الكتاب والسنة إلا بفهمهم وأقوالهم وبمسلكهم، ونحن متعبدون بذلك كما في الآية المذكورة. –إلى قوله:- فأمة تعيش منفصلة عن علمائها أمة تائهة، تلقي بنفسها إلى الهلكة: إلى أيدي الجهال وإلى الاستحسانات الباطلة، وإلى البلاء. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ]العنكبوت: 43[، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ ]النساء: 83[. (كتاب "الكنز الثمين").
وقال حفظه الله في نفس المصدر: وفهم السلف هو الأصل في الدين، ولابد منه. انتهى.
ثم نصيحتي: أن نعلم: أن اللغة العربية مهمّة جداً في فهم النصوص القرآنية والأدلة النبوية والآثار السلفية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ("اقتضاء الصراط المستقيم" /1/ص 527).
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله فيمن لم يفهم اللغة العربية كما ينبغي: ... ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه. ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة، والله أعلم؛ وكان بخطئه غير معذور، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه. ("الرسالة"/للشافعي /1/ص 53).
ثم لا ينبغي لنا أن نقول: (إذا قد ثبتت الحجة بالدليل؛ لا يصلح أن نذكر حجة أخرى من ناحية اللغة العربية). بل هذا من باب تكثير الأدلة والحجج والبراهين، وهذا ممدوح: أن يذكر العالم حجته من كتاب الله، ثم من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم من فهم السلف وأئمة السلفيين، ثم من ناحية اللغة العربية.
ومن دأب بعض أئمتنا في بيان الحق وكشف الأباطيل: أنهم يأتون بحجة من اللغة العربية –بل الأشعار القديمة- إضافة إلى أدلة الكتاب والسنة، وإن كان الحق قد ثبت بالكتاب والسنة. فانظروا في كتب "التوحيد" لابن خزيمة، و"نقض بشر المريسي العنيد" لعثمان بن سعيد الدارمي، و"جامع البيان" للطبري، و"تفسير القرآن العظيم" لابن كثير، وكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم، و"أضواء البيان" للشنقيطي، وغيرهم.
فمن عاب طريقة السلف وعلماء السنة؛ فذلك من قلة معرفته.
كما قال المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحا * وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأسماع منه * على قدر القرائح والفهوم
(كما في "خزانة الأدب وغاية الأرب" /لابن حجة الحموي /1/ص192).
فكثرة طرق البيان تتعاضت الدلالاتعلى المراد، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله لما يبيّن مسألة كفر من سبّ الرسول: وهذا باب واسع مع أنه بحمد الله مجمع عليه لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت ... إلخ. ("الصارم المسلول" /ص 59).
ولا نيأس من مزيد هداية الله لنا ما دمنا نسعى في معرفة الحق في مظانّه مستعيناً بالله صدقاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبين له من الحق ما كان جاهلًا به، ويرجع عن عمل كان ظالمًا فيه . ("مجموع الفتاوى" /3/ص348).
ثم أنصح نفسي وجميع الإخوة أن نتجرد للحق، فإذا ظهر لنا الحق بدليله يجب علينا اتباعه والخضوع له، وألا نكثر الجدال ولا نتنقّل من ناحية إلى ناحية فراراً من شعاع الحجج.
قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204].
وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». (أخرجه البخاري (2457) ومسلم (2668)).
قال الإمام النووي رحمه الله: والألد شديد الخصومة مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر. وأما الخصم فهو الحاذق بالخصومة. والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق او اثبات باطل والله أعلم. ("شرح النووي على مسلم" /16/ص 219).
والألدّ الخصم هو المغلوب حقيقة فيحيد من ناحية إلى أخرى فراراً من الانقياد للحق.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: وأقسام الانقطاع من وجوه: ... والسادس: أن يسأل عن الشيء فيجيب عن غيره. ("الفقيه والمتفقه" /2/ص 111).
فمثل ذلك لا ينبغي لأن قصدنا معرفة الحق بدليله ثم الانقياد له فنكون من الناجين المفلحين، ولا نكون من المذمومين الخاسرين.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: وكذلك يجب على كل من احتج عليه بالحق أن يقبله، ويسلم له، ولا يحمله اللجاج والجدل على التقحم في الباطل مع علمه به. قال الله تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ [الأنبياء: 18]. ("الفقيه والمتفقه" /2/ص113).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكما أن من تواضع لله رفعه، فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله، ووضعه، وصغّره، وحقّره. ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه فإنما تكبره على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، والحق صفته ومنه وله، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله فإنما ردّ على الله وتكبر عليه، والله أعلم.
فصل: قال صاحب المنازل: التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق .
يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد والدخول تحت رقّه بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع، ولهذا فسر النبي الكبر بضده فقال: «الكبر بطر الحق وغمص الناس» فبطر الحق: ردّه وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل. وغمص الناس: احتقارهم وازدراؤهم، ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها، ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة : كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها، ولا سيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها. فكان حقيقة التواضع : خضوع العبد لصولة الحق وانقياده لها فلا يقابلها بصولته عليها اهـ.
(انتهى من "مدارج السالكين"/2/ص271/دار الحديث).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق: أن يكون المتكلم بالحق حدث السن –بالنسبة إلى من يناظره- أو قليل العلم أو الشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك، فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنا أو أقل منه علما، أو أخفى شهرة، ظنّاً منه أن في ذلك عليه ما يحط منه وينقص ما هو فيه، وهذا الظن فاسد فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلو والشرف في الرجوع إلى الحق، بيد من كان، وعلى أي وجه حصل اهـ. ("أدب الطلب" /ص57 /ص دار الكتب العلمية).
الباب التاسع: الإشكال في مقدار زكاة البرّ
إذا قال قائل: قد علمنا من حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم: أن مقدار زكاة كل صنف من هذه الأصناف هو صاع، وهو أربعة أمداد. فكيف بتلك الروايات الدالة على أن زكاة البرّ أو القمح أو الحنطة نصف صاع، أو مدّان؟
الجواب مستعيناً بالله:
نعم، عند بعض الصحابة: أن زكاة الفطر في البرّ أو القمح نصف صاع. وقد علمنا أن ذلك اجتهاد منهم، وهو خلاف صريح السنة الصحيحة، فلا حجة لهم في مخالفتها.
وكذلك احتجاج الحنفية بقول عدد من التابعين رحمهم الله. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وهو مذهب سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير، وأصحاب الرأي. ("المغني" /3/ص81).
وهذه الآثار ثابتة. انظر "مصنف عبد الرزاق" و"مصنف ابن أبي شبية" و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي وغير ذلك.
فالحجة هي ما قاله الله ورسوله والإجماع المنضبط.
وقد علمنا أن بعض الأئمة رجحوا قول الحنفية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقدر الفطر صاع من التمر والشعير وأما من البر فنصف، وهو قول أبي حنيفة وقياس قول أحمد في بقية الكفارات. ("الفتاوى الكبرى" /5/ص372).
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله: القول بإيجاب نصف صاعٍ من برٍّ قولٌ قويٌّ، وأدلَّته كثيرةٌ. ("تنقيح التحقيق" /لابن عبد الهادي /3/ص 120).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة: وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة، يقوي بعضها بعضا. ("زاد المعاد"/2/ص 18).
وقال رحمه الله: وكان شيخنا رحمه الله يقوي هذا المذهب ويقول: هو قياس قول أحمد في الكفارات، أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره. ("زاد المعاد"/2/ص 20).
وقال الإمام الألباني رحمه الله: فثبت من ذلك أن الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع. ("تمام المنة"/ص 387).
ولكن الراجح: أن أدلتهم ضعيفة لا تقاوم الأحاديث الصحيحة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زكاة الفطر في كل صنف من أصناف الأقوات: صاع.
وما علمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهمه السلف الراجح: فهو الحق. فالحديث الصحيح هو المقدم.
وقد كان شيخنا العلامة الفقيه محمد بن حزام البعداني - حفظه الله وبارك في جهوده في تعليم الناس الحق- يرجح هذا أيضاً حيث قال: القول بأنه يجب فيه نصف صاع أقرب وأصوب، والله أعلم. والأحاديث المتقدمة ترتقي بمجموعها إلى الصحة. ("فتح العلام"/2/ص501).
ثم إن فضيلته كرر البحوث والتتبع في هذه المسألة وجمع طرق الروايات فقال بعد ذلك إن الراجح هو كلام الجمهور: أن تلك الروايات في نصف الصاع في البر أو القمح ضعيفة، وأن الصواب: إخراج صاع منه كغيره من أصناف الأقوات، كما أخبرني به حفظه الله.
وقد استفدت من تنبيهات كثيراً، فجزاه الله عني وعن المسلمين خيراً، وأعز قدره في الدنيا والآخرة.
وقد علمنا قول أبي حنيفة رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ( ابن عابدين في " الحاشية " /1 / 63 ).
وعلمنا قول الإمام مالك رحمه الله: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ( ابن عبد البر في "الجامع"/ 2 /ص 91 ).
وعلمنا أيضاً كلام الإمام الشافعي رحمه الله: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه. فمهما قلت من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي. ("تاريخ دمشق" /لابن عساكر /15 / 1 / 3 ).
وعلمنا أيضاً كلام الإمام أحمد رحمه الله: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير. ( أبو داود في "مسائل الإمام أحمد"/ ص 276 - 277).
فالراجح: أن زكاة البر والقمح في الفطر كغيرهما من الأقوات المنصوصة: صاع بصاع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال العلامة الماوردي رحمه الله: فأما قدر ما يؤدى من الأقوات في زكاة الفطر فصاع كامل من برّ أو شعير أو تمر أو زبيب وهو قول الأكثرين. ("الحاوي في فقه الشافعي" /3 /ص379).
ثم ذكر أدلة من قال بنصف الصاع في البرّ والقمح، ثم رجح حديثي ابن عمر وأبي سعيد المتفق عليهما.
ثم قال رحمه الله: ولأنه قوت مخرج من صدقة الفطر ، فوجب أن يكون مقدراً بالصاع كالتمر. ولأنه حق يجب في الأقوات لأهل الصدقات ، فوجب أن لا يختلف قدره باختلاف الأجناس، كزكوات الزروع والثمار .
فأما استدلالهم بالأخبار هي ضعيفة عند أهل النقل غير مقبولة عند أصحاب الحديث. أما حديث ثعلبة فقد طعن فيه يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان ، وفي رواية رجل من بكر بن وائل غير معروف.
وأما حديث ابن عمر فالمروي عنه خلافه.
وأما حديث عمرو بن شعيب فوجه ضعفه ظاهر.
وأما حديث ابن عباس فهو منقطع الإسناد ، وقد روي عنه خلافه.
ثم لو سلمنا هذه الأخبار الواهية مع ضعفها لكان الجواب عنها من وجهين : أحدهما : ترجيح . والثاني : استعمال.
فأما الترجيح فمن وجهين : أحدهما : أن ما رويناه أزيد منها والأخذ بالزيادة أولى. والثاني : ما رويناه أحوط منها والأخذ بالأحوط أولى.
وأما الاستعمال: فمن وجهين : أحدهما : أن ما رويناه من إخراج صاع من برّ في ذوي اليسار ، وما رووه في إخراج نصف صاع فيمن لم يجد غيره من ذوي الإعسار ، فيكون في نصه على صاع من تمر تنبيه على صاع من البر في الموسرين ، وفي نصه على نصف صاع من بر ، تنبيه على نصف صاع من تمر في المعسرين. والثاني : أنه مستعمل في عبد بين شريكين ، أو في والد تجب نفقته على ولدين ، فيكون في نصه على نصف صاع من بر تنبيه على نصف صاع من تمر، أو في نصه على صاع من تمر ، تنبيه على صاع من بر، فيحمل كل واحد منهما على نص وتنبيه.
وأما قياسه على المواشي بعلة أنها صدقة تتعلق بأجناس ، فوجب أن تختلف باختلاف أجناسه فباطل بصدقة الزروع، لأنها لا تختلف باختلاف الأجناس ، على أن صدقة الفطر لا تجب في المال ، وإنما تجب في الذمة ويجب إخراجها من المال ، فلم يسلم الوصف ولم يصح الجمع .
(انتهى من "الحاوي في فقه الشافعي" /للماوردي /3 /ص380-381).
وهذا أيضاً ترجيح الإمام ابن قدامة رحمه الله: وجملته أن الواجب في صدقة الفطر صاع عن كل انسان لا يجزي أقل من ذلك من جميع أجناس المخرج وبه قال مالك و الشافعي وإسحاق وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري و الحسن و أبي العالية. ("المغني" /2 /ص652).
وبعد أن ذكر احتجاجه بمقتضى حديثي ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهم، قال ابن قدامة رحمه الله: ولأنه جنس يخرج في صدقة الفطر فكان قدره صاعا كسائر الأجناس. وأحاديثهم لا تثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن المنذر.
-إلى قوله:- قال الجوزجاني : والنصف صاع ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم وروايته ليس تثبت. ولأن فيما ذكرناه احتياطا للفرض ومعاضدة للقياس.
(انتهى من "المغني"/2 /ص652).
الباب العاشر: حكم إخراج الزكاة أكثر من الواجب
قد سألني بعض الإخوة: هل يجوز إخراج الزكاة أكثر مما يجب عليّ؟
الجواب: نعم، يجوز ذلك بنية الصدقة، وذلك من باب الإحسان. وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]. فمن أدى ما يجب عليه فقد تعاطى العدل. ومن أدى أكثر من ذلك للصدقة فقد تعاطى الإحسان.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية الأندلسي رحمه الله: و «العدل» هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق، وَالْإِحْسانِ هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان. ("المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" /3/ص416).
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن عليه زكاة الفطر ويعلم أنها صاع ويزيد عليه ويقول: هو نافلة. هل يكره؟
فأجاب رحمه الله: الحمد لله، نعم يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء؛ كالشافعي وأحمد وغيرهما. وإنما تنقل كراهيته عن مالك. وأما النقص عن الواجب فلا يجوز باتفاق العلماء.
(انتهى من "مجموع الفتاوى" /25/ص70).
وقد سئل الإمام ابن عثيمين رحمه الله: هل تجوز الزيادة في زكاة الفطر بنية الصدقة؟
فأجاب رحمه الله: نعم يجوز أن يزيد الإنسان في الفطرة وينوي ما زاد على الواجب صدقة، ومن هذا ما يفعله بعض الناس اليوم يكون عنده عشر فطر مثلاً ويشتري كيساً من الرز يبلغ أكثر من عشر فطر ويخرجه جميعاً عنه، وعن أهل بيته، وهذا جائز إذا كان يتيقن أن هذا الكيس بقدر ما يجب عليه فأكثر؛ لأن كيل الفطرة ليس بواجب إلا ليعلم به القدر، فإذا علمنا أن القدر محقق في هذا الكيس ودفعناه إلى الفقير فلا حرج.
(انتهى من "فتاوى أركان الإسلام" /ص 434).
والله تعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين
ماليزيا، 17 رمضان 1436 هـ
([1]) أخرجه البخاري (2518) ومسلم (84) عن أبي ذرّ رضي الله عنه.
([2]) ولم يثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه فعل ذلك، وإنما ذكر ما فعله بعض الناس في زمنه، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
([3]) أخرجه البخاري (1508) ومسلم (985).