إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نصرة السنة وتصحيح مفهوم النهي عن ثياب الشهرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نصرة السنة وتصحيح مفهوم النهي عن ثياب الشهرة

    نصرة السنة
    وتصحيح مفهوم النهي عن لباس الشهرة

    كتبها الفقير إلى الله
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة المؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين أما بعد:
    فذكر أحد الأساتذة الأفاضل أن أحد المشايخ يحكم بكراهة لبس العمامة في بلاد الأعاجم إذا لم يعتد الناس عليها. وذكر حفظه الله أن عالماً آخر يحثّ على عدم لبس العمائم وغيرها مما يخالف أهل بلده في الملابس. وحثّني حفظه الله على معرفة هذا الشأن لأن بعض الحزبيين المميعين يستغلّون تلك الفتاوى لتغيير ما سنّه سلف الأمة من الملابس الشرعية.
    فإلبّي مطلبه العزيز فأقول مستعيناً بالله تعالى:

    الباب الأول: حال حديث النهي عن ثوب الشهرة

    حديث النهي جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما:
    قال الإمام أحمد بن حنبل في "المسند" (5664): حدثنا هاشم، حدثنا شريك، عن عثمان يعني ابن المغيرة وهو الأعشى، عن مهاجر الشامي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة». (أخرجه أبو داود في سننه (4029) وابن ماجه في سننه (3606) والنسائي في الكبرى (9487) وأبو يعلى في مسنده (5698) من طريق شريك به).
    في سند شريك وهو ابن عبد الله القاضي وهو لين على الراجح، ولكن روايته عن عثمان بن المغيرة قوية.
    وعثمان بن المغيرة ثقة. قال صالح بن أحمد عن أبيه: عثمان بن المغيرة هو عثمان بن أبي زرعة وهو عثمان الأعشى وهو عثمان الثقفي كوفي ثقة، ليس أحد أروى عنه من شريك. ("تهذيب التهذيب" /7/ص 155).
    وقد تابع شريكاً أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري كما أخرجه ابن ماجه في سننه (3606).
    ومهاجر الشامي هو مهاجر بن عمرو النبال الشامي، مجهول الحال. (راجع "تهذيب التهذيب" /10/ص 322).
    فالحديث ضعيف بهذا السند.
    ومن حسّن هذا السند فقد أخطأ.
    وقد خطّأ الإمام أبو حاتم الرازي المرفوعَ، وصوّب وقفه.
    قال الإمام ابن أبي حاتم: وسألت أبي عن حديث رواه شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن مهاجر الشامي، عن ابن عمر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لبس ثوب شهرة، ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة؟ قال أبي: هذا الحديث موقوف أصح. ("علل الحديث" /لابن أبي حاتم /4/ص 341-342).
    وقال شيخنا المحدث يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: ... لباس الشهرة الذي جاء ذكره في حديث ابن عمر رضي الله عنه الراجح وقفه. (انتهى من "شذرات من أوائل دروس فضيلة الشيخ يحيى بن علي الحجوري حفظه الله تعالى"/"الكنز الثمين").
    وهذا الموقوف أيضاً لا يثبت.
    أخرجه الإمام معمر في "الجامع" (19979) عن ليث، عن رجل، عن ابن عمر موقوفاً: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ذلا يوم القيامة».
    وفي سنده ليث هو ابن أبي سليم لين الحديث.
    وفي سنده أيضاً مبهم.
    أخرجه الإمام البيهقي أيضاً في "شعب الإيمان" (5816) وقال: هذا موقوف ومنقطع.
    وأخرجه الإمام ابن أبي شيبة في "المصنف" (25266): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ليث، عن المهاجر، قال: قال ابن عمر موقوفاً أيضاً.
    في سنده المهاجر وهو مجهول الحال كما تقدم.
    إسماعيل بن إبراهيم المذكور هو السلمي، وقال فيه أبو حاتم: مجهول. وحكى البخاري الاختلاف في حديثه على ليث بن أبي سليم. (راجع "تهذيب التهذيب" /1/ص 107).
    فالحديث موقوف على ابن عمر، وهو مع ذلك ضعيف السند بسبب إسماعيل بن إبراهيم، وليث، والمهاجر كلهم.
    فحديث ابن عمر موقوفاً ومرفوعاً مصدرهما المهاجر وهو مجهول الحال، فضعيف.

    وجاء من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
    قال الإمام ابن ماجه في سننه (3608): حدثنا العباس بن يزيد البحراني قال: حدثنا وكيع بن محرز الناجي قال: حدثنا عثمان بن جهم، عن زر بن حبيش، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس ثوب شهرة، أعرض الله عنه حتى يضعه متى وضعه».
    العباس بن يزيد البحراني هو عباس بن يزيد بن أبي حبيب البحراني البصري، ثقة، إلا في روايته عن الحجاج بن صواف. ("تهذيب التهذيب" /5/ص 134).
    وكيع بن محرز الناجي هو وكيع بن محرز بن وكيع الناجي السامي النبال، صدوق. ("تهذيب التهذيب"/11/ص 131).
    عثمان بن جهم، مجهول الحال، ذكره بن حبان في "الثقات". ("تهذيب التهذيب" /7/ص108).
    زر بن حبيش ثقة معروف.
    فالحديث ضعيف لجهالة عثمان بن جهم.


    وجاء من حديث رافع بن يزيد الثقفي رضي الله عنه.
    قال الطبراني في "المعجم الأوسط" (7708): حدثنا محمد بن عبد الرحمن، ثنا عبد الحميد بن المستام، ثنا مخلد بن يزيد، عن ابن جريج، حدثني أبو بكر الهذلي، عن الحسن، عن رافع بن يزيد الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة، وكل ذي ثوب شهرة».
    أبو بكر الهذلي متروك الحديث.
    الحسن هو ابن يسار ثقة مدلس وقد عنعن عن رافع بن يزيد الثقفي، ولم يسمع منه ولم يلقه لأن رافعاً رضي الله عنه شهد بدراً، وقتل يوم أحد شهيداً، وقيل: بل مات سنة ثلاث من الهجرة، يقال: إنه شهد بدرا على ناضح لسعيد بن زيد. (راجع "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" /2/ص480).
    والحديث ضعيف جداً بكون أبي بكر الهذلي متروكاً والانقطاع البيّن بين الحسن ورافع.
    وللحديث وجه آخر:
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمة رافع بن يزيد رضي الله عنه: قال ابن مندة: رواه سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رافع نحوه.
    وقال الجوذقاني في كتاب "الأباطيل": هذا حديث باطل، وإسناده منقطع. كذا قال.
    وقوله: باطل مردود، فإن أبا بكر الهدليّ لم يوصف بالوضع. وقد وافقه سعيد بن بشير وإن زاد في السند رجلاً، فغايته أن المتن ضعيف.
    (انتهى المراد من "الإصابة في تمييز الصحابة" /2/ ص371).
    سعيد بن بشير الراوي عن قتادة هو أبو عبد الرحمن الأزدي، ضعيف على الراجح. وروايته عن قتادة أشدّ ضعفاً.
    قال فيه محمد بن عبد الله بن نمير: منكر الحديث ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال فيه الساجي: حدث عن قتادة بمناكير. وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه. (راجع "تهذيب التهذيب" /4/ص 10).
    فروايته عن قتادة منكرة.
    وفي سنده أيضاً عنعنة قتادة عن الحسن، وعنعنة الحسن عن عبد الرحمن بن يزيد. وقتادة والحسن البصري مدلسان.
    ولا أظنّ أن يسمع عبد الرحمن بن يزيد من رافع لقدم موت رافع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في بدايات العهد المدني.
    فالحديث بهذا السند ضعيف جداً.
    فالخلاصة: أحاديث الباب ضعيفة.
    والإمام البيهقي بعد أن ذكر اختلافات في أسانيد حديث ابن عمر قال: وروي من أوجه أخرى ضعيفة. ("الآداب" /للبيهقي /ص 198).


    الباب الثاني توجيه حديث النهي

    نريد أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الملبس وغيره ولكن صارت السنن مهجورة عند الجهلاء وصارت غريبة، ويتكلم الناس فينا لتعظيمنا ولمخالفتنا للناس. فهل يجوز لنا ترك اللباس الشرعي بحجة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة؟
    الجواب مستعيناً بالله:
    أن الحديث ضعيف فليس بحجة.
    ولو ثبت الحديث؛ فليس المراد أننا نترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غربتها لئلا نشتهر بين الناس الجهلاء.
    وإنما المراد: النهي عن لبس الثوب الفاخر الزائد أو الثوب الدنيء المهين لأنهما يسببان الشهرة بلا إذن شرعي.
    فمن أجل ذلك أخرجه الإمام البيهقي رحمه الله تحت فصل: في كراهية لبس الشهرة من الثياب في النفاسة أو في الخساسة. ("شعب الإيمان" /8/ص 274).
    وأخرجه الإمام البغوي رحمه الله تحت باب: باب ترقيع الثوب والبذاذة والاحتراز عن الشهرة. ("شرح السنة" /للبغوي /12/ص 44).
    ولعل المقصود بالشهرة هنا: أن يشتهر بما لا يستحقه، ويريد أن يتكبر به ويفتخر به.
    وهذا المعنى وجيه لوجود حديث أسماء رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور». (أخرجه البخاري (5219) ومسلم (2129)).
    والأحاديث يفسر بعضها بعضاً.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالسنة يبين بعضها بعضا، لا يرد بعضها ببعض. ("إعلام الموقعين" /3/ص10).
    من أجل ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتكره الشهرة من الثياب وهو المترفع الخارج عن العادة والمتخفض الخارج عن العادة؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين المترفع والمتخفض وفي الحديث " {من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة} ". وخيار الأمور أوساطها. والفعل الواحد في الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة. ("مجموع الفتاوى" /22/ص 138).
    وقال الإمام ابن مفلح رحمه الله: قال شيخنا: يحرم شهرة وهو ما يقصد به الارتفاع، وإظهار التواضع، كما كان السلف. ("الفروع وتصحيح الفروع" /للبعلي/2/ص 61).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا بإزائهم طائفة قابلوهم، فلا يلبسون إلا أشرف الثياب، ولا يأكلون إلا ألين الطعام، فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبرا وتجبرا، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب العالي والمنخفض، وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ثم تلهب فيه النار»، وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيض ذلك فأذله كما عاقب من أطال ثيابه خيلاء بأن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ("زاد المعاد" /1/ص 140).
    وقال رحمه الله: وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب، يذم إذا كان تكبرا وفخرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله. ("زاد المعاد" /1/ص 141).
    فالنهي مصبّ على من لبس ذلك رياء الناس وترفيع نفسه عندهم.
    قال علاء الدين البعلي رحمه الله: فإن هذا من الرياء. ("الفروع وتصحيح الفروع" /2/ص62).
    وقال العلامة علي القاري رحمه الله في معنى حديث: (من لبس ثوب شهرة) : أي ثوب تكبر وتفاخر وتجبر، أو ما يتخذه المتزهد ليشهر نفسه بالزهد، أو ما يشعر به المتسيد من علامة السيادة كالثوب الأخضر، أو ما يلبسه المتفقهة من لبس الفقهاء، والحال أنه من جملة السفهاء. (في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة) : ضد المعزة (يوم القيامة) : أي جزاء وفاقا؛ فإن المعالجة بالأضداد، ومفهومه أن من اختار ثوب مذلة وتواضع لله في الدنيا ألبسه الله ثوب معزة في العقبى. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" /7/ ص2782).
    فعلى هذا: فمن لبس ثوباً ليفتخر به ويتكبر به فهو الآثم المعامَل بنقيض قصده فألبسه الله ثوب المذلة.
    وأما من يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلي سنته ولينصر شريعته الغريبة بين المسلمين فإنه مأجور مشكور.
    وقال القاري رحمه الله: قال القاضي: الشهرة ظهور الشيء في شيئه بحيث يشهر به صاحبه، والمراد بثوب شهرة ما لا يحل لبسه، وإلا لما رتب الوعيد عليه، أو ما يقصد بلبسه التفاخر والتكبر على الفقراء والإذلال بهم وكسر قلوبهم، أو ما يتخذه المساخر ليجعل به نفسه ضحكة بين الناس، أو ما يرائي به من الأعمال، فكني بالثوب عن العمل وهو شائع قال الطيبي: والوجه الثاني أظهر لقوله: ألبسه الله ثوب مذلة. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" /7/ ص2782).
    والمحمل الأول الذي ذكره القاضي: (والمراد بثوب شهرة ما لا يحل لبسه، وإلا لما رتب الوعيد عليه) قوي جداً أيضاً. والثياب الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حلال، بل أرفع من حلال لأنها هي التي اختارها الله لنبيه ولأمته وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
    وقد سئل فضيلة شيخنا الإمام العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: ما هو لباس الشهرة، وهل لبس العمامة في بعض البلدان الذين لا يلبسونها يعتبر لباس شهرة؟
    فأجاب حفظه الله: لباس الشهرة: هو ما يخالف اللباس الشرعي، وأما ما وافق اللباس الشرعي فليس بلباس شهرة في أي مكان، وعليك أن تعتز بلبسك الشرعي، فهو السنة والصواب، ولبس العمامة أمر طيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبسها، وكانت له عمامة لها عذبة بين كتفيه.
    وكذا لبس القلانس من سمات العرب، ولبس العمامة كالخمار جاء أنهم كانوا يفعلون ذلك، وهو أن يخمر الرجل رأسه، والتعمم بها أفضل وأشهر في كتب السنة من الخمار.
    وأما التشبه بالكفار فحرام، وينبغي التشبه بالصالحين؛ قال الله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ ]الأنعام: 90[، وقال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ]لقمان: 15[، فاقتد بمن هدى الله واتبع سبيل المنيبين إليه، وقال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ]الروم: 31-32[ ، فلا تكن متشبهًا بهم في لباسهم، ولا في أقوالهم ولا في أفعالهم، ولا في شيء من ذلك، وننصحكم بلبس العمائم وحثّ الناس على لبسها، وأن هذا يعتبر تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشى حاسر الرأس بدون عمامة، ولكن أكثر حالات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس العمامة.
    وبهذا يعلم أن لباس الشهرة الذي جاء ذكره في حديث ابن عمر رضي الله عنه -الراجح وقفه-: »من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة«، المقصود بثوب الشهرة ما خالف اللباس الشرعي، وأيضًا من لبس ثوبًا مشروعًا لكن لبسه لقصد الشهرة والفخر فيشمله الحديث.
    (انتهى من "شذرات من أوائل دروس فضيلة الشيخ يحيى بن علي الحجوري حفظه الله تعالى"/"الكنز الثمين").
    ويحتمل أن النهي يتعلق بمن يلبس ثوباً اتباعاً لهواه.
    قال العلامة المناوي رحمه الله: أي: يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن في ذلك الجمع الأعظم بأن يصغره في العيون ويحقره في القلوب لأنه لبس شهوة الدنيا ليفتخر بها على غيره فيلبسه الله مثله (ثم تلهب فيه النار) عقوبة له بنقيض فعله والجزاء من جنس العمل، فأذله الله كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ولبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة كما أن لبس الرفيع منها يذم إذا كان لكبر أو فخر ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا للنعمة. ("فيض القدير" /6/ص 219).
    وقال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز به ويفتخر على غيره ويلبسه الله يوم القيامة ثوبا يشتهر مذلته واحتقاره بينهم عقوبة له والعقوبة من جنس العمل انتهى. (كما في "عون المعبود" /11/ص51).
    وقال أبو الطيب آبادي رحمه الله: والمراد به ثوب يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوبا يتعزز به على الناس ويترفع به عليهم. ("عون المعبود" /11/ص51).
    وقال العلامة السندي رحمه الله: (ثوب شهرة) أي ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس. سواء كان الثوب نفيسا يلبسه تفاخرا بالدنيا وزينتها أو خسيسا يلبسه إظهارا للزهد والرياء. (ثوب مذلة) من إضافة السبب إلى المسبب. أو بيانية تشبيها للمذلة بالثوب في الاشتمال. ("حاشية السندي على سنن ابن ماجه"/2/ص 378).
    فعلى هذه المحامل ليست الثياب الشرعية المسنونة من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة تحت النهي.
    فمن قصد الحق واتبع السنة وحدود الشرع فإنه مأجور لا مأزور.
    قال الإمام الشوكاني رحمه الله: والحاصل أن الأعمال بالنيات فلبس المنخفض من الثياب تواضعا وكسرا لسورة النفس التي لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من الله، ولبس الغالي من الثياب عند الأمن على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر لقصد التوصل بذلك إلى تمام المطالب الدينية من أمر بمعروف أو نهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كما هو الغالب على عوام زماننا وبعض خواصه لا شك أنه من الموجبات للأجر لكنه لا بد من تقييد ذلك بما يحل لبسه شرعاً. ("نيل الأوطار"/2/ص 131).
    فإذا لبسنا ثوباً شرعياً فاستغربه الناس الجهلاء ثم يسألوننا عنه فبيّنّاه لهم فقد نشرنا السنة وأحييناها بعد موتها في تلك البلدة، ونصرنا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
    وأما إن تركنا السنة بعلة أن الناس لا يعتادونها تموت سنة سنة وازداد الحق غربةً، وازداد انفتاح المجال لأهل البدع والفسوق والكفر لتبديل السنة وترويج زي الكفار. وهذا باطل قطعاً كائنا من كان قائله.
    فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع وتنصر ولا تترك لمخالفة عادة الجهال.
    عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة. فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح. ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك». (أخرجه الإمام أحمد (6764) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (3250)).
    وعلى رجل من الأنصار من أصحاب الرسول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «فمن اقتدى بي فهو مني. ومن رغب عن سنتي فليس مني. إن لكل عمل شرة، ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى». (أخرجه الإمام أحمد (23521) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (3251)).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» أي : سلك غيرها؛ ظانًا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، قال تعالى : ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة : 130 ] . بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في "الصحيح" أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة . ("مجموع الفتاوى"/11 /ص201).
    وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «قد تركتكم على البيضاء. ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هلك». (أخرجه ابن ماجه (42)/صحيح).
    وزي العرب أحبّ إلينا من زي العجم.
    عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اتزروا وارتدوا، وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وألقوا الركب وانزوا نزوا، وعليكم بالمعدية، وارموا الأغراض، وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم والحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نهى عنه وقال: لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا. وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعيه. (أخرجه الإمام أحمد في مسنده (301)/صحيح).
    هذه السنن المذكورة مستحبة وبعضها جاء للتمرين، وهي أحبّ إلينا من سنن الأعاجم.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وفيه: أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية، وهي زي بني معد بن عدنان، وهم العرب، فالمعدية نسبة إلى معد، ونهى عن زي العجم وزي المشركين، وهذا عام كما لا يخفى. ("اقتضاء الصراط المستقيم" /1/ص 373).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: هَذَا تَعْلِيم مِنْهُ للفروسية وتمرين للبدن على التبذل وَعدم الرَّفَاهِيَة والتنعم وَلُزُوم زِيّ ولد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم فَأَمرهمْ بالاتزاز والارتداء والانتعال وإلقاء الخفاف لتعتاد الأرجل الحر والبرد فتتصلب وتقوى على دفع أذاهما
    وقوله وألقوا السراويلات استغناء عنها بالأزر وهو زي العرب
    وبين منفعتي الأزر والسروايل تفاوت من وجه. فهذا أنفع من وجه وهذا انفع من وجه فالإزار أنفع في البحر والسروايل أنفع في البرد والسراويل أنفع للراكب والإزار أنفع للماشي
    وقوله وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل هذا يدل على أن لباسه كان الأزر والأردية
    وقوله وإياكمم والتنعم وزي العجم فإن التنعم يخنث النفس ويكسبها الأنوثة والكسل ويكون صاحبه أحوج ما يكون إلى نفسه وما آثره من أفلح.
    وأما زي العجم فلأن المشابهة في الزي الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن كما دل عليه الشرع والعقل والحس ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب وكل ناقص، حتى نهى في الصلاة عن التشبه بشبه أنواع من الحيوان يفعلها أو كثيرا منها الجهال: نهى عن نقر كنقر الغراب، والتفات كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، وافتراش كافتراش السبع، وبروك كبروك الجمل، ورفع الأيدي يمينا وشمالاً عند السلام كأذناب الخيل.
    ونهى عن التشبه بالشياطين في الأكل والشرب بالشمال وفي سائر خصال الشيطان.
    ونهى عن التشبه بالكفار في زيهم وكلامهم وهديهم حتى نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح فإن الكفار يسجدون للشمس في هذين الوقتين.
    ونهى عن التشبه بالأعراب وهم أهل الجفاء والبدو فقال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العتمة وإنها العشاء في كتاب الله».
    ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء.
    وقوله: «عليكم بالشمس فإنها حمام العرب». فإن العرب لم تكن تعرف الحمام ولا كان بأرضهم وكانوا يتعوضون عنه بالشمس فإنها تسخن وتحلل كما يفعل الحمام.
    وقوله: وتمعددوا أي الزموا المعدية وهي عادة معد بن عدنان في أخلاقه وزيه وفروسيته وأفعاله
    وقوله: واخشوشنوا أي تعاطوا ما يوجب الخشونة ويصلب الجسم ويصبره على الحر والبرد والتعب والمشاق، فإن الرجل قد يحتاج إلى نفسه فيجد عنده خشونة وقوة وصبرا ما لا يجدها صاحب التنعم والترفه بل يكون العطب إليه أسرع.
    وقوله: واخلولقوا هو من قوله اخلولق السحاب بعد تفرقه أي اجتمع وتهيأ للمطر وصار خليقا له فمعنى (اخلولقوا) تهيئوا واستعدوا لما يراد منكم وكونوا خلقاء به جديرين بفعله لا كمن ضيع أركان وأسباب فروسيته وقوته فلم يجدها عند الحاجة.
    وقوله: واقطعوا الركب إنما أمرهم بذلك لئلا يعتادوا الركب دائما بالركاب فأحب أن يعودهم الركوب بلا ركب وأن ينزوا على الخيل نزواً.
    وقوله: ارموا الأغراض أمرهم بأن يكون قصدهم في الرمي الإصابة لا البعد وهذا هو مقصود الرمي ولهذا إنما تكون المناضلة على الإصابة لا على البعد. انتهى.
    ("الفروسية" /ص120-123).
    فالخلاصة: أن التشبه بالأعاجم مذموم.
    ومشابهتهم سبب الذمّ من الله ورسوله. عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟». (أخرجه البخاري (7320) ومسلم (2669)).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع» ، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: «ومن الناس إلا أولئك». (أخرجه البخاري (7319)).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمّه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ("الاقتضاء" /1 / ص 170/ مكتبة الرشد).
    وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم –من لبس القميص والعمامة وغير ذلك- أحب إلينا ولم نبتغ لها بديلاً، إن شاء الله.
    عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص. (أخرجه أبو داود (4025) والترمذي (1762)/صحيح).
    قال المناوي رحمه الله: (كان أحب الثياب إليه) من جهة اللبس (القميص) أي كانت نفسه تميل إلى لبسه أكثر من غيره من نحو رداء أو إزار لأنه أستر منهما وأيسر لاحتياجهما إلى حل وعقد بخلافه فهو أحبها إليه لبساً. ("فيض القدير" /5/ص 82).
    وقال الإمام الشوكاني رحمه الله بعد ذكر حديث: والحديث يدل على استحباب لبس القميص وإنما كان أحب الثياب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمكن في الستر من الرداء والإزار اللذين يحتاجان كثيرا إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص. ويحتمل أن يكون المراد من أحب الثياب إليه القميص لأنه يستر عورته ويباشر جسمه فهو شعار الجسد بخلاف ما يلبس فوقه من الدثار، ولا شك أن كل ما قرب من الإنسان كان أحب إليه من غيره، ولهذا شبه - صلى الله عليه وسلم - الأنصار بالشعار الذي يلي البدن بخلاف غيرهم فإنه شبههم بالدثار، وإنما سمي القميص قميصا لأن الآدمي يتقمص فيه أي يدخل فيه ليستره. ("نيل الأوطار" /2/ص 125).
    وقال شمس الحق آبادي رحمه الله: قيل: وجه أحبية القميص إليه صلى الله عليه وسلم أنه أستر للأعضاء عن الإزار والرداء ولأنه أقل مؤنة وأخف على البدن ولابسه أكثر تواضعاً. ("عون المعبود" /11/ص 48).
    هذه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وسواء سماها الناس جبلية أم غير جبلية فإن ما اختاره الله لنبيه هو الأفضل من اختيارنا وأنفع.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فصل في تدبيره لأمر الملبس. وكان من أتم الهدي، وأنفعه للبدن، وأخفه عليه، وأيسره لبسا وخلعا، وكان أكثر لبسه الأردية والأزر، وهي أخف على البدن من غيرها، وكان يلبس القميص، بل كان أحب الثياب إليه. وكان هديه في لبسه لما يلبسه أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كانت كم قميصه إلى الرسغ لا يجاوز اليد فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصر عن هذه فتبرز للحر والبرد، وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقيه، فتنكشف ويتأذى بالحر والبرد، ولم تكن عمامته بالكبيرة التي تؤذي الرأس حملها، ويضعفه ويجعله عرضة للضعف والآفات، كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسطا بين ذلك، وكان يدخلها تحت حنكه، وفي ذلك فوائد عديدة: فإنها تقي العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها، ولا سيما عند ركوب الخيل والإبل، والكر والفر، وكثير من الناس اتخذ الكلاليب عوضا عن الحنك، ويا بعد ما بينهما في النفع والزينة، وأنت إذا تأملت هذه اللبسة وجدتها من أنفع اللبسات وأبلغها في حفظ صحة البدن وقوته، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن. ("زاد المعاد في هدي خير العباد" /4/ص217-218).
    عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء. (أخرجه مسلم (1358)).
    قال أبو الطيب آبادي رحمه الله: والحديث يدل على استحباب لبس العمامة السوداء. ("عون المعبود" /11/ ص87).
    وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله: قوله (وعليه عمامة سوداء) فيه دليل على مشروعية العمامة السوداء. ("تحفة الأحوذي" /5/ص 335).
    وقال النووي رحمه الله: قوله (وعليه عمامة سوداء) فيه جواز لباس الثياب السود وفي الرواية الأخرى خطب الناس وعليه عمامة سوداء فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح خير ثيابكم البياض وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانا للجواز والله أعلم قوله. ("شرح صحيح مسلم" /9/ص133).
    وعن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه. (أخرجه مسلم (1359)).
    قال الإمام الشوكاني رحمه الله: والحديث يدل على استحباب لبس العمامة، -إلى قوله:- الحديث أيضا يدل على استحباب إرخاء العمامة بين الكتفين. ("نيل الأوطار" /2/ص 126).
    وقال الطيبي رحمه الله: فيه أن لبس الزينة يوم الجمعة والعمامة السوداء، وإرسال طرفيها بين الكتفين سنة. (كما في "مرقاة المفاتيح" /لعلي القاري/3/ص 1045).
    وقال أبو الطيب آبادي رحمه الله: والحديث يدل على استحباب إرخاء طرف العمامة بين الكتفين. ("عون المعبود" /11/ ص87).
    وهو كما قالا، غير أن العمامة البيضاء هي الأولى بنصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل البياض.
    قال علي القاري رحمه الله: وأفتى ابن عبد السلام: بأن المواظبة على لبس السود بدعة، وأول من أحدث لبسه في الجمع والأعياد بنو العباس في خلافتهم، محتجين بأن الراية التي عقدت لجدهم العباس يوم الفتح وحنين كانت سوداء. قال ابن هبيرة: ولأنه أبعد الألوان من الزينة، وأقربها إلى الزهد في الدنيا، ولذلك يلبسه العباد والنساك. ("مرقاة المفاتيح" /لعلي القاري/3/ص 1045).
    وهناك نصّ صريح في العمامة البيضاء:
    عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: -وذكر حديثاً طويلاً إلى قوله:- ثم أمر عبدَ الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية أمره عليها، فأصبح قد اعتمّ بعمامة كرابيس سوداء، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنقضها، فعممه، وأرسل من خلفه أربع أصابع، ثم قال: «هكذا يابن عوف فاعتم، فإنه أعرب وأحسن» الحديث. (أخرجه الحاكم في "المستدرك" (كتاب الفتن والملاحم/(8688)/دار الحرمين) والبزار في مسنده (6175) والطبراني في مسند الشاميين (1558)، وقال الإمام الألباني رحمه الله في "الصحيحة" ((1384)/مكتبة المعارف): فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. وحسنه أيضا الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح في القدر" /خصال خمس/ص431/مكتبة صنعاء الأثرية).
    قال الإمام مالك رحمه الله: العمة والاحتباء والانتعال من عمر العرب، وليس ذلك فى العجم وكانت العمة فى أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم. قال ابن وهب: وحدثنى مالك أنه لم يدرك أحدا من أهل الفضل: يحى بن سعيد، وربيعة، وابن هرمز إلا وهم يعتمون، ولقد كنت فى مجلس ربيعة، وفيه أحد وثلاثون رجلا مامنهم رجل إلا وهو معتم وأنا منهم، ولقد كنت أراهم يعتمون فى العشاء والصبح، وكان ربيع لا يدع العمامة حتى يطلع الثريا، وكان يقول: أنى لأجد العمة تزيد فى العقل. (كما في "شرح صحيح البخارى" /لابن بطال /9/ص 89).
    وقال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: إن أفضل زي ما يلبس في الرأس العمائم وهي تيجان العرب. ("المنتقى شرح الموطإ" /7/ص 219).
    وقال ابن رسلان في "شرح السنن" عند ذكر حديث عبد الرحمن: وهي التي صارت شعار الصالحين المتمسكين بالسنة، يعني إرسال العمامة على الصدر. (نقله الإمام الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار" /2/ص127).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله نقلاً عن شيخه أبي القاسم: إن العمائم تيجان العرب وعزها على سائر الأمم من سواها، ولبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فهي لباس العرب قديما، ولباس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فهي لباس الإسلام. –ثم ذكر بعض الأدلة الدالة على عمامة رسول الله، ثم قال:- وهذا - وإن كان إخبارا بالواقع - فإنه إرشاد إلى المشروع. ("أحكام أهل الذمة" /3/ص1267-1271).
    وقال الإمام ابن بطال رحمه الله: والعمائم تيجان العرب وهى زيهم. ("شرح صحيح البخاري" /لابن بطال /9/ص 89).
    وقد سئل فضيلة شيخنا الإمام العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: هل العمامة من السنة أم هي من عادات العرب؟
    فأجاب حفظه الله: هي من عادات العرب. والذي يلبسها بقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤجر، وهي من الزينة التي ينبغي العمل بها، لقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ ]الأعراف: 31[ ولحديث: »إن الله جميل يحب الجمال«، والزهري رحمه الله يقول: العمائم تيجان العرب.
    (انتهى من "شذرات من أوائل دروس فضيلة الشيخ يحيى بن علي الحجوري حفظه الله تعالى"/"الكنز الثمين").
    سواء كانت العمامة سنة أو عادة فإنها أحب إلينا من سنة الأعاجم. ومن قال إنها مكروهة في بلاد الأعاجم التي لم يتعود أهلها بها قد أخطأ وأبعد عن الصواب، والله يغفر له.
    ولم نجد دليلاً صريحاً صحيحاً على فضيلة لبس العمامة، ولكنه من سنة رسول الله، أو على الأقلّ هو من سنة العرب القدماء. وسنة العرب المستقرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سنن الأعاجم.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمقصود هنا: أن ما ذكرته من النهي عن التشبه بالأعاجم: إنما العبرة بما كان عليه صدر الإسلام، من السابقين الأولين، فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو المفضل، وكل ما خالف ذلك فهو المخالف، سواء كان المخالف لذلك اليوم عربي النسب، أو عربي اللسان، وهكذا جاء عن السلف. ("اقتضاء الصراط المستقيم" /1/ص456-457).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم؛ دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار، قديما وحديثا، ودخل فيه ما عليه الأعاجم المسلمون، مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها. ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم، ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم، ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس، إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف، بلوازمه من العربية وغيرها. ومن نقص من العرب إنما هو بتخلفهم عن هذا، وإما بموافقتهم للعجم. ("اقتضاء الصراط المستقيم" /1/ص449).
    ولا شك أن أن هذه السنن النبوية تزداد غربة عند تمكن الجهل واختفاء العلم الشرعي، وصار أهلها في شدة الغربة بين أظهر المسلمين أنفسهم.
    قال الإمام الآجري رحمه الله في حال المؤمن السني: ... غريباً في جميع أمور الدنيا والآخرة لا يجد على ذلك مساعدا يفرح به ولا مؤانسا يسكن إليه ، فمثل هذا غريب مستوحش لأنه صالح بين فساق ، وعالم بين جهال ، وحليم بين سفهاء ، يصبح حزينا ، ويمسي حزينا ، كثير غمه قليل فرحه ، كأنه مسجون كثير البكاء كالغريب الذي لا يعرف ولا يأنس به أحد ، يستوحش منه من لا يعرفه. فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وسيعود غريبا كما بدأ» والله أعلم.
    قلت –الآجري رحمه الله-: فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة ، ويئن بزفرة ، ودموعه تسيل بعبرة ، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه ، وليس كما ظننت ، وإنما هو خائف على دينه أن يصاب به ، لا يبالي بذهاب دنياه إذا سلم له دينه ، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران .
    (انتهى من "الغرباء"/للآجري/ص 26).
    ولكن هذه الغربة فلاح وفوز لأنها كانت في ذات الله.
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء». (أخرجه مسلم ((145)/دار الكتاب العربي)).
    قال القرطبي رحمه الله: وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام: «بدأ الاسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء». ("الجامع لأحكام القرآن"/4/ص172).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأهل الإسلام في الناس غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز و جل فيهم: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله﴾ ]الأنعام: 116[، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه –إلى قوله:- فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريباً وأنه سيعود غريباً كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء .
    وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم. ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم: «فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده». ] أخرجه البخاري (4581) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه[. فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه. ("مدارج السالكين"/3/ص157-158/دار الحديث).
    عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعا: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك - يعني بنفسك - ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله» ().
    الباب الثالث: أهل السنة أحقّ بسنة رسول الله من زمرة أهل البدعة

    لنا جواب آخر عن أصل المسألة، وهو: أن لبس العمامة ليس غريباً مطلقاً في هذا البلد، وقد لبسها كثير من مشايخ الصوفية وبعض رؤوس العقلانية دهراً طويلاً بلا إنكار، بل لبسها بعض أئمة المساجد بلا نكير من المسلمين سنين طويلاً. فعلام يتدهور بعض أهل السنة في هذا البلد في هذه السنة مع أن هؤلاء المبتدعة وغيرهم يتمتعون بها ويعتزّون بها في هذا البلد؟
    بل أهل السنة والجماعة أحقّ بها وأهلها. وكلما كان الإنسان أكثر علماً وإيماناً واتباعاً للحق كان أولى من غيرهم بالأنبياء وسننهم المستقرة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68].
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات؛ باطنا وظاهرا. ("مجموع الفتاوى" /5/ص 111).
    واعلم أننا لا نوجب ما ليس بواجب، وإنما هذه الرسالة ردٌّ على من حكم بكراهة لبس العمامة ونحوها من لباس النبي صلى الله عليه وسلم في الدول الأعجمية بعلة أنها من ثياب الشهرة. فكلامه مردود عليه كائناً من كان.
    ولهذا نقول كما قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
    قال الإمام الحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب رحمه الله في تفسير هذه الآية: حجة بينة في نفي التقليد؛ لأن الهاء في (دونه) لا تخلو: إما أن تكون راجعة على الرب أو على التنزيل، وقد نهى عن اتباع غيره كما ترى. ("نكت القرآن الدالة على البيان"/1/ص407/دار ابن عفان).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في معنى الآية: فأمر باتباع المنزل منه خاصة، وأعلم أن من اتبع غيره فقد ابتع من دونه أولياء. ("إعلام الموقعين"/1/ص 48).
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).
    وقال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله: ذكرنا في كتاب المدبر: أن الشافعي له ثلاث كلمات ما تكلم بها أحد في الإسلام قبله، ولا تفوه بها أحد بعده، الأولى: سمعت ابن خزيمة، يقول: سمعت المزني، يقول: سمعت الشافعي، يقول: إذا صح لكم الحديث، فخذوا به، ودعوا قولي.
    الثانية: سمعت ابن المنذر، يقول: سمعت الحسن بن محمد الزعفراني، يقول: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ.
    الثالثة: سمعت موسى بن محمد الديلمهي، يقول: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: سمعت الشافعي، يقول: وددت أن الناس لو تعلموا هذه الكتب، ولم ينسبوها إلي.
    (انتهى من "آداب الشافعي ومناقبه"/لابن أبي حاتم/ص 247-248).
    وقال الإمام الوادعي رحمه الله: اسمعوا اسمعوا فتوى أكبر واحد عندي تخالف الدليل لا قيمة لها. وفتوى أصغر منكم و معه دليل على العين والرأس حتى لا تخوفني بفتوى فلان ولا فلان. بل أنا خصم فلان ما كان الذي يخرج فتاوى زائغة فأنا خصمه. ("غارة الأشرطة"/1/ص46/مكتبة صنعاء الأثرية).
    فطريقة السلف هو معيار الحق، وآراء الخلف ليست صحيحة إذا خالفت منهج السلف.
    قال الإمام مالك رحمه الله: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. (كما في "المبسوط" لإسماعيل بن إسحاق/نقله القاضي عياض رحمه الله في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"/2/ص88).
    وقد ثبت أن الإمام الأوزاعي رحمه الله قال: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك بالقول. ("الـشريعة" /للآجري /ص67/دار الكتاب العربي/صحيح).
    وفي رواية الهروي رحمه الله: قال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها بالقول، فإن الأمر ينجلي حين ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم. ("أحاديث في ذم الكلام وأهله" /رقم (317)).
    والله تعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين.
    إندونيسيا، 3 شعبان 1436 هـ
يعمل...
X