حكم القيام
عند رؤية الجنازة
كتبه الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
فقدت رسالة من أحد الإخوة قال فيها: روى جابر بن عبد الله قال : مرت بنا جنازة فقام لها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقمنا معه، فقلت: يا رسول الله إنها جنازة يهودي. قال: «إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا». (أخرجه أحمد (1992) وصححه ابن حبان (3050)).
فهل هذا الحديث صحيح؟ وهل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحترام الجنازة، أم لأن في الموت فزعا؟ جزاكم الله خيرا.
أقول مستعيناً بالله ومفتقراً إلى توفيقه وطامعا في أجر التعاون مع عباده:
الباب الأول: أدلة القيام عند رؤية الجنازة
إن مدار رواية الإمام أحمد : هشام، يرويه عن يحيى بن أبي كثير عن عبيد الله بن مقسم عن جابر به.
وهشام هذا هو الدستوائي كما هو مصرح في "صحيح مسلم" (960).
رجاله كلهم ثقات، فالحديث صحيح. وهو أخرجه البخاري (1311) ومسلم (960) في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
هذا دليل على شرعية القيام للميت إذا مرّ بنا. ورواية هذه الشرعية جاءت من عدد من الصحابة.
جاء من رواية ابن أبي ليلى : أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما فقيل لهما: إنها من أهل الأرض. فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم مرت به جنازة فقام فقيل: إنه يهودي، فقال: «أليست نفساً؟». (أخرجه البخاري (1312) ومسلم (961)).
وجاء عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة رضي الله عنهم: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إذا رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن ماشيا معها فليقم حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه». (أخرجه البخاري (1307) ومسلم (958)).
وجاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع». (أخرجه البخاري (1310) ومسلم (959)).
ثم جاء ما يدل على أن الأمر بالقيام ليس واجبا وإنما مستحباً:
عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ أنه قال : رآني نافع بن جبير ونحن في جنازة قائماً وقد جلس ينتظر أن توضع الجنازة، فقال لي: ما يقيمك ؟ فقلت: أنتظر أن توضع الجنازة، لما يحدث أبو سعيد الخدري. فقال نافع: فإن مسعود بن الحكم حدثني عن علي بن أبي طالب أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قعد. (أخرجه مسلم (962)).
الباب الثاني: علة القيام عند رؤية الجنازة
ما علة القيام للجنازة؟
علة القيام حصول الموت تذكراً للموت، وتنبهاً، ونفياً للغفلة. قول رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا». هذا يدل على أن الأمر بالقيام منوط على رؤية الجنازة. فهذا يدل على أن رؤية الجنازة علة للأمر بالقيام.
قال الإمام أبو الحسن علي الأنصاري الشافعي رحمه الله: والحكم المعلق على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللاً بما منه الاشتقاق. ("الإبهاج في شرح المنهاج"/2 /ص305/لتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي الأنصاري الشافعي).
والمراد هنا: أن قوله: (إذا رأيتم الجنازة)، فعل (رأى) اشتق منه المصدر، وهو (الرؤية)، وهذا المصدر هو الوصف المناسب الذي من أجله جاء الأمر: (فقوموا). فهذا يدل على أن حكم القيام معلل بوصف الرؤية، أي: رؤية الجنازة.
ومن أجل ماذا يقوم؟ من أجل تذكر الموت فيفزع فينتبه.
قال القاضي عياض رحمه الله: الباعث على القيام أحد أمرين إما ترجيب الميت وتعظيمه، وإما تهويل الموت وتفظيعه والتنبيه على أنه بحال ينبغي أن يقلق ويضطرب من رأى ميتا استشعاراً منه ورعباً. ويشهد للثاني قوله: «فإذا رأيتم» إلخ لأن ترتب الحكم على الوصف سيما إذا كان بالغاً يدل على أن الوصف علة للحكم انتهى. (كما في "فيض القدير"/2/ص396).
وكذلك إتيان حرف الفاء بعد الوصف يدل على أن ذلك الوصف علة للأمر. «إذا رأيتم الجنازة فقوموا». قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الأمر بمخالفة الكفار: أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا على أنه علة له من غير وجه. ("اقتضاء الصراط المستقيم"/1/ص172).
فكذلك هنا: علة الأمر بالقيام هي رؤية الجنازة، وأيضاً: لأن في الموت خوفاً فلا بد من الانتباه والتذكر لذلك.
والعلة الثالثة: القيام للملائكة الذين شيعوا الجنازة. عن أنس رضي الله عنه: أن جنازة مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام. فقيل: إنها جنازة يهودي. قال: «إنما قمنا للملائكة». ("السنن الكبرى للنسائي (2055)/سنده صحيح).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وعنه في ذلك ثلاث علل: إحداها: قوله: «إن الموت فزع»، ذكره مسلم في حديث جابر، وقال: «إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا».
الثانية: أنه قام للملائكة، كما روى النسائي عن أنس: أن جنازة مرت برسول الله صلى الله عليه و سلم فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي. فقال: «إنما قمنا للملائكة».
الثالثة: التعليل بكونها نفساً. وهذا في "الصحيحين" من حديث قيس بن سعد وسهل بن حنيف قالا: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم مرت به جنازة، فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: «أليست نفسا». فهذه هي العلل الثابتة عنه.
وأما التعليل بأنه كراهية أن تطوله فلم يأت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة. ولو قدر ثبوتها فهي ظنّ من الراوي. وتعليل النبي صلى الله عليه و سلم الذي ذكره بلفظه أولى.
("حاشية ابن القيم على سنن أبي داود"/8/ص320).
فهل يجوز أن تكون في حكم واحد علل كثيرة؟ نعم يجوز ذلك لعدم دليل المنع. ولا منافاة في هذه العلل.
قال العلامة السندي رحمه الله: لا معارضة إذ يجوز تعدد الأعراض والعلل فيكون القيام مطلوبا تعظيما لأمر الموت والملائكة جميعا وغير ذلك والله تعالى أعلم . ("شرح سنن النسائي"/3/ص212).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فإن ذلك أيضا لا ينافي التعليل السابق لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. ("فتح الباري"/3/ص180).
فإذا لم نعلم وجود الجنازة حولنا لم يشرع لنا القيام في هذه الحال، لعدم العلة، كما في القاعدة المشهورة: فإن الحكم يدور مع العلة المأثورة وجودا وعدما. ("أصول السرخسي"/2 /ص182).
الباب الثالث: حكم القيام عند رؤية الجنازة
وما حكم القيام؟
اختلف العلماء في ذلك، ونختار ما هو أوفق للأدلة.
قال الإمام النووي رحمه الله: قال القاضي: اختلف الناس في هذه المسألة، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: القيام منسوخ. وقال أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن الماجشون المالكيان: هو مخيّر. قال الشافعي في قيام من يشيعها عند القبر: فقال جماعة من الصحابة والسلف: لا يقعد حتى توضع. قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرّت به. وبهذا قال الأوزاعى وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن. قال: واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن، فكره قوم، وعمل به آخرون. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم. هذا كلام القاضي. والمشهور في مذهبنا: أن القيام ليس مستحباً. وقالوا: هو منسوخ بحديث علي. واختار المتولي من أصحابنا أنه مستحب وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب والقعود بياناً للجواز. ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث. ولم يتعذر، والله أعلم. ("المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج"/للنووي /8/ص70-71).
هذا يدل على أن الإمام النووي رحمه الله ليس مقلداً لإمام مذهبه، بل هو يختار ما هو الأظهر والأنسب للأدلة. وكلامه حق أن الأمر بالقيام عند مرور الجنازة مستحب بدليل جلوس النصي صلى الله عليه وسلم كمل في حديث علي رضي الله عنه. وحديث علي يدل على جواز الجلوس، لا يدل على نسخ شرعية القيام. فالجمع بين الأدلة ممكن، فلا يصار إلى النسخ.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بها كلها وجب ذلك ، ولم يجز دعوى النسخ معه ، وهذه قاعدة مطردة. ("فتح الباري"/لابن رجب /5/ص84).
هل يقام لجنازة الكافر؟
نعم، لقيام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة اليهودي، ليس من أجل أنه يستحق الاحترام ولكن لعظم أمر الموت.
قال القرطبي رحمه الله: وقوله : «إن الموت فزغ»؛ أي : يفزع إليه ومنه ، وهو تنبيه على استذكاره واستعظامه ، وجعله من أهم ما يخطر بالإنسان . والمقصود من هذا الحديث أن لا يستمرَّ الإنسان على غفلته عند رؤية الميت ، فإنه إذا رأى الميت ، ثم تمادى على ما كان عليه من الشغل ، كان هذا دليلاً على غفلته ، وتساهله بأمر الموت ، فأمر الشرع أن يترك ما كان عليه من الشغل ويقوم ؛ تعظيمًا لأمر الميت ، واستشعارًا به . وعلى هذا فيستوي في ذلك الميت المسلم وغيره ، ولذلك قال في الميت الذمِّي : «أليست نفسًا؟» معناه : أليست الجنازة نفسًا قُبِضَتْ؟ ("المفهم"/8/ص96).
وقال الإمام النووي رحمه الله: قوله: (إنها من اهل الأرض) معناه: جنازة كافر من أهل تلك الأرض. ("شرح النووي على مسلم"/7/ص29-30).
نعم، الحكم عام متعلق بوجود الموت، لا متعلق بدين الميت.
قال العلامة السندي رحمه الله: أي فلا ينبغي الاستمرار على الغفلة على رؤية الميت فالقيام لترك الغفلة والتشمير للجد والاجتهاد في الخير وفي بعض النسخ أن الموت فزع أي ذو فزع أو هو من باب المبالغة ومعنى قوله فإذا رأيتم الجنازة فقوموا أي تعظيما لهول الموت وفزعه لا تعظيما للميت فلا يختص القيام بميت دون ميت . ("شرح سنن النسائي"/3/ص208).
والله تعالى أعلم، انتهى الجواب بعون الله وحده.
والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 5 رجب 1435 هـ.