حكم صلاة الجماعة
مع اختلاف النيات
كتبه الفقير إلى الله
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيممع اختلاف النيات
كتبه الفقير إلى الله
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه
مقدمة المؤلف عفا الله عنه
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين أما بعد:
فقد سألنا أخ فاضل –حفظه الله ووفقه لكل ما يحبه ويرضاه- عن حكم صلاة الجماعة حيث أن الإمام ينوي الفرض والمأموم ينوي النافلة أو العكس. ويحب أخونا أن يكون الجواب مختصراً مفيداً مبنياً على دليل واضح مع بيان جلي.
فأقول مستعينا بالله عز وجل:
الباب الأول: افتقار العبد إلى توفيق الله
إن مسألة صلاة المفترض خلف المتنفل قد اختلف فيه العلماء الكبار أصحاب بحار العلوم قديماً وحديثاً. ولم يختلفوا في صحة صلاة المتنفل وراء المفترض. فنحن نفتقر إلى هداية الله لمعرفة هاتين المسألتين –وغيرهما من المسائل- حتى لا نقع في تيه وحيران في أمورنا كلها.
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «... يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم». الحديث. (أخرجه مسلم (2577)).
فشدة افتقار العبد إلى هداية ربه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. فعلينا دوام هذا الدعا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6، 7].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدا حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال؛ لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهو عنه، والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم . فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. ("مجموع الفتاوى"/10/ص108).
فمجرد الذكاء لا يكفي في معرفة كثير من المسائل. بل توفيق الله هو الأساس.
هتف الذكاء وقال لست بنافع * إلا بتوفيق من الوهاب
("سير أعلام النبلاء"/للذهبي/18/ص58).
إذا كان عون الله للمرء شاملاً ... تهيء له من كل شيء مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
("الكشكول/للبهاء العاملي/ص 240).
فعلينا أن نجتهد في معرفة الحق بفهم دليله، مع التضرّع لربنا ودعائه رغبة ورهبة، وألا نتكل على آرائنا وبراعة عقولنا. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه، وإعانته. فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم. والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك. فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم. وما أتي مَن أتي إلا مِن قِبل أضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء. ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار، والدعاء. وملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد. ("الفوائد"/ص 97).
فصلاة المتنفل خلف المفترض: جائزة بالإجماع كما سيأتي ذكرها، والراجح في مسألة صلاة المفترض خلف المتنفل جوازها لرجحان الأدلة عليها، كما رجحه بعض أئمتئنا. فبيان ذلك على سبيل الاختصار:
الباب الثاني: جواز صلاة المفترض خلف المتنفل
يجوز لمن أراد صلاة الفرض أن يأتمّ بالمتنفل. وفي ذلك أدلة منها:
الدليل الأول: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم يرجع فيؤم قومه فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل فكان معاذا تناول منه فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال: «فتان فتان فتان». ثلاث مرار أو قال: «فاتنا فاتنا فاتنا» وأمره بسورتين من أوسط المفصل. (أخرجه البخاري (701)).
هذا الحديث واضح في جواز صلاة الفريضة خلف المتنفل، لأن بني سليمة يصلون العشاء فرضاً، وإمامهم معاذ بن جبل وهو متنفل لأنه قد صلى العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الجميع.
قال الإمام أبو إسحاق الفيروز آبادي رحمه الله: ويجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل والمفترض بالمفترض في صلاة أخرى، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العشاء الأخيرة ثم يأتي قومه في بني سلمة يصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء، ولأن الاقتداء يقع بالأفعال الظاهرة وذلك يمكن مع اختلاف النية. فأما إذا صلى صلاة الكسوف خلف من يصلي الصبح أو الصبح خلف من يصلي الكسوف لم يجز لأنه لا يمكن الإئتمام مع اختلاف الأفعال. ("المهذب"/1/ص 183).
والدليل الثاني: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى بهم ركعتين ثم سلم. فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم. فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين. (أخرجه أبو داود (1240) والنسائي (1550)/صحيح).
هذا أيضا دليل جلي على جواز صلاة الفرض خلف المتنفل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين الأوليين فرضاً ثم الركعتين الأخريين نفلاً، وخلفه مأمومون مفترضون.
قال الإمام النووي رحمه الله: كان النبي صلى الله عليه و سلم متنفلاً في الثانية وهم متفرضون. واستدل به الشافعي وأصحابه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، والله أعلم. ("المنهاج"/للنووي/6/ص130/تحت حديث برقم (463)).
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وفي صلاة المفترض خلف المتنفل روايتان إحداهما: لا تصح نص عليها أحمد في رواية أبي الحارث و حنبل واختارها أكثر أصحابنا. هذا قول الزهري و مالك وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» متفق عليه. ولأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية الإمام أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر. والثانية: يجوز، نقلها إسماعيل بن سعد، ونقل أبو داود قال : سمعت أحمد سئل عن رجل صلى العصر ثم جاء فنسي فتقدم يصلي بقوم تلك الصلاة ثم ذكر لما أن صلى ركعة فمضى في صلاته قال : لا بأس. وهذا قول عطاء و طاوس و أبي رجاء و الأوزاعي و الشافعي و سليمان بن حرب و أبي ثور و ابن المنذر و أبي إسحاق الجوزجاني، وهي أصح لما روى جابر بن عبد الله: أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة متفق عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى بطائفة من أصحابه في الخوف ركعتين ثم سلم ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم. رواه أبو داود و الأثرم. والثانية منهما تقع نافلة وقد أمّ بها مفترضين.
وروي عن أبي خلدة قال : أتينا أبا رجاء لنصلي معه الأولى فوجدناه قد صلى فقلنا جئناك لنصلي معك فقال : قد صلينا ولكن لا أخيبكم. فقام فصلى وصلينا معه، رواه الأثرم. ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى كالمتنفل خلف المفترض.
فأما حديثهم فالمراد به: لا تختلفوا عليه في الأفعال، بدليل قوله : «فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون». ولهذا يصح ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما. وقياسهم ينتقض بالمسبوق في الجمعة يدرك أقلّ من ركعة ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة.
(انتهى من "المغني"/2/ص52).
الباب الثالث: جواز صلاة المتنفل خلف المفترض
يجوز لمن أراد صلاة النفل –النافلة التي شرعت فيها الجماعة- أن يأتمّ بالمفترض. وفي ذلك أدلة منها:
الحديث الأول: حديث جابر بن يزيد بن الأسود العامري ، عن أبيه رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف. فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخريات القوم فلم يصليا معه فقال: « علي بهما». فأتي بهما ترعد فرائصهما فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا : يا رسول الله كنا صلينا في رحالنا . فقال: «لا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ؛ فإنها لكم نافلة». (أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1310)، والطبراني في "الكبير" (613)/صحيح).
هذا دليل واضح على مشروعية صلاة النافلة خلف المفترض لأن الصحابيين رضي الله عنهما قد صليا الصبح في بيوتهم، فأقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فريضتهما في البيوت، وأمرهما أن يصليا مع الجماعة وهم في الفريضة، وتكون صلاتهما معهم نافلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما من أدى فرضه إماماً، أو مأموماً، أو منفرداً : فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه مثل أن يصلي الإمام مرتين ؟ هذه فيها نزاع مشهور، وفيها ثلاث روايات عن أحمد :
إحداها : أنه لا يجوز، وهي اختيار كثير من أصحابه، ومذهب أبي حنيفة، ومالك .
والثانية : يجوز مطلقا، وهي اختيار بعض أصحابه : كالشيخ أبي محمد المقدسي، وهي مذهب الشافعي .
والثالثة : يجوز عند الحاجة، كصلاة الخوف . قال الشيخ : وهو اختيار جدنا أبي البركات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين، وصلى بطائفة وسلم، ثم صلى بطائفة أخرى وسلم .
ومن جوز ذلك مطلقا، احتج بحديث معاذ المعروف : أنه كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينطلق فيؤم قومه . وفي رواية : فكانت الأولي فرضا له، والثانية نفلا .
والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة . فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع . كقوله : «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه». وبأن الإمام ضامن، فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم.
وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال، كما جاء مفسرا، وإلا، فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة، فيكون متنفلا خلف مفترض . كما هو قول جماهير العلماء. وقد دل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : «يكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة».
وأيضا، فإنه صلى بمسجد الخيف، فرأي رجلين لما يصليا، فقال : «ما منعكما أن تصليا معنا ؟» قالا : قد صلينا في رحالنا، فقال : «إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة». وفي "السنن" أنه رأى رجلا يصلي وحده فقال : «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟!». فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث، وثبت أيضا بالعكس. فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو النفل ليست بواجبة، والإمام ضامن، وإن كان متنفلا .
ومن هذا الباب : صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتمّ ركعتين، فأظهر الأقوال جواز هذا كله، لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانياً إلا لحاجة، أو مصلحة، مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للإمامة غيره، أو هو أحق الحاضرين بالإمامة؛ لكونه أعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله، أو كانوا مستوين في العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم الله ورسوله، أو أقدمهم سنا .
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/23/ص384-386).
والدليل الثاني: عن عبدالله بن مسعود قال –في حكم المرفوع-: إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى فإذا رأيتوهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة. (أخرجه مسلم (534)).
قال الإمام النووي رحمه الله: ومعناه صلوا في أول الوقت يسقط عنكم الفرض ثم صلوا معهم متى صلوا لتحرزوا فضيلة أول الوقت وفضيلة الجماعة، ولئلا تقع فتنة بسبب التخلف عن الصلاة مع الامام وتختلف كلمة المسلمين. وفيه دليل على إن من صلى فريضة مرتين تكون الثانية سنة والفرض سقط بالأولى، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا. ("المنهاج"/للنووي/5/ص16).
هذا واضح في شرعية صلاة المتنفل خلف المفترض.
قال شمس الأئمة محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله: اقتداء المتنفل بالمفترض فهو جائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم: «سيكون أمراء بعدي يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فإذا فعلوا فصلوا أنتم في بيوتكم ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة» أي نافلة ، ولأن المقتدي بنى صلاته على صلاة إمامه كما أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته ، وبناء النفل على تحريمة انعقدت للفرض يجوز، وكذلك اقتداء المتنفل بالمفترض. ("المبسوط في شرح الهداية"/1/ص401).
والدليل الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أبصر رجلا يصلي وحده فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه». (أخرجه أحمد (11032) وأبو داود (574)/صحيح).
هذا أيضاً دليل على شرعية صلاة الجماعة مع اختلاف النيات، لأن هذا الرجل يصلي فرضاً، والذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة معه صار متنفلاً.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ولا يختلف المذهب في صحة صلاة المتنفل وراء المفترض، ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافاً. وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» والأحاديث التي في إعادة الجماعة، ولأن صلاة المأموم تتأدى بنية الإمام بدليل ما لو نوى مكتوبة فبان قبل وقتها. ("المغني"/2/ص52).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: وأما إذا كان الإمام مفترضاً والمؤتم متنفلاً فلحديث: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، فإن الخطاب لجماعة قد صلوا فريضتهم. ("السيل الجرار"/1/ص254).
وقال رحمه الله في "نيل الأوطار" (3/ 185): والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفرداً وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة. قال ابن الرفعة : وقد اتفق الكل على أن من رأى شخصا يصلي منفردا لم يلحق الجماعة فيستحب له أن يصلي معه وإن كان قد صلى في جماعة. وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه قال : وبه يقول أحمد وإسحاق. اهـ.
فصلاة المتنفل خلف المفترض مشروعة إجماعاً، وصلاة المفترض خلف المتنفل مشروعة على الراجح.
قال ابن حجر رحمه الله: واستدل بهذا الحديث –حديث جابر في قصة معاذ رضي الله عنهما- على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل. ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم من طريق بن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد: هي له تطوع ولهم فريضة. وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح وقد صرح بن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه. فقول بن الجوزي: إنه لا يصح، مردود. وتعليل الطحاوي له بأن بن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق بن جريج ولم يذكر هذه الزيادة ليس بقادح في صحته لأن بن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذاً عن عمرو منه. ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها.
وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه ولا سيما إذا روى من وجهين والأمر هنا كذلك فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعاً لعمرو بن دينار عنه وقول الطحاوي هو ظن من جابر مردود لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بان يكون ذلك الشخص أطلعه عليه.
وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله صلى الله عليه و سلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» فليس بجيد لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل. ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه لأنها ليست حينئذ فرضا له.
وكذلك قول بعض أصحابنا لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه و سلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع.
وكذلك قول الخطابي: إن العشاء في قوله كان يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم العشاء حقيقة في المفروضة فلا يقال كان ينوي بها التطوع لأن لمخالفه أن يقول هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل.
وأما قول بن حزم: إن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعا فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم فهذا إن كان كما قال نقص قوي. وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة. وأما قول الطحاوي لا حجة فيها لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقريره فجوابه: أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة والواقع هنا كذلك فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا قاله بن حزم. قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وبن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم.
وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلي مرتين أي فيكون منسوخا فقد تعقبه بن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة أه وكأنه لم يقف على كتابه فإنه قد ساق فيه دليل ذلك وهو حديث بن عمر رفعه لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين ومن وجه آخر مرسل إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم ثم يصلون مع النبي صلى الله عليه و سلم فبلغه ذلك فنهاهم ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر لاحتمال أن يكون النهى عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين بل لو قال قائل: هذا النهى منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدا. ولا يقال القصة قديمة لأن صاحبها استشهد بأحد لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع أن يكون النهى في الأولى والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال صلى الله عليه و سلم للرجلين اللذين لم يصليا معه: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود العامري وصححه بن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم.
ويدل على الجواز أيضا أمره صلى الله عليه و سلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن: «صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة».
(انتهى من "فتح الباري"/لابن حجر/2/ص195-197).
الباب الرابع: أهمية صلاة الجماعة، وأن صاحب الهمة العالية لم يرض بالدون
إن الله تعالى قد وعد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بجزيل الأجور وعلوّ الدرجات لمن مشى إلى المسجد لصلاة الجماعة. فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِى الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِى بَيْتِهِ وَفِى سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّى عَلَيْهِ مَا دَامَ فِى مُصَلاَّهُ اللهمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللهمَّ ارْحَمْهُ . وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِى صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ». (أخرجه البخارى (647)/دار الكتب العلمية) ومسلم (649)/ابن الجوزي)).
في رواية: خمس وعشرون درجة. (أخرجه البخارى (4717)/دار الكتب العلمية) ومسلم ((649)/نفس المصدر)).
فأهل علو الهمة وإن علموا صحة الصلاة المكتوبة في البيوت مع إثم ترك الجماعة، لم يرضوا بفوات تلك الفضائل الموعودة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها. ("الفوائد"/ص 177).
نصيحة طيبة من العلامة ابن عقيل رحمه الله: تفكرت يوما فرأيت أننا في دار المعاملة والأرباح والفضائل فمثلنا كمثل مزرعة من أحسن بذرها والقيام عليها وكانت الأرض زكية والشرب متوفرا كثر الريع ، ومتى اختل شيء من ذلك أثر يوم الحصاد ، فالأعمال في الدنيا منها فرض وقد وقع فيه تفريط كثير من الناس ، ومنها فضيلة وأكثر الناس متكاسل عن طلب الفضائل ، والناس على ضربين عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل ، وجاهل يظن أنه على الصواب ، وهذا الأغلب على الخلق ، -إلى قوله:- فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه ، ومحاسبة النفس في أفعالها ، ودفع الكدر عن باطن السر وجمع الزاد للرحيل ، والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي ؟ فالظاهر قدوم الأكثرين على الحسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل ، فالله الله يا أهل الفهم اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاستلاب بغتة على شتات القلب وضياع الأمر . ("الآداب الشرعية"/2/ ص332-333).
فمن بذل جهده في تحصيل الجماعة في المسجد فساق القدر إلى فوات الجماعة الأولى لعذر من الأعذار لم يخيب الله سعيه، بل أعطاه فرصة أخرى بالجماعة الأخرى ليتدارك ما فات، فلله الحمد في الأولى والآخرة، وهو أرحم بنا منا بأنفسنا، وهو أرحم الراحمين.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 6 جمادى الثانية 1435 هـ.