إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

﴿ الحث والتحريض على تعلم أحكام المريض ﴾

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ﴿ الحث والتحريض على تعلم أحكام المريض ﴾

    ﴿ الحث والتحريض على تعلم أحكام المريض ﴾
    المقدمة الحمد لله رب العالمين، أما بعد:

    فأصل هذه الرسالة خطبة جمعة لنا، فرّغت من شريط، فهذبتها، وأضفت إليها بعض المسائل من بابها، راجيًا من المولى الكريم عزوجل أن ينفعني وإخواني المسلمين بها.
    مع العلم: أن هذا الموضوع المهم تكتب فيه بعض الباحثات في دار الحديث بدماج؛ كتابة موسعة، نسأل الله أن يعينها على ذلك.
    أبو عبد الرحمن: يحيى بن علي الحجوري

    (5/شعبان 1426ﻫ)
    ****************************
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102].
    ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1].
    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[الأحزاب: 70-71].
    أما بعد:
    (إن أصدق الحديث كتاب، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
    **************************
    أيها الناس، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[البلد: 1-4]، ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾[الحج:5].
    ويقول الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم:54].
    هذه الآيات العظيمة، فيها بيان ما يتقلب فيه الإنسان في حياته، من صحة ومرض، وعافية وسقم، وبؤس وسرور، ويسر وعسر، لا بد أن تمر على الحي أمور كثيرة يتقلب فيها، ومن تلك الأمور الأسقام، والأمراض، والابتلاءات، لا يمكن أن ينجو عبد في هذه الدنيا من البلاء، براً كان أو فاجراً، قال الله سبحانه: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾[النساء:104]، وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾[الفرقان:20]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾[الانشقاق:6].
    وقال سبحانه في كتابه الكريم: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الانبياء:35]، وإنها تعرض هذه الأمور، فكان لا بد أن يعلم حكمها، ويعرف عظمها وشأنها، فيا أيها الناس، إن هذه الابتلاءات التي تحصل على بني آدم ليست على حد سواء، فيما يتعلق بأصحابها، فمن الناس من يكون البلاء عليه يرفع الله به من درجاته يوم القيامة، فبعد أن ذكر الله سبحانه، ما جرى لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[يوسف:76].
    وفي (الصحيحين) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: (أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ) قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ).
    وهذا دليل أن رسل الله عليهم الصلاة والسلام تضاعف لهم الأجور، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الانبياء: 83-84].
    وهكذا ما يصابون به من الابتلاء، من الأمراض وغيرها، كل ذلك لرفع درجتهم عند الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن العبد تكون له المنزلة عند الله، لا ينالها بعمل، فلا يزال الله سبحانه وتعالى يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياه)، أخرجه أحمد، من حديث أبي هريرة، وهو حديث حسن.
    وتكون البلوى في حق المؤمنين، أصحاب اللمم، تكفيراً لذنوبهم، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه).
    فشأن المؤمن أنه إذا ابتلي صبر، وكان ذلك خيرًا له، عند الله سبحانه وتعالى، روى الإمام مسلم في (صحيحه)، من حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن).
    وقال صلى الله عليه و سلم: (ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر)، متفق عليه، من حديث أبي سعيد الخدري.
    وروى البخاري في (صحيحه)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (من يرد الله به خيراً يصب منه)، فهذه الأمراض والأسقام والابتلاءات التي يصاب بها المؤمن هي خير له، من عدة وجوه، ومن أعظم تلك الوجوه تكفير السيئات، فإن العبد يبتلى على قدر دينه، كما ثبت في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلباً شدد عليه وإن كان في دينه رقة خفف عنه).
    وأخرج البخاري من حديث أنس ط، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله عزوجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر؛ عوضته منهما الجنة) يريد عينيه.
    المؤمن ليس كالكافر أبداً حتى في حياته الدنيا، قال النبي صلى الله عليه و سلم كما في (الصحيحين) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تكفؤها الريح([1])، ومثل الكافر كمثل الأرزة، لا تزال ثابتة حتى يكون إنجعافها([2]) جتثاثها مرة واحدة)، المؤمن حالات كثيرة تنوبة؛ هي: مكفرات لذنوبه، والكافر قد يبتلى بالصحة في جسده، والسعة في ماله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: 44-45].
    وقال سبحانه وتعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم:44-145] وقال: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾[الطارق:17]، وقال تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾[المدثر: 11-15].
    وإذا ابتلي بالأمراض والأسقام، وغيرها من الابتلاءات، لا تكفر ذنوبه؛ ما دام مشركًا قال الله تعالى: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [الرعد:33-34].
    فالله عز وجل يبتليهم ويمحقهم، والمؤمن يمحصه ويثبته، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران:141]، وما دام المؤمن مبتلى؛ فكان ينبغي له أن يأخذ من صحته لمرضه، فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
    ينبغي للعاقل اللبيب أن يأخذ من صحته لمرضه، حتى لا يغبن، فإنه إذا كان في صحة ولم يأخذ لما بعدها، يغبن، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾[التغابن:9]، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
    الناس قد يغبونون، ولكن هذا أشد غبناً على صحته التي فرط فيها، ولم يأخذ لمرضه من العمل الصالح، ومن الزاد النافع، يغبن على تفريطه في هذا العمر، الذي يُسئل عنه يوم القيامة، فقد ثبت بمجموع طرقه من حديث ابن مسعود، وأبي برزة، ومعاذ بن جبل ن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا وَضَعَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ).
    أين أتلف هذا العمر، وأين أذهبه، وأين جعل هذه الصحة، وهذه العافية، أتزود بها للآخرة، أم أفناها في الملاهي والملاعب، والتهالك على الدنيا، فإن أعظم ما يأخذه الإنسان من صحته لمرضه العمل الصالح، فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله: من حديث أبي موسى الأشعري ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيم).
    إذا كان يعمل العمل الصالح في صحته، فإنه إذا مرض يكون قد أخذ من صحته لمرضه، سواء من الزاد الدينوي؛ بسبب طاعته لن يضيعه الله، أو من العمل الصالح، ويكتب له ذلك العمل الذي كان يعمله في حالة صحته، وللحديث شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إذا مرض العبد المسلم قال الله عز وجل لملائكته، اكتبوا لعبدي صالح ما كان يعمل صحيحاً، فإن شفاه غسله، وإن توفاه) أو قال: (قبضه رحمه وغفر له).
    وجاء عن عبد الله بن عمر، وآخرين، والشاهد من ذلك أن العبد المسلم الصالح، في حال صحته يأخذ من صحته لمرضه، ويتزود من حياته إلى بعد موته، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ط، هذا الذي استفاد من حياته جداً.
    ومن أجل الابتلاء خلق الله العباد، ليعبدوه، فمنهم من يعبده، ومنهم من لا يعبده قال سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك: 1-2].
    فأيها المسلم خذ من صحتك لمرضك، واستقم على طاعة ربك حتى تنتفع في الدنا والأخرى، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:133-134].
    خذ من صحتك لمرضك قبل أن تعرضك الأعراض، وتنخر جسمك الأمراض، فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا، نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا، نَهَشَهُ هَذَ).
    لا بد أن تنهش الإنسان أمور في هذه الحياة الدنيا، وإذا كان كذلك الواجب عليه أن يعلم أحكام هذه الأمور، أحكام هذا الذي ينهشه من حين إلى آخر، من أمراض وغيرها.
    ومهما طال العمر أو قصر، فلا بد من الموت؛ قال الله تعال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:185]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26-27]، وقال تعال عن مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر:39].
    وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولا يمكن لأحد أن يتقدم أجله أو يتأخر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، وقال: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [لأعراف:34]، وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام:61]، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة:11].
    وإن من مما ينبغي أن يُتعلمه أن يكثر الإنسان في حال مرضه؛ من الدعاء لله سبحانه، واللجوء إليه، والثقة به، قال الله سبحانه وتعالى، عن نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء: 75-80]، فالذي يشفي هو الله سبحانه وتعالى، قال عزوجل عن نبيه أيوب ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ الآية:[الأنبياء: 83-84].
    وقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:88].
    ليس مثل الثقة بالله سبحانه دواء ولا شفاء، فإن الله هو الشافي، من أسمائه الشافي، كما روى الشيخان في (صحيحيهم)، من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عاد مريضاً دعا له)، يضع يده عليه ثم يقول: (اللهم رب الناس، اذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقم).
    عاد النبي صلى الله عليه و سلم سعد بن أبي وقاص، وهو مريض، فقال: (اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعد)، أخرجه مسلم.
    وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال: يا محمد، اشتكيت؟ قال: نعم، قال: (بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل شر كل نفس وعين حاسد، الله يشفيك)، أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
    فكن واثقاً بالله أيها المريض، وأن الشفاء لا يجلب لك، إلا إذا أراده الله سبحانه وتعالى، فأكثر من دعائه عزوجل، فقد أرشد النبي صلى الله عليه و سلم عثمان بن أبي العاص لذلك الدعاء العظيم، لما شكى مرضاً في جسده، فقال: ضع يدك على المكان الذي تألّم، ثم قل: (بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر).
    فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستعيذ بالله، وأن يلجأ إلى الله سبحانه، لأنه يعلم الظاهر والباطن، ومهرة الأطباء قد لا تعلم مرضاً في الإنسان، وإذا علمته لا تستطيع شفاءه، والله سبحانه يعلمه، وإذا أراد أن يشفيه شفاه.
    وعليك بقراءة القرآن وتدبره، والعمل به، والاستشفاء به؛ بالرقية الشرعية، فالقرآن فيه شفاء بإذن الله قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً﴾[الاسراء:82].
    وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس:57]، وقال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام:92].
    فالقرآن فيه أدعية عظيمة، وفيه شفاء عظيم.
    وماء زمزم: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (طعام طعم، وشفاء سقم).
    والكمأة: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين).

    والحبة السوداء، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، والعسل، والحجامة: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (الشفاء في ثلاث: شربة، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي).
    وقال الله عز وجل عن العسل: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾[النحل:69].
    وبعض الأمراض لبن الإبل لها شفاء بإذن الله، ففي (الصحيحين) من حديث أنس ط أن أناسًا قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه و سلم فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يلحقوا بالذود؛ فيشربون من ألبانها وأبوالها فشربوا، وصحوا، وسمنوا، كل هذه أدوية ثابتة من الكتاب والسنة.
    واحذر أيها المسلم أن تذهب إلى الكهان، فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر: (أن من أتى كاهناً لا تقبل له صلاة أربعين يوم)، والحديثان ثابتان.
    الأول ثابت، والثاني في (صحيح مسلم)، وإياك والطيرة؛ أن تتطير بفلان، أو فلان، فإن الطيرة شرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم (الطيرة شرك، الطيرة شرك)، أخرجه أبو داود، بسند صحيح.
    وعليك بالرقية الشرعية، وإن طلبت الرقية فإنه ليس بحرام طلب بالرقية، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (استرقوا له)، وأمر عائشة بالرقية، وأما حديث: (لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتون وعلى ربهم يتكلون)، فهذا فيه أنه للأفضل فقط، وقد وجد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه قال: يا رسول الله، أدع الله أن أكون منهم؟ قال: (سبقك بها عكاشة).

    فالرقية مأذون فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم من الحمه، (لا رقية إلا من عين، أو حمة)، وقال النبي صلى الله عليه و سلم: (إن كان شيئاً يسبق القدر فإنه العين).

    وقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) (1)، ليس معناه أن الرقى الباقية ما فيها نفع، فإنها بإذن الله عز وجل نافعة، وليست شافية بذاتها، ولكن هي سبب للشفاء من الله عز وجل، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء:80].
    قال النبي صلى الله عليه و سلم: (اشف أنت الشافي)، فمقصود ذلك لا رقية أتم، لا رقية أنفع، وأذن في الرقية من النملة، والنملة ليست لسعة النملة، ولكن مرض يأخذ في الجلد فيكون المريض يشعر كأن نملة تلسعه في ذلك الموضع، فأذن النبي صلى الله عليه و سلم بالرقية من ذلك المرض، كما في (الصحيح).
    واعلم أنه يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني).
    وصح عند أحمد، من حديث أنس بن مالك ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيما يرويه عن ربه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني).
    وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (قال الله عزوجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء)، أخرجه أحمد، في (المسند)، من حديث واثلة بن الأسقع ط، وهو حديث صحيح، وما أحسن ما قيل:

    فلا تظن بربك ظن سوء
    فإن الله أولى بالجميل
    ما يجوز لك أن تظن بالله سواء، فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فأنت على وشك السفر والرحيل إلى الله سبحانه وتعالى، ومن طاعة الله حسن الظن به عزوجل؛ يرحمك الله وينجيك الله من عذابه؛ إن وفقك لذلك.
    وبادر بالتوبة فتفلح؛ قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31]، وقد أمر الله عز وجل نبيه في ذلك الحين، عند دنو الأجل أن يتوب، وهو إمام المتقين، وسيد المرسلين، وخليل رب العالمين، فقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾[النصر: 1-3].
    لما سئل ابن عباس عن هذه السورة، قال: ذلك أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم، أعلمه الله له، فإذا رأيت الفتح، فاعلم أن أجلك قد اقترب، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾[النصر:3]، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، كما في (الصحيح).
    وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه السورة يتأول هذه السورة ويقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك، اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، من هذا الاستغفار، فتب إلى الله قبل الغرغرة، فإنك حينئذٍ إن تبت ما لم تغرغر، تكون قد تبت من قريب، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾[النساء: 17-18].
    ومما يدل على أن التوبة تقبل قبل الغرغرة، ما ثبت عن ابن عمر ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله عزوجل يقبل الله توبة العبد ما لم يغرغر)، وحديث أبي موسى في (صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، أخرجه مسلم.

    فبادر بالتوبة، وفي (الصحيحين) من حديث المسيب بن حزن ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على أبي طالب وهو يحتضر، فقال: (يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، قال أهل العلم: إن هذا الكلام قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي طالب قبل أن تبلغ روحه الحلقوم، أما إذا بلغت الحلقوم فلا تنفع التوبة، ولما قال فرعون عليه لعائن الله: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس:90]، حين بلغت روحه الحلقوم، قال الله عز وجل: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾[يونس:91] ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس:92].
    الواجب على المسلم المبادرة بالتوبة إلى الله سبحانه، وعدم التسويف؛ فإن التسويف من أماني الشيطان.
    وللتوبة الصحيحة مع ما تقدم، خمسة شروط، الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب، الذي أنت واقع فيه، الشرط الثاني: الندم على فعل الذنب، الشرط الثالث: العزم على أن لا تعود إلى هذا العمل المحرم؛ فإن كنت ناويًا على أنك تعود إلى هذه المعصية؛ إذا شفيت، أو سنحت لك فرصة؛ فإن التوبة منه لا تصح، لأن هذه توبة عاجز عن فعل المحرم.
    الشرط الرابع مع ما تقدم: أنه إن كانت عليه حقوق آدميين، أو مظالم لمخلوقين؛ أن يتحلل من أصحابها، فإن كانت مالًا أو نحوه رده إليه، أو كانت غيبة أو قذفًا، طلب عفوه ومسامحته، وإن كان حدًا مكنه من الاقتصاص منه، إلا إذا عفا عنه.
    الشرط الخامس: الإخلاص في ذلك كله لله عزوجل.
    الواجب عليك التحلل من مظالم الناس، والتحلل من سائر الذنوب حتى ترحل وأنت خفيف، قال النبي صلى الله عليه و سلم (من كانت له مظلمة فليتحلل منها قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات)؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (وإنما الأعمال بخواتيمه)، متفق عليه، من حديث سهل بن سعد، وهذا للفظ للبخاري، فمن وفقه الله عزوجل للتحلل من مظالم الناس وحقوقهم، ومن سائر الذنوب، وكان على توحيد الله عزوجل قبل موته، فهذه خاتمة حسنة له، فقد ثبت في (مسند أحمد) من حديث عمرو بن الحمق ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله)، وفي رواية: (عسله) قيل: وما عسله يا رسول الله؟ قال: (يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته، حتى يرضى عنه من حوله).
    ويجب عليك التحلل من الدين؛ بالمبادرة بقضائه، روى الإمام مسلم في (صحيحه)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ قال النبي صلى الله عليه و سلم: (نعم، إذا قتلت وأنت مقبل غير مدبر، صابر محتسب)، ثم قال: (أعد علي ما قلت)، فأعاد عليه، فقال: (إلا الدين، فإن جبريل أخبرني بذلك آناف).
    وقال النبي صلى الله عليه و سلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، وقال عليه الصلاة والسلام، عن مديون قضي عنه دينه: (الآن بردت عليه جلدته)، وقال النبي صلى الله عليه و سلم، كما روى الإمام مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أتدرون من المفلس؟)، قالوا: المفلس يا رسول الله، ما لا درهم له ولا متاع، قال: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، ويأتي وقد لطم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ويؤخذ لهذا من حسناته، ويؤخذ لهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه)، وأخرج البخاري في (صحيحيه) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله).
    فتحلل من مظالم الناس أيها المسلم، قبل أن تأتي يوم القيامة مفلساً، وتذهب حسناتك بأيديهم، واستسمح منهم، وهذا من شروط التوبة فيما يتعلق بحقوق الآدميين، كما تقدم.
    احذر أيها المريض أن تتضجر وأن تتسخط على الله، فإن هذه خاتمة سيئة، قال النبي صلى الله عليه و سلم كما في (الصحيحين)، من حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو الصادق المصدوق: (يجمع أحدكم خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، والله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله).
    وعليك أن تكثر من شكر الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله إن شفاك فهو بفضله ومحض كرمه، فقد ثبت من حديث جابر بن سليم رضي الله عنه، أنه قال: دخلت فرأيت رجلاً إذا تكلم صدر الناس عن كلامه، فقلت من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأتيته فقلت: أنت رسول الله؟ قال: (نعم، أنا رسول الله، الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإذا أصابتك عام سنة، أو عام جدب فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت في أرض قفر فضلت راحلتك فدعوته، ردها عليك).
    كان يخاطب ذلك الأعرابي بذلك الخطاب العظيم، فيما يتعلق بشأنه، ومن شأنه أنه صاحب مواشي، وقد تضل راحلته، فدله على هذا الدعاء، وأن الله سبحانه وتعالى إذا دعاه إنسان متضرر كشف عنه الضر، والله عزوجل يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾[النمل:62]، وصح من حديث أبي هرية ط، عند الإمام أحمد في (المسند) أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله عزوجل يقول: عبدي المؤمن عندي بمنزلة كل خير، يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه).
    عليك بالوصية في حالة مرضك، توصي بحقوق الناس، وما يتعلق بحقوق أولادك، وما يتعلق بحقوق أزواجك، وما يتعلق بحقوق المسلمين، إذا كان عليك شيء فتلزمك الوصية، قال عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعليه شيء يوصي به، إلا ووصيته مكتوبة عنده )، متفق عليه من حديث ابن عمر ط.
    وفي (الصحيحين) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه لما مرض قال: أتاه النبي صلى الله عليه و سلم يعوده، فقال يا رسول الله، إني أشتد بي الوجع ولا يرثني إلا ابنة لي، أفاتصدق بثلثي مالي، قال: لا، قال: أفتصدق بشطر مالي؟ قال: لا، قال: بثلث مالي؟ قال: (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
    ومن أسباب التوفيق للمريض: أن يتصدق، ولكن في حال مرضه المخوف، ليس له أن يتصدق إلا بالثلث كما تقدم قبله، في حديث سعد بن أبي وقاص، أما في حالة صحته، فيجوز له أن يتصدق بماله كله، فقد تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: (يا أبا بكر، ماذا أبقيت لأهلك)، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم، ونُقل الاتفاق على أن الصحيح له أن يتصدق بماله كله، أما من كان في مرض شديد كما هو شأن سعد، فلا يجوز له إلا الثلث فما دون، قال ابن عباس: وددنا أنهم غضوا عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (والثلث كثير).
    وفي حالة مرضك عليك أن تكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى تتعود على ذلك فإنك إن مت وأنت ذاكر لله مت على خير، قال عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة يومًا من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه)، وقال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
    وقال النبي صلى الله عليه و سلم: كما في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، فهنيئاً لمن عود، ورطب لسانه بذكر الله، فقد ثبت من حديث عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فدلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وصح عند ابن أبي عاصم في (السنة) أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (بخ بخ، ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء فيحتسبه).
    وإن من تعود على ذكر الله، على التهليل والتسبيح والتحميد، وقراءة القرآن، وسماعه وتدبر، وغير ذلك من طاعة الله عز وجل، عسى الله أن يوفقه لذلك عند موته، وقد ثبت في (صحيح مسلم) عن جابر بن عبد الله ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه)، فإذا مات وهو على توحيد، يبعث على التوحيد، ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس ط في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرم، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبًا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيً).
    وأهل التوحيد من الآمنين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام:82]، والظلم هنا، المقصود به الظلم الأكبر وهو الشرك.
    الخطبة الثانية
    الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد:
    فكثير من المرضى إذا ابتلي بالأمراض ضيع واجبات عليه، لقلة علمهم وفهمهم، والواجب تعلم هذا الشأن، فإنه أمر لا بد منه، و(طلب العلم فريضة على كل مسلم)، ويعنى بذلك طلب العلم الواجب الذي يعرف به كيف يصلي، وكيف يصوم، وكيف يزكي، وكيف يحج، وكيف يعبد الله عز وجل، في صحته ومرضه، فهذا لا بد أن يتعلمه المسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذريات:56].
    فالله خلقك لعبادته، لتتعلم كيف تعبد الله عز وجل، ومن أعظم تلك الأحكام الطهارة إن لم يستطع المريض أن يغتسل من الجنابة، فإنه يتيمم، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾[النساء:29].
    وجاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه كان في غزوة وفيها برد شديد، ثم أجنب فصلى بالناس وهو متيمم بغير غسل، تيمم وصلى، ثم قال له بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى على جنابة، أصليت على جنابة، قال: ذكرت قول الله عز وجل: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾[النساء:29]، فلم ينكر عليه.
    والتيمم معروف حكمه، قال الله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾[المائدة:6]، الآية، فيضرب بكفيه على الأرض، أو على أي صعيد، والصعيد هنا: هو التراب، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، كما بيناه في رسالة (أحكام التيمم).
    وقال النبي صلى الله عليه و سلم لعمار: (يكفيك أن تضرب بيديك هكذ)، أي: تتيمم، فإن وجد الماء واستطاع أحد أن يوضئه توضأ، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة:2]، يوضئوه بعض أهله، أو مرافقيه.
    وإذا كان المريض يستطيع غسل بعض أعضاء الوضوء، ولا يستطيع غسل بعضها، لجراح فيها تتضرر بالغسل، فليغسل ما استطاع من أعضاء الوضوء، وما لم يستطع غسله فليتيمم له، لحديث أبي هريرة ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، متفق عليه.
    ولو كان البول يتسرب منه، أو الدم يخرج منه، أو البراز يخرج منه، فإنه يصلي على ذلك الحال، للأدلة التي تقدم ذكرها، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286] ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]؛ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة بني المصطلق قبل نزول آية التيمم حين حضرت الصلاة، وصلى أصحابه ن، معه بغير وضوء، وبغير تيمم قبل نزول آية التيمم، ثم نزلت آية التيمم فلم يأمرهم بالإعادة، والحديث في (الصحيح).
    ومن تلك الأحكام: الصلاة، عليك أن تتعلم أحكام الصلاة، في حال صحتك، وفي مرضك، قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمران بن حصين، كما في (الصحيحين): صلِ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً، فليصلي وهو قاعد، على أي حالة يستطيع أن يصلي قاعداً، سواء كان مفترشاً، أو متربعاً، أو على أي حال يستطيع، قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، وقال: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286].
    ومما يتعلق بذلك صلاة المريض على الفراش، ثبت هذا عن أهبان بن أوس رضي الله عنه في (صحيح البخاري) أنه كان به ألم في ركبته، فكان يتخذ وسادة يضع ركبته عليها، من ألم في ركبتيه لا يستطيع أن يمكنهما من الأرض، فيضعها على شيء يستطيع حتى السجود عليها، هذا جائز، فمن لم يستطع أن يصلي على الأرض، صلى على الفراش، لهذا الأثر، ولقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].
    فإن لم يستطع فعلى جنب، إن استطاع على جنبه الأيمن فعل، وإن لم يستطع فعلى جنبه الأيسر للأدلة التي سبق ذكرها.
    ومن الأحكام: هل المريض له أن يجمع بين الصلوات؟ نعم، إذا كان مرضه يتعبه بأن يصلي كل صلاة في وقتها، فيجمع، جمع النبي صلى الله عليه و سلم من غير خوف ولا مطر، قال أهل العلم: هذا الجمع كان لمرض.
    ويجوز له أن يصلي قاعداً، إذا كان إماماً للناس، ويصلون خلفه قعوداً إن شاءوا، وإن شاءوا قاموا، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، ولما صلى النبي صلى الله عليه و سلم قاعدًا، وصلوا خلفه قيامًا، قال: (أتريدون أن تفعلوا كما فعلت فارس والروم، يقومون على ملوكهم)، وأمرهم بالقعود خلفه، وفي آخر الأمر قال الحميدي والبخاري: صلى قاعداً وصلوا خلفه قياماً، فلقول النبي صلى الله عليه و سلم: (فصلي قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، وما داموا يستطيعون قائمين خلفه فلا بأس أن يقوموا وهو قاعد، وكان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي قاعداً، وإذا عجز عن التكبير بلغ عنه من خلفه، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، فبلغ الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه و سلم، والإمام هو رسول الله صلى الله عليه و سلم.
    فإذا استطاع أن يصلي بعض الصلاة قائماً وبعضها قاعداً يقوم في الذي يستطيعه ويقعد في الذي لا يستطيعه، لحديث أبي هريرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
    ومن الأحكام: المحافظة على الصلاة مع الجماعة، إلا إذا عجز عن ذلك، لا يجوز للمريض ترك الجماعة، فبعض المرضى يظن أن مجرد مرضه يبيح له التخلف عن الجماعة، وليس على الإطلاق، فقد استأذن ابن أم مكتوم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي في بيته، قال: (لا أجد لك رخصة)، ولم يؤذن له، وهو أعمى، واستأذن عتبان بن مالك النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي في بيته فأذن له.
    قال أهل العلم: عتبان بن مالك، كان لا يستطيع أن يأتي؛ فإن السيل كان ماراً قال: والوادي الذي بيني وبين قومي يسيل، وإنه يخاف على نفسه، وليس له قائد يقوده، أما من يستطيع أن يأتي فتجب عليه، وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الناس وهو يهادى بين علي بن أبي طالب، والعباس، إلى صلاة الجماعة.
    فصلاة الجماعة واجبة، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لقد هممت أن آمر من يصلي بالناس، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة في جماعة فأحرق عليهم بيوتهم).
    ومن كان إماماً لقوم أو له شأن من الشئون ومرض، يستنيب، فقد استناب رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر حين مرض، ولا يترك الأمر سائباً، قال: (مروا أبا بكر ليصلي بالناس)، قالت: يا رسول الله، إنه رجل رقيق، قال: (مروا أبا بكر ليصلي للناس)، الإنابة في الصلاة، فإن هذا من الأمور المهمة، ولا يبقى الناس ينتظرون، وهكذا استناب أيضاً عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص لما وجعه بطنه، استناب خارجة، وذهب خارجة وصلى بالناس، وجاء ذلك الخارجي الذي عين لقتل عمرو بن العاص في ذلك اليوم وقتل خارجة، لأن ثلاثة من الخوارج تواطئوا واحد أراد قتل معاوية، والآخر أراد قتل عمرو بن العاص، والآخر أراد قتل علي بن أبي طالب، فكل واحد انطلق لصاحبه، فذهب ذلك إلى العراق، وقتل علياً وافقه خارجًا إلى المسجد لصلاة الفجر، فضربه في رأسه وقتله، وأمر علي أن لا يقتل به إلا بعد أن يموت، فلما مات قتلوه به.
    وذهب الآخر إلى معاوية، وضربه وأصابه ولكن تداوى وقال الطيب: إن هذا الدواء لا يمكن إلا لقطع النسل، فتداوى وشفاه الله عز وجل، ولكن انقطع منه النسل، وذهب ذلك إلى عمرو بن العاص، فقدر الله على عمرو بن العاص أن استناب خارجة في ذلك اليوم يصلي بالناس، لشدة وجع في بطنه، فقتل الخارجي خارجةً، فقال لما قتله حين أخذوه: من قتلت؟ قالوا: قتلت خارجة، قال: أردنا عمرو وأراد الله خارجة، فصار هذا مثلًا يضرب، لمن أراد شيئًا فصادف غيره.
    الشاهد من هذا استنابة من له شأن في حال مرضه، أن يقوم مقامه من يقوم بذلك الأمر، أما الاستخلاف: فإن شاء استخلف، وإن شاء لم يستخلف، لما طعن عمر قيل له: استخلف، قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، قال: فعلمنا أن عمر لم يكن ليستخلف، وترك الأمر بين ستة من الصحابة، مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو راضٍ عنهم.
    ومن الأحكام: المغمى عليه: إن طال الإغماء عليه، لا يجب عليه القضاء، وإن أغمي عليه حتى فاتت صلاة الظهر، صلاها مع العصر جمع تأخير، أو حتى فاتته صلاة المغرب صلاها مع العشاء جمع تأخير، أما إن فاتت الصلوات تماماً، ولا يكون وقت جمع تأخير، فلا يلزمه قضاء ما فات، لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ [النساء:103].
    ولا يجوز للمريض أن يؤخر الصلوات عن أوقاتها، وهو قادر على أدائها في أوقاتها، أو على جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، عند المشقة عليه، قال النبي عليه الصلاة والسلام، كما روى الإمام مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدني).
    ومن الأحكام: أخذ الزكاة من مال المريض، فيه تفصيل: قد يكون المريض من المجانين، وقد يكون المريض بمرض آخر، كل هؤلاء تؤخذ زكاة من أموالهم، لأن هذا شيء يتعلق بالمال لا بالشخص، حتى وإن كان مرضه بالجنون، فإن الزكاة تؤخذ من ماله؛ ذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، وكان مما تؤخذ منه.
    ومن أحكام المريض ما يتعلق بالصيام، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة:184]، فله أن يفطر، ويقضي إذا شفاه الله، وأن يستعمل العلاج، إذا كان عنده علاج، وليعلم أن بعض الحقن كالمغذيات، تعتبر من المفطرات، فمادام مريضاً بمرض يشق عليه الصيام معه، فليفطر قال تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286].
    ومنها في أحكام الحج: أنه له أن يحلق رأسه وهو محرم، إذا كان به مرض، أو أذى من رأسه، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة:196] والنبي صلى الله عليه و سلم، قال لكعب بن عجرة لما رآه فيه قمل قال: (أيؤذيك هوامك؟)، قال: نعم يا رسول الله، قال: (أحلق راسك وانسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام)، وإن خشي على نفسه المرض في الحج، فليشترط، يقول عند الإحرام: اللهم محلي حيث حبستني، لحديث عائشة في (صحيح البخاري)، أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، قالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وأنا شاكية، قال: (حجي واشترطي، قولي: اللهم محلي حيث حبستني).
    كل ذلك لأن المرض له أحكام تختص به، من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه و سلم، سواء كان في الصلاة، في الطهارة، في الصيام، في الحج، في غير ذلك.
    وعيادة المريض واجبة كما ثبت في (الصحيحين)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) وزاد مسلم: (وإذا استنصحك فانصح له)، إلخ.
    وفي حديث البراء أيضاً من ذلك، وهكذا حديث أبي موسى: (عودوا المريض)، وكم في ذلك من أجر في عيادة المريض، (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ)، ولا ينبغي أن يثّقل عليه، فإن كان المريض يحتاج إلى مؤانسة يؤانس، وإن كان يحتاج إلى راحة بمفردة يترك، يستريح بمفرده، والناس يختلفون في ذلك.
    ومرافقة المريض أمر مشروع، وهي عيادة للمريض وفيها فضل عظيم، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني) وقال: صلى الله عليه و سلم (عودوا المرضى ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين)، وقال: (حق المسلم على المسلم خمس)، ومنها: (عيادة المريض)، كما تقدم متفق عليه، عن أبي هريرة.
    وابن عمر ط لما علم أن امرأته تحتضر شد السير للقيام على شأنها في حال مرضها، وعثمان عليه رضوان الله أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبقى عند زوجته المريضة، ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأن يترك الغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكان هذا الأمر طاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم القيام على المريض والعناية به، على الذهاب إلى غزوة بدر، وهو بحاجة إلى كثير من الناس يتعاونون معه، وينصرونه بعد نصر الله عز وجل.
    وتجوز عيادة المريض الكافر؛ لقصد دعوته إلى الإسلام، وقد دخل النبي صلى الله عليه و سلم على رجل يهودي يعوده، فقال: قل لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، فخرج النبي صلى الله عليه و سلم يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار).
    وعليك أن تبتعد عن وسوسة بعض الأطباء، المبتلون بالعقلانية، الذين يدخلون عليك ضعف الإيمان بالقدر، والله عز وجل يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن:11]، فالله إذا علم بك أنك مؤمن بالله، وبأقداره هدى قلبك ووفقك,
    فبعض الأطباء عندهم فساد في المعتقد، إما في عدم الإيمان بالمس والصرع، ونحو ذلك؛ وقد قال الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[البقرة:275].
    وفي (الصحيح) أن امرأة كانت تصرع، فقالت: يا رسول الله، أدعو الله لي، فقال: إن شئت دعوت الله لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)، قالت: أدعو الله ألا أتكشف، فدعا لها أن لا تتكشف.

    فهذا ضعف إيمان فيما يتعلق بأشياء غيبية ثابتة في الكتاب والسنة، فعلى المسلم أن يكون مؤمنًا بالله، متوكلًا عليه، واثقاً به، عاملاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم.
    وليعلم أن ما أصاب العبد، لم يكن ليخطئه، وما أخطأه، لم يكن ليصيبة، وأن كثرة الأمراض والأسقام بسبب الذنوب، فقد روى الإمام ابن ماجة رحمه الله في سننه، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: (يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، ما فشت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها، إلا ابتلوا بالأمراض والأسقام التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا قبلهم).
    وقال عليه الصلاة والسلام: (وما نقص المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤمنة وجور السلطان عليهم، وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقض قوم عهد الله، وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ولم يتحروا ذلك إلا جعل الله بأسهم بينهم).
    والله هذه الفتن والأمراض والأسقام بسبب المعاصي، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41].
    الفساد في الأرزاق، والفساد في الأعمار، والفساد في الأوقات، والفساد في الصحة، والفساد في الأولاد، والفساد في البنات، والفساد في التعليم، كل ذلك بسبب معاصي الناس، وبسبب ذنوب الناس في البر والبحر، فساد المعايش، وفساد الحياة كلها، بسبب ذنوب الناس، فليعلموا ذلك، قال تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾ [الشورى:30]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[القلم:33].
    تتمة لخطبتي الجمعة، كانت بين مغرب وعشاء، من ذلك اليوم
    الحمد لله وبعد:
    فكم من مريض إذا دخل المستشفى أو مرض، ترك واجبات، وتسخط على الله، وفرط في أمور عظام، فكان بيان هذا من التعاون على البر والتقوى معهم، وما أحوج المرضى إلى نصائح، وإلى توصيات وتوجيهات، وفي بعض البلدان يأتونهم بتسالي؛ إما بأغاني في المستشفى، أو يأتونهم بتلفزيونات، أو يأتونهم بألعاب، يسلونهم بها، وهذه والله أضرار على المرء، وليست بنافعة لا للأصحاء، ولا للمرضى، لا يحوز التعاون على الإثم والعدوان، لا مع السليم ولا مع السقيم.
    فالواجب على المرضى أن يتسلوا بكتاب الله، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء:82]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس:57]، فالقرن فيه شفاء للأبدان؛ بالرقية الشرعية، وشفاء للقلوب من الضيق والقلق وغير ذلك، والله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الزمر:45].
    فذم الذين تشمئز قلوبهم من ذكر الله، وأثنى على الذين تنشرح صدورهم، وتستبشر قلوبهم به، يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:22]، فالمؤمن يقرأ ويتدبر وينشرح صدره.
    ويتحف بسماع بعض الأشرطة العلمية النافعة، وبعض المواعظ المرغبة فيما عند الله عز وجل، فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه)، أو بعض الأشرطة التي تذكره بالرضا، وفضل الرضى، (فمن رضى فله الرضى، ومن سخط فله السخط)، كذا قال النبي صلى الله عليه و سلم، قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسول).
    فيجب على المؤمن أن يكون مؤمناً بقضاء الله سبحانه، روى الإمام مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، ولو أصابك شيئاً فلا تقول لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل).
    إذا أصابك مرض، أصابتك حمى، أصابك حادث، أصابك اعتداء عليك، أي شيء يصيبك قل: (قدر الله وما شاء فعل) وإذا كنت كذلك تستفيد صلوات الله ومغفرته ورحمته عليك، فالله سبحانه يقول: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[البقرة: 155-157]، أي والله: نحن لله تعالى، وراجعون إليه.
    فيستفيد من وراء ذلك هذه الفوائد العظيمة التي ذكرها الله في كتابه، وحسبك من الفوائد أن الله أثنى عليك، وزكاك أنك مهتدي، وهذه صفة عظيمة لا تكون إلا للصلحاء الأخيار الأبرار، إذا أصيب بخير حمد الله، وإذا أصيب بشر حمد الله، قال الله سبحانه: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾[يونس:107].
    وقال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾[الزمر:38].
    هؤلاء الذين يدعون من دون الله، لا الكعبة، ولا رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا ابن علوان، ولا العيدروس، ولا سائر المخلوقين، ما يجوز دعائهم من دون الله، ولا الاستغاثة بهم، ولا اللجوء إليهم؛ في شفاء الأمراض والأسقام، وكشف الشدائد، وإنما كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[الذريات: 50-51].
    وقال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[يونس:106]، وتبت من حديث ابن عباس ط أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
    هذا أمر مصير الناس، الأصل في ذلك أن كل الناس يبتلون بهذا البلاء، من الأمراض، والأسقام، هي الجنة التي ما فيها هذه الأمراض والأسقام، أما الدنيا فمحفوفة بالأكدار كما قيل:
    هي الدنيا تقول بملء فيها
    حذار حذار من بطشي وفتكي
    فلا يغرّنكم مني ابتسام
    فقولي مضحك والفعل مبكي
    إن صلحت اليوم فسدت في الغد، وإن صفت اليوم تكدرت في الغد، والبلوى تعتبر نعمة من الله سبحانه وتعالى على العبد إذا صبر عليها، كما قيل:
    قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
    ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
    ورب إنسان عاصٍ ترده البلوى عن معصيته، ورب متكبر يتواضع بالبلوى عن كبره؛ يهزمه المرض، ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)، فالمريض يشعر بقربه من الموت، فيتواضع.
    ورب بخيل إذا مرض يجود، ويتصدق، يشعر أنه سوف يموت وسيفارق هذا المال الذي شح به.
    ورب إنسان صاحب فتنة بين الناس، إذا حصل له البطش من الله سبحانه وتعالى يرعوي ويحاول يستعد للدار الآخرة، فيصلح ما أفسد، ففيه فوائد، قال الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:216].
    ومع هذا لا يجوز لمسلم أن يتمنى المرض، ولا يتمنى الموت، لقول النبي صلى الله عليه و سلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم احييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي). متفق عليه، من حديث أنس بن مالك.
    وبنحوه عن أبي هريرة بزيادة: (فلعله إن كان مسيئاً أن يستعتب، وإن كان محسناً أن يزداد). وبنحوهما عن عبد الله بن أبي أوفى، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا العافية)، فالإنسان يسأل العافية، ويكثر فإن العافية هي دفاع الله عن العبد، تشمل العافية في الدين والدنيا، وفي البدن، وغير ذلك، ومن صحيح دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم، عن ابْنَ عُمَرَ ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ: فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي)، أخرجه أبو داود.
    ولا إشكال في هذا الأحاديث التي ذكرناها، وبين دعاء يوسف فيما أخبره الله عنه، أنه قال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾[يوسف:101].
    وقول مريم عليها السلام: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً﴾[مريم:23]، وقول سحرة فرعون ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [لأعراف:126]، لا إشكال، فهذا: فيما إذا كان التمني للموت من أجل ما حصل له من المرض والبلوى في بدنه، أو افتقر وقل ماله ونحو ذلك، فيتمنى الموت لا يجوز، لقوله: (لضر نزل به)، وثبت من حديث المقداد ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولم ابتلي فصبر فواه) أي: فواعجبًا له.
    أما إذا حصلت عليه فتنة في دينه، فيجوز له أن يتمنى الموت، وجاء عن البخاري أنه قال: اللهم إن الأرض قد ضاقت عليّ بما رحبت فاقبضني إليك غير مفتون، ومن هذا الباب، ودليل ذلك مع ما تقدم، قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أثنتان يكرههما ابن آدم وهما خيراً له، يكره الموت، والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل عند الحساب).وهذا حديث ثابت في مسند الإمام أحمد، من حديث محمود بن اللبيد ط.

    وقال عليه الصلاة والسلام كما ثبت من حديث عبد الله بن بسر: (خير الناس من طال عمره، وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)، فإذا فتن الإنسان، وخشي على دينه، فله أن يتمنى الموت، فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم حين مُر بجنازة (مستريح)، ومر عليه بأخرى قال: (مستراح)، قالوا: يا رسول الله ما مستريح؟ قال: (مستريح من نصب الدنيا، والآخر مستراح منه)، الحديث.
    وقال: (إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ، إِلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ)، والحديث في (الصحيح).
    ولا يجوز له عند شدة الفتنة عليه أن يقتل نفسه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾[النساء:29].وقال النبي صلى الله عليه و سلم: كما في حديث ثابت بن الضحاك ط، أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، متفق عليه، وَفي (صحيح البخاري) من حديث جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ: (كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
    ومن قتل نفسه معناه أنه فتن في دينه، ونص حديث، المقداد، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواه)، أي: فواعجبًا له، هذا الحديث اجتمع فيه أمران:
    الأمر الأول: أن السعيد من جنبه الله الفتن، ولو بالموت، للأدلة التي ذكرناها.
    الأمر الثاني: أن السعيد من ابتلي في جسمه أو ماله، أو بالفقر فصبر، هو ما زال سعيداً ولا يجوز له تمني الموت.
    وعلى المريض أن يكون صابرًا محتسبًا، راجيًا الله عزوجل، لحديث أبي هريرة، ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الفاجر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد)، أخرجه مسلم.
    وربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[لأعراف:56]، ويقول: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[القصص:77]، ومن الإحسان الكلام الطيب، والتحمل، وعدم سؤ الخلق؛ بسبب المرض.
    ويراعى في هذا مرضى العلماء، فالعالم قد يصاب ببعض الأمراض يفقد شعوره، ويأتي من يزوره، فيختلط عليه بعض الكلام، إما كلام لا يريد أن يتكلم به لو كان صحيحًا، وقد وجد من اختلط، ووجد من حصل منه هُجْرٌ في حال مرضه، فمثل هذا يتركونه وعنده بعض الناس؛ رعاية دون سؤال، دون مضايقة، دون التقاط كلامه إلى الناس.
    وكم من العلماء من اختلط وحجب عن الناس، فلم يضره اختلاطه، لو دخل عليه أهل الحديث في ذلك الحين وأخذوا عنه، وخلط في كلامه لذهب حديثه كله، ولكن له أولاد صالحون، وجلساء أبرار أتقياء، جنبوا المحدثين عنه، والسائلين له، فصان حديثه الأول عن حديثه بعد اختلاطه فلم يضر، وآخرون دخل عليهم أهل الحديث، زائرين، وآخذين، فأخذوا بعد اختلاطه فذهب حديثه كله، بعضهم تميز بعض حديثه، وبعضهم لم يتميز.
    ومن الأحكام: طلاق المريض في حال مرضه، المسألة مطروحة عند الفقهاء، طلاقه جائز إذا كان يدري ما يقول، وإن نوى حرمان تلك المرأة عن الميراث، فهو آثم على نيته السيئة، وطلاقه نافذ لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم).
    وهل يجلد المريض الذي أصاب حداً؟، جاء في بعض الأحاديث أن مريضاً اشتد عليه المرض، وجاءته امرأة ووقع عليها، فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يجلد بشمراخ، يجلد به جلدة واحدة، أو ينتظر به حتى يُشفى.
    ومن الآداب: الدعاء للمريض عند الدخول عليه، ما هو كما يقول بعض الناس، سلامتك، هذا ما عليه دليل، وإنما الثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم: (طهور، لا بأس عليك)، هذا في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على رجل فقال: (لا بأس عليك، طهور طهور)، قال: طهور، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال: (فنعم إذ).
    فالذي ينبغي للمريض التفاؤل بالخير، والذي ينبغي للزائر التبشير بالخير، أن يبشره أن ما عليه بأس، وهو صحيح ما عليه بأس، فإن سلم وشفي ما عليه بأس ما دام من أهل التوحيد، وإن مات ما عليه بأس إن شاء الله، ما دام من أهل التوحيد، ﴿ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾[فصلت: 30-32].
    فهو ما عليه خوف، مما سيقدم عليه، ولا يحزن على ما فاته، ما دام من أهل التوحيد والاستقامة، هذا يبشر به المريض؛ بأنه ما عليه بأس.
    ويبشر كذلك بأنه هذا المرض سيطهر ذنوبه -إن شاء الله- فقد دخل النبي صلى الله عليه و سلم على أم السائب وهي تزفزف، قال: (ما لكِ يا أم السائب تزفزفين؟) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، قال: (لا تسبي الحمى، فإن تذهب خطايا بني آدم). أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
    هذه نعمة على العبد أن تذهب خطاياه، كما يسقط ورق الشجرة، بسبب الأمراض.
    ومن الأحكام: التداوي أمر مشروع، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (أيها الناس تداووا فإن الله ما جعل داء إلا جعل له دواء إلا داء الهرم)، ولا يتداوى الإنسان بمحرم، والمحرم ليس فيه دواء، بل هو داء كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخمر، أشفاء هي؟ قال: (بل هي داء وليست بدواء)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليه).
    والمريض يوصي بالمعروف ففي (الصحيح) وصية عمر، تلك الوصية، وصية عظيمة أوصى بالمهاجرين، وأوصى بالأنصار، وأوصى بالأعراب، وأوصى بأهل الذمة، وينبغي للمريض ألا يفرط في النصح للمرضى، ولغير المرضى، حتى للأصحاء، الزائرين.
    فعمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى رجلاً مسبلاً ثوبه، قال: يا ابن أخي تعال، فلما دنا، قال له: ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، هذا وهو مطعون، وفي حالة مرض الموت، ولما سئل معاذ بن جبل ط في مرض موته، أن يوصيهم قال: أجلسوني، ثم قال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وحدهما، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة، والحديث عند أحمد، بسند حسن.
    ومن آداب المريض: أمر الشكاية: فالشكاية على الطيب، وعلى الزائر، وعلى من سأله ما وجعك؟ هذا مباح، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (بل أنا وارأساه).
    وأيوب عليه الصلاة والسلام شكى على ربه، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[الانبياء:83] شكى على الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن الطيب لا يعلم المرض، هو لا يعلم الغيب، وهو بحاجة أن يعلم بالمرض، ما وجعك؟ تقول: وجعي كذا، ووجعي كذا، وهذا لا ضير فيه، وإنما المنهي عنه التسخط والتضجر من أقدار الله سبحانه وتعالى، أما أن يتألم من وجعه فلا بأس.
    وجاءت بعض الآثار أن الأنين يكتب، وهذا لا دليل عليه، فإنما يكتب القول، والفعل، والهم، ثلاثة أشياء يكتبها الملك، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[قّ:18]، هذا دليل على أن القول يكتب، إذا قال قولاً يكتب، من خير أو شر، والكلام المباح لا يحاسب الإنسان عليه، وإنما يحاسب على الشر، ويؤجر على الخير.
    الدليل الثاني على الفعل، قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الانفطار: 10-12]، دل هذا على كتابة الفعل.
    الدليل الثالث على الهم، حديث ابن عباس في (الصحيحين) (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتب الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن هم فعملها كتبت عليه سيئة). وأن الله يطلع الملائكة على هذا الشيء، وله القدرة سبحانه وتعالى، والملائكة لا يعلمون الغيب، ولكن الله يطلعهم على هذا الهم فيكتبونه، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[قّ:18].
    ومما ينصح به: الحفاظ على الصحة؛ وعدم التعرض للمأكولات والمشروبات الضارة، كشرب الخمر، والدخان، والشمة، وأكل القات، ونحو ذلك من المضرات، الواجب اجتنابها، لما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر كعب بن عجرة أن يحلق رأسه، لما حصل له ما يؤذيه في رأسه، وما يضر بصحته، قال: (احلق رأسك وانسك شاةً، أو صم ثلاثة أيام)، وأمر المسافر أن يقصر، وأمر كذلك من يخشى على نفسه حدوث علة أو دوامها، أن يتيمم.
    ولو أن رجلًا أصيب بمرض السكر، ثم منع من قبل الطبيب عن أكل السكريات، أو الشحوم، أو ما إلى ذلك فأبى أن يمتنع ثم أكل ذلك الطعام الذي منعه منه طبيب ماهر؛ فإنه يأثم، إذا تعمد ما يضره، فكيف بهذه المضرات في الدين والبدن؟! اجتنابها من باب أولى، للأدلة المتقدمة في وجوب الحفاظ على الصحة، ومن الأدلة قول الله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾[الكهف:19]، إنما اختير أزكى الطعام من أجل الحفاظ على الصحة، والله يقول: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195].


    وهذه أسئلة حول الموضوع

    السؤال: هل يكره المريض على أكل الطعام؟
    الجواب: لا يكره المريض على أكل الطعام، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لَا تُلِدُّونِي) فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: (لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) (لا أدع أحداً منكم إلا لد). أي أعطي طعاماً أو شراباً لم يرضاه، فلما أفاق من ذلك أمر بهم أن يغصبوا على بعض اللد كما لد النبي صلى الله عليه و سلم.
    فلا يجبر على طعام، ولا يجبر على شراب، ويختار له من الأطعمة ما يناسبه، و ما يكون صائغاً عنده.
    السؤال: بعض المرضى من العوام هداهم يتركون الصلاة حال مرضهم الشديد، جهلاً منهم بالأحكام المترتبة على ذلك كيف يعامل من توفي وهو على هذا الحال، وهل يرثه أبناؤه؟
    الجواب: إذا كان تركها لفوات عقله، فإنه لا يكون تاركاً للصلاة، وإن ترك ذلك متعمداً وهو قادر أن يصلي قائماً، أو قاعداً، أو على جنب، فيموت وهو تارك صلاة، هو على خطر عظيم؛ فحكمه حكم تارك الصلاة، وهذه سوء خاتمة نسأل الله العافية.
    السؤال: ما حال حديث داوا مرضاكم بالصدقة؟
    الجواب: حديث ضعيف، مر بنا في تحقيق (إصلاح المجتمع)، وبقي أن الصدقة نافعة، سواء كان من الذنوب، أو حتى إذا تصدق الإنسان طاعة لله سبحانه، فالطاعة من أسباب زيادة العمر، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (من أعطي حظه من الرفق، أعطي حظه من خيري الدنيا والآخرة)، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الأخلاق، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.
    وقال: من أحب أن يبسط في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه، وهذه طاعات، الصدقة طاعة، كل هذا من أسباب زيادة العمر، وزيادة العمر بتقدير الله، كل ذلك علمه الله سبحانه وقدره، ولا تنافي مع قول الله عز وجل، ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[فاطر:11]، وقوله: ﴿فإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[يونس:49]، كله بأجل محتوم.
    السؤال: ما حكم الدعاء بطول العمر؟.
    الجواب: جائز، مع أنه خلاف الأفضل، لحديث أم حبيبة قالت: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه و سلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية)، قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لقد سألت الله بآجال محتومة، وأرزاق مقسومة، لو كنت سألت الله أن يدخلك الجنة، وينجيك من النار)، دلها على الأفضل، مع أنه يجوز للإنسان أن يدعو بطول العمر؛ لحديث: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لامرأة: (مالها طال عمره)، ولحديث: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبد الله بن بسر: (عش قرنً) فعاش قرنًا، والقرن مائة سنة.

    السؤال: إذا كان له أكثر من امرأة ومرض، فهل يسترضي الأخريات؟، ويقضي لهن؟.
    الجواب: لا يلزم إذا شفي أن يقضي للأخريات مثلها، كما استأذن النبي صلى الله عليه و سلم أن يمرض في بيت عائشة، فأذّن له، فمرض في بيت عائشة، فينبغي أن يستأذن الأخريات، أن يمرض في بيت واحدة، ممن يظن فيها العناية به، أو ممن يريد هو أن يمرض عندها، لا بد من الاستئذان، ولا يلزم قضاء المدة التي بقي في بيتها بإذنهن.
    السؤال: ما حكم تعالج المرأة عند الرجل، والعكس؟.
    الجواب: الواجب أن الرجال يعالجون الرجال، والنساء يعالجن النساء، وعند الضرورة يكشف الطبيب على موطن الحاجة فقط، وكذلك تصنع الطبيبة، عند عدم وجود طبيب يعالج الرجل، والواجب على مستشفيات المسلمين وأطبائهم أن يتقوا الله، فيجتنبوا الفتن وذرائعها، من الاختلاط بالنساء، والمحادثة، والمضاحكة مع السكرتيرات، والممرضات؛ فهذا فساد كبير على القلوب، والنبي صلى الله عليه و سلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا فسدت فسد الجسد كله، وإذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب)، وربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب:53]، ويقول: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ [الأحزاب:32]، وأخرج مسلم في (صحيحيه)، من حديث أبي سعيد الخدري ط، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
    وإنه والله من البلايا والفضائح والفتن في بلاد المسلمين؛ أن يتعمد توظيف بعض النساء لعلاج الرجال في المسالك البولية، وتوظيف بعض الرجال في توليد النساء، هذا في الحقيقة علاج للأبدان، ومرض للقلوب، ومرض القلوب مضر في البدن والدين، كما تقدم في الحديث، وعلاجها لا يكون إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، قال ابن القيم في (زاد المعاد في هدي خير العباد) (4/7): فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها، وفاطرِها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط، ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته، وقوته عن ذلك بمعزل، ومن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه؛ فإنه من الأموات، وعلى نوره؛ فإنه منغمس في بحار الظلمات، اﻫ.

    السؤال: هل يجوز عيادة النساء للرجال لغير فتنة؟.
    الجواب: لها أن تعوده من وراء حجاب، وتسأل عن حاله بغير خضوع في القول، ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[الأحزاب:32]، لا بأس بذلك، عادت عائشة رضي الله عنها بلالاً، حين ذهب إلى المدينة، فسمعته يقول:
    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ
    وحولي أدخر وجليل
    وهل أردن يوماً مياه مجنة
    وهل يبدو لي شامة وطفيل
    صار يئن على تلك البلاد، بلاد مكة التي فيها الصحة، وهكذا أبو بكر رضي الله عنه، مرض لما ذهب إلى المدينة فقال:
    كل امرئ مصبح في أهله
    والموت أدنى من شراك نعله
    فانظر حال مرضهم كيف يكون كلامهم طيباً؛ ليس فيه إلا ما يرضي الله عزوجل، والشاهد من هذا أنه يجوز للمرأة أن تعود الرجل من وراء حجاب إذا أمنت الفتنة.
    السؤال: ما معنى دعاء النبي صلى الله عليه و سلم بنقل الحمى إلى الجحفة؟.
    الجواب: الحمى مرض بقدر الله، يجعله الله حيث شاء، ويصيب به من شاء، وقد دعا النبي صلى الله عليه و سلم حين ذهب المدينة فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم انقل حماها واجعلها في الجحفة)، والحجفة يقول النووي رحمه الله: كان هناك فيها كفار، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تنتقل عليهم الحمى، ففيه الدعاء على الكافرين بالأمراض، وبالأسقام، قال النووي رحمه الله: وبالهلاك.
    وفيه الدعاء للمسلمين بالشفاء، وبالصحة، إلى آخر ما ذكر.
    السؤال: ما حكم القدوم على المرض؟، وما القول في انتقال العدو؟.
    الجواب: إذا كان المرض في بلد، لا يجوز لمسلم أن يقدم على ذلك البلد، وإن كان المرض في بلد هو فيه لا يخرج منه فراراً من قدر الله لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف في ذلك، وجاء بنحوه عن أسامة بن زيد م، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع الطاعون في أرض فلا تقدموا عليه).
    وهذا يدل على أن العدوى ثابتة، إذا قدر الله انتقالها، وأنها لا تنقل بذاتها، وبذلك جمع أهل العلم بين حديث (لاعدوى ولا طيرة)، (وفر من المجذوم فرارك من الأسد)، قالوا: معنى لا عدوى بذاتها، وأمر بالفرار من المجذوم؛ لأن مخالطة السقيم سبب لانتقال المرض، ولا تتجاوز العدوى مقدور الله عزوجل، فإن هذا من عقيدة الجاهلية.
    هذا ما يسره الله من ذكر بعض الأحكام، والتوجيهات لمرضى المسلمين، نسأل الله عزوجل أن يجعله طهورًا، وأن يشفي مرضاهم، ويعافي مبتلاهم.
    وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.





يعمل...
X