فائدة عزيزة في ذكر أول من وصف بيت المقدس بأنه: (ثالث الحرمين) وحكم ذلك الحمد لله والصلاة والشلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمابعد: قال العلامة ابن كثير رحمه الله في تاريخه:"برز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف بيت المقدس، وما رود فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات. وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها وكان أول ما قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الإنعام: 45]. ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، الذي من شأنه كذا وكذا، فذكر فضائله ومآثره، (وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق " أهـ من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله- (ج 12 / ص 397)! قلت: وهذا الوصف موجود كما يلي في المراجع التي أشرنا إليها في الهامش أدناه ونصه: "وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبارٍ أهـ" وذكر الصفدي في (نصرة الثائر على المثل السائر - (ج 1 / ص 72): "أقول: المليح النادر في هذا، ما ورد في خطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي رحمه الله تعالى وهو على المنبر في أول جمعة أقيمت في القدس: ومسجدكم هذا أول القبلتين، وثاني الحرمين، وثالث المسجدين ... " (1) ثم قال:"واستعمل العماد الكاتب ذلك أيضاً في كتاب كتبه إلى ديوان الخلافة بفتح القدس أيضاً، فقال وقد ذكر الصخرة: فصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتجدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم، فهو ثاني المسجدين بل ثالث الحرمين."أهـ كلامه! قلت: وقد أتتقد إطلاق هذا الوصف على بيت المقدس جماعة من العلماء الأعلام ومنهم: 1) شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان ولا يسمى غيرهما حرما كما يسمي الجهال فيقولون حرم المقدس وحرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين والحرم المجمع عليه حرم مكة وأما المدينة فكلها حرم أيضا عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ولم يتنازع المسلمون فى حرم ثالث إلا في وجٍّ (وهو واد بالطائف) وهو عند بعضهم حرم وعند الجمهور ليس بحرم وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس كالحية والعقرب والفأرة والغراب والكلب العقور وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد " أهـ كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (ج 26 / ص 117) 2) العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر ــ حفظه الله ــ في كتابه: (فضل المدينة وآداب سكناها وزيارتها) حيث قال فيه: "فمِن فضائلِ هذه المدينةِ المباركة: أنَّ الله تعالى جعلَها حَرَماً آمناً كما جعل مكَّةَ حَرماً آمناً، وقد جاء عن النَّبِيِّ الكريمِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مكَّةَ، وإنِّي حرَّمتُ المدينةَ"، رواه مسلم، والمقصودُ من هذا التحريمِ المضافِ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإلى إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم هو إظهارُ التحريم، وإلاَّ فإنَّ التَّحريمَ مِن الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي جعل هذا حَرَماً، وجعلَ هذا حَرَماً. واختصَّ الله عزَّ وجلَّ هاتيْن البلدَتَيْن بهذه الصِّفَةِ التي هي الحرمة دون سائر البلاد، ولَم يأتِ دليلٌ ثابتٌ يدلُّ على تحريمِ شيءٍ غير مكَّة والمدينة، وما شاعَ على أَلسِنَة كثيرٍ من النَّاسِ من أنَّ المسجدَ الأقصَى ثالثُ الحَرمَيْن هو من الخطأ الشائعِ؛ لأنَّه ليس هناك للحرمين ثالثٌ، ولكنَّ التعبيرَ الصحيح أن يُقال: ثالث المَسجِدَيْن ـ أي المُشَرَّفيْن المُعظَّمَيْن، والنبِيُّ صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يدلُّ على فضلِ هذه المساجدِ الثلاثة وعلى قصدِها للصلاةِ فيها، حيث قال عليه الصلاة والسَّلام: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصَى"، رواه البخاري ومسلم. ثمَّ إنَّ المقصودَ بالحَرَم في مكَّةَ والمدينة ما تُحيطُ به الحدود لكلٍّ منهما، هذا هو الحرَمُ، وما شاعَ من إطلاقِ الحرَمِ على المسجدِ النَّبَويِّ فقط فهو من الخطأ الشائع؛ لأنَّه ليس هو الحرمُ وحده، بل المدينة كلُّها حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْر، وما بين لابَتَيْها، وقد قال عليه الصلاة والسَّلام: "المدينةُ حرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور"، رواه البخاري ومسلم."أهـ 3) العلامة بكر أبو زيد في كتابه الماتع: (معجم المناهي اللفظية): فقال رحمه الله ــ: "ثالث الحرمين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى ــ: (وأما المسجد الأقصى: فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ... إلى أن قال: والأقصى: اسم للمسجد كله، ولا يُسمى هو ولا غيره حرماً (2)، وإنما الحرم مكة والمدينة خاصة، وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع بين العلماء) ا هـ. "وحيث إن المسجد الأقصى لا يسمى ((حرماً)) فلا يُقال حينئذٍ: ((ثالث الحرمين)). والظاهر أنها مولدة الاستعمال في هذا العصر، ولم أرها لدى السلف والله أعلم. وأما ما يوجد في: الأردن، وفي مصر، كقولهم: حرم الحسين، وحرم الست نفيسة، فهذا من البدع المحدثة."أهـ 4) العلامة ابن عثيمين رحمه الله ــ: في كتابه (الشرح الممتع على زاد المستقنع: - (ج 7 / ص 59) ":وليس في الدنيا شيء حرم إلا هذان الحرمان، حرم مكة، وحرم المدينة، وأما ما نسمع في كلام الناس حرم المسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي، فكله لا صحة له ولا أصل له، ولهذا يوهم كلام بعض الناس يقول عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين؛ لأن الذي يسمع العبارة يقول: إنه حرم، ولكن الصواب أن تقول: ثالث المسجدين يعني المساجد التي تشد إليها الرحال. واختلف العلماء في وادي وج في الطائف. والصحيح أنه ليس بحرم."أهـ وقال في مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 12 / ص 348): "نسمع تعبيراً عن المسجد الأقصى: (إنه ثالث الحرمين وأولى القبلتين) وهذا التعبير يحتاج إلى فهم إذا قلنا ثالث الحرمين فإنه ربما يفهم السامع أن المسجد الأقصى له حرم، أو أنه حرم، وليس كذلك فإن المسلمين أجمعوا على أنه لا حرم إلا في مكة والمدينة، واختلفوا في وادي وج وهو واد في الطائف، والصحيح أنه ليس بحرم، أما المسجد الأقصى فليس بحرم، لكنه مسجد معظم تشد الرحال إليه، وأما أولى القبلتين فإنه قد يفهم السامع أن هناك قبلتين باقيتين، وأن أولاهما المسجد الأقصى فيظن السامع أن الاتجاه إلى المسجد الأقصى ليس بمنسوخ مع أنه منسوخ، والذي ينبغي أن يتجنب الإنسان كل عبارة فيها إبهام، ونقول في المسجد الأقصى إنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها وكفى به شرفاً أن تشد الرحال إليه."أهـ والخلاصة: *فقد علم مما سبق أنَّ هذا التعبيرَ وإنْ كان وارداً في كلام بعض الفضلاء رحمهم الله فإن فيه محاذير تمنع من استعماله كما قال المانعون وأنَّ الإنسان ينبغي أن يتجنب كل عبارة فيها شيء من ذلك والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم! المراجع: 1ـ (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) لأبي العباس ابن خلكان 2ـ (مرآة الجنان) لليافعي 3 ـ (البداية والنهاية) لابن كثير 4 ـ (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) لمجير الدين الحنبلي العليمي 5 ـ (نصرة الثائر على المثل السائر) للصفدي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش (1) قلت: في عبارة الصفدي تصحيف فاحش فتنبه! (2) كما فعل البوصيري في ميميتهِ عند ذكر حادثة الإسراء والمعراج: سريتَ من حرمٍ ليلاً إلى حرمٍ *** كما سرى البدرُ في داجٍ من الظلمِ ... كتبه / أبو عبد الرحمن عمر بن أحمد صبيح
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
فائدة عزيزة في ذكر أول من وصف بيت المقدس بأنه: (ثالث الحرمين) وحكم ذلك
تقليص
X
-
فائدة طيبة بارك الله فيكم أخي الكريم
أما المنع من هذا الإطلاق فلما فيه من الإيهام من أن المسجد الأقصى حرم ولو نظر إلى هذا العبارة بعين اللغة يجدها صحيحة لأنه لو أريد المعنى المتبادر إلى الذهن لقال ثالث الحرم الثلاث لأن المعدود المضاف إلى جنسه هكذا صورته كما قال ربنا جل في علاه {ثاني اثنين } الآية وكم في الحديث الصحيح ( عبد الله بن سلام عاشر عشرة في الجنة ) والأدلة كثيرة
بخلاف ما لو لم يكن من جنسه فيقال كما في هذه العبارة وكما في قوله تعالى { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } الآية
والخلاصة أن المسجد الأقصى لما لم يكن من جنس المسجدين في ( الحرمية ) عبر بهذا التعبير لأنه في المرتبة الثالثة بعدهم في الفضل لكن ما كل أحد يفهم هذا ويظهر له هذا فكان الأولى تركه لإيهامه المعنى المذكور وتأمل كلام العلامة العثيمين في المنع من هذا التعبير
ونحب من أخينا الفاضل الشاعر المجيد عمر _ حفظه الله _ أن يتحفنا بمزيد من الفوائد والفرائد وإن كان ثم خطأ في تعليقي فالإفادة
تعليق