إجماع علماء العصر على تحريم الخروج على ولاة الأمر وأئمة الجور
لفضيلة الشيخ
سليم بن عيد الهلالي
حفظه الله
في «الصحيحين» عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت –رضي الله عنه-وهو مريض؛ قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.
دلّ هذا الحديث على تحريم الخروج على ولاة الأمر وإن جاروا، وهذا ما قرره علماء الشريعة على مدار العصور، حتى يومنا هذا.
1-قال الإمام الآجري في «الشريعة» (1/371-372): « قد ذكرت من التحذير من مذهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله -تعالى-عن مذاهب الخوارج، ولم ير رأيهم؛ فصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله -تعالى-كشف الظلم عنه وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح وحج معهم، وجاهد معهم كلّ عدو للمسلمين، وصلى خلفهم الجمعة والعيدين، وإن أمروه بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يُطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته، وكفّ لسانه ويده، ولم يَهْوَ ما هم فيه، ولم يُعِنْ على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم -إن شاء الله-».
2-قال ابن القاسم -رحمه الله-؛ كما في «مفتاح دار السعادة»(1/119) سمعت مالكاً يقول: «إن أقواماً ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم، فخرجوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأسيافهم، ولو اتبعوا العلم لحجزهم عن ذلك».
3-قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-؛ كما في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/181) «ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين-وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقرّوا له بالخلافة بأي وجه كان؛ بالرضا أو بالغلبة-فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة الجاهلية.
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك؛ فهو مبتدع على غير السنة والطريق».
4-قيل لسهل بن عبد الله التستري؛ كما في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/324): متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟
فقال -رحمه الله-: إذا علم من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة، ولا يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذّب بالقدر، ولا يشكّ في الإيمان، ولا يماري في الدين، ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسح على الخفين، ولا يترك الجماعة خلف كلّ والٍ جَارَ أو عَدَلَ».
5-وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-في «منهاج السنة» (4/529): «أن الأمر قد استقر على المنع من الخروج.
ولذلك نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع عليه، منهم:
1-البخاري-رحمه الله-؛ فقد ذكر هذه العقيدة (أي: ترك الخروج على الولاة)؛ كما في «شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/320)، وقال:«لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرات، قرناً بعد قرن، ثم قرناً بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان منهم... واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء».
2و3-وكذلك الإمامان الجليلان وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان-رحمهما الله-، فقد قررا هذه العقيدة؛ كما في «شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/321-323)، وقالا:«أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً...».
4-ابن بطة العكبري-رحمه الله-في «الشرح والإبانة» (ص276-277): «ثم من بعد ذلك الكف والقعود في الفتنة، ولا تخرج بالسيف على الأئمة وإن ظلموا».
قاله بعد قوله (ص175): « ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووضعها وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمي بها؛ واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة ما عبناه وذكرناه، وحذر من أهل البدع والزيغ، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة، مذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا».
5-المزني صاحب الشافعي -رحمهما الله-في «شرح السنة»(ص85): «ترك الخروج عند تعدّيهم وجورهم، والتوبة إلى الله -عز وجل-؛ كيما يعطف بهم على رعيتهم».
ثم ذكر إجماع الأئمة على هذا، فقال (ص88): « هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضى، وجانبوا التكلف فيما كفوا، فَسُدِّدوا بعون الله وَوُفِّقوا، ولم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا، ولم يتجاوزوه تزّيداً فيعتدوا، فنحن بالله واثقون، وعليه متوكلون، وإليه في اتباع آثارهم راغبون».
6-النووي -رحمه الله-في «شرح صحيح مسلم»(12/229): « وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين؛ وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق».
7-الطيبي في «الكاشف عن حقائق السنن»(7/181-182): «وأما الخروج عليهم وتنازعهم فمحرم بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وأجمع أهل السنة على أن السلطان لا ينعزل بالفسق؛ لتهيج الفتن في عزله، وإراقة الدماء، وتفرق ذات البين؛ فتكون المفسدة في عزلة أكثر منها في بقائه».
8-ابن المنذر، -رحمه الله-؛ كما في «سبل السلام» (3/262): «كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه».
وذلك أن الخروج على الأئمة يفضي إلى إراقة دماء المسلمين ومن ثم ضعفهم وشماتة أعدائهم فيهم.
قال هشام بن حسان: «أَحْصَوْا ما قتل الحجاج صبراً؛ فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل»([1]).
عن سليمان بن علي الربعي، قال: «لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف، انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم، فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل، وفعل..؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج...قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة([2]) من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء؛ فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
قال: فخرجوا من عنده، وهم يقولون: نطيع هذا العِلْجَ؟! قال: وهم قوم عرب ! قال:خرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعاً»([3]).
ولقد سأل أبو الحارث الصائغ([4]) الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله-عن أمر حدث في بغداد، وهمّ قوم بالخروج ! فقال له: ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟! فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: «سبحان الله! الدماء..الدماء..لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة؛ يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان للناس فيه-يعني: أيام الفتنة-؟!
قلت: والناس اليوم..أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟!
قال: وإن كان؛ فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل.
الصبر على هذا، ويسلم لك دينك: خير لك».
مجلة «الصحيفة الصادقة»
([1]) أخرجه الترمذي (2220)، وصححه شيخنا الألباني-رحمه الله-
([2]) لقد كان الحسن-رحمه الله-يرى أن الله ما سلط الحجاج إلا عقوبة، ففي رواية: «يا أيها الناس -إنه والله-ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع».
أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/164)، وابن أبي الدنيا في «العقوبات» (52) وسنده صحيح.
([3]) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/163-164)، والدولابي في «الكنى» (2/121) بسند صحيح.
([4]) هو من جلة أصحاب الإمام أحمد -رحمه الله-، وانظر: «المنهج الأحمد» للعليمي(1/363).