بسم الله الرحمن الرحيم
بحث نفيس في إثبات إجماع السلف على عدم الخروج على أئمة الجور والحكام الظلمة
قال فضيلة الشيخ المحدث أبو أسامة سليم بن عيد الهلالي –حفظه الله- في كتابه "المستقبل للإسلام بمنهج السلف الكرام" (ص/328-إلى- 332)
خامسًا : قال عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه : "لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر مما كان قبله، أمَا إني لا أعني أميرًا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام؛ ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجئ قوم يفتون برأيهم (وفي رواية : فيثلمون الإسلام ويهدمونه) " .
ورجح الحافظ تفسير ابن مسعود لمعنى الخيرية والشر ية، قائلا : "وهو أولى بالاتباع" [سلسلة الأحاديث الصحيحة] (1/36) .
وعليه؛ فالحديث لا يثبط الأمة، ولا يعلمها الخنوع والذل، ولا يكثف أيديها عن المعالي الدنيوية والأخروية، وإنما الحديث يقرر منهجا سلفيا في التعامل مع الحكام وولاة الأمور الظالمين بالصبر على أذاهم، وعدم الخروج عليهم؛ لما في ذلك من بلايا ورزايا، وفتن ومحن؛ شهِد بذلك التأريخ، واعترف بذلك المحققون من العلماء.
فقد صبر الصحابة والتابعون على الحجاج وأذاه، فذهب الحجاج وأبدلهم الله مكانه خليفة على منهج الخلفاء الراشدين؛ هو : عمر بن عبد العزيز، وثار بعض التابعين على الحجاج، فكانت مقتلة القراء، وموقعة دير الجماجم .
هذا المنهج قرره السلف الصالح بقولهم : "إمام غشوم خير من فتنة تدوم"، و "ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة بغير إمام" .
ولذلك أجمع السلف على عدم الخروج على الأئمة الظلمة، وولاة الجور .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن الأمر قد استقر بعد ذلك على المنع من الخروج. "منهاج السنة" (4/529).
ولذلك نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع عليه منهم :
1- البخاري –رحمه الله- ، فقد ذكر هذه العقيدة (أي : ترك الخروج على الولاة) ، وقال : "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم – أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر- ، لقيتهم كرات، قرنا بعد قرن، ثم قرنا بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان منهم ... واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا، ولا يطول ذلك، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء" [(شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة) 1/321 – 323] .
2- وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان –رحمهما الله- ، فقد كررا هذه العقيدة، وقالا: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار : حجازا، وعراقا، وشاما، ويمنا ..." (المصدر السابق /1321 -322).
3- ابن بطة العكبري –رحمه الله- قال : "ثم من بعد ذلك الكف، والقعود في الفتنة، ولا تخرج بالسيف على الأئمة وإن ظلموا" [الشرح والإبانة / (276- 277).
قال –بعد قوله- : "ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووضعها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تسمك به العبد، ودان الله به؛ سمِيَ بها، واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه –أو شيئا منه؛ دخل في جملة ما عبناه وذكرناه، وحذر من أهل البدع والزيغ، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة ، مذ بعث الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- إلى وقتنا هذا" [المصدر السابق (ص175)].
-4 والمزني صاحب الشافعي؛ قال –رحمه الله- : "ترك الخروج عند تعديهم وجورهم، والتوبة إلى الله عز وجل؛ كي ما يعطف بهم على رعيتهم".
ثم ذكر إجماع الأئمة على هذا؛ فقال : "هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضا، وجانبوا التكلف فيما كفوا، فسُددوا بعون الله ووفقوا، ولم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا، ولم يتجاوزوه تزيدا فيعتدوا، فنحن بالله واثقون، وعليه متوكلون، وإليه في اتباع آثارهم راغبون" (المصدر السابق/ ص77).
5- النووي –رحمه الله- : " وأما الخروج عليهم وقتالهم : فحرام بإجماع المسلمينن وإن كانوا فسقة ظالمين؛ وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة على أنه لا ينعزل السلطان بالفسق" [شرح صحيح مسلم (12/229).
6- الطيبي : "وأما الخروج عليهم، وتنازعهم؛ فمحرم بإجماع المسلمين، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق؛ لتهيّج الفتن في عزله، وإراقة الدماء، وتفرق ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" [الكاشف عن حقائق السنن (7/181- 182).
7- ومحمد بن أحمد بن مجاهد البصري الطائي. [مراتب الإجماع] لابن حزم (ص178).
8- وابن المنذر : "كل من يحفظ عنه من علماء الحديث ، كالمجمعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه" [سبل السلام (3/262)].
وذلك؛ أن الخروج على الأئمة يفضي إلى إراقة دماء المسلمين، ومن ثم ضعفهم، وشماتة أعدائهم فيهم.
قال هشام بن حسان : "أحصوا ما قتل الحجاج صبرا؛ فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل"[أخرجه الترمذي (2220) وصححه شيخنا الألباني –رحمه الله- .
وأما فتنة الجزائر في عصرنا الحاضر؛ فقد حصدت أكثر من مائة وخمسين ألف قتيل ! ولذلك نهى العلماء الأفاضل عن الخروج، ولكن المستعجلين لا يرون رأيهم، ولا يقفون عند فقههم ، جريا على عادة أسلافهم الخوارج الأولين.
عن سليمان بن علي الربعي؛ قال : "لما كانت الفتنة –فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف- ؛ انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم، فدخلوا على الحسن، فقالوا : يا أبا سعيد! ما تقول في قتال هذا الطاغية؛ الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل، وفعل .. ؟! قال : وذكروا من فعل الحجاج
قال: فقال الحسن: أرى ألا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة[1] من الله؛ فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء؛ فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
قال: فخرجوا من عنده، وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! قال: وهم قوم عرب! قال: وخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعا"[2] .
لقد سألت أبو الحارث الصائغ[3] الإمام أحمد بن حنبل عن أمر حدث في بغداد، وهمّ قوم بالخروج! فقال له: ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟! فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: "سبحان الله! الدماء .. الدماء .. لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أمَا علمت ما كان للناس فيه- يعني: أيام الفتنة؟!
قلت: والناس اليوم .. أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟!
قال: وإن كان؛ فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمّت الفتنة، وانقطعت السبل، اتلصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك".
[1]- لقد كان الحسن –رحمه الله- يرى أن الله ما سلط الحجاج إلا عقوبة، ففي رواية: "يا أيها الناس! إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع".
أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/164)، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" (52)، وسنده صحيح.
[2]- أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/163-164) والدولابي في "الكنى"(2/121) بسند صحيح .
[3]- هو من جلة أصحاب الإمام أحمد –رحمه الله-، وانظر : "المنهج الأحمد" للعليمي (1/363).
تعليق