السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رسالة
الأنوار الساطعة
في
بيان حكم المقاطعة
في
بيان حكم المقاطعة
كتبها
الشيخ أبو بكر بن ماهر بن جمعة المصري
حفظه الله
الشيخ أبو بكر بن ماهر بن جمعة المصري
حفظه الله
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قد يبدو لدى المطلع على هذا العنوان لأول وهلة أنني أقصد مقاطعة السلع والمنتجات اليهودية أو الأمريكية أو غيرها من بلاد الكفر، وهذا وإن كان داخلاً تحت العنوان إلا أنه ليس المقصود الوحيد به، فإن هناك نوعًا آخر من المقاطعة يأتي ذكره في محله -إن شاء الله تعالى- ولنبدأ بالكلام على أحد نوعي المقاطعة ألا وهى المقاطعة المذكورة، فأقول راجيًا من الله السداد والقبول:
قد تكلم في هذه المقاطعة المادية بعض رؤساء جماعة الإخوان، كيوسف بن عبد الله القرضاوي كلامًا لا يرضي الرحمن، ولا يرضي أهل العلم والإيمان، حيث اعتبر في فتوى منشورة له، اعتبر عدم مقاطعة سلع مثل تلك الدول من دول الكفر وأعداء الإسلام كبيرة من الكبائر، والحق يقال:
إن فتواه هذه هي من الكبائر، وبيان ذلك أن يقال:
إن القول على الله بغير علم لعظيم جدًا وخطير وقد قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
فقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية ما ملخصه أن في هذه الآية تحريمًا للأشياء المذكورة فيها، وقد ترقى التحريم من الأدنى إلى الأعلى، وأن أعلى هذه المحرمات وأشدها هو القول على الله بغير علم، وأنه أعظم من المحرمات التي قبله، فهو أعظم من الشرك بالله -تعالى- فضلاً عما ذكر في الآية قبله.
وقال -تعالى- متهددًا ومتوعدًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لو تقول على الله بعض الأقاويل:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
وقال -تعالى-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}
وقال –تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال –تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
أي لا أحد أظلم منه.
ثم إن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا ما دل الشرع على تحريمه.
وبناءً على ذلك فالأصل في البيع الحل إلا ما دل الشرع على تحريمه قال –تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها، وقد ثبت في السنة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، وقد ثبت فى السنة أيضًا في صحيح البخاري –رحمه الله- من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لقي رجلاً مشركًا مُشْعَانَّ طويل بغنم يسوقها فقال له: ((أبيع أم هبة)) أو قال: ((أو هدية)) فقال بل بيع، فاشترى منه شاة.
ومعلوم عداوة المشركين بمكة للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومعلوم عداوة اليهود بالمدينة للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد قاتل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- اليهود في خيبر وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وغنم أموالهم، وقد مر أحد اليهود عليه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "السام عليك يا محمد" فقال له ((وعليك)) والسام هو الموت، فما زاد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على ذلك، وقال ((لا يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا)). فإن قيل:
قد كان النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يعامل اليهود من منطلق العزة والقوة والغنى، قلنا:
أجل، لكن أليس المستضعف أولى بهذه المعاملة من القوي الغني العزيز، فإن هذا الأخير يمكنه الاستغناء عنهم وعدم التعاون معهم بخلاف الضعيف الفقير الذليل فإنه قد لا يمكنه ولا يسعه الاستغناء عن التعامل المادي الدنيوي معهم لحاجته الماسة أو ضرورته الملجئة إلى ذلك، فكيف يسوغ بعد هذا أن نتحجر واسعًا أو أن نضيق على الناس أمرًا وسعه الله عليهم؟!
أو أن نغلق بابًا فتحه الله عليهم؟!
أو أن نحرم ما أحله الله وأباحه لهم ؟!
والمسلمون اليوم لا يخلون من أحد حالين، إما حال قوة وإما حال ضعف، فإن كانوا في حال قوة فهم مقتدون بنبيهم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في تعامله مع الكفار في حال قوته كما سبق من معاملته لليهود -لعنهم الله – وإن كانوا في حال ضعف فإنهم أولى -بلا شك- بهذه المعاملة لدفع حاجتهم وضرورتهم، إذ لا يجوز أن نجمع عليهم ضعفين وشدتين.
ثم إنهم مقتدون في هذه الحالة بتعامل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع مشركي قريش بمكة هو وأصحابه، وقد كانوا مستضعفين بمكة، ولذلك ذكرّهم الله بنعمه عليهم بعد أن كانوا مستضعفين فقال: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قطع هو أو أصحابه التعامل مع مشركي مكة بيعًا وشراءً وغيرهما من المعاملات المباحة، بل كان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يمشي في الأسواق وكان هذا مشهورًا عنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حتى قال الله عن المشركين: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}
إلى أن قال -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
ولا يخفى على عاقل فضلاً عن عالم خبير ما عليه المسلمون اليوم من الضعف الدنيوي والديني أيضًا، بل ضعفهم الدنيوي تابع لضعفهم الديني -والله المستعان- فقد جمعوا بين نوعي الضعف وإنا لله وإنا إليه راجعون، ومعلوم في القواعد أنه كلما ضاق الأمر اتسع، وأن المشقة تجلب التيسير، والأصل في دين الإسلام عمومًا اليسر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
((إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه)) وقال لمعاذ وأبي موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا)) وقال -تعالى-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
وقد وضع الله عن هذه الأمة الآصار التي كانت على من قبلنا، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الصحابة-رضي الله عنهم- لما قرأوا {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال الله قد فعلت ...، والحديث بطوله في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وقد جاء بنحوه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهم- فوضع الله الأصار والأغلال عن هذه الأمة عمومًا وعن ضعفائها خصوصًا.
قال -تعالى-:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونََ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
وقد جاء في التفسير عن بعض السلف أن عَسَى من الله موجبة.
وقال –تعالى-:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقد قال الله –عز وجل- عن نبيه محمد–صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فمال أهل الأهواء يشددون على أمة محمد-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بما لايوافق شرعًا ولا عقلاً، وقد قال -تعالى-:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}
وقال –تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
ولا شك في أن تحريم ما أباحه الله لعباده هو من العسر والإصر ومضادة لله في حكمه وشرعه المبني على التيسير، وإذا كان الله قد أباح للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك مما حرمه الله -عز وجل- أو حرمه رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وذلك إبقاءً على الصحة والحياة ودفعًا للحرج وللضرورة، كما قال –تعالى-:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
أقول: إذا كان الأمر كذلك ألا وهو إباحة الله لمثل تلك المحرمات بقدر ما يزيل ضرورة صاحب الضرورة، أفليس من الأولى البقاء على أصل إباحة ما أباحه الله لعباده بأصل الشرع من غير ضرورة ؟!
ثم أليس من الأولى والأولى البقاء على أصل إباحة ما أباحه الله لعباده مع وجود ضرورة ؟!
قال –تعالى-: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} جعلنا الله منهم بمنه وكرمه-.
ولقد وقفت على كلام لبعض أهل العلم في هذه المسألة، ألا وهي مسألة المقاطعة المذكورة، وخلاصة ذلك أن أمر المقاطعة منوط بولي الأمر؛ لأنه أدرى بالمصلحة أو المفسدة المترتبة على المقاطعة من عدمها.
قلت: وهذا كلام حق وصواب؛ ذلك لأن ولاة الأمور أدرى بذلك، وأدرى بما ينكى به العدو مما لا يفعل من تلك النكاية، فولاة الأمور وبطانتهم من أهل الحل والعقد هم أدرى وأعلم وأكثر خبرة بما يصلح الرعية وما يفسدها في هذه الأبواب، وفي مثل تلك المسائل العظيمة والخطيرة، وهم أقدر على تقدير المصالح الخالصة والراجحة والمفاسد الخالصة والراجحة في مثل تلك المسائل والأمور، فإن اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا واخطأوا فلهم أجر الاجتهاد ومعفو عن خطئهم، وإن فرطوا أو قصروا في النظر في ما يصلح الرعية أو يفسدها فهم المسؤلون عن تفريطهم أو تقصيرهم يوم القيامة، وإن تجاوزوا الحد فإنهم مسئولون عن هذا التجاوز، ولكن ليس معنى هذا منازعة ولاة الأمور والخروج عليهم والافتيات عليهم والخروج في مسيرات أو مظاهرات أو اللجوء إلى إضرابات أو اعتصامات أو إحداث تفجيرات أو بث روح الثورة والخروج على حكام المسلمين بالسيف والسلاح كما هو شأن الخوارج وأرباب الفساد وإن سموه باسم الإصلاح، ولكن حسب أفراد الرعية أن يناصحوا ولاة الأمور بالضوابط الشرعية المتعلقة بالنصيحة عمومًا ونصيحة أولياء الأمور خصوصًا؛ دفعًا للفوضى والإثارة والتشهير بهم على المنابر أو في المجالس العامة أو اغتيابهم في المجالس الخاصة، فإذا قرر أولياء الأمور المقاطعة وجب النزول على ما قرروه مالم يكن في ذلك معصية الله -عز وجل- أو معصية رسوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبالنزول على ما قرره أولياء الأمور وأهل الحل والعقد تتحقق المصالح وتندفع الشرور وتدرأ المفاسد، أما أن يتصرف بعض أفراد الرعية تصرفًا فرديًا من تلقاء نفسه بحيث يدعو الناس ويلزمهم بالمقاطعة دون أمر ولي الأمر في ذلك فهذا لاشك في كونه افتياتًا على أولياء الأمور ومن منازعتهم ومن الخلاف الذي هو شر.
أما فتوى بعض الناس بأن من لم يقاطع فقد ارتكب كبيرة من الكبائر فأقول:
إن فتواه هذه -والحال ما ذكر- لإحدى الكبائر والكبر، خاصة إذا لم يكن في العمل بفتواه تحقيق مصلحة راجحة ولا خالصة، وإذا لم يكن في فتواه درء ودفع مفسدة راجحة أو خالصة.
أما مقاطعة بعض المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات المستوردة من بعض بلاد الكفر والتي يستغني عن مثلها أكثر الناس لوجود البدائل الأخرى في ديار الإسلام فهذا لابأس به، من غير إيجاب ذلك على المسلمين جميعهم ودعوتهم إلى ذلك ومخالفة أولياء الأمور، خاصة إذا لم تكن مثل هذه الأشياء ضارة في الدين أو الدنيا، لكن من استغنى في نفسه وخاصته عنها واستغنى بغيرها واستعاض بغيرها عنها فلا بأس بذلك.
أما أن يقال بوجوب ذلك في مثل هذه الحالة وبإلزام الناس بذلك دون قرار أولياء الأمور والحكم على من لم يقاطع في مثل هذه الصورة بأنه ارتكب كبيرة من الكبائر فلا، خاصة أن قيام بعض الناس بمثل هذه المقاطعات لا يحصل بها غالبًا النكاية في العدو؛ ذلك لأن الأعداء أو الكفار هم في الغالب في زماننا هذا أقوياء وأغنياء -والمقصود الغنى الدنيوي بلا شك- فمثل تلك المقاطعات الفردية دون سائر الناس ودون الانضواء تحت قرار ولي الأمر الملزم شرعًا لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن مثل هذه المقاطعة لتذكرني بحديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً يخذف أي يرمي بالحصى، فقال له لا تخذف فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى عنه أو كان يكرهه وقال: ((إنه لا يصيد الصيد ولا ينكى به العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين)) ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال: أحدثك عن رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه نهى عنه أو كان يكرهه وتخذف ؟! لا كلمتك كذا وكذا، والحديث صحيح، فكذلك مثل هذه المقاطعات الفردية لا ينكى بها العدو، ولا تكاد تتحقق بها مصلحة راجحة للمسلمين فضلاً عن مصلحة خالصة خصوصًا مع هذا الحال الذي عليه المسلمون من الضعف والله المستعان.
فإذا كانت الحاجة ماسة إلى تلك السلع المستوردة، لم يكن للمقاطعة معنى إلا العود بالضرر على المسلمين، خاصة إذا كانت تلك السلع جيدة ورخيصة وليس هناك بدائل تسد مسدها أو تقوم مقامها.
فرحم الله رجلاً لم يقل في الدين برأيه دون الرجوع إلى العلماء الثقات الراسخين ودون مراعاة للقواعد الشرعية والمصالح المرعية ودون فهم الواقع الذي يعيشونه.
والعجب أن القوم يدندنون حول فهم أو فقه الواقع وهم من أبعد الناس عن هذا الفهم وذاك الفقه للواقع الذي يعيشون فيه، فهم في وادٍ وفقه الواقع وفقهاؤه في وادٍ آخر بعيد، ثم إنهم أيضًا لو فقهوا الواقع فلن يستطيعوا معالجة هذا الواقع وذلك لفقدانهم للعلم الشرعي الذي يؤهلهم لتنزيل الحكم الشرعي على المسالة الواقعة، بل إن فقدهم للعلم الشرعي سبب لعدم فقه الواقع فضلاً عن معالجته، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقوم من أبعد الناس عن العلم وأهله، ومن أشد الناس عداوة لأهل العلم، ومن أشد الناس جهلاً بكتاب الله وبسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبمذهب السلف الصالح الذي لا مذهب غيره ولا طريق للنجاة سواه.
فالواجب إنما هو مقاطعة ما يعود بالضرر على المسلمين سواء كان مستوردًا من بلاد الكفار أو من غيرها أو من منتج البلد نفسها.
والعجيب أن غالب القوم قد عجزوا عجزًا كبيرًا عن مقاطعة شفرات وأمواس حلق اللحية -كما قيل، وكما هو الواقع- ومعلوم في الشريعة حرمة حلق اللحية لأمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بإعفائها في غير ما حديث صحيح وثبوت الأمر منه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمخالفة المجوس والمشركين، وثبوت لعنه لمن تشبه من الرجال بالنساء، فانظر -رحمك الله- كيف أنهم لم يقاطعوا ما يعينهم على معصية الله -تعالى- وكيف أنهم يخالفون الأحاديث الصحيحة الصريحة أو يتأولونها بتأويلات غير سائغة، وانظر كيف يلزمون الناس بمقاطعة ما لم يثبت بمقاطعته دليل صحيح صريحًا كان أو غير صريح، فما أبعدهم عن العلم الصحيح!! وما أبعدهم عن سلوك المسلك الصحيح لنصرة الإسلام وإن تشدقوا بنصرة الإسلام!! وهم ممن يحسن أن يقال فيهم: إنهم لا للإسلام نصروا ولا لعدوه كسروا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أهل الكلام الذين تظاهروا بنصرة السنة في مواضع كثيرة.
وإذا أردت أن تعرف حقيقة القوم فحدثهم عن المذهب السلفي وعلمائه واذكرهم بخير، ثم عرج على ذكر أهل الأهواء وبخاصة الذين نصبوهم علماء وأئمة لهم، واذكر مخالفاتهم وكيف أنهم ليسوا على الجادة وأنهم من أبعد الناس عن العلم الصحيح والعقل الصريح، فإن فعلت ذلك بان لك حقيقة القوم وأنهم ليسوا عند الأدلة والبراهين الصحيحة ولا عند العلماء السلفيين، وإنما هم عند رءوس جهال قد ضلوا وأضلوا كثيرًا، وإن فعلت ما ذكرته لك بان لك أثار غلظ قلوبهم على السلفيين، فالقوم يصلح أن يسموا بالحمقى والمغفلين بدلاً من أن يسموا بالإخوان المسلمين، على أن كلمة (الإخوان المسلمين) يدخل فيهم كل مسلم أيًّا ما كانت طريقته ومذهبه، فهو اسم يدخل فيه جميع أهل الأهواء والبدع ماداموا مسلمين، فالقوم مشغولون بالتجميع على غير هدى وعلى غير مذهب السلف، بل مذهب السلف والسلفيون من حزبهم وتفريقهم للأمة براء، وما كان للسلفي أن يدخل تحت لوائهم الملون بألوان البدع، بل ما كان لهم هم أن يقبلوا السلفي في صفوفهم مع بقائه على سلفيته؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع سنة وبدعة إلا كما يجتمع الماء والنار.
ونذكر أصحاب المقاطعة بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
وفى ختام الكلام على هذا النوع من المقاطعة أقول: إن من طريف الأمر أنني كنت أناقش مدرسًا لإحدى المواد بمتجر في أحد شوارع مدينة الفردوس "المجزر" بمدينة المنصورة، وكان وقتها صاحب هذا المتجر صديقًا لي، وكان بيني وبينه مودة شديدة، وكان يدعوني إلى متجره أحيانًا، فدخل هذا المدرس ذات ليلة علينا واستطردنا في الحديث حتى وصلنا إلى مسألة المقاطعة وأبديت اعتراضي على فتوى من أفتى بوجوب المقاطعة وأنكرت اعتقاد هذا المفتي بأن عدم المقاطعة كبيرة من الكبائر، وذكرت لمناقشي ما حضرني من الدليل والتعليل على بطلان هذه الفتوى، وعارضني فيما ذهبت إليه من الإنكار والاعتراض على هذه الفتوى، وقد ناقشته نقاشًا طويلاً وكان مصرًا على موقفه، فبينما نحن على ذلك إذ دخلت بُنية له صغيرة فأخذت من المتجر شيئًا مما يدخل في حكم المقاطعة عنده فلم ينهرها ولم يمنعها ولم يأخذ منها هذا الشيء بحيث يأتيها ببديل آخر مثلاً، فابتسمت أنا وهو أو ضحكت وتبسم أو ضحك لا أذكر لبعد العهد بذلك، وقلت له وقتها ما معناه: لو كان الأمر على سبيل التحريم المجزوم به عندك لمنعتها من أخذ هذا الشيء، أو للزمك أن تمنعها( ) -ولم يكن منه لها منع- وأخبرته أن الأمر على السعة وعلى أصل الإباحة في باب البيع والشراء أو نحو هذا الكلام.
فرحم الله رجلاً سار بسير العلماء ولم يقلد في دينه الرجال مع وضوح الحجة والبرهان،، ورحم الله من يسر على المسلمين ورفع عنهم الآصار والأغلال،
ومما سمعناه من بعض أفراد جماعة الإخوان قولهم بصوت جماعي:
"قاطعْ قاطعْ قاطع، مِشْ عاوزين من أمريكا سلعة قاطع"
وقولهم: "قاطع الديل وراس التعبان اسرائيل!! والأمريكان"
قلت: ألا يعلمون أن اسرائيل هو يعقوب النبي الكريم( )؟! نعوذ بالله من الجهل.
ومما أذكره أيضًا أنني تكلمت مرة في أحد المساجد على المقاطعة فقال لي شاب في ذلك بعد الانتهاء من الكلمة عند خروجي من المسجد منكرًا عليَّ فنظرت إليه فإذا عليه ما يسمى بالفانيلا الخارجية فقلت له ما هذا ؟!
أو أليست هذه الفانيلا مستوردة وكان عليها فيما أذكر بعض الكلمات الأجنبية؟
فقال ما معناه: إنه يقصد الأشياء الأخرى كالمشروبات ولعله ذكر أشياء أخرى -فانظر رحمك الله- إلى تخبط القوم.
[فائدة: ما يلي شعر البدن يسمى شعارًا وما فوقه يسمى دثارًا، والله أعلم]
هذا ما حضرني من كلام أهل العلم ومما يسر به الكريم الرحمن في هذا النوع من المقاطعة والحمد لله رب العالمين.
أما النوع الآخر من المقاطعة فهو أعظم النوعين خطرًا وأشدهما ضررًا لتعلقه بالدين، وأما النوع السابق ذكره فمتعلق بالدنيا، والضرر في الدين أشد من الضرر في الدنيا بلاشك، وهذا النوع الثاني المذكور هنا متعلق بمقاطعة العلم وأهله والبعد عنهم والتنفير منهم والتحذير من مجالستهم ومخالطتهم على وجه الأخذ عنهم وعلى سبيل الإستفادة منهم في أبواب العلم والدين.
ولاشك في سوء مسلك صاحب هذه الخطة وخبث طويته أو فرط جهله ذلك؛ لأن التحذير من أهل العلم هو في الحقيقة تحذير من تعلم العلم الذي يحملونه، ومعلوم أن بالعلم يعرف الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والسنة من البدعة، والتوحيد من الشرك، والصواب من الخطأ، ولا يَعلم ما في عواقب الإعراض عن العلم من الفساد إلا رب العباد، وقد قيل: الإنسان عدو ما جهل، فبسبب الجهل أو الهوى أو بسببهما معًا يعرض الإنسان عن العلم وأهله، وقد ذم الله –تعالى- الكفار بقوله:
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
وقال –تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}
وقال –تعالى-: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}
فخُلُق الإعراض عن العلم والبرهان والحجة والبيان خلق الكفار، ولا يجوز التشبه بهم في هذا الخلق، ومن تشبه بهم فله نصيب من هذا الخلق بقدر تشبهه بهم فيه، والناس في هذا بين مقل ومستكثر إلا من رحم الله، والمعصوم من عصم اللهُ -تعالى- ووفقه لسماع العلم من أهله والحجةِ من أهلها أهل الدراية والفقه والعلم والإيمان.
والإنسان إذا أعرض عن العلم والتعلم بقي على جهله؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، قال -تعالى-:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فالله أنعم على الإنسان بنعمة السمع والبصر والفؤاد لكي يشكر نعمة الله عليه، ويطوع هذه الآلات لسماع الحق ورؤيته وعقله وتدبره وتفهمه والصدور عنه والعمل به والدعوة إليه، وغير ذلك مما يدخل في شكر الله على هذه النعم، وقد ذم الله أقوامًا من المشركين لم يستفيدوا بهذه الآلات والأدوات بل كانت حجة عليهم، قال -تعالى-:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وقال -تعالى-: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
فهؤلاء عطلوا نعمة الله عليهم وكفروها حيث منَّ عليهم بالقلوب والأعين والأذان لعلهم يشكرون، ولكنهم لم يستفيدوا منها، وإنما استعملوها في المعاصي والكفر بالله والإعراض عن الحجج والبينات فاستحقوا الذم ودخول النيران ونفاذ الوعيد فيهم، وقد قيل:
تعلم فليس المرء يولد عالمًا وليس أخو علم كمن هو جاهل
وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
فالأصل في الإنسان الجهل، والأصل أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعلم إلا ما علمه الله إياه، وقد قال -تعالى- في سورة هود في آخر قصة نبي الله نوح مع قومه، قال مخاطبًا إياه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}
وقال في سياق قصة مريم وزكريا:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
وقال في آخر قصة نبي الله يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}
وقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
وقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقبل إسلامهم وإيمانهم، كانوا في جاهلية جهلاء ظلماء، وفي ضلالة صماء بكماء عمياء، ولكن الله نجاهم وأنقذهم من ظلمات الشرك والمعاصي والجهل بما منَّ به عليهم من إرساله محمدًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إليهم، وبعثته فيهم وتعليمه إياهم، قال -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وقال -تعالى-:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وقال -تعالى-:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
فمن أعرض عن مصابيح الدجى بقى يتخبط في ظلام دامس، ومن أعرض عن العلم والعلماء بقى غارقًا في جهله سادرًا في ضلاله وغيه.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بينما هو يحدث أصحابه إذ أقبل ثلاثة نفر، فجاء أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها وجلس الآخر خلف الحلقة وأدبر الثالث ذاهبًا، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حديثه قال:
((ألا أخبركم بالنفر الثلاثة ؟)) قالوا: بلى، قال: ((أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأغرض الله عنه)) أو كما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فالجزاء من جنس العمل، وقد قيل: أعط أخاك تمرة فإن أبى فأعطه جمرة.
قال -تعالى-:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }
وقال -تعالى- بعد ذكر بعض الأنبياء في سورة مريم:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}
فلما ذكر الله –عز وجل- هؤلاء الصالحين قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
فلما أضاعوا الصلاة الواجبة عليهم وأضاعوا تلك العبادة العظيمة أقبلوا على المعاصي والشهوات المحرمة واتبعوها، ولذلك توعدهم الله بأنهم سوف يلقون غيا، وقوله حق ووعده صدق:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} كما في الآية، وقد قيل: النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
وقال –تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
وقال –تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
فمن أعرض عن العلم أقبل وأكب على الجهل، ومن أعرض عن الخير والهدى والرشاد أقبل على الشر والضلال والغواية والعناد، قال -تعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
ولما أعرض اليهود عن الحق ولم يعملوا به وكلوا إلى ما تتلوه الشياطين، قال -تعالى-:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
وثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقول في خطبته:
((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا...)) ومما نقل عن السلف قولهم:
[إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها]
ومعلوم أن الجهل والشرك والبدعة والمعصية والظلم ظلمات بعضها فوق بعض، وأن العلم والحق والإيمان نور على نور لصاحبه، قال -تعالى-:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وقال –تعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فمن وفقه الله فهو الموفق، ومن أعانه الله فهو المعان، ومن هداه الله فهو المهتدي، ومن أغناه الله فهو الغني، ومن كفاه الله فهو المكفي، ومن شفاه الله فهو المشفي، ومن وكله الله إلى نفسه أو إلى شيطانه أو إلى الناس فهو الغوي الشقي؛ ذلك؛ لأن الأصل في النفس الظلم والجهل إلا من رحم الله -تعالى- قال الله -تعالى-:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}
وقالت امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فمن أعرض عن تعلم الكتاب والسنة بفهم السلف وكله الله إلى فهم نفسه القاصر، أو إلى فهم الخلف القاصر، أو وكله إلى تعلم علوم غير شرعية إن نفعته في دنياه لم تنفعه في أخراه، وخسر في صفقته وتجارته وبارت بوارًا لا ربح بعده إلا أن يشاء الله، واشتغل باللهو واللعب، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعاقبه الله بالحرمان من التدبر في آياته الشرعية والكونية، فبدلاً من أن يتلو آيات الله البينات الهاديات لتاليها إذا به يركن إلى تلحين الأناشيد وتطريبها بطريقة تشبه طريقة أهل المجون والفسوق والمخنثين، وكان له حظ من التشبه بالذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، هذا إن سلمت تلك الأناشيد من مخالفات شرعية في مضمونها من حيث هو، فكيف إذا جمعت بين الشرين في حقيقة الأمر، ولنذكر لذلك مثالاً واحدًا، حيث كان حسن البنا مؤسس جماعة (حزب) الإخوان المسلمين ينشد مع رفقائه في بعض الحضرات!! يقول:
صلى الإله على النور الذي ظهرا في العالمين ففاق الشمس والقمرا
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا فسامح الكل فيما قد مضى وجرى
وقد جاء ذلك في كتاب "المورد العذب الزلال في انتقاد بعض المناهج الدعوية في العقائد والأعمال" للشيخ أحمد النجمي -حفظه الله( )- وهو إما في صلب الكتاب وإما في الحاشية فليتحقق من ذلك، وهو منقول عن بعض الكتب التي تكلمت عن جماعة الإخوان، وقد انْتُقِدَ البيت الأخير بأنه شرك إذ إن قائله أعطى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعض صفات الله -عز وجل- فالذي يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات هو الله، قال -تعالى:
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}
وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
ثم إن في البيت كذبًا فاضحًا وهو ادعاء حضور النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- معهم.
أضف إلى ذلك ادعاء حضوره هذا المجلس المبتدع، أضف إلى ذلك الادعاء بأنه سامح (الكل) بلا استثناء أحد من أهل الحضرة!!
ولا أدري سر الاقتصار على مسامحة (الكل) من أهل الحضرة!! دون غيرهم!! ولا أدري أيضًا سر الاقتصار على مسامحة (الكل) فيما قد مضى وجرى دون ما تأخر!! فهل بعد هذا من جهل وتصوف شركي مبتدع؟!
وإذا كان هذا مبلغ علم حسن البنا فماذا ينتظر من أتباعه؟!
ومع شدة جهل القوم يريدون أن يصلوا إلى الحكم ليحكموا الناس وهم لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم ولا خاصتهم وأهليهم بكتاب الله -تعالى- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بفهم السلف الصالح، فلا مكن الله للقوم، وكفى ووقى المسلمين شر جهلهم وفتنتهم، وجزى الله السلفيين خيرًا على بيانهم ما عليه فرقة الإخوان المسلمين من ضلالات وانحرافات، وأخص بالذكر الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ مقبل بن هادي الوادعي والشيخ أحمد بن يحيي النجمي والشيخ ربيع المدخلي، وغيرُهم من علماء المنهج السلفي كثيرون -كثرهم الله- وأطفأ بهم فتنة أهل الأهواء- فكم أطفأ الله بهم من الفتن!! وكم أحيا الله بهم من السنن!! ومن لم تنطفئ فتنته ببيان العالم فستنطفئ بحديد أو سيف الحاكم إن شاء الله.
الشاهد أن من أعرض عن الحق ودين الكبير المتعال وُكِل إلى الباطل وإلى آراء الرجال وما أحدثوه، ولقد أنكر السلف قديمًا ما أحدثه بعض الناس من القصائد الملحنة، واعتبروا ذلك صدًا عن القرآن، فما أدق فهم السلف!! وما أشد حرصهم على هذا الدين!! ولا تزال عجلة الصد عن كتاب الله بالأناشيد الملحنة والمنشدة بالصوت الجماعي والمشحونة بالمخالفات الشرعية من الكذب ونصرة الحزبية وحمية الجاهلية وتثوير الناس على ولاة أمور المسلمين وما تتضمنه من فخر وبغي، أقول:
لا تزال تلك العجلة تدور بما تحمله من شرور، وما الذي يضر الجاهل إذا جلس إلى العالم وأخذ عنه وتواضع للعلم وأهله ؟!
إن من جالس أهل العلم اكتسب من أخلاقهم الحميدة وأقوالهم السديدة، ومن جالس جانس، وإن الطباع نقَّالة وسراقة، وإذا كان الإنسان يتأثر بأخلاق البهائم التي يخالطها مع أنها ليست من جنسه فما الظن بمن يخالط من كان من جنسه وخصوصًا أهل العلم ؟!
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال:
((السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والخيلاء في أهل الإبل))
ومعلوم أن في الإبل من العلو والنفرة والثورة والهيجان ما ليس في الغنم، ولذلك لم ينقل أن الأنبياء رعوا الإبل وإنما رعوا الغنم فقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنهم كانوا في سفر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فتفرقوا في الأشجار يجنون الكَبَاث، وهو ثمر شجر الأراك، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((عليكم بالأسود منه)) فقيل للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: كأنك رعيت الغنم!! فقال: ((وهل من نبي إلا وقد رعاها)) أي ما من نبي إلا وقد رعاها، فسبحان من رقَّى الأنبياء إلى سياسة ورعاية الأمم، فمن جالس أهل العلم فهو حقيق وجدير بأن يكتسب من أخلاقهم ولا يشقى بمجالستهم.
وقد ثبت في الحديث الصحيح الطويل المتعلق بغفران الله للذاكرين الذين يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، قولُ الملائكة:
يا رب إن فيهم فلانًا ليس منهم، وإنما جاء أو جلس لحاجة، قالوا هذا حينما قال الله: أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم، فقال الله لهم:
هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
فإذا كان هذا الغفران قد عم وشمل من جلس إلى أهل ذكر الله لحاجة فما الظن بمن جلس إلى العلماء لطلب العلم الشرعي ابتغاء وجه الله -تعالى- ودام على ذلك السنين الطوال؟!
أليس هذا أولى بأن يغفر الله له؟! بلى والله.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال:
((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يُهديك) وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة))
وكذلك أهل السنة وأهل البدع، فأهل السنة جلساء صالحون، وأهل البدع جلساء سوء، فمن جالس أهل السنة أصاب خيرًا أو أمن من شر، ومن جالس أهل البدع أصاب شرًا، ومن جاور الحداد اكتوى بناره، فأهل البدع كالبعير الأجرب الذي يدخل في الإبل كأنها الظباء فَيُجْرِبُهَا، وفي صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد))
قلت: والفرار من أهل الأهواء أولى من الفرار من المجذوم ذلك؛ لأن أهل الأهواء سبب لإصابة المرء في دينه وهذا أشد ما يعتري الإنسان، وقد صحح الشيخ الألباني -رحمه الله- قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) في صحيح الجامع.
وقد خلّد الله ذكر كلب أصحاب الكهف وقد كان ثامن سبعة من فتية مؤمنين مهتدين، فإذا كان هذا الشأن والحال بخصوص كلب رافق وصحب صالحين، فما الظن بذكر ورفعة وشأن مَن صاحبهم يلتمس العلم منهم؟!
أليسوا أولى برفع الذكر والشأن ؟! بلى والله؛ لأن الله كرم بني آدم كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
ولقد جاء ذكر كلب أصحاب الكهف في قصتهم أربع مرات، وقد أباح الله صيد الكلب المعلَّم ولم يُبحْ صيد الكلب غير المعلم، قال –تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
فإذا سمى الصائد على كلبه المعلم ثم أرسله فصاد الكلبُ الصيدَ ولم يأكل من الصيد ولم يمسك على نفسه وإنما أمسك على صاحبه الذي أرسله فقد حل ذلك الصيد فضلاً من الله -تعالى- فما بال فرقة الإخوان المسلمين معرضة عن الأخذ عن العلماء السلفيين؟!
أليس هذا من إعراضهم وجهلهم، ذلك؛ لأن السلفيين وخصوصًا العلماء أصح وأصوب وأسلم وأحكم اعتقادًا ومنهجًا وأحكامًا، إذ مذهبهم مذهب السلف الصالح، فلا تجهم ولا اعتزال ولا أشعرية ولا خارجية ولا مذهبية صماء بكماء عمياء.
إن إعراض أهل الأهواء بما فيهم الإخوان المسلمين عن أهل العلم لمما يدل على تغلغلهم في الحزبية وتغلغل الحزبية فيهم، وغلوهم في العصبية للمشايخ وإن خالفوا الكتاب والسنة، فيالها من باقعة مالها من راقعة!! إلا أن يشاء الله، ويا لها من مصيبة ليس لها من دون الله كاشفة!!
ولتعلم فرقة وحزب الإخوان المسلمين وغيرهم أنه لا يجوز لهم الإعراض عن العلم والعلماء السلفيين ولا يجوز لهم أن يهجروهم ولا أن يتكلموا فيهم، بخلاف أهل العلم فلهم أن يتكلموا في المخالف، ولهم أن يهجروه إن احتيج إلى الهجر، ولهم سلف في الكلام فيهم وفي هجرهم، وسلفهم هم السلف الصالح ومن سار على منهجهم، أما هجر أهل الأهواء لأهل العلم وكلامهم وطعنهم فيهم فهو من صنيع أهل البدع قديمًا.
فلكل قوم وارث، ولكل قوم سلف، فنعم السلف سلف أهل السنة، وبئس السلف سلف أهل البدعة.
وهل هجرهم لأهل العلم والطعن فيهم هو من جملة اقتدائهم المزعوم بالرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-!!
فقد سمعنا أحدهم في المحنة ينشد نشيدًا ويردد الآخرون خلفه بقولهم:
رددي يا جبالْ رددي يا سهولْ إننا بالفعالْ نقتدي بالرسولْ
أقول: لا أدري كيف يكون اقتداؤهم بالرسول مع حزبيتهم، وحلقهم للحاهم، وبعدهم عن الاقتداء بالرسول، وبعدهم عن العلماء السلفيين، ونبزهم إياهم بالألقاب السيئة، وتعصبهم لمشايخهم مع ظهور أخطائهم وانحرافهم عن جادة مذهب السلف؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول مع قيامهم بالمظاهرات، والطعن في أولياء الأمور، وتثوير الناس عليهم بوسيلة أو بأخرى؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم بعيدون عن طلب العلم الشرعي؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم يتوسعون في باب الصور من غير ضرورة، ولا شك أن مقصودي صور ذوات الأرواح؟!
وكيف يُفسر اقتداؤهم بالرسول وهم من أحرص الناس على الإمارة والحكم مع فقدهم لأهليتهم لذلك، ومع قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه أو حرص عليه))؟!
وكيف يفسر اقتداؤهم بالرسول مع منازعتهم لأولياء الأمور، وإحداثهم القلاقل والاضطرابات والفتن؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم يُهدرون أموال المسلمين ويضيعونها في لافتات لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
وكيف يفسر اقتداؤهم بالرسول مع إسبالهم الثياب؟!
إلى غير ذلك مما ينقض دعواهم ويبين أنهم ليسوا صادقين في قولهم: (إننا بالفعالْ نقتدي بالرسول) على ما في الأناشيد ما قد علمت.
ولذلك ينبغي أن يقال: "إنهم بالفعال خالفوا هدي الرسول" والله المستعان.
ولو لم يكن من مخالفتهم لهدي الرسول إلا عدم التأكيد على الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والبدع لكفى بذلك نقضًا وردًا وتكذيبًا لدعواهم الاقتداء بالرسول، فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما سبق ذكره، وما لم أذكره كثير، ولكن اللبيب تكفيه الإشارة.
وبعد هذا أدعو الإخوان المسلمين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ولزومهم غرز العلماء الكبار الراسخين، وترك التعصب لمشايخهم مع مخالفة الحق، ووجوب سيرهم مع الدليل حيث سار، ومن لم يلتزم بذلك ويعمل به فهو إما أن يكون سالكًا دربًا وسبيلاً أهدى من درب وسبيل محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه، وإما أنه سالك درب ضلالة، ولاشك في بطلان الاحتمال الأول وصحة الثاني؛ لأنه يستحيل أن يكون أحد ممن بعد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه أقوم منهم قيلاً أو أهدى سبيلاً، فوجب الرجوع إلى سيرتهم وطريقتهم وهديهم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ومن لزمته الحجة الرسالية وجب التزامه بها واعتقادها والصدور عنها والعود الحميد الحثيث إليها، ونبذ التعصب الحزبي أو المذهبي أو القبلي أو العائلي أو العنصري أو غيره وراءه ظهريًا.
وقد ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء أخرجتنا وذريتك من الجنة!! فقال آدم لموسى: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة ألم تجد فيها أن الله كتب عليّ ذلك قبل أن أخلق؟!))
قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)) أو كما قال رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ومعلوم أن آدم وحواء أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها بسبب وسوسة الشيطان لهما فكان من عاقبة ذلك إخراجهما من الجنة إلى الأرض، وليس في هذا الحديث دليل على الاحتجاج بالقدر على جواز فعل المعاصي، وإنما توجيه هذا الحديث عند أهل العلم -فيما يحضرني-بأحد توجيهين:
التوجيه الأول: هو الاحتجاج بالقدر على المصائب باعتبار أن الخروج من الجنة مصيبة، وفرق بين باب المصائب وباب المعائب .
التوجيه الثاني: هو الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد وقوعه والتوبة منه لا بعد وقوعه بدون توبة منه.
قلت: بل قد يحتج العازم على فعل المعصية قبل مباشرته لها بالقدر وبدعوى أن الله قد كتب عليه ذلك!!
ومعلوم أن آدم -صلى الله عليه وسلم- قد تاب من الذنب وكذلك حواء زوجه، قال -تعالى-:
{وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
وقال -تعالى-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقال: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
الشاهد أن المؤمن له أن يناظر ويحاجّ غيره، فإن ظهرت له الحجة وبانت له المحجة ووضح له الحق لزمه اتباعه دون خصومة ودون جدل، فلن يكون أفضل من نبي الله موسى الذي قال فيه النبي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فحج آدم موسى)) مرتين.
يقال: [حاجّهُ فحجّه أي: علاه بالحجة أو غلبه بالحجة أو أقام عليه الحجة ونحو ذلك من المعاني التي لا تتعارض].
فإن كان الإخوان المسلمون يريدون نصر الدين حقًا فعليهم أن يصلوا مابينهم وبين أهل العلم السلفيين الراسخين الكبار، وحينها سيعرفون مالهم وما عليهم وسيعرفون السبيل الصحيح في الدعوة إلى الله.
وسيعرفون حق الله على العباد وحق العباد على الله.
وسيعرفون قدر التوحيد وقدر الدعوة إليه وقدر السنة وقدر الدعوة إليها، وقدر الشرك وقدر التحذير منه، وقدر البدعة وقدر التحذير منها.
وسيعرفون حرمة تفريق الأمة إلى شيع وأحزاب، وحرمة نصب أمير في الحضر مع وجود ولي الأمر المسلم.
وسيعرفون أن الأصل في المسلمين حكامًا ومحكومين هو الإسلام.
وسيعرفون حرمة التقليد الأعمى للمشايخ.
وسيعرفون أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وليس معنى هذا الأخذ عن الكافر والمبتدع وطلب العلم عندهما، وإنما المقصود قبول الحق من كل من جاء به ولو كان كافرًا أو مبتدعًا.
وسيعرفون حرمة المسيرات والمظاهرات وما يشبهها من الوسائل المحدثة في إنكار المنكر -إن ثبت أن ما ينكرونه منكر في الحقيقة-.
وسيعرفون حرمة تصوير ذوات الأرواح لغير ضرورة.
وسيعرفون بدعية الأناشيد ذات التلحين والتطريب وأنها من أسباب الصد عن القرآن وعن ذكر الله.
وسيعرفون قدر العلم وأهله، وقدر الجهل وأهله.
وسيعرفون أن الطريق المستقيم هو أقصر طريق للوصول إلى المرغوب والنجاة من المرهوب.
وسيعرفون أن المجتمع الذي يعيشون فيه هو مجتمع إسلامي، وأن السعي إلى تحصيل مجتمع إسلامي هو من باب تحصيل الحاصل.
وسيعرفون أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وأن ما سواه من المذاهب باطل مردود على أصحابه.
وسيعرفون محبة السنة ومحبة أهلها، وبغض البدعة وبغض أهلها.
وسيعرفون أن الجماعة قرينة السنة، وأن الفُرقة قرينة البدعة، ولذلك قيل: أهل السنة والجماعة، وقيل أهل البدعة والفرقة.
وسيعرفون أن السنة تجمع والبدعة تفرق.
وسيعرفون أن العبرة ليست بالكثرة، وأن العبرة إنما هي بالحق ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والسير على سبيل السلف ولو قل السالكون له.
وسيعرفون أن العاقبة للمتقين وللتقوى، وأنه لا يجوز الاغترار بالحياة الدنيا ولا بالشيطان قال -تعالى-:
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
وسيعرفون أن سبيل الحق سبيل محفوف بالمكاره ولكن عاقبته حميدة، وأن سبيل الباطل محفوف بالشهوات ولكن عاقبته وخيمة، قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))
وسيعرفون أن الحق ثقيل مريء وأن الباطل خفيف وبيء.
وسيعرفون أن البدعة والمعصية والتحزب سبب لضعف المسلمين، وأن السنة والطاعة والاجتماع على الحق والتوحيد الخالص سبب لقوة المسلمين وعزهم وغلبتهم على عدوهم، قال -تعالى-:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}
إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
وقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وسيعرفون أنه لن يُصلح أخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وسيعرفون أنه لا يجوزلأحد أن يتكلم في دين الله برأيه وهواه مهما كان جاهه أو ماله أو سلطانه أو حسبه أو نسبه، وأن العبرة بالدليل وأن
العلم قال الله قـال رسولـه قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
وسيعرفون أن سبيل العلم سبيل شاق وأنه لا يصبر عليه إلا الرجال الذين يعرفون قدره، وأنه لا يصبر على الخل إلا دوده.
وسيعرفون أن العبرة بالعقائد الصحيحة والمناهج السديدة والأحكام الصائبة الموافقة للأدلة، لا بكثرة الدعاوى والشعارات الجوفاء الخالية من المضامين النافعة، وأن الدعاوى لا يعجز عنها أحد.
وسيعرفون أن المعتبر إنما هو العلم النافع والعمل الصالح والنية السليمة الطيبة، وأن العملَ -أيَّ عمل- لا يقبل إلا بشرطي الإخلاص والمتابعة، وأن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة.
وسيعرفون أن أهل السنة والحق غرباء.
وسيعرفون أنهم فرطوا في العلم النافع والعمل الصالح، وأنهم ضيعوا كثيرًا من أعمارهم فيما يضرهم ولا ينفعهم في دينهم لو كانوا ينصفون أنفسهم.
وهل أنصف نفسه أو أنصف أمته من أنشأ حزبًا أو جماعة (فرقة) ووالى وعادى عليها، وفرق الأمة، وجعلها شذر مذر، وأوقعها في حيص بيص؟!
إن الإخوان المسلمين متجلدون في الدفاع عن فرقتهم وحزبهم ومنهجهم، وصابرون في الدفاع عن ذلك -إن لم يكونوا مستميتين في ذلك-.
ومن أناشيدهم الحماسية:
لبيك إن عطـش اللِّـوا سكب الشباب له الدما لبيك
فإن كانوا يقصدون مقاتلة حكام المسلمين فيا خيبة هذا الشباب الذي سيذهب كباش فداء لحزبيتهم المقيتة وفرقتهم البغيضة -لا رفعت مثل تلك الراية، ولا نصب مثل ذاك اللواء، وجعله الله منكوسًا أبد الآباد، ووقى أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- شرهم، ووقى البلاد والعباد فتنتهم-.
وإذا عُلم تجلد هؤلاء المبطلين على باطلهم، وجب تجلد أهل الحق على الحق الذي معهم، ووجب على السلفيين التمسك بمنهجهم السلفي القويم الذي به يقوم للناس دينهم ودنياهم، وبه تمحق البدع ويذل أهلها.
وإني أحذر هذه الفرقة -فرقة الإخوان المسلمين- عقوبة الله -عز وجل- بسبب مخالفاتهم الشرعية وخروجهم عن الجادة والصواب، كما أحذرهم من أن يعاقبهم الله بتسليط الحكام عليهم والبطش بهم، وعلى نفسها براقش تجني.
وعلى كل حال، فإن أهل السنة أتباعَ الكتاب والسنة بفهم السلف لن يكفوا عن بيان باطل فرقة الإخوان وغيرهم من أهل الباطل، ولن يَكَلوا ولن يملوا -إن شاء الله-.
وأقول: إن رجوع الإخوان المسلمين وغيرهم ممن حاد عن مذهب السلف، إن رجوع هؤلاء إلى حظيرة الحق والصواب أحب إلينا من تماديهم في باطلهم، فإننا –واللهِ- نخشى عليهم من نزول العقوبات بهم بسبب بغيهم وإفسادهم في الأرض، وكفى بتحزيبهم الناس وإفساد فطرتهم وإبعادهم الناس وبخاصة الشباب عن العلماء السلفيين، كفى بذلك فسادًا وإفسادًا في الأرض يستحق صاحبه العقوبة، نسأل الله السلامة والعافية من الأدواء والأهواء.
وهل يسع السلفيَّ أن يترك مذهب السلف ويتبع منهجًا وفرقة وحزبًا ولد في القرن الماضي ولم يمضِ عليه قرن من الزمان؟!
كلا والله، ومن فعل فقد خاب وخسر وضل وغوى.
وإني لأقول في هذا المقام: إن من ادعى محبة منهج السلف أو السلفيين وجب عليه أن يتبع المنهج السلفي وإلا فهو كاذب في دعواه أو أنه صاحب تقيّة ونفاق -نعوذ بالله- وأحسن أحواله أنه جاهل بلازم تلك المحبة وهو اتباع مذهب السلف قولاً وفعلاً واعتقادًا، وقد قال الله -تعالى-:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
على أن فرقة الإخوان المسلمين لا يُعرفون بادعائهم محبة مذهب السلف ولو مجرد ادعاء فليعلم ذلك، وإنما يدعي ذلك ويظهر تلك الدعوى شيئًا ما أدعياء السلفية من قطبيين وغيرهم من أفراخ الإخوان المسلمين، وهؤلاء الآخِرون بهم من التقية والنفاق والمداهنة لأهل الأهواء والبدع، وبهم من التلبيس والكذب وتشويه المنهج السلفي وتشويه أهله ما بهم -عاملهم الله بعدله-.
وفي الختام أقول: إن الفتوى الصائبة الواجبة أن يقال:
إن مقاطعة حزب وفرقة الإخوان المسلمين وغيرهم من الفرق المعاصرة كالتبليغ والتكفير والهجرة والقطبية والسرورية وغيرها، إن مقاطعة هؤلاء لأهل العلم ووقيعتهم في أهل العلم وطعنهم فيهم لكبيرة من الكبائر بلاشك ولا مرية، فهل من مدكر؟!
أسأل الله أن يبصرنا بالحق، وأن يثبتنا عليه، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يبارك فينا وفي ذرياتنا وأهلينا وإخواننا، وأن يحفظنا وإياهم من الأهواء، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وأن يختم لنا ولهم بالحسنى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا
انتهى في عشية يوم الجمعة الموافق الثامن عشر من شهر ربيع الأول لسنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام( )
قد يبدو لدى المطلع على هذا العنوان لأول وهلة أنني أقصد مقاطعة السلع والمنتجات اليهودية أو الأمريكية أو غيرها من بلاد الكفر، وهذا وإن كان داخلاً تحت العنوان إلا أنه ليس المقصود الوحيد به، فإن هناك نوعًا آخر من المقاطعة يأتي ذكره في محله -إن شاء الله تعالى- ولنبدأ بالكلام على أحد نوعي المقاطعة ألا وهى المقاطعة المذكورة، فأقول راجيًا من الله السداد والقبول:
قد تكلم في هذه المقاطعة المادية بعض رؤساء جماعة الإخوان، كيوسف بن عبد الله القرضاوي كلامًا لا يرضي الرحمن، ولا يرضي أهل العلم والإيمان، حيث اعتبر في فتوى منشورة له، اعتبر عدم مقاطعة سلع مثل تلك الدول من دول الكفر وأعداء الإسلام كبيرة من الكبائر، والحق يقال:
إن فتواه هذه هي من الكبائر، وبيان ذلك أن يقال:
إن القول على الله بغير علم لعظيم جدًا وخطير وقد قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
فقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية ما ملخصه أن في هذه الآية تحريمًا للأشياء المذكورة فيها، وقد ترقى التحريم من الأدنى إلى الأعلى، وأن أعلى هذه المحرمات وأشدها هو القول على الله بغير علم، وأنه أعظم من المحرمات التي قبله، فهو أعظم من الشرك بالله -تعالى- فضلاً عما ذكر في الآية قبله.
وقال -تعالى- متهددًا ومتوعدًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لو تقول على الله بعض الأقاويل:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
وقال -تعالى-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}
وقال –تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال –تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
أي لا أحد أظلم منه.
ثم إن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا ما دل الشرع على تحريمه.
وبناءً على ذلك فالأصل في البيع الحل إلا ما دل الشرع على تحريمه قال –تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها، وقد ثبت في السنة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، وقد ثبت فى السنة أيضًا في صحيح البخاري –رحمه الله- من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لقي رجلاً مشركًا مُشْعَانَّ طويل بغنم يسوقها فقال له: ((أبيع أم هبة)) أو قال: ((أو هدية)) فقال بل بيع، فاشترى منه شاة.
ومعلوم عداوة المشركين بمكة للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومعلوم عداوة اليهود بالمدينة للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد قاتل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- اليهود في خيبر وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وغنم أموالهم، وقد مر أحد اليهود عليه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "السام عليك يا محمد" فقال له ((وعليك)) والسام هو الموت، فما زاد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على ذلك، وقال ((لا يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا)). فإن قيل:
قد كان النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يعامل اليهود من منطلق العزة والقوة والغنى، قلنا:
أجل، لكن أليس المستضعف أولى بهذه المعاملة من القوي الغني العزيز، فإن هذا الأخير يمكنه الاستغناء عنهم وعدم التعاون معهم بخلاف الضعيف الفقير الذليل فإنه قد لا يمكنه ولا يسعه الاستغناء عن التعامل المادي الدنيوي معهم لحاجته الماسة أو ضرورته الملجئة إلى ذلك، فكيف يسوغ بعد هذا أن نتحجر واسعًا أو أن نضيق على الناس أمرًا وسعه الله عليهم؟!
أو أن نغلق بابًا فتحه الله عليهم؟!
أو أن نحرم ما أحله الله وأباحه لهم ؟!
والمسلمون اليوم لا يخلون من أحد حالين، إما حال قوة وإما حال ضعف، فإن كانوا في حال قوة فهم مقتدون بنبيهم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في تعامله مع الكفار في حال قوته كما سبق من معاملته لليهود -لعنهم الله – وإن كانوا في حال ضعف فإنهم أولى -بلا شك- بهذه المعاملة لدفع حاجتهم وضرورتهم، إذ لا يجوز أن نجمع عليهم ضعفين وشدتين.
ثم إنهم مقتدون في هذه الحالة بتعامل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع مشركي قريش بمكة هو وأصحابه، وقد كانوا مستضعفين بمكة، ولذلك ذكرّهم الله بنعمه عليهم بعد أن كانوا مستضعفين فقال: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قطع هو أو أصحابه التعامل مع مشركي مكة بيعًا وشراءً وغيرهما من المعاملات المباحة، بل كان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يمشي في الأسواق وكان هذا مشهورًا عنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حتى قال الله عن المشركين: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}
إلى أن قال -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
ولا يخفى على عاقل فضلاً عن عالم خبير ما عليه المسلمون اليوم من الضعف الدنيوي والديني أيضًا، بل ضعفهم الدنيوي تابع لضعفهم الديني -والله المستعان- فقد جمعوا بين نوعي الضعف وإنا لله وإنا إليه راجعون، ومعلوم في القواعد أنه كلما ضاق الأمر اتسع، وأن المشقة تجلب التيسير، والأصل في دين الإسلام عمومًا اليسر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
((إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه)) وقال لمعاذ وأبي موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا)) وقال -تعالى-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
وقد وضع الله عن هذه الأمة الآصار التي كانت على من قبلنا، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الصحابة-رضي الله عنهم- لما قرأوا {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال الله قد فعلت ...، والحديث بطوله في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وقد جاء بنحوه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهم- فوضع الله الأصار والأغلال عن هذه الأمة عمومًا وعن ضعفائها خصوصًا.
قال -تعالى-:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونََ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
وقد جاء في التفسير عن بعض السلف أن عَسَى من الله موجبة.
وقال –تعالى-:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقد قال الله –عز وجل- عن نبيه محمد–صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فمال أهل الأهواء يشددون على أمة محمد-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بما لايوافق شرعًا ولا عقلاً، وقد قال -تعالى-:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}
وقال –تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
ولا شك في أن تحريم ما أباحه الله لعباده هو من العسر والإصر ومضادة لله في حكمه وشرعه المبني على التيسير، وإذا كان الله قد أباح للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك مما حرمه الله -عز وجل- أو حرمه رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وذلك إبقاءً على الصحة والحياة ودفعًا للحرج وللضرورة، كما قال –تعالى-:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
أقول: إذا كان الأمر كذلك ألا وهو إباحة الله لمثل تلك المحرمات بقدر ما يزيل ضرورة صاحب الضرورة، أفليس من الأولى البقاء على أصل إباحة ما أباحه الله لعباده بأصل الشرع من غير ضرورة ؟!
ثم أليس من الأولى والأولى البقاء على أصل إباحة ما أباحه الله لعباده مع وجود ضرورة ؟!
قال –تعالى-: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} جعلنا الله منهم بمنه وكرمه-.
ولقد وقفت على كلام لبعض أهل العلم في هذه المسألة، ألا وهي مسألة المقاطعة المذكورة، وخلاصة ذلك أن أمر المقاطعة منوط بولي الأمر؛ لأنه أدرى بالمصلحة أو المفسدة المترتبة على المقاطعة من عدمها.
قلت: وهذا كلام حق وصواب؛ ذلك لأن ولاة الأمور أدرى بذلك، وأدرى بما ينكى به العدو مما لا يفعل من تلك النكاية، فولاة الأمور وبطانتهم من أهل الحل والعقد هم أدرى وأعلم وأكثر خبرة بما يصلح الرعية وما يفسدها في هذه الأبواب، وفي مثل تلك المسائل العظيمة والخطيرة، وهم أقدر على تقدير المصالح الخالصة والراجحة والمفاسد الخالصة والراجحة في مثل تلك المسائل والأمور، فإن اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا واخطأوا فلهم أجر الاجتهاد ومعفو عن خطئهم، وإن فرطوا أو قصروا في النظر في ما يصلح الرعية أو يفسدها فهم المسؤلون عن تفريطهم أو تقصيرهم يوم القيامة، وإن تجاوزوا الحد فإنهم مسئولون عن هذا التجاوز، ولكن ليس معنى هذا منازعة ولاة الأمور والخروج عليهم والافتيات عليهم والخروج في مسيرات أو مظاهرات أو اللجوء إلى إضرابات أو اعتصامات أو إحداث تفجيرات أو بث روح الثورة والخروج على حكام المسلمين بالسيف والسلاح كما هو شأن الخوارج وأرباب الفساد وإن سموه باسم الإصلاح، ولكن حسب أفراد الرعية أن يناصحوا ولاة الأمور بالضوابط الشرعية المتعلقة بالنصيحة عمومًا ونصيحة أولياء الأمور خصوصًا؛ دفعًا للفوضى والإثارة والتشهير بهم على المنابر أو في المجالس العامة أو اغتيابهم في المجالس الخاصة، فإذا قرر أولياء الأمور المقاطعة وجب النزول على ما قرروه مالم يكن في ذلك معصية الله -عز وجل- أو معصية رسوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبالنزول على ما قرره أولياء الأمور وأهل الحل والعقد تتحقق المصالح وتندفع الشرور وتدرأ المفاسد، أما أن يتصرف بعض أفراد الرعية تصرفًا فرديًا من تلقاء نفسه بحيث يدعو الناس ويلزمهم بالمقاطعة دون أمر ولي الأمر في ذلك فهذا لاشك في كونه افتياتًا على أولياء الأمور ومن منازعتهم ومن الخلاف الذي هو شر.
أما فتوى بعض الناس بأن من لم يقاطع فقد ارتكب كبيرة من الكبائر فأقول:
إن فتواه هذه -والحال ما ذكر- لإحدى الكبائر والكبر، خاصة إذا لم يكن في العمل بفتواه تحقيق مصلحة راجحة ولا خالصة، وإذا لم يكن في فتواه درء ودفع مفسدة راجحة أو خالصة.
أما مقاطعة بعض المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات المستوردة من بعض بلاد الكفر والتي يستغني عن مثلها أكثر الناس لوجود البدائل الأخرى في ديار الإسلام فهذا لابأس به، من غير إيجاب ذلك على المسلمين جميعهم ودعوتهم إلى ذلك ومخالفة أولياء الأمور، خاصة إذا لم تكن مثل هذه الأشياء ضارة في الدين أو الدنيا، لكن من استغنى في نفسه وخاصته عنها واستغنى بغيرها واستعاض بغيرها عنها فلا بأس بذلك.
أما أن يقال بوجوب ذلك في مثل هذه الحالة وبإلزام الناس بذلك دون قرار أولياء الأمور والحكم على من لم يقاطع في مثل هذه الصورة بأنه ارتكب كبيرة من الكبائر فلا، خاصة أن قيام بعض الناس بمثل هذه المقاطعات لا يحصل بها غالبًا النكاية في العدو؛ ذلك لأن الأعداء أو الكفار هم في الغالب في زماننا هذا أقوياء وأغنياء -والمقصود الغنى الدنيوي بلا شك- فمثل تلك المقاطعات الفردية دون سائر الناس ودون الانضواء تحت قرار ولي الأمر الملزم شرعًا لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن مثل هذه المقاطعة لتذكرني بحديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً يخذف أي يرمي بالحصى، فقال له لا تخذف فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى عنه أو كان يكرهه وقال: ((إنه لا يصيد الصيد ولا ينكى به العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين)) ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال: أحدثك عن رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه نهى عنه أو كان يكرهه وتخذف ؟! لا كلمتك كذا وكذا، والحديث صحيح، فكذلك مثل هذه المقاطعات الفردية لا ينكى بها العدو، ولا تكاد تتحقق بها مصلحة راجحة للمسلمين فضلاً عن مصلحة خالصة خصوصًا مع هذا الحال الذي عليه المسلمون من الضعف والله المستعان.
فإذا كانت الحاجة ماسة إلى تلك السلع المستوردة، لم يكن للمقاطعة معنى إلا العود بالضرر على المسلمين، خاصة إذا كانت تلك السلع جيدة ورخيصة وليس هناك بدائل تسد مسدها أو تقوم مقامها.
فرحم الله رجلاً لم يقل في الدين برأيه دون الرجوع إلى العلماء الثقات الراسخين ودون مراعاة للقواعد الشرعية والمصالح المرعية ودون فهم الواقع الذي يعيشونه.
والعجب أن القوم يدندنون حول فهم أو فقه الواقع وهم من أبعد الناس عن هذا الفهم وذاك الفقه للواقع الذي يعيشون فيه، فهم في وادٍ وفقه الواقع وفقهاؤه في وادٍ آخر بعيد، ثم إنهم أيضًا لو فقهوا الواقع فلن يستطيعوا معالجة هذا الواقع وذلك لفقدانهم للعلم الشرعي الذي يؤهلهم لتنزيل الحكم الشرعي على المسالة الواقعة، بل إن فقدهم للعلم الشرعي سبب لعدم فقه الواقع فضلاً عن معالجته، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقوم من أبعد الناس عن العلم وأهله، ومن أشد الناس عداوة لأهل العلم، ومن أشد الناس جهلاً بكتاب الله وبسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبمذهب السلف الصالح الذي لا مذهب غيره ولا طريق للنجاة سواه.
فالواجب إنما هو مقاطعة ما يعود بالضرر على المسلمين سواء كان مستوردًا من بلاد الكفار أو من غيرها أو من منتج البلد نفسها.
والعجيب أن غالب القوم قد عجزوا عجزًا كبيرًا عن مقاطعة شفرات وأمواس حلق اللحية -كما قيل، وكما هو الواقع- ومعلوم في الشريعة حرمة حلق اللحية لأمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بإعفائها في غير ما حديث صحيح وثبوت الأمر منه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمخالفة المجوس والمشركين، وثبوت لعنه لمن تشبه من الرجال بالنساء، فانظر -رحمك الله- كيف أنهم لم يقاطعوا ما يعينهم على معصية الله -تعالى- وكيف أنهم يخالفون الأحاديث الصحيحة الصريحة أو يتأولونها بتأويلات غير سائغة، وانظر كيف يلزمون الناس بمقاطعة ما لم يثبت بمقاطعته دليل صحيح صريحًا كان أو غير صريح، فما أبعدهم عن العلم الصحيح!! وما أبعدهم عن سلوك المسلك الصحيح لنصرة الإسلام وإن تشدقوا بنصرة الإسلام!! وهم ممن يحسن أن يقال فيهم: إنهم لا للإسلام نصروا ولا لعدوه كسروا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في أهل الكلام الذين تظاهروا بنصرة السنة في مواضع كثيرة.
وإذا أردت أن تعرف حقيقة القوم فحدثهم عن المذهب السلفي وعلمائه واذكرهم بخير، ثم عرج على ذكر أهل الأهواء وبخاصة الذين نصبوهم علماء وأئمة لهم، واذكر مخالفاتهم وكيف أنهم ليسوا على الجادة وأنهم من أبعد الناس عن العلم الصحيح والعقل الصريح، فإن فعلت ذلك بان لك حقيقة القوم وأنهم ليسوا عند الأدلة والبراهين الصحيحة ولا عند العلماء السلفيين، وإنما هم عند رءوس جهال قد ضلوا وأضلوا كثيرًا، وإن فعلت ما ذكرته لك بان لك أثار غلظ قلوبهم على السلفيين، فالقوم يصلح أن يسموا بالحمقى والمغفلين بدلاً من أن يسموا بالإخوان المسلمين، على أن كلمة (الإخوان المسلمين) يدخل فيهم كل مسلم أيًّا ما كانت طريقته ومذهبه، فهو اسم يدخل فيه جميع أهل الأهواء والبدع ماداموا مسلمين، فالقوم مشغولون بالتجميع على غير هدى وعلى غير مذهب السلف، بل مذهب السلف والسلفيون من حزبهم وتفريقهم للأمة براء، وما كان للسلفي أن يدخل تحت لوائهم الملون بألوان البدع، بل ما كان لهم هم أن يقبلوا السلفي في صفوفهم مع بقائه على سلفيته؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع سنة وبدعة إلا كما يجتمع الماء والنار.
ونذكر أصحاب المقاطعة بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
وفى ختام الكلام على هذا النوع من المقاطعة أقول: إن من طريف الأمر أنني كنت أناقش مدرسًا لإحدى المواد بمتجر في أحد شوارع مدينة الفردوس "المجزر" بمدينة المنصورة، وكان وقتها صاحب هذا المتجر صديقًا لي، وكان بيني وبينه مودة شديدة، وكان يدعوني إلى متجره أحيانًا، فدخل هذا المدرس ذات ليلة علينا واستطردنا في الحديث حتى وصلنا إلى مسألة المقاطعة وأبديت اعتراضي على فتوى من أفتى بوجوب المقاطعة وأنكرت اعتقاد هذا المفتي بأن عدم المقاطعة كبيرة من الكبائر، وذكرت لمناقشي ما حضرني من الدليل والتعليل على بطلان هذه الفتوى، وعارضني فيما ذهبت إليه من الإنكار والاعتراض على هذه الفتوى، وقد ناقشته نقاشًا طويلاً وكان مصرًا على موقفه، فبينما نحن على ذلك إذ دخلت بُنية له صغيرة فأخذت من المتجر شيئًا مما يدخل في حكم المقاطعة عنده فلم ينهرها ولم يمنعها ولم يأخذ منها هذا الشيء بحيث يأتيها ببديل آخر مثلاً، فابتسمت أنا وهو أو ضحكت وتبسم أو ضحك لا أذكر لبعد العهد بذلك، وقلت له وقتها ما معناه: لو كان الأمر على سبيل التحريم المجزوم به عندك لمنعتها من أخذ هذا الشيء، أو للزمك أن تمنعها( ) -ولم يكن منه لها منع- وأخبرته أن الأمر على السعة وعلى أصل الإباحة في باب البيع والشراء أو نحو هذا الكلام.
فرحم الله رجلاً سار بسير العلماء ولم يقلد في دينه الرجال مع وضوح الحجة والبرهان،، ورحم الله من يسر على المسلمين ورفع عنهم الآصار والأغلال،
ومما سمعناه من بعض أفراد جماعة الإخوان قولهم بصوت جماعي:
"قاطعْ قاطعْ قاطع، مِشْ عاوزين من أمريكا سلعة قاطع"
وقولهم: "قاطع الديل وراس التعبان اسرائيل!! والأمريكان"
قلت: ألا يعلمون أن اسرائيل هو يعقوب النبي الكريم( )؟! نعوذ بالله من الجهل.
ومما أذكره أيضًا أنني تكلمت مرة في أحد المساجد على المقاطعة فقال لي شاب في ذلك بعد الانتهاء من الكلمة عند خروجي من المسجد منكرًا عليَّ فنظرت إليه فإذا عليه ما يسمى بالفانيلا الخارجية فقلت له ما هذا ؟!
أو أليست هذه الفانيلا مستوردة وكان عليها فيما أذكر بعض الكلمات الأجنبية؟
فقال ما معناه: إنه يقصد الأشياء الأخرى كالمشروبات ولعله ذكر أشياء أخرى -فانظر رحمك الله- إلى تخبط القوم.
[فائدة: ما يلي شعر البدن يسمى شعارًا وما فوقه يسمى دثارًا، والله أعلم]
هذا ما حضرني من كلام أهل العلم ومما يسر به الكريم الرحمن في هذا النوع من المقاطعة والحمد لله رب العالمين.
أما النوع الآخر من المقاطعة فهو أعظم النوعين خطرًا وأشدهما ضررًا لتعلقه بالدين، وأما النوع السابق ذكره فمتعلق بالدنيا، والضرر في الدين أشد من الضرر في الدنيا بلاشك، وهذا النوع الثاني المذكور هنا متعلق بمقاطعة العلم وأهله والبعد عنهم والتنفير منهم والتحذير من مجالستهم ومخالطتهم على وجه الأخذ عنهم وعلى سبيل الإستفادة منهم في أبواب العلم والدين.
ولاشك في سوء مسلك صاحب هذه الخطة وخبث طويته أو فرط جهله ذلك؛ لأن التحذير من أهل العلم هو في الحقيقة تحذير من تعلم العلم الذي يحملونه، ومعلوم أن بالعلم يعرف الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والسنة من البدعة، والتوحيد من الشرك، والصواب من الخطأ، ولا يَعلم ما في عواقب الإعراض عن العلم من الفساد إلا رب العباد، وقد قيل: الإنسان عدو ما جهل، فبسبب الجهل أو الهوى أو بسببهما معًا يعرض الإنسان عن العلم وأهله، وقد ذم الله –تعالى- الكفار بقوله:
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
وقال –تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}
وقال –تعالى-: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}
فخُلُق الإعراض عن العلم والبرهان والحجة والبيان خلق الكفار، ولا يجوز التشبه بهم في هذا الخلق، ومن تشبه بهم فله نصيب من هذا الخلق بقدر تشبهه بهم فيه، والناس في هذا بين مقل ومستكثر إلا من رحم الله، والمعصوم من عصم اللهُ -تعالى- ووفقه لسماع العلم من أهله والحجةِ من أهلها أهل الدراية والفقه والعلم والإيمان.
والإنسان إذا أعرض عن العلم والتعلم بقي على جهله؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، قال -تعالى-:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فالله أنعم على الإنسان بنعمة السمع والبصر والفؤاد لكي يشكر نعمة الله عليه، ويطوع هذه الآلات لسماع الحق ورؤيته وعقله وتدبره وتفهمه والصدور عنه والعمل به والدعوة إليه، وغير ذلك مما يدخل في شكر الله على هذه النعم، وقد ذم الله أقوامًا من المشركين لم يستفيدوا بهذه الآلات والأدوات بل كانت حجة عليهم، قال -تعالى-:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وقال -تعالى-: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
فهؤلاء عطلوا نعمة الله عليهم وكفروها حيث منَّ عليهم بالقلوب والأعين والأذان لعلهم يشكرون، ولكنهم لم يستفيدوا منها، وإنما استعملوها في المعاصي والكفر بالله والإعراض عن الحجج والبينات فاستحقوا الذم ودخول النيران ونفاذ الوعيد فيهم، وقد قيل:
تعلم فليس المرء يولد عالمًا وليس أخو علم كمن هو جاهل
وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
فالأصل في الإنسان الجهل، والأصل أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعلم إلا ما علمه الله إياه، وقد قال -تعالى- في سورة هود في آخر قصة نبي الله نوح مع قومه، قال مخاطبًا إياه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}
وقال في سياق قصة مريم وزكريا:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
وقال في آخر قصة نبي الله يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}
وقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
وقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقبل إسلامهم وإيمانهم، كانوا في جاهلية جهلاء ظلماء، وفي ضلالة صماء بكماء عمياء، ولكن الله نجاهم وأنقذهم من ظلمات الشرك والمعاصي والجهل بما منَّ به عليهم من إرساله محمدًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إليهم، وبعثته فيهم وتعليمه إياهم، قال -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وقال -تعالى-:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وقال -تعالى-:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
فمن أعرض عن مصابيح الدجى بقى يتخبط في ظلام دامس، ومن أعرض عن العلم والعلماء بقى غارقًا في جهله سادرًا في ضلاله وغيه.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بينما هو يحدث أصحابه إذ أقبل ثلاثة نفر، فجاء أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها وجلس الآخر خلف الحلقة وأدبر الثالث ذاهبًا، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حديثه قال:
((ألا أخبركم بالنفر الثلاثة ؟)) قالوا: بلى، قال: ((أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأغرض الله عنه)) أو كما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فالجزاء من جنس العمل، وقد قيل: أعط أخاك تمرة فإن أبى فأعطه جمرة.
قال -تعالى-:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }
وقال -تعالى- بعد ذكر بعض الأنبياء في سورة مريم:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}
فلما ذكر الله –عز وجل- هؤلاء الصالحين قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
فلما أضاعوا الصلاة الواجبة عليهم وأضاعوا تلك العبادة العظيمة أقبلوا على المعاصي والشهوات المحرمة واتبعوها، ولذلك توعدهم الله بأنهم سوف يلقون غيا، وقوله حق ووعده صدق:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} كما في الآية، وقد قيل: النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
وقال –تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
وقال –تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
فمن أعرض عن العلم أقبل وأكب على الجهل، ومن أعرض عن الخير والهدى والرشاد أقبل على الشر والضلال والغواية والعناد، قال -تعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
ولما أعرض اليهود عن الحق ولم يعملوا به وكلوا إلى ما تتلوه الشياطين، قال -تعالى-:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
وثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقول في خطبته:
((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا...)) ومما نقل عن السلف قولهم:
[إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها]
ومعلوم أن الجهل والشرك والبدعة والمعصية والظلم ظلمات بعضها فوق بعض، وأن العلم والحق والإيمان نور على نور لصاحبه، قال -تعالى-:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وقال –تعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فمن وفقه الله فهو الموفق، ومن أعانه الله فهو المعان، ومن هداه الله فهو المهتدي، ومن أغناه الله فهو الغني، ومن كفاه الله فهو المكفي، ومن شفاه الله فهو المشفي، ومن وكله الله إلى نفسه أو إلى شيطانه أو إلى الناس فهو الغوي الشقي؛ ذلك؛ لأن الأصل في النفس الظلم والجهل إلا من رحم الله -تعالى- قال الله -تعالى-:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}
وقالت امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فمن أعرض عن تعلم الكتاب والسنة بفهم السلف وكله الله إلى فهم نفسه القاصر، أو إلى فهم الخلف القاصر، أو وكله إلى تعلم علوم غير شرعية إن نفعته في دنياه لم تنفعه في أخراه، وخسر في صفقته وتجارته وبارت بوارًا لا ربح بعده إلا أن يشاء الله، واشتغل باللهو واللعب، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعاقبه الله بالحرمان من التدبر في آياته الشرعية والكونية، فبدلاً من أن يتلو آيات الله البينات الهاديات لتاليها إذا به يركن إلى تلحين الأناشيد وتطريبها بطريقة تشبه طريقة أهل المجون والفسوق والمخنثين، وكان له حظ من التشبه بالذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، هذا إن سلمت تلك الأناشيد من مخالفات شرعية في مضمونها من حيث هو، فكيف إذا جمعت بين الشرين في حقيقة الأمر، ولنذكر لذلك مثالاً واحدًا، حيث كان حسن البنا مؤسس جماعة (حزب) الإخوان المسلمين ينشد مع رفقائه في بعض الحضرات!! يقول:
صلى الإله على النور الذي ظهرا في العالمين ففاق الشمس والقمرا
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا فسامح الكل فيما قد مضى وجرى
وقد جاء ذلك في كتاب "المورد العذب الزلال في انتقاد بعض المناهج الدعوية في العقائد والأعمال" للشيخ أحمد النجمي -حفظه الله( )- وهو إما في صلب الكتاب وإما في الحاشية فليتحقق من ذلك، وهو منقول عن بعض الكتب التي تكلمت عن جماعة الإخوان، وقد انْتُقِدَ البيت الأخير بأنه شرك إذ إن قائله أعطى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعض صفات الله -عز وجل- فالذي يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات هو الله، قال -تعالى:
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}
وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
ثم إن في البيت كذبًا فاضحًا وهو ادعاء حضور النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- معهم.
أضف إلى ذلك ادعاء حضوره هذا المجلس المبتدع، أضف إلى ذلك الادعاء بأنه سامح (الكل) بلا استثناء أحد من أهل الحضرة!!
ولا أدري سر الاقتصار على مسامحة (الكل) من أهل الحضرة!! دون غيرهم!! ولا أدري أيضًا سر الاقتصار على مسامحة (الكل) فيما قد مضى وجرى دون ما تأخر!! فهل بعد هذا من جهل وتصوف شركي مبتدع؟!
وإذا كان هذا مبلغ علم حسن البنا فماذا ينتظر من أتباعه؟!
ومع شدة جهل القوم يريدون أن يصلوا إلى الحكم ليحكموا الناس وهم لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم ولا خاصتهم وأهليهم بكتاب الله -تعالى- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بفهم السلف الصالح، فلا مكن الله للقوم، وكفى ووقى المسلمين شر جهلهم وفتنتهم، وجزى الله السلفيين خيرًا على بيانهم ما عليه فرقة الإخوان المسلمين من ضلالات وانحرافات، وأخص بالذكر الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ مقبل بن هادي الوادعي والشيخ أحمد بن يحيي النجمي والشيخ ربيع المدخلي، وغيرُهم من علماء المنهج السلفي كثيرون -كثرهم الله- وأطفأ بهم فتنة أهل الأهواء- فكم أطفأ الله بهم من الفتن!! وكم أحيا الله بهم من السنن!! ومن لم تنطفئ فتنته ببيان العالم فستنطفئ بحديد أو سيف الحاكم إن شاء الله.
الشاهد أن من أعرض عن الحق ودين الكبير المتعال وُكِل إلى الباطل وإلى آراء الرجال وما أحدثوه، ولقد أنكر السلف قديمًا ما أحدثه بعض الناس من القصائد الملحنة، واعتبروا ذلك صدًا عن القرآن، فما أدق فهم السلف!! وما أشد حرصهم على هذا الدين!! ولا تزال عجلة الصد عن كتاب الله بالأناشيد الملحنة والمنشدة بالصوت الجماعي والمشحونة بالمخالفات الشرعية من الكذب ونصرة الحزبية وحمية الجاهلية وتثوير الناس على ولاة أمور المسلمين وما تتضمنه من فخر وبغي، أقول:
لا تزال تلك العجلة تدور بما تحمله من شرور، وما الذي يضر الجاهل إذا جلس إلى العالم وأخذ عنه وتواضع للعلم وأهله ؟!
إن من جالس أهل العلم اكتسب من أخلاقهم الحميدة وأقوالهم السديدة، ومن جالس جانس، وإن الطباع نقَّالة وسراقة، وإذا كان الإنسان يتأثر بأخلاق البهائم التي يخالطها مع أنها ليست من جنسه فما الظن بمن يخالط من كان من جنسه وخصوصًا أهل العلم ؟!
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال:
((السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والخيلاء في أهل الإبل))
ومعلوم أن في الإبل من العلو والنفرة والثورة والهيجان ما ليس في الغنم، ولذلك لم ينقل أن الأنبياء رعوا الإبل وإنما رعوا الغنم فقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنهم كانوا في سفر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فتفرقوا في الأشجار يجنون الكَبَاث، وهو ثمر شجر الأراك، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((عليكم بالأسود منه)) فقيل للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: كأنك رعيت الغنم!! فقال: ((وهل من نبي إلا وقد رعاها)) أي ما من نبي إلا وقد رعاها، فسبحان من رقَّى الأنبياء إلى سياسة ورعاية الأمم، فمن جالس أهل العلم فهو حقيق وجدير بأن يكتسب من أخلاقهم ولا يشقى بمجالستهم.
وقد ثبت في الحديث الصحيح الطويل المتعلق بغفران الله للذاكرين الذين يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، قولُ الملائكة:
يا رب إن فيهم فلانًا ليس منهم، وإنما جاء أو جلس لحاجة، قالوا هذا حينما قال الله: أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم، فقال الله لهم:
هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
فإذا كان هذا الغفران قد عم وشمل من جلس إلى أهل ذكر الله لحاجة فما الظن بمن جلس إلى العلماء لطلب العلم الشرعي ابتغاء وجه الله -تعالى- ودام على ذلك السنين الطوال؟!
أليس هذا أولى بأن يغفر الله له؟! بلى والله.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال:
((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يُهديك) وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة))
وكذلك أهل السنة وأهل البدع، فأهل السنة جلساء صالحون، وأهل البدع جلساء سوء، فمن جالس أهل السنة أصاب خيرًا أو أمن من شر، ومن جالس أهل البدع أصاب شرًا، ومن جاور الحداد اكتوى بناره، فأهل البدع كالبعير الأجرب الذي يدخل في الإبل كأنها الظباء فَيُجْرِبُهَا، وفي صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد))
قلت: والفرار من أهل الأهواء أولى من الفرار من المجذوم ذلك؛ لأن أهل الأهواء سبب لإصابة المرء في دينه وهذا أشد ما يعتري الإنسان، وقد صحح الشيخ الألباني -رحمه الله- قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) في صحيح الجامع.
وقد خلّد الله ذكر كلب أصحاب الكهف وقد كان ثامن سبعة من فتية مؤمنين مهتدين، فإذا كان هذا الشأن والحال بخصوص كلب رافق وصحب صالحين، فما الظن بذكر ورفعة وشأن مَن صاحبهم يلتمس العلم منهم؟!
أليسوا أولى برفع الذكر والشأن ؟! بلى والله؛ لأن الله كرم بني آدم كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
ولقد جاء ذكر كلب أصحاب الكهف في قصتهم أربع مرات، وقد أباح الله صيد الكلب المعلَّم ولم يُبحْ صيد الكلب غير المعلم، قال –تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
فإذا سمى الصائد على كلبه المعلم ثم أرسله فصاد الكلبُ الصيدَ ولم يأكل من الصيد ولم يمسك على نفسه وإنما أمسك على صاحبه الذي أرسله فقد حل ذلك الصيد فضلاً من الله -تعالى- فما بال فرقة الإخوان المسلمين معرضة عن الأخذ عن العلماء السلفيين؟!
أليس هذا من إعراضهم وجهلهم، ذلك؛ لأن السلفيين وخصوصًا العلماء أصح وأصوب وأسلم وأحكم اعتقادًا ومنهجًا وأحكامًا، إذ مذهبهم مذهب السلف الصالح، فلا تجهم ولا اعتزال ولا أشعرية ولا خارجية ولا مذهبية صماء بكماء عمياء.
إن إعراض أهل الأهواء بما فيهم الإخوان المسلمين عن أهل العلم لمما يدل على تغلغلهم في الحزبية وتغلغل الحزبية فيهم، وغلوهم في العصبية للمشايخ وإن خالفوا الكتاب والسنة، فيالها من باقعة مالها من راقعة!! إلا أن يشاء الله، ويا لها من مصيبة ليس لها من دون الله كاشفة!!
ولتعلم فرقة وحزب الإخوان المسلمين وغيرهم أنه لا يجوز لهم الإعراض عن العلم والعلماء السلفيين ولا يجوز لهم أن يهجروهم ولا أن يتكلموا فيهم، بخلاف أهل العلم فلهم أن يتكلموا في المخالف، ولهم أن يهجروه إن احتيج إلى الهجر، ولهم سلف في الكلام فيهم وفي هجرهم، وسلفهم هم السلف الصالح ومن سار على منهجهم، أما هجر أهل الأهواء لأهل العلم وكلامهم وطعنهم فيهم فهو من صنيع أهل البدع قديمًا.
فلكل قوم وارث، ولكل قوم سلف، فنعم السلف سلف أهل السنة، وبئس السلف سلف أهل البدعة.
وهل هجرهم لأهل العلم والطعن فيهم هو من جملة اقتدائهم المزعوم بالرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-!!
فقد سمعنا أحدهم في المحنة ينشد نشيدًا ويردد الآخرون خلفه بقولهم:
رددي يا جبالْ رددي يا سهولْ إننا بالفعالْ نقتدي بالرسولْ
أقول: لا أدري كيف يكون اقتداؤهم بالرسول مع حزبيتهم، وحلقهم للحاهم، وبعدهم عن الاقتداء بالرسول، وبعدهم عن العلماء السلفيين، ونبزهم إياهم بالألقاب السيئة، وتعصبهم لمشايخهم مع ظهور أخطائهم وانحرافهم عن جادة مذهب السلف؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول مع قيامهم بالمظاهرات، والطعن في أولياء الأمور، وتثوير الناس عليهم بوسيلة أو بأخرى؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم بعيدون عن طلب العلم الشرعي؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم يتوسعون في باب الصور من غير ضرورة، ولا شك أن مقصودي صور ذوات الأرواح؟!
وكيف يُفسر اقتداؤهم بالرسول وهم من أحرص الناس على الإمارة والحكم مع فقدهم لأهليتهم لذلك، ومع قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه أو حرص عليه))؟!
وكيف يفسر اقتداؤهم بالرسول مع منازعتهم لأولياء الأمور، وإحداثهم القلاقل والاضطرابات والفتن؟!
وكيف يكون اقتداؤهم بالرسول وهم يُهدرون أموال المسلمين ويضيعونها في لافتات لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
وكيف يفسر اقتداؤهم بالرسول مع إسبالهم الثياب؟!
إلى غير ذلك مما ينقض دعواهم ويبين أنهم ليسوا صادقين في قولهم: (إننا بالفعالْ نقتدي بالرسول) على ما في الأناشيد ما قد علمت.
ولذلك ينبغي أن يقال: "إنهم بالفعال خالفوا هدي الرسول" والله المستعان.
ولو لم يكن من مخالفتهم لهدي الرسول إلا عدم التأكيد على الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والبدع لكفى بذلك نقضًا وردًا وتكذيبًا لدعواهم الاقتداء بالرسول، فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما سبق ذكره، وما لم أذكره كثير، ولكن اللبيب تكفيه الإشارة.
وبعد هذا أدعو الإخوان المسلمين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ولزومهم غرز العلماء الكبار الراسخين، وترك التعصب لمشايخهم مع مخالفة الحق، ووجوب سيرهم مع الدليل حيث سار، ومن لم يلتزم بذلك ويعمل به فهو إما أن يكون سالكًا دربًا وسبيلاً أهدى من درب وسبيل محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه، وإما أنه سالك درب ضلالة، ولاشك في بطلان الاحتمال الأول وصحة الثاني؛ لأنه يستحيل أن يكون أحد ممن بعد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه أقوم منهم قيلاً أو أهدى سبيلاً، فوجب الرجوع إلى سيرتهم وطريقتهم وهديهم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ومن لزمته الحجة الرسالية وجب التزامه بها واعتقادها والصدور عنها والعود الحميد الحثيث إليها، ونبذ التعصب الحزبي أو المذهبي أو القبلي أو العائلي أو العنصري أو غيره وراءه ظهريًا.
وقد ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء أخرجتنا وذريتك من الجنة!! فقال آدم لموسى: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة ألم تجد فيها أن الله كتب عليّ ذلك قبل أن أخلق؟!))
قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)) أو كما قال رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ومعلوم أن آدم وحواء أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها بسبب وسوسة الشيطان لهما فكان من عاقبة ذلك إخراجهما من الجنة إلى الأرض، وليس في هذا الحديث دليل على الاحتجاج بالقدر على جواز فعل المعاصي، وإنما توجيه هذا الحديث عند أهل العلم -فيما يحضرني-بأحد توجيهين:
التوجيه الأول: هو الاحتجاج بالقدر على المصائب باعتبار أن الخروج من الجنة مصيبة، وفرق بين باب المصائب وباب المعائب .
التوجيه الثاني: هو الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد وقوعه والتوبة منه لا بعد وقوعه بدون توبة منه.
قلت: بل قد يحتج العازم على فعل المعصية قبل مباشرته لها بالقدر وبدعوى أن الله قد كتب عليه ذلك!!
ومعلوم أن آدم -صلى الله عليه وسلم- قد تاب من الذنب وكذلك حواء زوجه، قال -تعالى-:
{وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
وقال -تعالى-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقال: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
الشاهد أن المؤمن له أن يناظر ويحاجّ غيره، فإن ظهرت له الحجة وبانت له المحجة ووضح له الحق لزمه اتباعه دون خصومة ودون جدل، فلن يكون أفضل من نبي الله موسى الذي قال فيه النبي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((فحج آدم موسى)) مرتين.
يقال: [حاجّهُ فحجّه أي: علاه بالحجة أو غلبه بالحجة أو أقام عليه الحجة ونحو ذلك من المعاني التي لا تتعارض].
فإن كان الإخوان المسلمون يريدون نصر الدين حقًا فعليهم أن يصلوا مابينهم وبين أهل العلم السلفيين الراسخين الكبار، وحينها سيعرفون مالهم وما عليهم وسيعرفون السبيل الصحيح في الدعوة إلى الله.
وسيعرفون حق الله على العباد وحق العباد على الله.
وسيعرفون قدر التوحيد وقدر الدعوة إليه وقدر السنة وقدر الدعوة إليها، وقدر الشرك وقدر التحذير منه، وقدر البدعة وقدر التحذير منها.
وسيعرفون حرمة تفريق الأمة إلى شيع وأحزاب، وحرمة نصب أمير في الحضر مع وجود ولي الأمر المسلم.
وسيعرفون أن الأصل في المسلمين حكامًا ومحكومين هو الإسلام.
وسيعرفون حرمة التقليد الأعمى للمشايخ.
وسيعرفون أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وليس معنى هذا الأخذ عن الكافر والمبتدع وطلب العلم عندهما، وإنما المقصود قبول الحق من كل من جاء به ولو كان كافرًا أو مبتدعًا.
وسيعرفون حرمة المسيرات والمظاهرات وما يشبهها من الوسائل المحدثة في إنكار المنكر -إن ثبت أن ما ينكرونه منكر في الحقيقة-.
وسيعرفون حرمة تصوير ذوات الأرواح لغير ضرورة.
وسيعرفون بدعية الأناشيد ذات التلحين والتطريب وأنها من أسباب الصد عن القرآن وعن ذكر الله.
وسيعرفون قدر العلم وأهله، وقدر الجهل وأهله.
وسيعرفون أن الطريق المستقيم هو أقصر طريق للوصول إلى المرغوب والنجاة من المرهوب.
وسيعرفون أن المجتمع الذي يعيشون فيه هو مجتمع إسلامي، وأن السعي إلى تحصيل مجتمع إسلامي هو من باب تحصيل الحاصل.
وسيعرفون أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وأن ما سواه من المذاهب باطل مردود على أصحابه.
وسيعرفون محبة السنة ومحبة أهلها، وبغض البدعة وبغض أهلها.
وسيعرفون أن الجماعة قرينة السنة، وأن الفُرقة قرينة البدعة، ولذلك قيل: أهل السنة والجماعة، وقيل أهل البدعة والفرقة.
وسيعرفون أن السنة تجمع والبدعة تفرق.
وسيعرفون أن العبرة ليست بالكثرة، وأن العبرة إنما هي بالحق ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والسير على سبيل السلف ولو قل السالكون له.
وسيعرفون أن العاقبة للمتقين وللتقوى، وأنه لا يجوز الاغترار بالحياة الدنيا ولا بالشيطان قال -تعالى-:
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
وسيعرفون أن سبيل الحق سبيل محفوف بالمكاره ولكن عاقبته حميدة، وأن سبيل الباطل محفوف بالشهوات ولكن عاقبته وخيمة، قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))
وسيعرفون أن الحق ثقيل مريء وأن الباطل خفيف وبيء.
وسيعرفون أن البدعة والمعصية والتحزب سبب لضعف المسلمين، وأن السنة والطاعة والاجتماع على الحق والتوحيد الخالص سبب لقوة المسلمين وعزهم وغلبتهم على عدوهم، قال -تعالى-:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}
إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
وقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وسيعرفون أنه لن يُصلح أخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وسيعرفون أنه لا يجوزلأحد أن يتكلم في دين الله برأيه وهواه مهما كان جاهه أو ماله أو سلطانه أو حسبه أو نسبه، وأن العبرة بالدليل وأن
العلم قال الله قـال رسولـه قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
وسيعرفون أن سبيل العلم سبيل شاق وأنه لا يصبر عليه إلا الرجال الذين يعرفون قدره، وأنه لا يصبر على الخل إلا دوده.
وسيعرفون أن العبرة بالعقائد الصحيحة والمناهج السديدة والأحكام الصائبة الموافقة للأدلة، لا بكثرة الدعاوى والشعارات الجوفاء الخالية من المضامين النافعة، وأن الدعاوى لا يعجز عنها أحد.
وسيعرفون أن المعتبر إنما هو العلم النافع والعمل الصالح والنية السليمة الطيبة، وأن العملَ -أيَّ عمل- لا يقبل إلا بشرطي الإخلاص والمتابعة، وأن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة.
وسيعرفون أن أهل السنة والحق غرباء.
وسيعرفون أنهم فرطوا في العلم النافع والعمل الصالح، وأنهم ضيعوا كثيرًا من أعمارهم فيما يضرهم ولا ينفعهم في دينهم لو كانوا ينصفون أنفسهم.
وهل أنصف نفسه أو أنصف أمته من أنشأ حزبًا أو جماعة (فرقة) ووالى وعادى عليها، وفرق الأمة، وجعلها شذر مذر، وأوقعها في حيص بيص؟!
إن الإخوان المسلمين متجلدون في الدفاع عن فرقتهم وحزبهم ومنهجهم، وصابرون في الدفاع عن ذلك -إن لم يكونوا مستميتين في ذلك-.
ومن أناشيدهم الحماسية:
لبيك إن عطـش اللِّـوا سكب الشباب له الدما لبيك
فإن كانوا يقصدون مقاتلة حكام المسلمين فيا خيبة هذا الشباب الذي سيذهب كباش فداء لحزبيتهم المقيتة وفرقتهم البغيضة -لا رفعت مثل تلك الراية، ولا نصب مثل ذاك اللواء، وجعله الله منكوسًا أبد الآباد، ووقى أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- شرهم، ووقى البلاد والعباد فتنتهم-.
وإذا عُلم تجلد هؤلاء المبطلين على باطلهم، وجب تجلد أهل الحق على الحق الذي معهم، ووجب على السلفيين التمسك بمنهجهم السلفي القويم الذي به يقوم للناس دينهم ودنياهم، وبه تمحق البدع ويذل أهلها.
وإني أحذر هذه الفرقة -فرقة الإخوان المسلمين- عقوبة الله -عز وجل- بسبب مخالفاتهم الشرعية وخروجهم عن الجادة والصواب، كما أحذرهم من أن يعاقبهم الله بتسليط الحكام عليهم والبطش بهم، وعلى نفسها براقش تجني.
وعلى كل حال، فإن أهل السنة أتباعَ الكتاب والسنة بفهم السلف لن يكفوا عن بيان باطل فرقة الإخوان وغيرهم من أهل الباطل، ولن يَكَلوا ولن يملوا -إن شاء الله-.
وأقول: إن رجوع الإخوان المسلمين وغيرهم ممن حاد عن مذهب السلف، إن رجوع هؤلاء إلى حظيرة الحق والصواب أحب إلينا من تماديهم في باطلهم، فإننا –واللهِ- نخشى عليهم من نزول العقوبات بهم بسبب بغيهم وإفسادهم في الأرض، وكفى بتحزيبهم الناس وإفساد فطرتهم وإبعادهم الناس وبخاصة الشباب عن العلماء السلفيين، كفى بذلك فسادًا وإفسادًا في الأرض يستحق صاحبه العقوبة، نسأل الله السلامة والعافية من الأدواء والأهواء.
وهل يسع السلفيَّ أن يترك مذهب السلف ويتبع منهجًا وفرقة وحزبًا ولد في القرن الماضي ولم يمضِ عليه قرن من الزمان؟!
كلا والله، ومن فعل فقد خاب وخسر وضل وغوى.
وإني لأقول في هذا المقام: إن من ادعى محبة منهج السلف أو السلفيين وجب عليه أن يتبع المنهج السلفي وإلا فهو كاذب في دعواه أو أنه صاحب تقيّة ونفاق -نعوذ بالله- وأحسن أحواله أنه جاهل بلازم تلك المحبة وهو اتباع مذهب السلف قولاً وفعلاً واعتقادًا، وقد قال الله -تعالى-:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
على أن فرقة الإخوان المسلمين لا يُعرفون بادعائهم محبة مذهب السلف ولو مجرد ادعاء فليعلم ذلك، وإنما يدعي ذلك ويظهر تلك الدعوى شيئًا ما أدعياء السلفية من قطبيين وغيرهم من أفراخ الإخوان المسلمين، وهؤلاء الآخِرون بهم من التقية والنفاق والمداهنة لأهل الأهواء والبدع، وبهم من التلبيس والكذب وتشويه المنهج السلفي وتشويه أهله ما بهم -عاملهم الله بعدله-.
وفي الختام أقول: إن الفتوى الصائبة الواجبة أن يقال:
إن مقاطعة حزب وفرقة الإخوان المسلمين وغيرهم من الفرق المعاصرة كالتبليغ والتكفير والهجرة والقطبية والسرورية وغيرها، إن مقاطعة هؤلاء لأهل العلم ووقيعتهم في أهل العلم وطعنهم فيهم لكبيرة من الكبائر بلاشك ولا مرية، فهل من مدكر؟!
أسأل الله أن يبصرنا بالحق، وأن يثبتنا عليه، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يبارك فينا وفي ذرياتنا وأهلينا وإخواننا، وأن يحفظنا وإياهم من الأهواء، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وأن يختم لنا ولهم بالحسنى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا
انتهى في عشية يوم الجمعة الموافق الثامن عشر من شهر ربيع الأول لسنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام( )
وكتب
أبوبكر بن ماهر بن عطية بن جمعة
أبو عبد الله
أبوبكر بن ماهر بن عطية بن جمعة
أبو عبد الله
يمكنكم تحميل الرسالة منسقة بصيغة الوورد من المرفقات
تعليق