جاء في نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري:
((وقيل: حج هشام بن عبد الملك في زمن عبد الملك أو في زمن الوليد، فلما طاف جهد أن يستلم الحجر فلم يطق لزحام الناس عليه، فنصب له منبرٌ، وجلس ينظر إلى الناس، إذ أقبل علي بن الحسين رضي الله عنه من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، فطاف بالبيت، فكان كلما بلغ الحجر تنحى الناس له حتى يستلمه.
فقال رجلٌ من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة ؟ فقال هشام: لا أعرفه - مخافة أن يرغب الناس فيه - وكان حوله وجوه أهل الشام والفرزدق الشاعر، فقال الفرزدق: لكنني أنا أعرفه، فقال أهل الشام: من هذا يا أبا فراس ؟ فزبره هشام، وقال: لا أعرفه.
فقال الفرزدق: بل تعرفه، ثم أنشد مشيراً إليه:
هذا سليل حسين وابن فاطمة *** بنت الرسول الذي انجابت به الظّلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهمو *** هذا النّقي التّقي الطاهر العلم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يرقى إلى ذروة العزّ الذي قصرت *** عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضى حياءً ويغضى من مهابته *** فلا يكلّم إلا حين يبتسم
بكفّه خيزران ريحها عبقٌ *** من كفّ أروع في عرنينه شمم
من جدّه دان فضل الأنبياء له *** وفضل أمته دانت له الأمم
ينشقّ نور الهدى عن نور غرّته *** كالشمس تنجاب عن إشراقها الظّلم
مشتقة من رسول الله نبعته *** طابت عناصرها والخيم والشّيم
هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد ختموا
الله شرّفه قدماً وفضّله *** جرى بذاك له في لوحه القلم
فليس قولك: من هذا, بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياثٌ عمّ نفعهما *** يستو كفان ولا يعروهما عدم
حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا *** حلو الشمائل تحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمونٌ نقيبته *** رحب الفناء أريب حين يعتزم
من معشرٍ حبّهم دين وبغضهمو *** كفرٌ وقربهمو منجىً ومعتصم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم *** أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: همو
لا يستطيع جوادٌ بعد غايتهم *** ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمةٌ أزمت *** والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطاً من أكفّهم *** سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبّهمو *** ويستردّ به الإحسان والنعم
مقدّمٌ بعد ذكر الله ذكرهمو *** في كل أمرٍ ومختومٌ به الكلم
يأبى لهم أن يحلّ الذّلّ ساحتهم *** خيمٌ كريم وأيدٍ بالندى هضم
أيّ الخلائق ليست في رقابهمو *** لأوّليّة هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أوليّة ذا *** فالدّين من بيت هذا بابه الأمم
قال: فغضب هشام لذلك وتنغص عليه يومه، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة.
وبلغ ذلك علي بن الحسين رضي الله عنه، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذر أبا فراس، لو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك بها.
فردها الفرزدق، وقال: ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليها شيئاً، فردها عليه.
وقال: بحقي عليك إلا قبلتها، فقد علمت أنا أهل بيت إذا أنفذنا أمراً لا نرجع فيه، وقد رأى الله مكانك، وعلم نيتك، والجزاء عليه تعالى. فقبلها.
وجعل الفرزدق يهجو هشاماً، فكان مما هجاه به:
أتحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلّب رأساً لم يكن رأس سيّدٍ *** وعينين حولاوين بادٍ عيوبها
وكان علي بن الحسين يقول: لقد استرقك بالود من سبقك بالشكر))اهـ
تعليق