بسم الله الرحمن الرحيم
( شرح الصدر بذكر ليلة القدر )
فإنَّ اغتنامَ مواسمِ الخيراتِ باغتنامِ الصالحاتِ من الاجتهادِ في الطاعةِ ، و التوبةِ مِنَ المعاصي و السَّيِّئات ، و تركِ الأهواءِ و الشهواتِ .
و إنَّ من الأيَّامِ الرابحةِ في حياةِ المسلمِ أيامَ رمضانَ ، إذ هيَ أيامٌ غاليةٌ في نهارِهَا و غاليةٌ في ليالِيهَا و غاليةٌ في أعمالِهَا ، وقد أكرمَ اللهُ هذِهِ الأمةَ عندَ دخولِهِ بكراماتٍ ، منها : فتحُ أبوابِ الجنانِ ، وغلقُ أبوابِ النيرانِ ، وسَلسَلَةُ الشياطينِ ، وكثرةُ أسبابِ الغُفرانِ ، وهاهيَ أفضلُ أيامِهِ تدخلُ علينا وهيَ أيامُ العشرِ الأخيرةِ ، فهيَ خيارٌ من خيارٍ .
فالعشرُ الأواخرُ من رمضانَ هيَ خاتمةُ الشهرِ ، وقد جعلَ اللهُ الأعمالَ بالخواتيمِ ، ففي صحيحِ البخاري من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عيه وسلم قالَ : " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ".
ومن كانَ آخرُ عملِهِ حسناً فخاتمتهُ حسنةٌ ، ومن كانَ آخرُ عملِهِ سيئاً فخاتمتهُ سيئة ، ثبتَ في سننِ أبي داودَ من حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ عنِ النبيِّ صلى الله عيه وسلم قالَ : " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، وقالَ عنِ الذي وقصتُهُ راحلتُهُ في عَرَفَةَ فماتَ : " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا " متفقٌ عليهِ من حديثِ ابنِ عباسٍ .
وقد جعل اللهُ خيرَ الأسبوعِ آخرَ ساعةٍ منهُ وهيَ ساعةُ الجمعةِ , لايَسألُ العبدُ ربَّهُ فيها شيئاً إلا أعطاهُ .
وخيرُ رمضانَ هيَ العشرُ الأواخرُ ، وهيَ تُمثِّلُ الثلثَ الأخيرَ منهُ ،
وقد فضَّلَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ من عدةِ أزمانٍ :
1 – فقد شرَّفَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ مِنَ النَّهارِ - وهوَ العصرُ وما بعدَهُ - ؛ لأنَّهُ خاتمَةُ النَّهارِ وآخرُهُ ، ولأنَّهُ وقتُ اجتماعِ الملائكةِ .
2 – وشرَّفَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ مِنَ اللَّيلِ ؛ لأنَّهُ وقتُ نزولِ الرَّبَّ إلى السَّماءِ الدُّنيا نُزولاً يَليقُ بجلالِهِ ، ولأنَّهُ وقتُ إجابةِ الدُّعاءِ .
3 – وشرَّف اللهُ العامَ بثلثِهِ الأخيرِ وهوَ رمضانُ الذي يُمثِّلُ رُكنَ الصِّيامِ ، وأمَّا شوَّالُ و ذوالقِعدَةِ و ذوالحِجَّةِ فهيَ تُمثِّلُ الرُّكنَ الخامسَ من أركانِ الإسلامِ ، إذ هيَ أشهرُ الحجُّ .
ومِنَ ليالي العشرِ الأخيرةِ من رمضانَ : ليلةُ القدرِ .
1 - سببُ تسميتِهَا :
ذكروا أسباباً كثيرةً منها :
أ – لأنَّ اللهَ يُقَدِّرُ فيها ما يشاءُ من أمرِهِ إلى مثلِهَا مِنَ السَّنةِ القابلةِ ، ويدلُّ على ذلك قولُهُ تعالى : " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " .
ب – أنَّ معنى القَدْرِ : الشَّرَفُ والرِّفعةُ ، كما تقولُ العربُ : " فلانٌ ذو قَدْرٍ " أي : ذو رفعةٍ و شرف ، ويشهدُ لهذا الوجهِ قولُهُ تعالى : " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " .
ج – أنَّ المرادَ بالقَدْرِ : الضَّيِّقِ ، ومنهُ قولُهُ تعالى : " وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ " ، والمرادَ : أنَّ الأرضَ تضيقُ بالملائكةِ ؛ لكثرةِ من ينزلُ مِنَ الملائكةِ في هذِهِ الليلةِ .
د – وقيل سُمِّيت بذلك ؛ لأنَّ للطاعاتِ فيها قدراً عظيماً ، وثواباً .
2- فضلُهَا :
أ – أنَّ اللهَ عزَّوجلَّ أنزلَ القرآنَ في هذِهِ الليلةِ .
ب – أنَّ اللهَ عظَّمَ شأنَهَا بذكرِهَا بقولهِ تعالى : " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ " .
ج – أنَّ العبادةَ فيها خيرٌ مِنَ العبادةِ في ألفِ شهرٍ ليس فيها ليلةُ القَدْرِ .
د – أنَّ الملائكةَ ومعهم جبريلُ يتنزَّلون في هذِهِ الليلةِ .
هـ – أنَّ الأمنَ و السلامَ يَحِلُّ في هذِهِ الليلةِ على أهلِ الإيمانِ وتسليمَ الملائكةِ يتوالى عليهم فيها .
و – وصفَ اللهُ هذِهِ الليلةَ بأنَّها مباركةٌ ، فقد قال سبحانه : " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ".
ز – من قامَ ليلَهَا إيماناً و احتساباً غُفِرَ لهُ ما تقدَّم من ذنبه ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
3 - وقتها :
اختلفَ العلماءُ في تحديدِ ليلةِ القَدْرِ ، فقدَ وصلَ الخلافُ إلى أكثرَ من أربعينَ قولاً ، ويُمكنُ تصنيفُ هذِهِ الأقوالِ إلى أربعِ فئاتٍ :
الأولى : مرفوضةٌ ، كالقولِ بإنكارِهَا في أصلهِا ، أو رفعِهَا .
الثانية : ضعيفةٌ ، كالقولِ بأنَّهَا ليلةُ النِّصفِ من شعبانَ .
الثالثة : مرجوحةٌ ، كالقولِ بأنَّها في رمضانَ في غيرِ العشرِ الأواخرِ منهُ .
الرابعة : هيَ الراجحةُ ، وهيَ كونها في العشرِ الأواخرِ من شهرِ رمضانَ ، و أرجاهَا أوتارُهَا ، روى مسلمٌ من حديثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ".
فإن ضَعُفَ العبدُ أو عَجَزَ فلايُغلبنَّ على السبعِ البواقي ، ففي الصحيحينِ من حديثِ ابنِ عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ - يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَإِن ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي " ، وهذا يفسِّرُ قولَهُ صلى الله عليه وسلم : " أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ " متفقٌ عليهِ من حديثِ ابنِ عمرَ .
ومعلومٌ مِنَ السُّنَّةِ أنَّ معرفتَهَا رُفعت ؛ لأنَّ النَّاسَ تخاصموا ، فعن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : " خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ، فَقَالَ: " خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ " رواهُ البخاري .
تنبيه : قولُهُ : ( فَرُفِعَتْ) المرادُ رفعُ تعيينِهَا ، لا كَمَا فَهِمَهُ بعضُ الشَّاذِّينَ – كما وصفهُم النَّووي في المجموعِ – فقد قالوا : المرادُ برفعِ وجودِهَا ، وهذا غلطٌ ؛ لأنَّ آخرَ الحديثِ يردُّ عليهم ، وفيهِ : " فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ " .
مسألة : ذكرَ بعضُ أهلِ العلمِ : أنَّ أرجى ليلةٍ هيَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ ، واستدلُّوا على ذلكَ :
1 - عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ قالَ : " وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ ، يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي ، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا ، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا " رواه مسلم .
2 – عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ " رواهُ أبوداودَ .
هذا الحديثُ ضعيفٌ فالراجحُ وقفُهُ ، رجَّحَ ذلكَ الدَّارقطني والحافظُ ابنُ حجرٍ ، وقد صححهُ شيخُنَا مقبلٌ الوَادِعِي في ( الصحيحُ المسندُ ممَّا ليسَ في الصَّحيحين ) ، ثمَّ تراجعَ عنهُ في كتابِهِ ( أحاديثُ مُعَلَّةٌ ظاهِرُها الصِّحَّة ) .
3 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ ، يَشُقُّ عَلَيَّ الْقِيَامُ ، فَأْمُرْنِي بِلَيْلَةٍ لَعَلَّ اللهَ يُوَفِّقُنِي فِيهَا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ " رواهُ أحمدُ ، وفيهِ عنعنةُ قتادةَ .
وقولُهُ : " عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ " ، أي : لسبعٍ مضين بعد العشرين .
فالذي يظهرُ أنَّها ليست ثابتةً في ليلةٍ واحدةٍ ، وقد قالَ الإمامُ الشافعي : " كأنَّ هذا عندي – واللهُ أعلم – أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُجيبُ على نحوِ ما يُسألُ عنهُ ، يُقالُ لهُ : أَنَلتَمِسُهَا في ليلةِ كذا ، فيقولُ : التمسوهَا في ليلةِ كذا " .
والذي جعلنا لا نُعَيِّنُهَا في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ أنَّهُ قد ثبتَ أنَّ ليلةَ القَدْرِكانت في غيرِ ليلةِ سبعٍ وعشرينَ ، منها :
1 - في الصحيحينِ من حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ العَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: " كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ العَشْرَ، ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، فَابْتَغُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ " ، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً " .
2 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ " ، قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ " رواهُ مسلم .
ولهذا قالَ الشيخُ ابنُ عثيمين : " ولاتختصُّ ليلةُ القَدْرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ بل تنتقلُ فتكونُ في عامٍ : ليلةَ سبعٍ وعشرينَ مثلاً ، وفي عامٍ آخرَ : ليلةَ خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ اللهِ وحكمتِهِ " .
تنبيه : قالَ أبومحمدٍ ابنِ حزمٍ : " وَمِنْ طَرَائِفِ الْوَسْوَاسِ : احْتِجَاجُ ابْنِ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ؛ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (( سَلامٌ هِيَ )) , قَالَ: فَلَفْظَةُ " هِيَ " هِيَ السَّابِعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْ السُّورَةِ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : حَقُّ مَنْ قَامَ هَذَا فِي دِمَاغِهِ أَنْ يُعَانِيَ بِمَا يُعَانِي بِهِ سُكَّانُ الْمَارَسْتَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَنْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَخْذُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا الْخِذْلَانِ الْعَاجِلِ ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ تَنْكِيلًا " .
4 – علاماتها :
لليلةِ القَدْرِ علاماتٌ تُعرفُ بها :
أ – ضوءُ الشَّمسِ في صبيحةِ ليلةِ القَدْرِ لا يُؤذي العينَ عندَ رؤيتِهِ ، لحديثِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ حَدَّثَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أن الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا " رواه مسلم ، وفي روايةٍ لأحمد " كأنَّها طَسْتٍ " صححهُ العلامةُ الألباني .
ب – طلوعُ القمرِ في ليلتِهَا كنصفِ قَصْعَةٍ ، روى مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ قالَ : تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ ؟ " .
ج – ليلتُهَا صافيةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ ، روى أبوداودَ الطيالسي وابنُ خزيمةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ شَمْسُهَا صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ " صححهُ العلامةُ الألباني .
د – نزولُ المطرِ في صبيحتِهَا ، لحديثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ " متفقٌ عليه ، وتقدَّمَ أيضاً حديثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ في صحيحِ مسلمٍ .
تنبيه : هناكَ علاماتٌ باطلةٌ يعتقدُهَا النَّاسُ في ليلةِ القَدْرِ :
أ – لا تنبحُ الكلابُ فيها .
ب – لا تَنهِقُ فيها الحميرُ .
ج – يكونُ ماءُ البحرِ عذباً .
د – تضعُ الأشجارُ أغصانَهَا خضوعاً للهِ تعالى .
هـ - يُرى النورُ في الأماكنِ المظلمةِ .
5 – كيف يتحراها المسلم ؟
أ - أن يُحْيِيهَا إيماناً وطمعاً في أجرِهَا العظيم ، فإن فعلَ ذلكَ غفرَ اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ ، فقد تقدَّمَ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
ب – يكثرُ من قولِهِ : ( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) ، روى الترمذيُّ و ابنُ ماجَه من حديثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " والحديثُ حسنٌ .
6 – نيل أجرها :
هل يَنالُ المسلمُ أجرَ ليلةِ القَدْرِ إذا قامَهَا وإن لم يعلم بِهَا ؟
فيها قولانِ لأهلِ العلمِ :
القول الأول : أنَّهُ يختصُّ بمن علمَ ، وبهِ قالَ الجمهورُ ، واستدلُّوا بلفظةٍ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ " .
القول الثاني : أن يَنالَ الأجرَ الموعودَ و إن لم يَعلم بِهَا ، وهو قولُ الطبري والمُهلَّبِ وأبي بكر بن العربي ، واختارَهُ الشيخُ ابنُ عثيمين ، وقالَ : " وأمَّا قولُ بعضِ العلماءِ أنَّهُ لا يَنالُ أجرَهَا إلا من شَعَرَ بها فقولٌ ضعيفٌ جداً ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ، ولم يقل : ( عالماً بها ) ، ولو كانَ العلمُ شرطاً في حصولِ الثَّوابِ لبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم " .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين
أبوعمَّار ياسر العدني
حضرموت - المكلا
:::::::::::::::
حمّل الرسالة من الخزانة العلمية
:::::::::::::::::::::::::::::
( شرح الصدر بذكر ليلة القدر )
فإنَّ اغتنامَ مواسمِ الخيراتِ باغتنامِ الصالحاتِ من الاجتهادِ في الطاعةِ ، و التوبةِ مِنَ المعاصي و السَّيِّئات ، و تركِ الأهواءِ و الشهواتِ .
و إنَّ من الأيَّامِ الرابحةِ في حياةِ المسلمِ أيامَ رمضانَ ، إذ هيَ أيامٌ غاليةٌ في نهارِهَا و غاليةٌ في ليالِيهَا و غاليةٌ في أعمالِهَا ، وقد أكرمَ اللهُ هذِهِ الأمةَ عندَ دخولِهِ بكراماتٍ ، منها : فتحُ أبوابِ الجنانِ ، وغلقُ أبوابِ النيرانِ ، وسَلسَلَةُ الشياطينِ ، وكثرةُ أسبابِ الغُفرانِ ، وهاهيَ أفضلُ أيامِهِ تدخلُ علينا وهيَ أيامُ العشرِ الأخيرةِ ، فهيَ خيارٌ من خيارٍ .
فالعشرُ الأواخرُ من رمضانَ هيَ خاتمةُ الشهرِ ، وقد جعلَ اللهُ الأعمالَ بالخواتيمِ ، ففي صحيحِ البخاري من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عيه وسلم قالَ : " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ".
ومن كانَ آخرُ عملِهِ حسناً فخاتمتهُ حسنةٌ ، ومن كانَ آخرُ عملِهِ سيئاً فخاتمتهُ سيئة ، ثبتَ في سننِ أبي داودَ من حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ عنِ النبيِّ صلى الله عيه وسلم قالَ : " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، وقالَ عنِ الذي وقصتُهُ راحلتُهُ في عَرَفَةَ فماتَ : " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا " متفقٌ عليهِ من حديثِ ابنِ عباسٍ .
وقد جعل اللهُ خيرَ الأسبوعِ آخرَ ساعةٍ منهُ وهيَ ساعةُ الجمعةِ , لايَسألُ العبدُ ربَّهُ فيها شيئاً إلا أعطاهُ .
وخيرُ رمضانَ هيَ العشرُ الأواخرُ ، وهيَ تُمثِّلُ الثلثَ الأخيرَ منهُ ،
وقد فضَّلَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ من عدةِ أزمانٍ :
1 – فقد شرَّفَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ مِنَ النَّهارِ - وهوَ العصرُ وما بعدَهُ - ؛ لأنَّهُ خاتمَةُ النَّهارِ وآخرُهُ ، ولأنَّهُ وقتُ اجتماعِ الملائكةِ .
2 – وشرَّفَ اللهُ الثلثَ الأخيرَ مِنَ اللَّيلِ ؛ لأنَّهُ وقتُ نزولِ الرَّبَّ إلى السَّماءِ الدُّنيا نُزولاً يَليقُ بجلالِهِ ، ولأنَّهُ وقتُ إجابةِ الدُّعاءِ .
3 – وشرَّف اللهُ العامَ بثلثِهِ الأخيرِ وهوَ رمضانُ الذي يُمثِّلُ رُكنَ الصِّيامِ ، وأمَّا شوَّالُ و ذوالقِعدَةِ و ذوالحِجَّةِ فهيَ تُمثِّلُ الرُّكنَ الخامسَ من أركانِ الإسلامِ ، إذ هيَ أشهرُ الحجُّ .
ومِنَ ليالي العشرِ الأخيرةِ من رمضانَ : ليلةُ القدرِ .
1 - سببُ تسميتِهَا :
ذكروا أسباباً كثيرةً منها :
أ – لأنَّ اللهَ يُقَدِّرُ فيها ما يشاءُ من أمرِهِ إلى مثلِهَا مِنَ السَّنةِ القابلةِ ، ويدلُّ على ذلك قولُهُ تعالى : " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ " .
ب – أنَّ معنى القَدْرِ : الشَّرَفُ والرِّفعةُ ، كما تقولُ العربُ : " فلانٌ ذو قَدْرٍ " أي : ذو رفعةٍ و شرف ، ويشهدُ لهذا الوجهِ قولُهُ تعالى : " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " .
ج – أنَّ المرادَ بالقَدْرِ : الضَّيِّقِ ، ومنهُ قولُهُ تعالى : " وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ " ، والمرادَ : أنَّ الأرضَ تضيقُ بالملائكةِ ؛ لكثرةِ من ينزلُ مِنَ الملائكةِ في هذِهِ الليلةِ .
د – وقيل سُمِّيت بذلك ؛ لأنَّ للطاعاتِ فيها قدراً عظيماً ، وثواباً .
2- فضلُهَا :
أ – أنَّ اللهَ عزَّوجلَّ أنزلَ القرآنَ في هذِهِ الليلةِ .
ب – أنَّ اللهَ عظَّمَ شأنَهَا بذكرِهَا بقولهِ تعالى : " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ " .
ج – أنَّ العبادةَ فيها خيرٌ مِنَ العبادةِ في ألفِ شهرٍ ليس فيها ليلةُ القَدْرِ .
د – أنَّ الملائكةَ ومعهم جبريلُ يتنزَّلون في هذِهِ الليلةِ .
هـ – أنَّ الأمنَ و السلامَ يَحِلُّ في هذِهِ الليلةِ على أهلِ الإيمانِ وتسليمَ الملائكةِ يتوالى عليهم فيها .
و – وصفَ اللهُ هذِهِ الليلةَ بأنَّها مباركةٌ ، فقد قال سبحانه : " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ".
ز – من قامَ ليلَهَا إيماناً و احتساباً غُفِرَ لهُ ما تقدَّم من ذنبه ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
3 - وقتها :
اختلفَ العلماءُ في تحديدِ ليلةِ القَدْرِ ، فقدَ وصلَ الخلافُ إلى أكثرَ من أربعينَ قولاً ، ويُمكنُ تصنيفُ هذِهِ الأقوالِ إلى أربعِ فئاتٍ :
الأولى : مرفوضةٌ ، كالقولِ بإنكارِهَا في أصلهِا ، أو رفعِهَا .
الثانية : ضعيفةٌ ، كالقولِ بأنَّهَا ليلةُ النِّصفِ من شعبانَ .
الثالثة : مرجوحةٌ ، كالقولِ بأنَّها في رمضانَ في غيرِ العشرِ الأواخرِ منهُ .
الرابعة : هيَ الراجحةُ ، وهيَ كونها في العشرِ الأواخرِ من شهرِ رمضانَ ، و أرجاهَا أوتارُهَا ، روى مسلمٌ من حديثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: " تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ".
فإن ضَعُفَ العبدُ أو عَجَزَ فلايُغلبنَّ على السبعِ البواقي ، ففي الصحيحينِ من حديثِ ابنِ عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ - يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَإِن ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي " ، وهذا يفسِّرُ قولَهُ صلى الله عليه وسلم : " أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ " متفقٌ عليهِ من حديثِ ابنِ عمرَ .
ومعلومٌ مِنَ السُّنَّةِ أنَّ معرفتَهَا رُفعت ؛ لأنَّ النَّاسَ تخاصموا ، فعن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : " خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ، فَقَالَ: " خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ " رواهُ البخاري .
تنبيه : قولُهُ : ( فَرُفِعَتْ) المرادُ رفعُ تعيينِهَا ، لا كَمَا فَهِمَهُ بعضُ الشَّاذِّينَ – كما وصفهُم النَّووي في المجموعِ – فقد قالوا : المرادُ برفعِ وجودِهَا ، وهذا غلطٌ ؛ لأنَّ آخرَ الحديثِ يردُّ عليهم ، وفيهِ : " فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ " .
مسألة : ذكرَ بعضُ أهلِ العلمِ : أنَّ أرجى ليلةٍ هيَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ ، واستدلُّوا على ذلكَ :
1 - عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ قالَ : " وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ ، يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي ، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا ، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا " رواه مسلم .
2 – عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ " رواهُ أبوداودَ .
هذا الحديثُ ضعيفٌ فالراجحُ وقفُهُ ، رجَّحَ ذلكَ الدَّارقطني والحافظُ ابنُ حجرٍ ، وقد صححهُ شيخُنَا مقبلٌ الوَادِعِي في ( الصحيحُ المسندُ ممَّا ليسَ في الصَّحيحين ) ، ثمَّ تراجعَ عنهُ في كتابِهِ ( أحاديثُ مُعَلَّةٌ ظاهِرُها الصِّحَّة ) .
3 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ ، يَشُقُّ عَلَيَّ الْقِيَامُ ، فَأْمُرْنِي بِلَيْلَةٍ لَعَلَّ اللهَ يُوَفِّقُنِي فِيهَا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ " رواهُ أحمدُ ، وفيهِ عنعنةُ قتادةَ .
وقولُهُ : " عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ " ، أي : لسبعٍ مضين بعد العشرين .
فالذي يظهرُ أنَّها ليست ثابتةً في ليلةٍ واحدةٍ ، وقد قالَ الإمامُ الشافعي : " كأنَّ هذا عندي – واللهُ أعلم – أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُجيبُ على نحوِ ما يُسألُ عنهُ ، يُقالُ لهُ : أَنَلتَمِسُهَا في ليلةِ كذا ، فيقولُ : التمسوهَا في ليلةِ كذا " .
والذي جعلنا لا نُعَيِّنُهَا في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ أنَّهُ قد ثبتَ أنَّ ليلةَ القَدْرِكانت في غيرِ ليلةِ سبعٍ وعشرينَ ، منها :
1 - في الصحيحينِ من حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ العَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: " كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ العَشْرَ، ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، فَابْتَغُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ " ، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً " .
2 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ " ، قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ " رواهُ مسلم .
ولهذا قالَ الشيخُ ابنُ عثيمين : " ولاتختصُّ ليلةُ القَدْرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ بل تنتقلُ فتكونُ في عامٍ : ليلةَ سبعٍ وعشرينَ مثلاً ، وفي عامٍ آخرَ : ليلةَ خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ اللهِ وحكمتِهِ " .
تنبيه : قالَ أبومحمدٍ ابنِ حزمٍ : " وَمِنْ طَرَائِفِ الْوَسْوَاسِ : احْتِجَاجُ ابْنِ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ؛ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (( سَلامٌ هِيَ )) , قَالَ: فَلَفْظَةُ " هِيَ " هِيَ السَّابِعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْ السُّورَةِ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : حَقُّ مَنْ قَامَ هَذَا فِي دِمَاغِهِ أَنْ يُعَانِيَ بِمَا يُعَانِي بِهِ سُكَّانُ الْمَارَسْتَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَنْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَخْذُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا الْخِذْلَانِ الْعَاجِلِ ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ تَنْكِيلًا " .
4 – علاماتها :
لليلةِ القَدْرِ علاماتٌ تُعرفُ بها :
أ – ضوءُ الشَّمسِ في صبيحةِ ليلةِ القَدْرِ لا يُؤذي العينَ عندَ رؤيتِهِ ، لحديثِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ حَدَّثَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أن الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا " رواه مسلم ، وفي روايةٍ لأحمد " كأنَّها طَسْتٍ " صححهُ العلامةُ الألباني .
ب – طلوعُ القمرِ في ليلتِهَا كنصفِ قَصْعَةٍ ، روى مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ قالَ : تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ ؟ " .
ج – ليلتُهَا صافيةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ ، روى أبوداودَ الطيالسي وابنُ خزيمةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : " لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ شَمْسُهَا صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ " صححهُ العلامةُ الألباني .
د – نزولُ المطرِ في صبيحتِهَا ، لحديثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ " متفقٌ عليه ، وتقدَّمَ أيضاً حديثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ في صحيحِ مسلمٍ .
تنبيه : هناكَ علاماتٌ باطلةٌ يعتقدُهَا النَّاسُ في ليلةِ القَدْرِ :
أ – لا تنبحُ الكلابُ فيها .
ب – لا تَنهِقُ فيها الحميرُ .
ج – يكونُ ماءُ البحرِ عذباً .
د – تضعُ الأشجارُ أغصانَهَا خضوعاً للهِ تعالى .
هـ - يُرى النورُ في الأماكنِ المظلمةِ .
5 – كيف يتحراها المسلم ؟
أ - أن يُحْيِيهَا إيماناً وطمعاً في أجرِهَا العظيم ، فإن فعلَ ذلكَ غفرَ اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ ، فقد تقدَّمَ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
ب – يكثرُ من قولِهِ : ( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) ، روى الترمذيُّ و ابنُ ماجَه من حديثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " والحديثُ حسنٌ .
6 – نيل أجرها :
هل يَنالُ المسلمُ أجرَ ليلةِ القَدْرِ إذا قامَهَا وإن لم يعلم بِهَا ؟
فيها قولانِ لأهلِ العلمِ :
القول الأول : أنَّهُ يختصُّ بمن علمَ ، وبهِ قالَ الجمهورُ ، واستدلُّوا بلفظةٍ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ " .
القول الثاني : أن يَنالَ الأجرَ الموعودَ و إن لم يَعلم بِهَا ، وهو قولُ الطبري والمُهلَّبِ وأبي بكر بن العربي ، واختارَهُ الشيخُ ابنُ عثيمين ، وقالَ : " وأمَّا قولُ بعضِ العلماءِ أنَّهُ لا يَنالُ أجرَهَا إلا من شَعَرَ بها فقولٌ ضعيفٌ جداً ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ، ولم يقل : ( عالماً بها ) ، ولو كانَ العلمُ شرطاً في حصولِ الثَّوابِ لبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم " .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين
أبوعمَّار ياسر العدني
حضرموت - المكلا
:::::::::::::::
حمّل الرسالة من الخزانة العلمية
:::::::::::::::::::::::::::::
تعليق