بيان أحكام الحج ومحظورات الإحرام
(نصيحة لأهل الحملات)
(نصيحة لأهل الحملات)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله الذي فرض على عباده الحج إلى بيته الحرام، ورتَّب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمَن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيًّا من الذنوب والآثام، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلاً، فلقد قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«الإسلامُ: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً»(1)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بُني على هذه الخمس الدعائم، فلا يتم إسلام عبدٍ حتى يحج، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل مَن له جِدَة - أي: كل مَن له غِنى ولم يحج - فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»(2).
أيها المسلمون، إن فريضة الحج ثابتة بكتاب الله وبسنّه رسول الله وبإجماع المسلمين إجماعًا قطعيًّا يعرف ذلك الخاصُّ والعامُّ من المسلمين؛ ولهذا كان العلم بفريضة الحج من ضروريات الدين الإسلامي، ومَن أنكر فريضة الحج فهو مرتدٌ كافرٌ إلا أن يكون حديث عهد بإسلام أو يكون ناشئًا في بادية بعيدة عن العلْم والعلماء، وأما مَن وجب عليه الحج وترَكَه تهاونًا وكسلاً فإنه على خطر؛ لأن الله تعالى قال بعد إيجابه على الناس:﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران: 97]، وهذه إشارة إلى أن مَن لم يحج فإنه كافر؛ ولهذا اختلف العلماء - رحمهم الله - هل يكفر مَن ترك الحج بغير عذر، ولكنّ أكثر أهل العلم وهو القول الراجح أنه لا يكفر ولكنه على خطر، فكيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بِماله وبدنه وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه ! كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو يُنفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه ! كيف يوفّر نفسه عن التعب بالحج وهو يُرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ! كيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة ! كيف يتراخى ويؤخّر أداء الحج وهو لا يدري لعلَّه لا يستطيع الحج بعد عامه ! فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبّدًا لله ورضًى بحكمه وسمعًا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾[الأحزاب: 36] .
أيها المسلمون، وإن من نعمة الله على عباده أنه لم يفرض الحج عليهم إلا مرّة واحدة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال:«إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا، فقام رجل هو الأقرع بن حابس فقال: أَفِي كل عام يا رسول الله ؟ قال: لو قلتُها لَوَجَبَتْ، الحجُ مرّة فما زاد فهو تطوّع»(3)، وهذا من نعمة الله على عباده أن الحج لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة؛ لأنه لو كان واجبًا على المسلمين جميعًا كلّ عام لكان في ذلك مشقة على المسلمين ولاسيما مَن بعدت بلادهم ولَكَان في ذلك مشقة على أداء المناسك؛ لأنهم سوف يكثرون جدًّا حول الكعبة وحينئذٍ لا يتمكّنون من أداء المناسك لكثرتهم، ولا يمكن الإحاطة بهم في أمنهم وغذائهم وترتيب أحوالهم ولكنّ الله بحكمته حَدَّ ذلك وجعله فريضة واحدة في العمر وما زاد فهو تطوّع .
أيها المسلمون، وإن الحج كغيره من العبادات لا يجب إلا بشروط؛ لأن الله بحكمته جعل للأعمال شروطًا؛ لتنضبط الفرائض وتتَّحدّد المسؤولية، وجعل هذه الشروط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان، ومن هذه الأعمال والفرائض: الحج، فله شروط لا يجب على المسلم إلا بها، فمنها: البلوغ، ويحصل في الذكور بواحدٍ من أمور ثلاثة: إنزال المني، أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات شعر العانة، وفي الإناث يحصل بأمورٍ أربعة هذه الثلاثة وزيادة أمر رابع وهو: الحيض، فمَن لم يبلغ فلا حجّ عليه حتى وإن كان من أغنى الناس، ولو حج لكان حجه تطوّعًا وله أجره فإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجّه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض؛ لأنه لم يُفرض عليه بعد، فهو كما لو تصدّق بِمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك النصاب وحينئذٍ نسأل: هل الأفضل في هذه الأزمنة أن نحجّج الصغار وأن نجعلهم يُحرِمون، أم الأفضل ألا نجعلهم يُحرمون ؟ نقول: الأفضل في هذه الأزمنة مع كثرة الحجاج وغُشْم كثير منهم ألا نحجّج الصغار؛ أي: ألا نجعلهم يُحرِمون؛ لأن إحرامهم سنّة فقط ويلحقهم بالإحرام من المشقة ما هو معلوم؛ لأن الكبير لا يستطيع التخلّص إلا بمشقة فكيف بهؤلاء الصغار؛ ولأن أولياءهم يتعبون في ملاحظتهم ومراعاتهم، فربّما يتركون أمرًا مهمًّا في مناسكهم وهو حضور القلب والتأمّل فيما يؤدّون من المناسك؛ لأن قلوبهم منشغلة بهؤلاء الأطفال أو المراهقين الذين أَحْرموا معهم وصاروا يؤدّون شعائر الحج، ومن المعلوم أن الأمر الفاضل قد يكون مفضولاً إذا كان فعله يؤدّي إلى فوات مصالح كثيرة، هذه قاعدة عظيمة أسَّسها النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في عدة مواضع من السنّة؛ لهذا لا يُستغرب إذا قلنا: إن الأفضل في هذه الأزمان في أيام المواسم ألا يحجّج الصغار ولكنْ لا بأس أن يصطحبهم الإنسان معه بل لا بدّ أن يصطحبهم معه إذا لم يكن لهم مَن يؤيهم في البلد .
وإن من شروط الحج: أن يكون الإنسان مستطيعًا بِماله وبدنه؛ لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله:﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[آل عمران: 97]، فمَن لم يكن مستطيعًا فلا حج عليه، فالاستطاعة بالمال: أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائدًا عن حوائج بيته وعمّا يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن، وعن قضاء الديون الحالَّة، فمَن كان عنده مال يحتاجه لِمَا ذُكِر لم يجب عليه الحج، ومَن كان عليه دَيْن حالٌّ لم يجب عليه الحج حتى يوفيه، والدَّيْن: كل ما ثبتَ في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها، فمَن كان في ذمته درهم واحد حالٌّ فهو مدين ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه إما بوفاء أو إسقاط من صاحب الدَّيْن؛ لأن قضاء الدَّيْن مهمّ جدًّا حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «إذا قدّم إليه ميّت ليصلي عليه قال: هل عليه دَيْن ؟ فإن قالوا نَعم، قال: هل له من وفاء ؟ فإن قالوا: لا، ترك الصلاة عليه وقال: صلّوا على صاحبكم»(4)؛ لأن الصلاة على الميت شفاعة له والدَّيْن لا تنفع فيه الشفاعة، وحتى إن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «سُئلَ عن الرَّجل يُقتل شهيدًا فأخبر أن الشهادة تكفّر كل شيء إلا الدَّيْن فإن الشهادة لا تكفّره»(5)، وحتى إنه روي عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -«أن الميّت إذا مات وعليه دَيْن فإن نفسه معلّقة بدَيْنه حتى يُقضى عنه»(6)؛ وبهذا نعرف سفَهَ كثيرٍ من الناس الذين يستهينون بالدِّيون، فتجده يستدين من أجل أمور كماليّة ليست بأمور ضرورية بل هي في حقه إسراف؛ لأنه يريد أن يباري الأغنياء في ملْبسه وفي مظهره وفي مركبه وفي بيته وهو ليس من الأغنياء فيكون ما بذله في ذلك من أجل أن يُباري الأغنياء يكون إسرافًا، والله لا يحب المسرفين .
فيا أخي المسلم، إذا كان عليك دَيْنٌ حالٌّ فاقْضِه أوّلاً ثم حج، فإذا كان ليس عندك من المال إلا ما يكفي الدَّين فقط فإني أُبشِّرُك أنه لا حج عليك وأنك لو لقيت ربك فإنه لا إثم عليك كالإنسان الفقير هل تجب عليه الزكاة ؟ إننا نعلم كلّنا أنه إذا كان الإنسان فقيرًا فلا زكاة عليه وأنه لو مات ولقيَ ربه في هذه الحال فإنه لا إثم عليه، كذلك مَن عليه دَيْن لا يكفي لحجه وقضاء دينه فإنه لا حج عليه وهو إذا لاقى ربه فإنه لا إثم عليه .
أما إذا كان الدَّين مؤجّلاً وكان الإنسان يمكنه أن يوفي الدَّين كلّما حلَّ أجَّلَ وكان بيده عند وقت الحج ما يمكن أن يحج به وهو واثق من قضاء الدَّين كلّما حلَّ فإنه لا حرج عليه أن يحج حينئذٍ؛ لأنه قادر على الحج ولا يضرّ الحج بِما عليه من الدَّين، فانتبهوا للفرق ولا تُتعبوا أنفسكم ولا تقلقوها، إذا كان عليكم دَين وقلنا لا يجب عليكم الحج فإنكم - والحمد لله - في حلٍّ وفي أمان من الإثم .
أما الاستطاعة بالبدن فهي: أن يكون الإنسان قادرًا على الوصول بنفسه إلى البيت؛ أي: إلى مكة بدون مشقّة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت أو يستطيع الوصول ولكن بمشقة شديدة كالمريض فإن العلماء قسَّموا ذلك إلى قسمين: الأول: أن يكون الإنسان مريضًا مرضًا يُرجى زواله فهذا ينتظر حتى يشفيه الله ثم يحج بنفسه، فإن مات حُجَّ عنه مَن تركته، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض الذي أُيِسَ من برئه فإنه يوكِّل مَن يحج عنه من أقاربه أو غيرهم، فإن مات قبل التوكيل حُجَّ عنه من تركته .
ومن الاستطاعة: أن يكون للمرأة مَحرَم، فليس عليها حج إذا لم يكن لها مَحرَم؛ لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج؛ حيث إنها ممنوعة من الحج شرعًا؛ لأن السفر - أعني: سفر المرأة بدون مَحرم - محرّمٌ شرعًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يخطب يقول:«لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي مَحرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلِق فحجّ مع امرأتك»(7)، فأَمَرَه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن يحج مع امرأته مع أنه قد كُتب مع الغزاة ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه هل كانت امرأته شابة، أو كان معها نساء، أو كانت امرأة كبيرة أو كان معها نساء، وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب كان سواء كان طيّارة أم سيّارة إلا بمحرم وهو زوجها أو مَن تحرم عليه تحريمًا مؤبَّدًا كأبيها وابنها وأخيها وعمّها وابن أخيها وابن أختها وكل مَن يحرم عليه نكاحها، ولا بُدَّ أن يكون المحرَم بالغًا عاقلاً، فمَنْ كان دون البلوغ فإنه لا يكفي أن يكون مَحرمًا؛ لأن المقصود من المحرَم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها وذلك لا يحصل بالصغير . أيها المسلمون، وليس من شرط الحج أن يكون الإنسان قد تُمِّمَ عنه، فالإنسان يحج ولو لم يُتمم عنه؛ لأنه لا علاقة بين التميمة والحج، والتميمة هي: العقيقة، وكذلك لا علاقة بين الحج وبين قضاء رمضان، إذا كان الإنسان عليه قضاء فيصحّ أن يحج الإنسان ولو كان عليه قضاء من رمضان ويقضي بعد الحج وله أن يؤخّره حتى يبقى على رمضان الثاني بقدر ما عليه من الأيام، فمَنْ رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فلْيبادر به ولا يتأخر؛ فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، والإنسان لا يدري ما يحصل له في المستقبل، وقد يسَّر الله - ولله الحمد - في هذه البلاد، يسَّر ما لم يُيسّره في البلاد الأخرى من سهولة الوصول إلى البيت وأداء المناسك . فاتَّقوا الله - عباد الله - وبادروا بأداء الحج إذا تَمَّت شروط الوجوب، ومَن لم يحج مع تمام شروط الوجوب فقد قال ابن القيم - رحمه الله - وهو من أكبر تلاميذ شيخ الإسلام أو أكبرهم، قال: مَن ترك الحج عمْدًا مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يُخرجها حتى مات فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما بعد موته لا يُبرئ ذمته ولا يُقبل منه، قال: والحقُّ أحقُّ أن يتبع؛ يعني: أن الإنسان إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإن ورثته إذا حجوا عنه لا تبرأ بذلك ذمّته؛ لأنه ترك الواجب عليه وأداء الواجب عن الغير مع تفريطه فيه ليس بنافع، وكذلك مَن ترك الزكاة فلم يخرجها تهاونًا حتى مات فإنه إذا أُخرجت من تركته لا تبرأ بها ذمته؛ لأن الفعل في الحقيقة فعل غيره، أما هو فقد عزَم ألا أن يؤدّيها، وهذا الذي قاله ابن القيم قولٌّ قويٌّ جدًّا، ولهذا قال - رحمه الله - عقِبَ هذا القول، قال: والحقُّ أحقُّ أن يتّبع، وهذه مسألة خطيرة فيمَن تهاونوا بأداء الزكاة أو تهاونوا بأداء الحج مع وجوبه .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا الفريضة قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم، واستمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 54-58] .
وفَّقني الله وإياكم للقيام بفرائضه والتزام حدوده، وزوَّدنا من فضله وكرمه وحسْن عبادته، زوَّدنا من ذلك ما تكمُن فيه فرائضنا وتزداد به حسناتنا، ويكمل به إيماننا، ويرسخ به ثباتنا؛ إنه جوادٌ كريم .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنه في هذه الأيام بل وفي الأعوام الماضية كثرت الحملات التي تحمل أناسًا إلى الحج، ولا شك أن هذا من تيسير الله - عزَّ وجل - ومن رحمته بعباده، ولكنّي أنصح أهل هذه الحملات القائمين عليها بأمرين: الأمر الأول: أن يصطحبوا معهم طالب علْم يهديهم إلى صراط الله عزَّ وجل؛ حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم أثناء سفرهم وأثناء أداء نسكهم فيعبدوا الله تعالى على بصيرة.
والأمر الثاني: أن يؤمّروا عليهم واحدًا منهم يكون له علْم بالشرع وعلْم بممارسة الأحوال ونظرٌ ثاقب يعرف به كيف يتصرف في هذه الحملات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمَر المسافرين «إذا كانوا ثلاثةً أن يؤمّروا عليهم أحدهم»(8)، وهذا الأمير يكون أمره مُطاعًا فيما يتعلّق بمصلحة السفر وشؤونه؛ لأن هذا هو فائدة التأمير، فلو قلنا: إنه يكون أميرًا بلا إمْرَة فما الفائدة ؟ إنه لغوٌ لا فائدة له ولكنّه أمير له سمع وطاعة فيما يتعلّق بشؤون السفر ومناسك الحج إذا كان ذلك في رحلة الحج، ولكنْ يجب على هذا الأمير ألا يكون استبداديًّا برأيه وإذا أشكل عليه أَمْر فلْيشاور مَن يراه أقرب إلى الصواب من هؤلاء المسافرين؛ حتى يكون مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومقتديًا بالمؤمنين الذين أمرُهم شورى بينهم، وأما الاستبداد بالرأي والعنف والإشقاق وعدم المبالاة فإن هذا أمرٌ خلاف المشروع .
ويحسنُ أن يكون معهم كتب نافعة يقرؤونها ويفسّرها مَن يعلم تفسيرها، ومن أحسن ما يكون [ زاد المعاد في هدي خير العباد ] لابن القيم رحمه الله؛ لأنه جامِعٌ بين فنون العلم من سيرة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والفقه في دين الله، وأحكام المعاملة، وأحكام النكاح، والطلاق، والطب وغير ذلك، فهو رياضٌ متنوّعة مفيدٌ لثقةِ مؤلّفه رحمه الله، وكونه يعتمد فيما يحكم به على كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنْ إذا جاءت المسائل العويصة التي فيها مناقشات طويلة فإنه يحسنُ بقارئ هذا الكتاب أن لا يقرأها على مَن عنده من العامة؛ لأن ذلك يُشَوِّشُ أفكارهم ولا يُمكنهم إدراكه، والعاقل اللبيب يعرف ماذا تكون فيه المصلحة فيما يُقرأ من هذا الكتاب القيّم الذي ألَّفه ابن القيّم .
واعلموا - أيها الإخوة - أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما المحدثات في العادات فإنها لا تُعتبر من البدعة في الدين وليست ضلالة لكنْ إن كان فيها شيء من المحرّم فإنها محرّمة؛ لكونها اشتملت على محرّم لا لكونها بدعة في الدين، فالبدع في الدين إنما تكون فيما يتعبّد به الإنسان لربه من عقيدة أو قول أو عمل .
ولقد كان - النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يحذّر مَن كل بدعة ويقول: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم أيها المسلمون، عليكم بالاجتماع على السنَّة، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم ومحدثات الأمور .
واعلموا - أيها المسلمون - أن من أفضل أعمالكم أن تُكثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه هو الذي هداكم الله به إلى صراط مستقيم، هو الذي دلَّكم على كل خير ورغَّبكم فيه، وبَيَّن لكم الشرور وحذّركم منها .
فاللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم اجعلنا من أتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم اجعلنا مِمَّن يُحشرون في زمرته، اللهم اجعلنا مِمَّن يدخلون في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم في مقعد صِدْقٍ عند مليك مقتدر يا رب العالمين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنَّا معهم وأصْلح أحوالنا كما أصْلحت أحوالهم يا رب العالمين .
اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر كل مَن دعا إلى الحق، واخذل كل مَن دعا إلى باطل يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تُنزل بالصرب بأسَكَ الذي لا يُرَدّ عن القوم المجرمين، إنهم الصرب المعتدون الذين اعتدوا على إخواننا في البوسنة والهرسك، إنهم المعتدون الذين يحاربون إخواننا، يحاربونهم بالقنابل وبالخناجر والسيوف، إنها حرب مبيدة، ولكنّنا نسأل الله بقوّته وعزّته أن يكسر هؤلاء الصرب المعتدين؛ إنه على كل شيء قدير .
اللهم عليك بالصرب، اللهم عليك بالصرب، اللهم عليك بالصرب، اللهم منزّل الكتاب، ومُجْرِيَ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم الصرب هزيمة نكراء يشمتُ بهم كلُّ عدو وصديق يا رب العالمين .
اللهم اهزمهم، اللهم اهزمهم، اللهم اهزمهم، اللهم اخذلهم، اللهم عذّبهم بأيدينا يا رب العالمين أو بعذاب من عندك؛ إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم كُفَّ شرّهم عن إخواننا المسلمين، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم انصرهم على هؤلاء الأعداء الظالمين الطاغين؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم إنك قلت وقولك الحق في عادٍ الذين اعتدوا وطغوا وقالوا:﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ قُلت:﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾[فصلت: 15] .
اللهم فنسألك يا مَن هو أشد قوة، نسألك اللهم أن تنزل بهؤلاء الصرب قوّتك وعذابك ورجزك؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم إنه لا حول لنا ولا قوّة إلا بدعائك وأنت خير المجيبين، اللهم فقد دعوناك فاستجب لنا، اللهم إنا قد دعوناك فاستجب لنا، اللهم إنا قد دعوناك فاستجب لنا، اللهم أرِنَا ما تقرُّ به أعيننا نحو هؤلاء الطاغيين المعتدين يا رب العالمين .
اللهم اجعلهم غنيمة لإخواننا؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
أيها الإخوة، أوصيكم ونفسي بالدعاء، بدعاء الله تعالى في كل موطن إجابة، وفي كل زمن إجابة، وفي كل حال إجابة، أدعوكم أن تسألوا الله أن ينصر إخوانكم الذين ما زالوا محاصرين منذ سنتين من الدهر، بل الآن كما سمعنا في الأخبار أن القتال في الشوارع بالخناجر والسكاكين، فنسأل الله - جلَّ وعلا - أن يثبِّت أقدام إخواننا، وأن يُنزل بأعدائهم بأسه الذي لا يُرَدّ عن القوم المجرمين .
ادعوا الله، ادعوا الله في آخر الليل، ادعوا الله في السجود، ادعوا الله بين الأذان والإقامة، ادعوا الله تعالى في كل موطن يكون سببًا لإجابة الدعاء، وفي كل زمن وفي كل حال، واعلموا أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فألِحُّوا على الله - عزَّ وجل - بالدعاء عند السجود .
أيها المسلمون، كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله في خطبة الجمعة: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
أيها المسلمون، أَكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الله - عزَّ وجل - أمركم بذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبّته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ علينا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين .
اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم ارزقنا احترام كبارنا ورحمة صغارنا يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا إلى ما تحب وترضى؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافه المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
----------------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإيمان] رقم [9]، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(2) عزاه الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير في الجزء [1] صفحة [508]، من حديث رواه سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري رحمه الله تعال، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وانظر إلى كتاب [التحقيق في أحاديث الخلاف] المجلد [2] صفحة [118] رقم [1213] .
(3) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده برقم [2190]، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه النسائي في سننه في كتاب [مناسك الحج] رقم [2573] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه ابن داوود في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1463] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [المناسك] رقم [2877] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1722] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(4) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحوالة] برقم [2127] من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإمارة] رقم [3497] من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام الترمذي في سننه في كتاب [الجنائز] رقم [998-999] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن ماجة في سننه في كتاب [الأحكام] رقم [2404] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(7) أخرجه الإمام البخاري في كتاب [الحج] رقم [1796] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب [الحج] رقم [2391] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [1833] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(8) أخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [الجهاد] رقم [2242] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
الحمدُ لله الذي فرض على عباده الحج إلى بيته الحرام، ورتَّب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمَن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيًّا من الذنوب والآثام، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلاً، فلقد قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«الإسلامُ: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً»(1)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بُني على هذه الخمس الدعائم، فلا يتم إسلام عبدٍ حتى يحج، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل مَن له جِدَة - أي: كل مَن له غِنى ولم يحج - فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»(2).
أيها المسلمون، إن فريضة الحج ثابتة بكتاب الله وبسنّه رسول الله وبإجماع المسلمين إجماعًا قطعيًّا يعرف ذلك الخاصُّ والعامُّ من المسلمين؛ ولهذا كان العلم بفريضة الحج من ضروريات الدين الإسلامي، ومَن أنكر فريضة الحج فهو مرتدٌ كافرٌ إلا أن يكون حديث عهد بإسلام أو يكون ناشئًا في بادية بعيدة عن العلْم والعلماء، وأما مَن وجب عليه الحج وترَكَه تهاونًا وكسلاً فإنه على خطر؛ لأن الله تعالى قال بعد إيجابه على الناس:﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران: 97]، وهذه إشارة إلى أن مَن لم يحج فإنه كافر؛ ولهذا اختلف العلماء - رحمهم الله - هل يكفر مَن ترك الحج بغير عذر، ولكنّ أكثر أهل العلم وهو القول الراجح أنه لا يكفر ولكنه على خطر، فكيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بِماله وبدنه وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه ! كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو يُنفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه ! كيف يوفّر نفسه عن التعب بالحج وهو يُرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ! كيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة ! كيف يتراخى ويؤخّر أداء الحج وهو لا يدري لعلَّه لا يستطيع الحج بعد عامه ! فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبّدًا لله ورضًى بحكمه وسمعًا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾[الأحزاب: 36] .
أيها المسلمون، وإن من نعمة الله على عباده أنه لم يفرض الحج عليهم إلا مرّة واحدة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال:«إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا، فقام رجل هو الأقرع بن حابس فقال: أَفِي كل عام يا رسول الله ؟ قال: لو قلتُها لَوَجَبَتْ، الحجُ مرّة فما زاد فهو تطوّع»(3)، وهذا من نعمة الله على عباده أن الحج لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة؛ لأنه لو كان واجبًا على المسلمين جميعًا كلّ عام لكان في ذلك مشقة على المسلمين ولاسيما مَن بعدت بلادهم ولَكَان في ذلك مشقة على أداء المناسك؛ لأنهم سوف يكثرون جدًّا حول الكعبة وحينئذٍ لا يتمكّنون من أداء المناسك لكثرتهم، ولا يمكن الإحاطة بهم في أمنهم وغذائهم وترتيب أحوالهم ولكنّ الله بحكمته حَدَّ ذلك وجعله فريضة واحدة في العمر وما زاد فهو تطوّع .
أيها المسلمون، وإن الحج كغيره من العبادات لا يجب إلا بشروط؛ لأن الله بحكمته جعل للأعمال شروطًا؛ لتنضبط الفرائض وتتَّحدّد المسؤولية، وجعل هذه الشروط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان، ومن هذه الأعمال والفرائض: الحج، فله شروط لا يجب على المسلم إلا بها، فمنها: البلوغ، ويحصل في الذكور بواحدٍ من أمور ثلاثة: إنزال المني، أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات شعر العانة، وفي الإناث يحصل بأمورٍ أربعة هذه الثلاثة وزيادة أمر رابع وهو: الحيض، فمَن لم يبلغ فلا حجّ عليه حتى وإن كان من أغنى الناس، ولو حج لكان حجه تطوّعًا وله أجره فإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجّه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض؛ لأنه لم يُفرض عليه بعد، فهو كما لو تصدّق بِمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك النصاب وحينئذٍ نسأل: هل الأفضل في هذه الأزمنة أن نحجّج الصغار وأن نجعلهم يُحرِمون، أم الأفضل ألا نجعلهم يُحرمون ؟ نقول: الأفضل في هذه الأزمنة مع كثرة الحجاج وغُشْم كثير منهم ألا نحجّج الصغار؛ أي: ألا نجعلهم يُحرِمون؛ لأن إحرامهم سنّة فقط ويلحقهم بالإحرام من المشقة ما هو معلوم؛ لأن الكبير لا يستطيع التخلّص إلا بمشقة فكيف بهؤلاء الصغار؛ ولأن أولياءهم يتعبون في ملاحظتهم ومراعاتهم، فربّما يتركون أمرًا مهمًّا في مناسكهم وهو حضور القلب والتأمّل فيما يؤدّون من المناسك؛ لأن قلوبهم منشغلة بهؤلاء الأطفال أو المراهقين الذين أَحْرموا معهم وصاروا يؤدّون شعائر الحج، ومن المعلوم أن الأمر الفاضل قد يكون مفضولاً إذا كان فعله يؤدّي إلى فوات مصالح كثيرة، هذه قاعدة عظيمة أسَّسها النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في عدة مواضع من السنّة؛ لهذا لا يُستغرب إذا قلنا: إن الأفضل في هذه الأزمان في أيام المواسم ألا يحجّج الصغار ولكنْ لا بأس أن يصطحبهم الإنسان معه بل لا بدّ أن يصطحبهم معه إذا لم يكن لهم مَن يؤيهم في البلد .
وإن من شروط الحج: أن يكون الإنسان مستطيعًا بِماله وبدنه؛ لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله:﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[آل عمران: 97]، فمَن لم يكن مستطيعًا فلا حج عليه، فالاستطاعة بالمال: أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائدًا عن حوائج بيته وعمّا يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن، وعن قضاء الديون الحالَّة، فمَن كان عنده مال يحتاجه لِمَا ذُكِر لم يجب عليه الحج، ومَن كان عليه دَيْن حالٌّ لم يجب عليه الحج حتى يوفيه، والدَّيْن: كل ما ثبتَ في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها، فمَن كان في ذمته درهم واحد حالٌّ فهو مدين ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه إما بوفاء أو إسقاط من صاحب الدَّيْن؛ لأن قضاء الدَّيْن مهمّ جدًّا حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «إذا قدّم إليه ميّت ليصلي عليه قال: هل عليه دَيْن ؟ فإن قالوا نَعم، قال: هل له من وفاء ؟ فإن قالوا: لا، ترك الصلاة عليه وقال: صلّوا على صاحبكم»(4)؛ لأن الصلاة على الميت شفاعة له والدَّيْن لا تنفع فيه الشفاعة، وحتى إن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «سُئلَ عن الرَّجل يُقتل شهيدًا فأخبر أن الشهادة تكفّر كل شيء إلا الدَّيْن فإن الشهادة لا تكفّره»(5)، وحتى إنه روي عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -«أن الميّت إذا مات وعليه دَيْن فإن نفسه معلّقة بدَيْنه حتى يُقضى عنه»(6)؛ وبهذا نعرف سفَهَ كثيرٍ من الناس الذين يستهينون بالدِّيون، فتجده يستدين من أجل أمور كماليّة ليست بأمور ضرورية بل هي في حقه إسراف؛ لأنه يريد أن يباري الأغنياء في ملْبسه وفي مظهره وفي مركبه وفي بيته وهو ليس من الأغنياء فيكون ما بذله في ذلك من أجل أن يُباري الأغنياء يكون إسرافًا، والله لا يحب المسرفين .
فيا أخي المسلم، إذا كان عليك دَيْنٌ حالٌّ فاقْضِه أوّلاً ثم حج، فإذا كان ليس عندك من المال إلا ما يكفي الدَّين فقط فإني أُبشِّرُك أنه لا حج عليك وأنك لو لقيت ربك فإنه لا إثم عليك كالإنسان الفقير هل تجب عليه الزكاة ؟ إننا نعلم كلّنا أنه إذا كان الإنسان فقيرًا فلا زكاة عليه وأنه لو مات ولقيَ ربه في هذه الحال فإنه لا إثم عليه، كذلك مَن عليه دَيْن لا يكفي لحجه وقضاء دينه فإنه لا حج عليه وهو إذا لاقى ربه فإنه لا إثم عليه .
أما إذا كان الدَّين مؤجّلاً وكان الإنسان يمكنه أن يوفي الدَّين كلّما حلَّ أجَّلَ وكان بيده عند وقت الحج ما يمكن أن يحج به وهو واثق من قضاء الدَّين كلّما حلَّ فإنه لا حرج عليه أن يحج حينئذٍ؛ لأنه قادر على الحج ولا يضرّ الحج بِما عليه من الدَّين، فانتبهوا للفرق ولا تُتعبوا أنفسكم ولا تقلقوها، إذا كان عليكم دَين وقلنا لا يجب عليكم الحج فإنكم - والحمد لله - في حلٍّ وفي أمان من الإثم .
أما الاستطاعة بالبدن فهي: أن يكون الإنسان قادرًا على الوصول بنفسه إلى البيت؛ أي: إلى مكة بدون مشقّة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت أو يستطيع الوصول ولكن بمشقة شديدة كالمريض فإن العلماء قسَّموا ذلك إلى قسمين: الأول: أن يكون الإنسان مريضًا مرضًا يُرجى زواله فهذا ينتظر حتى يشفيه الله ثم يحج بنفسه، فإن مات حُجَّ عنه مَن تركته، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض الذي أُيِسَ من برئه فإنه يوكِّل مَن يحج عنه من أقاربه أو غيرهم، فإن مات قبل التوكيل حُجَّ عنه من تركته .
ومن الاستطاعة: أن يكون للمرأة مَحرَم، فليس عليها حج إذا لم يكن لها مَحرَم؛ لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج؛ حيث إنها ممنوعة من الحج شرعًا؛ لأن السفر - أعني: سفر المرأة بدون مَحرم - محرّمٌ شرعًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يخطب يقول:«لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي مَحرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلِق فحجّ مع امرأتك»(7)، فأَمَرَه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن يحج مع امرأته مع أنه قد كُتب مع الغزاة ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه هل كانت امرأته شابة، أو كان معها نساء، أو كانت امرأة كبيرة أو كان معها نساء، وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب كان سواء كان طيّارة أم سيّارة إلا بمحرم وهو زوجها أو مَن تحرم عليه تحريمًا مؤبَّدًا كأبيها وابنها وأخيها وعمّها وابن أخيها وابن أختها وكل مَن يحرم عليه نكاحها، ولا بُدَّ أن يكون المحرَم بالغًا عاقلاً، فمَنْ كان دون البلوغ فإنه لا يكفي أن يكون مَحرمًا؛ لأن المقصود من المحرَم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها وذلك لا يحصل بالصغير . أيها المسلمون، وليس من شرط الحج أن يكون الإنسان قد تُمِّمَ عنه، فالإنسان يحج ولو لم يُتمم عنه؛ لأنه لا علاقة بين التميمة والحج، والتميمة هي: العقيقة، وكذلك لا علاقة بين الحج وبين قضاء رمضان، إذا كان الإنسان عليه قضاء فيصحّ أن يحج الإنسان ولو كان عليه قضاء من رمضان ويقضي بعد الحج وله أن يؤخّره حتى يبقى على رمضان الثاني بقدر ما عليه من الأيام، فمَنْ رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فلْيبادر به ولا يتأخر؛ فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، والإنسان لا يدري ما يحصل له في المستقبل، وقد يسَّر الله - ولله الحمد - في هذه البلاد، يسَّر ما لم يُيسّره في البلاد الأخرى من سهولة الوصول إلى البيت وأداء المناسك . فاتَّقوا الله - عباد الله - وبادروا بأداء الحج إذا تَمَّت شروط الوجوب، ومَن لم يحج مع تمام شروط الوجوب فقد قال ابن القيم - رحمه الله - وهو من أكبر تلاميذ شيخ الإسلام أو أكبرهم، قال: مَن ترك الحج عمْدًا مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يُخرجها حتى مات فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما بعد موته لا يُبرئ ذمته ولا يُقبل منه، قال: والحقُّ أحقُّ أن يتبع؛ يعني: أن الإنسان إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإن ورثته إذا حجوا عنه لا تبرأ بذلك ذمّته؛ لأنه ترك الواجب عليه وأداء الواجب عن الغير مع تفريطه فيه ليس بنافع، وكذلك مَن ترك الزكاة فلم يخرجها تهاونًا حتى مات فإنه إذا أُخرجت من تركته لا تبرأ بها ذمته؛ لأن الفعل في الحقيقة فعل غيره، أما هو فقد عزَم ألا أن يؤدّيها، وهذا الذي قاله ابن القيم قولٌّ قويٌّ جدًّا، ولهذا قال - رحمه الله - عقِبَ هذا القول، قال: والحقُّ أحقُّ أن يتّبع، وهذه مسألة خطيرة فيمَن تهاونوا بأداء الزكاة أو تهاونوا بأداء الحج مع وجوبه .
فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا الفريضة قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم، واستمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 54-58] .
وفَّقني الله وإياكم للقيام بفرائضه والتزام حدوده، وزوَّدنا من فضله وكرمه وحسْن عبادته، زوَّدنا من ذلك ما تكمُن فيه فرائضنا وتزداد به حسناتنا، ويكمل به إيماننا، ويرسخ به ثباتنا؛ إنه جوادٌ كريم .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنه في هذه الأيام بل وفي الأعوام الماضية كثرت الحملات التي تحمل أناسًا إلى الحج، ولا شك أن هذا من تيسير الله - عزَّ وجل - ومن رحمته بعباده، ولكنّي أنصح أهل هذه الحملات القائمين عليها بأمرين: الأمر الأول: أن يصطحبوا معهم طالب علْم يهديهم إلى صراط الله عزَّ وجل؛ حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم أثناء سفرهم وأثناء أداء نسكهم فيعبدوا الله تعالى على بصيرة.
والأمر الثاني: أن يؤمّروا عليهم واحدًا منهم يكون له علْم بالشرع وعلْم بممارسة الأحوال ونظرٌ ثاقب يعرف به كيف يتصرف في هذه الحملات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمَر المسافرين «إذا كانوا ثلاثةً أن يؤمّروا عليهم أحدهم»(8)، وهذا الأمير يكون أمره مُطاعًا فيما يتعلّق بمصلحة السفر وشؤونه؛ لأن هذا هو فائدة التأمير، فلو قلنا: إنه يكون أميرًا بلا إمْرَة فما الفائدة ؟ إنه لغوٌ لا فائدة له ولكنّه أمير له سمع وطاعة فيما يتعلّق بشؤون السفر ومناسك الحج إذا كان ذلك في رحلة الحج، ولكنْ يجب على هذا الأمير ألا يكون استبداديًّا برأيه وإذا أشكل عليه أَمْر فلْيشاور مَن يراه أقرب إلى الصواب من هؤلاء المسافرين؛ حتى يكون مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومقتديًا بالمؤمنين الذين أمرُهم شورى بينهم، وأما الاستبداد بالرأي والعنف والإشقاق وعدم المبالاة فإن هذا أمرٌ خلاف المشروع .
ويحسنُ أن يكون معهم كتب نافعة يقرؤونها ويفسّرها مَن يعلم تفسيرها، ومن أحسن ما يكون [ زاد المعاد في هدي خير العباد ] لابن القيم رحمه الله؛ لأنه جامِعٌ بين فنون العلم من سيرة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والفقه في دين الله، وأحكام المعاملة، وأحكام النكاح، والطلاق، والطب وغير ذلك، فهو رياضٌ متنوّعة مفيدٌ لثقةِ مؤلّفه رحمه الله، وكونه يعتمد فيما يحكم به على كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنْ إذا جاءت المسائل العويصة التي فيها مناقشات طويلة فإنه يحسنُ بقارئ هذا الكتاب أن لا يقرأها على مَن عنده من العامة؛ لأن ذلك يُشَوِّشُ أفكارهم ولا يُمكنهم إدراكه، والعاقل اللبيب يعرف ماذا تكون فيه المصلحة فيما يُقرأ من هذا الكتاب القيّم الذي ألَّفه ابن القيّم .
واعلموا - أيها الإخوة - أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما المحدثات في العادات فإنها لا تُعتبر من البدعة في الدين وليست ضلالة لكنْ إن كان فيها شيء من المحرّم فإنها محرّمة؛ لكونها اشتملت على محرّم لا لكونها بدعة في الدين، فالبدع في الدين إنما تكون فيما يتعبّد به الإنسان لربه من عقيدة أو قول أو عمل .
ولقد كان - النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يحذّر مَن كل بدعة ويقول: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم أيها المسلمون، عليكم بالاجتماع على السنَّة، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم ومحدثات الأمور .
واعلموا - أيها المسلمون - أن من أفضل أعمالكم أن تُكثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه هو الذي هداكم الله به إلى صراط مستقيم، هو الذي دلَّكم على كل خير ورغَّبكم فيه، وبَيَّن لكم الشرور وحذّركم منها .
فاللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم اجعلنا من أتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم اجعلنا مِمَّن يُحشرون في زمرته، اللهم اجعلنا مِمَّن يدخلون في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم في مقعد صِدْقٍ عند مليك مقتدر يا رب العالمين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنَّا معهم وأصْلح أحوالنا كما أصْلحت أحوالهم يا رب العالمين .
اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر كل مَن دعا إلى الحق، واخذل كل مَن دعا إلى باطل يا رب العالمين . اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تُنزل بالصرب بأسَكَ الذي لا يُرَدّ عن القوم المجرمين، إنهم الصرب المعتدون الذين اعتدوا على إخواننا في البوسنة والهرسك، إنهم المعتدون الذين يحاربون إخواننا، يحاربونهم بالقنابل وبالخناجر والسيوف، إنها حرب مبيدة، ولكنّنا نسأل الله بقوّته وعزّته أن يكسر هؤلاء الصرب المعتدين؛ إنه على كل شيء قدير .
اللهم عليك بالصرب، اللهم عليك بالصرب، اللهم عليك بالصرب، اللهم منزّل الكتاب، ومُجْرِيَ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم الصرب هزيمة نكراء يشمتُ بهم كلُّ عدو وصديق يا رب العالمين .
اللهم اهزمهم، اللهم اهزمهم، اللهم اهزمهم، اللهم اخذلهم، اللهم عذّبهم بأيدينا يا رب العالمين أو بعذاب من عندك؛ إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم كُفَّ شرّهم عن إخواننا المسلمين، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم ثبِّت أقدام إخواننا، اللهم انصرهم على هؤلاء الأعداء الظالمين الطاغين؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم إنك قلت وقولك الحق في عادٍ الذين اعتدوا وطغوا وقالوا:﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ قُلت:﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾[فصلت: 15] .
اللهم فنسألك يا مَن هو أشد قوة، نسألك اللهم أن تنزل بهؤلاء الصرب قوّتك وعذابك ورجزك؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم إنه لا حول لنا ولا قوّة إلا بدعائك وأنت خير المجيبين، اللهم فقد دعوناك فاستجب لنا، اللهم إنا قد دعوناك فاستجب لنا، اللهم إنا قد دعوناك فاستجب لنا، اللهم أرِنَا ما تقرُّ به أعيننا نحو هؤلاء الطاغيين المعتدين يا رب العالمين .
اللهم اجعلهم غنيمة لإخواننا؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
أيها الإخوة، أوصيكم ونفسي بالدعاء، بدعاء الله تعالى في كل موطن إجابة، وفي كل زمن إجابة، وفي كل حال إجابة، أدعوكم أن تسألوا الله أن ينصر إخوانكم الذين ما زالوا محاصرين منذ سنتين من الدهر، بل الآن كما سمعنا في الأخبار أن القتال في الشوارع بالخناجر والسكاكين، فنسأل الله - جلَّ وعلا - أن يثبِّت أقدام إخواننا، وأن يُنزل بأعدائهم بأسه الذي لا يُرَدّ عن القوم المجرمين .
ادعوا الله، ادعوا الله في آخر الليل، ادعوا الله في السجود، ادعوا الله بين الأذان والإقامة، ادعوا الله تعالى في كل موطن يكون سببًا لإجابة الدعاء، وفي كل زمن وفي كل حال، واعلموا أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فألِحُّوا على الله - عزَّ وجل - بالدعاء عند السجود .
أيها المسلمون، كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله في خطبة الجمعة: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
أيها المسلمون، أَكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الله - عزَّ وجل - أمركم بذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبّته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ علينا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين .
اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم ارزقنا احترام كبارنا ورحمة صغارنا يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا إلى ما تحب وترضى؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافه المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
----------------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإيمان] رقم [9]، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(2) عزاه الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير في الجزء [1] صفحة [508]، من حديث رواه سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري رحمه الله تعال، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وانظر إلى كتاب [التحقيق في أحاديث الخلاف] المجلد [2] صفحة [118] رقم [1213] .
(3) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده برقم [2190]، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه النسائي في سننه في كتاب [مناسك الحج] رقم [2573] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه ابن داوود في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1463] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [المناسك] رقم [2877] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1722] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(4) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحوالة] برقم [2127] من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإمارة] رقم [3497] من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام الترمذي في سننه في كتاب [الجنائز] رقم [998-999] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن ماجة في سننه في كتاب [الأحكام] رقم [2404] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(7) أخرجه الإمام البخاري في كتاب [الحج] رقم [1796] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب [الحج] رقم [2391] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [1833] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(8) أخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [الجهاد] رقم [2242] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .