إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

[القول الصائب في وجوب الكفارة لمن أتى امرأته وهي حائض] للأخ عبد الله بن صالح الشرفي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [القول الصائب في وجوب الكفارة لمن أتى امرأته وهي حائض] للأخ عبد الله بن صالح الشرفي

    القول الصائب
    في وجوب الكفارة
    لمن أتى امرأته وهي حائض

    أذن بنشرها فضيلة الشيخ المحدث الناصح الأمين
    يحيى بن علي الحجوري حفظه الله تعالى


    كتبه
    عبد الله بن صالح بن علي آل أبو طلعة الشرفي




    مقدمة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً مزيداً وبعد:
    فإن الأحكام الشرعية التي أنزلها الله في كتابه أو على لسان رسوله ص أحكام عظيمة جليلة كاملة لا يتطرق إليها النقص والعيب بوجه من الوجوه، بل كلها خير ومنافع في الدنيا والآخرة وهي أحكام سهلة وميسرة، وليس فيها ما لا يطاق من التكاليف قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف : 157].
    وفي الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحاء».
    ومن تلكم الأحكام العظيمة ما يتعلق بأحكام الحيض وهو عدم غشيان الحائض، وهذه الأمة بفضل الله وسطاً في هذه الأحكام، فإن اليهود يعتزلون المرأة تماماً في حال حيضها فلا يؤاكلوها ولا يجامعوها في البيوت، والنصارى على العكس من ذلك تماماً، وأما هذه الأمة فهي وسط بين الطائفتين وقد بين الله لهم هذا الحكم في كتابه فقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة : 222].
    فأبان الله في هذه الآية أن الحيض أذى وقذرٌ فأمر باجتناب الجماع فيه، وجاء في حديث أنس ت: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه مسلم.
    أي اصنعوا كل شيء مع الحائض إلا الجماع.
    فالجماع في حال الحيض حرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
    وقضى الشارع على من تعدى هذا الأمر ووقع فيما حرم الله عقوبة زاجرة، حتى لا يتهاون أصحاب النفوس الشهوانية بهذه الجريمة، والتي يترتب عليها من الأضرار بالرجل والمرأة، فألزم الشارع لمن وقع في هذه الجريمة بكفارة لتمحوا ما كان منه من هذه المخالفة، ولقد صارت هذه الكفارة وهي من الأحكام الشرعية منسياً عند كثير من الناس، بسبب تفشي الجهل، وبسبب أن بعض أهل العلم ضعف الحديث الذي قرر هذه الكفارة، فلربما وقع الشخص في هذه الجريمة ولم يكفر عن ذنبه، فصارت ذمته مشغولة بهذه الكفارة من حيث علم أومن حيث لم يعلم.
    فأحببت أن أجمع طرق هذا الحديث، وأميز بين صحيحها وضعيفها على حسب القواعد الحديثية، وأقوال أئمة الحديث، قال علي بن المديني: الباب الذي لم يجمع طرقه لا يعرف خطأه.
    وذكرت أيضاً المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الحكم من باب «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
    والحديث الذي قرر هذا الحكم هو حديث ابن عباس رضي الله عنه في الذي يقع على امرأته وهي حائض «يتصدق بدينار أو نصف دينار».
    رواه أهل السنن وغيرهم؛ فقد رواه ابن ماجه برقم (640) فقال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ, وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ, عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ الْحَكَمِ, عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ, عَنْ مِقْسَمٍ, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ: «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ», إسناده صحيح.
    ورواه أبو داود برقم (264) فقال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ, حَدَّثَنَا يَحْيَى, عَنْ شُعْبَةَ, حَدَّثَنِي الْحَكَمُ, عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ, عَنْ مِقْسَمٍ, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بمثل رواية ابن ماجه, وإسناده صحيح.
    ورواه النسائي (370) فقال: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ, قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى, عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ الْحَكَمِ, عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ, عَنْ مُقْسَمٍ, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل اللفظ الأول, وإسناده صحيح.
    ورواه الطبراني في «الكبير» برقم (12130) فقال: حدثنا يوسف القاضي, ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, ثنا محمد بن يزيد, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباسا؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: «يتصدق بدينار أو نصف دينار» إسناده صحيح.
    ورواه أيضًا برقم (12131) عن محمد بن عبد الله الحضرمي, ثنا عبد الله بن سعيد الكندي, ثنا إبراهيم بن يزيد بن مردانبة, عن رقبة بن مصقلة, عن الحكم به, وإسناده صحيح.
    ورواه أيضًا برقم (12132) عن أبي عوانة يعقوب بن إسحاق النسابوري, ثنا أحمد بن حفص, حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن طهمان, عن مطر الوراق, عن الحكم به, إسناده حسن.
    قال أبو داود: وهكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار وربما لم يرفعه شعبة.
    وقال البيهقي في«السنن الكبرى» (1/317): في رواية دينار أو نصف دينار أشبه بالصواب.
    ورواه النسائي أيضاً في «السنن الكبرى» برقم (9052) فقال: أخبرنا الحسن بن محمد الزعفراني، عن محمد بن الصباح، قال: نا إسماعيل بن زكريا، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي ص ولفظه: «واقع رجل امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يتصدق بنصف دينار».
    ورواه الطبراني برقم (1229) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن محمد بن الصباح به بلفظ: «يتصدق بنصف دينار» إسناده حسن.
    ولعل هذا التقصير جاء من قبل إسماعيل بن زكريا فهو صدوق فلا تؤثر روايته، والله أعلم.
    وقال أحمد شاكر في «تحقيقه على سنن الترمذي» (1/252): والذي أرجحه أن الروايات التي فيها الاقتصار على الدينار وحده والتي فيها الاقتصار على نصف الدينار إنما هي اختصار من الرواة أو سهو.
    فهذه طرق الحديث المرفوعة بأسانيد صحيحة.

    وأما الطرق الموقوفة فهي كما يلي:
    ما رواه النسائي في «الكبرى» رقم (9053): نا قتيبة بن سعيد، نا حماد، عن أبي عبد الله الشقري، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس وفيه: «قال: يتصدق بدينار أو نصف دينار».
    ورواه الدارمي برقم (1151): نا عبد الله بن محمد، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس باللفظ الأول.
    كما هو ظاهر هذه الروايات الاختلاف في هذا الحديث فقد رواه شعبة والأعمش وأبو عبد الله الشقري عن الحكم موقوفاً.
    ورواه شعبة، وسفيان بن حسين، ورقبة بن مصقلة، ومطر الوراق، وعمرو بن قيس الملائي، عن الحكم مرفوعاً.
    قال شعبة: أسنده أليَّ الحكم مرة ووقفه مرة. «علل الحديث لابن أبي حاتم» (1/51).
    فهذا نص من شعبة في أن الوقف والرفع إنما هو من الحكم، وهذا الاختلاف لا يضر، ولا يعمل فيه الترجيح بين الرافعين والواقفين؛ لأن الوجهين قد جاء عن الحكم بن عتيبة لا عن الرواة عنه، فإنهم كل روى ما سمع منه، والحكم ثقة ثبت فلعله كسل فأوقف الحديث ونشط فأسنده، فعلى هذا لا تؤثر رواية الوقف في رواية الرفع، بل الأمر على عكس من ذلك، فإن رواية الوقف تعضد وتقوي رواية الرفع من حيث موافقتها لها لفظاً وسنداً، ولم يأتِ بزيادة أو نقص(
    [1]).
    وأما ما جاء عن شعبة أنه قال: أما حفظي مرفوع، وقال: فلان وفلان إنه كان لا يرفعه قال بعض القوم: يا أبا بسطام، حدثنا بحفظك ودعنا من فلان فقال: والله ما أحب أني حدثت بهذا، وسكت عن هذا، وأني عمرت في الدنيا عمر نوح في قومه. «سنن الكبرى للنسائي» (5/346).
    فهذا فيه دليل على أن هناك خلافاً في الحكم هل يرويه مرفوعاً أو موقوفاً، وأن هناك من يصرح بأن الحكم يرويه موقوفاً كما يصرح شعبة بالرفع إلا أن شعبة لم يذكر هؤلاء الذين يصرحون بالوقف(
    [2]).
    وهذا يفيدنا أن الحكم روى الوجهين في مجالس متفرقة مما جعل كل من الرواة يصرح بما سمع, ولو رواهما في مجلس واحد لما كان هذا الخلاف, وأن شعبة سمع كلا الوجهين, وبهذا يرتفع توهم الخطأ في الرواة عنه, والله أعلم.
    وأما ما نقله البيهقي عن ابن مهدي أنه قال: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعه قال: كنت مجنونًا فصححت.
    قال البيهقي: فقد رجع شعبة عن رفع الحديث, وجعله من قول ابن عباس. «السنن الكبرى» (1/470).
    والجواب عن هذا: ليس في هذا القول تراجع شعبة عن رفع الحديث كما فهم ذلك البيهقي بل كل ما فيه أن شعبة كان مقتصرًا أو مغلبًا رواية الرفع وهو عنده على الوجهين, فلما علم أن هناك من يخالفه فيرويه موقوفًا ذكر هو أيضًا الموقوف ليدفع توهم الخطأ, فلما قيل له في ذلك, قال: كنت مجنونًا في اقتصاري على رواية الرفع, ويؤيده قوله: (أما حفظي مرفوع ....., والله ما أحب أني حدثت بهذا, وسكت عن هذا, وأن عمرت في الدنيا عمر نوح في قومه).
    فهذا جزم منه برفع الحديث, وناهيك بجزم شعبة بالرفع, ومع هذا يرويه أيضًا بالوقف كما قال: (رفعه إلي الحكم مرة ووقفه مرة), فهذا كلام شعبة يبين بعضه بعضًا.
    وقال أبو داود بعد روايته الحديث من طريق شعبة مرفوعًا قال: ربما لم يرفعه شعبة. «السنن الكبرى» (5/347), ومعلوم أن رب تفيد التقليل.
    فكلام أبي داود يفيدنا أن الأصل في رواية شعبة لهذا الحديث هو الرفع, وقليل ما يرويه بالوقف, وقد طعن ابن التركماني فيما فهمه البيهقي من كلام شعبة الأول من أنه تراجع عن رفع الحديث.
    وكذا الأئمة الذين صححوا الحديث؛ كابن القطان وغيره, ذكروا أثر شعبة هذا, ولم يشتغلوا بالرد عليه, لعدم فهمهم منه أنه تراجع عن رفع الحديث؛ وهم في مقام الرد على المطاعن التي وجهت إلى الحديث.
    وعلى فرض التسليم, أن شعبة تراجع عن رفع الحديث, فلا ينافي ما ذكره من أن الحديث رواه الحكم على الوجهين؛ لأنه إذا قيل: إن تراجع شعبة ينفي ما ذكره قبل يكون طعنًا في شعبة, وتوهيمًا فاحشًا له, إذ كيف يجزم بالرفع, ويدافع عنه ثم يرجع عنه, وأن الحكم لم يرفعه له, ولم ينسب أحد من الأئمة الوهم إلى شعبة في هذا الحديث, ولعل تراجعه يكون لأمور ومرجحات خارجة عن حديث الحكم(
    [3]), ورواية الحكم باقية على الوجهين.
    قال ابن التركمان: وأجيب عن هذا على تقدير تسليم رجوعه عن رفعه, بأن غيره رواه عن الحكم مرفوعًا. «الجوهر النقي حاشية السنن الكبرى للبيهقي» (1/315).
    وأما ما جاء عن ابن أبي حاتم أنه قال: إن الحكم لم يسمع هذا الحديث من مقسم. «العلل» لابن أبي حاتم (1/51).
    فيقال: كما نفى أبو حاتم السماع؛ فقد أثبته غيره, والمثبت مقدم على النافي؛ لأن مع المثبت زيادة علم لم تكن عند النافي.
    قال شعبة: أحاديث الحكم, عن مقسم كتاب, سوى خمسة(
    [4]) أحاديث, وذكر منها حديث إتيان الحائض. «السير» (5/210), و«جامع التحصيل» (ص167), و«تحفة التحصيل» (ص80-81), و«تهذيب الكمال» عند ترجمة الحكم ومقسم, و«المعرفة والتاريخ» (2/584), والعلل للإمام أحمد (3/رقم4052).
    وقال عبدالرزاق: قال ابن جريج: وكان الحكم بن عتيبة, عن مقسم يقول: لا أدري قال مقسم: دينار, أو قال: نصف دينار(
    [5]
    ). «المصنف» (1/328-329).
    فهذا فيه دليل على سماع الحكم من مقسم.
    قال الحافظ: إن هذا من جملة الأحاديث التي ثبت فيها سماع الحكم من مقسم. «التخليص» (1/165-166).
    وأما ما جاء أن الحكم رواه تارة عن مقسم, وتارة عن عبدالحميد عن مقسم؛ فهذا من المزيد في متصل الأسانيد, فالحكم قد سمع هذا الحديث من عبدالحميد عن مقسم, ثم تيسر له سماعه من مقسم كما أثبت ذلك شعبة, وغيره كما تقدم.
    فهذا ما يسر الله به من علل هذا الحديث, والجواب عنها.
    وأما إعلال الحديث الصحيح ببعض الطرق الضعيفة؛ فهذا ما لم يقله إمام ولم ينقل في شيء من قواعد الحديث المعروفة, ولو فتح هذا الباب ما سلم للأمة شيء من الأحاديث الصحيحة, فما من حديث صحيح غالبًا؛ إلا وجاء من بعض الطرق الضعيفة التي فيها مخالفة لأصل الرواية الصحيحة, فصنيع الأئمة في مثل هذا الحال هو عدم التعويل على تلك الطرق الضعيفة, والإعتبار بما صح من طرق الحديث, وهكذا الحال في هذا الحديث؛ فإنه قد جاء بروايات أخرى, منها ما كان بإعتبار أوصاف الدم, ومنها ما إذا كان في أول الدم, أو في آخره؛ إلا أن هذه الروايات لم تصح, فأغلبها تدور على عبدالكريم بن أبي المخارق.
    قال عبدالرزاق رقم (328): نا ابن جريج، نا عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض نصاب دينار إذا أصابها قبل أن تغتسل».
    وهذا اللفظ فيه مخالفة لسائر الروايات التي ستأتي، وهي أنه جعل الدينار سواء كان في الحيض أو بعد الحيض إذا لم تغتسل، وباقي الروايات تجعل الدينار إذا كان في الحيض، والنصف إذا كان بعد الحيض إذا لم تغتسل.
    ورواه أبو يعلى (4/320-321): نا أبو جعفر، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن مقسم، عن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كان دماً عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار».
    وذكر البيهقي في «السنن الكبرى» (1/473) أن هشاماً الدستوائي خالف أبا جعفر فرواه عن عبد الكريم موقوفاً، وقال: هذا أشبه بالصواب.
    ورواه أحمد رقم (3473): ثنا عبد الرزاق، نا ابن جريج، نا عبد الكريم وغيره، عن مقسم أن ابن عباس أخبره «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض نصاب دينار، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار».
    ورواه عبد الرزاق (1/328-329) رقم (1264): نا محمد بن راشد وابن جريج قالا: نا عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أتى امرأته في حيضتها فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها فلم تغتسل فنصف دينار».
    ورواه الترمذي (1/244-245): حدثنا الحسين بن حريث، أخبرنا الفضل بن موسى، عن أبي حمزة السكري، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دما أصفر فنصف دينار».
    ورواه النسائي (5/348): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كان الدم عبيطاً فدينار، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار».
    ورواه البيهقي (1/472) من طريق نافع بن يزيد، عن ابن جريج، عن أبي أمية عبد الكريم البصري به.
    ورواه أيضاً (1/473) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن عكرمة به وفيه: «يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار»، وفسره مقسم فقال: «إذا كان في إقبال الدم فدينار، وإذا كان في انقطاع الدم فنصف دينار، وإذا لم تغتسل فنصف دينار».
    ورواه الدارمي (1/721) رقم (1148): أخبرنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان، عن بن جريج، عن عبد الكريم، عن رجل به موقوفاً ولفظه: «إذا أتاها في دم فدينار، وإذا أتاها وقد انقطع الدم فنصف دينار».
    وفيه مخالفة وهي أنه جعل نصف الدينار بعد انقطاع الدم مطلقاً، ولم يقيده بقبل الاغتسال، وهذا الإطلاق مخل بحيث يشمل الجماع قبل الاغتسال وبعده.
    ووقع الخلاف في عبد الكريم هل هو ابن أبي المخارق أم ابن مالك الحزري.
    قال الحافظ رحمه الله: وقد بين روح بن عبادة في روايته لهذا الحديث أنه عبد الكريم أبو أمية وهو يضعف قول من قال أنه الجزري، وجزم اب
    ن عبد الهادي أيضاً بأنه أبو أمية الضعيف.«حاشية تحفة الأشراف» (5/248).



    ويؤيد أنه عبد الكريم بن أبي المخارق أمور منها:

    1) التصريح به في كثير من الروايات، ولم يصرح بابن مالك إلا في طريق واحد عند الدارقطني في «سننه» من طريق عبد الله بن محرر وهو متروك.
    2) مخالفة رواية عبد الكريم سنداً ومتناً لرواية الأئمة الثقات هي أليق بعبد الكريم بن أبي المخارق من عبد الكريم بن مالك الجزري الثقة المتقن.
    قال ابن رجب رحمه الله في «شرح العلل» (2/782): وزعم البخاري أن عبد الكريم أبا أمية مقارب الحديث، وهو عند جميع الأئمة مباعد الحديث جداً، ليس بين حديثه وبين حديث الثقات قرب البتة.
    3) الخلاف الواقع في رواية عبد الكريم حيث روي مرفوعاً وموقوفاً وبألفاظ مختلفة يؤيد أنه ابن أبي المخارق الضعيف.
    4) ذكر ابن الجوزي بعض طرق الحديث التي فيها عبد الكريم فقال: هو البصري ضعيف جداً، وقال الذهبي: عبد الكريم ضعيف. «التحقيق في مسائل الخلاف مع التنقيح» للذهبي (1/358-356).
    وقال الألباني رحمه الله في «حاشية آداب الزفاف» (ص129) في بعض طرق الحديث التي فيها عبد الكريم: هو ابن أبي المخارق أبو أمية، وهو مجمع على ضعفه، ومن ظنه عبد الكريم الجرزي أبا سعيد الحراني الثقة فقد وهم.
    وروى الحديث أيضاً أبو داود (1/181) من طريق أبي الحسن الجزري عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً: «إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار».
    وأبو الحسن الجزري مجهول كما في «التقريب» رقم (8080) ومع هذا خالف رواية الثقات حيث رووه من غير ذكر هذا التفصيل، وأيضاً روايته مطلقاً في جعل نصف الدينار بعد انقطاع الدم ولم يقيده بقبل الاغتسال وهو قيد مهم.
    ورواه النسائي (5/349): أخبرنا أحمد بن حرب، قال: نا أبو معاوية، عن حجاج، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً: «إذا واقع في الدم العبيط تصدق بدينار، وإن كان في الصفرة فنصف دينار».
    وهذا إسناد ضعيف لضعف خصيف وحجاج وعنعنته.
    وأحسن طرق الحديث التي جاءت بالتفصيل هو ما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (1/475) من طريق ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس موقوفاً وفيه: «إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم بنصف دينار» وغمزها البيهقي بقوله: (وإن كان محفوظاً فهو من قول ابن عباس يصح).
    والحديث فيه عنعنة ابن جريج وتدليسه من شر التدليس(
    [6])، فلا تعارض هذه الرواية الراوية الصحيحة، وأيضاً مما يوهن هذه الرواية الخلاف في قائل هذا التفصيل فقد جاء أنه مقسم، وجاء أيضاً أنه قتادة ذكر ذلك سعيد بن أبي عروبة كما في «مختصر الأحكام» للطوسي (1/363-365)، وهو مستخرج على جامع الترمذي.
    وقوله: «إن أتاها في غير الدم» يدخل في هذا الكلام ما إذا رأت الطهر، وهذا الحال لا يصدق عليها مسمى الحيض لغة وشرعاً، ومخالف للرواية الصحيحة التي أوجبت الكفارة في حال الحيض.
    وعلى فرض التسليم على صحة هذه الرواية عن ابن عباس لا خلاف بين رواية الرفع والوقف فيقال لما ذكر ابن عباس قول النبي ص خالصاً رفعه، ولما سئل عن هذه المسألة ذكر الحديث، وأضاف إليه اجتهاده وهو أن الدينار في حال الدم، والنصف إذا انقطع الدم فلم يرفعه إلى النبي ص حتى لا يتقول على النبي ص ما لم يقله، والله أعلم.
    قال المباركفوري : في «تحفة الأحوذي» (1/421-422): لا شك أن في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلافاً كثيراً لكن مجرد الاختلاف قليلا كان، أو كثيراً لا يورث الاضطراب القادح في صحة الحديث، بل يشترط له استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجحت رواية من الروايات المختلفة من حيث الصحة قدمت ولا تعل الرواية الراجحة بالمرجوحة ، وهاهنا رواية عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: «فليتصدق بدينار أو بنصف دينار» صحيحة راجحة، فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسماً الراوي عن ابن عباس فانفرد به البخاري ، لكن ما أخرج له إلا حديثاً واحداً، وقد صحح هذه الرواية الحاكم وابن دقيق العيد وقال: ما أحسن حديث عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس، فقيل تذهب إليه فقال: نعم، ورواية عبد الحميد هذه لم يخرجها الترمذي، وأخرجها أبو داود قال: حدثنا مسدد، نا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي ص في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: «يتصدق بدينار، أو نصف دينار» قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة قال: «دينار أو نصف دينار»، ولم يرفعه شعبة فرواية عبد الحميد هذه صحيحة راجحة، وأما باقي الروايات فضعيفة مرجوحة لا توازي رواية عبد الحميد، فلا تعل رواية عبد الحميد هذه بالروايات الضعيفة.
    قال أحمد شاكر : في «تحقيقه على الترمذي» (1/252) بعد ذكر بعض طرق الحديث برواية التفصيل قال: وهذه الروايات فيما نرى والله أعلم من تصرف الرواة وخطئهم في الحفظ, وأصحها عندنا رواية من قال: «دينار أو نصف دينار» وهي التي صحح لفظها أبو داود ..., وأما التفصيل بين حالي الدم أو وقته؛ فإنه تفسير من الرواة قطعًا, ثم دخل على بعض الرواة عنهم فظنوه من متن الحديث, فنقلوه كذلك. اه
    وذكر الألباني: أن الصحيح في هذا التفصيل أنه موقوف. «صحيح الترمذي» (1/44/رقم 118).
    ثم إن الرواية الصحيحة أيضًا فيها أن الكفارة إنما تكون في الحيض, سواء كان في أوله أو آخره, وليس فيها أن عليه كفارة بعد الطهر, وقبل الإغتسال؛ لأن هذه الحالة لا يصدق عليها أنها حيض إذ تعريف الحيض لغة: السيلان.
    فالذي يقول بالكفارة بعد رؤية الطهر وقبل الإغتسال ليس لقوله وجه في الأدلة الصحيحة بل الأدلة الصحيحة على خلاف ذلك, والله أعلم.
    وممن ذهب إلى تصحيح الحديث أبو داود, وقال: هكذا الرواية الصحيحة.
    قال ابن القيم: يدل على تصحيحه للحديث. «شرح سنن أبي داود» لابن القيم.
    والحاكم في «مستدركه», وابن القطان في «الوهم والإيهام», وابن دقيق العيد في «الإلمام», والحافظ ابن حجر في «التلخيص», وابن القيم كما في «شرحه سنن أبي داود», وأحمد شاكر في تحقيقه على «سنن الترمذي» (1/246-254).
    والألباني وقال: هذا سند صحيح على شرط البخاري, وصححه الحاكم, ووافقه الذهبي, وابن القطان, وابن دقيق العيد, وابن التركماني, وابن القيم, وابن حجر العسقلاني, واستحسنه الإمام أحمد. «إرواء الغليل» (1/217-218).
    وأبو إسحاق الحويني, كما في كتابه «غوث المكدود» (1/114-116) رقم (108).
    وشعيب الأرناؤوط, وزهير الشاويش كما في تحقيقهما «شرح السنة» للبغوي (2/127-128) وغيرهم من المحققين المعاصرين, وكل من قال بالكفارة وجوبًا أو استحبابًا فهو يحتج بهذا الحديث؛ لأن المسألة ليس لها دليل إلا حديث ابن عباس, والحكمن بالوجوب أو الاستحباب من الأحكام الشرعية التي لا تثبت إلا بدليل صحيح.



    مسألة: أدلة القائلين بعدم الكفارة

    استدل القائلون بعدم الكفارة بعدت أدلة منها:
    1) القياس على الوطء في الدبر؛ فإنه نهي عنه, ولم يأت فيه كفارة فكذلك الوطء في الحيض, فقد نهي عنه, فيقاس عدم الكفارة على ذلك, ويجاب عليه بما يلي:
    أ- لا قياس مع النص؛ فإذا ثبت النص فسد القياس.
    ب- لو قيس الوطء في الحيض على الوطء في نهار رمضان لاتحدت العلة, ولكان قياساً معتبرًا؛ فإن كل من الوطء في الحيض وفي نهار رمضان منع منه في حال مخصوص؛ فإذا أزيل المانع رجع كل منهما إلى إباحته الأصلية بخالف الوطء في الدبر؛ فإنه محرم أبدي لا يحل بوجه من الوجوه, وحكمه أقرب إلى التعزير.
    ج- لا يشرع في الكبائر ونحوها مما تأبد تحريمه, كالزنا والوطء في الدبر, واللواط الكفارة بل يشرع فيها الحد والتعزير, وأما إذا كان التحريم عارضًا فربما دعت النفس إلى العادة فشرعت الكفارة ماحية للذنب؛ فإنه أهون وزاجرة عن معاودته, ولهذا أغنى وجوبها عن التعزير. انظر «شرح العمدة» لابن تيمية (1/466).
    2) حديث أبي هريرة: «من أتى حائضًا وامرأة في دبرها, وكاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد ص», فقالوا: ولم يذكر فيه الكفارة.
    والجواب: الحديث رواه الترمذي, وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم, وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده.
    وقال: وإنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ. «سنن الترمذي» (1/45/رقم 135).
    فعلى معنى أن الكفر في الحديث المراد به الزجر والتغليظ من فعل هذا الأمر كما نقله الترمذي عن أهل العلم, فيكون حديث الكفارة مؤيدًا له في الزجر والتغليظ من إتيان الحائض لا معارضًا له, وعلى حمل معنى الكفر على ظاهره أنه الكفر الأكبر, ولا قائل به في إتيان الحائض والمرأة في الدبر؛ إلا إذا كان مستحلاً ذلك فيكون حديث الكفارة في ظاهره شيء من التعارض, ولو صح هذا المعنى لكان له جواب يوفق بينه وبين حديث الكفارة.
    3) عدم صحة الحديث, وأنه مضطرب سندًا ومتنًا.
    قال أبو عمر ابن عبدالبر: وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الإستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس وأن مثله لا تقوم به حجة, وأن الذمة على البراءة. «التمهيد» (2/332).
    وقال ابن حزم في «المحلى» (1/190) رقم المسألة (263): وأما نحن فلو صح شيء من هذه الآثار لأخذنا به؛ فإذا لم يصح في إيجاب شيء على الواطئ فماله حرام .... اه
    وعلق ابن المنذر وجوب الكفارة على صحة الحديث. «الأوسط» (2/212).
    والسبب في تضعيف بعض الأئمة لهذا الحديث, أن حكمهم منصب على الطرق الضعيفة والمختلفة سندًا أو متنًا, ثم إنه لم يجمع أحد من الأئمة الذين ضعفوا الحديث طرقه كما قال ذلك أحمد شاكر, وقال علي بن المديني: الباب الذي لم يجمع طرقه لم يتبين خطأه.
    فهذه الحجة المعتمدة عند القائلين بعدم الكفارة وهي ضعف الحديث, وتقدم بيان صحة الحديث وفقًا لقواعد الحديث وبيان الأئمة الذين صرحوا بصحته ودفاعهم عنه, والجواب عن المطاعن التي وجهت إليه.
    وإليك أيضًا كلام الأئمة الذين قالوا بالكفارة اعتمادًا على هذا الحديث.
    قال ابن القطان الفاسي في «الوهم والإيهام» (2/276): .... ولكنهم يزعمون أن متن الحديث بالجملة لا بالنسبة إلى رواية راوٍ بعينه مضطرب, وذلك عندي خطأ من الإعتلال, والصواب هو أن ننظر رواية كل راوٍ بحسبها, ويعلم ما خرج عنه فيها؛ فإن صح من طريق قبل ولو كانت له طرق أخر ضعيفة. اه
    وقال شيخ الإسلام «شرح العمدة» كتاب الطهارة (1/465-470): وإذا وطأ الحائض وجبت عليه الكفارة في ظاهر المذهب.
    وقال إسحاق بن راهوية :: هذه السنة الصحيحة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيان الحائض. اه
    وقال ابن قدامة في «الكافي» (1/74): وإن وطئ الحائض قبل طهرها فعليه كفارة نصف دينار, لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فذكر الحديث.
    وقال ابن عبد الهادي في «مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام» (ص97): فإن وطئ وجبت عليه كفارة.
    وقال ابن مفلح في «الفروع» (1/262-263): وإن وطئ فيه بحائل أولا لزمه دينار أو نصفه, نقله جماعة.
    وقال الحافظ في «التلخيص الحبير» (1/293): وقد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث, والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه, وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في «الإلمام» وهو الصواب, فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الإختلاف أكثر مما في هذا كحديث بئر بضاعة, وحديث القلتين, ونحوهما, وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في «شرح المهذب» و«التنقيح», و«الخلاصة» أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه, وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم, واتبع النووي في بعض ذلك ابن الصلاح.
    وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» (1/278-279): وقد صحح حديث الباب الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد, وقال أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس فقيل: تذهب إليه؟ فقال: نعم, ثم نقل كلام الحافظ من «التلخيص».
    ثم قال: والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض, وإلى ذلك ذهب ابن عباس, والحسن البصري, وسعيد بن جبير, وقتادة, والأوزاعي, وإسحاق, وأحمد في الرواية الثانية عنه, والشافعي في قوله القديم ....
    وقال عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو حنيفة وهو الأصح عن الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير من السلف: إنه لا كفارة عليه بل الواجب الاستغفار والتوبة, وأجابوا عن الحديث بما سبق من المطاعن, قالوا: والأصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجة وقد عرفت انتهاض الرواية الأولى من حديث الباب فالمصير إليها متحتم, وعرفت بما أسلفناه صلاحيتها للحجية وسقوط الإعتلالات الواردة عليها. اه
    وقال في «الإقناع» وشرحه «كشاف القناع» لمنصور بن يونس البهوتي (1/201): سواء كان الوطء في أوله -أي: الحيض- أو في آخره؛ لأنه معنى تجب فيه الكفارة, فاستوى الحال فيه بين إقباله وإدباره وصفاته. وراجع «شرح منتهى الإرادات» للبهوتي نفسه (1/107).
    وقال أبو جعفر عبدالخالق بن عيسى العباسي الهاشمي في «رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل» (1/93): وطء الحائض يوجب كفارة, وبه قال إسحاق والأوزاعي والشافعي في القديم, وقال في الجديد: لا كفارة, وبه قال أكثرهم, وعن أحمد نحوه, دليلنا ما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث, وقال أحمد: حديث حسن, وإليه أذهب, وصفة الكفارة ما ذكرنا في الخبر؛ لأنه حكم يتعلق بوطء الحائض, فاستوى فيه أول الحيض وآخره؛ كالإثم.
    وقال عبدالرحمن بن محمد العاصمي النجدي في «حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع» (1/379): إذا أولج من يجامع وهو ابن عشر فأكثر حشفته، أو قدرها إن كان مقطوعها قبل انقطاع الحيض ولو كان الإيلاج بحائل لفه على ذكره ويجد معه حرارة الفرج فعليه الكفارة, سواء وطئها في أول الحيض أو آخره، أسود كان الدم أو أحمر؟ نقله الجماعة واختاره الشيخ، وقال: هو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به، فكيف وقد جاءت به مرفوعًا وموقوفًا ...اه
    وممن قال بالكفارة أيضًا مجد الدين أبو البركات عبدالسلام ابن تيمية في كتابه «المنتقى» (1/191).
    وقال ابن الجوزي في «التحقيق في أحاديث الخلاف» (1/251-252): إذا أتى امرأته وهي حائض تصدق بدينار أو نصف دينار, ثم استدل بحديث ابن عباس.
    ولم يتعقب الذهبي ابن الجوزي بشيء في هذه المسألة بل أقره على ذلك.
    انظر «تنقيح التحقيق» للذهبي (1/353-356).
    وقال ابن الملقن الشافعي في «البدر المنير» (1/79) رقم (242): حديث ابن عباس مرفوعًا في الكفارة في إتيان الحائض بطرقه رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من راوية عبدالحميد عن مقسم عنه مرفوعًا في الذي يأتي امرأته وهي حائض, قال: يتصدق بدينار, أو نصف دينار, قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري, وهو كما قال, لا كما رد عليه ابن الصلاح, ثم النووي لا جرم, صححه ابن القطان, وهو الإمام المدقق ومال إلى ذلك صاحب «الإلمام» نعم له طرق غير هذا ضعيفة, وقد أوضحت ذلك كله في الأصل في نحو كراس.
    وكذا الخطيب التبريزي في «المشكاة» ذكر حديث ابن عباس في الكفارة معتمدًا عليه في إثبات هذا الحكم, وأشار الطيبي إلى الحديث بالحسن, ثم قال: اختلفوا في وجوب الكفارة بوطء الحائض فأكثرهم على أن الكفارة الإستغفار فحسب, وبه قال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة, وذهب جماعة إلى وجوبها, وبه قال الشافعي أيضًا, والدليل عليه هذا الحديث. «شرح الطيبي على مشكاة المصابيح» (3/858).
    وقال علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل» (1/330): الصحيح من المذهب أن عليه بالوطء في الحيض والنفاس كفارة, وعليه جمهور الأصحاب. اه
    وقال السامري في «كتاب المستوعب» (1/402-404): فإن وطئها في القبل عالمًا بالحيض والتحريم؛ فعليه كفارة دينار أو نصف دينار, ولا فرق في ذلك بين إقبال الدم وإدباره. اه
    وممن قال بالكفارة صاحب «منار السبيل في شرح الدليل» هو وصاحب المتن, وقالا بها أيضًا على المكره والناسي والجاهل للحيض, والتحريم. «منار السبيل في شرح الدليل» (1/64).
    وقال فخر الدين أبو عبدالله محمد بن أبي القاسم في «بلغة الساغب وبغية الراغب» (ص55-56): ومن حكم الحيض المنع من ستة أشياء ....., ومن الوطء في الفرج دون ما دونه؛ فإن وطئ في الفرج فعليه التكفير بدينار أو نصف دينار. اه
    وقال أبو الحسن علي بن محمد البَعْلي الدمشقي في «الأخيار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية» (ص44): فإن وطئ في الفرج فعليه دينار كفارة, ويعتبر أن يكون مضروبًا.
    وقال المقبلي في «المنار في المختار» (1/113-114): الحق في هذه شرعية الكفارة دينار أول الحيض ونصف دينار في آخره...., وهل يجب أم لا؟, ظاهر الأمر الوجوب.
    وذكر السيوطي في «الدر المنثور» (1/623-624) الأحاديث التي أمرت بالكفارة مقرًا لها, ولم يتعقبها بشيء.
    وقال الحصكفي الحنفي: ويندب تصدقه بدينار أو نصفه, قال ابن عابدين شارح كلام الحصكفي في «رد المختار على الدرر المختار شرح تنوير الأبصار» (1/494) المعروف «بحاشية ابن عابدين»: وهو يؤيد ما قاله, وهذا لما رواه أحمد, وأبو داود, والترمذي, والنسائي عن ابن عباس مرفوعًا في الذي يأتي امرأته وهي حائض, قال: يتصدق بدينار, أو بنصف دينار.
    وقال ابن همام الحنفي في «شرح فتح القدير» (1/169): يتصدق بدينار أو بنصفه استحباباً.
    وقال أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري في «الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني» (1/102): ووطئ الحائض في الفرج موجب لكفارة إذا لم يكن شبق بشرطه وهي دينار أو نصفه على التخيير ولو مكرهاً أو ناسياً أو جاهلاً للحيض والتحريم.
    وقال صالح بن إبراهيم البليهي كما في كتابه «السلسبيل في معرفة الدليل» (1/75): بالكفارة.
    وقال في «نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب» (1/106-108) تهذيب عبد الله آل بسام: ويجب بوطء الحائض في الفرج قبل انقطاع الدم كفارة وهي دينار أو نصفه على التخيير، سواءً كان في أول الحيض أو آخره بشرط أن يكون الوطء ممن يجامع مثله وهو ابن عشر، وأن يولج الحشفة، أو قدرها ولو بحائل لفه على ذكره، وتخييره بين الدينار ونصفه كتخيير المسافر بين القصر والاتمام.
    وقال الحريري في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة» (1/134): فمن وطء امرأته أثناء نزول الدم فإنه يأثم وتجب عليه التوبة فوراً كما تأثم هي بتمكينه، ومن السنة أن يتصدق بدينار أو بنصفه.
    وقال ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/59): فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها.
    ونقل الداوودي في «كفاية الأخبار في حل غاية الاختصار» (ص79) عن نص الشافعي في الجديد أنه يلزمه بذلك وهي فائدة مهمة.
    وقال شمس الحق العظيم آبادي: وهذا هو الصواب ... وأما تضعيف ابن سعد والساجي وابن حزم لمقسم فقد نوزع فيه؛ لأن جماعة وثقوه وعرفت أسماءهم آنفاً وقوماً صححوا الحديث.
    وقال ابن القيم رحمه الله: قول أبي داود: وهكذا الرواية الصحيحة يدل على تصحيحه للحديث، وأما أبو محمد بن حزم فإنه أعل الحديث بمقسم وضعفه وهو تعليل فاسد.
    ثم قال: أحاديث الباب تدل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض، قال الخطابي في «المعالم»: ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه غير واحد من العلماء, منهم: قتادة, والأوزاعي, وأحمد بن حنبل, وإسحاق, وقال به الشافعي قديمًا, ثم قال في الجديد: لا شيء عليه, ولا ينكر أن يكون فيه كفارة؛ لأنه وطئ محظور, كالوطئ في رمضان.
    ثم قال: وقد عرفت انتهاض الرواية الأولى من أحاديث الباب, وهي رواية شعبة, عن الحكم, عن عبدالحميد, فالمصير إليها متحتم, وعرفت بما أسلفناه صلاحيتها للحجية, وسقوط الاعتلالات الواردة عليها, غاية المقصود. «شرح سنن أبي داود» (1/446-449)(
    [7]).
    وقال بدر الدين العيني كما في «شرح سنن أبي داود» (2/26-27) بعد أن ذكر العلل التي أعل بها الحديث: والجواب عن ذلك كله ..., وأما ما روي فيه من «خمسي دينار(
    [8])» أو «عتق نسمة([9])» أو غير ذلك فما منها شيء يعول عليه, فلا يطعن به على حديث مقسم, وأيضًا مقتضى قواعد الفقه وأصوله, أن رواية الرفع أشبه بالصواب؛ لأنها زيادة ثقة, وهذا مقتضى صناعة الحديث؛ لأن رواته أكثر, ثم حكم هذا الحديث أنه قد ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه جماعة من العلماء منهم ......إلخ.
    وقال محمود بن محمد السبكي في «المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود» (2/45-47) بعد ذكره لعلل الحديث والرد عليها: ... دل الحديث على أن من وطئ امرأته وهي حائض يطلب منه أن يتصدق بدينار أو نصف دينار كفارة لذنبه, وقد علمت ما فيه من الخلاف.
    وقال أحمد بن عبدالرحمن البنا في «بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني» (2/156-157): الحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض. اه
    وقال الصنعاني في «سبل السلام» (1/215-216): أما من صح له كابن القطان؛ فإنه أمعن النظر في تصحيحه وأجاب عن طرق الطعن فيه, وأقره ابن دقيق العيد, وقواه في كتاب «الإلمام» فلا عذر له عن العمل به.
    وقال ابن عثيمين في «الشرح الممتع على زاد المستقنع» (1/478-480): واختلف العلماء في تصحيحه، فصحَّحه جماعةٌ من العلماء حتى قال الإِمام أحمد: ما أحسنه من حديث, وقال أبو داود لمَّا رواه: هذه هي الرِّواية الصَّحيحة, وضعَّفه بعض العلماء حتى قال الشَّافعيُّ رحمه الله: «لو ثبت هذا الحديث لَقُلْتُ به», ولهذا كان وجوبُ الكفَّارة من مفردات المذهب، والأئمة الثَّلاثة يرون أنَّه آثم بلا كفارة.
    والحديثُ صحيحٌ، لأنَّ رجالَه كلَّهم ثقاتٌ، وإِذا صحَّ فلا يضرُّ انفرادُ أحمد بالقول به, فالصحيح: أنها واجبةٌ، وعلى الأقل نقولُ بالوجوب احتياطاً. اه
    قال الألباني :: وعلى من أتاها أن يتصدق بدينار, أو بنصف دينار على التخيير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار» رواه أصحاب السنن بسند صحيح. اه «الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب» (1/42), و«آداب الزفاف» (ص122).
    وقال آل عبيكان في «غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام» (2/583-589): مذهب أحمد وجوب الكفارة دينار أو نصفه ...., واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وأفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ..., قلت: والراجح وجوب الكفارة.
    وقال الشيخ سليم الهلالي في «موسوعة المناهي الشرعية» (1/294-296): من أتى امرأته قبل أن تطهر من حيضتها فعليه الكفارة, وهي التصدق بدينار أو نصف دينار من الذهب؛ لحديث ابن عباس .... الحديث, وإسناده صحيح على شرط البخاري. اه
    وقال عبدالله البسام في «توضيح الأحكام من بلوغ المرام» (1/406-408) بعد نقله لتصحيح الحديث: إن الذي يجامع زوجته وهي حائض فعليه كفارة يتصدق بها وهي دينار أو نصف دينار.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجوب الكفارة في وطء الحائض وفق القياس لو لم يأت به نص ذلك أن المعاصي التي جاء تحريمها كالوطء في الصيام والإحرام والحيض تدخلها الكفارة، بخلاف المعاصي المحرم جنسها كالظلم، والزنا لم يشرع لها كفارة ... إلخ.
    وممن قال بالكفارة أيضاً فيصل بن عبد العزيز آل مبارك في كتابه «كلمات السداد على متن الزاد» (ص20): وأفتت اللجنة الدائمة بوجوب الكفارة على من وطء امرأته وهي حائض وإخراجها على الخيير دينار أو نصفه. «فتاوى إسلامية» (1/238) جمع محمد بن عبد العزيز المسند.
    ملحوظة: قال بوجوب الكفارة الشافعي في القديم وعلق الحكم في الجديد على ثبوت الحديث(
    [10]
    ) ويؤيد نسبة القول القديم إلى الشافعي وأنه مذهب له أمور منها:
    1. تعليقه الحكم على ثبوت الحديث وقد ثبت الحديث كما علمت.
    2. الذي جعل الشافعي يتوقف في صحة الحديث اعتماده في المذهب القديم على إحدى الطرق التي فيها التفصيل([11]) «إذا كان في أول الدم دينار، وإذا كان في آخره فنصف دينار» وقد علمت ضعف الطرق التي فيها التفصيل.
    3. قال تقي الدين أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي في «كفاية الأخبار في حل غاية الاختصار» (ص79): ونقل الداوودي عن نص الشافعي في الجديد أنه يلزمه بذلك وهي فائدة مهمة. اه
    مسألة: هل الكفارة على الوجوب أم على الاستحباب؟

    الصحيح من أقوال أهل العلم أن الكفارة على الوجوب وهذا الذي نطق به الحديث حيث جاء بصيغة الأمر «يتصدق بدينار أو نصف دينار».
    حذف لام الأمر من قوله «يتصدق»، والأمر من الشارع يقتضي الوجوب ولا ينصرف عنه إلا لقرينة تصرفه عن ذلك وليس لهذا الحديث صارف يصرفه عن الوجوب فيبقى على أصله.
    ثم إن الوجوب يناسب ما جاء من تحريم وطء الحائض والتغليظ من فعل ذلك، وأن فاعله إذا ألزم بالكفارة كان زاجراً له من ارتكاب هذا الفعل، وأن العقوبة الحسية أشد زجراً له من الاكتفاء بكون هذا الفعل حراماً، وأن فاعله آثمٌ بخلاف القول بالاستحباب فإنه ينافي ما جاء من تحريم وطء الحائض والتغليظ من فعله، وأنه يشعر بشيء من الاستخفاف بهذه الكبيرة.
    وتقدم ذكر الأئمة الذين قالوا بالوجوب كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عبد الهادي، والشوكاني، وابن قدامة، وابن مفلح، والشافعي، والألباني، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة وغيرهم، وأما من قال بالاستحباب ليس لهم فيما ذهبوا إليه قرينة قوية يعتمد عليها في صرف هذا الأمر، فمنهم من اعتمد في صرف هذا الأمر على عدم قول إمام المذهب بهذا القول فوفق بين الحديث وقول إمامه فجعل الحكم على الاستحباب وليس هذه قرينة، وإنما هو تعصب مذهبي وجعل أقوال الأئمة بمنزلة أقوال النبي ص، وهذا معلوم بالطلان.
    ومنهم من قال إن القرينة الصارفة له هو أن التخيير في المأمور به بين أن يكون قليلاً أو كثيراً من نوع واحد يدل على أن الزائد عن القليل ليس واجباً؛ لأن الدينار الواحد له نصفان وقد أمر مخيراً بين أدائه كله وبين أداء نصف من نصيفه، فإذا أخرج نصف منه كان قد أتى بالمأمور به وكان النصف الآخر في حقه غير واجب فقالوا: ولا يستعمل اللفظ في الوجوب والاستحباب معاً، ومن هذا حملوا الأمر على الاستحباب.
    والجواب: أن يقال إن الوجوب في كل من الدينار ونصفه باق على أصله والذمة تبوأ بإخراج أحدهما.
    ثم إنه لم يخير بين الفعل والترك تخييراً مطلقاً حتى ينافي الوجوب، بل لا يجوز ترك بعضه إلا مشروطاً بفعل البعض الآخر؛ لأن كل واحد منهما يفي بالمقصود الشرعي، فلو ترك جميعها لكان آثماً ولا خيار له في ترك الجميع، وهذا القول الذي ذكروه يقارب قول المعتزلة الذين قالوا: لا معنى للوجوب مع التخيير(
    [12]).
    وقد جاء الشارع بالتخيير بين أشياء من جنس واحد وهي مع ذلك باقية على وجوبها من ذلك قوله ص في الإبل: «فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون»(
    [13]) فأوجب أحدهما وخير في تعيين الواجب([14]).
    وما جاء في التخيير في الوضوء بين غسل الأعضاء مرة مرة أو مرتين مرتين أو ثلاثاً ثلاثاً ولم يقل أحدٌ إن هذا التخيير أفاد استحباب الوضوء؛ لأنه تخيير بين قليل وكثير من نوع واحد.
    قال ابن قدامة وابن تيمية(
    [15]) وغيرهما: فإن قيل فكيف يخير بين الشيء ونصفه، قلنا: كما يخير المسافر([16]
    ) بين قصر الصلاة وإتمامها فأيهما فعل كان واجباً وكذا هنا.
    وقال ابن رجب في «القواعد» (ص6): إذا كفر الواطئ في الحيض بدينار، فإن الكل واجب وإن كان له الاقتصار على نصفه.
    وقال الصنهاجي في كتابه «الفروق» (2/419-420): قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 1-4], وهذا تخيير وقع بين ثلاثة أشياء, كخصال الكفارة, ومع ذلك فالثلث واجب لا بد منه, والنصف والثلثان مندوبان يجوز تركهما وفعلهما أولى, فقد وقع التخيير بين الواجب والمندوب بسبب أن التخيير وقع بين أقل وأكثر. اه
    وأما من ذهب إلى أن الدينار في أول الحيض ونصفه في آخره أو بإعتبار أوصاف الدم, أو غير ذلك من التفاصيل فكل هذا مبنيًا على أحاديث ضعيفة لم يصح منها شيء, كما تقدم, بل الصحيح أن «أو» على التخيير.
    قال ابن قدامة في «المغني» (1/416): وفي قدر الكفارة أنها دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير أيهما أخرج أجزأه, وهذا هو الأصح, قال أبو داود: (الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار)؛ ولأنه حكم تعلق بالحيض فلم يفرق بين أوله وآخره كسائر أحكامه.اه
    وقال ابن تيمية في «شرح عمدة الأحكام» : وهو مخير بين التكفير بدينار أو نصف دينار في أشهر الروايتين على ظاهر الحديث الصحيح في ذلك.
    وقال آبادي في «غاية المقصود» (1/405): وجزم بعض الأئمة أنه للتنويع لا للشك، قال الخطابي في «المعالم»: وكان أحمد بن حنبل يقول هو مخير بين الدينار ونصف الدينار.
    فهذه الكفارة كسائر الكفارات التي جاء فيها التخيير بين أنواع المكفر به، وهذا من يسر الشريعة وسماحة هذا الدين حيث لم يضيق على المخالف من تبرئة ذمته بالأمر الذي يستطيعه من الأمور المأمور بها.



    مسألة: هل على الجاهل والناسي والمكره كفارة؟

    قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح العمدة» (1/465-470): وتجب الكفارة على العالم والجاهل سواء كان جاهلاً بالحيض وبالتحريم أو بهما وكذلك الناسي كالعامد في المنصوص من الوجهين ... وهو أشهر؛ لأن الحديث عام ... ولأن المحرم أو الصائم إذا وطئ ناسياً وجبت الكفارة في المشهور من الروايتين وكذلك هنا.
    وقال ابن عابدين في «حاشيته» (1/494): وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين كونه جاهلاً بحيضها أو لا.
    وقال البهوتي في «كشاف القناع على متن الاقناع» (1/201): والكفارة واجبة بوطء الحائض حتى ولو كان الوطء من ناس ومكره، وجاهل الحيض والتحريم لعموم الخبر، وقياساً على الوطء في الإحرام.
    وغير هؤلاء آخرون ذهبوا إلى هذا القول نكتفي بذكر من ذكرنا؛ لأن حجتهم واحدة في ذلك وهي الاحتجاج بعموم الحديث.
    وممن ذهب إلى عدم الكفارة ابن مفلح في كتابه «الفروع» (1/263)، وعبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي في كتابه «حاشية الروض المربع» (1/379)، والشوكاني في كتابه «نيل الأوطار» (1/276).
    وقال ابن عثيمين رحمه الله في «الشرح الممتع» (1 / 480): ولا تجب الكفَّارة إِلا بثلاثة شروط:
    1- أن يكون عالماً. 2- أن يكون ذاكراً. 3- أن يكون مختاراً.
    فإِن كان جاهلاً للتّحريم، أو الحيضِ، أو ناسياً، ... فلا كفَّارة، ولا إِثم.
    واستدلوا بما يأتي: قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت ... رواه مسلم.
    وحديث ابن عباس: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه.
    وغيره وضعفه ابن رجب في «جامع العلوم والحكم».
    وقال الشاطبي وغيره: الخطأ والنسيان متفق على عدم المؤاخذة بهما، فكل فعل صدر عن غافل أو ناسي أو مخطئ فهو مما عفي عنه، ومن شروط المؤاخذة بالأمر والنهي الذكر والقدرة على الامتثال وذلك في المخطئ والناسي محال.
    والراجح أن هذه المسألة دائرة بين الكفارة والإثم وكل من الفريقين متفقين على عدم الإثم، فبقي الكفارة وليس للذين قالوا بعدم الكفارة دليل، وما ذكروه من الأدلة إنما هو في نفي الإثم والحرج عن الناسي والمخطئ لا عن رفع الحكم الذي فرضه الشارع في ارتكاب هذا الفعل ألم تر إلى قول النبي ص: «من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها»، ومعلوم أن من تعمد ترك صلاة حتى يخرج جميع وقتها، فإنه يكفر على قول ومرتكب لكبيرة على قول، ومع هذا إذا تركها من غير عمد فإنه لا يأثم ومع ذلك فإنه ملزم بأداة الصلاة ولم يسقطها الشارع عنه.
    وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ب وفيه: «إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده: لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس، إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت فرجمها».
    فهذا فيه جهل المتخاصمين بالحكم الشرعي المترتب على الزنا، ومن باب أولى جهل المرأة التي زُني بها ومع هذا لم يعذرهم النبي ص بالجهل، بل أقام عليهم الحكم الشرعي، وفيه أيضاً أن النبي ص إذا جيء إليه بمن وجب عليه حكم شرعي لم يكن يسأل هل وقع فيه عمداً أم جهلاً أم نسياناً وإنما يسأل عن البينة.
    بل حديث ابن عباس ب فيه رد على عدم إسقاط الحكم بالجهل حيث جاء في بعض طرقه عند الطبراني عن ابن عباس أن رجلاً وقع على امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق ... الحديث, وتقدم الحديث, فهذا فيه أن الرجل وقع على امرأته وهو جاهل بالحكم المترتب على هذا الفعل, ومع هذا لم يعذره الشارع من الحكم ..., والله أعلم.
    فإذًا تبقى هذه المسألة على عموم حديث ابن عباس ب: «يتصدق بدينار أو نصف دينار» كما ذكر ذلك الأئمة الذين سبق ذكرهم.



    مسألة: هل تجب على المرأة كفارة؟

    قال شيخ الإسلام : في «شرح العمدة» (1/470): وأما المرأة فلا تجب عليها إن كانت مكرهة ...؛ فأما المطاوعة, ففيها وجهان تخريجًا على الصوم والحج, لكن المنصوص هنا هو الوجوب وهو الصحيح في الجميع, لكن تمكينها من وطء الرجل بمنزلة الوطء في الحد, ففي الكفارة أولى. اه
    قال ابن قدامة : في «المغني» (1/416): وهل تلزم المرأة كفارة المنصوص أن عليها الكفارة, قال أحمد: في امرأة غرت زوجها إن عليه الكفارة, وعليها, وذلك لأنه وطء يوجب الكفارة, فأوجبها على المرأة المطاوعة, ككفارة الوطء في الإحرام ..., وإن كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها. اه
    وقال البهوتي في «كشف القناع عن متن الإقناع» (1/201): وتجب الكفارة على الحائض المطاوعة, ككفارة الوطء في الإحرام فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها لعدم تكليفها. اه
    وكذا قال الدمنهوري في كتابه «الفتح الرباني بمفردات أحمد بن حنبل الشيباني» (1/102).
    وقال ابن عثيمين في «الشرح الممتع» (1/479): وهل على المرأة كفارة ...؟ فقيل: لا كفارة عليها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتصدَّقُ بدينار؛ أو نصفه». وسكت عن المرأة, وقيل: عليها كفَّارة كالرَّجل إِن طاوعته.
    وعلَّلوا: بأن الجنايةَ واحدةٌ، فكما أنَّ عليه ألاَّ يقربها، فعليها ألا تمكِّنه، فإِذا مكَّنته فهي راضيةٌ بهذا الفعل المحرَّم فلزمتها الكفَّارة.
    وأيضاً: تجب عليها قياساً على بقية الوَطء المحرَّم، فهي إذا زنت باختيارها فإِنه يُقامُ عليها الحدُّ، وإِذا جامعها زوجُها في الحجِّ قبل التَّحلُّل الأول فسد حجُّها، وكذا إِذا طاوعته في الصِّيام فسد صومُها ولزمتها الكفارة.
    وسكوتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن المرأة لا يقتضي الاختصاص بالرَّجل، لأن الخطاب الموجَّه للرِّجال يشمَل النِّساء، وبالعكس، إِلا بدليل يقتضي التَّخصيص. اه
    وقال آل عبيكان في «غاية المرام شرح ذوي الأفهام» (1/583): وكذا حكم المرأة الحائض إن طاوعته على وطئها في الحيض فتجب عليها الكفارة ككفارة الوطء في الإحرام، فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها لعدم تكليفها.
    وقال محمد بن الحصني الشهير بالحصكفي: وهل على المرأة تصدق قال في «الضياء»: الظاهر لا.
    وقال ابن عابدين شارحاً لكلام الحصكفي في «حاشيته» (1/494): ويؤيده ظاهر الأحاديث.
    وليس لكلا القولين دليل صريح صحيح فيما ذهب إليه كل منهما، وإنما اعتمد من قال بعدم الكفارة أن الخطاب موجه إلى الرجل ولم يذكر فيه المرأة، ولو أراد المرأة لذكرها وحجة من قال بالكفارة أن الشرع عام يشمل الرجال والنساء ولا يخرج إلى التخصيص إلا بدليل صريح في التخصيص.
    وكون الخطاب موجهاً إلى الرجل؛ لأنه هو السائل ويعلم حكم المرأة من حكم الرجل، ثم إن غالب الأحكام الشرعية موجهة إلى الرجال ويعلم الصحابة رضي الله عنهم أن هذه الأحكام تشمل نساءهم أيضاً، والله أعلم.
    قال عبد الكريم النملة في «الجامع لمسائل أصول الفقه» (ص256): وأكثر أوامر الشرع ونواهيه وخطاباته العامة وردت بلفظ التذكير كقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة : 43]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء : 32] ونحو ذلك، وانعقد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر والنواهي.
    وكذا قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة : 222] فهل هذا الحكم خاص بالرجل أم أنه يشمل المرأة أيضاً من أن تعرض نفسها لزوجها أو سيدها من أجل أن يقع عليها لا شك أنه يشملها الحكم، وهذه الأمور ترجح قول من قال أن عليها كفارة، والله أعلم.



    مسألة إذا حاضت أثناء الجماع؟

    قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح العمدة» (1/465): فإن وطأها طاهراً فحاضت في أثناء الوطء، فإن استدام لزمته الكفارة.
    وهذا على أصح القولين في هذه المسألة؛ لأنه وطء في حال الإباحة، فلما علم بالحيض في الحال نزع فلم يلزم بالكفارة وهذا بخلاف ما إذا علم بالحيض، واستمر في الجماع، فإنه أوقع نفسه في المحظور فيلزم بالكفارة وهذه المسألة أشبه بما إذا كان مجامعاً وطلع عليه الفجر، فقول أكثر أهل العلم أنه ينزع في الحال ويتم صومه ولا شيء عليه، وإن استمر بطل صومه وعليه كفارة وهي أيضاً أشبه بمسألة في الأيمان وهي لو أن رجلاً حلف أن لا يدخل داراً وهو فيها ثم خرج، فلا تلزمه الكفارة ومن قال تلزمه فقوله ضعيف.
    فهذه مسائل متشابهة متقاربة فلا يفرق بينها في أحكامها إلا بدليل صحيح صريح والله أعلم.



    مسألة إذا تكرر الوطء في الحيض؟

    قال في «نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب»: وإن تكرر الوطء في حيضة أو حيضتين فكالصوم إذا تكرر الوطء فيه في يوم أو يومين فلكل حيضة كفارة كما أن لكل يوم كفارة. «تهذيب عبد الله آل بسام» (1/106).
    وقال ابن مفلح في كتاب «الفروع» (1/262-363): وقال القاضي وابن عقيل وأبان بهذا أن من كرر الوطء في حيضة أو حيضتين أنه في تكرار الكفارة كالصوم. ونقله عن ابن مفلح البهوتي في كتابه «كشاف القناع» (1/201).
    وهذا لأن كل وطء مستقل بحاله يوجب التوبة والكفارة، فإذا تكرر الوطء تكررت الكفارة. والله أعلم.
    وينبني على هذا التكرار حكماً آخر ذكره شيخ الإسلام كما في «الاختيارات» (ص27) فقال: وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج ولم ينزجر فرق بينهما كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر. وكذا نقله عنه آل عبيكان في كتابه «غاية المرام» (2/589).
    ووجه كونه يفرق بين من تكرر منه وطء الحائض أنه أتى كبيرة من الكبائر التي نص القرآن على تحريمها، وعلى أنه أذى يتعلق به من المفاسد والأضرار المتعلقة بالمرأة وبالرجل أيضاً، وكذا يكفر إذا استحل الوطء ولو لم يكرر، بل ولو لم يطأها أصلاً قال النووي في «المجموع» (2/359): قال أصحابنا وغيرهم من استحل وطء الحائض حكم بكفره.
    وقال الشوكاني رحمه الله في «النيل» (1/276): تحريم نكاح الحائض بإجماع المسلمين ونص القرآن العزيز والسنة الصريحة، ومستحله كافر.اهـ بتصرف



    مسألة: إذا جامع بعد الحيض وقبل الاغتسال؟

    تقدم تعريف الحيض لغة وشرعاً وإنه شرعاً الدم الخارج من قبل المرأة ... إلخ.
    فإذا لا ينطبق التعريف اللغوي والشرعي على هذه المسألة من أن تسمى حالة حيضاً، وكذا الحديث، فإنه مقيد بإتيان الحائض فلا يصدق على هذه المسألة، فإذا انتفى كون هذه الحالة حيض فلا تلزم الكفارة على من جامع في هذه الحالة، بل هذه الحالة ليس مجمع على تحريم الوطء فيها، بل فيها خلاف معلوم بين أهل العلم مذكور في كتب الفقه.
    قال ابن قدامة في «المغني» (1/416): وإن وطء بعد طهرها وقبل غسلها فلا كفارة عليه ... ولنا أن وجوب الكفار بالشرع إنما ورد بها الخبر في الحائض وغيرها لا يساويها؛ لأن الأذى المانع من وطئها قد زال بإنقطاع الدم.
    وقال ابن مفلح في كتاب «الفروع» (1/262): ولا كفارة إذا كان الوطء بعد انقطاعه وقبل غسلها في المنصوص.
    وقال ابن القاسم في «حاشية الروض المربع» (1/379): وأما بعد انقطاع الدم وقبل الغسل فيحرم ولا كفارة.
    وقال البهوتي في «كشاف القناع» (1/201): ولا تجب الكفارة بوطئها بعد انقطاع الدم وقبل غسلها لمفهوم قوله في الحديث «وهي حائض» وهذه ليست بحائض.
    وقال محمد بن محمود العيني في «النيابة في شرح الهداية» (1/642): ولا كفارة في الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.
    وقال الشيخ عبد الله أبا بطين «رسائل وفتاوى عبد الله أبا بطين» جمع إبراهيم الحازمي (ص170): الوطء بعد الحيض وقبل الغسل أنه لا كفارة فيه.



    مسألة هل حكم النفساء حكم الحائض؟

    كل من تكلم عن أحكام النفاس إنما يذكر نفس أحكام الحيض ويستدل بأدلته؛ لأنه في الحقيقة دم حيض إنما حبس للحمل، فإذا فصل الحمل خرج الدم.
    قال ابن قدامة في «المغني» (1/432): وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً؛ وذلك لأن دم النفاس هو دم الحيض، إنما امتنع خروجه مدة الحمل لكونه ينصرف إلى غذاء الحمل، فإذا وضع الحمل، وانقطع العرق الذي كان مجرى الدم، خرج من الفرج، فيثبت حكمه، كما لو خرج من الحائض.
    وقال النووي في «المجموع» (2/519-520): إذا نفست المرأة فلها حكم الحائض في الأحكام كلها إلا أربعة(
    [17]) أشياء مختلفا في بعضها... ثم قال: وهذا الذي ذكرناه من أن النفساء لها حكم الحائض لا خلاف فيه ونقل ابن جرير إجماع المسلمين عليه، ونقل المحاملي اتفاق أصحابنا على أن حكمها حكم الحائض في كل شيء ولا بد من استثناء ما ذكرته أولاً. اه
    وقال الشوكاني في «النيل» (1/305): وقد وقع الإجماع من العلماء كما في البحر أن النفاس كالحيض في جميع ما يحل ويحرم, ويكره, ويندب, وقد أجمعوا أن الحائض لا تصلي. اه
    وقال ابن قدامة في «المغني» (1/419): والنفساء كالحائض في هذا(
    [18])؛ لأنها تساويها في سائر أحكامها. اه

    وقال شيخ الإسلام في «شرح العمدة» (1/470): ويجب في وطء النفساء(
    [19]) ما يجب في وطء الحائض نص عليه؛ لأنها مثلها. اه
    وقال ابن عابدين(
    [20]
    ) في «حاشيته» نقلا عن غيره: وحكم النفاس حكم الحائض في كل شيء إلا فيما استثنى. اه
    وقال فخر الدين في «بلغة الساغب وبغية الراغب» (ص55-56): وحكم الحيض المنع من ستة أشياء ....؛ فإن وطئ في الفرج فعليه التكفير بدينار أو نصف, وكذلك وطء النفساء. اه
    وقال علاء الدين أبو الحسن المرداوي الحنبلي في «الإنصاف في معرفة الراجح من الإختلاف» (1/330): الصحيح من المذهب أن عليه بالوطء في الحيض والنفاس كفارة, وعليه جمهور الأصحاب. اه
    فتبين من كلام الأئمة هذا أنه يجب على من وطء النفاس كفارة دينار أو نصف دينار, وإذا وطء النفاس قبل الأربعين بعد رؤية الطهر فلا شيء عليه؛ لأنه وطء في حلال, والله أعلم.
    وإذا رجع إليها الدم بعد الطهر؛ فإن كان نفاسًا ثبت له حكم النفاس, وإن كان دم فساد لم يثبت له حكم النفاس.
    قال ابن عثيمين في «الشرح الممتع» (1/449): ويجب عليها أن تتطهر وتصلي وتصوم إذا صادف ذلك رمضان وتفعل كل ما تفعله الطاهر مما يطلب منها, أما مالا يطلب منها, كالجماع مثلاً فلا تفعله لأننا نأمرها بفعل المأمور كالصلاة والصوم من باب الإحتياط والمباح لا احتياط فيه. اه
    وفي مثل هذه الحالة إن جامعها لا كفارة عليه, والله أعلم.
    وأما إذا وقع سقط؛ فإنه يحكم عليه بحسب ما يحكم على الدم الخارج بعد السقط؛ فإن كان دم نفاس فلا يجوز وطأها, ومن وطأها كان عليه كفارة, وإن كان الدم غير دم النفاس فلا كفارة عليه, والله أعلم.
    قال ابن عثيمين في «الشرح الممتع» (1/443-444): والوضع له حالات: أ) أن تضع نطفة, وهذا ليس بحيض ولا نفاس بالإتفاق. ب) أن تضع ما تم له أربعة أشهر, ويخرج معه دم فهذا نفاس قولاً واحداً؛ لأنه نفخت فيه الروح وتيقنا أنه بشر.
    ج) أن يكون أقل من أربعة أشهر فهذا يتبين فيه، فإن كان مخلقاً حكم بأنه نفاس، وإن كانت مضغة غير مخلقة فليس له حكم النفاس.



    مسألة حكم وطء المستحاضة؟

    الاستحاضة هي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة ويخرج نتيجة ورم أو التهاب أو غير ذلك من الأمراض في الرحم أو في عنق الرحم أو في المهبل، وقد يكون خروجه تناول شيء من العقاقير والحبوب أو حالات نفسية. «توضيح الأحكام آل بسام» (1/394).
    وقد وقع الخلاف في وطء المستحاضة فذهب كثير من أهل العلم إلى إباحة وطء المستحاضة وهو الراجح في المسألة؛ لأنها لا تسقط عنها التكاليف، ومن استثنى الوطء فعليه أن يأتي بدليل صريح لهذا الحكم، ومن قاس على الحيض أو استدل بأدلة الحيض فيلزمه أن يعطيها جميع أحكام الحيض.
    قال ابن عثيمين في «الشرح الممتع» (1/439) واستدلوا:
    1- بقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة : 223].
    2- أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم الذين استُحيضتْ نساؤهم وهنَّ حوالي سبع عشرة امرأة، لم يُنقَلْ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أحداً منهم أن يعتزل زوجته، ولو كان من شرع الله لبيَّنه صلّى الله عليه وسلّم لمن استُحيضَت زوجتُه، ولَنُقِلَ حفاظاً على الشريعة، فلما لم يكن شيءٌ من ذلك عُلِمَ أنه ليس بحرام.
    3- البراءة الأصلية، وهي الحلُّ.
    4- أنَّ دم الحيض ليس كدم الاستحاضة، لا في طبيعته، ولا في أحكامه؛ ولهذا يجب على المستحاضة أن تُصلِّيَ، فإِذا استباحت الصَّلاةَ مع هذا الدَّم فكيف لا يُباح وطؤُها؟ وتحريمُ الصَّلاة أعظمُ من تحريم الوَطء.
    ثم قال: وهو الراجح.
    والمذهب الثاني في هذه المسألة تحريم وطء المستحاضة إلا أن هذا التحريم ليس كتحريم وطء الحائض، بل هو أهون لأمور هي:
    1- أن تحريم وطء الحائض نصَّ عليه القرآنُ، أما وطء المستحاضة فإِنَّه إِما بقياس، أو دعوى أن النَّصَّ شَمِلَهُ.
    2- أنه إِذا خاف الرَّجلُ أو المرأة المشقَّة بترك الجِمَاع جاز وطءُ المستحاضة.
    3- أنه إِذا جاز وَطءُ المستحاضة للمشقَّة، فلا كفَّارة فيه بخلاف وطء الحائض.
    فعلى القول بتحريم وطء المستحاضة لا كفارة فيه وكذا دم القروح والجروح التي تخرج من فرج المرأة لا كفارة في الوطء فيها لاختصاص الكفارة بالحيض والنفاس، والله أعلم.
    مسألة إذا وطء امرأته في الحيض وفي نهار رمضان، فإنه يلزم بالكفارتين كفارة الحيض وكفارة الصوم، والله أعلم.



    مسألة هل تسقط الكفارة بالعجز عنها؟

    وهذه المسألة أيضاً اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال بإسقاطها عنه إذا كان معسراً، ومنهم من قال لا تسقط عنه، وتكون ملزمة له في الذمة إلى الميسرة إلا أن القول بإسقاطها عنه لعجزه عنها وإعساره مقارب لأصول الشريعة إذ الشريعة جاءت بعدم التكليف بما لا يطاق قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة : 286] وقال ص: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
    وقد جاء في غالب الكفارات التخيير بين أشياء حتى إذا لم يستطع المكفر أن يفعل أحدها انتقل إلى الآخر الذي يطيقه وقد جاءت لهذه المسألة نظائر سقط فيها الواجب لعدم الاستطاعة كصلاة فاقد الطهورين وصلاة من لا يجد ما يستر به عورته وإسقاط بعض أركان الصلاة عن المريض إذا لم يستطع لذلك وغير ذلك ولم يؤمر أحد من هؤلاء بإعادة الصلاة عند الاستطاعة.
    وممن قال بهذا القول من الأئمة صاحب «نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب» تهذيب عبد الله آل بسام (1/108)، وكذا ابن القاسم في «الروض المربع» (1/379-381)، ونقله عنه آل عبيكان في «غاية المرام» (2/583) والله أعلم.



    مسألة مصرف الكفارة وتقديرها بالجرام؟

    قال شيخ الإسلام «شرح عمدة الأحكام» (1/465): ومصرفها فهو مصرف الكفارات في الوجهين وهم الفقراء والمساكين، وكل من يعطى من الزكاة بخاصة كابن السبيل والغارم لمصلحة نفسه، والمكاتب، وفي الوجه الآخر هم المساكين خاصة.
    وقال البهوتي«كشاف القناع» (1/201): مصرفها أي هذه الكفارة مصرف بقية الكفارات أي إلى من له أخذ زكاة لحاجته، وتجوز إلى مسكين واحد.
    وقال في «نيل المآرب»: ومصرفها إلى من له أخذ زكاة لحاجة كبقية الكفارات ونذر مطلق وتجزي إلى واحد. «تهذيب عبد الله آل بسام» (1/106).
    وقال ابن قدامة: ومصرف هذه الكفارة إلى مصرف سائر الكفارات, لكونها كفارة, ولأن المساكين مصرف حقوق الله تعالى وهذا منها. «المغني» (1/416).
    وخلاصة القول أن الكفارة تكون للفقراء والمساكين؛ لأنهم مصرف حقوق الله, ولأن الشارع غالب ما وجه الصدقات والكفارات إليهم وكذلك قدمهم الله في آية مصارف الزكاة، ولكن مع هذا إذا وجد غيرهم ممن تصرف إليهم الزكاة, وكانوا في حاجة إليها؛ فإنهم يعطوا منها أو تدفع إليهم كاملة, والله أعلم.
    وقال ابن قدامة في «المغني» (1/416): ويجزئ نصف دينار من أي ذهب كان, إذا كان صافيًا من الغش ويستوي تبره ومضروبة لوقوع الاسم عليه. اه
    وقال البهوتي في «كشف القناع» (1/201): ولا يجزئ إخراج القيمة عن الدينار أو نصفه, كسائر الكفارات إلا إذا أخرج القيمة من الفضة كإجزاء أحدهما عن الآخر في الزكاة؛ لأن المقصود منهما واحد. اه
    وأما قيمة الدينار الإسلامي, قال الألباني :: نصف جنية ذهب انكليزي تقريبًا أو ربعها. «آداب الزفاف» (ص122).
    وقال ابن عثيمين :: وزِنةُ الديِّنار الإِسلاميِّ مثقالٌ من الذهب، والجنيه السعودي: مثقالان إِلا قليلاً، فنصف جنيه سعودي يكفي؛ فإذا كان الجنيه السعودي يساوي مائة, فالواجب خمسون أو خمسة وعشرون أو سبعة وعشرون تقريبًا ويدفع إلى الفقراء. «الشرح الممتع» (1/414).
    وقال آل عبيكان في «غاية المرام» (2/589): والدينار الشرعي 24و4جرام. اه
    ويكون نصف الدينار: 12و2جرام.
    فيسأل عن سعره اليومي, ويخرج الكفارة بذلك السعر, والله أعلم.

    فهذا ما يسر الله جمعه من المسائل الحديثية والفقهية المتعلقة بهذا الحديث العظيم, ونسأل الله المزيد من فضله, ونسأله التوفيق والسداد لما يحبه ويرضاه, سبحانه وتعالى, وآخر دعوانا: أن الحمد الله رب العالمين.





    ([1]) ومما يجاب به أيضاً عن الذين يعلون رواية الرفع ويقولون الصحيح في الحديث الوقف أن يقال: إن هذا الحديث الموقوف من قبيل المرفوع حكماً إذ مثل هذا الحكم يستبعد أن يقوله الصحابي من تلقاء نفسه، وأن يلزم الأمة بحكم لم يلزمها به كتاب الله ولا سنة رسوله ص.

    ([2]) ولا يقول قائل إنهما الأعمش وأبو عبد الله الشقري؛ لأن هؤلاء رووه موقوفاً وفرق بين كون الراوي يروي الحديث موقوفاً، وكونه يصرح بأن فلاناً لا يرويه إلا موقوفاً؛ لأن الراوي إذا روى الحديث موقوفاً لا يلزم منه أن لا يكون مرفوعاً؛ لأن الشيخ قد يروي الحديث على الوجهين؛ فيروي كل راوٍ ما سمع أو تصرف من قبل الراوي نفسه, وأما العبارة الثانية ففيها نفي كون الشيخ روى الحديث مرفوعًا.

    ([3]) كأن يوجد مخالف للحكم يرويه موقوفًا, وقد وجد هذا في بعض الطرق, ولكن لم يصح منها شيء من ذلك, ما رواه عبدالرزاق في «المصنف» (1/328) من طريق خصيف, عن مقسم, عن ابن عباس موقوفًا, وخصيف ضعيف.
    ورواه الدارمي (1/272) من طريق ابن أبي ليلى عن مقسم, عن ابن عباس, ومحمد بن أبي ليلى ضعيف.
    وجاء عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس عند البيهقي (1/271) ولم يصح, وجاء عن عكرمة, عن ابن عباس عند النسائي (5/347) ولم يصح.

    ([4]) أي: أنها سماع.

    ([5]) وهذا التشكك لعله وقع في بعض طرق الحديث والروايات الصحيحة عن الحكم جاءت بالجزم على التخيير, وكذا رواه عبدالحميد بن عبدالرحمن, عن مقسم بنفس رواية الحكم, ولم يذكر هذا التردد.

    ([6]) قال ابن جريج: (لزمت عطاء عشرين سنة فربما حدثني عنه الرجل بالشيء لم أسمعه منه). «السير» (6/331-332).
    وقال أيضاً: (إذا قلت: قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل سمعت). «التهذيب»
    فهذا الحكم لا يشمل «عن» وغيرها من ألفاظ التدليس.
    هذا إذا كان عطاء المذكور في الإسناد هو ابن أبي رباح، أما إذا كان عطاء الخراساني وقد أكثر عنه ابن جريج في التفسير، فإن الخراساني لم يسمع من ابن عباس.
    وكذا الإسناد فيه أبو الجواب أحوص بن جواب صدوق ربما وهم كما في «التقريب».

    ([7]) وهذا الكلام بالنص أيضًا في «عون المعبود».

    ([8]) ذكرها أبو داود في «سننه» وذكر أنها لا تصح.

    ([9]) رواية «عتق نسمة» أخرجها النسائي في «الكبرى» (5/349-350) وفيها عبدالرحمن بن يزيد السلمي وهو ضعيف لا يستشهد به, وقد ذكر الذهبي له هذا الحديث مما أنكر عليه فيه. «الميزان» (2/رقم5006) وفيه أيضًا عنعنة الوليد بن مسلم.

    ([10]) انظر «الممتع» لابن عثيمين (1/478).

    ([11]) انظر كتاب «رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل» (1/93).

    ([12]) «روضة الناضر» (1/158).

    ([13]) «صحيح الجامع الصغير» للألباني.

    ([14]) انظر «البحر المحيط» (1/188).

    ([15]) انظر «المغني» (1/416-419)، و«شرح عمدة الأحكام» لابن تيمية (1/465-470).

    ([16]) هذا على مذهب الجمهور وإلا القول الصحيح إن القصر واجب.

    ([17]) ولم يذكر منها الكفارة.

    ([18]) أي: في الكفارة.

    ([19]) وسياق هذا الكلام في ذكر كفارة من أتى الحائض.

    ([20]) وتقدم أن ابن عابدين يقول بالكفارة على وطء الحائض.

  • #2

    تعليق

    يعمل...
    X