بسم الله الرحمن الرحيم
بَابُ اللَّقِيطِ
وَهُوَ طِفْلٌ لاَ يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَلاَ رِقُّهُ، نُبِذَ أَوْ ضَلَّ......................
بَابُ اللَّقِيطِ
وَهُوَ طِفْلٌ لاَ يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَلاَ رِقُّهُ، نُبِذَ أَوْ ضَلَّ......................
قوله: «اللقيط» أعقبه لباب «اللقطة» والمناسبة ظاهرة؛ لأن اللقطة ضياع الأموال، وهذا ضياع الآدميين، فلذلك ناسب أن يجعلوا باب اللقيط بعد باب اللقطة، وإلا فله مناسبات أخرى، كمناسبة باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق، وكذلك في الميراث، لكنه أشبه ما يكون باللقطة فلذلك جعلوه تابعاً لها.
واللقيط في اللغة العربية فعيل بمعنى مفعول؛ لأن فعيلاً في اللغة العربية تأتي بمعنى مفعول في مواطن كثيرة، يقال: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وإلا فالأصل أن فعيلاً بمعنى فاعل، لكنها قد تأتي بمعنى مفعول حسب السياق والقرائن، فلقيط بمعنى ملقوط أي: مأخوذ.
أما في الاصطلاح فقال المؤلف: «وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل» .
فقوله: «وهو طفل» الطفل من دون التمييز.
وقوله: «لا يُعْرَفُ نسبه» أي: لا يدرى لمن هو، فإذا عرف نسبه فليس بلقيط.
وقوله: «ولا رِقُّه» فلا يدرى أهو حر ينتسب إلى فلان بن فلان، أو رقيق يملكه فلان أو فلان؟
وقوله: «نُبِذَ» أي: وجد منبوذاً، ونعرف أنه منبوذ بالقرائن، يعني أن صاحب هذا الطفل قد نبذه وطرحه، لا يريده، وهذا من المعلوم أنه لا يُتصور غالباً إلا فيمن لا يستطيع المشي، كطفل في المهد وجدناه ـ مثلاً ـ في المسجد، أو في الحمامات أو على الأرصفة، وغلب على ظننا أنه منبوذ بقرائن، ومن هذه القرائن أنه إذا نبذ يكتب عليه في مهاده «هذا ليس له أحد» ، وهذا يقع فيما إذا حصل ـ والعياذ بالله ـ زنا ثم وضعت المرأة من هذا الزنا، وقد عُرِف أنها ليست متزوجة فإنها تنبذ هذا الطفل، وأحياناً يكثر هذا في المساجد، وأحياناً يقل، وعلى كل حال إذا نبذ فواضح أنه لقيط.
وقوله: «أو ضل» أي: أو ضاع، وهذا في الحقيقة فيه نظر ظاهر، فإذا علمنا أن هذا الطفل له خمس سنوات أو ست سنوات وقد ضاع عن أهله، وهو الآن يصيح يبحث عنهم، فهل يمكن أن نقول: إن هذا لقيط يأخذه الإنسان ويجعله عنده؟ لا، هذا يشبه اللقطة، بمعنى أنه يجب أن يبحث عن أهله، وهذا يقع كثيراً في مواسم الحج والعمرة، ولكن من توفيق الله لهذه الحكومة ـ الحكومة السعودية ـ أنها جعلت أناساً يتلقون هؤلاء الضائعين، ومن المعلوم أن من ضاع له طفل في هذه السن، فإنه أول ما يذهب إلى الشرطة الذين يتلقون هؤلاء، فيحصل بهذا خير كثير.
وظاهر كلام المؤلف: أن من وجده أخذه على أنه لقيط، ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فالصواب إذاً أن اللقيط طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ فقط، ولا نقول: أو ضل، بل نقول: إن الضال يُبحث عن أهله.
ولهذا اقترح بعض الناس اقتراحاً جيداً قال: ينبغي في المواسم ـ أي: مواسم الحج أو العمرة ـ أن يكتب على ظهر كل إنسان صغير بطاقة هذا فلان بن فلان، ورقم هاتف أبيه كذا وكذا، وهذا طيب؛ لأنه يستريح الذي يجده ويستريح أهله أيضاً، والآن بعض الحجاج الذين يقدمون من بلاد بعيدة يكتب على إحراماتهم، فإذا كان الحاج وهو بالغ عاقل يكتب عليه لئلا يضيع فكيف بالأطفال؟ فهنا من المستحسن أن من معه طفل في هذه المواسم، أن يجعل كتابة على ظهره حتى يستريح الجميع.
وَأَخْذُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ حُرٌّ، وَمَا وُجِدَ مَعَهُ، أَوْ تَحْتَهُ ظَاهِراً أَوْ مَدْفُوناً طَرِيّاً أَوْ مُتَّصِلاً بِهِ كَحَيَوانٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، فَلَهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ،......
قوله: «وأخذه فرض كفاية» يعني إذا وجد هذا اللقيط، فإنه يجب على المسلمين أن يأخذوه؛ لأنه آدمي محترم فصار حفظه فرض كفاية، وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فما طُلب فعله من كل أحد فهو فرض عين أو سنة عين، وما كان الغرض منه إيجاد الفعل فقط صار كفاية إما فرض وإما سنة، فأخذ اللقيط ليس مطلوباً من كل أحد، بل المطلوب حفظ هذا الطفل فيكون فرض كفاية.
ولكن هل يجب على أول من يراه أن يأخذه؟
نقول: هذا هو الأصل، فيجب على أول من يراه أن يأخذه؛ لأننا لو لم نقل بهذا وقلنا للأول: ليس هناك مانع أن تتركه، وجاء الثاني وقلنا له كذلك، فهنا لا شك أنه سوف يضيع الطفل، لا سيما إذا كان في أيام الصيف والحر فيحتاج إلى رعاية، أو أيام الشتاء والبرد في البلاد الباردة، فعلى هذا نقول: هو فرض كفاية، لكن يجب على أول من يجده أن يأخذه، إلا إذا رأى شخصاً آخر يقول: دعه لي، فهنا نقول: حصلت الكفاية.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين؟ منهم من رجح فرض الكفاية، وقال: إن القائم به يسقط الفرض عن جميع الناس، فكأنه حصل على أجر جميع الناس، ومنهم من قال: فرض العين أفضل؛ لأنه طلب من كل واحد، وهذا القول هو الراجح بلا شك؛ لأنه لولا أن الله تعالى يحبه ويحب من عباده أن يقوموا به جميعاً ما جعله فرض عين.
وفي وقتنا الحاضر والحمد لله ـ عندنا في السعودية ـ الحكومة جعلت لهؤلاء دوراً معينة تسمى دور الرعاية أو ما أشبه ذلك، فهنا يؤخذ هذا الطفل ويجعل في دار الرعاية، لكن لو أراد لاقطه أن يكون عنده في حضانته فهل يمنع؟ لا، لا يمنع، لكن لا بد من شرط، وسيأتي إن شاء الله.
قوله: «وهو حر» الضمير يعود على اللقيط، فلا يقول واجده إنه عبد وأنا أخذته فهو عبد لي أبيعه وأشتري بدله، حتى لو كان في حي أهله عبيد فإنه حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية.
قوله: «وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه فله» أي: للقيط، «ما» مبتدأ، والخبر «فله» ، وقوله: «وما وجد معه» أي: مع اللقيط، مثل أن يكون في جيبه أو معلقاً في رقبته أو ما أشبه ذلك، فهذا له وليس لقطة، وهذا يقع أحياناً في اللقطاء، يجعل الذي نبذهم في رقابهم، إما دراهم، أو طعاماً، أو وعاء لبن ـ حليب ـ فيكون له، كذلك ما وجد تحته فهو له، مثلاً لو كان هذا اللقيط مضطجعاً ووجدنا تحته صرة دراهم فهي له.
يقول المؤلف سواء كان «ظاهراً» يعني غير مدفون، «أو مدفوناً طرياً» يعني دفنه قريب، فإن وُجد تحته مدفوناً لكنه قديم فليس له؛ لأن قرينة الحال تدل على أنه ليس له، لكن إذا كانت الأرض منفوشة، ووجدنا تحت هذا المنفوش دراهم والطفل فوقه، فهذه الدراهم الموجودة تكون للطفل.
فإن قال إنسان: كيف تكون له وهي مدفونة؟ قلنا: ربما يكون الذي نبذه دفن هذه النفقة حفاظاً عليها؛ لأنه من الجائز أن الطفل ينقلب فتبرز الدراهم.
وقوله: «أو متصلاً به» يعني ما وجد متصلاً به، كطفل منبوذ وجدنا سخلة (1) صغيرة مربوطة به، فتكون هذه السخلة له؛ لأن ربطها به يدل على أن صاحبها قد جعلها له.
وقوله: «كحيوان وغيره» يعني كإبريق أو إناء أو كيس من الطعام أو أي شيء.
وقوله: «أو قريباً منه» هذه تحتاج إلى تفصيل، فإذا وجد شيء قريب منه فهو له، وهذا مسلم إذا كان هناك قرينة تدل على أنه له، وإلا فيكون القريب منه لقطة؛ لأن الأصل عدم الملك، لكن إذا وجدت قرينة، مثل أن يكون الطفل ملفوفاً بخرقة وما حوله ملفوف بخرقة مثلها، فإنه يدل على أنها تبع له، فقوله: «قريباً منه» ينبغي أن يقيد بما إذا كان هناك قرينة.
قوله: «ويُنفق عليه منه» أتى بـ «يُنْفَق» المبني للمجهول؛ لأجل أن يشمل كل من ذكرنا أنه يتولى الإنفاق عليه، والذي ينفق هو الواجد، فينفق على هذا اللقيط مما وجد معه بدون إذن الحاكم؛ لأنه وليه.
وَإلاَّ فَمِنْ بَيْتِ المَالِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَحَضَانَتُهُ لِوَاجِدِهِ الأمِينِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ حَاكِمٍ، ومِيرَاثُهُ، وَدِيَتُهُ، لِبَيْتِ المَالِ،...........
قوله: «وإلا» يعني وإن لم يوجد شيء معه.
قوله: «فمن بيت المال» إذا كان الحصول على بيت المال يحتاج إلى وقت، إلى أوراق ومعاملة تدور بين الدوائر، والطفل الآن محتاج إلى رضاعة فماذا نعمل؟ ينفق عليه الواجد؛ لأن الإنفاق عليه فرض كفاية، فإذا كانت المعاملة تحتاج إلى مدة قلنا أنفق الآن.
وهل إذا أنفق يرجع على بيت المال أو لا؟ فيه تفصيل: إن نوى الرجوع رجع، وإن لم ينوِ الرجوع فقد قام بواجب عليه ولا يرجع به على أحد، ولكن إذا لم ينتظم بيت المال تكون على من علم بحاله من المسلمين، وأول من علم بحاله الملتقط.
وبيت المال الذي يتكلم عنه الفقهاء هو الموضع الذي يجمع فيه المال الذي تتولى إدارته الدولة ويمول من عدة أشياء، منها خمس الخمس في الغنيمة وهو الذي يكون لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الأموال المجهول صاحبها، ومنها تركة من لا وارث له، ومصادر بيت المال تكون في مصالح المسلمين عموماً، ومنها الإنفاق على اللقطاء.
قوله: «وهو مسلم» أي: اللقيط «مسلم» يعني يُحكم بإسلامه؛ لأن الأصل أن كل مولود يولد على الفطرة، لكن بشرط أن يكون في بلاد إسلام خالصة أو بالأكثرية، فإن كان في بلد كفار، كرجل سافر إلى بلاد الكفر لتجارة أو زيارة أو علاج، فوجد لقيطاً، وأهل البلد كلهم كفار، فهنا نحكم بكفره تبعاً للدار؛ لأن الدار دار كفر، وتبعاً للقرينة؛ لأن الغالب أن من كان في بلد كل أهله كفار أو غالبهم أنه منهم.
وقيل: بل هو مسلم مطلقاً، وهو ظاهر كلام المؤلف، وهو الصحيح حتى وإن وجد بدار كفر؛ وذلك لأن نسبه مجهول، فإذا لم يكن له أب ينسب إليه قرابةً، فإنه ليس له أب ينسب إليه ديناً من باب أولى، فانقطعت التبعية وإذا انقطعت التبعية فكل مولود يولد على الفطرة؛ لأن الطفل إنما يتبع أبويه في الكفر إذا كان أبواه كافرين، وعليه فالراجح أنه مسلم يحكم بإسلامه حتى وإن وجد في دار كفر، صحيح أنه إذا وجد في دار كفر فإن الغالب أنه من هؤلاء الكفار، لكننا نقول: إن انقطاع تبعيته نسباً يستلزم انقطاع تبعيته ديناً؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» (2) وهذا الطفل ليس له أبوان، فلما انقطعت تبعيته في الأبوين من حيث النسب فلتنقطع من حيث الدين، ونرجع إلى الأصل وهو الفطرة.
وإذا حكمنا بإسلامه ترتب عليه أحكام، وكان له ما لمسلمين وعليه ما على المسلمين، فلو مات هذا الطفل قبل أن يبلغ فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين، وسيأتي لمن يكون ميراثه، وإذا مَيَّزَ وأراد أن يكون كافراً اعتبرناه مرتداً، ومعلوم أن هناك فرقاً بين الكافر المرتد والكافر الأصلي، فالكافر الأصلي يبقى على دينه ولا نجبره على الإسلام، أما الكافر المرتد نجبره أن يسلم وإلا قتلناه.
قوله: «وحضانته لواجده الأمين» يعني ضمه، وتربيته، وكفالته تكون لواجده، لكن بشرط أن يكون الواجد أميناً، فإذا كان الذي وجده امرأة وهي أمينة لا نخشى عليه بوجوده عندها، فحضانته للمرأة، وإذا كان رجلاً أميناً فحضانته للرجل، أما إذا كان غير أمين مثل أن يكون فاسقاً، أو مشهوراً باستلاب الأموال فإنه لا حضانة له؛ لأن المقصود بالحضانة في كل أحوالها حفظ المحضون والقيام بمصالحه، فإذا عرفنا أن الواجد ليس بأمين فلا حضانة له، والحاكم يجعل حضانته لشخص أمين، ومن هنا نعرف أن الحضانة لها أهمية كبيرة، وليست الأم أولى بها من الأب مطلقاً، ولا الأب أولى بها من الأم مطلقاً، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ في باب الحضانة: إن المحضون لا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه مهما كان حتى لو كانت الأم.
قوله: «وينفق عليه بغير إذن حاكم» أي: ينفق عليه الواجد دون أن يستأذن من القاضي؛ لأن الحضانة له، وينفق عليه مما معه، وسبق أن ما كان معه أو قريباً منه أو مدفوناً طرياً فهو له، فإن لم يكن معه مال فمن بيت المال، والواجد هو الذي يدبر النفقة اليومية حسب ما تقتضيه المصلحة.
قوله: «وميراثه وديته لبيت المال» «ميراثه» إن خلف مالاً «وديته» إن قُتِل خطأ أو عمداً واختيرت الدية لبيت المال؛ لأنه ليس له وارث، وأسباب الإرث ثلاثة: النكاح، والنسب، والولاء، وهذا ليس له سبب، لا نكاح ولا نسب ولا ولاء فيكون ميراثه لبيت المال.
ولو تزوج هذا اللقيط وأتاه أولاد فميراثه لورثته، للزوجة إن بقيت معه ولأولاده، لكن إذا لم يتزوج فميراثه يكون لبيت المال.
وديته إن قتل فهي لبيت المال؛ لأن الدية في حكم الموروث، ولهذا لو أوصى الإنسان بثلثه وأحصينا ماله بعد أن قتل، فإننا نضم الدية إلى المال، ويخرج ثلث الدية كما يخرج الثلث من بقية المال، وهذا هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أن ميراثه وديته لواجده، وهو الصحيح لحديث رواه أهل السنة وهو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تحوز المرأة ثلاثة: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» (3) وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ومعلوم أن هذا أولى من أن نجعله في بيت المال؛ لأن بيت المال ينتفع به عامة المسلمين، لكن هذا ينتفع به الواجد الذي تعب عليه وحضنه، وربما يكون هو السبب ـ أيضاً ـ في تحصيل المال، فالصواب هذا القول وأن من أسباب الإرث الولاء بالالتقاط.
وَوَلِيُّهُ فِي العَمْدِ الإمَامُ يُخَيَّرُ بَيْنَ القِصَاصِ وَالدِّيَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ لَحِقَ بِهِ،..........
قوله: «ووليه» أي: ولي اللقيط.
قوله: «في العمد» أي: فيما إذا قتل اللقيط عمداً.
قوله: «الإمام يخير بين القصاص والدية» فأيهما كان أنفع فعله، أحياناً يكون القصاص أنفع وأحياناً تكون الدية أنفع، وإذا ترددنا فالدية.
ويكون القصاص أنفع إذا كان الذي قتله عمداً معروفاً بالشر والفساد والعدوان فهنا القصاص أنفع، فلو قال قائل: أنتم إذا اقتصصتم منه فوَّتُّم ديته على بيت المال، قلنا: إذا نظرنا إلى المصلحة العامة رجحنا القصاص.
وأحياناً يكون القاتل عمداً ليس معروفاً بالشر والفساد، وربما يكون عن نزاع بينه وبين هذا اللقيط فقتله، فهنا قد نقول: إن أخذ الدية أفضل، ولكن هل هذا التخيير بين القصاص والدية تخيير إرادة أو تخيير مصلحة؟ الثاني، تخيير مصلحة، وكل من خُيِّر بين شيئين وهو متصرف لغيره فالمراد المصلحة، أما من خير بين شيئين للتوسيع عليه ولا يتعلق بغيره فهو تخيير إرادة؛ لأن المقصود به الرفق بالمكلف.
بقي قسم ثالث وهو العفو، لكن هنا لا يمكن العفو؛ لأن العفو معناه أن لا يكون لهذا اللقيط الذي قتل عوض فتفوت فيه المصلحة العامة أو الخاصة، فيخير الإمام بين القصاص والدية فقط.
وقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «ووليه في العمد الإمام» ولم يقل: أو نائبه، ولم يقل: الحاكم، الذي هو القاضي، فيقال: أما الأول فقد علم في كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن نائب الإمام يقوم مقام الإمام، فمثلاً في عُرْفنا الآن في مسألة القصاص والحدود وما أشبهها، نائب الإمام في هذا وزير الداخلية، ووزير الداخلية له نواب وهم الأمراء والمحافظون، فعلى هذا نقول: الإمام أو نائبه، كما جرى ذلك في كلام الفقهاء في مواضع كثيرة، وأما الحاكم فيتولى القضاء، وإذا كان الإمام قد خلفه في مثل هذه الأمور فهو نائبه في ذلك.
قوله: «وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده لحق به» إن أقر رجل أنه له، فإننا نلحقه به بدون بينة ولو بعد موت اللقيط؛ لأن الشرع يتشوَّف إلى إلحاق الأنساب؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فالشارع له تشوُّفٌ في إلحاق النسب، ولهذا حرم على الإنسان أن يتزوج المرأة في العدة؛ لئلا تختلط الأنساب وتشتبه.
مثاله: رجل علم باللقيط، فجاء إلى القاضي أو إلى الأمير أو إلى المحافظ، وقال: هذا ولدي، فإنه يلحق به بشرطين:
الأول: ألا يتبين كذب الدعوى، مثل أن يأتي وله عشر سنوات ويقول: الولد ولدي، فإن هذا لا يمكن، أو يأتي وهو له عشرون سنة واللقيط له اثنتا عشرة سنة، فإن هذا لا يمكن ويستحيل عادة، فإذا لم تمكن صحة الدعوى فإنه لا يقبل.
الثاني: ألا ينازعه أحد، فإن ادعاه اثنان فسيأتي في كلام المؤلف.
وقوله: «أو امرأة ذات زوج» فلو ادعت امرأة ذات زوج أنه ولدها فإنه يقبل، ولو أنكر زوج المرأة، وقال: ليس هذا ولداً لي، ألحق بالمرأة ولم يلحق بالزوج؛ لاحتمال أن يكون هذا الولد أتاها قبل أن تتزوج هذا الرجل، أو أنها وطئت بشبهة أو بزنا وزوجها لا يريد أن يستلحقه، وإن لم تكن ذات زوج فإنه يلحق بها ـ أيضاً ـ من باب أولى؛ لأنه إذا كانت ذات الزوج تقبل دعواها أنه ولدها، فمن لم يكن لها زوج من باب أولى، اللهم إلا إذا كذبها الواقع، مثل أن تكون بكراً وتقول: هذا الولد لي، فلا يقبل، وهذه المسألة ـ أي: إذا ادّعته امرأة ـ اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يلحق بها مطلقاً؛ لأن المرأة ليست ذات نسب، فالناس يلحقون بآبائهم فلا فائدة من استلحاقها له.
الثاني: أنه يلحق بها ـ وهذا ما مشى عليه المؤلف ـ مطلقاً سواء ذات زوج أو ليست ذات زوج فهو لها، ثم إن أقر زوجها فهو له ـ أيضاً ـ وإلا فهو لها هي، وقالوا: إنه وإن كان لا ينسب إلى أمه لكن أمه تستفيد من ذلك بأن يكون ولدها يرثها وترثه، ومن الممكن أن يكون ولداً لها وإن لم تكن زانية، فقد توطأ بشبهة أو مكرهة، فإذا قالت: هذا ابني، فإننا نلحقه بها حتى وإن لم يقبل الزوج.
الثالث: إن كانت ذات زوج لم يلحق بها لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش» وهنا الزوج لم يدع أنه ولده، وإذا ألحقناه بها صار في ذلك عار على الزوج، فيلزم أن تكون زانية أو موطوءة بشبهة، وهذا هو أحسن الأقوال.
وقوله: «مسلم أو كافر» يعني سواء كان المقِر بأنه ولده مسلماً أو كافراً، إن كان مسلماً فالأمر ظاهر ولا إشكال فيه، وإذا كان كافراً فإننا نلحقه به لكننا لا نمكنه من حضانته، نقول: نعم الولد ولدك لكنه محكوم بإسلامه ولا حضانة لك عليه.
والفائدة من إلحاقه به النسب، وهذا الكافر ربما يسلم في يوم من الأيام، فيرد اللقيط إليه ويتوارثان، والشارع له تشوف بالغ في إلحاق النسب.
وقوله: «لحق به» أي: صار ولداً له، وصار أولاد المدعي إخوة له.
وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ اللَّقِيطِ، وَلاَ يَتْبَعُ الكَافِرَ فِي دِينِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ،........
قوله: «ولو بعد موت اللقيط» هذه إشارة خلاف، يعني أنه يلحق به ولو بعد موت اللقيط، وهو المذهب؛ لأن للشارع تشوفاً بإلحاق النسب، ولم يدعه أحد فليكن ولداً له.
والقول الثاني: أنه بعد موت اللقيط لا نطلق أنه يقبل، بل في ذلك تفصيل، إن كان هناك تهمة، فإنه لا يلحق به، والتهمة مثل أن يكون لهذا اللقيط أموال كثيرة، فيدعي بعد موت اللقيط أن اللقيط ولده؛ من أجل أن يرث هذه الأموال، فهذا لا نقبل دعواه؛ لأن التهمة هنا قائمة قياماً تاماً، ثم أي فائدة ـ من حيث النسب ـ نحصل عليها وهو قد مات، ولم يخلف ذرية ولا شيئاً؟! وهذا القول هو الصواب، أنه بعد موت اللقيط إذا قامت التهمة والقرينة ـ مثلاً ـ على أنه إنما يريد المال، فإننا لا نلحقه به.
قوله: «ولا يتبع» الضمير يعود على اللقيط.
قوله: «الكافرَ في دينه» أي الكافر الذي ادعاه، نحكم بأنه ولده ولا نحكم بأنه على دينه؛ لأنه سبق لنا أن اللقيط مسلم.
قوله: «إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه» فإذا أقام بينة بأنه ولد من زوجته أو أنه ولد من سُرِّيَّتِهِ، فهنا لا بد أن نلحقه به نسباً وديناً حتى يبلغ سن التمييز، ويختار من الأديان ما شاء، أما إذا ادعاه وليس له بينة فإن يتبع الكافر نسباً ولا يتبعه ديناً.
واستفدنا من قوله: «ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينة» أن ولد الكافر يتبع الكافر في الدين، فإذا مات طفل أبواه كافران، فإن هذا الطفل كافر حكماً في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين؛ لأنه كافر حكماً، أما في الآخرة فالصحيح أن أولاد المشركين يمتحنون، بمعنى أن الله ـ عزّ وجل ـ يسألهم في الآخرة ويكلفهم بأشياء الله أعلم بها، فمنهم من يطيع ومنهم من يعصي، فمن أطاع استحق ثواب المطيع ومن عصى استحق ثواب العاصي، هذا هو أصح الأقوال في أطفال المشركين وفيمن لم تبلغهم الدعوة من المكلفين، فحكمهم في الدنيا كفار؛ لأنهم لا يدينون بالإسلام، وفي الآخرة كما سبق.
وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالرِّقِّ مَعَ سَبْقِ مُنَافٍ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ كَافِرٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَاهُ جَمَاعَةٌ قُدِّمَ ذُو البَيِّنَةِ، وَإِلاَّ فَمَنْ أَلْحَقَتْهُ القَافَةُ بِهِ.
قوله: «وإن اعترف بالرق مع سبق منافٍ أو قال: إنه كافر لم يقبل منه» قوله: «وإن اعترف» الضمير يعود على اللقيط، بأن قال: لما كبر وأصبح يصح منه الإقرار: إنه رقيق لفلان، نظرنا إن سبق ما ينافي دعواه لم نقبل منه، مثل أن كان هذا اللقيط يتصرف ببيع وشراء وكل شيء، ثم قال: إنه رقيق، فهنا لا نقبل؛ لأن هذا الرجل كان يتصرف بنفسه ولا يقول: إني أراجع سيدي أو ما أشبه ذلك فلا نقبل؛ لأن إقراره ينافيه حاله السابق، وأما إذا لم يسبق منافٍ فإنه يقبل.
والقول الثاني وهو المذهب أنه لا يقبل؛ لأن الحرية والرق حق لله ـ عزّ وجل ـ: إلا إذا أقام من أُقِرَّ له بينة على أنه رقيقه، فإننا نحكم بالبينة لا بإقرار اللقيط، وهذا أحسن مما ذهب إليه المؤلف.
وقوله: «أو قال: إنه كافر» أي اللقيط فإننا لا نقبله؛ لأننا حكمنا بإسلامه، وفائدة رد قوله: إنه كافر، أنه إذا أصر على الكفر صار مرتداً، فيقال له: إما أن تسلم وإما أن تُقتل؛ لأن المرتد لا يقبل منه البقاء على ردته، لكن لو كان كافراً من الأصل أبقيناه على كفره، وأخذنا منه الجزية حسب ما تقتضيه الشريعة.
قوله: «وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة» «إن ادعاه» أي اللقيط «جماعة» كل واحد قال: هذا ابني، فإن أقام أحدهم بينة أنه ابنه وولد على فراشه فهو له.
قوله: «وإلا فمن ألحقته القافة به» أي: إذا لم يكن لأحدهم بينة فإننا نعرضه على القافة، والقافة جمع قائف كالصاغة جمع صائغ، وهم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، وبنو مدلج من العرب مشهورون بهذا، ولهذا لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على عائشة ـ رضي الله عنهاـ ذات يوم، مسروراً تبرق أسارير وجهه، فسألته فقال لها: «ألم تري إلى مجزز المدلجي دخل على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ، وهما قد تغطيا برداء وقد بدت أقدامهما، فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض» فَسُرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة هذا الرجل القائف الذي لا يعرفهما ولا يعرف أمرهما؛ وذلك أن قريشاً كانت تطعن في نسب أسامة بن زيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن أسامة أسود وزيد أبيض، وتقول: هذا ليس ولداً لهذا، وهذا لا شك أنه يُهِمُّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن زيداً مولاه، وأسامة ابن مولاه، وكلاهما مولى، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحبهما ومعلوم أن الطعن فيهما ليس بأمر هين على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فشهادة هذا القائف تزيده سروراً.
المهم نعرضه على القافة، وكيف نعرضه على القافة؟ هذا يرجع فيه إلى الأساليب المعتادة، إما بأن يعرض الوجه وتستر الأجسام، أي: يجعل حائل ويعرض الوجه، وإما أن تعرض الأقدام؛ لأن الأقدام ـ سبحان الله ـ دليل واضح على الوجوه، حتى إنه عندنا هنا في البلد أناس يعرفون الرجل بقَدمِه، فإذا رأى القدم ورأى أصابعه قال: كأنني أشاهد وجهه ـ سبحان الله! ـ حتى إنه إذا تسلق الجدار، وكانت الجدران من قبل من الطين تتأثر بالأصابع، فإذا سرق ـ مثلاً ـ وتسلق الجدار عرفه بإبهامه فقط، ويقول: كأنني أشاهد وجهه، وإذا دخل على حوش الغنم، وسرق وخرج ورأى أثر أقدامه في الرمل، قال: هو فلان، فالمهم أن الوجوه والأقدام تدل على النسب؛ لأن مجززاً المدلجي ـ رضي الله عنه ـ إنما رأى أقدامهما.
ولا فرق بين أن يكون الأول مدعياً أو الثاني أو الثالث، يعني لو أن أحدهم جاء في الساعة الواحدة والآخر في الساعة الثانية والثالث في الساعة الثالثة، وكلهم ادعى أنه ولده، فإننا نعرضه على القافة فمن ألحقته به لحقه، لكن بشرط أن يكون مجرباً بالإصابة.
وقول القافة في الأنساب معتبر، فهل يعتبر قول القافة في الأموال، بمعنى أن القائف إذا رأى قدم السارق، وقال: هذا فلان بن فلان، فهل يؤخذ به، أو يقال: إنه قرينة ويؤتى بالرجل إن أقر وإلا برئ؟ فيها خلاف بين العلماء: منهم من قال: إذا عرف بالإصابة بالتجربة فإنه يؤخذ به، وكما ذكرنا هؤلاء القافة ربما يشهدون شهادة على أن هذا قدم فلان بن فلان، وليس عندهم فيه شك، فيكون قرينة، وفي قضية داود وسليمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78، 79] استدل بالأثر على المؤثر.
وإذا ألحقته القافة باثنين، وقالت هو ولد لزيد وعمرو، فهل يلحق بهما؟ قال الفقهاء: يلحق بهما، وأنه يمكن الحمل من رجلين، لكن علماء الطب المعاصر يقولون: لا يمكن أن يكون ولد من شخصين، فيدرس الموضوع وينظر، هل ما قاله الفقهاء هو الواقع أو لا؟ لأن الفقهاء ربما يقولون بالشبه، فإذا كان يشبه هذا وهذا فإنه يلحق بهما، والشبه أحياناً يكون الرجل مشابهاً لرجل ليس من قبيلته فضلاً عن كونه أباً أو أخاً.