<center>ثبوت قاعدة
من علم حجة على من لم يعلم في كل زمان ومكان
وبيان تمويه الشيخ محمد بن عبدالوهاب –هداه الله-
كتبه
أبو حاتم سعيد بن دعاس المشوشي اليافعي
قرأها وأذن بنشرها فضيلة العلامة المحدث الناصح الأمين
أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري – أيده الله وأعز شأنه-
**حمل الرسالة من**
**الخزانة العلمية**
**لشبكة العلوم السلفية**
من علم حجة على من لم يعلم في كل زمان ومكان
وبيان تمويه الشيخ محمد بن عبدالوهاب –هداه الله-
كتبه
أبو حاتم سعيد بن دعاس المشوشي اليافعي
قرأها وأذن بنشرها فضيلة العلامة المحدث الناصح الأمين
أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري – أيده الله وأعز شأنه-
**حمل الرسالة من**
**الخزانة العلمية**
**لشبكة العلوم السلفية**
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في الناس بقية صالحة تذب عن حياض الحق ومعينه الصافي, وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أوضح الله به المحجة, وأقام به الحجة, وترك الناس على مثل البيضاء, فلا يزيغ عنها إلا هالك, أما بعد:
فإن من الثوابت الشرعية, والأصول السلفية, أن: (من علم حجة على من لم يعلم), وهي قاعدة ينظوي تحتها من القواعد, أن: (الجرح المفسر مقدم على التعديل), وأن: (المثبت مقدمٌ على النافي), وأن: (أهل البلد أدرى بما فيه, وأهل مكة أدرى بشعابها), وأن: (بلدي الرجل مقدم على غيره), ونحو ذلك من القواعد.
وثبوت هذه القاعدة, وما انظوى تحتها من المسلمات عند أهل السنة, وقد كتب في شواهدها ودلائلها أخونا الفاضل عبدالله الأشموري في رسالته المسماة: "واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون), فأوعى وكفى.
ولأصالة هذا الأصل وأهميته العظيمة في جوانب كثيرة من الشرع ذات أهميةٍ, كجانب محاججة أهل الأهواء وإدانتهم بالانحرافات والأباطيل, كم سعى أهل الأهواء وجدُّوا في إيراد الشبهات والمعارضات والتلبيسات لإهداره, وإلغاء العمل به, كي يتسنى لهم بثُّ انحرافاتهم, ويخلو لهم الجو لإضلال الناس وإفسادهم, وصدهم عن الحق, ولا زال رجال الحق يذبون عن حياضه, ويفندون ما يورده أهل الباطل من الشبهات, ويكشفون عن زيفها, كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين). رواه مسلم عن عدة من الصحابة.
فتارةً يقولون: (هذه غيبةٌ), وتارةً: (هذا من تتبع الزلات والعورات), وتارة: (هذا من الطعن في الأعراض), وتارةً: (هذا من القيل والقال), وتارةً: (نصحح ولا نهدم الأشخاص), وتارة: (ننصح ولا نفضح), وتارة: (لا يلزم الولاء والبراء في الاختلاف في الأشخاص), وتارة: (ليس في الكلام في الأشخاص إلزام), وتارةً: (لا نقبل الجرح حتى نقف عليه بأنفسنا), وهذا هو التثبت المبتدع. وغير ذلك من التأصيلات الضالمة, الضال أهلها, التي قُصدَ بها المحاماة عن الباطل وأهله, وإهدار الحق, وتقديم قول من علم على من لم يعلم, ومن أثبت على من نفى.
ولقد نزل شريط للشيخ محمد بن عبدالوهاب الوصابي –هداه الله-, أورد فيه شبهةً ظاهرةً في البطلان, ومجانبة الصواب, أتى فيها على هذا الأصل الذي قام عليه دين الله, فاقتلعه من جذوره, وصيَّره هباءً منثوراً, للتوصل إلى إهدار الحقائق الثابتة عن عبدالرحمن العدني وحزبه المفسد, التي أدينوا بها, ودلَّت على فتنتهم وتحزبهم وانحرافهم, بما لم يقدر عبدالرحمن العدني وحزبه أن ينطقوا ببنت شفةٍ للانتفاء والتخلص منه, (ولَيسَت الثَّكلى كالمُستَأجرة).
وبما أن الشيخ محمد –هداه الله- بثَّ هذا الكلام في الساحة, وعلى موقع الإنترنيت, كان من المهمِّ –جداً- بيان ما في كلامه من التمويه والمغالطة والتلبيس, لأن الباطل إذا لم يُبيَّن بطلانه, لبَّس على الناس دينهم, وشوَّش عليهم الحق, وتمكن من قلوب العاجزين عن إدراك بطلانه, فيصعبُ بعد ذلك اقتلاعه, إلا بالجهد الجهيد.
وهذا نصُّ كلامه: (لمَّا تقول: نحن أعلم شابهت المبتدعة في إدخال البدع, فإذا نصحوا قالوا: بأن فلان ما يفهم, أو ما يعرف, أو أو ردوا نصيحة العلماء بأي أسلوب, يا أخي في الوقت هذا من كان في دماج, أو في عدن,أو في مكة, أو في البيضاء, أو في بعدان, أو, أصبح الآن المجتمع كقرية واحدة, أمور الأخبار طارت شرقاً وغرباً, وهواتف حتى عند بايعي البصل, جوالات عند بايعي البصل, المسألة ما صارت صعبة, وهذا له أصحاب, وهذا له أصحاب, وهذا يأتيه بالأخبار, وهذا يأتيه بالأخبار, فهذه الشبهة ما تنطلي على العلماء, أن تقول: نحنُ أعلم, كيف العلماء ما يفهمون, يعني الأخبار تصل إليهم إلى حدِّ التواتر, تأتيهم لا من شخصٍ, ولا من اثنين, ولا من ثلاثة, ولا من أربعة, ولا من خمسة, ولا من ستةٍ, ولكن إلى حد التواتر, فصار كأنه في موضع الفتنة معايش لها, فما أصبحت غريبة عليه, لا من قريب ولا من بعيد, بس هو كيف ترد النصائح, يقال: نحن أخبر, هذا ما هو ماهي حجة).اهـ كلامه بحروفه
فتضمن هذا الكلام: أن القول: بأن من علم مقدم على من لم يعلم شبهةٌ, والشبهة: (ما يشبه الحق في الظاهر, وليس هو في الواقع حقاً), كما قال مضمون ذلك الطوفي, وهذا من الغرائب, وتقليب الحقائق, أن يصير الحقُّ الواضح شبهة, والشبهةُ حقاً.
وعند التأمل, لا نشكُّ أن ما قاله الشيخ محمد –هداه الله- شبهةٌ لا تنطلي على ذي فقةٍ وبصيرة, وملخص ما قرره: (أن دعوى زيادة العلم في هذه الأيام, وتقديم من علم على من لم يعلم) ليس بحجة, لأن الأخبار تصل وتنتقل سريعاً إلى كل مكان, بسبب الهواتف والجوالات, فلا فرق حينئذٍ بين من هو في اليمن, أو في الشام, أو في نجدٍ, أو في الحجاز في الدعوى. ومعنى ذلك أن القاعدة مسلمة في زمن لا تنتقل فيه الأخبار من بلاد إلى بلاد, أو في حقِّ اثنين, أحدهما علم وسمع, وآخر لم يعلم ولم يسمع بتاتاً, وهذا تغيير لمجرى هذه القاعدة الشرعية, وتمويهٌ وتلبيس وتخليط, يتبين فساده من وجوه:
(الأول): أن مقتضى هذا الكلام إبطال القاعدة من أصلها في كل زمان, لأن انتقال الأخبار من بلد إلى آخر حاصلٌ في كل زمان عن طريق الركبان والمسافرين, كما يدل على ذلك حديث كعب بن مالك الذي في الصحيحين في هجر النبي صلى الله عليه وسلم له ولمرارة بن الربيع, وهلال بن أمية, قال: فجاء نبطي من نبط الشام, فقال: من يدلُّ على كعب بن مالك, فأشار الناس إليَّ, فدفع إليًّ رسالةً من ملك غسان, فإذا فيها: بلغنا أن صاحبك قد قلاك, فالحق بنا نواسك..الحديث.
وقول عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فسمعت برجلٍ بمكة يخبر أخبارا), وقوله صلى الله عليه وسلم له: (ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني). رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري). رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). رواه مسلم. ونحو ذلك من الدلائل الدالة على انتشار الأخبار وانتقالها من بلد إلى آخر في كل زمان, ومع ذلك, جاء الشرع بإثباتها وتقريرها, لما سيأتي ذكره.
وغاية ما في الأمر في هذا الزمان: أن الأجهزة الحديثة في زماننا, اقتضت انتقال الأخبار وانتشارها في زمن يسير, بينما انتشارها قبل ذلك يتوقف على زمن أكثر, بحسب المكان والبلد, وهل الإجماع, والتواتر الذي يذكره الأوائل من أهل العلم ويثبتونه, إلا فرعٌ عن ثبوت انتقال الأخبار وانتشارها.
فتطور وسيلة النقل لا يقتضى تغير حكم القاعدة أو إبطالها وإهدارها وإلغاءها, ألا ترى أن حكم السفر من قصرٍ وإفطارٍ, وغيره باقٍ على أصله, وإن تطورت وسائل النقل, بحيث يقطع المسافر في أيامنا هذه في نصف يومٍ ما لا يقطعه الأوائل قبل وسائل النقل الحديثة, إلا في أسبوع أو أكثر.
ولا زال حكم الرحلة في طلب العلم باقياً, وحاجة الناس إلى تلقي علوم القرآن والسنة وأخذهما على أيدي أهلها ضرورية, ولا يبطلها وسائل نقل العلم الحديثة, من شريط, وشبكات الفضاء, وأجهزة الكمبيوتر, ونحو ذلك.
وهكذا لا يزال لزوم العدد في الشهادة, لثبوت جريمة الزنى, أو الاعتراف باقياً, ولا يجزئ عنه سواه, ولا يغني عنه آلات التصوير والتسجيل الحديثة لإثباتهما, مما يدل على أن الأحكام الشرعية لا تبطل ولا تلغى ولا تتغير بتطور الصناعات.
(الثاني): أن مقتضى ما قرره الشيخ محمد –هداه الله- ألا نقدم المثبت على النافي, ودعوى من عنده زيادة علم على غيره, ممن هم في بلد واحد, ومحلٍ واحد, وأن يحكم لدعوى الطرفين بالتكافؤ, الموجب للتوقف, فترجيحُ جانب من غير دليل يقتضي الترجيح تحكمٌ, لا داعي له إلا الهوى والتسلل لنيل الأغراض.
فإن كان الأمر كما ذكر الشيخ –هداه الله- لما قُدم قول حذيفة: بال النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على قول عائشة في نفيه, ولما قدم عمرُ قول أبي سعيد وغيره في الاستئذان ثلاثاً, وقول عليٍ في امتناعِ رجم المجنونة إذا زنت على نفسه, ولما قُدم قول أبي رافع في كراء الأرض على قول غيره من الصحابة, ولا قول عمر في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه على من قال: طلق النبي صلى الله عليه وسلم, وشاع قولهم, وهم الأكثر, وهلمَّ جراً مما يطول حصره.
وقد كان الكل في المدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبين يديه, فلا دليل على بطلان ما ذكره الشيخ محمد –هداه الله- أوضح من هذا, لأن فساد اللازم يدلُّ على فساد الملزوم, وشأن الباطل أن ثماره الباطل كما يدل على ذلك قوله سبحانه: ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ثم إنا نرى أهل العلم يقدمون الجرح المفسر على التعديل, وإثبات النفي على سماعه, والتوثيق من معتبر على التجهيل, ولو كانا صادرين من رجلين في بلدٍ ومحلِّ واحد, عملاً بهذه القاعدة, وهذا يدركه من له أدنى ممارسة لعلم الحديث.
فعلم مما سبق أنه لا فرق في أن من علم حجة على من لم يعلم, والمثبت مقدم على النافي, ومن عنده زيادة علم على غيره, لا فرق بين ذوي البلد الواحد, أو البلدان المتفرقة, ولا بين زمان وزمان, ويزيد هذا تأكداً ما بعده.
(الثالث): أن الإنسان قد يخفى عليه شيء مما يدور في بلده ومحله, إما لغيابه, وإما لانشغاله في بعض شؤونه, أو تخلفه في بعض الأوقات, أو لذهوله عما يدور حوله, كما خفي على بعض الصحابة شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأقواله, وأفعاله, وأحواله, وربما كان منهم من هو ملازمٌ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غالب أمره.
كما خفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاستئذان ثلاثاً, حتى علمه من أبي موسى, وأبي سعيد رضي الله عنهم, وخفي عليه حكم دخول البلد التي فيها طاعون, أو الخروج منه, وعلى غيره ممن كان معه من مشيخة المهاجرين والأنصار والفتح, حتى أخبرهم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه, وخفي عليه حكم رجم المجنونة إذا زنت, حتى أخبره بذلك علي رضي الله عنه, وخفي على عائشة رضي الله عنها بوله صلى الله عليه وسلم قائماً, وخفي على أكثر الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يطلق نسائه, حتى أخبرهم عمر رضي الله عنهم.
وقد خفي على بعض من كان في دار الحديث بدماج كثير من الأمور التي أثارها عبدالرحمن العدني وحزبه الماكر في الدار, التي شغبوا بها, وأفسدوا, وخربوا, وحزبوا, وفرقوا, وهلمَّ جراً, لما بيناه.
فما بالك بمن كان في بلد آخر, بعيداً عن موضع المقصود بالمعرفة, أو محل الفتنة, فهو أولى أن تخفى عليه من الأمور, حتى لا يتصور القضية والواقع على وجهٍ كافٍ, يُبلِّغه المعرفة الكافية في إدارك الحكم, (والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره), فيحكم ويقضي على نحو ما بغله, ونُقل إليه, وهذا حسبه وواجبه, أن يقف حيث علم, كما قال ذلك سيعد بن جبير –رحمه الله-,كما في "مسلم".
والأخبار وإن كانت تنتقل وتنتشر, ولكن الناقل –إن كان ثقةً صادقاً- فقد تقصرُ عبارته عن الإفصاح بالحقائق والأمور الحاصله, وقد ينقل من الأمور ويترك ما هو أولى بالنقل, بحسب علمه واطلاعه, وقد لا يستوفي نقل ما يدور, إما نسياناً, أو إيثاراً للاختصار, أو لقصور معرفته بما يدور.
فكيف إذا كان الناقل من ذوي الأغراض, وتقليب الحقائق, والمتربصين بأهل السنة الدوائر, والحاقدين على المتمسكين بالحق حقَّ التمسك, وهم كثيرٌ في هذه الأيام –لا كثرهم الله-, فسينقل الأخبار وما يدور على غير وجهه المطابق للواقع, فيزيد أو ينقص, ويقلب الأمور والحقائق, كما فعل, ولا يزال يفعلُ أوغاد الحزبية الجديدة, من أمثال هاني بن بريك, وعرفات البصيري, ومحمد غالب, وغيرهم من النقلة الفجرة المتربصين الحاقدين, عند بعض المشايخ في اليمن, وفي السعودية.
فكيف يقال: (كأنه في موضع الفتنة معايش لها, فما أصبحت غريبة عليه, لا من قريب ولا من بعيد), والحال كما علمتَ, لا ينكره إلا مكابر, ذو سفسطةٍ سخيفةٍ, وكيف جَسُرَ الشيخ محمد –هداه الله- على مثل هذه الغرائب المؤذنة بما لا تُحمد عواقبه, ولا تُرضى نتائجه.
(الرابع): أنه وإن حصل الإشتراك في سماع قضية ما, كسماع ما جرى ودار من عبدالرحمن العدني وحزبه المنحرف, واختصَّ طائفةٌ منهم بمعايشة القضية ومباشرتها بالمشاهدة والسماع, وملابستها ومعالجتها, كما هو حال شيخنا العلامة أبي عبدالرحمن يحيى بن علي الحجوري –حفظه الله- وطلابه في دار الحديث, فإنهم حينئذٍ مقدمون على غيرهم إذا خالفهم, لأن السامع –إن سمع بالنقل الصحيح- لا يبلغ من تصوُّرِ القضية وإدراك حقيقتها, كالمعايش والمباشر والملابس لها, فإن ذلك يوجب مزيد إدراك وإحاطةٍ بما يجري, ووقوف على ما يدور, وتصوُّر للقضية تصوراً كافياً, موصلاً إلى إدراك حقيقتها, والحكم بما يليق.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ليس الخبر كالمعاينة, إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل, فلم يلق الألواح, فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح, فانكسرت). أخرجه أحمد برقم (2447), وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (5374).
قال ابن بطال في "شرح البخاري" (20/186): وفى قوله: ﮈﮉﮊﮋ دليل على أن العيان أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : « ليس الخبر كالمعاينة ».اهـ
ولذا قيل:
يا بن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا
وفي مسلم برقم (6513), عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ...َقَالَ أُنَيْسٌ إِنَّ لِى حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِى. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَىَّ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتَ قَالَ لَقِيتُ رَجُلاً بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
قُلْتُ فَمَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أُنَيْسٌ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِى أَنَّهُ شِعْرٌ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ قُلْتُ فَاكْفِنِى حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ.
فحكم أبو ذرٍ وأخوه بعد أن وقفا بأنفسهما على الواقع وعايناه بالحكم الصحيح المطابق, بينما كان السماع قبل ذلك لم يوصلهما إلى هذا الحكم.
ومثل ذلك, ما جاء في مسلم برقم (2045): عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ لَوْ أَنِّى رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَىَّ - قَالَ - فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِى عَلَى يَدِى مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ ». قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ.
فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - قَالَ - فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ - قَالَ - فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلاَمِ - قَالَ - فَبَايَعَهُ.
فلما سمع, وعاين, وعايش ما ينقل, علم الحقيقة, وتوصَّل إلى الحق, لما للمعاينة والمعايشة من المزية على مجرد السماع.
ومثل ذلك ما رواه مسلم برقم (1967) عنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ كُنْتُ وَأَنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلاَلَةٍ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِى فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْتَ قَالَ « أَنَا نَبِىٌّ ». فَقُلْتُ وَمَا نَبِىٌّ قَالَ « أَرْسَلَنِى اللَّهُ ». فَقُلْتُ وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ قَالَ « أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَكَسْرِ الأَوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَىْءٌ ». قُلْتُ لَهُ فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا قَالَ « حُرٌّ وَعَبْدٌ ». قَالَ وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. فَقُلْتُ إِنِّى مُتَّبِعُكَ.
فأدرك رضي الله عنه لما لابس الأمر وعاينه ما لم يدركه بمجرد السماع.
وعملاً بهذا الأصل الأصيل قدم أهل العلم خبر ميمونة رضي الله عنها, وخبر أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تزوج ميمونة وهو حلال, على قول ابن عباس رضي الله عنهما: تزوجها وهو حرام, وهي خالته, لأن ميمونة صاحبة الشأن, وأبا رافع كان السفير بينهما, على قول ابن عباس, لأنهما المباشران للقضية, ولم يكن ابن عباس كذلك, فحكم على قوله بالخطأ والوهم.
وبهذا نعلم أن قول الشيخ محمد –هداه الله-: (أيش العلماء ما يفهمون, لما تقول: نحن أعلم), وقوله: (تقول نحن أعلم, كيف العلماء ما يفهمون), أنه تمويه وتلبيس, فإنه لا يلزم من أن يكون عالماً –كشيخنا يحيى أعز الله مقامه- علم واطلع ووقف على شيء لم يطلع, ولم يقف عليه غيره من العلماء, فحكمَ في القضية بما لم يصل إليه غيره, لِمَا اختص به من المعاينة والمباشرة والمعايشة والملابسة للقضية –كقضية عبدالرحمن العدني المتهوك وحزبه- أن يكون غيره لا يفهم, فالفهم شيء, والإحاطة والإطلاع والوقوف على الحقائق شيء آخر.
ورب طالب علم, يحيط بقضية, ويطلع على ما فيها لمعاينته ومباشرته لها, فيصل إلى حقيقتها, ويتصورها –كهذه القضية- بما لا يكون لعالمٍ, لبعده عن الواقع المقتضي لعدم الوقوف والإحاطة بالأمر على وجه كافٍ, لا لعدم فهمه كما موَّه الشيخ محمد –هداه الله-, ويتأكد هذا بما بعده.
(الخامس): أن شيخنا الإمام العلامة مقبلاً –رحمه الله- تكلم في طائفةٍ ممن كانوا طلابه, كالبيضاني, والريمي, وعقيل المقطري, وعبدالله الحاشدي, والمرفدي, وعمار بن ناشر, والمعلِّم, والمهدي, وغيرهم, وفي الإخوان المفلسين, كالزنداني, وغيره, وحذر منهم, ومن دعوتهم, وأنها دعوة حزبية, ودنيا, وانحراف, لما علمه عنهم, واطلع ووقف عليه, من السرية, والتكتل والتحزب والولاء والبراء الضيق والحرص على الدنيا, والإنتخابات, والخوض في السياسة العصرية, والتوغل في الحاكمية, بينما كانوا يرحلون ويتصلون بالعلماء في السعودية, فيرجعون بالفتاوى التي تؤيد بعض أفكارهم, وما هم فيه, وبالثناء على بعض رؤوسهم, فكان شيخنا لا يبالي بذلك, يقول: نحن أعلم بحال القوم وبما عندهم.
وكم عورض الشيخ العلامة ربيع بن هادي –حفظه الله- في كلامه على كثير من الحزبيين الذين سبر حالهم, وتتبع انحرافاتهم, ووقف على ما عندهم, وناصحهم, كعرعور, والمغرواي, وفالح, وأبي الحسن, كم عورض من قبل بعض العلماء, ولم ينثنِ عما وصل إليه وعلمه عنهم,, وإلى الآن ولا زال الشيخ العباد –وفقه الله- يثني على أبي الحسن المصري, ويدافع عنه, كما كان الشيخ عبيد الجابري –هداه الله- لا يوافق على كلام الشيخ ربيع في فالح, والمجتمع آنذاك كالقرية الواحدة –كالآن- كما قال الشيخ محمد –هداه الله, فلم يكن ذلك موجباً لعدم الاعتبار بما عندهم من زيادة العلم والمعرفة بحال من تكلموا فيه من أهل الأهواء والتحزب, ولم يكن في دعواهم زيادة العلم والاطلاع, الحكم على العلماء بعدم الفهم, مع أن الدعوى التي بنى عليها الشيخ محمد –هداه الله- قصوراً وعلالياً حاصلة في ذلك الوقت.
فليقل الشيخ محمد –هداه الله- بذلك, وليطَّرد عنده في كل حال, ومن ثَمَّ فليلغي كل ما قيل في أبي الحسن المصري وغيره من السابقين, ولا يعتبر ما يقال في اللاحقين ممن يتكلم فيهم أهل السنة بالحق والبرهان, إذا لم يوافق بعض العلماء, عملاً بما اختاره وأصَّله, ولا يكيل بمكاييل مختلفة, وليترفع عن الهوى والتناقض, وما أظنه يقول بذلك, وما إخاله يتجاسر.
وبالتالي: فإن الأحق بوصف الهوى, ومشابهة أهل البدع, من يجلب من التمويه والشبه -ما يخالف الثوابت الشرعية, التي قام عليها دين الله, وبها تميَّز الحق من الباطل, والمحقُّ من المبطل- ليتوصل بذلك إلى ردِّ الحق, ودفع الحقائق, كما يُلحَظُ هذا مؤخراً في الشيخ محمد –هداه الله-, ويَلمسُ هذا كل من قارن بين كلامه في الآونة الأخيرة, وكلامه قبل ذلك, ويدركه من عرض أقواله وأفعاله على دلائل القرآن والسنة, ومنهج السلف, كما فعل في قاعدة: (من علم حجة على من لم يعلم), كل ذلك, لغرض المحاماة والدفاع عن عبدالرحمن العدني وحزبه الماكر, وردِّ ما أُدينوا به من الباطل, وثبت عنهم من الفتنة والتحزب والشر, ولا دخول للبدع على الناس إلا بسلوك هذه المسالك الشائكة الوعرة, (وكل إناءٍ بما فيه ينضح).
عصمنا الله من كل فتنةٍ وضلال, وباعدنا من كل خزيٍ ووبال, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وصلى الله وسلم على رسوله النبي الأمي وعلى آله ما بقي الليل والنهار.
كان الفراغ من كتابة هذه العجالة عصر يوم الاثنين في الثاني عشر من شهر جمادى الآخر عام (1429هـ)
فإن من الثوابت الشرعية, والأصول السلفية, أن: (من علم حجة على من لم يعلم), وهي قاعدة ينظوي تحتها من القواعد, أن: (الجرح المفسر مقدم على التعديل), وأن: (المثبت مقدمٌ على النافي), وأن: (أهل البلد أدرى بما فيه, وأهل مكة أدرى بشعابها), وأن: (بلدي الرجل مقدم على غيره), ونحو ذلك من القواعد.
وثبوت هذه القاعدة, وما انظوى تحتها من المسلمات عند أهل السنة, وقد كتب في شواهدها ودلائلها أخونا الفاضل عبدالله الأشموري في رسالته المسماة: "واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون), فأوعى وكفى.
ولأصالة هذا الأصل وأهميته العظيمة في جوانب كثيرة من الشرع ذات أهميةٍ, كجانب محاججة أهل الأهواء وإدانتهم بالانحرافات والأباطيل, كم سعى أهل الأهواء وجدُّوا في إيراد الشبهات والمعارضات والتلبيسات لإهداره, وإلغاء العمل به, كي يتسنى لهم بثُّ انحرافاتهم, ويخلو لهم الجو لإضلال الناس وإفسادهم, وصدهم عن الحق, ولا زال رجال الحق يذبون عن حياضه, ويفندون ما يورده أهل الباطل من الشبهات, ويكشفون عن زيفها, كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين). رواه مسلم عن عدة من الصحابة.
فتارةً يقولون: (هذه غيبةٌ), وتارةً: (هذا من تتبع الزلات والعورات), وتارة: (هذا من الطعن في الأعراض), وتارةً: (هذا من القيل والقال), وتارةً: (نصحح ولا نهدم الأشخاص), وتارة: (ننصح ولا نفضح), وتارة: (لا يلزم الولاء والبراء في الاختلاف في الأشخاص), وتارة: (ليس في الكلام في الأشخاص إلزام), وتارةً: (لا نقبل الجرح حتى نقف عليه بأنفسنا), وهذا هو التثبت المبتدع. وغير ذلك من التأصيلات الضالمة, الضال أهلها, التي قُصدَ بها المحاماة عن الباطل وأهله, وإهدار الحق, وتقديم قول من علم على من لم يعلم, ومن أثبت على من نفى.
ولقد نزل شريط للشيخ محمد بن عبدالوهاب الوصابي –هداه الله-, أورد فيه شبهةً ظاهرةً في البطلان, ومجانبة الصواب, أتى فيها على هذا الأصل الذي قام عليه دين الله, فاقتلعه من جذوره, وصيَّره هباءً منثوراً, للتوصل إلى إهدار الحقائق الثابتة عن عبدالرحمن العدني وحزبه المفسد, التي أدينوا بها, ودلَّت على فتنتهم وتحزبهم وانحرافهم, بما لم يقدر عبدالرحمن العدني وحزبه أن ينطقوا ببنت شفةٍ للانتفاء والتخلص منه, (ولَيسَت الثَّكلى كالمُستَأجرة).
وبما أن الشيخ محمد –هداه الله- بثَّ هذا الكلام في الساحة, وعلى موقع الإنترنيت, كان من المهمِّ –جداً- بيان ما في كلامه من التمويه والمغالطة والتلبيس, لأن الباطل إذا لم يُبيَّن بطلانه, لبَّس على الناس دينهم, وشوَّش عليهم الحق, وتمكن من قلوب العاجزين عن إدراك بطلانه, فيصعبُ بعد ذلك اقتلاعه, إلا بالجهد الجهيد.
وهذا نصُّ كلامه: (لمَّا تقول: نحن أعلم شابهت المبتدعة في إدخال البدع, فإذا نصحوا قالوا: بأن فلان ما يفهم, أو ما يعرف, أو أو ردوا نصيحة العلماء بأي أسلوب, يا أخي في الوقت هذا من كان في دماج, أو في عدن,أو في مكة, أو في البيضاء, أو في بعدان, أو, أصبح الآن المجتمع كقرية واحدة, أمور الأخبار طارت شرقاً وغرباً, وهواتف حتى عند بايعي البصل, جوالات عند بايعي البصل, المسألة ما صارت صعبة, وهذا له أصحاب, وهذا له أصحاب, وهذا يأتيه بالأخبار, وهذا يأتيه بالأخبار, فهذه الشبهة ما تنطلي على العلماء, أن تقول: نحنُ أعلم, كيف العلماء ما يفهمون, يعني الأخبار تصل إليهم إلى حدِّ التواتر, تأتيهم لا من شخصٍ, ولا من اثنين, ولا من ثلاثة, ولا من أربعة, ولا من خمسة, ولا من ستةٍ, ولكن إلى حد التواتر, فصار كأنه في موضع الفتنة معايش لها, فما أصبحت غريبة عليه, لا من قريب ولا من بعيد, بس هو كيف ترد النصائح, يقال: نحن أخبر, هذا ما هو ماهي حجة).اهـ كلامه بحروفه
فتضمن هذا الكلام: أن القول: بأن من علم مقدم على من لم يعلم شبهةٌ, والشبهة: (ما يشبه الحق في الظاهر, وليس هو في الواقع حقاً), كما قال مضمون ذلك الطوفي, وهذا من الغرائب, وتقليب الحقائق, أن يصير الحقُّ الواضح شبهة, والشبهةُ حقاً.
وعند التأمل, لا نشكُّ أن ما قاله الشيخ محمد –هداه الله- شبهةٌ لا تنطلي على ذي فقةٍ وبصيرة, وملخص ما قرره: (أن دعوى زيادة العلم في هذه الأيام, وتقديم من علم على من لم يعلم) ليس بحجة, لأن الأخبار تصل وتنتقل سريعاً إلى كل مكان, بسبب الهواتف والجوالات, فلا فرق حينئذٍ بين من هو في اليمن, أو في الشام, أو في نجدٍ, أو في الحجاز في الدعوى. ومعنى ذلك أن القاعدة مسلمة في زمن لا تنتقل فيه الأخبار من بلاد إلى بلاد, أو في حقِّ اثنين, أحدهما علم وسمع, وآخر لم يعلم ولم يسمع بتاتاً, وهذا تغيير لمجرى هذه القاعدة الشرعية, وتمويهٌ وتلبيس وتخليط, يتبين فساده من وجوه:
(الأول): أن مقتضى هذا الكلام إبطال القاعدة من أصلها في كل زمان, لأن انتقال الأخبار من بلد إلى آخر حاصلٌ في كل زمان عن طريق الركبان والمسافرين, كما يدل على ذلك حديث كعب بن مالك الذي في الصحيحين في هجر النبي صلى الله عليه وسلم له ولمرارة بن الربيع, وهلال بن أمية, قال: فجاء نبطي من نبط الشام, فقال: من يدلُّ على كعب بن مالك, فأشار الناس إليَّ, فدفع إليًّ رسالةً من ملك غسان, فإذا فيها: بلغنا أن صاحبك قد قلاك, فالحق بنا نواسك..الحديث.
وقول عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فسمعت برجلٍ بمكة يخبر أخبارا), وقوله صلى الله عليه وسلم له: (ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني). رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري). رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). رواه مسلم. ونحو ذلك من الدلائل الدالة على انتشار الأخبار وانتقالها من بلد إلى آخر في كل زمان, ومع ذلك, جاء الشرع بإثباتها وتقريرها, لما سيأتي ذكره.
وغاية ما في الأمر في هذا الزمان: أن الأجهزة الحديثة في زماننا, اقتضت انتقال الأخبار وانتشارها في زمن يسير, بينما انتشارها قبل ذلك يتوقف على زمن أكثر, بحسب المكان والبلد, وهل الإجماع, والتواتر الذي يذكره الأوائل من أهل العلم ويثبتونه, إلا فرعٌ عن ثبوت انتقال الأخبار وانتشارها.
فتطور وسيلة النقل لا يقتضى تغير حكم القاعدة أو إبطالها وإهدارها وإلغاءها, ألا ترى أن حكم السفر من قصرٍ وإفطارٍ, وغيره باقٍ على أصله, وإن تطورت وسائل النقل, بحيث يقطع المسافر في أيامنا هذه في نصف يومٍ ما لا يقطعه الأوائل قبل وسائل النقل الحديثة, إلا في أسبوع أو أكثر.
ولا زال حكم الرحلة في طلب العلم باقياً, وحاجة الناس إلى تلقي علوم القرآن والسنة وأخذهما على أيدي أهلها ضرورية, ولا يبطلها وسائل نقل العلم الحديثة, من شريط, وشبكات الفضاء, وأجهزة الكمبيوتر, ونحو ذلك.
وهكذا لا يزال لزوم العدد في الشهادة, لثبوت جريمة الزنى, أو الاعتراف باقياً, ولا يجزئ عنه سواه, ولا يغني عنه آلات التصوير والتسجيل الحديثة لإثباتهما, مما يدل على أن الأحكام الشرعية لا تبطل ولا تلغى ولا تتغير بتطور الصناعات.
(الثاني): أن مقتضى ما قرره الشيخ محمد –هداه الله- ألا نقدم المثبت على النافي, ودعوى من عنده زيادة علم على غيره, ممن هم في بلد واحد, ومحلٍ واحد, وأن يحكم لدعوى الطرفين بالتكافؤ, الموجب للتوقف, فترجيحُ جانب من غير دليل يقتضي الترجيح تحكمٌ, لا داعي له إلا الهوى والتسلل لنيل الأغراض.
فإن كان الأمر كما ذكر الشيخ –هداه الله- لما قُدم قول حذيفة: بال النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على قول عائشة في نفيه, ولما قدم عمرُ قول أبي سعيد وغيره في الاستئذان ثلاثاً, وقول عليٍ في امتناعِ رجم المجنونة إذا زنت على نفسه, ولما قُدم قول أبي رافع في كراء الأرض على قول غيره من الصحابة, ولا قول عمر في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه على من قال: طلق النبي صلى الله عليه وسلم, وشاع قولهم, وهم الأكثر, وهلمَّ جراً مما يطول حصره.
وقد كان الكل في المدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبين يديه, فلا دليل على بطلان ما ذكره الشيخ محمد –هداه الله- أوضح من هذا, لأن فساد اللازم يدلُّ على فساد الملزوم, وشأن الباطل أن ثماره الباطل كما يدل على ذلك قوله سبحانه: ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ثم إنا نرى أهل العلم يقدمون الجرح المفسر على التعديل, وإثبات النفي على سماعه, والتوثيق من معتبر على التجهيل, ولو كانا صادرين من رجلين في بلدٍ ومحلِّ واحد, عملاً بهذه القاعدة, وهذا يدركه من له أدنى ممارسة لعلم الحديث.
فعلم مما سبق أنه لا فرق في أن من علم حجة على من لم يعلم, والمثبت مقدم على النافي, ومن عنده زيادة علم على غيره, لا فرق بين ذوي البلد الواحد, أو البلدان المتفرقة, ولا بين زمان وزمان, ويزيد هذا تأكداً ما بعده.
(الثالث): أن الإنسان قد يخفى عليه شيء مما يدور في بلده ومحله, إما لغيابه, وإما لانشغاله في بعض شؤونه, أو تخلفه في بعض الأوقات, أو لذهوله عما يدور حوله, كما خفي على بعض الصحابة شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأقواله, وأفعاله, وأحواله, وربما كان منهم من هو ملازمٌ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غالب أمره.
كما خفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاستئذان ثلاثاً, حتى علمه من أبي موسى, وأبي سعيد رضي الله عنهم, وخفي عليه حكم دخول البلد التي فيها طاعون, أو الخروج منه, وعلى غيره ممن كان معه من مشيخة المهاجرين والأنصار والفتح, حتى أخبرهم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه, وخفي عليه حكم رجم المجنونة إذا زنت, حتى أخبره بذلك علي رضي الله عنه, وخفي على عائشة رضي الله عنها بوله صلى الله عليه وسلم قائماً, وخفي على أكثر الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يطلق نسائه, حتى أخبرهم عمر رضي الله عنهم.
وقد خفي على بعض من كان في دار الحديث بدماج كثير من الأمور التي أثارها عبدالرحمن العدني وحزبه الماكر في الدار, التي شغبوا بها, وأفسدوا, وخربوا, وحزبوا, وفرقوا, وهلمَّ جراً, لما بيناه.
فما بالك بمن كان في بلد آخر, بعيداً عن موضع المقصود بالمعرفة, أو محل الفتنة, فهو أولى أن تخفى عليه من الأمور, حتى لا يتصور القضية والواقع على وجهٍ كافٍ, يُبلِّغه المعرفة الكافية في إدارك الحكم, (والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره), فيحكم ويقضي على نحو ما بغله, ونُقل إليه, وهذا حسبه وواجبه, أن يقف حيث علم, كما قال ذلك سيعد بن جبير –رحمه الله-,كما في "مسلم".
والأخبار وإن كانت تنتقل وتنتشر, ولكن الناقل –إن كان ثقةً صادقاً- فقد تقصرُ عبارته عن الإفصاح بالحقائق والأمور الحاصله, وقد ينقل من الأمور ويترك ما هو أولى بالنقل, بحسب علمه واطلاعه, وقد لا يستوفي نقل ما يدور, إما نسياناً, أو إيثاراً للاختصار, أو لقصور معرفته بما يدور.
فكيف إذا كان الناقل من ذوي الأغراض, وتقليب الحقائق, والمتربصين بأهل السنة الدوائر, والحاقدين على المتمسكين بالحق حقَّ التمسك, وهم كثيرٌ في هذه الأيام –لا كثرهم الله-, فسينقل الأخبار وما يدور على غير وجهه المطابق للواقع, فيزيد أو ينقص, ويقلب الأمور والحقائق, كما فعل, ولا يزال يفعلُ أوغاد الحزبية الجديدة, من أمثال هاني بن بريك, وعرفات البصيري, ومحمد غالب, وغيرهم من النقلة الفجرة المتربصين الحاقدين, عند بعض المشايخ في اليمن, وفي السعودية.
فكيف يقال: (كأنه في موضع الفتنة معايش لها, فما أصبحت غريبة عليه, لا من قريب ولا من بعيد), والحال كما علمتَ, لا ينكره إلا مكابر, ذو سفسطةٍ سخيفةٍ, وكيف جَسُرَ الشيخ محمد –هداه الله- على مثل هذه الغرائب المؤذنة بما لا تُحمد عواقبه, ولا تُرضى نتائجه.
(الرابع): أنه وإن حصل الإشتراك في سماع قضية ما, كسماع ما جرى ودار من عبدالرحمن العدني وحزبه المنحرف, واختصَّ طائفةٌ منهم بمعايشة القضية ومباشرتها بالمشاهدة والسماع, وملابستها ومعالجتها, كما هو حال شيخنا العلامة أبي عبدالرحمن يحيى بن علي الحجوري –حفظه الله- وطلابه في دار الحديث, فإنهم حينئذٍ مقدمون على غيرهم إذا خالفهم, لأن السامع –إن سمع بالنقل الصحيح- لا يبلغ من تصوُّرِ القضية وإدراك حقيقتها, كالمعايش والمباشر والملابس لها, فإن ذلك يوجب مزيد إدراك وإحاطةٍ بما يجري, ووقوف على ما يدور, وتصوُّر للقضية تصوراً كافياً, موصلاً إلى إدراك حقيقتها, والحكم بما يليق.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ليس الخبر كالمعاينة, إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل, فلم يلق الألواح, فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح, فانكسرت). أخرجه أحمد برقم (2447), وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (5374).
قال ابن بطال في "شرح البخاري" (20/186): وفى قوله: ﮈﮉﮊﮋ دليل على أن العيان أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : « ليس الخبر كالمعاينة ».اهـ
ولذا قيل:
يا بن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا
وفي مسلم برقم (6513), عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ...َقَالَ أُنَيْسٌ إِنَّ لِى حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِى. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَىَّ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتَ قَالَ لَقِيتُ رَجُلاً بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
قُلْتُ فَمَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أُنَيْسٌ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِى أَنَّهُ شِعْرٌ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ قُلْتُ فَاكْفِنِى حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ.
فحكم أبو ذرٍ وأخوه بعد أن وقفا بأنفسهما على الواقع وعايناه بالحكم الصحيح المطابق, بينما كان السماع قبل ذلك لم يوصلهما إلى هذا الحكم.
ومثل ذلك, ما جاء في مسلم برقم (2045): عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ لَوْ أَنِّى رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَىَّ - قَالَ - فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَرْقِى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِى عَلَى يَدِى مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ ». قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ.
فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - قَالَ - فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ - قَالَ - فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلاَمِ - قَالَ - فَبَايَعَهُ.
فلما سمع, وعاين, وعايش ما ينقل, علم الحقيقة, وتوصَّل إلى الحق, لما للمعاينة والمعايشة من المزية على مجرد السماع.
ومثل ذلك ما رواه مسلم برقم (1967) عنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ كُنْتُ وَأَنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلاَلَةٍ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِى فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْتَ قَالَ « أَنَا نَبِىٌّ ». فَقُلْتُ وَمَا نَبِىٌّ قَالَ « أَرْسَلَنِى اللَّهُ ». فَقُلْتُ وَبِأَىِّ شَىْءٍ أَرْسَلَكَ قَالَ « أَرْسَلَنِى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَكَسْرِ الأَوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَىْءٌ ». قُلْتُ لَهُ فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا قَالَ « حُرٌّ وَعَبْدٌ ». قَالَ وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. فَقُلْتُ إِنِّى مُتَّبِعُكَ.
فأدرك رضي الله عنه لما لابس الأمر وعاينه ما لم يدركه بمجرد السماع.
وعملاً بهذا الأصل الأصيل قدم أهل العلم خبر ميمونة رضي الله عنها, وخبر أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تزوج ميمونة وهو حلال, على قول ابن عباس رضي الله عنهما: تزوجها وهو حرام, وهي خالته, لأن ميمونة صاحبة الشأن, وأبا رافع كان السفير بينهما, على قول ابن عباس, لأنهما المباشران للقضية, ولم يكن ابن عباس كذلك, فحكم على قوله بالخطأ والوهم.
وبهذا نعلم أن قول الشيخ محمد –هداه الله-: (أيش العلماء ما يفهمون, لما تقول: نحن أعلم), وقوله: (تقول نحن أعلم, كيف العلماء ما يفهمون), أنه تمويه وتلبيس, فإنه لا يلزم من أن يكون عالماً –كشيخنا يحيى أعز الله مقامه- علم واطلع ووقف على شيء لم يطلع, ولم يقف عليه غيره من العلماء, فحكمَ في القضية بما لم يصل إليه غيره, لِمَا اختص به من المعاينة والمباشرة والمعايشة والملابسة للقضية –كقضية عبدالرحمن العدني المتهوك وحزبه- أن يكون غيره لا يفهم, فالفهم شيء, والإحاطة والإطلاع والوقوف على الحقائق شيء آخر.
ورب طالب علم, يحيط بقضية, ويطلع على ما فيها لمعاينته ومباشرته لها, فيصل إلى حقيقتها, ويتصورها –كهذه القضية- بما لا يكون لعالمٍ, لبعده عن الواقع المقتضي لعدم الوقوف والإحاطة بالأمر على وجه كافٍ, لا لعدم فهمه كما موَّه الشيخ محمد –هداه الله-, ويتأكد هذا بما بعده.
(الخامس): أن شيخنا الإمام العلامة مقبلاً –رحمه الله- تكلم في طائفةٍ ممن كانوا طلابه, كالبيضاني, والريمي, وعقيل المقطري, وعبدالله الحاشدي, والمرفدي, وعمار بن ناشر, والمعلِّم, والمهدي, وغيرهم, وفي الإخوان المفلسين, كالزنداني, وغيره, وحذر منهم, ومن دعوتهم, وأنها دعوة حزبية, ودنيا, وانحراف, لما علمه عنهم, واطلع ووقف عليه, من السرية, والتكتل والتحزب والولاء والبراء الضيق والحرص على الدنيا, والإنتخابات, والخوض في السياسة العصرية, والتوغل في الحاكمية, بينما كانوا يرحلون ويتصلون بالعلماء في السعودية, فيرجعون بالفتاوى التي تؤيد بعض أفكارهم, وما هم فيه, وبالثناء على بعض رؤوسهم, فكان شيخنا لا يبالي بذلك, يقول: نحن أعلم بحال القوم وبما عندهم.
وكم عورض الشيخ العلامة ربيع بن هادي –حفظه الله- في كلامه على كثير من الحزبيين الذين سبر حالهم, وتتبع انحرافاتهم, ووقف على ما عندهم, وناصحهم, كعرعور, والمغرواي, وفالح, وأبي الحسن, كم عورض من قبل بعض العلماء, ولم ينثنِ عما وصل إليه وعلمه عنهم,, وإلى الآن ولا زال الشيخ العباد –وفقه الله- يثني على أبي الحسن المصري, ويدافع عنه, كما كان الشيخ عبيد الجابري –هداه الله- لا يوافق على كلام الشيخ ربيع في فالح, والمجتمع آنذاك كالقرية الواحدة –كالآن- كما قال الشيخ محمد –هداه الله, فلم يكن ذلك موجباً لعدم الاعتبار بما عندهم من زيادة العلم والمعرفة بحال من تكلموا فيه من أهل الأهواء والتحزب, ولم يكن في دعواهم زيادة العلم والاطلاع, الحكم على العلماء بعدم الفهم, مع أن الدعوى التي بنى عليها الشيخ محمد –هداه الله- قصوراً وعلالياً حاصلة في ذلك الوقت.
فليقل الشيخ محمد –هداه الله- بذلك, وليطَّرد عنده في كل حال, ومن ثَمَّ فليلغي كل ما قيل في أبي الحسن المصري وغيره من السابقين, ولا يعتبر ما يقال في اللاحقين ممن يتكلم فيهم أهل السنة بالحق والبرهان, إذا لم يوافق بعض العلماء, عملاً بما اختاره وأصَّله, ولا يكيل بمكاييل مختلفة, وليترفع عن الهوى والتناقض, وما أظنه يقول بذلك, وما إخاله يتجاسر.
وبالتالي: فإن الأحق بوصف الهوى, ومشابهة أهل البدع, من يجلب من التمويه والشبه -ما يخالف الثوابت الشرعية, التي قام عليها دين الله, وبها تميَّز الحق من الباطل, والمحقُّ من المبطل- ليتوصل بذلك إلى ردِّ الحق, ودفع الحقائق, كما يُلحَظُ هذا مؤخراً في الشيخ محمد –هداه الله-, ويَلمسُ هذا كل من قارن بين كلامه في الآونة الأخيرة, وكلامه قبل ذلك, ويدركه من عرض أقواله وأفعاله على دلائل القرآن والسنة, ومنهج السلف, كما فعل في قاعدة: (من علم حجة على من لم يعلم), كل ذلك, لغرض المحاماة والدفاع عن عبدالرحمن العدني وحزبه الماكر, وردِّ ما أُدينوا به من الباطل, وثبت عنهم من الفتنة والتحزب والشر, ولا دخول للبدع على الناس إلا بسلوك هذه المسالك الشائكة الوعرة, (وكل إناءٍ بما فيه ينضح).
عصمنا الله من كل فتنةٍ وضلال, وباعدنا من كل خزيٍ ووبال, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وصلى الله وسلم على رسوله النبي الأمي وعلى آله ما بقي الليل والنهار.
كان الفراغ من كتابة هذه العجالة عصر يوم الاثنين في الثاني عشر من شهر جمادى الآخر عام (1429هـ)
أبو حاتم
سعيد بن دعاس المشوشي اليافعي</center>
سعيد بن دعاس المشوشي اليافعي</center>
تعليق