بسم الله الرحمن الرحيم
صيحة نذير
للمغاربة بالحذر من هديرالنعرات الوافدة باسم المظاهرات*على مملكتنا المغربية الأبِيَّة
(نقد جلي للخروج باسم "المظاهرات!")
صيحة نذير
للمغاربة بالحذر من هديرالنعرات الوافدة باسم المظاهرات*على مملكتنا المغربية الأبِيَّة
(نقد جلي للخروج باسم "المظاهرات!")
الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل عليهم الصلاة والسلام، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه تعالى، وفي الله تعالى، وفي كتاب اللّه تعالى بغير علم. يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
أما بعد: فقد شهدت بعض البلاد العربية الإسلامية أحداثًا مؤثرة جدًّا يندى لها الجبين، ويدمى لها القلب حزنا وأسفا أن يوجد في المسلمين الكثير والكثير ممن يجهل موقف جناب الإسلام العظيم تجاه هذه الأحداث التي يسمونها بغير اسمها؛ *أسماء مطاطية مزيفة كتسميتهم إياها بـ " المظاهرات أو الاعتصامات أو ... إلخ" وهذا من تغيير الحقائق شعروا أم لم يشعروا، وإننا لنعلن وبحق ورؤوسنا مرفوعة، ولا نخشى في الله لومة لائم؛ *أن هذه* المسميات المغلفة بلبوس المظاهرات* أو ما شاكلها؛ لهيَ الخروج* بعينه على حكام المسلمين وولاة أمورهم التي بذر بذرتها أول مرَّة؛ الخارجي المارق ذو الخويصرة التميمي وأحفاده من بعده ؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ :"بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ[1] جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ .." الحديث.
فإذا كان هذا المارق طعن في عدالة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما أدراك ما رسول الله؛ فطعنه وأحفاده وأفراخه على من هو دون رسول الله ممن ولي على المسلمين من باب أولى وأحرى، وإلى هذا أشار شيخ الإسلام كما في مصنفه "الصارم المسلول على شاتم الرسول" بقوله: " فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الطاعن عليه في القسمة, الناسب له عدم العدل بجهله وغلوه وظنه؛ أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس، دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التأليف وغيرها من المصالح؛ علم أن هذا أول أولئك، فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته فهو يكون بعد موته وعلى خلفائه أشد طعنا"اهـ.
وقال العلامة الفقيه المفتي محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- كما في "لقاء الباب المفتوح" : " وهذا خروج بالقول؛ لأن الخروج نوعان: خروج بالقول، وخروج بالسيف والقتال، والأول مقدمة للثاني؛ لأن الذين يخرجون بالسيف لا يخرجون هكذا فقط يحملون السلاح ويمشون، لا بد أن يقدموا مقدمات؛ وهي أن يملئوا قلوب الشعوب بغضاً وعداءً لولاتهم وحينئذٍ يتهيأ الأمر للخروج" اهـ.
الخروج على الحكام تحت قناع المظاهرات والاعتصامات وحمل الشعارات واللافتات والجعجعة بالهتافات وغير ذلك من النعرات الجاهلية ليس من دين الإسلام في شيء:
إن ما يقوم به بعض الناس من الخروج على شكل جماعات منددين ومطالبين بتحسين (الأوضاع!)[2] أمرٌ لا يقره دين الإسلام، ولا حَثَّ عليه في يوم من الأيام، ولا نَدَب إليه البتّة، ولا قام به خير الناس في القرون المفضلة من المهاجرين والأنصار والتابعين وأتباعهم، ويسعنا ما وسعهم، ولا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم، ولله درُّ الإمام مالك القائل: ”لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، والظاهر أنها بدعة وفدت على بلاد المسلمين من أعدائهم تحت مسميات مغلَّفة، ويدسون بين الفينة والأخرى من ينعق بهذه النعرة الجاهلية ليُجرجروا المسلمين بويلات هذه الدسيسة، وقد أغنانا الله عز وجل بالإسلام عن غيره، فهو صالح لكل زمان وأمة، داعٍ لكل خير، ومحذر من كل باطل وشر، فإليه أمرنا ربنا بالاحتكام عند التنازع والخلاف؛ ونحن نسأل -على الإنصاف- أصحاب الخروج –المظاهرات!- : هل ترضون بالتحاكم لكتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- لمعرفة حكم الإسلام في هذه المسألة المثارة –أي المظاهرات!- أم لا ترضون ؟؟ فإن رضيتم بالتحاكم لهما فدونكم ما يلي :
[قال تعالى:﴿ ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله– في تفسيره (1/530) : "﴿ وأولي الأمر منكم﴾ والظاهر –والله أعلم– أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء".
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله, ومن يطع الأمير فقد أطاعني, ومن يعصي الأمير فقد عصاني " .
وروى مسلم من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره الذي يأتي من معصية الله؛ ولا ينزع يداً من طاعة" .
وثبت في مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم –وفيه-: "تسمع وتطيع للأمير؛ وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك".
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" ، قالوا : أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" رواه مسلم .
وجاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في السر والعلن، وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان " .
وجاء في السنة لابن أبي عاصم وصححه الألباني من حديث أنس رضي الله عنه قال : نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : ( لا تسبوا أمراكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا؛ فإن الأمر قريب ) .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السلطان ظل الله في الأرض فمن أهانه أ هانه الله ومن أكرمه أ كرمه الله ) رواه ابن أبي عاصم في السنة وحسنه الألباني .
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تكون خلفاء وتكثر ، قلنا : فما تأمرنا ؟ قال : أوفوا بيعة الأول فالأول، وأدوا الذي لهم فإن الله سائلهم عن الذي لكم ) .
وروى مسلم من حديث عرفجة الأشجعي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، ويفرق كلمتكم فاقتلوه )/ )[3] .
وإن كنتم لا ترضون بالتحاكم لهذه النصوص فهذا حكم الله فيمن هذا حاله، قال عز وجل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا﴾، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية من سورة النساء: " أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة .."اهـ.
وقال جل جلاله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
قال ابن كثير:" يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا "اهـ.
وقال ابن سعدي –رحمه الله-:* أي: }إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ{ حقيقة، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، }أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا{ أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج.اهـ.
فإن أبيتم إلاَّ التحاكم لأهوائكم ورغباتكم والرضى بالرضاعة من مزابل أعداء الإسلام فأنتم وذاك، قال جل في عُلاه:}فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{.
وقال سبحانه: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا{.
قال ابن كثير في بيان هذه الآيات: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين؛ وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، ... والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا؛ ولهذا قال: }يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا{اهـ.
وإننا –والله- لنشفق أشد الإشفاق على أبناء هذا الوطن المسلم أن يسعوا بالشر على أنفسهم وعشائرهم وبلادهم وربما تستحيل الأمور –لا قدَّر الله- إلى إحداث جراحات لا يؤسى كَلْمُها، ولا يُرجى رأْبُها، وما حدث في الأيام الخاليات وما تبعها في هذه الأيام كما هو مشاهد في بعض البلاد الإسلامية عنَّا ببعيد، والسعيد مَن وُعِظ بغيره.
وفي خِضَم هذه الأحداث رأينا شبه سكوت على رؤوس المنابر في الجُمعات[4] وغيرها عن التحذير من هذا المهْيَع الخطير الذي ضُرِبت له الطبول، ودعت إلى إحيائه بعض القنوات المشبوهة، وهكذا نعق به بعض من تزيَّ بزي العلم وهو عنه بمعزل، ومنزله عنه بأبعد منزل، وما سمعنا بإمام من أئمة المساجد درَّس الناس كتاب الإمارة من صحيح مسلم أو غيره مع شدة الحاجة إليه، فأسأل الله أن يوفقهم لذلك ويصلحهم.
ومن الأدلة التي سلف ذكرها وغيرها كثير؛ نخلُص إلى: وجوب طاعة ولاة الأمور في المعروف، والحق نقول أن بلادنا – المملكة المغربية حرسها الله من كل سوء- بلاد إسلامية، وتعيش تحت قيادة مسلمة، والخلل كائن، والمعاصي أيضًا كثيرة، وفي المقابل أيضًا لا ننكر وجود الخير، والمطلوب التسديد، والنصح بالتي هي أحسن للتي هي أقوم على وفق ما ورد في الوحيين ودرج عليه السلف الصالح بلا إفراط ولا تفريط، والدعاء بالصلاح لولاة الأمور، هذا الذي ينبغي أن نُشمِّر له عن ساعد الجد، بدلا من الدعاء عليهم بالويل والتُّبور، وحشد الجموع على الشوارع ومحاولة إحداث الفوضى وإثارة الشغب مقلدين في ذلك النُّظم الأرضية التي قننها من ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، والواجب البعد عن أسباب الشر وما يثير الفوضى والفتن والإحن، فإن الفتن تبدأ صغيرا حتى تستحيل من المعضلات التي لا تُبقي ولا تَذَر، ومُعظم النار من مستصغر الشرر، وقد كان السلف يستحبون أن يتمثلوا ببعض الأبيات في الفتن، فقد ذكر البخاري في صحيحه "باب الفتن التي تموج كموج البحر" قال: وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ[5]:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً[6] ** تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا **وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ[7]
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ** َمكْرُوهَـــةً لِلشَّـمِّ وَالتَّقْبِيلِ
فائدة : قال الحافظ ابن حجر في مصنفه "فتح الباري شرح صحيح البخاري" :
والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة، فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أوَّلا.اهـ.
دَعُوها فإنها مُنتنة:
وهذه (المظاهرات و..!) لو كانت خيرًا لسبقنا إليها مَن هم أفضل مِنَّا علمًا وعملاً، وقد عاش ثلة منهم ردحًا من الزمان تحت إمرة الحجّاج الغاشم المعتدي الظالم السفاك للدماء وغيره فلم ينزعوا يدًا من طاعة، ولا دَعوا الناس بالخروج كما هو ديدن من يخرجون اليوم وقبل اليوم على حكامهم وإن كانوا دون الحجاج بمراحل، وهذا لا يستريب منه من استقرأ التأريخ الإسلامي من معينه العذب الزلال، ويكفي العقلاء أن هذا الأمر لو كان خيرًا لندبنا إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولما أغفل عنه مع شدة الحاجة إليه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه " الحديث .
رواه الطبراني بإسناد صحيح - كما في " الإبداع " -.وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمُه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ... " الحديث. رواه مسلم (6/18) ، وأحمد (2/191) من حديث ابن عمرو .
وقد أورده ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " (1/90) جازماً به بلفظ:
" إن حقاً على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم "[8] .
فليحذر المسلمون عامة والمغاربة بخاصة من مغبة ركوب هذه المعرة؛ فإنها متن عمياء، وقد سردنا من النُّذر ما يُسَلم بها كل عاقل، ويُذعن لها كل مسلم نبيه نبيل، أمَّا من رغب عن ذلك مُنْغِضًا رأسه؛ فهو مدان بالعصيان من ربه، وبالتمرد من ولي أمره، ومن هذا حاله فهو أعمى البصيرة، وقد نادى على نفسه بالجهالة، فلا يلومن إلا نفسه، "وعلى نفسها براقش تجني" .
وعلى هذا فينبغي القول أن: هذه النعرات والشعارات التي يرفع ألويتها بعض المتحمسين والمغفلين المخلصين وسائر الأغمار لهي من تقليد أعداء الإسلام، فلا يخدعنهم من يقذف بهم في أُتون الفتن وحمأتها؛ وهم يُراقبون الوضع من سراديبهم عن بعد ما قد يَحِلُّ بالمدفوعين المغفلين، فوالله إنهم ليسوا بنَصَحة، بل هم كَذَبة فجرة مَكَرة، وقد صدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حين قال:"سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، و يُكَذَّب فيها الصادق، و يؤتمن فيها الخائن و يخوَّن فيها الأمين، و ينطق فيها الرُّوَيْبِضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ".
ومن كتاب "مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية" أسوق كلام الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- " فقد سئل في محرّم (1416هـ) عما يأتي: ـ ما مدى شرعية ما يسمّونه بالاعتصام في المساجد وهم ـ كما يزعمون ـ يعتمدون على فتوى لكم في أحوال الجزائر سابقا أنها تجوز إن لم يكن فيها شغب ولا معارضة بسلاح أو شِبهِه، فما الحكم في نظركم؟ وما توجيهكم لنا ؟
فأجاب: أما أنا، فما أكثر ما يُكْذَب عليَّ! وأسأل الله أن يهدي من كذب عليَّ وألاّ يعود لمثلها. والعجب من قوم يفعلون هذا ولم يتفطَّنوا لما حصل في البلاد الأخرى التي سار شبابها على مثل هذا المنوال! ماذا حصل؟ هل أنتجوا شيئاً؟ بالأمس تقول إذاعة لندن: إن الذين قُتلوا من الجزائريين في خلال ثلاث سنوات بلغوا أربعين ألفا! أربعون ألفا!! عدد كبير خسرهم المسلمون من أجل إحداث مثل هذه الفوضى! والنار ـ كما تعلمون ـ أوّلها شرارة ثم تكون جحيماً؛ لأن الناس إذا كره بعضُهم بعضاً وكرهوا ولاة أمورهم حملوا السلاح ـ ما الذي يمنعهم؟ـ فيحصل الشرّ والفوضى ... وقد أمر النبيّ عليه الصلاة والسلام مَن رأى من أميره شيئا يكرهه أن يصبر، وقال: من مات على غير إمام مات ميتة جاهلية . الواجب علينا أن ننصح بقدر المستطاع، أما أن نظهر المبارزة والاحتجاجات عَلَناً فهذا خلاف هَدي السلف، وقد علمتم الآن أن هذه الأمور لا تَمُتّ إلى الشريعة بصلة ولا إلى الإصلاح بصلة، ما هي إلا مَضرّة ... الخليفة المأمون قَتل من العلماء الذين لم يقولوا بقوله في خَلْق القرآن، قَتَل جمعاً من العلماء، وأجبر الناس على أن يقولوا بهذا القول الباطل، ما سمعنا عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أن أحدا منهم اعتصم في أي مسجد أبدا، ولا سمعنا أنهم كانوا ينشرون معايبه من أجل أن يَحمل الناسُ عليه الحقد والبغضاء والكراهية ... ولا نؤيِّد المظاهرات أو الاعتصامات أو ما أشبه ذلك، لا نؤيِّدها إطلاقا، ويمكن الإصلاح بدونها، لكن لا بدّ أن هناك أصابع خفيّة داخلية أو خارجية تحاول بثّ مثل هذه الأمور "[9]اهـ.
قلنا: وصدق رسول الله إذ يقول: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْر،ٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ" الحديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري.
مخالفة الخارجين على ولاة الأمور لشريعة الإسلام
قال الله عز وجل في كتابه الكريم :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾.
وهذا نص قاطع لدابر كل مخالف لأمر الله وأمر رسوله وما وافق ذلك من طاعة ولاة الأمور في المعروف، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا كفرا بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان" أخرجه البخاري ومسلم.
وقد سبق أن ذكرنا جملة من الأحاديث في ذلك، وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أنه مهما استأثر الحكام بالأموال والمناصب والوظائف فلا يجوز للرعية أن ينزعوا يدًا من طاعتهم، أو أن ينازعوهم أمرهم وما هو من خصوصياتهم وأعمالهم؛ حتى وإن كان الذي ينازعهم في ذلك أفضل منهم دينا وعلما وخلقا، وذلك أن الإسلام يحرص غاية الحرص على وحدة المسلمين واجتماعهم على كلمة سواء، ومن خالف هذا وجرى مجرى الثائرين فقد نبذ أمر ربه ورسوله وراء ظهره، وباء بأعظم جناية، وتأمل أخي المنصف قوله –صلى الله عليه وسلم- : " إلا أن تروا كفرا " فهل ذكر الفسق والظلم ؟!!! وهذه وحدها تُلقِم الخارجين الثائرين الحجر والجنادل، ولا حجة لهم في خروجهم ولو سموا خروجهم هذا "مظاهرات سلمية!!" وبيننا وبين من يدعي خلاف هذا كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وسيرة سلف الأمة الصالح، فهل من مُدّكر!
وتأمل أيضًا قوله بعْدُ: " بواحًا" فلم يكتف رسول الله بذكر الكفر ثم سكت؛ بل صرح ببيان شاف فقال "كفرا بواحًا" أي صريحًا معلنًا ككفر من عُلم بالضرورة كفره من اليهود والنصارى والملحدين، وليس كفر تأويل، ثم قال –صلى الله عليه وسلم: " عندكم فيه من الله برهان"، أي ليس للإجتهاد في هذا مدخل، بل هو عائد لحكم الله ورسوله.*
*ووالله وتالله وبالله؛ لن يجد الثائرون ومن لف لفهم أعدل من دين الله عز وجل في كل زمان ومكان، وأن كل من خالف دين الله سبحانه ناعقا وداعيا وخارجا بهذه البائرات التي يسمونها مظاهرات أو غيرها فلن يجنوا منها إلا الدمار والفساد وسفك الدماء والجور والظلم، وما نراه ونسمعه يوما بعد آخر من واقع أصحاب هذه الثورات لمن أظهر البراهين المادية الواقعية على بطلان هذه الدعوات والنعرات الجاهلية.
جناية أصحاب الخروج –المظاهرات!-على أنفسهم والمسلمين وأوطانهم
"وفي التاريخ من ذلك أوضح العبر، قال المعلمي –رحمه الله- في "التنكيل"(1/94): وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان يرون إنما يريدون الحق، ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم إنما يطلبون الحق فكانت ثمرة ذلك بعد اللتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية، ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرة، ثم خرج القراء مع ابن الأشعث فماذا كان."....
وفي حادثة انقلاب الثوريين في الجزائر عبر لمن اعتبر بذلك من تيتيم الأطفال، وترميل النساء، وتعطيل كثير من المساجد، والمدارس والأسواق والمزارع والمصانع وترويع الآمنين، وسوء الظن بالأبرياء الصالحين، وغير ذلك من فساد الدنيا والدين والله المستعان.
فلهذا أو ذاك نشهد الله على شدة بغضنا للفتن، وزعزعة الأمن، والخروج على ولاة أمور المسلمين، وأن ذلك لا يتنافى مع الصدع بالحق في إنكار المنكرات، والتحذير من الشركيات والبدع والخرافات وسائر المعاصي والمخالفات نصحاً للأمة وتبرئة للذمة"[10].
كتبه أبو الدرداء عبد الله أسكناري وإخوانه
أكادير – المملكة المغربية حرسها الله
ضحى يوم الثلاثاء 26 ربيع الأول 1432هـ
الموافق لـ 1 مارس 2011 م
[1] - المال؛ كما في بعض الروايات.
[2] - وهذا من الجهل الذريع، فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا يعلمون أنهم بأعدائهم يتشبهون,ويعيدون كرَّة الخوارج على المسلمين ويَسْتَعْدون الأعداء على بلاد الإسلام وما إلى ذلك من عظائم المعضلات التي لا يعرف مداها إلا رب السماوات والأرض.
[3] - هذه الأدلة المشار إليها بين المعقوفتين مستقاة من مقال الشيخ أبي عبد السلام حسن بن قاسم جزاه الله خيرا.
[4] - وهذا نقوله حكاية عمّا بلغه علمنا، والحق أن مثل هذا الأمر وأمثاله مما يستدعي تكثيف الجهود لصد عدوانه، نصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
[5] نبه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" أنَّ المشهور نسبة هذه الأبيات لعمرو بن معد يكرب الزبيدي.
[6] أي : شابة. وقوله: "وشب ضرامها " ... تقول شبت الحرب إذا اتقدت وضرامها بكسر الضاد المعجمة أي اشتعالها. قوله: "ذات حليل" بحاء مهملة والمعنى أنها صارت لا يرغب أحد في تزويجها،. قوله: "شمطاء" بالنصب هو وصف العجوز... مكروهة للشم والتقبيل " يصف فاها بالبخر مبالغة في التنفير منها. اُنظر(فتح الباري)
*
[7] - قال ابن حجر في "الفتح": وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ لَا يَرْغَب أَحَد فِي تَزْوِيجهَا.
[8] - اُنظر "أصل صفة الصلاة للشيخ الألباني رحمه الله.
[9] - جريدة المسلمون عدد (540) ص (10) ـ الجمعة (11 المحرم 1416هـ).
[10] - من مقال الشيخ الناصح الأمين يحيى الحجوري –حفظه الله- " أوضح العبر من عواقب الخروج على ولاة الأمر".
تعليق