تجاسر وإقدام الشيخ محمد الإمام
على معتقد السلف في أفراده
كتاب الخلاف
على معتقد السلف في أفراده
كتاب الخلاف
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:-
فمما ابتلي به كثير من الكُتّاب بسبب بُعدهم عن منهجية الإسلام الصحيح وعن طريقة سلفنا الصالح في مسائل العلم والدين وقوعُهم في كثير مما يخالف ما اتفق عليه سلف الأمة.ومن ذلك إفراد التأليف في الخلاف وتخصيص الكتب لذكر الخلاف بين أهل السنة والجماعة، والتأصيل في ذلك ووضع القواعد والضوابط بحجة ضبط التعامل مع الخلاف أو بدعوى الاختلاف في العمل الإسلامي .
وقد فتن في التصنيف في هذه المواضيع كثير من الذين يسلكون المناهج التي تفرق المسلمين، وتزرع بذور الشقاق في صفوفهم، وتبث حنظل الفرقة والاختلاف وتوسعته بينهم والتأكيد له .
والسعي بخيلهم ورجلهم ليجلبوا على الدعوة السلفية وأهلها الخصومة والمشاقة فيفرقونهم عند أدنى نازلة، ويحزبونهم ويؤلبون بعضهم على بعض؛ لأنهم يهوون التفرق والتحزب والزعامات والسير على الباطل ومناقض الحق وأهله، ولهذا فهم يتتبعون المتشابهات ويركضون في ميدان الفرقة بين المسلمين .
ولا شك أن التأليف بمثل هذا الكتب التي كتب فيها الشيخ محمد الإمام يعتبر من الأمور الجارية على مخالفة الشريعة ومناقضتها، وهذا أمر متفق على تحريمه وهو أصل من أصول أهل الشرك والابتداع في الدين، ولذلك جعله الشيخ الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- في كتابه"كشف الشبهات"الأصل الثاني من أصول هل الشرك التفرق والاختلاف.
ولقد كان من سمات أهل التحزب وأصحاب الأهواء والفتنة التأليف والتأصيل للخلاف ومقصود الكثير منهم وضع قواعد تحمي مناهجهم من الحكم عليهم بمنهج السلف كما هو الحال والواقع من كتب الإبانة للشيخ محمد بن عبد الله الإمام .
فكان تأليفه لهذا الكتاب قائم على طريقة الذين يضعون المناهج، ويقعدون القواعد، ويؤصلون أصولا كلها بعيدة عن منهج الإسلام .
ولا شك أن الكتابة في تأصيل الخلاف وأفراد الكتب له وجعل الضوابط فيه منهج مخترع مناهض للسلف ومناقض لمقاصد الشريعة وموارد نصوصها الكثيرة الدالة على النهي عن الخلاف وقطع جميع وسائله وأسبابه، وحسم مادته .
وهو مخالف لمنهج السلف الذين جعلوا في تصنيفهم لكتب العقائد وشروح السنة من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال والاختلاف في الدين وأمروا بلزوم الائتلاف والاتفاق، وإزالة أسباب النـزاع والفرقة، والأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ولا يتعدى ذلك .
وهذا أصل عظيم جرى عليه عمل السلف واتفقوا عليه، وذلك لما دل عليه الكتاب والسنة من كثرة الزواجر وعِظم النواهي في ذلك .
وتقرير ذلك من وجهين :
أحدهما:إن من أصول أهل السنة والجماعة المتفق عليها بينهم وجوب لزوم الائتلاف وترك الفرقة والاختلاف، وذم المراء والجدال في الدين.
وقد دلت على ذلك أصول الشريعة كلياتها وجزئياتها على النهي عن الخصومة والجدال في الدين .
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾[الأنعام:68 ].
وقال تعالى : ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾[غافر:4]
وقال تعالى : ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾[البقرة:176].
وذلك لأن الله أكمل لنا الدين وبين شريعته وفصَّل لنا أحكامه ولم يأمرنا بغير الاتباع والعمل .
قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية:«حدثني المثنى قال ثنا أبو صالح قال ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾[الأنعام:68].
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً﴾[الأنعام:159].
وقوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾[آل عمران:105]، وقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾[الشورى:13 ]، ونحو هذا في القرآن .
قال:«أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله » تفسير الطبري ( 7 / 229 ).
وقال النووي -رحمه الله- في شرحه على "صحيح الإمام مسلم":«باب النهي عن أتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن ....
قال الإمام مسلم-رحمه الله-:حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا حماد بن زيد حدثنا أبو عمران الجوني قال كتب إلي عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال:عند هجرته إلى رسول الله يوما قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال : ((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب )). انظر شرح "صحيح مسلم" للنووي( 4 / 2053).
وعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال : (( إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم لا تسألوني عن شيء إلا أحدثكم به )) ». أخرجه أحمد (2/503)، وابن حبان في "صحيحه" ( 14/ 139) وإسناده حسن.
و قرر هذا أبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث" ص ( 99 )حيث قال : (ويتقون الجدال في الدين والخصومات فيه ) .
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه اعتقاد أئمة أهل الحديث ص ( 71 ):(ويرون ترك الخصومات والمراء في القرآن وغيره ، لقول الله عز وجل:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [ سورة غافر ، الآية : 4 ] يعني يجادل فيها تكذيبا بها ، والله أعلم ) .
وقال الآجري في "الشريعة"( 1 /73):"فاسلكوا طريق من سلف من أئمتكم ، يستقم لكم الأمر الرشيد ، وتكونوا على المحجة الواضحة إن شاء الله تعالى .
فقد أثبت في ترك المراء والجدال ما فيه كفاية لمن عقل ، والله سبحانه وتعالى الموفق لمن أحب".
وعليكم بعد ذلك بالسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقول التابعين، وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم مع ترك المراء والخصومة والجدال في الدين .
فمن كان على هذا الطريق رجوت له من الله عز وجل كل خير" اهـ.
وأصل الاجتماع والائتلاف من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله-تعالي- به في كتابه.
ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواطن عامة وخاصة .
وهو باب الفساد الذي وقع في هذه الأمــة.
وإن رعايـة هذا الأصل من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهـل العذاب من هذه الأمة بالسـنة والجماعة .
ولأهميته اعتنى أئمة الإسلام به في كتب السنة والعقائد، ومازالَ علماءُ الأمة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ينهون عن الاختلاف، ويوصون بالتمسك بكتابِ الله وسنّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم في كتبهم المصنفة .
ولعظمة هذا الأصل كان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به وهو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة فباجتماعهم حلت الرحمة وكانوا مرحومين بإصابة الحق وموافقته وكان هذا كالتنبيه أو كالتذكير بمكانة الاجتماع والائتلاف .
وهو الذي حض الله عليه أنبيائه في القرآن وهو أن يدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال الله تعالى:{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} [سورة الشورى: 13 ]
وهي وصية الله إلى الأولين والآخرين وهي أول دعوة الأنبياء و أصحاب العاقبة الحميدة، وأهل المقعد الصدق وشعار الأولياء.
ومن أجل هذا كانت طريقة أئمة أهل الحديث ذكر الالتزام بنصوص الكتاب والسنة وترك البدع وأهواء و الاختلاف والتفرق .
فهذه كتب السنة من الصحاح والمسانيد ، وشروح أصول السنة كشرح السنة للإمام أحمد ومسائل السنة للخلال، وكتاب السنة لأبن أبي عاصم وشرح أصول السنة للألكائي وأصول السنة لابن أبي زمنين وشرح السنة للبربهاري، وهكذا كتب العقائد ككتاب الشريعة الآجري وكتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة و الرسالة الوافية لمذاهب أهل السنة لأبي عثمان الداني وعقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني، طافحة ملئية بالنهي عن الاختلاف والتفرق وذم الجدال والمراء في الدين.
ولم يخصصوا شيئا في الخلاف، ومَلأوا كتبهم بأبواب وفصول في الاعتصام بالكتاب والسنة، وبالغ بعضهم في ذلك فأفردوا كتبا خاصة في التصنيف في (الإتلاف ولزوم الجماعة)، وفي الحث على التالف والتآخي والتراحم و التزاور ونبد الخلاف والفرقة والبحث عن أسباب الخلاف وتأصيله.
ولما كان التنازع والاختلاف يوجب أنواعا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون كان الواجب هو الرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة والاحتكام إليهما كما أمرنا الله عز وجل بذلك حيث قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : 59]
ونرى في آي الكتاب النهي الشديد والزجر الأكيد عن الإخلاف والاختلاف في الدين وكذلك سنة رسول الله eتوافق كتاب الله كالحديث المشهور عنه الذي روى مسلم بعضه عن عبد الله بن عمرو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله eخرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر ورجل يقول: ألم يقل الله كذا ورجل يقول: ألم يقل الله كذا فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال:(( أبهذا أمرتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه)) .
هكذا أمرنا الله عز وجل في كتابه ورسوله في سنته أن نرجع عند الاختلاف للكتاب والسنة وهذه أمور واضحة لا تحتاج لأن يخصص كتبا في الخلاف وضوابطه بين أهل السنة .
فالكتابة في إظهار مسائل الخلاف ووضع التأصيل في الاختلاف ونسبته لمنهج وأصول أهل السنة والجماعة ينافي مقاصد الشريعة ويختلف تمام الاختلاف مع أصول أهل السنة .
إذ أن الاختلاف الذي وقع بين أئمة أهل السنة والجماعة فإنه نوع من الاجتهاد المتفق عليه بين المسلمين وهم في ذلك يتبعون شرائع دينهم، ولذلك لم يكن عند أحد من أئمة المسلمين الاختلاف في مسائل المنهج والاعتقاد، وإنما وقع الاختلاف في الأمور الاجتهادية الجزئية قولية كانت أو فعلية وهو من باب تحقيق المناط الذي هو أن يعلق الحكم بمعنى عام كلي فينظر ثبوته في أحاد الصور أو أنواع ذلك العام وهذا لا خلاف فيه إذ التنازع فيه يدخل في باب الاجتهاد السائغ الذي يؤجر المتكلم فيه سواء أصاب أم أخطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-في مجموع الفتاوى (14 / 159):"والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتابا سماه كتاب"الاختلاف"فقال أحمد سمه كتاب"السعة"، وأن الحق في نفس الأمر واحد و قد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه و يكون من باب قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن نبد لكم تسؤكم}.
وهكذا سائر وجوه الاختلاف التنوعي والاختلاف الاعتباري و اللفظي ،فأمره قريب ، وهو كثير أو غالب .
وأكثر المسائل الدينية التي يحتاج لها العباد وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة ولم يقع اختلافهم في المسائل الأصولية ولا في المنهج والاعتقاد ولذلك يلغى تسمية الاختلاف في المسائل الخفية والفروع الاجتهادية إذا أن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافا في الدين لأنه من باب تحقيق المناط وتوجيه الدليل على ما دل عليه ، وهو من الاجتهاد السائغ في الشريعة.
والذي يوجد في كلام وأصول أهل العلم في الخلاف الذي يكون مخالفة للحق والدين هو الخلاف الذي يحدث بسببه الفرقة التي نهى الله عنها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن علامات أهل البدع إحداث الفرقة التي نهى الله عنها".( )
وقال العلامة الشاطبي-رحمه الله- عند الكلام على أهل الأهواء:"ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة و علامات أيضاً في التفصيل .
فأما علامات الجملة ؛ فثلاث :
إحداها : الفرقة نبه عليها قوله تعالى : {إنَّ الَّدِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُم في شَيء } [الأنعام : 159]وقوله {وَلاَ تَكُونوا كالذيِّنَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا} [ أل عمران : 105]
وغير ذلك من الأدلة .
قال بعض المفسرين: ( صاروا فرقاً لاتّباع أهوائهم ، وبمفارقة الدين تشتت أهوائهم فافترقوا وهو قوله { إن الدين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً } ثم برَّاه الله منهم بقوله :{لستَ منهم في شيء}
وهم أصحاب البدع"و أصحاب الضلالات"، والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله) قال : (ووجدنا أصحاب رسول الله من بعده اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً ؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصّاً، واختلفت في ذلك أقوالهم ؛فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به ؛كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة و خلافهم في الطلاق قبل النكاح و في البيوع ....
وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع هذا أهل مودة تناصح وأخوَّةُ الإسلام فيما بينهم قائمة ،فلما حدثت الأهواء المردية حذر منها رسول اللهو ظهرت العداوات وتحزَّب أهلها فصاروا شيعاً ؛دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثَة ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه" الموافقات ( 5/ 159-164 ).
وقال أيضاً-رحمه الله-: "فكل مسألة حدثت في الإسلام ،فاختلف الناس فيها ، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوةً ولا بغضاءَ ولا فُرقة ؛علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة ؛ علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء و أنها عنى رسول الله بتفسير الآية و هي قوله:{إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً}فإذا اختلفوا و تقاطعوا؛ كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى"إهـ
هذا ما قاله وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة و التحاب والترحم و التعاطف ؛ فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين .
ويتجلى لك ذلك من قوله:"أهل السنة والجماعة وأهل الأهواء والبدعة"؛فإنهم سموا أهل السنة والجماعة لاجتماعهم على الألفة واعتصامهم بالسنة .
وسموا أهل الأهواء والبدع لاتباعهم الأهواء ومنابذتهم الألفة والجماعة .
ولهذا كان شعار الطائفة الناجية هو السنة والجماعة دون البدعة والفرقة .
قال شيخ الإسلام: "من طريقة أهل السنة والجماعة إتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله حيث قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ؛فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضلالة) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدى محمد على هدى كل أحد.
وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة ؛لأن الجماعة هي:الاجتماع ،وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين ،والإجماع هو الأصل الثالث: الذي يعتمد عليه في العلم والدين ،وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ") أهـ انظر مجموع الفتاوى (3 /157).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:"والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة) انظر الاستقامة: ( 1 / 42).
وعلى ذلك جاء تفسير ابن عباس:في قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ،فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون }
قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. انظر الجواب الصحيح ج: 6 ص: 490- 491 ومجموع الفتاوى( 19/114-116).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة وهم الجمهور الأكبر،والسواد الأعظم وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريباً من مبلغ الفرقة الناجية ،فضلا على أن تكون بقدرها ؛بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة"وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع،فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة" مجموع الفتاوى (3 /345 - 346).
ومن دلك قول الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه "الرد على الزنادقة ،والجهمية "الذين عقدوا ألوية البدعة ،وأطلقوا عنان الفتنة ،فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله تعالى وفي الله تعالى وفي كتاب الله تعالى بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة ،بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ،فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة ؛كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك كان من أهل البدع والضلال والتفرق .
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون لـه إلا رسول الله وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة ،فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف ،فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه .." مجموع الفتاوى (3 /347 ).
ولا شك إن الخلاف الذي يكون صاحبه مخالفاً للدين والحق هو الخلاف الذي يحدث الفرقة وتحدث بسببها المشاحنة ، و لا يمكن أن يكون إلا وصاحبه مخالفته في أصول الشريعة وكلياتها وهذا الذي يحصل بسببه الاختلاف والافتراق بين الناس وهذه هي طريقة أهل الأهواء و البدع المخالفين للدين و الحق .
فالشيخ الإمام ترك أصول أهل السنة وما بينوه في شروح السنة وذهب يضع القواعد والضوابط ويجاهر أهل السنة والجماعة في مخالفتهم في تصنيفه كتابا في الخلاف وضوابطه، ويستدل له بأدلة تاركا فيها طريقة أهل السنة.
لذلك كانت الحاجة ماسة إلى تعريف الخلاف لليتبين أنه مضاد للشريعة :
وهو الفصل الثاني :
الفصل الثاني :
فالاختلاف لغة:افتعال من الخلاف، وهو تقابل بين رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه. انظر فقه التعامل مع المخالف للدكتور عبد الله الطريقي (صـ15).
والاختلاف مصدر اختلف نقيض الاتفاق واختلف الأمران لم يتفقا وكل ما لم يتساو فقد اختلاف، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الأخر وهو ضد الاتفاق. انظر المصباح القيومي (179) ومختالا الصحاح للرازي (صـ78).
إذن الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا والخلاف مضادّة وخالفه إلى شيء عصاه إليه أو قصده به أن نهاه عنه. انظر الائتلاف والاختلاف للدكتور صالح السدلان (صـ10)
والخلاف في الاصطلاح :هو أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو في قوله .
والخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين .
ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة . انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب (صـ294)
ويمكن القول إن الخلاف يدل على تباين في الآراء و المواقف حول أمر من الأمور والاختلاف في وجهة النظر. انظر مقدمة حديث الافتراق للصنعاني (صـ5)
أو تعدد الآراء والاتجاهات في القضية الواحدة سواء أكانت هذه الآراء متضادة أم لا وسواء أدت إلى النزاع أم لا .
لهذا كان النهي عن الاختلاف يدخل في ذلك التأليف فيه ووضع له القواعد والضوابط
وهو الفصل الثالث:
الفصل الثالث
النهي عن الاختلاف يدخل في ذلك التأليف فيه ووضع له القواعد والضوابط :
لقد انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على وجوب الالتزام بالكتاب والسنة والاعتصام بهما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد" انظر إقاض الهمم للفلاني (صـ68) وإعلام الموقعين (2/261).
وإذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافا لا يضر، كما وقع من اختلاف الصحابة فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسولهe، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة . انظر الصواعق المرسلة لا بن القيم (2/519) بتصرف يسير مني.
لذلك كان الاختلاف في الإفهام وهو اختلاف التنوع وهو الذي يؤدي إلى التكامل وقد يكون كله مقبولا ومطلوبا لأنه اختلاف ليس على سبيل التعارض والتضاد وليس مما ينجم عنه من عداوة وبغضاء وتفرق بل هو من التوسيع على المكلف والرحمة بالعباد لذلك يقول شيخ الإسلام-رحمه الله- عن مثل هذا الاختلاف: "والنـزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتابا سماه "كتاب الاختلاف"فقال أحمد:سمه "كتاب السعة"، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة:101] انظر الفتاوى (14/159).
ولهذا كان بعض العلماء يقول:إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة .
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله eلم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة) . انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/80).
وأما اختلاف التضاد وهذا هو المنهي عنه لأن وجه الحق مقطوع بصوابه والقول الآخر مقطوع بتخطئته ومخالفته للنصوص الكتاب والسنة ومعارضته لدلالتها الظاهرة المعلومة وهذا الخلاف هو الذي أوجب الفساد في هذه الأمة .
لذلك كان لهذا الاختلاف آثار سلبية من التفرق والاختلاف الذي حصل من الأمة بين علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها، وهو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها.
وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة:14] فمتى ترك الناس بعض ما أمر الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ؛فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب . انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/421).
وهو الذي نهى الله عز وجل عنه نبيه من أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فقال تعالى: ((ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)) [سورة الروم 30- 32]، ومثله قوله: ((وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد)) [ سورة البقرة 176].
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء92]، ويقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون52]، ويقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] ويقول: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون* فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [سورة المؤمنون: 51 -53 ]
أي اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين لـه الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [ سورة البينة: 5 ]
لذلك كان من أثار هذا الاختلاف المذموم أنواع من الفساد :
"أحدها": جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه رسول الله eلأمته، والذي أمرهم باتباعه .
"الثاني": ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم :تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه .
وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقه من وصلتهم لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يقدمون في المولاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك.
"الثالث": اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مدينا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة ، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة :كالخوارج، والرافضة، والمعتزلة ، ونحوهم .
وقد قال تعالى في كتابه: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [سورة ص:26]
وقال في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}[المائدة:77].
"الربع": التفرق والاختلاف المخالف للإجماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا، ويعاديه، ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن، والهمز، واللمز وبعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرات والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله . انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/356-357).
وإن من آثار هذا الخلاف الفشل وذهاب القوة والدولة وهو المعني بقوله الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
فإن مثل هذا الخلاف عذابا محضا ليس فيه التوسعة المرجوة للمكلفين، وإنما فيه الفرقة والتناحر، الذي هو سبب في العداوة وتسليط الأعداء ويسهل على أي عدو أن يتحكم بالمسلمين ويتسلط عليهم قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها.... " انظر مجموع الفتاوى (22/254).
الفصل الرابع:
أسباب التنازع
لو شاء الله عز وجل لجعل النصوص الشرعية محكمة قطعية في دلالتها لا تحتمل توارد الظنون ولا تكافؤ الأدلة المتعارضة، غير أن لله حكمة في أن تكون الفروع والجزئيات قابلة لهذا التنازع.
والأصل ألاّ يؤثر مثل هذا الخلاف طالما أن الأصول والكليات متفق عليها يقول العلامة الشاطبي-رحمه الله-: "فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف". انظر الاعتصام (2/168).
فمن الواجب المحتم على الأمة أن تتبع الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يتعمد مخالفة نص من نصوص الكتاب والسنة الثابتة عن رسول اللهe وهذا أمر مجمع عليه من الصحابة فمن بعدهم لكن هناك حالات كانت سببا لوجود الخلاف ويُعذر فيه المجتهد المخلص الجاد في طلب الحق إذا خالف فيها ولم يوفق للصواب في مخالفته وقد ذكر شيخ الإسلام من هذا لأسباب الذي أوجدت الخلاف وكانت أعذارا لمن خالفها في كتابه العظيم""رفع الملام عن الأئمة الأعلام"وهي كتالي:
1-أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه –قد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية ، أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب –فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى.
وهذا السبب :هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث .
فإن الإحاطة بحديث رسول اللهeلم تكن لأحد من الأمة .
وقد كان النبيeيحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا، ويبلغه أولئك –أو بعضهم –لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله تعالى من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
ثم في مجلس آخر:قد يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل شيئا ويشهده بعض من كان غائبا ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم ،فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء وعند هؤلاء ما ليس هؤلاء .
2- أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد :مجهول عنده أو متهم أو سيء الحفظ.
وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث ، قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل.
3-اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره.
4-اشتراط في خبر الواحد العدل الحافظ :شروطا يخالفه فيها غيره .
5-أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه وهذا يرد في الكتاب والسنة .
6-عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده، وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبيe، وهو يحمله على ما يفهمه في لغته على أن الأصل بقاء اللغة.
7-اعتقاده :أن لا دلالة في الحديث.
8-اعتقاد :أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مراده .
9-اعتقاد:أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله إن كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أومثل إجماع.
10-معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقد غيره أو جنسه معارضا أو لا يكون في الحقيقة معارضا راجحا. انظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام وكتاب الأنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي .
الفصل الخامس:
ليس من منهج السلف تخصيص كتبا في التأليف في الخلاف وضوابطه:
الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وهذا مما يدل على أن لا اختلاف فيها كما أنها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك والدليل عليه أمور:
أحدها: أدلة القرن من ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82]؛ فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال .
وفي القرآن: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء:59]، وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف؛ فإنه ردّ المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد ؛ إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفعُ تنازع وهذا باطل .
والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ قول واحد قال المزني صاحب الشافعي: "ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة ".
فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ". انظر الموافقات للشاطبي: (5/60-61)، وجامع بيان العلم (2/910).
لذلك يجب التضييق على الخلاف والأخذ بطرق الشريعة ما أمكن إلى ذلك سبيل والحذر من الأقوال والأفعال التي تدعو إلى الفُرْقَةِ والاختـلاف فإن الله لم يعذر أهل الكتاب من قبلنا في اختلافهم وذمهم وحذرنا من مسلكهم مع نقص ببناتهم التي كانت بين أيديهم فهل سيعذر المسلمون مع كمال البينات التي بين أيديهم ووضح الحجة والمحجة فإن الله لم ينزل كتاب واضح بيِّن كامل من كل الوجوه مثل القرآن.
فالتأليف في الخلاف يكون منهيا عنه من وجوه وهي كتالي:
1- تأكيد الفرقة والشذوذ .
2- عدم استحضار أن الخلاف ينافي أصول الشريعة ومقاصدها كما في قصة إنكار ابن مسعود على عثمان في إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال : "الخلاف شر".
3- عدم مراعاة مصلحة التأليف والاتفاق على الدين التي راعتها الشريعة ولهذا ترك النبي – صلى الله عليه وسلم- تغيير بناء البيت لما في ذلك من تأليف القلوب واجتماع الكلمة.
4-عدم الإدراك والتيقن أن مما شرع الله وعمل به رسوله وأصحابه ترك كل ما يؤدي إلى الاختلاف ولو كان جائزا في الجملة أو مسنونا ولنا في رسول الله أسوة حسنة الذي كان يترك العمل وهو يحبه لئلا يؤدي إلى ما يشق على المسلمين فضلا على أن يؤدي إلى اختلافهم .
5- عدم إدراك أن جميع ما يحتاجه الناس من الدين معلوم مقطوع به.
6- عدم تضافر الجهود على مراعاة أصل الاجتماع على الكتاب والسنة والاعتصام بهما الذي عظمة وصية الله به .
7- عدم الحد والتقليل من الاختلاف باستحضار أن الأصول والغايات والطرق والمقاصد واحدة.
8- إشغال الناس بالتفاصيل والمسائل الدقيقة التي ينتج بسببها الخلاف.
9- الجرأة في إثارة الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة .
10- عدم حمل الناس على الخروج من الخلاف احتياطا للدين .
11- ترك الجدال والمراء في مسائل العلم والتعرض للمناظرات .
12- عدم الالتزام بمنهج السلف .
13- التعصب والتعلق بقواعد معينة يصحح ما وفقها ويخطئ ما خالفها وهي نفسها غير مسلمة .
خـــاتمة:-
إن مما يجدر التنبيه عليه في موضوع الخلاف أن الأصل الأصيل والواجب المحتم على الأمة أن تتبع الكتاب والسنة وأنه لا يجوز لأحد أن يتعمد مخالفة نص من نصوص الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله e، وهذا أمر مجمع عليه من الصحابة فمن بعدهم ؛لكن هناك حالات يعذر فيها المخالف المجتهد في طلب الحق إذا خالف نصا كأن لا يبلغه النص فيبذل جهده في الوصول إلى الحق لكنه لم يوفق للصواب فيقع في مخالفة النص فهذا يعذر ويثاب على خطئه الذي وقع فيه ويدخل في فوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة : 286].
فقد بيِّن الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدا في الآخرة ومن عصى الله ورسوله وتعدى حدوده كان معذبا فهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء.
ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالاً في الدنيا ولا شقياً في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ]، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه، وذلك في قوله تعالى : {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ البقرة : 38 ] .
ومما لا شك فيه أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي ، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالماً ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ ، في حال كونه معرضاً عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده، كافية مغنية ، عن كتابه الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي، والعمل به ، لا تكاد تحصى، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى ،لأن طاعة الرسول طاعة لله .
وقد قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الحشر : 7] .
وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران : 132 ] .
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران : 32 ] .
وقال : {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [ الأحزاب : 71 ] .
وقال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [ النساء : 80 ] .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [ النساء : 59 ] الآية.
وقال تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء : 13 - 14 ] .
وقال تعالى : {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [ المائدة : 92 ] .
وقال تعالى : {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال : 1 ] .
وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} [النور : 54 ] .
وقال : {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [النور : 56 ] .
وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد : 33 ] .
وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون} [النور : 51 - 52 ] .
وقال تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَة}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-في كتابه الاستقامة (1 /31-32): "ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]،فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ بل مع نوع بغى، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة، وكان ذلك من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم."
لذلك كان الخلاف عند علماء الأصول وغيرهم قسمان قسم محرم، وقسم غير محرم فأما الاختلاف المحرم: فهو كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم منصوصا بينا، فهذا لا يحل الاختلاف فيه لمن علمه قال الله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : 4]، وقال تعالى (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : 105]، فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون والحامل لهم على التفرق والاختلاف البغي وسوء القصد وهذا الاختلاف يكون المختلفون كلهم مذمومين وهم الذين اختلفوا بالتأويل وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) [آل عمران:105]
وجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد فقال تعالى: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) [سورة البقرة176]
وأما القسم الثاني:وهو الذي لا يدخله التحريم وهو ما يحتمل التأويل ويدرك بالاجتهاد، فلا يضيق على المجتهد في هذا القسم ضيق الخلاف في نصوص البينة المعلومة الظاهرة . انظر الصواعق المرسلة لابن القيم ( 2 /513)، ضوابط الترجيح عند التعارض لدى الصوليين (صـ147)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبه :أبو مصعب
علي بن ناصر بن محمد
العدني
علي بن ناصر بن محمد
العدني
تعليق