التلوّن في الدين
وتعداد وجوه المندسّين
(الطبعة الثانية)
أذن بنشرها
فضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله ورعاه
مع تقديم
الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني
حفظه الله ورعاه
بمراجعة
مجموعة من أفاضل مشايخ دار الحديث بدماج حفظه الله ورعاهم
كتبها:
الفقير إلى الله أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
الجاوي القدسي آل الطوري عفا الله عنه
مقدمة الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله ورعاه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل للحق أعواناً وأنصاراً يدحض بهم الباطل ويزهقه، قال تعالى: ]بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ[ [الأنبياء/18]، وجعل أهل السنة والجماعة منصورين، قاهرين لأعدائهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون المنافقون، فأتم الله به النعمة، وأكمل به الدين، وجعل خير الهدي هديه، وخير الطرق طريقه، فمن خالف ذلك ضلّ عن طريق الله المستقيم.
فكان واجباً على العلماء وطلبة العلم أن يبينوا للناس هذا الطريق، وأن يحذّروهم عن كل ما يصدّهم عن سبيل الله المستقيم. وممن قام بهذا الواجب أخونا المفضال الداعي إلى الله على بصيرة() أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي في كتابه المفيد: «التلون في الدين وتعداد وجوه المندسين». فقد اطلعت على كتابه المذكور، وقرأت كثيرا منه، فوجدته بذل فيه حهدا عظيما يدل على غيرته على السنة، وعلى استفادته في العلم النافع. فنسأل الله عز وجل أن ينفع به وبكتابه الإسلامَ والمسلمين. ونسأل الله عز وجل أن يصلح إخواننا الذين انخدعوا بالمتلوّنين والمتحزّبين، وأن يردّهم إلى الحق ردّاً جميلاً.
كتبه أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني
يوم السبت 21 شوال 1430 هـ
في دار الحديث بدماج
حرسها الله
مقدمة المؤلف للطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
أما بعد:
وقد يسر الله لطبع هذا الكتاب أول مرة بعونه وقوته، ثم بنصرة بعض فضلاء السلفيين . وقد راجعته مرة أخرى فوجدت –كما هو شأن جميع مؤلفات الناس- بعض الأخطاء، وبعض ما رأيته يحتاج شيء من التصليح، فصلّحته بقدر ما أستطيع. فمن وجد بقية الأخطاء فليفدنا مشكورا مأجورا إن شاء الله.
وبالله التوفيق.
كتبه أبو فيروز عبد الرحمن الإندنيسي القدسي عفا الله عنه
بدار الحديث بدماج
تاريخ 7 ربيع الثاني 1431 هـ.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70 -71].
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(وجوب التمسك بالتوحيد والسنة)
فإن الله تعالى قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وجعل في عباده فطرة وعقلاً لمعرفة أنه عز وجل مستحق للعبادة لا شريك له.
قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ... أن رسل الله وأنبياءه ـ من أولهم إلى آخرهم ـ بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: ]يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[، ]أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ[، ]أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ[ وهذه الذي تضمنه قول "لا إله إلا الله". فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها : هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه... –إلى قوله:- فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعا:
اعتقادية: وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الألوهية.
ومنها اللفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر. ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة. ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.
ومالية، كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها اهـ. ("تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد" / ص 45-52/دار ابن حزم).
قلت -وفقني الله-: ومن هذه العبادة الأمر بالصدق، والصدع بالحق، وليكونوا مع الصادقين.
قال تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[ [الحجر/94، 95]
قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[ [التوبة/119]،
وأثنى على الصادقين: ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[ [الأحزاب/23]،
قال تعالى: ]لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا[ [الأحزاب/24]،
وقال تعالى: ]قَالَ الله هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [المائدة/119]
وذم الله تعالى سبل المنافقين وخطواتهم، وكشف عوارهم في آيات كثيرة متعددة.
(اندساس الأعداء في صفوف الموحّدين السلفيين)
ثم إن المسلمين قد ابتلوا بأناس يبطنون الحقد، والغيظ، والحسد على المسلمين، ويتربصون بهم الدوائر. وهم يظهرون محبتهم ومطاوعتهم وموافقتهم، يظهرون أنهم منهم، وما هم منهم ولكنهم قوم يفرقون. استخدموا الكذب، والتستر، والتلون، والغدر، والتلبيس، والتدليس، وغير ذلك من أنواع طرق النفاق.
بعضهم كفار يتظاهرون بالإسلام مكرا بالمسلمين.
وبعضهم مسلمون فاسدو الاعتقاد يتظاهرون بالعقيدة الصحيحة مكرا بالموحّدين.
وبعضهم من أهل التوحيد وافقوا أهل السنة في كثير من الإمور العقدية، ولكنهم أبطنوا بعض الأصول الفاسدة مكرا بالسلفيين.
وكلهم اجتمعوا في صفة واحدة وهي: التلون ونصرة بعض المبطلين، إما سرّاً وإما علانية.
وقد أبان الله تعالى في كتابه الكريم مكر هؤلاء وأنه تعالى سيخيّب سعيهم، مصداقاً لقوله تعالى: ]يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[ [التوبة/32، 33]
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبح فعلهم، تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم». الحديث (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب وجوب الوفاء ببيعة/1844/دار ابن الجوزي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).
ولم يزل العلماءُ يحذرون الأمةَ منهم على ممر التاريخ. وذلك كله من باب قول الله تعالى: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله [ [آل عمران/110]
وقول جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله: بَايَعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. (أخرجه البخارى (كتاب المواقيت/باب البيعة على إقامة الصلاة/57) ومسلم (كتاب الإيمان/باب بيان أن الدين النصيحة/56/دار ابن الجوزي))
وإني –ولله الحمد على توفيقه- لما رأيت كثرة التلونات عند المنافقين، والمبتدعة، والحزبيين، -يغترّ بذلك كثير من إخواننا السلفيين خصوصاً، وإخواننا المسلمين عموماً- أحببت المشاركة في تحذير المسلمين من قبح التلونات في الدين، ومن أربابها، عسى الله أن ينفعني وإياهم بها، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
وهناك أناس ليسوا من أهل المكر ولكنهم تلوّنوا في أمور دينهم، إما لعدم الصبر على البلاء، وإما لقلة البصيرة عند سماع الشبهات. هذا الصنف أيضاً يحتاج إلى التنبيه.
وأعتذر من القراء الكرام أنني طوّلت النفس في البحوث عن ثبوت بعض الأحاديث والآثار. وقد نصحني أحد الفضلاء الكرام –جزاه الله خيراً- على وضعها في آخر الكتاب لأن هذا الكتاب كتاب الردود، فاقتضى ذلك تسهيلَ القراءة، فلا تنبغي أن تُخلَّل بكثرة البحوث في طرق الأحاديث، والآثار، وأحوال رجال الأسانيد. هذه النصيحة عندي طيبة، ولكن بعض الفضلاء الناصحين الآخرين -حفظهم الله- أقنعوني على إبقاء الكتاب كما كان، لأن طلاب العلم الجادّين يحبّون ذلك. وهذا الكتاب أكثر مَن يستفيد منه هم طلبة العلم. فأعتذر من الجميع، وأشكر لهم على بذلهم لي النصح والإرشاد، وحرصهم على انتفاع الناس من هذا الكتاب، وسأضع تلك البحوث في الحواشي، والله الموفّق.
كلمة الشكر والثناء
قال ربنا عز وجل: ]وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[ [إبراهيم/34]
ومن نعمة الله عليّ أن وفقني لطلب العلم بدار الحديث بدماج، بين يدي شيخنا الوالد الناصح الأمين المحدث أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله ورعاه-، فرباني على عقيدة السلف، وفقههم، وعلومهم، وآدابهم عموماً، ثم ألقى اقتراحاً للبحث في باب ((ذي الوجهين)) خصوصاً، فلما عرضت عليه –رعاه الله- هذه الرسالة اعتذر –حفظه الله- مني في النظر فيها لشدة شغله –أعانه الله- ولا سيما نحن في أيام هجومات كفرة الروافض البغاة. وقال حفظه الله ورعاه: إذا قد نظر فيها الشيخ أبو عمرو –يعني الشيخ عبد الكريم الحجوري العمري حفظه الله- كفى اهـ.
وشيخنا يحيى حفظه الله كما قال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: ...الشيخ الفاضل، التقي، الزاهد، المحدث، الفقيه أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري ‑حفظه الله ‑ ... والأخ الشيخ يحيى هو ذلك الرجل المحبوب لدى إخوانه لما يرون فيه من حسن الاعتقاد، ومحبة السنة، وبغض الحزبية المساخة، ونفع إخوانه بالفتاوى التي تعتمد على الدليل، إلخ (مقدمة "ضياء السالكين" ص5/دار الآثار).
فثناء العلماء عليه -حفظه الله ورعاه- معروف، وكتبه معروفة، ونسأل الله أن يجعل قلمه كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: القلم الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل. وهذا القلم في الأفلاك نظير الملوك في الأنام، وأصحابُه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل وعدوّ لكل مخالف للرسل. فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن اهـ. ("التبيان في أقسام القرآن" /ص 198/مكتبة أولاد الشيخ للتراث).
وهناك مجموعة من مشايخ() دار الحديث بدماج الذين يتواضعون لله، ويصبرون، ويبذلون جهدهم في مراجعة هذه الرسالة مع التدقيق، والتنبيهات المهمة، والنصائح الثمينة، والإضافات النفيسة، والفوائد العظيمة، وغير ذلك من الحسنات. وهم –على ترتيب الأحرف الهجائية-:
1- شيخنا أبو محمد عبد الحميد بن يحيى الزعكري الحجوري -حفظه الله ورعاه-
قال عنه الإمام مقبل الوادعي رحمه الله في ترجمته: يحفظ القرآن اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 178/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (52) ص48/دار الآثار: ثبت يحفظ القرآن، وصحيح مسلم، وباحث له "فتح المنان في الصحيح المسند من أحاديث الإيمان"، "البيان الحسن لما أحياه الشيخ مقبل الوادعي من السنن"، ومشارك في تحقيق مجلد من "المحلى" لابن حزم اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله : هو من مشايخ الدار، وهو من المدرسين، وله مؤلفات نافعة، ونفاح عن السنة وأهلها، وله جهود يشكر عليها، أرسله شيخنا يحيى حفظه الله إلى تنزانيا مع أخيه الشيخ الفاضل أبي معاذ حسين الحطيبي اليافعي ونعم الصاحب سفرا وحضرا. ومن كتب أبي محمد "الخيانة الدعوية" ... وله: ، "التبيين لخطأ من حصر أسماء الله في تسعة وتسعين"، "تحذير العقال من فتنة المسيح الدجال"، "تحقيق الإيمان لابن أبي شيبة"، "تحقيق الإيمان لأبي عبيد"،"فتح الحميد المجيد في الراجح في خطبة العيد"، "النصيحة والبيان لما عليه حزب الإخوان في أكناف دور القرآن"، "الديمقراطية والإخوان المسلمون". وله أعمال أخرى ما يقارب تسعة عشر مؤلفا، ومنها ما هو تحت الطبع، ومنها ما هو يعمل فيه، فجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين اهـ. (كتاب "الرد الشرعي"/ لشيخنا طارق بن محمد البعداني /ص83/تحت الطبع).
2- شيخنا أبو عمرو عبد كريم بن أحمد بن حسين العمري الحجوري -حفظه الله ورعاه-
قال عنه الإمام مقبل رحمه الله: يحفظ القرآن، و"اللؤلؤ والمرجان"، داعية إلى الله اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 220/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" ص49/دار الآثار: سني، ثبت، مدرس، وخطيب، يحفظ القرآن، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، له "عقود الجمان على اللؤلؤ والمرجان"، و"تلبية الأماني في أفراد البخاري"، و"نسائج الديباج في أفراد مسلم بن الحجاج"، و"شرح قطف الثمر لصديق حسن خان"، ورسائل أخرى اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: يرسله شيخنا يحيى حفظه الله إلى دول شتى للدعوة إلى الله، منها الصومال، والهند، وغيرهما. ويصحبه الشيخ الفاضل زايد الوصابي، ونعم الصاحب. فجزاهما الله خيرا. وله كتب مؤلفة لست بصدد سردها ... إلخ (كتاب "الرد الشرعي" /لشيخنا طارق بن محمد البعداني /ص82/تحت الطبع)
3- وشيخنا القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن سعيد الشميري -حفظه الله ورعاه-،
قال عنه الإمام مقبل رحمه الله: من حفظة القرآن، وذوي الأخلاق الفاضلة اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 231/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (75) ص55/دار الآثار: يحفظ القرآن وعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، سني، فاضل مدرس، داع إلى الله، له بحث في الفرائض بعنوان : الفائض، وبحث في الأصول بعنوان: الإكراه، وله جمع مشكلات الحافظ ابن حجر في الفتح ولم تكمل بعد اهـ.
4- وشيخنا أبو حمزة محمد بن الحسين العمودي الحضرمي -حفظه الله ورعاه-
قال عنه شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (100) ص62/دار الآثار: حافظ للقرآن، و"بلوغ المرام"، شارك في تحقيق مجلد من "المحلى" لابن حزم، وله رد على محمد وصالح الوادعيين اهـ.
قال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: ونعم الشيخ، يعجبني أدبه وسمته وتواضعه، وله جهود في الدفاع عن السنة وأهلها، وله ردود على أصحاب الحزب الجديد أصحاب حزب ابني مرعي وشلتهما الباغية، وهو ناقد بصير جزاه الله خيرا. وله رسائل أخرى في الرد على الوصابي (منها "الكاوي لشطحات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي")، والجابري، و"الواقفة حزبية مغلفة"، و"تحفة الجليس الأنيس في النهي عن التشبه بالحزبي الخسيس"، و"شرارة اللهب على من أصيب بداء الكلب"، "الدعوة السلفية في اليمن مقبرة الحزبيين فليعلمن"، و"سلسلة الطليعة"، و"الحزبية الجديدة وليدة السرورية"، و"رقية المرضى من حزبية عبد الرحمن العدني" ورسائل أخرى. وقد طلب منه شيخنا يحيى حفظه الله أن يجمع في الكتب المفتراة على مؤلّفيها، وقال: هذا العمل يحتاج إلى دكتوراة واسعة، فهو جدير بها إن شاء الله، نسأل الله لنا وله التوفيق اهـ. (كتاب "الرد الشرعي" ص83-84/تحت الطبع)
5- وشيخنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني-حفظه الله ورعاه-،
قال عنه الإمام مقبل الوادعي رحمه الله في "ترجمته" برقم (326) ص57/دار الآثار: يحفظ القرآن، و"بلوغ المرام" و"عمدة الأحكام" و"رياض الصالحين"، و"صحيح مسلم" اهـ.
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (99) ص62/دار الآثار: ثبت، يطلب العلم بأدب وسكينة، يحفظ القرآن، و"صحيح مسلم"، و"الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين"، وباحث، له تحقيق الجزء التاسع من "فتح الباري" ورسالة "فتح المنان فبما صح من منسوخ القرآن"، ورسالة في الصيام اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: وهو يعتبر من مشايخ الدار ومن أبرز طلاب الدار حتى إن شيخنا يحيى حفظه الله تعالى قال: إن شاء الله إذا خرجنا دعوة يخلفني محمد بن حزام. انتهى كلام الشيخ. وهو أهل لذلك، وهو من الذين فتح الله عليهم في الحفظ، والقرآن، والفقه، والمصطلح، والعقيدة، والحديث، وفنون أخرى، والثبات على المنهج السلفي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وله شروحات، منها: شرح "بلوغ المرام" (فتح العلام دراسة حديثية وفقهية لبلوغ المرام)، وشرحه لهذا الكتاب يفوق كثيراً من الشروح الموجودة في الساحة، فجزاه الله خيرا ونفع به. وله شرح على "لامية شيخ الإسلام ابن تيمية" مطبوع. وله "إتحاف الأنام في أحكام الصيام" مطبوع. وله "فتح المنان فيما صح من منسوخ القرآن" مطبوع. وهو ممن شارك في تحقيق "فتح الباري"، وله تحقيق على "المغني" لابن قدامة تحت الطبع، وله "المنتقى من الكافية الشافية لابن القيم" تحت الطبع، و"شرح فتح المجيد" تحت الطبع، و"منكرات شائعة يجب الحذر منها"، وله أعمال أخرى. نسأل الله لنا وله التوفيق والسداد. (كتاب "الرد الشرعي" ص83/تحت الطبع)
قال المصنف وفقه الله: وأشكر لشيخنا أبي عبد الله طارق بن محمد الخياط البعداني حفظه الله ورعاه الذي شجعني وحثّني على مواصلة المشاركة في توزيع الملاطم على المبطلين، وإن كنا ما زلنا في هذا الظرف –قلقلة البغاة الروافض الملحدين-.
وشيخنا طارق هذا كما قال عنه الإمام الوادعي رحمه الله: يحفظ القرآن ومستفيد في العقيدة اهـ ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 144/دار الآثار).
وقال عنه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: يحفظ القرآن، وخطيب، ومدرس، وثبت، فاضل، وقد جمع شرحنا على الطحاوية اهـ. ("الطبقات"/الطبقة الأولى/ص (48)/دار الآثار).
وبعد أن أثنى شيخنا العلامة يحيى الحجوري حفظه الله على كتاب "تطهير الاعتقاد" للإمام الصنعاني رحمه الله ثناء عظيماً قال حفظه الله: ... كما وفّق أهل المراكز العلمية والدعوة السنية للعناية به عناية طيبة. وكان منها ما قام به أخونا الفاضل الداعي إلى الله عز وجل الشيخ طارق بن محمد الخياط البعداني حفظه الله من التعاليق الجياد المستفادة من كتب الشأن، فضار أحسن ما رأيت من الشروح المختصرة على «تطهير الاعتقاد». فجزى الله أخانا طارقا خيرا ونفع به اهـ. (مقدمة الشيخ يحيى حفظه الله على "التعليقات الجياد على كتاب تطهير الاعتقاد"/ للشيخ طارق بن محمد البعداني / ص2).
قال المصنف وفقه الله: فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، ونسأل الله أن يجعلهم ممن قال فيهم رب العزة: ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [آل عمران/104].
ومن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال /(1920)/دار ابن الجوزي) عن ثوبان، والبخاري (كتاب الاعتصام/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال/ (7311)/دار الكتب العلمية) نحوه عن المغيرة بن شعبة، وبعض الصحابة الآخرين رضي الله عنهم أجمعين).
ثم أشكر أخانا الفاضل المستفيد أبا تراب سيف بن حضر الإندونيسي حفظه الله، الذي قال فيه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: حافظ القرآن، ورياض الصالحين، مدرس له بحث في مساكن السلف ومبانيهم، ومشارك لبعض إخوانه الإندونيسيين في إخراج زوائد مشكل الآثار ومعاني الآثار للطحاوي على كتب الستة اهـ. ("الطبقات"/الطبقات الأولى/ص75/دار الآثار).
قال المصنف سدده الله: ولأخينا أبي تراب -حفظه الله- كتب منها: "أريج الأزهار"، و"الفرائض"، و"فتح المجيد في أحكام التجويد"، و"الزهد والورع لشيخ الإسلام"، "تحقيق السبل السوية"، و"تحقيق رياض الجنة"، و"النبع في القراءة السبع"، و"الملخص النافع برواية ورش عن نافع"، و"اكتب كتابتي"، و"شرح الأصول الثلاثة"، و"تعليقات على شرح لمعة الاعتقاد"، و"تيسير الإله في أدلة لا إله إلا الله"، و"الحجج والاختيارات في القراءة للطبري"، و"البلغة إلى شواهد قراءات في كتب اللغة"، و"مساكن السلف ومبانيهم"، وغير ذلك من الرسائل.
وغيره من طلبة العلم –منهم أبو صالح ذكوان، وأبو عبد الله محمد بن عمر، وأبو حذيفة حسن، وأبو عبد الرحمن إرحم الإندونيسيين- الذين بذلوا الإرشاد، والتشجيع، والنصرة، والتسلية للمصنف مع شغلهم بالحفظ والمراجعة وتحصيل العلم. أحسبهم كذلك، والله حسيبهم، ولا أزكي على الله أحدا. نسأل الله أن يحفظهم جميعاً، ويرعاهم، ويتقبل منهم، ويرفع درجاتهم في الدارين، ويجزيهم أحسن الجزاء وأجزله.
ذكرت هذا الثناء والشكر والدعاء ردًّا على طعونات الحزبيين فيهم، وافتراءات المميعين عليهم.
الباب الأول: وجوب بيان أحوال المنافقين والمبتدعة وأن ذلك جهاد في سبيل الله
قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ في موضعين: في سورة التوبة/73، وفي سورة التحريم/9، كما سيأتي ذكرها. وهاتان الآيتان محكمتان في جهاد الكفار والمنافقين إلى يوم القيامة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض أهل البدع والعناد: فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن، وما أحبّ جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن، وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان، والجهاد بالحجة واللسان مقدّم على الجهاد بالسيف والسنان. ولهذا أمر الله في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذاراً وتعذيراً، فقال تعالى: ]فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا[ (الفرقان/ 52).
وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير، فقال تعالى: ]يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير[ (التحريم 9).
فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق إلخ. ("القصيدة النونية" /1/ص8/مقدمة/شرح الهراس/دار الكتب العلمية)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: (الرجل يصوم، ويصلى، ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلم فى أهل البدع؟) فقال: (إذا قام، وصلى، واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم فى أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل)، فبيّن أن نفع هذا عام للمسلمين فى دينهم من جنس الجهاد فى سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله، ودينه، ومنهاجه، وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 231-232/إحالة/دار الوفاء).
وقال أيضا رحمه الله: وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 3 / ص 358/إحالة/دار الوفاء)
وقال أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: (الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد) اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 4 / ص 13/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله: سمعت يحيى بن معين يقول: (الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله). فقلت ليحيى: (الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه !؟) قال: (نعم، بكثير) اهـ ("سير أعلام النبلاء" /10 / ص 518/ط. مؤسسة الرسالة).
تنبيه: أدخل الإمام الذهبي رحمه الله هذا الأثر في ترجمة يحيى بن يحيى رحمه الله، والله أعلم.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض المبتدعة: فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-: «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله»، وقال: «أهجهم أو هاجهم وجبريل معك»، وقال: «اللهم أيده بروح القدس ما دام ينافح عن رسولك»، وقال عن هجائه لهم: «والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم من النبل» وكيف لا يكون بيان ذلك من الجهاد في سبيل الله؟ اهـ ("الصواعق المرسلة" /1/ ص114/الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل/ط. مكتبة الرشد).
وقال الإمام عبد الرحمن بن ناصر آل السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾ [العنكبوت/69]
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ وهم الذين هاجروا في سبيل الله، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالعون والنصر والهداية. دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين اهـ. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص763/دار إحياء التراث العربي)
وقال الإمام الوادعي رحمه الله: فإن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله، بل ومن الجهاد في سبيل الله بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والذّب عنها، وكشف عوار أهل البدع والملحدين والتحذير منهم، كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم: ]بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق[.
وجزى الله أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون لأهل البدع، حتى فضّل بعضهم الرّدّ على أهل البدع على الجهاد في سبيل الله اهـ. (مقدمة"ردود أهل العلم"/للإمام الوادعي رحمه الله/ص5-6/ط. دار الآثار).
وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله: وقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على ذلك: أن من ردّ على أصحاب البدع قاصداً بذلك الذود عن الدين، وتنقيته مما ليس منه أن ذلك يعد جهادا في سبيل الله، وحماية لشرعه، ... إلخ ("الرد المحبر" ص138 للشيخ أحمد النجمي رحمه الله/ط. دار المنهاج).
وقال فضيلة الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في شأن السلف: فهموا منها المواقف السليمة والصحيحة من أهل البدع والضلال، ودَوَّنوا ذلك في كتبهم، وقالوا: (إن المبتدع لا غيبة له، وأنه يجب التحذير منه، وأن محاربة أهل البدع جهاد، وهو أفضل من الضرب بالسيوف) اهـ. ("الموقف الصحيح" ص23/للشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/دار الإمام أحمد).
وقال أيضا حفظه الله: ... وأن الرد على أهل البدع والتحذير منهم جهاد في سبيل الله اهـ. ("نقد الرجال" /للشيخ ربيع المدخلي حفظه الله /ص137/ دار المنهاج)
وقال شيخنا المحدث الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله في شأن جهاد الكفار والمنافقين وغيرهم: ما أشبه المجاهد بلسانه بالمجاهد بسنانه، بل المجاهد بسنانه أشدّ اهـ (سجلتْ في 27 جمادى الأولى 1430 هـ).
وقال فضيلة الشيخ سليم بن عيد الهلالي حفظه الله: أما بعد: فإن الرد على أهل الأهواء باب شريف من أبواب الجهاد، وكيف لا يكون كذلك وأهله في موقع الحراسة لهذا الدين: يذبون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، قد تسنموا غارب الحق، وامتشقوا حسام العلم، ليبقى الإسلام صافيا نقيا يتلألأ بهالة الرسالة التي أنزلت على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. ومن استقرأ حالهم في حلهم وترحالهم، وجد أنهم قد رفعوا قواعد الرد على المخالف على أصل النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم اهـ. (في مقدمته على "نقد الرجال" ص13/ دار المنهاج)
فقال المصنف –عفى الله عنه-: لقد واللهِ صدقوا ونصحوا. إن جهاد المنافقين والمبتدعة أعظم من قتال الكفار بالسيف. لقد رأينا بأعيننا أن كفرة الروافض البغاة لما هجموا على هذا البلد وركزوا على هذا المعهد قام المسلمون كبارهم وصغارهم بجميع قوَّتهم –مع الدولة اليمنية والسعودية- بمقاومتهم. ولكن عند هجومات الحزبيين وأمثلهم من المبتدعة الجدد قلّ مَن تفطّن بهم. بل كلهم عجزوا عن معرفة شبهاتهم وتلبيساتهم إلا بعض علماء السنة وطائفة من طلبة العلم وغيرهم ممن أبصرهم الله ورزقهم فرقاناً، ولا سيما نحن في أواخر الزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم»()
فتجددت الأهواء والشرور وأساليبها، كما قال فضيلة الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: .. لأن أهل البدع الآن لهم أساليب، ولهم نشاطات، ولهم طرق - يمكن ماكان يعرفها الشياطين في الوقت الماضي- فعرفوا الآن هذه الأساليب وهذه الطرق وكيف يخدعون الناس اهـ. ("الموقف الصحيح" ص18/دار الإمام أحمد).
الباب الثاني: بين تعريفي التلون والنفاق
* تعريف التلون:
قال ابن المنظور رحمه الله: وقد تَلَوَّنَ ولَوَّنَ ولَوَّنه والأَلْوانُ الضُّروبُ واللَّوْنُ النوع وفلان مُتَلَوِّنٌ إذا كان لا يَثْبُتُ على خُلُقٍ واحد. ("لسان العرب"/8 / ص 166/مادة ل-و-ن/دار الحديث)
هكذا ذكره أيضا الفيروز آبادي في "القاموس المحيط" (ص1135/مادة ل-و-ن/دار إحياء التراث)، ومحمد بن أبي بكر الرازي في "المختار الصحاح" (ص314/مادة ل-و-ن/دار الغد الجديد).
ذكر ابن دريد : تلوّن فلان علينا، إذا اختلفت أخلاقُه. قال الشاعر: فما تدومُ على حالٍ تكون بها ... كما تَلَوّن في أثوابها الغُولُ اهـ. ("جمهرة اللغة" /2 /ص 276/باب اللام والنون/دار الكتب العلمية)
وقال أبو حيان رحمه الله: اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان الطعام: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه: يتلوّن تلوّن الحرباء، وذلك أن الحرباء، لصفاء جسمها، أيّ لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون. اهـ ("تفسير البحر المحيط" /تفسير سورة البقرة: 69/مكتبة ابن تيمية).
وقال أبو القاسم الراغب الأصفهاني رحمه الله: لون: اللون معروف وينطوى على الأبيض والأسود وما يركب منهما، ويقال: (تلون) إذا اكتسى لوناً غير اللون الذى كان له، ...-إلى قوله:- ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع، يقال: فلان أتى بالألوان من الأحاديث، وتناول كذا ألوانا من الطعام. اهـ ("مفردات غريب القرآن" /ص 460 /مادة ل-و-ن/المكتبة التوفيقية).
وقال فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله: ونحن نقول لهم: إن الله حرم التلون، وهو الظهور بوجهين. وذمّ النبي –صلى الله عليه وسلّم- ذا الوجهين ... إلخ ("دحر افتراءات أهل الزيغ"/طعونات المالكي الشنيعة/ص76/دار المنهاج).
فالتلون الذي نحن بصدده هو التلون في الدين، وهو عدم ثبات شخص على خلق واحد، وحال واحد. ولسنا نتكلم في التلون في الأطعمة، أو الملابس، أو المراكب، أو نحو ذلك.
* وأما النفاق:
قال ابن الأثير رحمه الله: نافقَ يُنَافق مُنافَقةً ونِفاقا وهو مأخوذ من النَّافِقاء : أحَد جِحَرة اليَرْبوع إذا طُلِب من واحِدٍ هرَب إلى الآخَر وخرَج منه. وقيل: هو من النَّفَق: وهو السَّرَب الذي يُسْتَتَر فيهِ لِسَتْرِه كُفْرَه. ("النهاية في غريب الأثر" /5/ ص 82/مادة ن-ف-ق/المكتبة العصرية).
قال ابن المنظور رحمه الله: قال أبو عبيد: سمي المنافقُ مُنافقاً للنَّفَق وهو السَّرَب في الأَرض وقيل إنما سمي مُنافقاً لأنه نافَقَ كاليربوع وهو دخوله نافقاءه يقال قد نفق به ونافَقَ وله جحر آخر يقال له القاصِعاء فإذا طلِبَ قَصَّع فخرج من القاصِعاء فهو يدخل في النافِقاء ويخرج من القاصِعاء أو يدخل في القاصِعاء ويخرج من النافِقاء فيقال هكذا يفعل المُنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه. الجوهري: والنافِقاء إحدى جِحَرةَ اليَرْبوع يكتمها ويُظْهر غيرها وهو موضع يرققه فإذا أُتِيَ من قِبَلِ القاصِعاء ضرب النافِقاء برأْسه فانْتَفَق أَي خرج والجمع النَّوَافِقُ. اهـ ("لسان العرب" /8/ص657 /مادة ن-ف-ق /دار الحديث).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: ولما تقرَّر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّ النفاق هو اختلافُ السرِّ والعلانية خشي بعضهم على نفسه أنْ يكونَ إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقتُه وخشوعه عندَ سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أنْ يكونَ ذلك منه نفاقاً، كما في "صحيح مسلم"() عن حنظلة الأسيدي أنَّه مرَّ بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قالَ : نافق حنظلةُ يا أبا بكر، نكون عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّرُنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عين، فإذا رجعنا، عافَسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيراً، قالَ أبو بكر: فوالله إنّا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ : «ما لك يا حَنْظَلة؟» قال: نافق حنظلة يا رسولَ الله، وذكر له مثلَ ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تَدُومونَ على الحال التي تقومون بها من عندي، لصَافَحَتكُم الملائكة في مجالسكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً». ("جامع العلوم والحكم" - الحديث الثامن والأربعون/ص 750/ط. دار ابن رجب)
* بين التلون والنفاق
فبالتأمل إلى تعريف التلون والنفاق، علمنا أن معظم التلونات في الدين من صور النفاق. ذلك لأن معظمها يتضمن إظهار ما يخالف اعتقاد الباطن، فهذا هو النفاق.
قال الله تعالى: ]يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ[ [آل عمران/154]
وقال تعالى: ]وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ[ [آل عمران/167].
قال ابن حجر رحمه الله في قصة الإفك: قَوْله: (فَإِنَّك مُنَافِق تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ) أَطْلَقَ أُسَيْد ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ عَنْ الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : (فَإِنَّك مُنَافِق) أَيْ تَصْنَع صَنِيع الْمُنَافِقِينَ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ) وَقَابَلَ قَوْله لِسَعْدِ بْن مُعَاذ : (كَذَبْت لَا تَقْتُلْهُ) بِقَوْلِهِ هُوَ: (كَذَبْت لَنَقْتُلَنَّهُ). وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : إِطْلَاق أُسَيْدٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ نِفَاق الْكُفْر وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْمَوَدَّة لِلْأَوْسِ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ضِدّ ذَلِكَ فَأَشْبَهَ حَال الْمُنَافِق لِأَنَّ حَقِيقَته إِظْهَار شَيْء وَإِخْفَاء غَيْره، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي تَرْك إِنْكَار النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. ("فتح الباري" ج 8 / ص 366/كتاب التفسير/مكتبة الصفا).
فالشاهد: أن إِظْهَار شَيْء وَإِخْفَاء غَيْره من النفاق.
وقال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن، قال: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وكان يقال: أسّ النفاق الذي يبنى عليه النفاق: الكذب. ("صفة النفاق وذم المنافقين"/ للفريابي / رقم 48/دار الآثار صنعاء).
وفي سنده ضعف من أجل هشام بن عمار رحمه الله. وله متابع كما عند الفريابي رحمه الله أيضاً في رقم (47) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، قال: قال الحسن به.
وهو سند صحيح، جميع رواته ثقات معروفون. وأبو الأشهب هو جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري الخراز الاعمى، ثقة ("تهذيب التهذيب" – 1/ص303/من اسمه جعفر/الرسالة).
والأثر صححه شيخنا أبو عبد الرحمن جميل الصلوي حفظه الله في "فتح أرحم الراحمين" (ص39/دار التيسير).
وقال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذّ مقال على أسماعهم؛ أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سبّ المسلمين والمؤمنين ـ والعياذ بالله ـ لأنهم منافقون، و]هم العدو[، كما قال الله ـ عز وجل ـ ]فاحذرهم[. المنافق الذي يظهر لك خلاف ما يبطن. اهـ ("شرح رياض الصالحين" للعثيمين رحمه الله ج 12 / ص 53/دار السلام)
وهذا كله موجود في معظم صور التلون في الدين.
وهناك صورة أخرى من التلونات وهي: أن الرجل يعتقد اعتقادا صحيحا فسلك صراطا سويا في البداية، ثم أصابته فتنة –إما شبهة وإما غيرها- فتغير اعتقاده فحاد عن الطريق المستقيم، وأظهره أمام الناس. فمثل هذا أطلق عليه بعض السلف: تلونا في الدين، وإن لم يحصل اختلاف بين ظاهره وباطنه. وسيأتي الكلام على هذا النوع في الباب الثالث والعشرين إن شاء الله.
الباب الثالث: بعض الأدلة على أن التلون في الدين من النفاق، وفاعله من شرّ الناس
قال تعالى: ]وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[ [البقرة/14].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول [الله] تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: ]آمَنَّا[ أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ]وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ[ يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. –إلى قوله:- و ]شَيَاطِينِهِمْ[ يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين. –إلى قوله:- وقوله تعالى: ]قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ[ قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه() ]إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[ أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ("تفسير القرآن العظيم" 1/ ص 182-183/دار طيبة).
وقال تعالى: }الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [النساء/141].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفر عليهم، وذهاب ملّتهم ]فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله[ أي: نصرٌ وتأييدٌ وظَفَرٌ وغنيمةٌ ]قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ[ ؟ أي: يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ]وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ[ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ]قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ ؟ أي: ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم. اهـ ("تفسير القرآن العظيم"- ج 2 / ص 436/ط. دار طيبة)
وقال تعالى: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[ [النساء/143].
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[ يعني: المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك ]كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا[ الآية [البقرة: 20]. اهـ ("تفسير القرآن العظيم"/2 /ص439 /دار طيبة).
* وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه– قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: «تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الله ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما قيل في ذي الوجهين/6058/دار الكتب العلمية) واللفظ له، ومسلم (كتاب البر والصلة/باب ذم ذي الوجهين/2526/دار ابن الجوزي)).
وقال النووي رحمه الله: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ (إِنَّهُ مِنْ شِرَار النَّاس)، فَسَبَبه ظَاهِر لِأَنَّهُ نِفَاق مَحْض، وَكَذِب وَخِدَاع، وَتَحَيُّل عَلَى اِطِّلَاعه عَلَى أَسْرَار الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلّ طَائِفَة بِمَا يُرْضِيهَا، وَيَظْهَر لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا فِي خَيْر أَوْ شَرّ، وَهِيَ مُدَاهَنَة مُحَرَّمَة. ("شرح النووي على مسلم" - ج 8 / ص 138/دار إحياء التراث).
وقال ابن حجر رحمه الله: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالنَّاسِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ خَاصَّة، فَإِنَّ كُلّ طَائِفَة مِنْهُمَا مُجَانِبَة لِلْأُخْرَى ظَاهِرًا فَلَا يَتَمَكَّن مِنْ الِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَارهَا إِلَّا بِمَا ذُكِرَ مِنْ خِدَاعه الْفَرِيقَيْنِ لِيَطَّلِع عَلَى أَسْرَارهمْ فَهُوَ شَرّهمْ كُلّهمْ. وَالْأَوْلَى حَمْل النَّاس عَلَى عُمُومه فَهُوَ أَبْلَغ فِي الذَّمّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي شِهَاب عَنْ الْأَعْمَش بِلَفْظِ «مِنْ شَرّ خَلْق الله ذُو الْوَجْهَيْن». قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ شَرّ النَّاس لِأَنَّ حَاله حَال الْمُنَافِق، إِذْ هُوَ مُتَمَلِّق بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ ، مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاس اهـ. ("فتح الباري" /تحت رقم 6058/مكتبة الصفا)
وقال ملا علي القاري رحمه الله: (ذا الوجهين) أي بقصد الفساد الذي يأتي هؤلاء أي طائفة بوجه وهؤلاء بوجه أي بوجه آخر كالمنافقين والنمامين، وقد قال تعالى: ]مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ (النساء) اهـ المراد ("مرقاة المفاتيح" /كتاب الآداب/باب حفظ اللسان/رقم 4823/المكتبة التجارية).
* وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ: قَالَ أُنَاسٌ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا. (أخرجه البخارى/كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/7178/دار الكتب العلمية)
وقال ابن حجر رحمه الله: وَمِثْله لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن هَارُون عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد " وَعِنْده (مِنْ النِّفَاق) وَزَادَ : قَالَ عَاصِم: فَسَمِعَنِي أَخِي - يَعْنِي عُمَر - أُحَدِّث بِهَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: قَالَ أَبِي قَالَ اِبْن عُمَر: (عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَده عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد إِلَى قَوْله (نِفَاقًا)، قَالَ عَاصِم: فَحَدَّثَنِي أَخِي عَنْ أَبِي أَنَّ ابْن عُمَر قَالَ: (كُنَّا نَعُدّهُ نِفَاقًا عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَوَقَعَ فِي "الْأَطْرَاف" لِلْمِزِّيِّ مَا نَصّه: خ فِي الْأَحْكَام عَنْ أَبِي نُعَيْم عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد بْن زَيْد عَنْ أَبِيهِ بِهِ: قَالَ وَرَوَاهُ مُعَاذ بْن مُعَاذ عَنْ عَاصِم، وَقَالَ فِي آخِره: فَحَدَّثْت بِهِ أَخِي عُمَر فَقَالَ: إِنَّ أَبَاك كَانَ يَزِيد فِيهِ: (فِي عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَمِنْ قَوْله: "وَقَالَ مُعَاذ" إِلَى آخِره : لَمْ يَذْكُرهُ أَبُو مَسْعُود، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَقَلَهُ مِنْ كِتَاب خَلَف، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْء مِنْ الرِّوَايَات الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا عَنْ الْفَرَبْرِيِّ وَلَا غَيْره عَنْ الْبُخَارِيّ، وَقَدْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَقِبَ الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبُخَارِيّ (عَلَى عَهْد رَسُول الله) . ("فتح الباري" /تحت رقم7179 /ط. مكتبة الصفا).
* وقال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء، قال: دخل نفر على عبد الله بن عمر من أهل العراق فوقعوا في يزيد بن معاوية فتناولوه، فقال لهم عبد الله: هذا قولكم لهم عندي، أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا: لا بل نمدحهم، ونثني عليهم، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا النفاق عندنا. ("صفة النفاق"/للفريابي/ رقم (65)/ دار الآثار صنعاء)
ورجال السند معروفون، وهو أثر صحيح، وقد صححه شيخنا جميل الصلوي حفظه الله في كتابه النفيس "فتح أرحم الراحمين" (ص 129/دار التيسير).
قال المناوي رحمه الله: (وتجدون شر الناس) وفي رواية بزيادة من يوم القيامة (عند الله ذا الوجهين) وفسره بأنه (الذي) يشبه المنافق (يأتي هؤلاء) القوم (بوجه ويأتي هؤلاء) القوم (بوجه) فيكون عند أناس بكلام وعند أعدائهم بضده * ]مذبذبين بين ذلك[ * وذلك من السعي في الأرض بالفساد أي إذا لم يكن لإصلاح ونحوه وشمل مَن يظهر الخير والصلاح وإذا خلا خلا بالمعاصي القباح. اهـ المراد ("فيض القدير" – تحت رقم (3241)/دار الفكر).
قال بدر الدين العيني رحمه الله: أي: شرّ الناس المنافقون، قال الكرماني: فإن قلت: هذا عام لكل نفاق سواء كان كفرا أم لا فكيف يكون سواء في القسم الثاني قلت هو للتغليظ وللمستحل. أو المراد شر الناس عند الناس لأن من اشتهر بذلك لا يحبه أحد من الطائفتين. ("عمدة القاري شرح صحيح البخاري" /كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/ج 25/ص 255/دار الفكر).
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق قال: حدثنا جعفر ابن محمد الخياط، قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد الصائغ، مردويه قال: سمعت الفضيل بن عياض -رحمه الله-: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي صاحب بدعة إلا من النفاق() اهـ.
ثم قال ابن بطة رحمه الله: صدق الفضيل رحمة الله عليه، فإنا نرى ذلك عيانا. ("الإبانة الكبرى" /رقم 434/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
وسيأتي ذكر بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار السلف رضي الله عنهم في هذا الباب (الأرواح جنود مجندة)، وبالله التوفيق.
وقال الإمام محمد الشنقيطي رحمه الله في إحدى خطبه: من يجامل أهل البدع فلا يلومن إلا نفسه. اهـ (شريط خطبة الإمام الشنقيطي رحمه)
* وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبي ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة قالا حدثنا عبيدالله ح وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) أخبرنا عبدالوهاب (يعني الثقفي) حدثنا عبيدالله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» .(أخرجه مسلم /كتاب صفات المنافقين/2784/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله عقب الحديث: كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا، لا كثرهم الله، وسلمنا وإياكم من شر المنافقين، وكيد الباغين، ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين، ولا من الذين استهوتهم الشياطين ، فارتدوا ناكصين، وصاروا حائرين. اهـ
وقال الإمام النووي رحمه الله: (الْعَائِرَة): الْمُتَرَدِّدَة الْحَائِرَة لَا تَدْرِي لِأَيِّهِمَا تَتْبَع، وَمَعْنَى تُعِير أَيْ: تُرَدَّد وَتَذْهَب، وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: ( تَكِرّ فِي هَذِهِ مَرَّة وَفِي هَذِهِ مَرَّة ) أَيْ: تَعْطِف عَلَى هَذِهِ وَعَلَى هَذِهِ، ("شرح النووي على مسلم" ج 9/ص 68/دار إحياء التراث).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله: في شرحه على حديث ذي الوجهين: قوله: «ذا الوجهين» مفعول ثان لقوله: «تجدون شر الناس» وذو الوجهين هو المنافق وهو الذي يمشي بين الطائفتين بوجهين يأتي لإحداهما بوجه ويأتي للأخرى بخلاف ذلك، وقال الله تعالى: ]مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء[ (النساء). قال المفسرون: مذبذبين يعني المنافقين متحيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً، ولا هم مع الكفار ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى هؤلاء. وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن النبي قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيتهما تتبع» ("عمدة القاري" /كتاب المناقب/باب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ /16/ص 69/دار الفكر).
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله الثاني
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن إسحاق البزاز قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن نصر الصايغ قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد الصايغ مردويه قال: قال الفضيل: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة، أورثه الله العمى -يعني في قلبه-، قال: وقال الفضيل: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، قال: وقال الفضيل: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، قال: وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه ، قال : وقال الفضيل : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة() اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/ باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
وسيأتي إن شاء الله مزيد الكلام في العلاقة بين النفاق والتلون في باب (تلونات المنافقين).
الباب الرابع: بعض الأدلة على أن المتلونين لا يؤتمنون
قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ [آل عمران/118، 119]
قال الإمام السعدي رحمه الله: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم ]وما تخفي صدورهم أكبر[ مما يسمع منهم فلهذا ]لا يألونكم خبالا[ أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين: ]قد بينا لكم الآيات[ أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية ]لعلكم تعقلون[ فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه. –إلى قوله:- بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان ]وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل[ وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم ]قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور[ وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه، بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة. اهـ ("تيسير الكريم الرحمن" /ص128/دار ابن حزم).
* حديث «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا».
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن سلمان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا»(). ("الأدب المفرد" (رقم 313) / باب: ليس المؤمن بالطعان/دار الصديق).
الباب الخامس: بعض الأدلة على قبح عاقبة المتلونين في الآخرة
وقد جعل الله عز وجل الجزاء من جنس العمل. قال جل ذكره: ]جَزَاءً وِفَاقًا[ [النبأ/26]،
وقال تعالى: ]فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [يس/54]،
وقال تعالى: ]وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[ [الأنعام/160]،
فنحن نؤمن بأن قبح منظر أهل النار موافق لقبح أعمالهم. قال تعالى: ]وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [ [المؤمنون/103، 104].
والمتلون يأتي يوم القيامة على صورة سيئة: له وجهان، أو له لسانان جزاء وفاقاً.
* حديث «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ».
وقال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ نُعَيْم بْن حَنْظَلَةَ عَنْ عَمَّارٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ»().(أخرجه أبو داود (كتاب الأدب/باب في ذي الوجهين/4864/العون/دار الحديث)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1310/باب إثم ذي الوجهين/دار الصديق) وغيرهما، من طريق شريك به).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: ومعنى «من كان ذا لسانين» أي يتكلم مع هؤلاء بكلام وهؤلاء بكلام وهو بمعنى صاحب الوجهين. ("الكبائر" مع شرح ابن العثيمين- ص 252/الكبيرة الثالثة والأربعون/دار الغد الجديد).
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: «من كان له وجهان» إلخ قال العلقمي: معناه أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار، كما كان له في الدنيا لسانان عند كل طائفة انتهى ("عون المعبود" – كتاب الأدب/ باب في ذي الوجهين /تحت رقم 4865/ دار الحديث).
الباب السادس: حكم التلوّن والمتلوّن في الدين
فبما سبق من الأدلة علمنا أن معظم التلونات في الدين من النفاق، وأن فاعله غير أمين، ويكون يوم القيامة له لسانان من نار. وقد نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه شرّ الناس، أو من شر الناس. ويعتبر فاعله –كما سيأتي- قد تشبّع بما لم يعط، فكأنه يلبس ثوبي الزور. ويعتبر أيضاً قد ادّعى ما ليس له، فهو متوعّد بالنار، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريءٌ منه.
هذا الوعيد الشديد كله يدل على أن ذلك من الكبائر.
قال العلامة الهيتمي رحمه الله: الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ وَهُوَ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي لَا يَكُونُ عِنْدَ الله وَجِيهًا) . –ثم ذكر الأحاديث- ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 39/الكبيرة 253/دار الفكر).
وقال الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي رحمه الله: الكبيرة السابعة والستون: ذو الوجهين. اهـ ("الذخائر لشرح منظومة الكبائر" له ص411، وأصل المنظومة للإمام أبي النجا موسى بن أحمد المقدسي رحمه الله/ط. دار البشائر).
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله في شرح هذين الحديثين: وهذا يوجد في كثير من الناس والعياذ بالله، وهو شعبة من النفاق، تجده يأتي إليك يتملق ويثني عليك وربما يغلو في ذلك الثناء، ولكنه إذا كان من ورائك عقرك وذمك وشتمك، وذكر فيك ما ليس فيك، فهذا والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَجِدُ شَرّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، يَأْتِى هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ». وهذا من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف فاعله بأنه شرّ الناس، ...إلخ ("شرح رياض الصالحين"، تحت رقم 1540-1541/دار السلام).
وتلون بعض المسلمين الذين يأتون الأمراء فيثنون عليهم، ثم يذمونهم وراءهم، أو من له في الناس وجهان ولسانان، أو نحو ذلك –الذي قاله الإمام ابن عثيمين رحمه الله: شعبة من النفاق- ملحق بالنفاق العملي، وهو فسوق، من الكبائر. وفاعله من فساق المسلمين، عسى الله أن يغفر له ولنا جميعاً.
وأما المتلوّن في العقيدة، حيث إنه أظهر الإيمان أمام عموم الناس، وإنما باح بالكفر عند أصحابه وأشكاله –كما فعله عبد الله بن أبي، والحسين بن منصور الحلاج، وابن سينا، ورؤساء أهل الحلول والاتحاد، وصناديد الروافض، فإنه منافق نفاقاً اعتقادياً، زنديقٌ كافرٌ، والعياذ بالله.
وقال الإمام الوادعي رحمه الله: والباطنية هم منافقون، ومنهم الإسماعيلية فنهاية أمرهم إلى تعطيل شرع الله ويلتقون مع الشيوعية في التعطيل، والطائفة الإسماعيلية تتظاهر بالإسلام وبحب أهل بيت النبوة، وهم كاذبون مخادعون، ومن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمكارمة فهم رؤوس الضلال، وهم الذين أضلوا رجال (يام) الهمدانيين وأضلوا طائفة بحراز، وأخرى بعراس، وأخرى بالعُدين، وقد سكن بعضهم بجوار نُقُم، وبعضهم بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمون بنخاولة، وبعضهم بالإحساء، وبالقطيف، ومنهم طائفة كبيرة بالبحرين، وطائفة بالهند. والأسماعيلية رؤوسهم كفار، والأتباع ضالون يحرفون كتاب الله على ما يهوون، وقد ذكرتُ نبذة عنهم في "هذه دعوتنا وعقيدتنا". وواجب أهل العلم أن يحذروا المسلمين من هذه الطائفة المارقة، فإن رجال (يام) لو علموا أن المكارمة كفار ما اتبعوهم على الضلال، والله المستعان اهـ. (مقدمة الإمام مقبل الوادعي رحمه الله على تحقيق "صفة النفاق للفريابي" للشيخ عبد الرقيب الإبي حفظه الله/ص11/دار الآثار).
ويخشى على من ادعى أنه من دعاة الإسلام –وهو خادم الغرب الكافر- مثل عمرو خالد أن يتزندق. هو الذي يتظاهر بالإسلام، ولكنه يبرئ إبليس من الكفر، ويتردد في كمال قدرة الله، ويدعو المسلمين إلى ممارسة الفنّ للنهوض بها، ومحبة العصاة، والضلال، والملحدين، ولا يقول للمحرم حراماً، ويغير الحقائق الشرعية مسايرة لدعوة الحرية، والمساواة الديمقراطية، ويصف حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتهزير، ويفضل النساء على الرجال بدرجات، ويؤصل أن الإخلاق أهم وأسمى من الصلاة والصيام والحج، وهو ينتصر لليهود، ويدعو إلى حبّ الغرب الكافر –وعلى وجه الخصوص أمريكا-، ويفضل الغرب الكافر على المسلمين، وما إلى ذلك. (راجع كتاب "إعانة الأماجد ببيان حال عمرو خالد" /للشيخ محمد الإمام الريمي اليمني حفظه الله/ ط. مكتبة الإمام الألباني).
الباب السابع: لا يجوز استهانة محقرات الذنوب، فإن الجبال من الحصا
لا يجوز تحقير السيئات –من النفاق العملي، والتلون، والبدعة، والمعصية، ونحو ذلك- وإن كانت حقيرةً في أعين الناس.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَهْدِىٌّ عَنْ غَيْلاَن عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُوبِقَاتِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله يَعْنِى بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ . (أخرجه البخارى - كتاب الرقاق/باب ما يتقى من محقرات الذنوب/6492/دار الكتب العلمية).
قال ابن حجر رحمه الله: أَيْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تَحْسَبُونَهَا هَيِّنَةً وَهِيَ عَظِيمَةٌ أَوْ تَؤُول إِلَى الْعِظَمِ . ("فتح الباري" لابن حجر /ج 11 / ص 371 /مكتبة الصفا).
وَقَالَ اِبْن بَطَّال : الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَار. ("فتح الباري" لابن حجر /ج 11 / ص 371 /مكتبة الصفا).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «لَعَنَ الله السَّارِقَ ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». (أخرجه البخاري (كتاب الحدود/ باب لعن السارق.../6783/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الحدود/باب حد السرقة .../1687/دار ابن الجوزي)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلُهُ ذَمُّ السَّرِقَةِ وَتَهْجِينُ أَمْرِهَا وَتَحْذِير سُوء مَغَبَّتِهَا فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ مِنْ الْمَال كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّ سَرِقَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا قِيمَة لَهُ كَالْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ وَالْحَبْلِ الْخَلَقِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا تَعَاطَاهُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْعَادَةُ لَمْ يَيْأَسْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا فَوْقهَا حَتَّى يَبْلُغ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، كَأَنَّهُ يَقُول: فَلْيَحْذَرْ هَذَا الْفِعْلَ وَلْيَتَوَقَّهُ قَبْل أَنْ تَمْلِكهُ الْعَادَةُ وَيَمْرُنَ عَلَيْهَا لِيَسْلَمَ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ وَوَخِيمِ عَاقِبَتِه اهـ ("فتح الباري"/كتاب الحدود/باب لعن السارق.../6783/مكتبة الصفا)
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[ أي: ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها. اهـ ("تفسير القرآن العظيم" - 2/ص146 /دار طيبة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا أصرّ على ترك ما أمر به من السنة وفعل ما نهى عنه فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات حتى يصير فاسقاً أو داعياً إلى بدعة. وإن أصرّ على الكبائر فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 22 / ص 305-306/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: والنفاق الأصغر وسيلةٌ وذريعةٌ إلى النفاق الأكبر، كما أنَّ المعاصي بريدُ الكفر، فكما يخشى على من أصرَّ على المعصية أنْ يُسلَبَ الإيمانَ عندَ الموت ، كذلك يخشى على مَنْ أصرَّ على خصالِ النفاق أنْ يُسلَبَ الإيمانَ، فيصير منافقاً خالصاً. اهـ ("جامع العلوم والحكم" /ص 748/الحديث الثامن والأربعون/دار ابن رجب).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى نِفَاق الْمَعْصِيَة خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِي بِهِ إِلَى نِفَاق الْكُفْر. ("فتح الباري" /1 / ص 141/باب خوف المؤمن أن يحبط عمله/مكتبة الصفا)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: واحذر صغار المحدثات من الأمور فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان بها، فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام. ("شرح السنة" للبربهاري رحمه الله/ ص 18/دار الآثار).
وقال فضيلة الشيخ ًصالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله- في شرحه عليه: قوله (واحذر صغار المحدثات من الأمور) يقول لا تتساهل بشيء من البدعة ولو كان صغيرا، فإنه يكبر وينضاف إليه غيره، وهذا من مفاسد البدع، لأنه إذا انفتح باب البدع زادت، فلا تتساهل فيها. ويقال: هذه بدعة صغيرة ولا تضرّ. البدعة مثل الجمرة ولو كانت صغيرة فهي تكبر حتى تحرق البيت أو المتجر أو البلد كله:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
فلا يتهاون بها، بل يسدّ باب البدع نهائيا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور»(). «إياكم » تحذير من محدثات الأمور مطلقا سواء كانت محدثات صغيرة أو محدثات كبيرة لم يستثن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئا من البدع. فنهيه عام في جميع البدع، وقال: «وشر الإمور محدثاتها».
(وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها) الفتن أول ما حدثت في الأمة بسبب التساهل مع أهل الإفساد، حتى عاثوا في الأرض فسادا، وغسلوا أدمغة الشباب والعوام، وحشوها من الشر حتى حصلت الفتن في الإسلام، وبين المسلمين كما هو معلوم.
هذا كله بسبب التغاضي عن أهل الشر وتركهم حتى يستفحل الأمر، فلا بد من الحزم، وسد الباب في هذا الأمر، ولا يعصم من البدع بعد الله جل وعلا إلا العلم النافع. أما الذي ليس عنده علم فهذا ينحرف مع البدع، ويظنها طيبة لأنه لا يدري عن البدع، فلا ينجي من البدع إلا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين». هذا هو الذي يعصم من البدع. وهذا يحتاج إلى تعلم وتفقه في دين الله. ولهذا لما كان السلف أفقه الأمة كانوا أشد حذرا من البدع، و أشد تحذيرا من البدع، لعلمهم بما تجره إليه... إلخ ("إتحاف القاري بالتعليقات على شرح السنة للإمام البربهاري" /للشيخ صالح الفوزان /ص34-39/دار ابن حزم)
وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي : فالواجب على الأمة وعلماء الأمة أن ينكروا المنكر ولا يحتقروا بدعة أبداً، لا يجوز التهاون في أي بدعة، لا بد من إنكارها إلخ. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي /ص306/دار الإمام أحمد).
وقال شيخنا الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: لا يستهان بالبدعة، ومن يستهين بالبدعة ما عرف ضررها اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ).
قلت –وفقني الله-: كذلك التلون الملحق بالنفاق العملي، قد يؤدي إلى التلون الملحق بالنفاق الاعتقادي. والتلون نفسه من الكبائر، كما قرره العلماء.
الباب الثامن: تلونات الشيطان
ولما كان التلون هو اختلاف الأخلاق، أو عدم الدوام على حال واحد، أو عدم الثبات على خلق واحد، فهذا النوع كثير في الشيطان.
ومن أمثلة ذلك: أن إبليس -لعنة الله عليه- قد قال بين يدي الله عز وجل: ]قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ [ص/82، 83].
وقال الله تعالى: ]قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا[ [الإسراء/62-65].
ومع شدة حقده على آدم عليه السلام، تظاهر له الشيطان -لعنة الله عليه- بالنصح فقال: ]فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ[ [الأعراف/20، 21].
وقال تعالى: ]فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [ [طه/120].
ومن تلونات الشيطان –عليه لعائن الله- ما قاله الله تعالى: ]كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ[ [الحشر/16].
ومنها قول الله تعالى عنه: ]يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا[ [النساء/120].
ثم يوم الحسرة فضح الشيطان تلوّنه، قال الله تعالى: ]وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [إبراهيم/22].
ومن تلونات الشيطان أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد -رضي الله عنه- قال: أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احتلبوا هذا اللبن بيننا» قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه. قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه، فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربتُ نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل قال ندّمني الشيطان فقال ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليَّ شملةٌ إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال: «اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني» قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، وأخذت الشفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي حافلة وإذا هن حفل، كلهن فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أشربتم شرابكم الليلة؟» قال: قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب، فشرب، ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إحدى سوآتك يا مقداد» فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها» قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس. (رقم 2055/ط. دار ابن الجوزي).
الباب التاسع: تلونات المشركين
قال تعالى: ]وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين[ [النمل/48-51].
وقال تعالى: ]كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ[ [التوبة/8]
وبعض المشركين يتلونون، فيتظاهرون بنصرة المسلمين فإذا حصلت فرصة خنقوهم. قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ - يَعْنِى ابْنَ سَلاَّمٍ - عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ قَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُ الله الْهَوْزَنِىُّ قَالَ: لَقِيتُ بِلاَلاً مُؤَذِّنَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بِحَلَبَ، فَقُلْتُ: يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَىْءٌ كُنْتُ أَنَا الَّذِى أَلِى ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ الله إِلَى أَنْ تُوُفِّىَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الإِنْسَانُ مُسْلِمًا فَرَآهُ عَارِيًا يَأْمُرُنِى فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِى لَهُ الْبُرْدَةَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حَتَّى اعْتَرَضَنِى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ يَا بِلاَلُ إِنَّ عِنْدِى سَعَةً فَلاَ تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ مِنِّى. فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ قُمْتُ لأُؤَذِّنَ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا الْمُشْرِكُ قَدْ أَقْبَلَ فِى عِصَابَةٍ مِنَ التُّجَّارِ فَلَمَّا أَنْ رَآنِى قَالَ: يَا حَبَشِىُّ. قُلْتُ: يَا لَبَّاهُ. فَتَجَهَّمَنِى، وَقَالَ لِى قَوْلاً غَلِيظًا، وَقَالَ لِى: أَتَدْرِى كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَرِيبٌ . قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعٌ فَآخُذُكَ بِالَّذِى عَلَيْكَ فَأَرُدُّكَ تَرْعَى الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ فِى نَفْسِى مَا يَأْخُذُ فِى أَنْفُسِ النَّاسِ ... الحديث (أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الخراج/باب الإمام يقبل هدايا المشركين/3053/العون/دار الحديث))
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم(185)/الطبعة الجديدة /دار الآثار).
الباب العاشر: تلونات اليهود
قال تعالى: ]وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ [آل عمران/72].
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ الله بْنَ بَكْرٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الله بْنُ سَلاَمٍ بِقُدُومِ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ فِى أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِىٌّ: فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ. قَالَ: «أَخْبَرَنِى بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا». قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: ]مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ[ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ». قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله. يَا رَسُولَ الله إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهمْ إِنْ يَعْلَموا بِإِسْلاَمِى قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِى. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَىُّ رَجُلٍ عَبْدُ الله فِيكُمْ» . قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الله بْنُ سَلاَمٍ» . فَقَالُوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ الله فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَانْتَقَصُوهُ . قَالَ: فَهَذَا الَّذِى كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسولَ الله. (كتاب تفسير القرآن/باب قوله: من كان عدوا لجبريل/4480/دار الكتب العلمية).
فأمر اليهود كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ... قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده ، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوّن حالهم واضطراب أفعالهم اهـ. ("فتح القدير" / تفسير الأعراف: 150/دار الوفاء).
الباب الحادي عشر: تلونات النصارى
هرقل أعظم ملوك الأرض في زمنه يتلوّن من أجل بقاء ملكه.
قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَه: -فذكر القصة بطولها إلى قوله-: فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ. وَقَالَ: إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. (أخرجه البخاري (كتاب بدء الوحي/باب-6/رقم (7) /دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الجهاد/باب كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل/1773/دار ابن الجوزي)).
ومن تلونات النصارى ما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في قصة ملك الروم "نقفور": كتب نقفور إلى الرشيد: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك).
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام).
ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئا كثيراً، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد. اهـ ("البداية والنهاية" - ج 10 / ص 161/سنة 187 هـ/مكتبة الصفا).
الباب الثاني عشر: تلونات المنافقين
قد مرّ بنا في أوائل الرسالة أن التلون من سمة المنافقين. وهناك آيات كثيرة كشفت تلوناتهم، منها ما قاله ربنا عز وجل: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَالله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ[ [الحشر/11، 12].
وقال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ [المجادلة/14].
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا[ [النساء : 143]، وقال ها هنا: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ[ يعني: اليهود، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال: ]مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ[ أي: هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.
ثم قال: ]وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ يعني: المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [له] أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"- ج 8 / ص 51-53/دار طيبة).
وقال جل ذكره: }هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ [آل عمران/119].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي: يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم. وقوله: ]لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ[ أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل: هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره. ("تفسير القرآن"/2 / ص 106/دار طيبة).
وقال رحمه الله: وقوله تعالى: ]هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ[ أي: أنتم -أيها المؤمنون-تحبون المنافقين مما يظهرون لكم من الإيمان، فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم، لا باطنا ولا ظاهرا ]وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ[ أي: ليس عندكم في شيء منه شك ولا رَيْب، وهم عندهم الشك والرِّيَب والحِيرة. –إلى قوله:-
وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى: ]وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ[ وذلك أشد الغيظ والحنق، قال الله تعالى: ]قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله مُتمّ نعمته على عباده المؤمنين ومُكَملٌ دينه، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم ]إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها. اهـ ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 108/دار طيبة).
* سرد بعض أوصاف المنافقين –وفيها أدلة على أن التلوّن لم ينفكّ عنهم أبداً-
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن المنافقين: ... أن الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين، فيرضوا المؤمنين ليعزّوهم، ويرضوا الكفار ليعزّوهم أيضاً، ومن ههنا دخل عليهم البلاء فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض في الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذلّ، وهو أن جعل مستقرهم في أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين ءامنوا، والاستهزاء بأهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله، أمرٌ اختصوا به عن الكفار، فتغلظ كفرهم به فاستحقوا الدرك الأسفل من النار، ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة البقرة 22 فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن، وهم المنافقون، وذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفي حق الكفار آيتين 6 -7، فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية (8-20) ذمّهم فيها غاية الذمّ وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاء المفسدون في الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب، وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذمّاً ولا عيباً إلا ذمّهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم وبغضه إياهم وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته-، ومن تأمل ما وصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك، ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاء بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراء الضلالة بالهدى، والصمم، والبكم، والعمى، والحيرة، والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره والحلف باسمه تعالى كذبا وباطلا وبالكذب وبغاية الجبن وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبالرب وبأنهم مضرة على المؤمنين.
ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال و الإسراع بينهم بالشرّ وإلقاء الفتنة وكراهتهم لظهور أمر الله ومحو الحق() وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين، وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة الله وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما لس فيهم فيلزمون المتصدقين، ويعيبون مزهدهم، ويرمون بالرياء وإرادة الثناء في الناس مكثرهم، وأنهم عبيد الدنيا إن أعطوا منها رضوا وإن منعوا سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله، وينسبونه إلى ما برأه الله منه، ويعيبونه بما هو من كماله وفضله، وأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين، ولا يطلبون إرضاء رب العالمين، وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله، ويكرهون الجهاد في سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله ليهمّ بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، وأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأن المنافق أحلف الناس بالله كاذبا قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقي بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس، والرجس من جنس أخبثه وأقذره، فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم، وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان، يقصدون التفريق بينهم ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضراب بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً، وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله، وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم في كل زمان، وارتابوا في الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأماني الباطلة، وغرّهم الشيطان.
وأنهم أحسن الناس أجساماً، تعجب الرائي أجسامهم والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسندة، ولا إيمان، ولا فقه، ولا علم، ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراء ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها، وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركّب مغن عنها وعن الطاعات جملة، كحال كثير من الزنادقة، وإما احتقاراً وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاء به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، ونسيان ذكره، وبأنهم يتولّون الكفار، ويدَعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم، وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله، فلا يذكرونه إلا قليلاً.
وأنهم حزب الشيطان، وأنهم يوادّون من حادّ الله ورسوله، وبأنهم يتمنّون ما يعنت المؤمنين ويشقّ عليهم، وأن البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وبأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء، ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها الشحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فهم أحدّ الناس ألسنة عليهم كما قيل:
جهلا علينا وجبنا من عدوكم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وأنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتها، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبآت، وبدت الأسرار، ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة وأمرهم قلوبا وأعظم الناس خلفا بين أعمالهم وأقوالهم، ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه في دين أبداً، ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم، ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم في شيء، فإنهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجاً منه بحق أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سمي منافقاً أخذاً من نافقاء اليربوع، وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة، فكلما طُلب من سربٍ خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره في سرب واحد. قال الشاعر :
ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيخة اليتقصع
فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء، ومن صفاتهم كثرة التلون وسرعة التقلب وعدم الثبات على حال واحد، بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذا انقلب إلى ضدّ ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلونا وتقلبا وتنقلا، جيفة بالليل قطرب بالنهار، ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك، وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم قال تعالى: ]ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً[
ومن صفاتهم معارضة ما جاء به الرسول بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاء به فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم، دون ما جاء به، فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين. فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى؟ ومن صفاتهم كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم، فيرمونهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض، وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون في الأرض.
وإذا دعاهم ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير مشوبة رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزور، والتلبيس، والمحال. وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم. وليس على الأديان أضر من هذا الضرب من الناس. وإنما تفسد الأديان من قبلهم. ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكررّ ذكرهم لشدة المؤنة على الأمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم، والتحرز من مشابهتهم، والإصغاء إليهم. فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى، وَعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنوهم الويل والثبور. فكم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان، وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان، وأسيرٍ لا يرجى له الخلاص، وفارٍّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار ومودّتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار، من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان، وقطعت له مقطعات من البلاء والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالا، ويمشي على عقبيه القهقهرى إدباراً منه، وهو يحسب ذلك إقبالاً فهم والله قطاع الطريق.
فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء حذار منهم حذار إذ هم الجزّارون ألسنتهم شفار البلايا ففراراً منهم أيها الغنم فراراً. ومن البلية إنهم الأعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم وخلطتهم أعظم الداء وليس بد في مخالطتهم، قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعدا للمستجيبين. ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات فويل للمغترين ... إلخ ("طريق الهجرتين" - / ص 499-504/فصل في مراتب المكلفين في الدار/دار ابن رجب).
قلت –وفقني الله-: والحمد لله، مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله من أحوال المنافقين، استفدنا بعض ما يتعلق بشئون المتلونين الحزبيين الجدد في الجملة، منها:
1- أن الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين
2- الخداع، والاستهزاء، والسخرية، والكذب، والتلاعب بالدين، إظهار الموافقة وإبطان المخالفة،
4- مرضى القلوب شبهةً،
5- الكسل عند عبادة الله
6- الولاء للأعداء،
7- والجبن،
8- وعدم العلم والفقه في الدين،
9- ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال
10- كرهوا ظهور الحق،
11- وأنهم يتربصون الدوائر بنا
12- عبيد الدنيا
13- الأذى والطعونات،
14- وأنهم يتركون بعض ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه،
15- اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم،
16- يقصدون التفريق بين أهل الحق،
17- يؤوون من حارب الحق وأهل الحق
18- البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم
19- يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
20- عذب اللسان مع مرارة القلوب
21- أعمالهم تكذّب أقوالهم، وباطنهم يكذّب ظاهرهم، وسرائرهم تناقض علانيتهم
22- إنهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجاً منه بحق أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سمي منافقاً
23- فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء
24- معارضة الأدلة والحجج بتقليد الرجال
25- ومن صفاتهم كتمان الحق، والتلبيس على أهله،
26- رميهم لأهل الحق بأدوائهم
27- إذا أمر أهل الحق بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ودعوا إلى الله ورسوله، قالوا: (أهل فتن! مفسدون في الأرض!)
28- وإذا رأوا مع أهل الحق حقا ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه.
29- وإذا كان معهم أنفسهم باطلٌ ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم
30- أنهم في السلفيين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم.
31- قطعوا على السالكين إلى الله بعض طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى
32- ومن البلية إنهم الأعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم وخلطتهم أعظم الداء وليس بد في مخالطتهم.
الباب الثالث عشر: التلونات في الدين من أفعال أهل البدع
إن أهل الباطل يتوارثون أباطليهم، كما أن أهل الحق يتوارثون الحق. وكلٌّ يتواصي بما يناسبه. قال تعالى: ]وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [البقرة/132].
وقال تعالى: ]وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ [الزخرف/28].
وقال تعالى: ]كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[ [الذاريات/52، 53].
ولكن ليس هذا الوارث كذاك الوارث. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون اهـ ("مدارج السالكين" /ج 1 / ص 289/فصل: وأما النفاق/ط. دار الحديث).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن الرسل وأعدائهم:
لا بد أن يرث الرسول وضدّه في الناس طائفتان مختلفتان
فالوارثون له على منهاجه والوارثون لضدّه فئتان
أحداهما حرب له ولحزبه ما عندهم في في ذاك من كتمان
فرموه من ألقابهم بعظائم هم أهلها لا خيرة الرحمن
فأتى الألى ورثوهم فرموا بها وراثه بالبغي والعدوان
هذا يحقق إرث كل منهما فاسمع وعه يا من له أذنان
والآخرون أولوا النفاق فأضمروا شيئا وقالوا غيره بلسان
. اهـ ("القصيدة النونية" - 1 / ص 401/ شرح الهراس/دار الكتب العلمية).
وقال فضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي حفظه الله في الفرق الضالّة: لا بد لكلّ نحلة من مورّث ووارث، فبئس المورّث وبئس الوارث والموروث. ("قطوف من نعوت السلف" /ص39/دار المنهاج).
فأهل البدع يرثون التلوّن وتعداد الوجوه من الشيطان، والكفار والمنافقين.
وعلى رأسهم الرافضة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهم أشد ضرراً على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الاسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة اكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه و سلم: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف واذا اؤتمن خان». وفى رواية: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر». وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود() ويستعملونها مع المسلمين يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه. اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 479/إحالة/دار الوفاء).
إن التلون قريب من التقية. لما كان المتلون لا بد له أن يتزين بما ليس في باطنه عند فلان، وأظهر سريرته عند من يناسبه، فإنه قد تلوّن، وقد فعل التقية. فكلاهما من صنيع أهل النفاق.
ومن المتلونين أيضا: الحسين بن منصور الحلاج الزنديق، له تلونات قبيحة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي ويلبس لباس الزهاد تارة ولباس الأجناد تارة .
وكان من مخاريقه أنه بعث بعض أصحابه إلى مكان فى البريه يخبأ فيه شيئا من الفاكهة والحلوى ثم يجىء بجماعة من أهل الدنيا إلى قريب من ذلك المكان فيقول لهم ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية فيشتهى أحدهم فاكهة أو حلاوة، فيقول: امكثوا، ثم يذهب إلى ذلك المكان، ويأتى بما خبأ أو ببعضه فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له وكان صاحب سيما ... إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 35 / ص 111-112/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول: الناس فيه - يعني حسين بن منصور الحلاج - بين قبولٍ وردٍّ، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي.
فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال: قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال، خبيث كافر.
قلت: كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.
وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب "حفظ قلوب المشايخ": أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن.
قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته.
وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتابا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلطه على صديق.
كيف وقد تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى: ]ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم[ [ الحج: 25 ] ولا إلحاد أعظم من هذا.
وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم: ]وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين[ [ الانفال: 31 ]. ("البداية والنهاية" /11/ص117-118/مكتبة الصفا).
قلت –أعاذني الله وإياكم من الفتن-: قد ثبت أن الحلاج يدعي الألوهية والربوبية، ومع ذلك لما أخذه الأمراء وأبرزوا له بينات على أباطيله جحد وأنكر.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعوا الناس إلى طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود. ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته، وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده.
فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صحّ عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذّبهم وقال: (أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله، وأكثر له الصوم، والصلاة، وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك). وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: (سبحنك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم والليلة ألف ركعة. وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذونا لمن يدخل إليه، وكان يسمى نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، -إلى قوله:- وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق. ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرقة والسحر شيئا كثيراً.
وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة. من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال: (قومي إلى الصلاة؟) وإنما كان يريد أن يطأها.
وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد البشر لبشر ؟ فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض. ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانير كثيرة مبدورة. انتهى المراد ("البداية والنهاية" - ج 11 / ص 121/سنة 308 هـ/مكتبة الصفا).
قلت –سددني الله وإياكم-: انظروا إلى تلونات هذا الخبيث في الملابس، والعقائد، والحيل في وطء زوجة ابنه، وحتى في الأسماء.
ومن المتلونين أيضا الجهمية ومتفلسفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله في شأن الجهمية ومتفلسفة: ... إن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلوّن والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلا عمن كان من ذوي الألباب، والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس كما أن الشعاع آية على الشمس اهـ المراد. ("بيان تلبيس الجهمية" ج 2 / ص 479/الطرق النظرية تفيد العلم/دار القاسم).
ومن المتلونين أيضا ابن سينا الطبيب الزنديق. حكى الإمام ابن القيم رحمه الله كما في "شرح الكافية والشافية" (ج 1 / ص 93/دار الكتب العلمية) تبجح ملحد زنديق بأسلافه في الزندقة والإلحاد:
وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا أتباعه بل صانعوا بدهان
قال الشيخ العلامة محمد خليل هراس رحمه الله: شرح: -حكاية عن قولهم-: وكذلك ابن سينا وهو الفيلسوف الإسلامي المشهور مؤلف كتاب "الشفاء" في الفلسفة، و"القانون" في الطب، و"الإشارات" وغيرها في المباحث العقلية لم يكن منكم يا معشر أهل الإثبات، ولا أتباعه في فلسفته كذلك، ولكنهم كانوا يصانعونكم بالمداهنة والحيلة حتى لا ينكشف أمرهم، ولا تعرف زندقتهم، فابن سينا كان يتظاهر أمام العامة بأنه يريد أن يخدم الدين من طريق التوفيق بينه وبين الفلسفة اليونانية مع أنه في قرارة نفسه لا يحمل للدين أي قدسية وكل عنايته في كتبه، إنما كانت بتقرير نظريات أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان. اهـ
ثم إن الجهمية وأمثالهم عيّروا الأشاعرة الذين أثبتوا بعض الصفات دون بعض بأنهم مثل المنافقين. حكى الإمام ابن القيم رحمه الله في "الكافية والشافية" - (ج 1 /ص 340/دار الكتب العلمية) تعييرهم:
فعلام هذا الحرب فيما بيننا مع ذا الوفاق ونحن مصطلحان
فإذا أبيتم سلمنا فتحيزوا لمقالة التجسيم بالإذعان
عودوا مجسمة وقولوا ديننا الـ إثبات دين مشبه الديان
أو لا فلا منا ولا منه وذا شأن المنافق إذ له وجهان
هذا يوقل مجسم وخصومه ترميه بالتعطيل والكفران
هو قائم هو قاعد هو جاحد هو مثبت تلقاه ذا ألوان
يوما بتأويل يقول وتارة يسطو على التأويل بالنكران
وقال الإمام الألباني رحمه الله في جماعة التبليغ: فجماعة التبليغ ليس لهم منهج علمي وإنما منهجهم حسب المكان الذي يوجدون فيه فهم يتلونون بكل لون اهـ (نقله الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في "حقيقة المنهج الواسع لأبي الحسن" /مجموعة الردود/ص408/دار الإمام أحمد)، وأيضا في "الفتاوى الإماراتية للألباني" س (73) ص (38)/دار الضياء).
وقال الشيخ أحمد النجمي رحمه الله في شأن جماعة التبليغ: ولهم شبه بالشيعة في المقدرة على النفاق وإظهار التوحيد وإخفاء الإشراك، بل النداء بالتوحيد وترويج الإشراك اهـ ("المورد العذب الزلال" ص288/الباب العاشر/دار الآثار).
وهكذا الحزبيون. وقال الإمام الوادعي رحمه الله: فالحزبي مستعد أن يكون له خمسة أوجه، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إنّ من شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». أما السني فإنه متمسك بدينه سواء رضي فلان أم لم يرض، بخلاف الحزبيين اهـ ("تحفة المجيب" ص 290/من وراء التفجير .../دار الآثار).
وقال رحمه الله: ولكن الحزبية تجعل أهلها يتلونون ويتقلبون اهـ ("غارة الأشرطة" /أسئلة الأخ عبد الكريم من بريطانيا/م2 ص237/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال رحمه الله في شأن السرورية: نعم هي جماعة موجودة، وإن كان الأخ محمد سرور ينفي هذا فهي موجودة بأرض الحرمين ونجد و باليمن وكانت بدأ أمرها على الاستقامة، وكما تقدم أن قلنا: إن الشخص يتستر ولا يظهر الحزبية إلا بعد أن تقوى عضلاته، ويرى أن الكلام لا يؤثر فيه. ("غارة الأشرطة" /أجوبة إخواننا أهل الطائف /ج2 ص17/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال الإمام الوادعي رحمه الله في شأن عبدالرحمن عبدالخالق وأصحابه: وهم يتلونون، فقد رد عليهم الشيخ عبدالعزيز بن باز، ثم يأتي عبدالرحمن عبدالخالق، وأنا متأكد أنه ما أجاب بما أجاب به ولا تراجع عما تراجع عنه إلا أنه يخشى من الحكومة الكويتية فإنّها تثق بالشيخ ابن باز وتحبه، فلو قال لهم: رحّلوه، هذا لا خير فيه، لرحّل. من أجل هذا تراجع، ونحن نقول لعبدالرحمن عبدالخالق: هل تراجعت عن قولك أنه لا بأس بالتحالف مع العلمانيين، إلخ ("فتح المجيب" ص198-199/أسئلة البريطانيين/دار الآثار).
وقال رحمه الله: ربما يكون شخصاً يدعو على الحزبية تحت غلاف السلفية بل يدعو إلى الكتاب والسنة وإلى السلفية وإلى أصحاب الحديث. اهـ ("غارة الأشرطة" /أجوبة أسئلة أخينا أبي عبد الرحمن المصري /ج1 ص209/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال رحمه الله لبعض الحزبيين: يا هذا، عبد الله بن سبأ اليهودي الذي خرج من صنعاء إلى المدينة يظهر الزهد والتقى والعبادة والغيرة على الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم بعد ذلك بذر الفتنة وصار سببا لكثير من الفتن، فلا بد أن نعرف السني من الحزبي(). اهـ ("إسكات الكلب العاوي" ص6/دار الآثار).
ومن المتلونين أيضا إبراهيم بن حسن الشعبي. لما أظهر هذا الإخواني المدحَ للدولة السعودية، قال مفتي المملكة السعودية الجانوبية فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله: وأصحاب الحزبيات قد غدروا، وخانوا الدولة والشعب، والله من ورائهم محيط ... –إلى قوله:- ليتك تقول هذا –أي الثناء- في الخفاء كما تقوله في العلن، فتنجو من النفاق الذي لا يسلم منه من كان ذا وجهين، وذا لسانين اهـ. ("الرد المحبر" ص122 للشيخ أحمد النجمي رحمه الله/دار المنهاج).
فالحزبيون متلوّنون. قال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: قلما تجد شابّاً يريد الإسلام إلا واحتوته هذه الأحزاب - إلى قوله- مع الأخذ بالتقية بالباطنية وتظاهرهم بمحاربة التحزب. ("الحد الفاصل" /ص 112-113/دار المنهاج).
وقال حفظه الله لعبد الرحمن عبد الخالق: فالتقية شعار الأحزاب التي تنافح عنها ولا سيما في البلدان التي تحظر هذه الأحزاب فهم يلبسون للناس، ويظهرون لهم خلاف ما يقولونه ويفعلونه في الأقبية والسراديب ويظهرون بألسنتهم للناس خلاف ما يكنونه في قلوبهم من العقائد والاتجاهات، ولعلهم يسيرون على هذه الحال في ضوء توجيهات عبدالرحمن وأمثاله .اهـ ("النصر العزيز" /ص108/دار المنهاج).
وقال حفظه الله في شأن حمزة المليباري –أحد المنحرفين الماكرين بصحيح مسلم-: ويُؤسفني أن أقول : إنَّ حمزة المليباري من أشدِّ الناس معاندة للحق النَيِّرِ الواضح وردًّا له وتباكياً منه، يرافق ذلك شكاوى وافتراءات وطعون ظالمة، وجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، مع دعاوى كبيرة ومع التهرب من منهجه الذي وضعه لتدمير "صحيح مسلم" وطبَّقَه فعلاً على باب بكامله ثمَّ تطوير هذا المنهج إلى صورة أخرى ثمَّ تطويره إلى صورة ثالثة ثمَّ إنكار هذه الأفاعيل ورمي من يوضحها بالأدلة العملية والقولية من أقوال وتطبيقات هذا المليباري العجيب في الكذب والتلون والتظاهر بأنَّه مظلوم مفترى عليه وكتاباته بأيدي الناس، فالمنصف يدرك بدون عناء انحراف هذا الرجل وتلونه وتلون كلامه وتأصيله وتطبيقه، ويدرك كذبه في دعاواه وتصرفاته، أما من اتبع هواه فقد يعمى عن رؤية الحقِّ الواضح كالشمس ويعمى عن رؤية الباطل ولكن الله له بالمرصاد اهـ. ("عقيدة المليباري ومنهجيته" /للشيخ ربيع حفظه الله/ص1/عين السلسبيل)
ولما ظهر من فالح الحربي وحزبه النفاق، والخيانة والتقلبات في حربهم للإمام ابن عثيمين قال الشيخ ربيع حفظه الله في فالح: فما أسهل التلون عليه وما أكثره! ("دفع بهت وكيد الخائنين" /مجموع الردود على الحدادية/ص68/دار الإمام أحمد).
وقال حفظه الله: واستمرَّ الحداديون على خطِّه بل أشَّد منه وعلى رأسهم عبد اللطيف باشميل الذي لا يهدأ له حقد على أهل السنَّة ومنهم الألباني، وهو يحقد على ابن باز، والعثيمين، وغيرهم من علماء السنَّة، لكن ما يستطيع أن يواجه فيتستر بهؤلاء لضرب الألباني، وربَّى على هذه الطريقة الخبيثة، وكان فالح صديقاً لعبد اللطيف، وفريد المالكي، ولمَّا وجَّهنا لهم النقد اللاذع كان هو يجاملهم ويماشيهم وما أدري متى تركهم ظاهراً أو باطناً-الله أعلم- لكنّه كانت تظهر عليه آثار الحدادية، ونحن وبعض المشايخ نقدِّم له النصائح إلى أن جاءت هذه الأيام فرفع لواء الحدادية، وكان يقول : (الألباني أستاذي و و... والذين يرمون الألباني بالإرجاء خوارج)، ويتقلَّب ويتقلَّب، ويهمس أحياناً بالطعن في الألباني بالإرجاء، وأحيانا يجهر بالدفاع عنه !! يتلوَّن كالحرباء في قضية الألباني وغيرها، ثم أخيراً جهر بأنَّ ربيعاً قلَّد الألباني في قضية الإرجاء، وفي قضية الأعمال شرط كمال، فأنا والله حاربت عبارة "الأعمال شرط كمال" (مجموع الردود على الحدادية /"كلمة في التوحيد" ص88/دار الإمام أحمد).
وقال الشيخ ربيع حفظه الله في عدنان عرعور: فالمآخذ على عدنان عرعور كثيرة وخطيرة، وله تقلبات حول قضايا يخالف فيها دين الله الحق ومنهج السلف، فإذا أخذ في قضية من جهة قفز إلى جهة أخرى ، فإذا أخذ من الجهة الأخرى فرَّ إلى جهة أخرى جديدة. ولنضرب مثلاً لتقلبه وتلونه في بيان أسباب وضعه لبعض القواعد التي شغب بـها على المنهج السلفي وأهله ... إلخ ("دفع بغي عدنان" /مقدمة/عين السلسبيل)
ومن أوصاف أبي الحسن المصري ما قاله العلامة الشيخ ربيع المدخلي - حفظه الله-: ولأبي الحسن نظائر من هذا التلونات اهـ ("تلون أبي الحسن" /الحاشية/مجموعة الردود على أبي الحسن/ص280/دار الإمام أحمد).
وقال شيخنا المحدث الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: أكثر الناس نصحا للمسلمين هم أهل السنة، وأما أهل البدع هم أهل المجاملة اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ).
ومن المتلونين أيضا رأس الحزب الجديد عبد الرحمن بن عمر العدني هداه الله، الذي قام بثورة على أعظم مراكز السلفيين في العالم دار الحديث بدماج حرسه الله. من تلوناته: أنه قال لمحسن زياد – في أيام الفتنة- : (انتبه لا تتكلم في الشيخ يحيى) (ملزمة "المؤامرة الكبرى" ص34)، وهو نفسه له طعونات كثيرة فيه - حفظه الله-. كأنه بنصيحته لمحسن زياد أراد اكتساب عطفه من حيث أنه مظلوم –كما زعموا- ولم يأخذ بثأره ولو بالطعن!
ومنها: حثّه -في إحدى بياناته- الجميع على الحفاظ على الدعوة، وهو يقلقل على أعظم مراكز السنة باليمن خصوصا، وعلى الدعوة السلفية عموماً!
ومنها: حثّه -في بيانه 5 محرم 1429 هـ- الجميع على جمع الكلمة والتآلف، وهو مع أخيه عبد الله يهرول إلى هناك وهناك يحرش بين المشايخ في اليمن بل في السعودية.
ومنها: قوله -في بيانه 5 محرم 1429 هـ- أنه بريء ممن يثير الفتن ويطعن في الشيخ يحيى الحجوري -حفظه الله- ومركز دماج، وهو رأس تلك الحملات وهو حتى الآن لم يزل حول أتباعه الطعانين السبابين الشتامين في شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-، وهو نفسه له طعونات كثيرة فيه - حفظه الله- ولم يعتذر منها!
ومنها: إنه كان يثني على شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-، وذكر أهليته لحمل الدعوة ويحث الناس على تلقي العلم منه - حفظه الله-، فإذا بالرجل في منشوره "التعليقات الرضية" يشهد بالله أنه لم ير أحدا ممن ينتسب على العلم –منذ طلبه للعلم إلى الآن- أكذب من شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-!
فالواقع يشهد أن عبد الرحمن العدني هو الكذاب، وأن الحزبيين هم الكذابون.
إذا كان كلامه الأخير صادقاً لماذا كتمه أكثر من ثمان سنوات وهو يعرف انخداع آلاف الناس بشيخنا يحيى الحجوري حفظه الله – على فرض صحة يمينه - في الفترة الطويلة، وهو نفسه يحثهم على تلقي العلم من شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله. إذن هذا الرجل - عبد الرحمن العدني- لمن أكبر الغشاشين المتلونين.
وقال شيخنا يحيى بن علي الحجوري حفظه الله للشيخ عبيد وفقه الله: الوجه الثاني: أنك إن أظهروا لك حسن المجالسة فقد أظهروا سوءها لنا، ولدعوةٍ سلفية هائلة عندنا. اهـ (ملزمة "التوضيح" /لشيخنا يحيى حفظه الله /ص9).
والمقصود بهم: عبد الرحمن بن مرعي العدني، وعبد الله بن عمر بن مرعي، وهانئ بن بريك وأمثالهم.
ومن تلونات أتباع الحزب الجديد –سواء في اليمن أو في إندونيسيا-: أنهم إذا أرادوا الهجوم على السلفيين من دار الحديث بدماج تستروا وراء لون: (اتباع فتوى كبار العلماء من اليمن –الشيخ محمد الوصابي لا جزاه الله خيراً- في التحذير من الشيخ يحيى حفظه الله)، وتارة أتوا بلون أعظم من ذلك –زعموا-: (تحذير كبار العلماء من السعودية -الشيخ عبيد لا جزاه الله خيرا- من الشيخ يحيى حفظه الله)، وتارة جاءوا بلون أعمّ: (نصرة العلماء، والدفاع عن حرمتهم الممزقة!) كما فعله محمد السربيني الإندونيسي الكذوب.
فإذا عجزوا من مقاومة حجج السلفيين من دار الحديث بدماج، تستروا بلون آخر: (بيننا وبينكم وصية العلماء بالسكوت!)، وتارة أتوا بلون الإخوان المسلمين: (نتعاون فيما اتفقنا في مواجهة الصوفية، والشيعة، والمعتزلة، والعقلانية، والخوارج من القطبيين، والسرورية، والتراثيين، ولا نتكلم فيكم ولا تتكلمون فينا، ولا يكون أحد منا سببا للتفرق والاختلاف ...) كما صنعه هؤلاء أصحاب براءة الذمة الجديدة –لقمان با عبدة، محمد عفيف الدين، ومحمد السربيني، وعسكري، وفوزان، وعبد جبار وبقية الثلاثين الموقعين- في رسالتهم المفتوحة لشيخنا الناصح الأمين حفظه الله. وقد أدانهم شيخنا المحدث العلامة يحيى الحجوري حفظه الله بأنهم حزبيون.
ومن تلونات بعضهم أن بعض رؤساء أفراخهم في إندونيسيا (منهم لقمان با عبده، ومحمد السربيني، وعسكري، ومحمد عفيف الدين، وعبد الجبار، وفوزان وغيرهم) يصرخون: (اسكتوا! اسكتوا! لا تكن بيننا فتنة! كلنا سلفيون في صف واحد!) –أو نحو ذلك-، مع أن فيهم من يلتمسون فتوى عبيد الجابري في منع محاضرات علماء السنة من دار الحديث بدماج، ويتركون بعض أتباعهم يمزّقون إعلان محاضرات علماء السنة من دار الحديث بدماج.
ومن تلوناتهم أن هؤلاء المذكورين في رسالتهم المفتوحة قالوا لبعض علماء السنة من دار الحديث بدماج: (مرحباً بكم، أهلاً وسهلاً)، ومن وراء الجدار فيهم من يسعون جادّين في إلغاء محاضراتهم بأيدي الحكومة. وشوشوا على اتصالاتنا وحاولوا قطع الكلام بيننا وبينا أصحابنا في بلدنا هاتفياً.
وقد قدر الله عز وجل أن الحكومة الإندونيسية –وفقهم الله- لم تأذن للشيخين الفاضلين أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني وأبي عبد السلام حسن بن قاسم الريمي-حفظهما الله ورعاهما- بالقدوم، وتعللت ببعض التهم والظنون.
وقد سمى شيخنا يحيى حفظه الله هؤلاء المتلونين أصحاب الرسالة المفتوحة: حزبيين. فهم بهذه المظالم جديرون أن يُقرأ عليهم قول ربنا تبارك وتعالى: ]وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[ [الشعراء/227].
وقال شيخنا المجاهد يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: إنسان حزبي قوله يخالف فعله، وفعله يخالف قوله اهـ (سجّلت هذه الفائدة في 4 رجب 1430 هـ).
* ومن تلونات الحزبين: البراءة السياسية
بعض الحزبيين أمام الأمة يتظاهرون بالبراءة من القبائح التي ارتكبوها، أو ارتكبها بعض أتباعهم بدون النكير، وأما فيما بينهم كأنهم قالوا: (خلوا هذا الأمر سرّاً بيننا).
قال الإمام الوادعي رحمه الله: فنسأل الله أن يفضحه مثل عبدالمجيد الزنداني، فإنك تذهب إليه وتقول له: إخوانك أخذوا علينا المسجد الفلاني، وإخوانك ضربوا إخواننا في المسجد الفلاني، وإخوانك تكلموا في أهل السنة، فيقول: أنا أبرأ إلى الله من هذا، فإذا كنت تبرأ إلى الله فاخرج منهم ولا تبق على ما أنت عليه، ("تحفة المجيب" ص290/من وراء التفجير ... /دار الآثار)
وسئل الإمام رحمه الله عن أتباع عبد الرحمن عبد الخالق: بعض الأخبار تقول: إن السلفية الجديدة حزب سري مثلما كان الإخوان من قبل ولهذا ينظّمون بعض الأمور معًا فهل هذا صحيح؟
فأجاب رحمه الله: الذي يظهر أنه ليس بصحيح، فعندهم حزبية لكن لا يبلغون مبلغ الإخوان المسلمين، وأيضًا ليسوا متفقين، فقد اتفقوا ببعض زعمائهم وأورد عليه أسئلة حتى عجّزوه وقال: أنا أبرأ إلى الله، تبرأ إلى الله من ماذا؟ وأنت تدعو في كل مجلس إلى الإخوان المفلسين، فمن الذي أمسكك حتى تبقى مع الإخوان المسلمين أأنت مربوط ومقيد؟ انصرف إذا كنت تبرأ إلى الله.. الله المستعان. ("مقتل الشيخ جميل الرحمن" /ص60/دار الآثار)
ومن هذا الباب صنيع عبد الرحمن عبد الخالق. لما تكلم الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في كذبه في تراجعه –كما في "جماعة واحدة" (ص61/دار المنهاج)- ذكر في الحاشية: ويخشى أن يكون القصد من وعده للشيخ –يعني الإمام ابن باز رحمه الله – هو الخداع وانتزاع التزكية من غير تحقيق لما وعد به، وقد مضى على هذا الوعد زمن طويل لم يتحقق من خلاله ما وعد به إلا قوله: "أنا بريء مما يخالف الكتاب والسنة". وهي عبارة مجملة تحتمل، وكلٌّ يفسرها بما يريد. اهـ
وقال محمد البيضاني السروري: وسرور نفسه يقول: أنا برئ من كل من قال: أنا سروري ( "نبذة يسيرة من أعلام الجزيرة"/ ص81/للشيخ أبي همام البيضاني حفظه الله/دار الآثار)
وعبد الرحمن بن مرعي العدني هداه الله في بيانه بالحديدة أظهر البراء إلى الله ممن طعن في دار الحديث بدماج وفي شيخنا أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله . ومع ذلك لم يزل مع هؤلاء الطاعنين، وهو نفسه طعّان في شيخنا حفظه الله ولم يعتذر. فقد ورث عبد الرحمن بن مرعي العدني هداه الله أسلوب هؤلاء الحزبيين، وصدق الشيخ ريبع المدخلي حفظه الله بنقله: لكل قوم وارث كما يقال. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي حفظه الله/ص332/دار الإمام أحمد).
وقد أحسن الشيخ أبو حمزة محمد العمودي حفظه الله في تعليقه على صنيع عبد الرحمن العدني ذلك، في "سلسلة الطليعة" ح5 فراجع فيها فإنها مفيدة مهمة في كشف تلبيسات عبد الرحمن بن مرعي العدني.
فقلنا لعبد الرحمن بن مرعي العدني كما قال الإمام الوادعي رحمه الله لعبد المجيد الزنداني: فإذا كنت تبرأ إلى الله فاخرج منهم ولا تبق على ما أنت عليه.
ونرجو منه الاستفادة من كلام شيخه الإمام الوادعي رحمه الله في التراثيين: تبرأ إلى الله من ماذا؟ وأنت تدعو في كل مجلس إلى الإخوان المفلسين، فمن الذي أمسكك حتى تبقى مع الإخوان المسلمين أأنت مربوط ومقيد؟ انصرف إذا كنت تبرأ إلى الله.. الله المستعان.
وليست تلك البراءة هي أول مرة صادرة من عبد الرحمن بن مرعي العدني. وقد فعلها قبل ذلك في بيان معبر فقال: وإني أبرأ إلى الله سبحانه من كل تعصب جاهلي ومن كل ما يكون سبب (هكذا) في تمزيق الصف وتشتت الشمل، سواء كان هذا التعصب لي أو لغيري اهـ
فقد أحسن وأوجز شيخنا الفاضل أبو عبد الله محمد باجمال حفظه الله في تعليقه عليه فقال: هذا التبرؤ وبهذا الأسلوب كل مبطل يحسنه، وكل مبطل ينكر حصوله منه، فإبليس قال الله عنه: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، وهكذا أبو الحسن وسائر أهل البدع يعلنونها بملئ أفواههم: نحن نبرأ إلى الله من كل تعصب جاهلي.
وهذا أمر لا يخفى، فلذا كان من المُلْزِم -في مثل هذه الأمور- الإيضاح والبيان، ليُعرف هل يقر بأن ما يجري هنا من جراء قضيته تعصب جاهلي أم لا؟ وهل هذه الأعمال التي يحدثها المُرَبَّطُون بالأراضي تشتت الشمل، وتفرق الصف أم لا؟ اهـ (ملزمة "ملحق المنظار" له/ص15).
الباب الرابع عشر: بعض أهل الخذلان يتلونون
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لأمته، وأعدوا له عدته، وأخذوا مصافهم ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس ودارت رحى الحرب واشتد القتال وتنادت الأقران النزال النزال، وهو في الملجأ والمغارات، والمدخل مع الخوالف كمين وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أني معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين، اهـ المراد ("القصيدة النونية"ج 1/ ص 8/ شرح الهراس/دار الكتب العلمية).
ولهذا الصنيع أصل في القرآن في صفات المنافقين، حيث قال الله تعالى: ]الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ [النساء/141].
ويليق أن يقال لهم: تطلب مشاركة الغانمين وما شهدت الحرب تحل الغنيمة لمن شهد الوقعة اهـ ("بدائع الفوائد" - ج 3 / ص 726/دار الحديث).
الباب الخامس عشر: غالب الصحفيين والجواسيس يتلونون
قال الإمام الوادعي رحمه الله: وبعد هذا فننصحك أيها الصحفي أن تسلم إذا أردت أن تنقذ نفسك من النار، ثم تعمل بصدق وإخلاص، فإن الغالب على الصحفيين أنّهم يتلونون، فهم يمدحون الحكام من أجل أن يعطوهم أموالاً، وربما يقلبون الحقائق ويهاجمون أهل العلم، فلا بد أن يكون الشخص ذا مبدأ صادق ولا يبالي بمن خالف، أما إذا كان يتلون فحتى صحيفته لن يطمئن الناس إليها، لأنّها قد أصبحت كذابة ومع المادة، ... -إلى قوله:-
وبما أن هذا الزائر ادعى أنه صحفي، وغالب ظني أنه جاسوس وليس بصحفي، على أن الصحفيين يجوز أن يكون غالبهم جواسيس، ففي ذات مرة أتاني شخص من اليمنيين قد علق كاميرا التصوير، وقال: أنا صحفي أريد أن ألقي معك مقابلة، فأريد أن تخبرني بكتبك التي ألفتها، وبحالة الدعوة، وهكذا، ثم تحدثنا قليلاً، فقال: أنا أقول لك بالمفتوح الآن مع أزمة الخليج وكان هذا في أيام أزمة الخليج من أين يأتيكم المال؟ فلعلكم قد تعطلتم من المال، فإذا كان قد حصل هذا فسنطلب من الحكومة أن تساعدكم. فقلنا: له: لا، نحن بخير والحمد لله.
وفي مرة أخرى أتاني أربعة أو خمسة في المكتبة القديمة وقالوا: نحن صحفيون، فهذا مندوب وزارة الإعلام، وهذا مندوب صحيفة كذا، وهذا مندوب لجريدة كذا، فقلت لهم: لا أدري أصحفيون أنتم أم جواسيس؟ فقالوا: هكذا. قلت: نعم. فقالوا: إذًا نترك المقابلة. فقلت: اتركوها. ثم رأيت واحدًا منهم في صعدة.
فالغالب عليهم أنّهم يريدون أن يفتنوا بين الدعاة إلى الله، وبين الدعاة إلى الله والحكومات وكذلك مسألة الكذب فأحدهم مستعد أن يكذب ولا يبالي، وعدم الصراحة، وربنا يقول في كتابه الكريم: ]ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرًا[. ("تحفة المجيب"/ ص229-وما بعدها/جلسة مع الصحفي الألماني/دار الآثار).
وقد سأل سائل ما ملخصه: إن لي أرضا في عمران، وحولها سكان اليهود، وأنا محتاج إلى المال. فهل عليّ إثم إن بعتها لليهود؟
فأجاب عنه شيخنا العلامة الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله ما ملخصه: لا تبع ممتلكتك لليهود، فإن ذلك سببا لتمكنهم في بلاد الإسلام. إن أكثرهم –يعني يهود عمران ونحوهم- جواسيس لليهود، وإن كانوا يتظاهرون أنهم بدو اهـ. (سجلت هذه الفائدة بتاريخ 6 شعبان 1430 هـ).
الباب السادس عشر: ابتلاء نبي الله الكريم يوسف عليه السلام
* تلونات إخوة يوسف عليه السلام قبل التوبة
قال الله تعالى: ]لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ...-إلى قوله:- فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ [يوسف/7-18].
قلت –عفى الله عني-: انظر كيف أبدوا شدة حسدهم وحقدهم على يوسف عليه السلام فيما بينهم، وتمالئوا على إلقائه في غيابة الجبّ، ثم تظاهروا أمام أبيهم يعقوب عليه السلام أنهم ليوسف لناصحون حافظون. ثم انظر كيف تباكوا بين يدي أبيهم، وأتوا على قميص يوسف بدم كذب، يكذبون على الذئب.
ففي هذه القصة بيان واضح على تلونات أهل مكر وخداع –نعوذ بالله من شرّهم-.
وما ذكرت هذه القصة تتبعاً لسيئات قومٍ قد تابوا وحسنت توبتهم، وإنما هذا من باب قول الله تعالى في هذه السورة: ]لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ[ و ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ [يوسف/111].
وفي هذه القصة أيضا عبرة بأن لا يغتر بدموع المدعي حتى ظهر صدق ادعائه. فبعض الناس –بل بعض الحزبيين المتلونين- حذاق في استعطاف الناس بالبكاء. ومنهم الإخوان المسلمون أصحاب التمثيليات.
قال الإمام أبو بكر ابن عربي المالكي رحمه الله: قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، وَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ حَكِيمٌ: (إذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى) وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مُشْتَبِهٌ ، وَأَنَّ مِنْ الْخَلْقِ فِي الْأَكْثَرِ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ التَّطَبُّعِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الطَّبْعَ. ("أحكام القرآن" /3/ ص32/سورة يوسف/المكتبة العصرية).
* عدم صحة قصة البائسة مع القاضي شريح
قال وكيع رحمه الله: قال حدثنا أحمد بن عمر بن بكير؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا الهيثم، عن مجالد، عن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة؛ فقال: يا شعبي: إن إخوة يوسف جاءوا أباءهم عشاءاً يبكون اهـ. ("أخبار القضاة" للقاضي وكيع رحمه الله - ج 1 / ص 191/المكتبة الشاملة)
وكيع، هو القاضي محمد بن خلف بن حيان بن صدقة أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع، كان عرافاً بالسير وأيام الناس، وله تصانيف منها عدد آي القرآن، قال الخطيب: وبلغني أن أبا بكر ابن مجاهد سئل أن يصنف كتاباً في العدد فقال: كفانا ذاك وكيع، وله "أخبار القضاة وتواريخهم"، كتاب "الأنواء"، كتاب "الشريف" يجري مجرى المعارف لابن قتيبة، كتاب "الغرر" فيه أخبار، كتاب "الطريف" ...-إلى قوله: - كان صدوقاً ثقة ("الوافي بالوفيات" – رقم 934/ دار إحياء التراث).
مجالد، هو ابن سعيد بن عمير أبو عمرو ويقال أبو سعيد الكوفي، ضعفه جملة من الأئمة الكبار، وروايته عن الشعبي رحمه الله ضعيفة.
فسند القصة ضعيف، ولم أجد لها سنداً آخر، والله المستعان.
* تلون امرأة العزيز قبل التوبة
قال الله تعالى في قصة نبيه الكريم يوسف عليه السلام: ]وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [يوسف/23-25].
انظر قولها أمام يوسف عليه السلام، وقارن بينه وبين قولها أمام سيدها.
وفي الآخر اعترفت: ]قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ الله لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [يوسف/51-53]
وليست هذه الرسالة موضعاً لذكر فوائد قصة يوسف عليه السلام الغزيرة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل اهـ. ("الجواب الكافي" /ص 273/فصل: ]في عشق الصور/[مكتبة العلوم والحكم).
الباب السابع عشر: إن التلون ليس طريقة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم
إن أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم صرحوا في دعوتهم وتخطئتهم أمتهم أمامهم، ولم يتلونوا ولم يكتموا عقيدتهم الصحيحة المخالفة لعقائدهم.
قال تعالى في قصة نوح عليه السلام: ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُون[ [الأعراف/59-62].
وقال تعالى في قصة هود عليه السلام: ]وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ [هود/50، 51].
وقال تعالى في قصة صالح عليه السلام: ]أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ[ [الشعراء/146-152].
وقال تعالى عنه: ]قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ[ [هود/63].
وقال تعالى في قصة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِين * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ[ [الأنبياء/58-68].
وقال تعالى عن لوط عليه السلام: ]وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا الله وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ[ [هود/78].
وقال تعالى عنه: ]قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [ [الشعراء/167، 168].
وقال تعالى عن شعيب خطيب الأنبياء عليه السلام: ]قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[ [هود/91، 92].
وقال جل ذكره عنه: ]قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[ [الأعراف/88، 89].
وقال تعالى في قصة كليمه موسى عليه السلام: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[ [الإسراء/101، 102].
ولم تخرج هذه الأقوال القوية أمام قومهم إلا عن صدق وشجاعة ويقين وتوكل على الله عز وجل. وليس هذا السرد حصراً.
وهذا نبي الله الخليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يتلون أمام ملأ العرب.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما – قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى: «يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ» . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ». قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ: «فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ]تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ[. (أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن/باب لا تخزني يوم يبعثون/4770/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين/208/دار ابن الجوزي)).
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم كلاما قويا على أبي جهل لعنة الله عليه.
قال الإمام النسائي رحمه الله: أخبرني إبراهيم بن يعقوب نا أبو النعمان نا أبو عوانة وأنا أبو داود نا محمد بن سليمان نا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس –عن- ]أولى لك فأولى[ ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزله الله عز وجل. ("السنن الكبرى" /كتاب التفسير/سورة القيامة/رقم (11574)/ط. الرسالة)، وسنده صحيح، وقد قال الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 261/دار الآثار): الحديث رجاله رجال الصحيح اهـ.
وقال الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قُلْتُ: ] أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى[ ؟ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. ("تفسير القرآن العظيم" /رقم )19069/( ط. مكتبة نزار مصطفى الباز)، والسند صحيح إلى سعيد بن جبير رحمه الله.
وقال رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ] أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى[، وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ الله أَبَا جَهْلٍ، أَخَذَهُ نَبِيُّ الله بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى " ، فَقَالَ عَدِوُ الله أَبُو جَهْلٍ: أَتَوْعِدْنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَالله لا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلا رَبُّكَ، وَإِنِّي لاعَزَّ مَنْ مَشِيَ بَيْنَ جَبَلِيهَا". ("تفسير القرآن العظيم" /رقم )19070/( ط. مكتبة نزار مصطفى الباز).
سعيد هو ابن أبي عروبة، ثقة، أثبت الناس في قتادة.
وشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، هو ابن عبدالرحمن بن عبدالله بن راشد الدمشقي. روى عن سعيد بن أبي عروبة، ووثقه أحمد، وأبو داود وابن معين وغيرهم. قال ابن حبان كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة (44) قبل أن يختلط بسنة اهـ.
قلت –وفقني الله-: ومعنى قوله: سنة (44) قبل أن يختلط بسنة، أي: أربع وأربعين ومائة. وأصرح من هذا ما قاله هشام بن عمار عن شعيب: سمعت من سعيد سنة (144). (انظر "تهذيب التهذيب" – ج2/ ص34 و171/مؤسسة الرسالة)
وأما هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ هو أبو مرزان الأزرق القرشي الدمشقي، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم رحمهما الله: سمعت أبى يقول: هشام بن خالد صدوق . ("الجرح والتعديل" - ج 9 / ص 57)، وقال الذهبي رحمه الله: من ثقات الدماشقة. ("ميزان الاعتدال" – رقم 9222 / دار المعرفة).
فمن مراسيل سعيد بن جبير وقتادة رحمهما الله، استفدنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله لأبي جهل، وهذا هو ترجيح المفسرين رحمهم الله.
ولم يتلون صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته إلى هرقل أعظم ملوك الأرض يومئذ.
قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَه: -فذكر القصة بطولها إلى قوله:- بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ (كتاب بدء الوحي/باب-6/رقم (7) /دار الكتب العلمية) ومسلم (كتب الجهاد/باب ... إلى هرقل/1773/دار ابن الجوزي)).
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ»، ولم يبدأ باسم هرقل،
وقوله: «إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، ولم يقل: (ملك الروم)،
وقوله: «سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى»، ولم يقل: (سلام عليكم)،
وقوله: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»،
وقوله: «فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ».
وقراءته الآية التي فيها: ]أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله[، فيها هدم جميع العبودية لغير الله تعالى، وإنزال العباد –منهم الأحبار والرهبان- منازلهم،
وقراءته قوله تعالى: ]فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[،
هذا كله يدل دلالة واضحة على عدم تلوّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مجاملة، ولا مداهنة، ولا تنازلات في مواجهة أعظم ملوك الأرض الكفار يومئذ.
وكذلك نهي نبينا الخليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته عن التلون في الدين، وذمه إياه، كل ذلك يدل على أن التلون في الدين ليس من الإسلام. فعلينا اتباع هذا الدين المضيء اتباعا كليا ما استطعنا ولا نتبع نزغات الشيطان. قالى تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ [البقرة/208، 209].
وقال جل ذكره: ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[ [الجاثية/18].
* الحديث المرفوع: «إياكم والتلون في الدين» لم يثبت
هناك حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما عن الإمام الطبراني رحمه الله قال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بن سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بن مُوسَى، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَبْدِ الله بن عَمْرٍو: «كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ مُزِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَصَارُوا هَكَذَا؟» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «اعْمَلْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِين». ("المعجم الكبير" /رقم 5851 /دار الكتب العلمية).
هذا الحديث لا يصح من أجل ضعف سويد بن سعيد الحدثاني().
* عدم تلوّن أصحاب الكهف
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف/13-15]
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار يقال له: دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبّت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه ]فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض[ ("فتح القدير" - ج3 / ص 379/دار الوفاء)
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى : ]وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ[، أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام. ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعلى يقوي قلبه ، ويثبته على تحمل الشدائد ، والصبر الجميل اهـ. ("أضواء البيان" – ص713 / دار الكتب العلمية)
* ثبات سحرة فرعون على الحق بعد العلم
قال الله تعالى: ]فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[ [طه/70-73].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و ]قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ[ أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين. ]وَالَّذِي فَطَرَنَا[ يحتمل أن يكون قسمًا، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات. يعنون: لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت. ]فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ[ أي: فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك، ]إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[ أي: إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار . ]إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا[ أي: ما كان منا من الآثام، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" - ص1864/ دار ابن الهيثم).
ولولا أن الله تعالى قد حبب إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم فذاقوا حلاوته، لما ثبتوا في هذا الظرف العصيب.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل النفوس وقالوا لفرعون: (اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ!) ومتى تمكنت المحبة في القلب لم ينبعث الجوارح إلا إلى طاعة الربّ ... إلخ ("كلمة التوحيد"/ص34/ط. المكتب الإسلامي)
الباب الثامن عشر: أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلوّنوا
إن أهل السنة والجماعة السلفيين أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صرحوا بالحق وصدعوا به ولم يتلونوا في دينهم. فمن نماذج ذلك:
1- إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يتلون
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِى حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله . فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله». فَقَالَ: وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه -: فَوَالله مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ الله صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ . (أخرجه البخاري (كتاب الزكاة/باب وجوب الزكاة/1399-1400/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب الأمر بقتال الناس/20/دار ابن الجوزي)).
الشاهد هنا: أن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -رضي الله عنهم أجمعين- ثبتوا على الحق ولم يتلوّنوا في ذلك الموطن العصيب –موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- حين ارتدّ كثير من العرب. ثم إن أبا بكر رضي الله عنه عزم على أخذ الزكاة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يغيّره وإن لم يكن سبيل إلا القتال. وأما الصحابة الآخرون رضي الله عنهم، ما نقول إنهم يتلوّنون، بل نقول إنهم وقفوا على حسب علمهم وشدة ورعهم، فلما تبين لهم الحق اتبعوه بلا توانٍ.
2- عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتلون
قال الإمام البخارى رحمه الله: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِىُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ ذَكَرَ لِى ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِى أَهْلِى حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ ، إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَأْتِينِى فَقَالَ أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ يَا مَالِ ، إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ . فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِى . قَالَ اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ . فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ . فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا ، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ . فَأَذِنَ لَهُمَا ، فَدَخَلاَ فَسَلَّمَا فَجَلَسَا ، فَقَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا . وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَنِى النَّضِيرِ . فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ . قَالَ عُمَرُ تَيْدَكُمْ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَهُ . قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ . فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ . قَالَ عُمَرُ فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِى هَذَا الْفَىْءِ بِشَىْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ - ثُمَّ قَرَأَ ]وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ[ إِلَى قَوْلِهِ ]قَدِيرٌ[ - فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ ، وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهُ ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ حَيَاتَهُ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ . ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى ، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ جِئْتُمَانِى تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ ، جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ، وَجَاءَنِى هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا ، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » . فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا ، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا . فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا ، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ . قَالَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، لاَ أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ ، فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا. (أخرجه البخاري /كتاب فرض الخمس/باب فرض الخمس /(3094) /دار الكتب العلمية، ومسلم/كتاب الجهاد والسير/باب حكم الفيء/ (1757)/دار طيبة).
قال المصنف وفقه الله: ثبات أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الحديث ظاهر. وأما عباس وعلي –فاظمة أيضا- رضي الله عنهم معذورون في طلبهم ميراثهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمسكاً بظواهر أدلة الميراث. والحق مع الشيخين رضي الله عنهما لأن التخصيص حاصل، والله أعلم.
3- عثمان بن عفان رضى الله عنه ثبت على الوصية ولم يتلون.
قال الإمام ابن ماجه رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ وَعَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِى مَرَضِهِ «وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِى بَعْضَ أَصْحَابِى». قُلْنَا يَا رَسُولَ الله أَلاَ نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ فَسَكَتَ قُلْنَا أَلاَ نَدْعُو لَكَ عُمَرَ فَسَكَتَ قُلْنَا أَلاَ نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ قَالَ «نَعَمْ». فَجَاءَ عُثْمَانُ فَخَلاَ بِهِ فَجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُهُ وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ. قَالَ قَيْسٌ فَحَدَّثَنِى أَبُو سَهْلَةَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّارِ إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَىَّ عَهْدًا وَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَلِىٌّ فِى حَدِيثِهِ وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ. قَالَ قَيْسٌ فَكَانُوا يُرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. ("سنن ابن ماجه" -كتاب السنة/فضل عثمان/رقم 113/دار الفكر).
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1588) /الطبعة الجديدة /دار الآثار).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو المغيرة قال ثنا الوليد بن سليمان قال حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الأُخْرَى فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلاَمٍ كَلَّمَهُ أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ وَقَالَ « يَا عُثْمَانُ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصاً فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِى يَا عُثْمَانُ إِنَّ الله عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصاً فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِى ». ثَلاَثاً فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ قَالَتْ نَسِيتُهُ وَالله فَمَا ذَكَرْتُهُ. قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِى أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنِ اكْتُبِى إِلَىَّ بِهِ فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَاباً. ("مسند أحمد" - (24610)/ط. الرسالة)
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1589)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
4- علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يتلون
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رضى الله عنهما - وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا . فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ، أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ أَحَدٍ. (أخرجه البخاري/كتاب الحج/باب التمتع والإقران/1563/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا محمد بن المثننى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك أهلّ بهما جميعا. (أخرجه مسلم /كتاب الحج/باب جواز التمتع/1223/دار ابن الجوزي).
5- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صدع بالحق ولم يتلون.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن قيس عن عياض بن عبدالله بن سعد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول تصدقوا تصدقوا تصدقوا وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف.
فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرّني نحو المنبر، وأنا أجرّه نحو الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الإبتداء بالصلاة ؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم -ثلاث مرار- ثم انصرف. (أخرجه مسلم (كتاب صلاة العيدين/889/دار ابن الجوزي)).
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ثنا يزيد بن هارون أنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن رجل عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لا يمنعن أحدكم مخافة الناس ان يقول بالحق إذا شهده أو علمه».
قال شعبة: فحدثت هذا الحديث قتادة فقال: ما هذا عمرو بن مرة عن أبي البختري عن رجل عن أبي سعيد؟ حدثني أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بالحق إذا شهده أو علمه». قال أبو سعيد: فحملني على ذلك أني ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت.
قال شعبة: حدثني هذا الحديث أربعة نفر عن أبي نضرة قتادة وأبو سلمة الجريري ورجل آخر. (أخرجه أحمد (11793) /ط. الرسالة).
السند الأول ضعيف للإبهام، والثاني صحيح بلا شك. وصححه الإمام الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (1/ص 323/تحت رقم168/مكتبة المعارف)، وأصل الحديث صححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم(414)/دار الآثار).
6- جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم لم يتلونوا
قال الإمام مسند أحمد بن حنبل رحمه الله: ثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم: أنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله أيم الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائن في ذلك ما هو كائن فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء. قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدراً من ]كهيعص[ قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدا عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم فقال له جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله. اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون-، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم. فما أحب أنّ لي دبراً ذهباً وإني آذيت رجلا منكم. -والدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى من ينازعه في ملكه. (أخرجه الإمام أحمد (22498)/ط. الرسالة، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (1651)/دار الآثار)
7- عدم تلون النجاشي رحمه الله
وهذا يعرف من الحديث السابق. وتكملة الخبر قالت أم سلمة رضي الله عنها: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى من ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم: مَن رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سنّاً قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بمكة.
8- الإمام ابن شهاب الزهري لم يتلون
قال الإمام الذهبي رحمه الله: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن الزهري لكونه كان مداخلاً للخلفاء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة. وأين مثل الزهري رحمه الله؟ -ثم ذكر رحمه الله أثراً من:- سلام بن أبي مطيع، عن أيوب السختياني، قال: لو كنت كاتباً عن أحد لكتبت عن ابن شهاب، قلت: قد أخذ عنه أيوب قليلاً.
-ثم ذكر رحمه الله أثراً من:- يعقوب السدوسي: حدثني الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبدالملك، فقال: (يا سليمان، من الذي تولى كبره منهم؟) قال: (عبد الله بن أبي ابن سلول)، قال: (كذبت، هو علي)، فدخل ابن شهاب، فسأله هشام، فقال: (هو عبد الله بن أبي)، قال: (كذبت، هو علي)، فقال: (أنا أكذب؟! لا أبا لك، فوالله لو نادى مناد من السماء، إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص، عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي)، قال: فلم يزل القوم يغرون به، فقال له هشام: (ارحل فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل على مثلك)، قال: (ولم؟ أنا اغتصبتك على نفسي، أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخل عني)، فقال له: (لا. ولكنك استدنت ألفي ألف)، فقال –يعني الزهري-: (قد علمت، وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك)، فقال هشام: (إنا أن نهيج الشيخ). فأمر فقضى عنه ألف ألف فأخبر بذلك، فقال: (الحمد لله الذي هذا هو من عنده). اهـ ("سير أعلام النبلاء"/5/ص339-340/ترجمة الزهري/الرسالة).
هكذا في "السير": (إنا أن نهيج الشيخ). وأما الذي في "تاريخ دمشق" (ج55/ص 370/ترجمة الزهري/دار الفكر) فإنه بلفظ: (إنا إن نهيج الشيخ يهيج الشيخ)، وهذا متجه()، والله أعلم.
9- الإمام ابن أبي ذئب رحمه الله لم يتلون
قال الإمام الذهبي رحمه الله: قال البغوي: حدثنا هارون بن سفيان قال: قال أبو نعيم: حججت عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، فدعا ابن أبي ذئب، فأقعده معه على دار الندوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد بن حسن - يعني أمير المدينة - ؟ فقال: إنه ليتحرّى العدل. فقال له: ما تقول فيَّ - مرتين - ؟ فقال: ورب هذه البنية إنك لجائر. قال: فأخذ الربيع الحاجب بلحيته، فقال له أبو جعفر: كف يا ابن اللخناء، ثم أمر لابن أبي ذئب بثلاث مئة دينار. ("سير أعلام النبلاء"/7 /ص 144/ترجمة ابن أبي الذئب/الرسالة).
10- الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم يتلون
قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: قال أبي: كان يوجّه إليّ كلّ يوم برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا قاما دعي بقيد، فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد. فلما كان في اليوم الثالث، دخل علي فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق. قلت: كفرت بالله، فقال الرسول الذي كان يحضر من قِبَل إسحاق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين. فقلت: إن هذا قد كفر. إلخ.
ذكرها صالح بن أحمد رحمهما الله في "سيرة الإمام أحمد" (ص51/ط. دار السلف). وذكرها أيضا الإمام المقدسي رحمه الله في كتابه "محنة الإمام أحمد بن حنبل" (ص52/مكتبة الهدي المحمدي)، والإمام الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" (ج 11 / ص 243/ترجمة الإمام أحمد/الرسالة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض الى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية بل قد أظهر من سنة رسول الله وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين ولهذا قال بعض شيوخ الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التى لا قدر لها اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 12 / ص 439/إحالة/دار الوفاء).
11- الإمام ابن الحطيئة رحمه الله لم يتلون
هو الإمام العلامة القدوة، شيخ الاسلام، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام اللخمي المغربي الفاسي المقرئ الناسخ ابن الحطيئة. مولده بفاس سنة ثمان وسبعين وأربع مئة.
قال الإمام السِلفي رحمه الله: كان ابن الحطيئة رأسا في القراءات، وقرأت بخط أبي الطاهر بن الأنماطي قال: سمعت شيخنا شجاعاً المدلجي وكان من خيار عباد الله يقول: كان شيخنا ابن الحطيئة شديداً في دين الله، فظّاً غليظاً على أعداء الله، لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة() مع عظم سلطانه ونفوذ أمره، فما يحتشمه، ولا يكرمه، ويقول: أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض، خالفوا الكتاب والسنة، وكفروا بالله، وكنت عنده يوما في مسجده بشرف مصر وقد حضره بعض وزراء المصريين أظنه ابن عباس، فاستسقى في مجلسه، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة، فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده، وصرخ صرخة ملات المسجد، وقال: واحرها على كبدي، أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آنية الفضة ؟ ! لا والله لا تفعل، وطرد الغلام، فخرج، وطلب الشيخ كوزا، فجئ بكوز قد تثلم، فشرب، واستحيى من الشيخ، فرأيته والله كما قال الله: ﴿يتجرعه ولا يكاد يسيغه﴾ [إبراهيم: 17].
وذكرنا في " طبقات القراء " أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس، فاشترط عليهم شروطا صعبة، منها أنه لا يقضي بمذهبهم - يعني الرفض -، فلم يجيبوا إلا أن يقضي على مذهب الإمامية. ("سير أعلام النبلاء" - ج 20 / ص 344-347/ط. الرسالة).
12- شيخ الاسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله أيضاً لم يتلون
قال ابن طاهر رحمه الله: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان ألب أرسلان هراة في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه وقالوا: ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم صنما من نحاس صغيرا وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ وخرجوا وقام إلى خلوته ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري وأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنما يزعم ان الله على صورته وإن بعث الآن السلطان يجده فعظم ذلك على السلطان وبعث غلاما ومعه جماعة فدخلوا الدار وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم ورجع الغلام بالصنم فبعث السلطان من أحضر الانصاري فأتى فرأى الصنم والعلماء والسلطان قد اشتد غضبه، فقال السلطان له: ما هذا ؟ قال: هذا صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة، قال: لست عن ذا أسألك ؟ قال: فعم يسألني السلطان قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول أن الله على صورته، فقال الأنصاري بصولة وصوت جهورى: سبحانك هذا بهتان عظيم. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه فأمر به فأخرج إلى داره مكرما، وقال لهم: اصدقوني. وهددهم فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة فأردنا أن نقطع شره عنا، فأمر بهم ووكل بكل واحد منهم وصادرهم وأهانهم. ("تذكرة الحفاظ"/3/ص1187-1189/ترجمة الهروي/دار الكتب العلمية).
13- شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يتلون
ذكر الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله قصة رائعة لشيخ الإسلام رحمه الله: ... ثم إن الوزير أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للديوان في كل سنة سبعمائة ألف درهم زيادة على الجالية على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة وأن يعفوا من هذه العمائم المصبغة كلها بهذه الألوان التي ألزمهم بها ركن الدين الشاشنكير. فقال السلطان للقضاة ومن هناك ما تقولون؟ فسكت الناس. فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا جثا على ركبتيه، وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ويرد ما عرضه الوزير عنهم ردا عنيفا، والسلطان يسكّته بترفقٍ وتؤدةٍ وتوقير. فبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، حتى رجع السلطان عن ذلك وألزمهم بما هم عليه واستمروا على هذه الصفة.
فهذه من حسنات الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ...إلخ ("الانتصار" وسمي أيضاً "العقود الدرية" - ص 297/ط. مجلس السيرة والسنة بالقاهرة).
14- الإمام الوادعي رحمه الله لم يتلون
قال رحمه الله في نصيحته للرئيس وغيره: ... المهم أن ننصح الرئيس ألاّ يمكنهم –يعني الإخوان المسلمين- من أهل السنة، ما لهم ولأهل السنة، أهل السنة ما يتلونون نحن نقول اليوم وغدًا وبعد غد: الانتخابات طاغوتية محرمة. نحن ما نطالب الرئيس بأن يتنازل لنا ما نطالبه، بل نحن نقول له: أيها الرئيس نطالبك بالاستقامة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وإلا فكم نبح عبدالله صعتر يقولون له: يا شيخ الذي لا يدخل في الانتخابات وينتخب حزب الإصلاح؟ قال: مثله كمثل الذي لا يصلي. وآخر يقول: يا شيخ الذي ما يدخل في الانتخابات وينتخب حزب الإصلاح؟ قال: مثله كمثل القواعد أي النسوة القواعد اللاتي قد أصبحن عجائز ، وهكذا وصفنا بأننا عملاء للاشتراكيين، وأننا عملاء للصهاينة، وأننا عملاء لأمريكا. والحمد لله الناس يعرفون من هو المتلون ومن هو العميل والفضل في هذا لله سبحانه وتعالى. فإياك إياك أيها الرئيس أن تمكن هؤلاء المهوسين.
والحزبية إذا فرضت عليهم أن ينقلبوا سينقلبون اليوم أو غدًا أو بعد غد. بالأمس يقولون: علي عبدالله صالح علماني كافر. وبالأمس يقولون لنا في الانتخابات التي حصلت بعد الوحدة: إذا فزنا ولم يسلمها علي عبدالله صالح سنقاتله، سنقاتله. وصعتر يقول: إذا لم يثبتوا في الدستور (المصدر للتشريع هو القرآن) -أو بهذا المعنى فكل واحد يأخذ بندقيته وعلى رأس جبل. والحكومة تعرفهم تقول: هي ناقة ولو هدرت. الناقة تهدر ثم بعد ذلك تقرّب ويعطون كرسيًا، ويعطون سيارات أو كذا وانتهى الأمر، أو يقلب عينيه فيهم وما تدري وهو خارجون: لا، والله الجو مكهرب.
فننصح الإخوة أهل السنة سواء أكنت مدرسًا أم كنت مدير مدرسة أم كنت إمام مسجد أو غير ذلك ننصحك ألاّ تشارك في الانتخابات وإلا فسنيتك مزعزعة، تتركها لله لا لئلا يعيرك إخوانك، ولكن تتركها لله سبحانه وتعالى. اهـ ("تحفة المجيب" /ص400-402/رسالة إلى أهل عبس/دار الآثار).
فالأمثلة كثيرة، وإنما الذي سبق نبذة يسيرة.
فالتلون ليس من سيما المؤمنين، بل هم يُنهون عنه .
قال تعالى تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[ [الأحزاب/70، 71].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة مَنْ كأنه يراه، وأن يقولوا ]قَوْلا سَدِيدًا[ أي: مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها. ("تفسير القرآن العظيم" ج 6 / ص 487/دار طيبة).
وقال تعالى: ]فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[ [القلم/8، 9].
قال الإمام البغوي رحمه الله: يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم.]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[ قال: الضحاك لو تكفر فيكفرون. قال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. قال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. قال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة. اهـ ("معالم التنزيل" – ص1336-1337/ط. ابن حزم).
وقال العلامة السعدي رحمه الله: يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ]فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[ الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلا لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: ]وَدُّوا[ أي: المشركون ]لَوْ تُدْهِنُ[ أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ]فَيُدْهِنُونَ[ ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. اهـ ("تيسير الكريم الرحمن" /ص 841/دار ابن حزم).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله في شرحه على حديث ذي الوجهين: قوله ((نفاقا)) لأنه إبطان أمر وإظهار أمر آخر، ولا يراد به أنه كفر بل إنه كالكفر، ولا ينبغي لمؤمن أن يثني على سلطان أو غيره في وجهه وهو عنده مستحق للذم، ولا يقول بحضرته خلاف ما يقوله إذا خرج من عنده لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر. وقال فيه: ((شر الناس ذو الوجهين)) الحديث، لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم ويريد أنه منهم، وهذه المذاهب محرمة على المؤمنين اهـ. ("عمدة القاري" /كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/ج 25/ص 255/دار الفكر)
قال الإمام ابن بطال رحمه الله في شرح حديث أَبُي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال النَّبِى - صلى الله عليه وسلم-: «تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الله ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ»: يريد أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه هى المداهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن هذا دأبه فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو كان مع إحدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى باسم الطائفة المنفرد بصحبتها.
وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: «ذو الوجهين لايكون عند الله وجيهًا» وروى أنس عن النبى عليه السلام أنه قال: «من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة» فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله - تعالى. اهـ ("شرح ابن بطال" – كتاب الآداب/باب ذي الوجهين/9/ص251-252/مكتبة الرشد).
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: والواجب على الإنسان أن يكون صريحاً، لا يقول إلا ما في قلبه، فإن كان خيرا حُمد عليه، وإن كان سوى ذلك وُجِّه إلى الخير، أما كونه يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، سواء كان فيما يتعلق بعبادته يظهر أنه عابد مؤمن تقي وهو بالعكس، أو فيما يتعلق بمعاملته مع الشخص يظهر أنه ناصح له ويثني عليه ويمدحه، ثم إذا غاب عنه عقره، فهذا لا يجوز. ("شرح رياض الصالحين"، تحت رقم 1540-1541/دار السلام).
وقال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى: فالدعوة عندنا أعزّ من أنفسنا، ومن أهلينا وأموالنا، ومستعدون أن نأكل ولو التراب ولا نخون ديننا وبلدنا ولا نتلون، التلون ليس من شيمة أهل السنة. اهـ )"الباعث على شرح الحوادث" ص 57/مكتبة صنعاء الأثرية).
ولما كان التلون يصاحب التزلف، أحبّ أن أذكر هذه الفائدة: قال شيخنا الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: المتزلّفون للحكومة لا ينصحونهم. وأما أهل السنة نصحوا الحكومة اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ)
* أثر الإمام الأوزاعي رحمه الله
وهناك أثر جميل أخرجه الإمام ابن بطة رحمه الله فقال: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد القصباني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هارون، قال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: حدثنا زياد بن أيوب الطوسي، قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، قال: قيل للأوزاعي: إن رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة، وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل().
قال الشيخ –يعني: الإمام ابن بطة رحمه الله-: صدق الأوزاعي، أقول: إن هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ]وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم[ ("الإبانة الكبرى" – رقم 435 / باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
لاحظ قول الإمام ابن بطة رحمه الله بأن من يجالس أهل السنة، وكذلك يجالس أهل البدع، فإنه لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ]وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم[.
قلت –عفى الله عني-: إنا قد رأينا هذا الصنف بأبصارنا، وسمعنا تفوّههم بأسماعنا. إذا كانوا حولنا أو بين أيدي شيخنا الكريم -حفظه الله- قالوا: (نحن على ما قاله الشيخ) وتكلموا في المبطلين بشدة، فلما خلوا إلى أصحاب المرض والعناد قالوا: (إنا معكم، إن هؤلاء متشددون)، أو نحو ذلك.
الباب التاسع عشر: أفضل الجهاد
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر». (أخرجه أحمد بن حنبل في "المسند" رقم 18828/ط. الرسالة)،
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (518/(الطبعة الجديدة /دار الآثار).
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم رحمه الله: إِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَل الْجِهَاد لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوّ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْن رَجَاء وَخَوْف لَا يَدْرِي هَلْ يَغْلِب أَوْ يُغْلَب وَصَاحِب السُّلْطَان مَقْهُور فِي يَده ، فَهُوَ إِذَا قَالَ الْحَقّ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ وَأَهْدَفَ نَفْسه لِلْهَلَاكِ فَصَارَ ذَلِكَ أَفْضَل أَنْوَاع الْجِهَاد مِنْ أَجْل غَلَبَة الْخَوْف قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره. اهـ ("عون المعبود" – كتاب الفتن والملاحم/ باب الأمر والنهي /تحت رقم 4336/ دار الحديث).
ولعظم هذا البلاء –وغير ذلك- كره السلف الصالح رضي الله عنهم الدخول على السلطان إلا بنية صالحة مع القوة على النصح وإنكار المنكر.
وقد قال تعالى: ]وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ [البقرة/195]،
وقال تعالى: ]وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[ [النساء/29].
قال الإمام البخارى رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ الله وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الله بْنُ أَبِى أَوْفَى - رضى الله عنهما - فَقَرَأْتُهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ. ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ». (أخرجه البخاري (كتاب الجهاد/باب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقاتل .../2965-2966/دار الكتب العلمية)، ومسلم (كتاب الجهاد/باب كراهية تمني لقاء العدو/1742/دار ابن الجوزي)).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». ("صحيح البخارى" - (كتاب الإيمان/باب من الدين الفرار من الفتن/رقم19/دار الكتب العلمية))
وقال الإمام النووي رحمه الله: والسلامة لا يعدلها شيءٌ. ("رياض الصالحين" / ص 371/باب تحريم الغيبة/مكتبة خالد بن الوليد).
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله: الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملا، فهو صديق. ومن ضعف، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب. ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله.اهـ ("سير أعلام النبلاء" ج 11 / ص 234/ترجمة الإمام أحمد/الرسالة).
* حديث «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه»
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» قيل وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(). ("المسند" /(23491)/ط. مؤسسة الرسالة)
وأما من تعمّد الدخول على السلاطين فأثنى عليهم، ونصرهم على باطلهم فقد أهلك نفسه.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا هداب بن خالد الأزدي حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا». (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب وجوب الإنكار .../1854/دار ابن الجوزي)).
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن خثيم عن عبد الرحمن بن ثابت عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: «أمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردوا على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردوا على حوضي، يا كعب بن عجرة الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة والصلاة قربان -أو قال:- برهان، يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به، يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها». ("مسند أحمد بن حنبل" (14441/ط. الرسالة) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (245/ الطبعة الجديدة /دار الآثار) من أجل ابن خثيم -وهو عبد الله-، حسن الحديث).
الباب العشرون: احذروا من اندساس الأعداء
إن اندساس الأعداء ضرره عظيم، وخطره جسيم، فلا بد من التفطن، والانتباه، وتكرار التنبيه، وزيادة الإنذار.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه، فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله، فأطلق قيده، ثم أناخ، وقعد عليه، فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتدّ فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل، فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض، اخترطت سيفي، فضربت رأس الرجل، فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال: «من قتل الرجل؟» قال: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع». (أخرجه مسلم (كتاب الجهاد/باب استحقاق القاتل سلب القتيل/1754) وأصله عند البخاري (كتاب الجهاد/باب الحربي إذا دخل دار الإسلام/3051) /دار الكتب العلمية).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ... الْجَاسُوس الْمَذْكُور أَوْهَمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَهُ أَمَان ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَته مِنْ التَّجسِيسِ اِنْطَلَقَ مُسْرِعًا فَفَطِنَ لَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ حَرْبِيّ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ اهـ ("فتح الباري" - ج 6 / ص 216/مكتبة الصفا)
قلت –وفقني الله-: هذا الحديث دليل على قضية الجاسوس. وهو أيضاً صالح للاستدلال على أن عامة المندسّين لا يستطيعون الدخول في أوساط المسلمين إلا من طريق التلون، والتستر، والتقية، ونحو ذلك.
وكذلك المندسّون في أوساط أهل السنة وعلمائهم، لا يطيقون إلا من طريق التلون، والتستر، والتقية ونحو ذلك. فبهذه الطرق غرّوا على المجتمع –بل بعض العلماء- فيحسبونهم من أهل السنة وهم عقارب!
قال الإمام البربهاري رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون . ("طبقات الحنابلة"/2/ ص 44/ترجمة الإمام حسن بن علي البربهاري/دار المعرفة).
وقد قال فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي - حفظه الله- : .. أن أهل البدع بأصنافهم كانوا ينحازون ويتميزون عن أهل السنة فيخف شرهم وضررهم نسبيا، أما في هذا العصر فقد استطاع أهل البدع بكيدهم ومكرهم ودهائهم أن يتخللوا صفوف أهل السنة بل ويندمجوا في أوساطهم مما كان له الآثار السيئة الكبيرة ولا سيما في شباب الأمة ومثقفيهم، ولا سيما في الجامعات والجوامع بل والبيوت بل والأسواق. (مقدمة الشيخ على "إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء" ص5/مكتبة الأصالة الأثرية).
والمندسون هم من أخطر أنصار أعداء الإسلام. قال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: فهبّ أعداء الإسلام من يهود، وماسونيين، ومستشرقين، ومستعمرين، لإيقاظ هذه الفتنة من سباتها، أو نبشها من قبورها المندثرة، ثم بثّها في الشرق، والغرب، وفي صفوف أبناء الأمة الإسلامية خصوصاً المثقفين والجامعيين، وانضم إلى صفوف هؤلاء الأعداء سفهاء وأغبياء من أبناء جلدتنا، ومن يتكلم بلغتنا، فكان هجومهم على السنة أشد وأعنف، وكانوا أشد خطراً على الإسلام من أعداء الإسلام المكشوفين الواضحين.
ولكن الله الذي تعهـد بحفظ دينـه ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (الحجر:9). لهؤلاء جميعاً -من أعداء الإسلام الواضحين، وأعداء السنن المندسين في صفوف الإسلام، واللاهثـين وراءهم- بالمرصاد اهـ. ("حجية خبر الآحاد" ص9/مقدمة /الدار الأثرية)
وقال فضيلة الشيخ حفظه الله في شأن حزب الحدادية: إنما هذه فئة مدسوسة على المنهج السلفي لتشويهه وإسقاط علمائه. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي /ص173/دار الإمام أحمد).
وقال فيهم في ص180: ولا يعترفون إلا بشخص واحد - تقريباً - وهو الشيخ صالح الفوزان فقط، ليندسوا ورائه وليطعنوا في أهل السنة جميعا. وهم والله بدأوا بالشيخ صالح الفوزان ـ ورب السماء ـ وأدين الله بأنهم يبغضونه ويحتقرونه. اهـ
وقال فضيلة شيخنا المتفرّس الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري - حفظه الله-: والحزبيون الآن عندهم زحف على مشايخ السنة، يعني من حيث المجالسة والحضور والاحتفاء والالتفاف. (ملزمة "زجر العاوي" ص12 لأبي حمزة العمودي).
ومن هذا الباب أيضا شدة اندساس الحزبيين في الجامعة الإسلامية بالمدينة. قال شيخنا المحدث المجاهد أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: وهذا رسالة أخينا الشيخ الفاضل محمد بن هادي المدخلي أحد المدرسين في الجامعة الإسلامية مع أخينا الشيخ حسن بن قاسم الريمي -حفظهما الله- إلى شيخنا مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- قال الأخ حسن في رسالته التي ناقش فيها جملة من كلام الشيخ عبيد عن الجامعة الإسلامية، وأثبت بصفته أحد المتخرجين منها أن الأغلبية والسيطرة في الجامعة الإسلامية للحزبيين، وهذا ما نقله عن فضيلة الشيخ محمد بن هادي أنه قال له: أخْبر الشيخ مقبلا بأن الجامعة الإسلامية ليست بأيدي السلفيين. ("التوضيح" ص7 لشيخنا يحيى الحجوري حفظه الله).
ولا تنس أن كينونة أبي الحسن الندوي الجشتي الصوفي عضوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة تعتبر اندساسا! قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: ومن كبار مشايخ التبليغيين أبو الحسن الندوي، وقد ترجم له محمد أسلم في ص22-26 من كتابه المسمى "جماعة التبليغ عقيدتها وأفكار مشايخها"، وذكر أنه من خلفاء ورفقاء وتلامذة الشيخ محمد إلياس مؤسس جماعة التبليغ. ثم ذكر: الأستاذ أبو الحسن علي الندوي الجشتي الصوفي، وهو من كبار علماء جماعة التبليغ، ومدير دار العلوم الندوة العلماء لكهنو – الهند، وعضو لرابطة العالم الإسلامي، وعضو لمجلس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. اهـ النقل ("القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ" ص137/دار الصميعي).
وقد قال الشيخ سيف الرحمن بن أحمد أن من التشابه بين القاديانية وبين التبليغيين: وكلتا الاثتنين تفرغان جهودهما على الاختلاس والاختناس والاصطياد والتزلف إلى الحكام وأصحاب الاعتبار وذوي النفوذ، واجتذابهم إلى أنفسهم إلخ (نقله الشيح حمود رحمه الله في "القول البليغ" ص21/دار الصميعي).
وقال شيخنا العلامة أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله : الوسيلة الخامسة: محاولة دخول الحزبيين في أوساط السلفيين، وفي معاقلهم، وتفكيكهم، ألا تلاحظون حفظكم الله ما صنعوا في السعودية؟، فإنهم لما رأوا دعوة التوحيد والسنة سائدة في تلك الدولة، حاول الحزبيون من أصحاب أفكار حسن البناء، وسيد قطب، أن يدخلوا في جامعاتهم، وأن يدخلوا في شئون دعوتهم باسمهم؛ حتى أنشأوا من يقوم بالدور، ولما حصل هذا القيام بالدور، من أيادي قوية ممكّنة، جعلوا يزحزحون السلفيين عن كثير من الأعمال الهامة، واحداً بعد واحد. ("أضرار الحزبية" ص35/دار الآثار).
وقال شيخنا الفقيه يحيى الحجوري حفظه الله: أتباع أبي الحسن مندسون في أوساط السلفيين، فلما قام عبد الرحمن العدني بفتنته نصروه وأيّدوه (أو كما قال حفظه الله. ليلة الخميس، 22 جماد الثاني 1430 هـ).
الباب الحادي والعشرون: الحزبيون المندسون يتشبعون بما لم يعطوا
إن الحزبيين الذين يندسون في أوساط أهل السنة والجماعة ويتظاهرون أمام العلماء أنهم سلفيون فإنهم أهل الزور. لو صدقوا، وصرحوا، وخلعوا "جبة السلفية" و"عمامة السنة" لعُرفت جواهرهم الحزبية الخبيثة. ولكن هيهات أن يصدق الحزبيون ويتركوا أركانهم: الكذب، والتلبيس، والخداع. فالحزبيون يتلونون ببعض الألوان ليست على حقيقتهم، لأنهم أصحاب الزور.
قال الله تعالى: ]لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [آل عمران/188].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها لم يَزِدْه الله إلا قِلَّة»() وفي "الصحيح": «المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور»(). ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 181/دار طيبة).
وسيأتي شروح حديث المتشبع.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ ]لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ[ الآيَةَ. (أخرجه البخاري (كتاب التفسير/باب لا تحسبن الذين يفرحون.../4567/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب صفات المنافقين/ 2777/دار ابن الجوزي)).
قلت –وفقني الله-: لا بد من وجود التلون في صنيع هؤلاء المتشبعين بما لم يعطوا، والله أعلم.
وقد روي سبب آخر لهذه الآية:
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِىَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَىْءٍ ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ]وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ[ كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ ]يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا[. تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. (أخرجه البخاري (كتاب التفسير/باب لا تحسبن الذين يفرحون.../ 4568/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب صفات المنافقين/2778) /دار ابن الجوزي).
هذان الحديثان لم يتعارضا، لأن ظاهر الآية عام لكل من اتصف بأن يفرح بما أوتي وأن يحمد بما لم يفعل.
وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ولا منَافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم. ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 182/دار طيبة).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَبِهَذَا أَجَابَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره، وَحَكَى الْفَرَّاء أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْل الْيَهُود نَحْنُ أَهْل الْكِتَاب الْأُوَل وَالصَّلَاة وَالطَّاعَة، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ فَنَزَلَتْ ]وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا[. وَرَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طُرُق أُخْرَى عَنْ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ نَحْو ذَلِكَ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَلَا مَانِع أَنْ تَكُون نَزَلَتْ فِي كُلّ ذَلِكَ ، أَوْ نَزَلَتْ فِي أَشْيَاء خَاصَّة وَعُمُومهَا يَتَنَاوَل كُلّ مَنْ أَتَى بِحَسَنَةٍ فَفَرِحَ بِهَا فَرَح إِعْجَاب وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدهُ النَّاس وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَالله أَعْلَمُ. اهـ ("فتح الباري" - ج 8/ ص 94/مكتبة الصفا).
قلت –وفقني الله-: لو ثبت هذان الحديثان لسلكنا طريقة الجمع بأن الآية تعددت أسباب نزولها. ولكن عند التحقيق، حديث أبي سعيد رضي الله عنه أصح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: ولو رجح حديث أبي سعيد لكان أولى، لأن حديث ابن عباس مما انتقد على الشيخين كما في مقدمة "الفتح" ج2 ص132. وكما في "الفتح" ج9 ص302 ولا معنى لقصرها على أهل الكتاب –قلت: كما أفاده حديث ابن عباس رضي الله عنهما-. ("الصحيح المسند في أسباب النزول" /ص68/دار الآثار)
وقال رحمه الله في نفس الصفحة (68): هذا، ومما يؤيد ما قلته في الترجيح أن الحافظ رحمه الله قال في "الفتح" في أبي رافع الرسول إلى ابن عباس الذي يدور عليه: (لم أر له ذكراً في كتب الرواة إلا بما أتى في الحديث. والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى مروان فبلغه الرِّسَالَة وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَان بِالْجَوَابِ فَلَوْلَا أَنَّهُ مُعْتَمَد عِنْد مَرْوَان مَا قَنَعَ بِرِسَالَتِهِ) إلى آخر ما قال رحمه الله (في "فتح الباري" /ج 8/ ص94/مكتبة الصفا)
فعلى هذا فأبو رافع مجهول اهـ (من كلام الإمام الوادعي رحمه الله).
* معنى حديث المتشبع
قال القاضي عياض رحمه الله: وأصله كله من إظهار الشبع وهو جيعان، ... إلخ ("مشارق الأنوار على صحاح الآثار" - ج 2 / ص 409/مادة ش ب ع/دار الكتب العلمية).
قال المناوي رحمه الله: وأصل المتشبع الذي يظهر أنه شبعان وليس بشبعان، انتهى المراد ("فيض القدير" – تحت رقم 9168/دار الفكر)
وقال الإمام النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده، يَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس، وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور ... إلخ ("شرح النووي على مسلم" - ج 7 / ص 235/دار إحياء التراث)
وقال المناوي رحمه الله: ... وهو بمعنى قول بعضهم هو الذي يلبس ثياب الزهاد وباطنه مملوء بالفساد وكل منهما زور أي مخالف بالنسبة للآخر ... إلخ ("فيض القدير"- تحت رقم 9168/دار الفكر)
وقال ابن حجر رحمه الله: قَالَ –يعني أبا عبيد معمر بن المثنى رحمه الله-: قَوْله " الْمُتَشَبِّع " أَيْ الْمُتَزَيِّن بِمَا لَيْسَ عِنْده يَتَكَثَّر بِذَلِكَ وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ؛ كَالْمَرْأَةِ تَكُون عِنْد الرَّجُل وَلَهَا ضَرَّة فَتَدَّعِي مِنْ الْحَظْوَة عِنْد زَوْجهَا أَكْثَر مِمَّا عِنْده تُرِيد بِذَلِكَ غَيْظ ضَرَّتهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرِّجَال، قَالَ: وَأَمَّا قَوْله "كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور" فَإِنَّهُ الرَّجُل يَلْبِس الثِّيَاب الْمُشْبِهَة لِثِيَابِ الزُّهَّاد يُوهِم أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَظْهَر مِنْ التَّخَشُّع وَالتَّقَشُّف أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه مِنْهُ،
قَالَ: وَفِيهِ وَجْه آخَر أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالثِّيَابِ الْأَنْفَس كَقَوْلِهِمْ (فُلَان نَقِيّ الثَّوْب) إِذَا كَانَ بَرِيئًا مِنْ الدَّنَس، وَ(فُلَان دَنِسَ الثَّوْب) إِذَا كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينه،
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الثَّوْب مَثَل، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَاحِب زُور وَكَذِب، كَمَا يُقَال لِمَنْ وُصِفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْأَدْنَاس (طَاهِر الثَّوْب) وَالْمُرَاد بِهِ نَفْس الرَّجُل،
وَقَالَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير: الْمُرَاد بِهِ أَنَّ شَاهِد الزُّور قَدْ يَسْتَعِير ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّل بِهِمَا لِيُوهِم أَنَّهُ مَقْبُول الشَّهَادَة اهـ. وَهَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ نُعَيْم بْن حَمَّاد قَالَ: كَانَ يَكُون فِي الْحَيّ الرَّجُل لَهُ هَيْئَة وَشَارَة، فَإِذَا اُحْتِيجَ إِلَى شَهَادَة زُور لَبِسَ ثَوْبَيْهِ وَأَقْبَلَ، فَشَهِدَ، فَقُبِلَ لِنُبْلِ هَيْئَته وَحسْن ثَوْبَيْهِ، فَيُقَال: (أَمْضَاهَا بِثَوْبَيْهِ) يَعْنِي الشَّهَادَة، فَأُضِيفَ الزُّور إِلَيْهِمَا، فَقِيلَ: (كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور). ("فتح الباري" - ج 9/ ص 261/مكتبة الصفا).
لماذا يعبر بالثوبين لا بالثوب الواحد؟
قال الحافظ رحمه الله: وَأَمَّا حُكْم التَّثْنِيَة فِي قَوْله "ثَوْبَيْ زُور" فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كَذِب الْمُتَحَلِّي مَثْنَى، لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى نَفْسه بِمَا لَمْ يَأْخُذ، وَعَلَى غَيْره بِمَا لَمْ يُعْطِ، وَكَذَلِكَ شَاهِد الزُّور يَظْلِم نَفْسه وَيَظْلِم الْمَشْهُود عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي التَّثْنِيَة إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ كَالَّذِي قَالَ الزُّور مَرَّتَيْنِ مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنَّ بَعْضهمْ كَانَ يَجْعَل فِي الْكُمّ كُمًّا آخَر يُوهِم أَنَّ الثَّوْب ثَوْبَانِ، قَالَهُ اِبْن الْمُنَيِّر . قُلْت: وَنَحْو ذَلِكَ مَا فِي زَمَاننَا هَذَا فِيمَا يُعْمَل فِي الْأَطْوَاق، وَالْمَعْنَى الْأَوَّل أَلْيَق. ("فتح الباري" - ج 9/ ص 261/مكتبة الصفا).
وقال ملا علي القاري رحمه الله: وأتى بالتثنية لإرادة الرداء والإزار، إذ هما متلازمان للإشارة إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه، وقيل للإشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان فقدان ما يشبع به وإظهار الباطل، ... إلخ ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" – كتاب النكاح/باب عشرة النساء/3247 / المكتبة التجارية)
وفي التشبع بما لم يعط خطر وفساد
قال الحافظ رحمه الله: وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَنْفِير الْمَرْأَة عَمَّا ذَكَرْت خَوْفًا مِنْ الْفَسَاد بَيْن زَوْجهَا وَضَرَّتهَا وَيُورِث بَيْنهمَا الْبَغْضَاء فَيَصِير كَالسِّحْرِ الَّذِي يُفَرِّق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . اهـ (نفس المصدر من "فتح الباري"/مكتبة الصفا)
قلت –وفقني الله-: إذا كان في حق الزوجين، فكيف بحق مجتمع المسلمين والسلفيين اندسّ عليهم الحزبيون المتسترون يبثّون سمومهم القتّالة؟ لا شكّ أن فسادهم على الرجال والنساء والصبيان والشباب بل الكهول أعظم، كما شهد على ذلك الواقع. والله المستعان.
وهل يفتضح المتلونون المندسّون أصحاب الزور؟
أبى الله إلا أن يفضح أمرهم ويبصّر أولياءه بحقيقة القوم. ﴿وَالله مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون﴾ [البقرة/72] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُم﴾ [محمد/29]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، إلخ ("تفسير القرآن العظيم"- ج 7 / ص 321/دار طيبة)
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَالله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم﴾ [محمد/30] ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة/64].
وَقَالَ ابْن التِّين رحمه الله في شرح حديث ثوبي الزور: هُوَ أَنْ يَلْبَس ثَوْبَيْ وَدِيعَة أَوْ عَارِيَة يَظُنّ النَّاس أَنَّهُمَا لَهُ وَلِبَاسهمَا لَا يَدُوم وَيَفْتَضِح بِكَذِبِهِ. (نقله ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" /9/ 261/مكتبة الصفا).
قال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن الرجل منكم ليخرج من بيته فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول : ذيت وذيت فيمدحه فعسى أن لا يحلأ من حاجته بشيء فيرجع وقد أسخط الله عز وجل عليه وما معه من دينه شيء. اهـ ("صفة النفاق وذم المنافقين"/ رقم (109) /دار الآثار صنعاء)
والأثر صحيح، وقد صححه شيخنا أبو عبد الرحمن جميل بن عبده الصلوي حفظه الله في "فتح أرحم الراحمين" (ص 102/دار التيسير).
فليتق الله من تصنع ليُحمد وهو لم يكن كذلك، لأن ذلك يضرّ دينه.
الباب الثاني والعشرون: المتلوّنون يدّعون بما ليس لهم
قال الإمام مسلم رحمه الله: وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ الله. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ». (كتاب الإيمان/باب بيان حال إيمان/ (رقم61)/دار ابن الجوزي).
موضع الشاهد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وفي لفظ البخاري (كتاب المناقب/الباب-5/3508/دار الكتب العلمية): «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهْوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
قال ابن حجر رحمه الله: وَهُوَ –أي رواية مسلم- أَعَمّ مِمَّا تَدُلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْبُخَارِيّ إلخ ("فتح الباري" - ج 6/ ص 670/مكتبة الصفا)
وقال رحمه الله: وَيُؤْخَذ مِنْ رِوَايَة مُسْلِم تَحْرِيم الدَّعْوَى بِشَيْء لَيْسَ هُوَ لِلْمُدَّعِي ، فَيَدْخُل فِيهِ الدَّعَاوِي الْبَاطِلَة كُلّهَا مَالًا وَعِلْمًا وَتَعَلُّمًا وَنَسَبًا وَحَالًا وَصَلَاحًا وَنِعْمَة وَوَلَاء وَغَيْر ذَلِكَ، وَيَزْدَاد التَّحْرِيم بِزِيَادَةِ الْمَفْسَدَة الْمُتَرَتِّبَة عَلَى ذَلِكَ ... إلخ ("فتح الباري" /نفس المصدر).
وكم من حزبي يندس في أوساط السلفيين ويتزلفون في أقدام العلماء يقولون: (نحن سلفيون، عندنا دعوة طيبة، فعلنا كذا وكذا، وعندنا طلاب العلم، وحفاظ القرآن، و...، و...، و...،) كذباً، وزوراً.
فليتقوا الله، وليعلموا أن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً، وأنهم متعرضون لبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وللقعود في النار، عياذا بالله.
الباب الثالث والعشرون: من صور التلونات: تنقلات الآراء وتقلبات المناهج
معظم ما سبق ذكره يدل على وجود المكر والخداع في تعداد وجوه المتلونين. ولما كان التلون هو عدم الثبات على حال واحد وخلق واحد، دخل فيه أيضا تنقلات الآراء وتقلبات المناهج بسبب التأثر بشبهة أو عدم الصبر على البلاء.
* فأما التلون بسبب التأثر بشبهة:
فذلك إما بسماع كلام أهل الباطل، وإما بقراءة كتبهم أو نحو ذلك.
وقد جمع شيخنا الوالد أبو إبراهيم محمد بن محمد بن مانع الصنعاني حفظه الله فتاوى الأئمة في التعامل مع كتب المبتدعة، بعنوان: "منهج السلف في التعامل مع كتب أهل البدعة" (ط. دار الآثار) فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته من سماع شبهات المبطلين.
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير حدثنا حميد بن هلال عن أبى الدهماء قال: سمعت عمران بن حصين -رضي الله عنه- يحدث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات ». هكذا قال. ("سنن أبى داود" – كتاب الملاحم/باب خروج الدجال/رقم 4311 /ط. دار الحديث)
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم 1019/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة)
بعد ذكر الحديث قال الإمام ابن بطة رحمه الله: هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: (أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه)، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار، والردّ عليهم ، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم اهـ. ("الإبانة الكبرى" – تحت رقم (480) /ط. دار الكتب والوثائق القومية).
قلت –وفقني الله-: انظروا -أرشدكم الله- إلى هذه التقلبات بسبب سماع الشبهات، كان الرجل مؤمناً فلما سمع شبهات الدجال انقلب إلى الكفر. كذلك من طعن في المبتدعة ولعنهم، فلما سمع شبهاتهم اتبعهم.
وقد أدخل الإمام الوادعي رحمه الله ذلك الحديث في كتابه المتين "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" في أول "كتاب الفتن" تحت عنوان: "الابتعاد عن الفتن".
واستنبط لنا خليفته شيخنا المحدث العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله ورعاه من هذا الحديث، منها:
الابتعاد عن الفتن واجب
عين الحزم، ومنهج السلف، وتطبيق الأدلة: تجنب الفتن
أصحاب الفتن هلكى
لا تركن إلى إيمانك، وجأشك، وعلمك، فتخالط أصحاب الشبهات
شبهة لها تأثير، وفي أهل الأهواء كذبات كثيرة لجرف أهل الخير إلى صفهم. والكذبات بضاعتهم، فالبعد عنهم سلامة
لا تأمن على نفسك البدعة الكبرى ولا الكفر، وإن استنكره قلبك، فإنك لا يؤمن على نفسك التأثر بمجالسة أهله.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جدال المبتدعة من أجل هذا.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِى غَالِبٍ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾. ("سنن الترمذى" /كتاب تفسير القرآن/من سورة الزخرف/ رقم (3253)/دار الحديث)
وهو في "الصحيح المسند" للإمام الوادعي رحمه الله (رقم 479 /ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة)
وقد كثرت أقوال السلف رحمه الله في ذم الجدال في الدين لما فيه من زلزلة الأقدام وغير ذلك من الأضرار. وقد أدخل الإمام ابن بطة رحمه الله هذا الحديث في كتابه "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" في باب ذم المراء والخصومات في الدين ... (1/ص344/ ط. دار الكتب والوثائق القومية).
وكذلك الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "الشريعة" باب ذم الجدال والخصومات في الدين (ص64)/دار الكتاب العربي
وكذلك الإمام اللالكائي رحمه الله في كتابه "شرح أصول اعتقاد" باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم ... (1/ص110/دار الآثار)
وكذلك الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء (1/ص135/ط. دار ابن الجوزي)
وتحت هذه العناوين آثار كثيرة رويت من السلف الصالح رحمهم الله تحذيراً من سماع شبهات المبطلين لأنه سبب الاضطرابات في المنهج والتلونات في الدين، منها ما يلي:
قال الإمام الآجري رحمه الله: وحدثنا الفريابي قال : ثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب قال : كان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم. (كتاب "الشريعة" باب ذم الجدال والخصومات في الدين (ص57)/دار الكتب العلمية/وسنده صحيح مسلسل بالأئمة، كما هو معروف)
وهناك أثر جيد إلا أنه معلّ، وهو:
* أثر إبراهيم النخعي رحمه الله
وعن مغيرة عن إبراهيم رحمه الله، قال : كانوا يكرهون التلون في الدين().
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: «كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله»(). ("الإبانة الكبرى" - رقم 580 / باب ذم المراء والخصومات/دار الكتب والوثائق).
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله في "الفنون" : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال. ﴿أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾.
كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام -إلى أن قال- : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة، فمن طلب به العاجلة أخطأ اهـ. (كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح - /ص 173/ فَصْلٌ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ/ط. الرسالة).
* فائدة يتهاون فيها كثير من الناس:
ترك سماع كلام أهل الهوى بجميع وسائله قد صار عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، كما مر بنا في الكتب السابقة ذكرها.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء، والجدال، والخصومات في الدين اهـ ("أصول السنة للإمام أحمد"/شرح الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/ص7/ط. دار الإمام أحمد).
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات: ... وترك المراء والجدال في الدين، وترك كل ما أحدثه المحدثون اهـ. (العقيدة القيروانية/مقدمة الرسالة/ص13/دار العقيدة)
وقال الإمام الصابوني رحمه الله: جملة من آداب أصحاب الحديث: ... ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ... –إلى قوله:- ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس فيه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم ... إلخ ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث"/ ص107-108/ط. دار المنهاج).
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة اهـ. ("لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد"/مع شرح ابن العثيمين/ص97/دار الآثار)
وقال الإمام ابن العثيمين رحمه الله في شرحه: ومن هجر أهل البدع: ترك النظر في كتبهم خوفا من الفتنة بها أو ترويجها بين الناس، فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدجال: «من سمع به فلينأ عنه فوالله ان الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات». رواه أبو داود، قال الألباني: وإسناده صحيح.
ولكن إن كان الغرض من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به، وكان قادرا على الرد عليهم، بل كان واجبا لأن رد البدعة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب اهـ ("شرح لمعة الاعتقاد"/ص97-98/دار الآثار).
وقال العلامة أبو الطيب صديق بن حسن خان القنوجي رحمه الله:() ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة. وكل محدثة في الدين بدعة. وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم في أصول الدين وفروعه، ... إلخ ("قطف الثمرفي بيان عقيدة أهل الأثر" مع تحقيق شيخنا أبي عمرو الحجوري حفظه الله/ ص178/ط. مكتبة صنعاء الأثرية).
* وأما التلون بسبب التأثر ببلاء:
قال تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين[ [العنكبوت/10، 11]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، بأنهم إذا جاءتهم فتنة ومحنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام؛ ولهذا قال: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله﴾. قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله. وكذا قال غيره من علماء السلف –إلى قوله:- أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنه ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة؟ اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"/3/ص2179-2180/دار ابن الهيثم)
وقال تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين[ [الحج/11].
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِى بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ[ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ. وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ . ("صحيح البخارى" –كتاب التفسير/باب (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ)/(4742)/دار الكتب العلمية).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر. وقال مجاهد في قوله: ]انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ[ أي: ارتد كافرًا. وقوله: ]خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ[ أي: فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة؛ ولهذا قال: ]ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[ أي: هذه هي الخسارة العظيمة، والصفقة الخاسرة اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"- ج 3 / ص 1929/دار ابن الهيثم).
قال الشيخ الإسلام رحمه الله: فالمهتدون لما كانوا على هدى من ربهم ونور وبينة وبصيرة صار مكانة لهم استقروا عليها وقد تحيط بهم بخلاف الذين قال فيهم: ]ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه[ فإن هذا ليس ثابتا مستقرا مطمئنا بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه فقد يطمئن إذا أصابه خير وقد ينقلب على وجهه ساقطا فى الوادي اهـ. ("مجموع الفتاوى" /ج 15 / ص 64/إحالة/دار الوفاء)
وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعا عن إسماعيل بن جعفر قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل قال: أخبرني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا». (أخرجه مسلم /كتاب الإيمان/باب الحثّ على المبادرة .../(118)/ط. دار ابن الجوزي(
فإذا علمنا أن من أسباب التلوّنات، والتقلبات، والاضطرابات هي إما الشبهة وإما الابتلاء، علمنا عظم قدر الصبر، واليقين، والعافية، وهي من أعظم نعم أنعم الله بها على من يشاء من عباده.
* فأما الصبر والعافية
فهما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما المرفوع المتقدم: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ». (أخرجه البخاري (2965-2966)، ومسلم (1742)).
وفي حديث المقداد رضي الله عنه. قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصى حدثنا حجاج - يعنى ابن محمد - حدثنا الليث بن سعد قال: حدثنى معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلى فصبر فواها». ("سنن أبى داود" – كتاب الفتن/باب في النهي عن السعي في الفتنة/رقم 4257/ط. دار الحديث)
حسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم 1140/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة).
معنى العافية:
قال ابن المنظور رحمه الله: فأَما العَفْوُ فهو ما وصفْناه من مَحْو الله تعالى ذُنوبَ عبده عنه، وأَما العافية فهو أَن يُعافيَهُ الله تعالى من سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وهي الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض يقال عافاهُ الله وأَعْفاه أَي وهَب له العافية من العِلَل والبَلايا وأَما المُعافاةُ فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ من الناس ويُعافِيَهم منكَ أَي يُغْنيك عنهم ويغنيهم عنك ويصرف أَذاهم عنك وأَذاك عنهم وقيل هي مُفاعَلَة من العفوِ وهو أَن يَعْفُوَ عن الناس ويَعْفُوا هُمْ عنه وقال الليث العافية دِفاعُ الله تعالى عن العبد يقال عافاه اللهُ عافيةً وهو اسم يوضع موضِع المصدر الحقيقي وهو المُعافاةُ اهـ. ("لسان العرب" /مادة ع-ي-ف/6 / ص 339/دار الحديث)
* وأما العافية واليقين
فهما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَوْسَطَ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَقَامِى هَذَا عَامَ الأَوَّلِ - وَبَكَى أَبُو بَكْرٍ- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَلُوا الله الْمُعَافَاةَ - أَوْ قَالَ الْعَافِيَةَ - فَلَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ قَطُّ بَعْدَ الْيَقِينِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ أَوِ الْمُعَافَاةِ. عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِى الْجَنَّةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِى النَّارِ، وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا إِخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمُ الله تَعَالَى. ("مسند أحمد" – رقم (5) /ط. الرسالة).
حسنه الإمام الوادعي رحمه الله -من طريق ابن ماجه رحمه الله- في "الصحيح المسند" (رقم 706/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة).
معنى اليقين:
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: يقين: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، ويقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم، وقال علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وبينها فروق مذكورة في غير هذا الكتاب، يقال استيقن وأيقن، قال تعالى: ]إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين[ - ]وفى الارض آيات للموقنين[ - ]لقوم يوقنون[ وقوله عز وجل: ]وما قتلوه يقينا[ أي ما قتلوه قتلا تيقنوه، بل إنما حكموا تخمينا ووهما اهـ. ("مفردات غريب القرآن" /ص553 /المكتبة التوفيقية).
واليقين والطمأنينة من ثمار العلم، كما أن الريبة والاضطراب من ثمار الشكّ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الريب ضد الطمأنينة واليقين، فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار، يقال (رابني مجيئه وذهابه وفعله) ولا يقال (شككني) فالشك سبب الريب فإنه يشك أولا فيوقعه شكه في الريب فالشك مبتدأ الريب كما أن العلم مبتدأ اليقين اهـ ("بدائع الفوائد" – فائدة: الفرق بين الشك والريب/ج 4 / ص 879/ط. دار الحديث).
* وأما الصبر واليقين
فهما في قول الله تعالى: ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ [السجدة/24]
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجعل الإمامة فى الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ فإن الدين كله علم بالحق وعمل به والعمل به لا بد فيه من الصبر بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 10 / ص 39/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ...وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. قال تعالى: ]وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر[ وقوله تعالى: ]واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار[ اهـ ("إعلام الموقعين" - ج 1 / ص 113/دار الحديث).
والصبر واليقين مقرونان. قال الشيخ الإسلام رحمه الله: فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السئ المحظور، ويدخل فى ذلك الصبر على الأذى، وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر، ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن لهم ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذى به، وهو اليقين اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 153/دار الوفاء)
فائدة: قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله في "الفنون" : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلوّن يراعي به أحوال الرجال. ﴿أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾. كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام -إلى أن قال- : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة، فمن طلب به العاجلة أخطأ اهـ. (كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح - /ص 173/ فَصْلٌ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ/ط. الرسالة).
ثم إن من البلية أن يأتي أناس من أهل السنة، ولكنهم يدعون إلى عدم نصرة الحق وأهله في أمس الحاجة –أغنانا الله عنهم- وإلى التوقف في قمع المتحزبين الذين يكرّون على أعظم منارات السنة في العالم. فحصل بسبب دعوة هذا الصنف التثبيط والتخذيل. فلا ريب أن هذا الصنيع خلاف القرآن حيث قال ربنا عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة/2]
وقال جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة/38، 39]
وقال جل ذكره: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة/41]
وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آَمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران/52]
وخالفوا هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب حدثنا داود ( يعني ابن قيس ) عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. (أخرجه مسلم /كتاب البر والصلة/باب تحريم ظلم مسلم وخذله/2564/دار ابن الجوزي).
وسيأتي ذكر زيادة الأدلة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
وخالفوا منهج السلف. قال شيخ الإسلام رحمه الله في صفات الفرقة الناجية: فصل: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ؛ يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه»()، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»(). ("العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية"/مع تعليق الإمام ابن باز رحمه الله /ص90/ط. دار الآثار)
وقال رحمه الله: فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال لصاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحقى على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه فهذا هو الأصل الذى عليهم اعتماده اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 17/إحالة/دار الوفاء).
ثم إن هذا الشخص مع جدّه في الدعوة إلى التوقف ظهر من خلال كلامه الغمز في أهل السنة بدماج حرسها الله. فقال لأحدنا: (إن اعتمدتَ على أخبار أهل دماج فقط لم يكن لديك تصور تام في هذه الفتنة –يعني: فتنة حزبية ابن مرعي-) وقال أيضا: (أخبار أهل دماج معوجة) وقال: (عليك بالسكوت ويكفيك طلب العلم). أو نحو ذلك.
ومع كون هذا الرجل أكبر الدعاة الجادين إلى التوقف، هو أيضاً صاحب المؤسسة المبتدعة، وقد أهان الدعوة السلفية كثيرا بتسولاته الهائلة في بلدنا، وفي السعودية والإمارات.
وقد اضطرب بسبب دعوته أناس كانوا على ثقة تامة ببيان شيخنا الناصح الأمين يحيى الحجوري حفظه الله وأسود السنة بدماج حفظهم الله. وقد كانوا علموا أن اثني عشر عالما –أو أكثر- قد أدانوا ابني مرعي ولقمان با عبده بالحزبية، فاقتنعوا بذلك ونصروا أهل الحق وحملوا حملة على هؤلاء الحزبيين، وقالوا: (ابنا مرعي حزبيان مبتدعان) و(لقمان با عبده حزبي)
فلما أتاهم هذا الشخص فشوش عليهم تحت ستار (ننتظر كلام إمام الجرح والتعديل الشيخ ربيع) تزلزلوا، وتلوّنوا، وقالوا: (الشيخ عبد الرحمن، والشيخ عبد الله)، وقالوا: (ليس لنا أن نحزب الأستاذ لقمان، ننتظر إدانة الشيخ ربيع على عبد الرحمن). ذهبت عنهم إدانة اثني عشر عالما المؤيدة بالأدلة الحجج والبينات بسبب شبهات ذلك الشخص ودعوته إلى التوقف وتقليد الأشخاص.
خشيت أنهم وأمثالهم وقعوا في بدعة جديدة: "جميع براهين وبينات عالم –بل عدة من العلماء- على أباطيل شخص مردود إلا إذا أقر على ذلك إمام الجرح والتعديل. ولا يجوز أن يكون إمام الجرح والتعديل أكثر من واحد".
ولما رأينا تقلبات بعض الدعاة بعد ثباتهم، لم نصبر أن نصرخ: أيها المقلدون المذبذبون، أين أنتم من كلام حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما؟
* أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما
قال خالد بن سعد قال: دخل أبو مسعود على حذيفة -رضي الله عنهما- فقال: اعهد إلي، قال : أولم يأتك اليقين؟ قال: بلى. قال: فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد().
وأما هذا الداعي إلى التوقف والتخذيل، وإن لم يكن من أهل الهوى، لا بأس أن نقول فيه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدّل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذى لم ينكر على أهله.
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا فى بدع من بدع المنافقين التى تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 233/إحالة/دار الوفاء).
ما نقول إنه منافق، ولا أهل الهوى، ولا تلقى من أحد منهم، ولكن لا بد أن يُنتبه لدعوته، ويرد عليه أباطيله.
بل قبل ذلك لما نشر بعضُ طلبة العلم الملازمَ الكاشفة لمكر الحزب الجديد وأباطيلهم في الشبكات، نشر هذا المخذل منشوراً قال فيه: (لا ترسلوا مثل هذه الكتابات، لأنها سبب للفتنة والفرقة! أما سمعتم ما قاله الشيخ ربيع!؟)
الباب الرابع والعشرون: بعض الإشكالات
الإشكال الأول: فما الجمع بين أحاديث ذم ذي الوجهين، وقَوْل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَة»، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل؟
قال ابن حجر رحمه الله: وَتَعَرَّضَ اِبْن بَطَّال هُنَا لِذِكْرِ مَا يُعَارِض ظَاهِره مِنْ قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَة»، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل، وَتَكَلَّمَ عَلَى الْجَمْع بَيْنَهُمَا، وَحَاصِله أَنَّهُ حَيْثُ ذَمَّهُ كَانَ لِقَصْدِ التَّعْرِيف بِحَالِهِ وَحَيْثُ تَلَقَّاهُ بِالْبِشْرِ كَانَ لِتَأْلِيفِهِ أَوْ لِاتِّقَاءِ شَرّه، فَمَا قَصَدَ بِالْحَالَتَيْنِ إِلَّا نَفْع الْمُسْلِمِينَ. وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِفهُ فِي حَال لِقَائِهِ بِأَنَّهُ فَاضِل وَلَا صَالِح، إلخ ("فتح الباري" /تحت رقم7179 /ط. مكتبة الصفا).
قال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله: وَمَرَّ خَبَرُ: أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُسْتَأْذِنٍ عَلَيْهِ: «ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ فَقَالَ: «إنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِ»، وَلَكِنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْإِقْبَالِ وَنَحْوِ التَّبَسُّمِ. فَأَمَّا الثَّنَاءُ فَهُوَ كَذِبٌ صَرِيحٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةِ حَاجَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ. وَمِنْ النِّفَاقِ أَنْ تَسْمَعَ بَاطِلًا فَتُقِرَّهُ بِنَحْوِ تَصْدِيقٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَتَحْرِيكِ الرَّأْسِ إظْهَارًا لِذَلِكَ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُنْكِرَ بِيَدِهِ ثُمَّ لِسَانِهِ ثُمَّ قَلْبِهِ اهـ ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 39/الكبيرة 253/دار الفكر).
إذا قال بعض الحزبيين: إنما نحن نداري، وقد بوب البخارى في "صحيحه" باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ. ثم ذكر أثرا عن أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُم.
الجواب: أولاً: إن الأثر قد اعترفتم أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه، فلا نحتاج إلى المحاكمة في صحته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تولى ابن حجر رحمه الله في بيان إسناده فقال: وَهَذَا الْأَثَر وَصَلَهُ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي "غَرِيب الْحَدِيث" وَالدِّينَوَرِيّ فِي "الْمُجَالَسَة" مِنْ طَرِيق أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْر بْن نُفَيْر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء فَذَكَرَ مِثْله وَزَادَ: (وَنَضْحَك إِلَيْهِمْ) وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ اللَّعْن، وَلَمْ يَذْكُر الدِّينَوَرِيّ فِي إِسْنَاده جُبَيْر بْن نُفَيْر، وَرَوَيْنَاهُ فِي "فَوَائِد أَبُي بَكْر بْن الْمُقْرِي" مِنْ طَرِيق كَامِل أَبِي الْعَلَاء عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ: (إِنَّا لَنُكَشِّر أَقْوَامًا) فَذَكَرَ مِثْله وَهُوَ مُنْقَطِع، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي "الْحِلْيَة" مِنْ طَرِيق خَلَف بْن حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء -فَذَكَرَ اللَّفْظ الْمُعَلَّق سَوَاء-، وَهُوَ مُنْقَطِع أَيْضًا، وَالْكَشْر بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَفَتْح أَوَّله ظُهُور الْأَسْنَان، وَأَكْثَر مَا يُطْلَق عِنْدَ الضَّحِك، وَالِاسْم الْكِشْرَة كَالْعِشْرَةِ اهـ. ("فتح الباري" ج 10/ ص 616/مكتبة الصفا).
وقال الإمام الألباني رحمه الله: وبالجملة ، فالحديث لا أصل له مرفوعا ، و الغالب أنه ثابت موقوفا ، والله أعلم . (راجع "السلسلة الضعيفة" - ج 1 / ص 383/رقم 216/مكتبة المعارف).
ثانياً: إذا كان من قول أبي الدرداء رضي الله عنه، ورأيتموه معارضاً لأدلة النهي عن تعداد الوجوه، فلا تجوز معارضة النصوص بقول بشر.
ثالثاً: وأثر أبي الدرداء رضي الله عنه محمول على المداراة الشرعية، اقتضتها الحاجة.
قال صاحب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" رحمه الله: فَإِنْ اضْطَرَّ لِلدُّخُولِ لِنَحْوِ تَخْلِيصِ ضَعِيفٍ لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَخَافَ مِنْ عَدَمِ الثَّنَاءِ فَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّ اتِّقَاءَ الشَّرِّ جَائِزٌ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : (إنَّا لَنَكْشِرُ أَيْ نَضْحَكُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ)، إلخ ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 41/الكبيرة 253/دار الفكر).
رابعا: وأما التلون الذي فعله الحزبيون هو الوفاق والمداهنة، لا المداراة.
قال ابن حجر رحمه الله: قَالَ اِبْن بَطَّال: الْمُدَارَاة مِنْ أَخْلَاق الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَفْض الْجَنَاح لِلنَّاسِ وَلِين الْكَلِمَة وَتَرْك الْإِغْلَاظ لَهُمْ فِي الْقَوْل وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَاب الْأُلْفَة. وَظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُدَارَاة هِيَ الْمُدَاهَنَة فَغَلَط؛ لِأَنَّ الْمُدَارَة مَنْدُوب إِلَيْهَا وَالْمُدَاهَنَة مُحَرَّمَة، وَالْفَرْق أَنَّ الْمُدَاهَنَة مِنْ الدِّهَان وَهُوَ الَّذِي يَظْهَر عَلَى الشَّيْء وَيُسْتَر بَاطِنه، وَفَسَّرَهَا الْعُلَمَاء بِأَنَّهُ مُعَاشَرَة الْفَاسِق وَإِظْهَار الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْر إِنْكَار عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاة هِيَ الرِّفْق بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيم وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْي عَنْ فِعْله، وَتَرْك الْإِغْلَاظ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَر مَا هُوَ فِيهِ، وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْل وَالْفِعْل، وَلَا سِيَّمَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَأَلُّفه وَنَحْو ذَلِكَ. اهـ ("فتح الباري" ج 10/ ص 616-617/مكتبة الصفا).
خامساً: فالذي فعله الحزبيون فإنه من باب النفاق والمداهنة. قال الإمام ابن مفلح رحمه الله لما ذكر أدلة ذم الوجهين: وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ اهـ. ("الآداب الشرعية" - ص15 / في البهت والغيبة و.../ط. الرسالة)
وأما تشبث الحزبيين بحديث «الحرب خدعة».
فالجواب: قال ابن حجر رحمه الله: وَأَصْل الْخَدْع إِظْهَار أَمْر وَإِضْمَار خِلَافه. ("فتح الباري" /كتاب الجهاد/باب الحرب خدعة/6 /ص 202/مكتبة الصفا).
قلت –وفقني الله-: فالخدعة في الحرب من السياسات الشرعية لمصالح المسلمين عند محاربة الكفار، فظفر المسلمون عليهم بأقلّ الخسارة ما أمكن. وقد قَالَ ابْن الْمُنِير رحمه الله: مَعْنَى الْحَرْب خَدْعَة أَيْ الْحَرْب الْجَيِّدَة لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَة فِي مَقْصُودهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَة لَا الْمُوَاجَهَة، وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَة وَحُصُول الظَّفَر مَعَ الْمُخَادَعَة بِغَيْرِ خَطَر اهـ. (كما في المصدر السابق).
فهذا يكون في محاربة الكفار والذين يستحقون أن يحارَبوا.
قال ابن حجر رحمه الله: وَفِيهِ التَّحْرِيض عَلَى أَخْذ الْحَذَر فِي الْحَرْب، وَالنَّدْب إِلَى خِدَاع الْكُفَّار، وَأنَّ مَنْ لَمْ يَتَيَقَّظ لِذَلِكَ لَمْ يَأْمَن أَنْ يَنْعَكِس الْأَمْر عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلَّا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَجُوز اهـ ، (كما في المصدر السابق).
وأما الحزبيون فإنهم استعملوا هذا الحديث على المسلمين –ولا سيما أهل السنة-، فخادعوهم لمصالح حزبيتهم وأغراضهم، فما زادوا المسلمين إلا خبالا، فهم أشبه بالمنافقين الذين قال فيهم الله تعالى: ]يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[ [البقرة/9].
يتشبث بعض الحزبيين المتسترين بقول الله تعالى: ]مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [النحل/106].
قالوا: قد رخص الله تعالى عباده عند الضرورة أن يقولوا كلمة الكفر –تقية- وقلوبهم مطمئنة بعقيدتهم!
فالجواب: ظاهر الأية، وأسباب نزولها يكون في حالة ضعف المسلمين أمام سيطرة الكفار حيث لا ينجون إلا بذلك. وهذا واضح جدّاً.
وأما الحزبيون طبقوها بين أيدي علماء السنة وطلبة العلم الثابتين، كأنهم اقتبسوا من قدمائهم الخوارج حيث جعلوا آية الكفار للمسلمين. وأيضا إن الحزبيين قد توسعوا جدّاً في ضابظ الضرورة –وهم ليسوا على ضرورة!-، فأمرهم كما قال الإمام الوادعي رحمه الله: فيقولون: نحن مضطرون إلى ذلك. والواقع أنهم ليسوا بمضطرين إلى ذلك. فقد توسعوا بالضرورة حتى لم يتركوا ضرورة. ("غارة الأشرطة" /أجوبة أسئلة إخواننا في أبي ظبي / 2 ص59/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال أيضاً رحمه الله في تفسير ]إلا من أكره ...[: وحدّ الإكراه أن تتأكد أن يحل بك، أو مالك، أو عرضك ما لا تتحمله. وأما تلوّن الرافضة فليس من التقية في شيء بل هو النفاق، أعاذن الله من النفاق اهـ. (مقدمة الإمام مقبل الوادعي رحمه الله على تحقيق "صفة النفاق للفريابي" للشيخ عبد الرقيب الإبي حفظه الله /ص11).
فالحزبيون المتسترون المتلوّنون بين أظهر مجتمع أهل السنة أشبه بالمنافقين بين أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم. فأهل السنة يرثون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأما الحزبيون يرثون من المنافقين.
فجدير أن نحذر المسلمين السلفيين من أولئك المختبئين لأنهم أعداء. قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله*{ [المجادلة/16]: أي بسبب اتخاذهم أيمانهم جنةً، وخفاء كفرِهم الباطن، تمكنوا من صدِّ بعض الناس عن سبيل الله، لأن المسلمين يظنونهم إخواناً وهم أعداء. وشر الأعداء من تظن أنه صديق، ولذا حذر الله نبيه منهم بقوله: ﴿ هُمُ العدو فاحذرهم﴾ [ المنافقون: 4] (" أضواء البيان" ص 1801/دار الكتب العلمية).
5- إذا قال قائل: إنما نتمثل بصنيع اليربوع يدخل في نافذة، ويخرج من نافذة أخرى لسلامة نفسه، واليربوع لا يُذمّ على ذلك!
الجواب:
* خصال اليربوع:
خصال اليربوع معروفة عند الناس، ولا يطمئن قلبي في الرجوع إلى "حياة الحيوان" للدميري لكثرة الشعوذة التي فيه. وفي "معجم الوسيط"(): (اليربوع) حيوان من الفصيلة اليربوعية صغير على هيئة الجرد الصغير و له ذنب طويل ينتهي بخصلة من الشعر و هو قصير اليدين طويل الرجلين اهـ. (مادة ر-ب-ع/ص349/دار المعارف)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبواباً عديدة ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند اكمة أو صخرة علامة له على البيت إذا ضل عنه ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لتقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر اهـ ("شفاء العليل" - الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال / ص 135-136/دار ابن الهيثم).
نعم، اليربوع ماهر بالحيلة لسلامة نفسه. ومع ذلك لا يجوز لنا التشبه به لمخادعة المسلمين.
* كلام عظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال شيخ الإسلام رحمه الله: التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه في أصواتها وأفعالها، ونحو ذلك مثل أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك، وذلك لوجوه، أحدها: أنا قررنا في "اقتضاء الصراط المستقيم" نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص، كالتشبه بالاعراب وبالأعاجم، وبأهل الكتاب، ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبيّنّا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتُسِب من أخلاقها كالكلابين، والجمالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء، وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة، بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذموماً بعينه، لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابياً أو عجمياً خير من كونه كلباً، أو حماراً، أو خنزيراً، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبهاً فيما يستلزم النقص ويدعو إليه فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموماً ومنهيا عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى: ]ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم اضل أولئك هم الغافلون[.
الوجه الثالث: إن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له، كقوله: ]فمثله كمثل الكلب إن تحمل إليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون[، وقال تعالى: ]مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً[ الآية. وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذمّ من غير أن يقصد المذموم التشبه بها، فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموماً، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذموماً من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذموماً من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه. يؤيد هذا:
الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيح": «العائد في هبته كالعائد في قيئه ليس لنا مثل السوء». ولهذا يذكر أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة، فقال له الشافعي: الكلب ليس بمكلف، فقال له أحمد: ليس لنا مثل السوء. وهذه الحجة في نفس الحديث، فإن النبي لم يذكر هذا المثل إلا ليبن أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما، وإن لم يكن الكلب مذموماً في ذلك من جهة التكليف، ولهذا ليس لنا مثل السوء، والله سبحانه قد بين بقوله: ]ساء مثلا[ إن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزّه عن مثل السوء. فإذا كان له مثل سوء من الكلب، كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء.
الوجه الخامس: أن النبي قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب»، وقال: ]إذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا»، فدلّ ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وإنها منفّرة للملائكة، ومعلوم أن المشابهة للشيء لابد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة. فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين، وتنفير الملائكة، بحسبه وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة. ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة لجلب منفعة كالصيد، أو دفع مضرة عن الماشية، والحرث، حتى قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط». وبالجملة فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه. لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين، والله سبحانه أعلم.
الوجه السادس: أن النبي لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره وبين أمر مختص به، فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين، ولهذا لم يكن من مواقع النهي، وإنما مواقع النهي الأمور المختصة فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء، ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات، لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج، وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفاً بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة وذلك محرم، والله أعلم. اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 32 / ص 256-260/إحالة/دار الوفاء).
تنبيه: جاز للإنسان أن يبني بيتاً ويجعل له أبواباً يدخل في باب، ويخرج من باب آخر كما يشاء، ولا سيما إذا ألجأه ضرر. وإنما الذمّ على التشبه باليربوع هنا أن يتصف الإنسان بالتلون، والخداع، فيبطن المكر الخبيث والعقيدة الفاسدة، ويظهر حسن الهدي والسمت والأخلاق إغراراً للمسلمين، ونحو ذلك. والله أعلم.
الباب الخامس والعشرون: إياكم والتشبه بالحرباء!
* حديث « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » ثابت
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِى مُنِيبٍ الْجُرَشِىِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». (أخرجه أبو داود/كتاب اللباس/باب في لبس الشهرة/ 4026/العون/دار الحديث).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا إسناد جيد، فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال : هم من رجال "الصحيحين".
وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأحمد بن عبد الله: ليس به بأس.
وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم: هو ثقة وقال أبو حاتم: هو مستقيم الحديث.
وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: هو ثقة وما علمت أحدا ذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد، وغيره بهذا الحديث . اهـ ("اقتضاء الصراط المستقيم" - ج 1 / ص 269-270/مكتبة الرشد).
ولا نحتاج إلى تطويل الكلام في سند هذا الحديث لأنه ثابت عند جلّ أهل السنة –إن لم يكن كلهم-. راجع كلام الإمام الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (رقم 1269 / ط. المكتب الإسلامي).
وقال شيخنا المحدث البصير أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: الحديث ثابت. اهـ.
وقد مر بنا آنفا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله عدم جواز التشبه بالحيوانات، وإن كانت غير مكلَّفة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوى عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة، أو كلمة عوراء، وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله.ومنهم من هو على طبيعة الطاوس، ليس له إلا التطوس، والتزين بالريش، وليس وراء ذلك من شيء. ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كبداً. ومنهم من هو على طبيعة الدبّ أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد اهـ. ("مدارج السالكين" ج 1 / ص325-326/ مشهد الحيوانية/ط. دار الحديث)
قلت –وفقني الله-: كذلك في الناس متلونون منافقون، طبيعتهم طبيعة الحرباء.
* خصال الحرباء:
الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص ذات قوائم أربع دقيقة الرأس مخططة الظهر، تستقبل الشمس نهارها وتدور معها كيف دارت، وتتلون ألواناً، ويضرب بها المثل في الحزم والتلون فيقال: (أحزم من حرباء) و (تلوّن تلوّن الحرباء) ويقال: (أصرد من عين الحرباء) لمن اشتدت إصابته بالبرد ( ج ) حرابي. ("المعجم الوسيط" / ص 164/المكتبة الإسلامية).
لعل الدميري في كتابه "حياة الحيوان" تكلم في الحرباء أكثر وأشمل، إلا أنني لا أحبّ كثرة الشعوذة فيه.
وبعد أن فَضَحَ الإخوان المسلمين كثيراً، قال الإمام الوادعي رحمه الله: فنسأل الله أن يدفع عن اليمن الفتن وشر هذه الحزبية الدخيلة، فيجب على الحزبيين أن يتوبوا إلى الله، وأنا آيس من توبة بعضهم، مثلهم كشجرة عباد الشمس() فهي تتقلب مع الشمس تارة كذا وأخرى كذا، وكذلك الحرباء الذي إن مشى في أرض بيضاء صار أبيض أو في أرض سوداء صار أسود، وإن مشى في خضرة صار أخضر، وهكذا حالة الإخوان المسلمين يتقلبون ويتلونون. اهـ ("تحفة المجيب" ص323/حرمة الانتخابات/دار الآثار).
الباب السادس والعشرون: بعض أضرار التلونات
من خلال النظر في الأدلة السابقة وواقع الأمة، ظهر لنا بعض أضرار التلونات، منها ما يتعلق بفاعلها، ومنها ما يتعلق بغيره والمجتمع.
* من أضرار التلونات المتعلقة بفاعلها:
1- أن المتلونين متشبهون بالمنافقين، ومتحلّون بصفاتهم، فهم يلحقون بهم على قدر تشبّههم بهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم».
فيخشى عليهم أن يصيبهم عقوبة نظيرهم. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ]وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ[ أي: وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم، ببعيد عنه اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" - ج 4 / ص 351/سورة هود/دار طيبة).
وفي تفسير قول الله تعالى: ]وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[ [هود/102]، قال الإمام رحمه الله: يقول تعالى: وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم، ]إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[. ("تفسير القرآن العظيم" /4/ص358/دار طيبة).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: نبّه –تعالى- على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: ﴿فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ﴾ فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله : ﴿أولئك حبطت أعمالهم﴾ هو الحكم ... إلخ ("إعلام الموقعين" /قياس العلة/1 / ص 112/دار الحديث).
2- وأنهم يتشبهون بالحيوان الخسيس مثل اليربوع والحرباء
3- وأنهم شرّ الناس أو من شرّ الناس لأنهم أصحاب تعداد الوجوه
4- وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برىء منهم، لما كان فيهم ادعاء ما ليس لهم
5- وأن لهم مقعداً من نار، لما كان فيهم ادعاء ما ليس لهم
6- وأنهم يلبسون ثوبي الزور
7- وأنهم مجروحون، لم يكونوا أمناء
8- وأن لكل متلوّن لسانان من نار، كما كان له في الدنيا لسانان عند كل طائفة، جزاء وفاقاً.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: كَانَ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ الله عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ الله بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ الله عَلَيْهِ، وَمَنْ خَذَلَ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ خَذَلَهُ الله فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ، وَمَنْ سَمَحَ سَمَحَ الله لَهُ، وَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَمَنْ أَنْفَقَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَوْعَى أَوْعَى عَلَيْهِ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا الله لَهُ عَنْ حَقِّهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ تَجَاوَزَ الله عَنْهُ، وَمَنْ اسْتَقْصَى اسْتَقْصَى الله عَلَيْهِ؛ فَهَذَا شَرْعُ الله وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ ... إلخ ("إعلام الموقعين" /الجزاء من جنس العمل/ 1 / ص 158/ط. دار الحديث).
9- كثير من المتلونين نمامون، وقد توعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعذاب القبر.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا ابن سلام أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان فى قبورهما، فقال: «يعذبان، وما يعذبان فى كبيرة، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشى بالنميمة». ثم دعا بجريدة فكسرها بكسرتين أو ثنتين، فجعل كسرة فى قبر هذا، وكسرة فى قبر هذا، فقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب النميمة من الكبائر/ 6055/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الطهارة/باب نجاسة البول/292/دار ابن الجوزي)).
10- وتوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النمامين بعدم دخول الجنة.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما يكره من النميمة/ 6056/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب بيان غلظ تحريم النميمة/105/دار ابن الجوزي))
قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم . اهـ ("شرح النووي على مسلم" /2/ص181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
فائدة: نقل الإمام النووي رحمه الله عن الغزالي رحمه الله: وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: (فلان يقول فيك)، أو (يفعل فيك كذا)، فعليه ستة أمور:
الأول : ألا يصدقه لأن النمام فاسق.
الثاني : أن ينهاه عن ذلك، وينصحه ويقبح له فعله.
الثالث : أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.
الرابع : ألا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس : ألا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.
السادس : ألا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه؛ فلا يحكي نميمته عنه، فيقول: فلان حكى كذا فيصير به نماما، ويكون آتيا ما نهي عنه. اهـ ("شرح النووي" /2/181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
تنبيه: كثير من الحزبيين –استدلالاً بهذا الحديث وأمثاله- يحرصون على إسكات أهل السنة عن قول الحق، ويشوهون سمعتهم بأنهم "نمامون". فلا بد من إيضاح الأدلة. قال الإمام النووي رحمه الله: وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية. فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها؛ وذلك كما إذا أخبره بأن إنساناً يريد الفتك به، أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام، أو من له ولاية بأن إنساناً يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة. ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته. فكل هذا وما أشبه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا، وبعضه مستحبا على حسب المواطن. والله أعلم اهـ. ("شرح النووي" /2/ص181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
والواقع يشهد أن كثيراً من الحزبيين هم أهل الغيبة، والنميمة، والفجور . وأنهم إذا عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجأوا إلى الحكومة وأصحاب السلطان، فيغتابون، وينمّون، ويكذبون على أهل السنة، لأن يبطشوا بأهل السنة. هذا صنيع أهل البدع منذ قديم الزمن.
11- السيئة تجلب سيئة بعدها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: أعملني أيضا. فاذا عملها قالت الثانية كذلك وهلم جرا فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة ... –إلى قوله:- ولايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزه اليها أزا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه اليها ولايزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتي يرسل الله اليه الشياطين فتأزه اليها أزا فالأول قوي جند الطاعة بالمدد فكانوا أكثر من أعوانه وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه اهـ. ("الجواب الكافي" /ص87/فصل: ]في آثار المعاصي[ /مكتبة العلوم).
12- توقع سوء الخاتمة. قال الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا، ولا علم به، ولله الحمد. وإنما تكون لمن كان له فساد فى العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله اهـ. ("العاقبة في ذكر الموت"/ص92/للإمام عبد الحق الإشبيلي رحمه الله/مكتبة دار الأقصى)
ونقله الإمام ابن القيم رحمه الله في "الجواب الكافي" (ص219 / فصل: ]في تحريم الفواحش[ /مكتبة العلوم والحكم).
فائدة: الإشبيلي هو الامام الحافظ البارع المجود العلامة، أبو محمد عبد الحق بن عبدالرحمان بن عبد الله بن الحسين بن سعيد الازدي الاندلسي الاشبيلي المعروف في زمانه بابن الخراط. توفي ببجاية بعد محنة نالته من قبل الدولة في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمس مئة. ("سير الأعلام" /21 / ص 199/ط. الرسالة).
13- يُخشى على المتلونين فساد حسناته يوم القيامة.
وقد سبق ذكر كلام الأئمة أن من صور التلون أن يـأتي الشخص قوماً بوجه حسن يرضيهم، وهو عند التخلي لم يكن كذلك. وقد مر بنا كلام المناوي رحمه الله في شرح حديث ذي الوجهين: ...وشمل مَن يظهر الخير والصلاح وإذا خلا خلا بالمعاصي القباح. اهـ المراد ("فيض القدير" – تحت رقم (3241)/دار الفكر).
قال الإمام ابن ماجه رحمه الله: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ الرَّمْلِىُّ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ حُدَيْجٍ الْمَعَافِرِىُّ عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِى عَامِرٍ الأَلْهَانِىِّ عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا». ("سنن ابن ماجه" - كتاب الزهد/باب ذكر الذنوب/رقم 4245/دار الفكر)
صححه الإمام الألباني في "السلسلة الصحيحة" (انظر رقم 505/مكتبة المعارف)، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (189)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
قال شيخنا العلامة المحدث يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: هؤلاء لهم أعمال كما قال تعالى: ]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[ [الفرقان/23]
هؤلاء القوم لم يعملوا تلك الحسنات من أجل الله عزّ وجلّ. لو كانوا مخلصين لله لشكر الله لهم. إن هذا شأن المنافقين المرائين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». ]أخرجه مسلم/ رقم(2985)/ عن أبي هريرة رضي الله عنه[
هذه أوصاف المنافقين ضعفاء مراقبة الله، عملوا أعمالا رآء الناس. وهو من الكبيرة. هؤلاء في الخالية توثبوا على محارم الله، وأما في العلانية تصنعوا فيظنّ الناس أنهم صلحاء. ويوم القيامة ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ [الزلزلة/7، 8]
]أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ[ [العاديات/9، 11]
(سجلت هذه الفائدة في درس "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" تاريخ 7 شعبان 1430 هـ)
قلت –وفقني الله-: إنما هذه نماذج من أضرار التلوّن ونحوه، لا على حسب الحصر، والله أعلم.
* وما يتوقع من أضرار التلونات المتعلقة بغير فاعلها وبالمجتمع:
1- اغترار بعض الصالحين بهذا المتلون، فيظنون أنه على الجادة، وهو عدو مندسّ!
2- فساد ذات البين. لما أتى هذا المتلونُ طائفةً من المسلمين بما يرضونه، وأتى طائفةً أخرى من المسلمين بما يحبونه، فنقل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وقول هؤلاء إلى هؤلاء لقصد سوء، وكلا الطائفتين يثقون به، حصلت فتنة، واختلاف، وفرقة!
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ*: قَالَ رَسُولُ الله-صلى الله عليه وسلم-*: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ ». ("سنن الترمذى" /كتاب صفة القيامة/باب صلاح ذات البين/ رقم(2509)/تحفة الأحوذي/دار الحديث)
الحديث صححه الإمام الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب" (رقم (2814)/مكتبة المعارف)، والإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1050)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
3- ظفر المتلوّن ببعض أسرار من يثق به، فصار سلاحاً له عليه يوما من الدهر، لنيل بعض أغراضه، أو يفشيها مباشرة بين الناس حتى فسدت سمعة هذا المسكين.
4- ظفر الأعداء ببعض أسرار دولة المسلمين. إذا أرسل الكفار جاسوساً فيندسّ في دولة المسلمين فيتلون ويتستر ويتتبع بعض الأخبار حتى ظفر بها، فهذا خطير، لا بدّ من التنبّه، ونسأل الله سلامة.
ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني أن أحمد بن طولون جلس يأكل، فرأى سائلاً، فأمر له بدجاجة ورغيف وحلوى. فجاء الغلامُ وقال : (ناولته فما هشّ له). فقال: (علي به). فلما مثّل بين يديه لم يضطرب من الهيبة فقال: (أحضِرِ الكتب التي معك، وأصْدِقني، فقد ثبت عندي أنك صاحب خبر). وأُحضر السياطُ، فاعترف. فقال بعض من حضر: (هذا والله السحر). قال: (ما هو بسحر، ولكنه قياس صحيح. ورأيت سوء حاله فسيرت له طعاماً يسرّ له الشبعان، فما هشّ، فأحضرته فتلاني بقوّة جأشٍ، فعلمت أنه صاحب خبر اهـ. ("تاريخ الإسلام" - ص 48/سنة 270 هـ/دار الكتاب العربي).
(ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن هذه القصة مِنْ عَجِيبِ الْفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ طُولُون ("الطرق الحكمية" – فصل: ]فراسة أحمد بن طولون[ /ص 66/دار الأرقم)).
5- ومن أضرار التلون: أن يتمكن العدو المندس حول بعض العلماء والأمراء، وذلك يعتبر بداية المصيبة
6- وبعد هذا التمكن يستطيع هذا المندس تبييت المكر الخبيث داخل البنيان خطوة خطوة.
قال شيخنا البصير يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله اندس بعض الحزبيين في حلقته، فلما توفي رحمه الله تمكنوا واستقروا (سجلت هذه الفائدة في 5 رجب 1430 هـ).
7- ومن أضرار التلون: ائتمان من ليس بأمين، وتولية الأمانة من لم يكن أهلها –لأن العلماء والأمراء يحكمون بما ظهر-، فحصل ضياع بل فساد.
8- ومن أضرار التلون: أن المتلون في الغالب يطري ويكثر المدائح الغالية لمن قصد من العلماء أو الأمراء أو غيرهم، وهذا ابتلاء للممدوح.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم-: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا. إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ الله، وَلاَ يُزَكِّى عَلَى الله أَحَدًا» . قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ: «وَيْلَكَ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما يكره من التمادح/6061/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الزهد/باب النهي عن المدح/3000/دار ابن الجوزي)).
والمتلون المتزلف يستحق التراب. قال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث: أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه -وكان رجلا ضخماً-، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: (ما شأنك؟) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب». ("صحيح مسلم" (كتاب الزهد/باب النهي عن المدح/3002))
ولا يخاف أهل السنة في الله لومة لائم.
9- في ثناء ذلك المتلون على بعض الأمراء إبقاؤهم على التقصير.
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله –أي: البخاري- (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك)، المراد بالكراهة هنا التحريم، لأن هذا نفاق، ولأنه يُغري السلطان على ما كان عليه من التقصير، وهذا كما هو موجود فيما سبق هو موجود الآن أكثر مما مضى، فيدخل الواحد منهم على ولي الأمر من أمير، أو وزير، أو رئيس، أو ملك، -وكل هؤلاء لهم سلطة-، فيثني عليه ويقول: (حصل كذا وكذا، وأنت الذي فيك كذا وكذا) المهم أنه يثني عليه بما به ينخدع السلطان، أو الأمير، أو الوزير، أو الرئيس، أو الملك، أو غيره ويظنون أنهم قد قاموا بما يجب عليهم فيستمرون فيما هم عليه من التقصير والتفريط، بناء على قول هذا القائل الذي مدحه، وهؤلاء جنوا على عدة وجوه:
الوجه الأول: أنهم كذبوا
والوجه الثاني: أنهم خدعوا الحاكم
والوجه الثالث: أنهم أبقوا الأمر على ما هم عليه من السوء
الوجه الرابع: أنهم حرموا ذوي الحقوق حقوقهم إذا كان الولي قد فرّط في هذا الحقوق ... انتهى المراد
("شرح صحيح البخاري" للإمام ابن ثعيمين رحمه الله/تحت رقم (7178-7179)/المكتبة الإسلامية).
وذكرت –عفا الله عني- هذه الأضرار لا للحصر، نسأل الله السلامة والعافية.
تنبيه:
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وأما من يتحدث بالسلطان في غير مكانه فالواجب المدافعة عن عرض السلطان، لأنه كما يجب علينا أن ندافع عن عرض إخواننا العامة فكذلك يجب أن ندافع عن عرض السلطان من باب أولى، لأن وقوع الناس في عرض السلطان يوجب البغض له، وعدم الانصياع لأوامره ومعاندته، وهذا ضرر عظيم. لكن لو سألك سائل يريد الحق، فهنا يجب عليك أن تبين ما في السلطان من الخير، وما فيه من الشر، أو كنت تريد أن تتكلم بما في السلطان من الأشياء التي لا ينبغي أن يفعلها عند شخص يغلب على ظنك أنه يفيد السلطان. فهذا أيضا لا بأس أن يقتصر على ما في السلطان من المخالفة، ولا تذكر كل شيء() اهـ. ("شرح صحيح البخاري" للإمام ابن ثعيمين رحمه الله/تحت رقم (7178-7179)/المكتبة الإسلامية).
الباب السابع والعشرون: انكشاف أحوال المتلونين المتسترين
مع شدة محاولة أهل الباطل أن يتصنعوا، ويكتموا سرائرهم، ويستروا كمائنهم، أبى الله إلا كشف حالهم، أحياء أو أمواتاً. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَالله مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة/72]
وقال تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة/94].
وسيأتي زيادة الأدلة على ذلك بعد قليل.
ومن طرق انكشاف أحوال أهل التقية والتصنع:
1- قبول خبر الثقة، -وهذا شديد على المبطلين، فلم يألوا جهداً في إسقاط الشهود الثقات-
قال فضيلة الشيخ أحمد النجمي – رحمه الله-: ربما أنهم يغترون بأناس من أهل البدع يظهرون الصلاح، ولكن وراء هذا الصلاح أمر خفي لا يعرفه كثير من الناس فهذا يؤخذ فيه بقول من عرفوه إذا كانوا ثقات اهـ. ("الفتاوى الجلية" /ص 42/دار الآثار)
قال –رحمه الله-: فلا يجوز أن يغتر بظاهر الإنسان، لا شك أننا نقول بأن هذا ظاهره الخير ما لم نعرف فيه شر، فإذا قيل لنا (إن هذا الإنسان من ورائه كذا) فيجب علينا أن نأخذ بقول من قال لنا إن كان هذا موثوقاً. وإن أهل العلم عندما يقولون عن قوم (إنهم مبتدعة) فإنهم لا يقولون هذا القول اعتباطا، وإنما يقولونه بأمور استندوا إليها... إلخ ("الفتاوى الجلية"/ ص 44-45/دار الآثار)
2- من لحن القول وصفحات الوجه، وأفعال الجوارح
قال تعالى: ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَالله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[ [محمد/29-30]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير ]وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ[ أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، إلخ ("تفسير القرآن العظيم" / ص 2629/دار ابن الهيثم)
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ]تعرفهم بسيماهم[ فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، إلخ ("الجامع لأحكام القرآن" / تفسير سورة البقرة: 273/دار الحديث).
وقال الإمام البغوي رحمه الله: ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته اهـ. ("معالم التنزيل" / ص 1199/ط. دار ابن حزم(
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: أي: في فحوى القول، ومقصده، ومغزاه. وعن بعضهم: قزل الإنسان وفعله دليل على نيته. اهـ ("تفسير القرآن" /5/ص183/دار الوطن)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وقد قال تعالى عن المنافقين: ]ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم[ ثم قال: ]ولتعرفنهم فى لحن القول[ وهو جواب قسم محذوف أي والله لتعرفهم فى لحن القول. فمعرفة المنافق فى لحن القول لا بد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 14 / ص 110/إحالة/دار الوفاء)
وقال رحمه الله: ودلّ على أن ظهور ما فى باطن الإنسان على فلتات لسانه أقوى من ظهوره على صفحات وجهه لأن اللسان ترجمان القلب فإظهاره لما أكنه أو كد و لأن دلالة اللسان قالية و دلالة الوجه حالية والقول أجمع وأوسع للمعانى التى فى القلب من الحال إلخ ("مجموع الفتاوى" ج 16 / ص 68/إحالة/دار الوفاء)
قال الألوسي رحمه الله: وكثيراً ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب ، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه إلخ ("روح المعاني"- تفسير سورة محمد: 30 / دار الفكر)
قال فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله:.. ولكن غالبا أن من أسر سريرة لا بد أن يظهرها الله على لمحات وجهه، وعلى فلتات لسانه. فالذي يظهر للناس أنه على السنة والسلفية وهو مبتدع فلا بد أن يخرج منه شيء من البدع فلا بد أن يحذر منه. أما إذا لم يظهر منه شيء فلا حول ولا قوة إلا بالله ("الفتاوى الجلية" /ص 54/دار الآثار).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله إلى الشيخ بكر أبي زيد –عفا الله عنه-: ولن تجدي المغالطات عند الله وعند أولي الألباب والبصائر ولن تنطلي على أولي النهى مهما أمعن المغالطون في مغالطاتـهم ومهما تستر الحزبيون خلف أسوار تقيَّتهم اهـ. ("الحد الفاصل بين الحق والباطل"/ص118/ط. موافقة الإعلام)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره فإن الذي خفي عنك أكثر مما أظهر. ("شرح السنة" /ص 45/دار الآثار)
وقال السعدي رحمه الله: أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن معارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر ("تيسير الكريم الرحمن" /تفسير سورة محمد: 29/ص 755/دار ابن حزم)
وقال تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران/118]
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾. ("تفسير القرآن العظيم" / ص 578-579/دار ابن الهيثم)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ إلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي عَمَلِهِ. ("إعلام الموقعين عن رب العالمين" ج 1 / ص 113/فصل: في القياس/ط. دار الحديث)
3- يعرف بالمجالسة والمصاحبة والموالاة
* قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالعزيز -يعني ابن محمد- عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (أخرجه مسلم (كتاب البر/باب الأرواح جنود مجندة/2638)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (901/ باب الأرواح جنود مجندة/دار الصديق) بسند صحيح).
ورواه البخاري معلّقاً في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، ووصله في "الأدب المفرد" رقم (900/ باب الأرواح جنود مجندة/دار الصديق) بسند صحيح.
قال الإمام النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ جُمُوع مُجْتَمَعَة ، أَوْ أَنْوَاع مُخْتَلِفَة . وَأَمَّا تَعَارَفهَا فَهُوَ لِأَمْرٍ جَعَلَهَا الله عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا مُوَافَقَة صِفَاتهَا الَّتِي جَعَلَهَا الله عَلَيْهَا ، وَتَنَاسُبهَا فِي شِيَمهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مُجْتَمِعَة ، ثُمَّ فُرِّقَتْ فِي أَجْسَادهَا ، فَمَنْ وَافَقَ بِشِيَمِهِ أَلِفَهُ ، وَمَنْ بَاعَدَهُ نَافَرَهُ وَخَالَفَهُ . اهـ ("شرح النووي على مسلم" /8/ص234/تحت الحديث 2638/دار أحياء التراث).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون إِشَارَة إِلَى مَعْنَى التَّشَاكُل فِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَالصَّلَاح وَالْفَسَاد ، وَأَنَّ الْخَيِّرَ مِنْ النَّاس يَحِنّ إِلَى شَكْله وَالشِّرِّير نَظِير ذَلِكَ يَمِيل إِلَى نَظِيره فَتَعَارُف الْأَرْوَاح يَقَع بِحَسَبِ الطِّبَاع الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْهَا مِنْ خَيْر وَشَرّ ، فَإِذَا اِتَّفَقَتْ تَعَارَفَتْ ، وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ تَنَاكَرَتْ. إلخ ("فتح الباري"/كتاب أحاديث الأنبياء/باب الأرواح جنود .../6/ص 461/مكتبة الصفا).
* وقال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا زهير بن محمد قال حدثنى موسى بن وردان عن أبى هريرة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»() (أخرجه أبو داود (كتاب الأدب/باب من يؤمر أن يجالس/4835/العون/دار الحديث) والترمذي (كتاب الزهد/باب-45/2552/تحفة/دار الحديث)).
وقال المناوي رحمه الله: (الرجل على دين خليله) أي صاحبه (فلينظر أحدكم من يخالل) أي فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ يريد صداقته فمن رضي دينه وخلقه صادقه وإلا تجنبه. اهـ ("فيض القدير"- رقم(4516)/دار الفكر).
* بعض الآثار في هذا الباب:
* قال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثني أبو محمد بن أيوب، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال : حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة ، عن عبد الله -ابن مسعود- رضي الله عنه: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله(). ("الإبانة" رقم 504 /باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي، قال: سمعت معاذ بن معاذ يقول: قلت ليحيى بن سعيد: يا أبا سعيد الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا جليسه(). ("الإبانة الكبرى"/رقم 514/ باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* قال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن السكن، قال: حدثنا يوسف بن عطية، قال: قال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم(). ("الإبانة" /رقم 516/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو زفر القرشي، عن بعض العلماء، عن الأوزاعي: من ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته(). ("الإبانة" لابن بطة / رقم 513/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن حسان الهاشمي، قال: سمعت محمد بن عبيد الله الغلابي، يقول : كان يقال : «يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة»() ("الإبانة" /رقم 515/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: «فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال، وعافية من قبيح الفعال». ("الإبانة الكبرى" لابن بطة - تحت رقم 46/ باب ذكر الأخبار والآثار .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: أخبرني أبو القاسم عمر قال: حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان، يقول لما قدم سفيان الثوري البصرة: جعل ينظر إلى أمر الربيع يعني ابن صبيح، وقدره عند الناس، سأل: (أي شيء مذهبه؟) قالوا: (ما مذهبه إلا السنة) قال: (من بطانته؟) قالوا: (أهل القدر) قال: (هو قدري)(). ("الإبانة" لابن بطة / رقم 426/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
وبعد أن ذكر هذا الأثر الجميل قال الإمام ابن بطة رحمه الله: رحمة الله على سفيان الثوري، لقد نطق بالحكمة، فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة، وما توجبه الحكمة، ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان، قال الله عز وجل: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم[ اهـ.
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء قال: حدثنا موسى بن حمدون، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا مؤمل بن إهاب الربعي، قالا: حدثنا سيار بن جعفر، قال: سمعت مالك بن دينار، يقول: «الناس أجناس كأجناس الطير الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبطّ مع البطّ، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله» قال: وسمعت مالك بن دينار، يقول: «من خلط خلط له، ومن صفى صفي له، وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم»(). ("الإبانة الكبرى" /رقم 517/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وبهذا السند أيضا: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد، فذكر لأحمد بن حنبل، فقال: انظروا على من نزل، وإلى من يأوي. ("الإبانة الكبرى"/ لابن بطة/ باب التحذير من صحبة قوم .../ رقم (519)/دار الكتب والوثائق).
والسند صحيح، والحمد لله.
وقال فضيلة الشيخ حمود التويجري رحمه الله في "القول البليغ"/ص 30-31/دار الصميعي:
فلا تصحب أخا الجهل وإيــاك وإيـــاه
فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمــــرء إذا ما هو ماشاه
وقال فضيلة الشيخ ربيع - حفظه الله- لما تكلم في كثرة النفاق في أوساط الحزبيين: كثير من الناس يقول: أنا من أهل السنة والجماعة وهو مبتدع، ينطوي على البدعة ويتظاهر ويقول: أنا من أهل السنة. هذا من النفاق، هؤلاء يتولون أهل البدع ينطوون على بدع، ويقولون: نحن من أهل السنة، والعلامات أنهم يتولون أهل البدع ويضعون المناهج لحمايتهم، ... –إلى قوله:- كثير من السياسيين عندهم نفاق عملي في الأحزاب السياسية. ومن علامات هذا النفاق تولي أهل البدع .. إلخ ("شرح أصول السنة للإمام أحمد" /ص70-71/دار الإمام أحمد)
وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله : وقد قال بعض السلف: (من أخفى عنا عقيدته لم تخف عنا ألفته) يعني الجماعة الذين يألفهم ما يخفون عنا إذا كان يذهب ويجيئ مع الحزبيين إذاً هو حزبي مثلهم ("الفتاوى الجلية" /ص 86/دار الآثار).
وقال شيخنا المحدث المتفرس يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: إن خفيت على الناس عقائد إنسان ترى من صحبته اهـ (سجلت هذه الفائدة تاريخ 16 رجب 1430 هـ)
الباب الثامن والعشرون: التحذير من المنافقين المتلونين
قال الله تعالى: ]إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ[ [المنافقون/1-4]
قلت –وفقني الله-: في هذه الآية دليل واضح على تلوّن المنافقين، وهم بذلك السلاح يطمعون مخادعة المسلمين، فحذّر الله تعالى منهم، ونبّه عز وجل المسلمين أن يغتروا بهم.
وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله في المنافقين بكلام نفيس: وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين. ولهذا قال تعالى في حقهم: ]هم العدو فاحذرهم[ ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم. ولكن لم يرد ها هنا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياما ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر فلهذا قيل ]هم العدو فاحذرهم[ لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوا من الكفار المجاهرين.
ونظير ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه». فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذي لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطوّاف الذي يسمونه مسكيناً.
ونظيره قوله: «ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب» ليس نفيا للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عن الغضب أحق منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله: «ما تعدون المفلس فيكم؟» قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: «المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثل الجبال، ويأتي قد لطم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فألقي في النار».
ونظيره قوله: «ما تعدون الرقوب فيكم؟» قالوا: من لا يولد له. قال: «الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً». ومنه عندي قوله: «الربا في النسيئة» وفي لفظ: «إنما الربا في النسيئة». هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه نفي اسم الربا عن ربا الفضل، فتأمله اهـ ("طريق الهجرتين"/ص497-498/فصل: في مراتب المكلفين/دار ابن رجب).
هذا التحذير وإن كان أصله يتعلق بالمنافقين نفاقاً اعتقادياً، فهو يشمل أيضاً جميع من يتصف بصفاتهم، وكلٌّ على حسبه. والنفاق العملي والتلون لهما ضرر على الأمة أيضا.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي : أنْ يعملَ الإنسان عملاً ، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ ، فيتمّ له ذلك ، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره ، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه اهـ ("جامع العلوم والحكم" /ص 749/الحديث الثامن والأربعون/دار ابن رجب).
الباب التاسع والعشرون: ترخيص العلماء رحمهم الله لبعض تلونات
وقد رخّص العلماء رحمهم الله أن يصلح إنسانٌ ذات البين –إصلاحا مشروعاً- ، وإن سلك ما فيه نوع من التزيين المباح.
قال النووي رحمه الله: وَالْمُرَاد مَنْ يَأْتِي كُلّ طَائِفَة، وَيَظْهَر أَنَّهُ مِنْهُمْ وَمُخَالِف لِلْآخَرِينَ مُبْغِض، فَإِنْ أَتَى كُلّ طَائِفَة بِالْإِصْلَاحِ فَمَحْمُود. انتهى المراد. ("شرح مسلم" /8/ص207/تحت الحديث 2526/دار أحياء التراث).
وبعد أن ذكر قول النووي رحمه الله: (فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح ويؤيد هذه التفرقة رواية الأسماعيلي من طريق بن عمير عن الأعمش الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء اهـ ("فتح الباري" /تحت رقم 6058/مكتبة الصفا).
وذكره أيضا المباركفوري رحمه الله في "تحفة الأحوذي" (كتاب البر والصلة/باب ما جاء في ذي الوجهين/تحت رقم 2025 / دار الحديث).
كذلك التلون –كما عبّر بذلك بعض العلماء- في الملابس والمراكب المباحة، فلا بأس، وإن كان تعبير ذلك بالتنوع أحبّ إلينا. قال ابن حزم رحمه الله: التلّون المذموم هو التنقّل من زيّ متكلّف لا معنى له، إلى زي آخر مثله في التكلف، وفي أنه لا معنى له، ومن حال لا معنى لها، إلى حال لا معنى لها بلا سبب يوجب ذلك. وأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة، وترك التزيد مما لا يحتاج إليه، فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة في كل خير، والذي أثنى الله تعالى على خلقه، والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها، وأبعده عن كل نقص- يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خفّ، ولا نعل، ولا قلنسوة، ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، وقد يلبس الوشي من الحبرات إذا حضره، ولا يتكلف ما لا يحتاج إليه، ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجده عما لا يجد، ومرّة يمشي راجلاً حافياً، ومرّة يلبس الخفّ، ويركب البغلة الرائعة الشهباء، ومرة يركب الفرس عريا، ومرة يركب الناقة، ومرّة يركب حماراً، ويردف عليه بعض أصحابه إلخ ("مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق" (الأخلاق والسير...) / لابن حزم/مع تحقيق الشيخ علي الرازحي/ص77 /دار العقيدة).
الباب الثلاثون: نداء للمتلونين
قد بذلنا –بحول الله وقوته- البيانَ على صفاء صراط الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان.
وقد وضّحنا –بتوفيق الله وتيسيره- سبل الكفار والشيطان، والمنافقين والحزبيين المتلوّثة بالتلونات، وهي من أمارات تمكّن خصلة الكذب في قلوب أربابها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وَلِهَذَا تَرَى الصَّادِقَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَالْكَاذِبَ مِنْ أَمْهَنِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ تَلَوُّناً، وَأَقَلِّهِمْ ثَبَاتًا ، إلخ )"إعلام الموقعين عن رب العالمين" / ضرب المثل للكافر/ج 1 / ص 237/دار الحديث).
فنقول للمتلوّنين : اتقوا الله وتوبوا إلى الله من تلك الخصلة المذمومة قبل ذهاب أوان التوبة.
قال تعالى: ]اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ[ [الشورى/47، 48].
وقلنا لهم كما قال شاعر:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما.
("المعجم المفصّل في شواهد اللغة العربية"/ د. إميل بديع يعقوب/7/ص92/دار الكتب العلمية)
قال جلال الدين محمد بن سعد الدين القزويني رحمه الله: فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سرِّه العلنَ اهـ. ("الإيضاح في علوم البلاغة" - ج 1 / ص 151/المكتبة الشاملة).
وقال شيخنا أبو بلال الحضرمي حفظه الله: المعنى: انتقل عن هذا المكان ولا تقيمن فيه، وإلا، أي: إن لم ترحل فكن على ما يكون عليه المسلم من استواء الحالين في السر والجهر فإن عدم ذلك شأن المنافق. اهـ ("موصل الطلاب" / للأزهري / بتحقيق شيخنا أبي بلال حفظه الله تعليقه عليه/ ص80/دار الآثار).
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى من كتابته
الفقير إلى الله أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
بتاريخ 7 شعبان 1430 هـ
بدماج اليمن حرسها الله.
فهرس
مقدمة الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله ورعاه 2
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله 19
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله الثاني 22
* حديث «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا». 23
* حديث «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ». 24
* سرد بعض أوصاف المنافقين –وفيها أدلة على أن التلوّن لم ينفكّ عنهم أبداً- 36
* ومن تلونات الحزبين: البراءة السياسية 49
الباب الرابع عشر: بعض أهل الخذلان يتلونون 51
* تلونات إخوة يوسف عليه السلام قبل التوبة 52
* عدم صحة قصة البائسة مع القاضي شريح 53
* تلون امرأة العزيز قبل التوبة 54
* الحديث المرفوع: «إياكم والتلون في الدين» لم يثبت 58
* عدم تلوّن أصحاب الكهف 59
* ثبات سحرة فرعون على الحق بعد العلم 59
* أثر الإمام الأوزاعي رحمه الله 71
* حديث «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» 73
* معنى حديث المتشبع 79
* فأما التلون بسبب التأثر بشبهة: 82
* أثر إبراهيم النخعي رحمه الله 84
* فائدة يتهاون فيها كثير من الناس: 86
* وأما التلون بسبب التأثر ببلاء: 87
* فأما الصبر والعافية 88
* وأما العافية واليقين 89
* وأما الصبر واليقين 89
* أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما 92
* خصال اليربوع: 97
* حديث « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » ثابت 99
* خصال الحرباء: 100
* من أضرار التلونات المتعلقة بفاعلها: 101
* وما يتوقع من أضرار التلونات المتعلقة بغير فاعلها وبالمجتمع: 104
* بعض الآثار في هذا الباب: 110
& & & & &
وتعداد وجوه المندسّين
(الطبعة الثانية)
أذن بنشرها
فضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
حفظه الله ورعاه
مع تقديم
الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني
حفظه الله ورعاه
بمراجعة
مجموعة من أفاضل مشايخ دار الحديث بدماج حفظه الله ورعاهم
كتبها:
الفقير إلى الله أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
الجاوي القدسي آل الطوري عفا الله عنه
مقدمة الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله ورعاه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل للحق أعواناً وأنصاراً يدحض بهم الباطل ويزهقه، قال تعالى: ]بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ[ [الأنبياء/18]، وجعل أهل السنة والجماعة منصورين، قاهرين لأعدائهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون المنافقون، فأتم الله به النعمة، وأكمل به الدين، وجعل خير الهدي هديه، وخير الطرق طريقه، فمن خالف ذلك ضلّ عن طريق الله المستقيم.
فكان واجباً على العلماء وطلبة العلم أن يبينوا للناس هذا الطريق، وأن يحذّروهم عن كل ما يصدّهم عن سبيل الله المستقيم. وممن قام بهذا الواجب أخونا المفضال الداعي إلى الله على بصيرة() أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي في كتابه المفيد: «التلون في الدين وتعداد وجوه المندسين». فقد اطلعت على كتابه المذكور، وقرأت كثيرا منه، فوجدته بذل فيه حهدا عظيما يدل على غيرته على السنة، وعلى استفادته في العلم النافع. فنسأل الله عز وجل أن ينفع به وبكتابه الإسلامَ والمسلمين. ونسأل الله عز وجل أن يصلح إخواننا الذين انخدعوا بالمتلوّنين والمتحزّبين، وأن يردّهم إلى الحق ردّاً جميلاً.
كتبه أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني
يوم السبت 21 شوال 1430 هـ
في دار الحديث بدماج
حرسها الله
مقدمة المؤلف للطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
أما بعد:
وقد يسر الله لطبع هذا الكتاب أول مرة بعونه وقوته، ثم بنصرة بعض فضلاء السلفيين . وقد راجعته مرة أخرى فوجدت –كما هو شأن جميع مؤلفات الناس- بعض الأخطاء، وبعض ما رأيته يحتاج شيء من التصليح، فصلّحته بقدر ما أستطيع. فمن وجد بقية الأخطاء فليفدنا مشكورا مأجورا إن شاء الله.
وبالله التوفيق.
كتبه أبو فيروز عبد الرحمن الإندنيسي القدسي عفا الله عنه
بدار الحديث بدماج
تاريخ 7 ربيع الثاني 1431 هـ.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70 -71].
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(وجوب التمسك بالتوحيد والسنة)
فإن الله تعالى قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وجعل في عباده فطرة وعقلاً لمعرفة أنه عز وجل مستحق للعبادة لا شريك له.
قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ... أن رسل الله وأنبياءه ـ من أولهم إلى آخرهم ـ بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: ]يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[، ]أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ[، ]أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ[ وهذه الذي تضمنه قول "لا إله إلا الله". فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها : هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه... –إلى قوله:- فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعا:
اعتقادية: وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الألوهية.
ومنها اللفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر. ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة. ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.
ومالية، كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها اهـ. ("تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد" / ص 45-52/دار ابن حزم).
قلت -وفقني الله-: ومن هذه العبادة الأمر بالصدق، والصدع بالحق، وليكونوا مع الصادقين.
قال تعالى: ]فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[ [الحجر/94، 95]
قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[ [التوبة/119]،
وأثنى على الصادقين: ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[ [الأحزاب/23]،
قال تعالى: ]لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا[ [الأحزاب/24]،
وقال تعالى: ]قَالَ الله هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [المائدة/119]
وذم الله تعالى سبل المنافقين وخطواتهم، وكشف عوارهم في آيات كثيرة متعددة.
(اندساس الأعداء في صفوف الموحّدين السلفيين)
ثم إن المسلمين قد ابتلوا بأناس يبطنون الحقد، والغيظ، والحسد على المسلمين، ويتربصون بهم الدوائر. وهم يظهرون محبتهم ومطاوعتهم وموافقتهم، يظهرون أنهم منهم، وما هم منهم ولكنهم قوم يفرقون. استخدموا الكذب، والتستر، والتلون، والغدر، والتلبيس، والتدليس، وغير ذلك من أنواع طرق النفاق.
بعضهم كفار يتظاهرون بالإسلام مكرا بالمسلمين.
وبعضهم مسلمون فاسدو الاعتقاد يتظاهرون بالعقيدة الصحيحة مكرا بالموحّدين.
وبعضهم من أهل التوحيد وافقوا أهل السنة في كثير من الإمور العقدية، ولكنهم أبطنوا بعض الأصول الفاسدة مكرا بالسلفيين.
وكلهم اجتمعوا في صفة واحدة وهي: التلون ونصرة بعض المبطلين، إما سرّاً وإما علانية.
وقد أبان الله تعالى في كتابه الكريم مكر هؤلاء وأنه تعالى سيخيّب سعيهم، مصداقاً لقوله تعالى: ]يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[ [التوبة/32، 33]
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبح فعلهم، تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم». الحديث (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب وجوب الوفاء ببيعة/1844/دار ابن الجوزي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).
ولم يزل العلماءُ يحذرون الأمةَ منهم على ممر التاريخ. وذلك كله من باب قول الله تعالى: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله [ [آل عمران/110]
وقول جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله: بَايَعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. (أخرجه البخارى (كتاب المواقيت/باب البيعة على إقامة الصلاة/57) ومسلم (كتاب الإيمان/باب بيان أن الدين النصيحة/56/دار ابن الجوزي))
وإني –ولله الحمد على توفيقه- لما رأيت كثرة التلونات عند المنافقين، والمبتدعة، والحزبيين، -يغترّ بذلك كثير من إخواننا السلفيين خصوصاً، وإخواننا المسلمين عموماً- أحببت المشاركة في تحذير المسلمين من قبح التلونات في الدين، ومن أربابها، عسى الله أن ينفعني وإياهم بها، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
وهناك أناس ليسوا من أهل المكر ولكنهم تلوّنوا في أمور دينهم، إما لعدم الصبر على البلاء، وإما لقلة البصيرة عند سماع الشبهات. هذا الصنف أيضاً يحتاج إلى التنبيه.
وأعتذر من القراء الكرام أنني طوّلت النفس في البحوث عن ثبوت بعض الأحاديث والآثار. وقد نصحني أحد الفضلاء الكرام –جزاه الله خيراً- على وضعها في آخر الكتاب لأن هذا الكتاب كتاب الردود، فاقتضى ذلك تسهيلَ القراءة، فلا تنبغي أن تُخلَّل بكثرة البحوث في طرق الأحاديث، والآثار، وأحوال رجال الأسانيد. هذه النصيحة عندي طيبة، ولكن بعض الفضلاء الناصحين الآخرين -حفظهم الله- أقنعوني على إبقاء الكتاب كما كان، لأن طلاب العلم الجادّين يحبّون ذلك. وهذا الكتاب أكثر مَن يستفيد منه هم طلبة العلم. فأعتذر من الجميع، وأشكر لهم على بذلهم لي النصح والإرشاد، وحرصهم على انتفاع الناس من هذا الكتاب، وسأضع تلك البحوث في الحواشي، والله الموفّق.
كلمة الشكر والثناء
قال ربنا عز وجل: ]وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[ [إبراهيم/34]
ومن نعمة الله عليّ أن وفقني لطلب العلم بدار الحديث بدماج، بين يدي شيخنا الوالد الناصح الأمين المحدث أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله ورعاه-، فرباني على عقيدة السلف، وفقههم، وعلومهم، وآدابهم عموماً، ثم ألقى اقتراحاً للبحث في باب ((ذي الوجهين)) خصوصاً، فلما عرضت عليه –رعاه الله- هذه الرسالة اعتذر –حفظه الله- مني في النظر فيها لشدة شغله –أعانه الله- ولا سيما نحن في أيام هجومات كفرة الروافض البغاة. وقال حفظه الله ورعاه: إذا قد نظر فيها الشيخ أبو عمرو –يعني الشيخ عبد الكريم الحجوري العمري حفظه الله- كفى اهـ.
وشيخنا يحيى حفظه الله كما قال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: ...الشيخ الفاضل، التقي، الزاهد، المحدث، الفقيه أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري ‑حفظه الله ‑ ... والأخ الشيخ يحيى هو ذلك الرجل المحبوب لدى إخوانه لما يرون فيه من حسن الاعتقاد، ومحبة السنة، وبغض الحزبية المساخة، ونفع إخوانه بالفتاوى التي تعتمد على الدليل، إلخ (مقدمة "ضياء السالكين" ص5/دار الآثار).
فثناء العلماء عليه -حفظه الله ورعاه- معروف، وكتبه معروفة، ونسأل الله أن يجعل قلمه كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: القلم الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل. وهذا القلم في الأفلاك نظير الملوك في الأنام، وأصحابُه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل وعدوّ لكل مخالف للرسل. فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن اهـ. ("التبيان في أقسام القرآن" /ص 198/مكتبة أولاد الشيخ للتراث).
وهناك مجموعة من مشايخ() دار الحديث بدماج الذين يتواضعون لله، ويصبرون، ويبذلون جهدهم في مراجعة هذه الرسالة مع التدقيق، والتنبيهات المهمة، والنصائح الثمينة، والإضافات النفيسة، والفوائد العظيمة، وغير ذلك من الحسنات. وهم –على ترتيب الأحرف الهجائية-:
1- شيخنا أبو محمد عبد الحميد بن يحيى الزعكري الحجوري -حفظه الله ورعاه-
قال عنه الإمام مقبل الوادعي رحمه الله في ترجمته: يحفظ القرآن اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 178/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (52) ص48/دار الآثار: ثبت يحفظ القرآن، وصحيح مسلم، وباحث له "فتح المنان في الصحيح المسند من أحاديث الإيمان"، "البيان الحسن لما أحياه الشيخ مقبل الوادعي من السنن"، ومشارك في تحقيق مجلد من "المحلى" لابن حزم اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله : هو من مشايخ الدار، وهو من المدرسين، وله مؤلفات نافعة، ونفاح عن السنة وأهلها، وله جهود يشكر عليها، أرسله شيخنا يحيى حفظه الله إلى تنزانيا مع أخيه الشيخ الفاضل أبي معاذ حسين الحطيبي اليافعي ونعم الصاحب سفرا وحضرا. ومن كتب أبي محمد "الخيانة الدعوية" ... وله: ، "التبيين لخطأ من حصر أسماء الله في تسعة وتسعين"، "تحذير العقال من فتنة المسيح الدجال"، "تحقيق الإيمان لابن أبي شيبة"، "تحقيق الإيمان لأبي عبيد"،"فتح الحميد المجيد في الراجح في خطبة العيد"، "النصيحة والبيان لما عليه حزب الإخوان في أكناف دور القرآن"، "الديمقراطية والإخوان المسلمون". وله أعمال أخرى ما يقارب تسعة عشر مؤلفا، ومنها ما هو تحت الطبع، ومنها ما هو يعمل فيه، فجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين اهـ. (كتاب "الرد الشرعي"/ لشيخنا طارق بن محمد البعداني /ص83/تحت الطبع).
2- شيخنا أبو عمرو عبد كريم بن أحمد بن حسين العمري الحجوري -حفظه الله ورعاه-
قال عنه الإمام مقبل رحمه الله: يحفظ القرآن، و"اللؤلؤ والمرجان"، داعية إلى الله اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 220/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" ص49/دار الآثار: سني، ثبت، مدرس، وخطيب، يحفظ القرآن، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، له "عقود الجمان على اللؤلؤ والمرجان"، و"تلبية الأماني في أفراد البخاري"، و"نسائج الديباج في أفراد مسلم بن الحجاج"، و"شرح قطف الثمر لصديق حسن خان"، ورسائل أخرى اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: يرسله شيخنا يحيى حفظه الله إلى دول شتى للدعوة إلى الله، منها الصومال، والهند، وغيرهما. ويصحبه الشيخ الفاضل زايد الوصابي، ونعم الصاحب. فجزاهما الله خيرا. وله كتب مؤلفة لست بصدد سردها ... إلخ (كتاب "الرد الشرعي" /لشيخنا طارق بن محمد البعداني /ص82/تحت الطبع)
3- وشيخنا القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن سعيد الشميري -حفظه الله ورعاه-،
قال عنه الإمام مقبل رحمه الله: من حفظة القرآن، وذوي الأخلاق الفاضلة اهـ. ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 231/دار الآثار).
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (75) ص55/دار الآثار: يحفظ القرآن وعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، سني، فاضل مدرس، داع إلى الله، له بحث في الفرائض بعنوان : الفائض، وبحث في الأصول بعنوان: الإكراه، وله جمع مشكلات الحافظ ابن حجر في الفتح ولم تكمل بعد اهـ.
4- وشيخنا أبو حمزة محمد بن الحسين العمودي الحضرمي -حفظه الله ورعاه-
قال عنه شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (100) ص62/دار الآثار: حافظ للقرآن، و"بلوغ المرام"، شارك في تحقيق مجلد من "المحلى" لابن حزم، وله رد على محمد وصالح الوادعيين اهـ.
قال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: ونعم الشيخ، يعجبني أدبه وسمته وتواضعه، وله جهود في الدفاع عن السنة وأهلها، وله ردود على أصحاب الحزب الجديد أصحاب حزب ابني مرعي وشلتهما الباغية، وهو ناقد بصير جزاه الله خيرا. وله رسائل أخرى في الرد على الوصابي (منها "الكاوي لشطحات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الوصابي")، والجابري، و"الواقفة حزبية مغلفة"، و"تحفة الجليس الأنيس في النهي عن التشبه بالحزبي الخسيس"، و"شرارة اللهب على من أصيب بداء الكلب"، "الدعوة السلفية في اليمن مقبرة الحزبيين فليعلمن"، و"سلسلة الطليعة"، و"الحزبية الجديدة وليدة السرورية"، و"رقية المرضى من حزبية عبد الرحمن العدني" ورسائل أخرى. وقد طلب منه شيخنا يحيى حفظه الله أن يجمع في الكتب المفتراة على مؤلّفيها، وقال: هذا العمل يحتاج إلى دكتوراة واسعة، فهو جدير بها إن شاء الله، نسأل الله لنا وله التوفيق اهـ. (كتاب "الرد الشرعي" ص83-84/تحت الطبع)
5- وشيخنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني-حفظه الله ورعاه-،
قال عنه الإمام مقبل الوادعي رحمه الله في "ترجمته" برقم (326) ص57/دار الآثار: يحفظ القرآن، و"بلوغ المرام" و"عمدة الأحكام" و"رياض الصالحين"، و"صحيح مسلم" اهـ.
وقال شيخنا يحيى حفظه الله في "الطبقات" برقم (99) ص62/دار الآثار: ثبت، يطلب العلم بأدب وسكينة، يحفظ القرآن، و"صحيح مسلم"، و"الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين"، وباحث، له تحقيق الجزء التاسع من "فتح الباري" ورسالة "فتح المنان فبما صح من منسوخ القرآن"، ورسالة في الصيام اهـ.
وقال شيخنا طارق البعداني حفظه الله: وهو يعتبر من مشايخ الدار ومن أبرز طلاب الدار حتى إن شيخنا يحيى حفظه الله تعالى قال: إن شاء الله إذا خرجنا دعوة يخلفني محمد بن حزام. انتهى كلام الشيخ. وهو أهل لذلك، وهو من الذين فتح الله عليهم في الحفظ، والقرآن، والفقه، والمصطلح، والعقيدة، والحديث، وفنون أخرى، والثبات على المنهج السلفي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وله شروحات، منها: شرح "بلوغ المرام" (فتح العلام دراسة حديثية وفقهية لبلوغ المرام)، وشرحه لهذا الكتاب يفوق كثيراً من الشروح الموجودة في الساحة، فجزاه الله خيرا ونفع به. وله شرح على "لامية شيخ الإسلام ابن تيمية" مطبوع. وله "إتحاف الأنام في أحكام الصيام" مطبوع. وله "فتح المنان فيما صح من منسوخ القرآن" مطبوع. وهو ممن شارك في تحقيق "فتح الباري"، وله تحقيق على "المغني" لابن قدامة تحت الطبع، وله "المنتقى من الكافية الشافية لابن القيم" تحت الطبع، و"شرح فتح المجيد" تحت الطبع، و"منكرات شائعة يجب الحذر منها"، وله أعمال أخرى. نسأل الله لنا وله التوفيق والسداد. (كتاب "الرد الشرعي" ص83/تحت الطبع)
قال المصنف وفقه الله: وأشكر لشيخنا أبي عبد الله طارق بن محمد الخياط البعداني حفظه الله ورعاه الذي شجعني وحثّني على مواصلة المشاركة في توزيع الملاطم على المبطلين، وإن كنا ما زلنا في هذا الظرف –قلقلة البغاة الروافض الملحدين-.
وشيخنا طارق هذا كما قال عنه الإمام الوادعي رحمه الله: يحفظ القرآن ومستفيد في العقيدة اهـ ("ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل" رقم 144/دار الآثار).
وقال عنه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: يحفظ القرآن، وخطيب، ومدرس، وثبت، فاضل، وقد جمع شرحنا على الطحاوية اهـ. ("الطبقات"/الطبقة الأولى/ص (48)/دار الآثار).
وبعد أن أثنى شيخنا العلامة يحيى الحجوري حفظه الله على كتاب "تطهير الاعتقاد" للإمام الصنعاني رحمه الله ثناء عظيماً قال حفظه الله: ... كما وفّق أهل المراكز العلمية والدعوة السنية للعناية به عناية طيبة. وكان منها ما قام به أخونا الفاضل الداعي إلى الله عز وجل الشيخ طارق بن محمد الخياط البعداني حفظه الله من التعاليق الجياد المستفادة من كتب الشأن، فضار أحسن ما رأيت من الشروح المختصرة على «تطهير الاعتقاد». فجزى الله أخانا طارقا خيرا ونفع به اهـ. (مقدمة الشيخ يحيى حفظه الله على "التعليقات الجياد على كتاب تطهير الاعتقاد"/ للشيخ طارق بن محمد البعداني / ص2).
قال المصنف وفقه الله: فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، ونسأل الله أن يجعلهم ممن قال فيهم رب العزة: ]وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [آل عمران/104].
ومن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال /(1920)/دار ابن الجوزي) عن ثوبان، والبخاري (كتاب الاعتصام/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال/ (7311)/دار الكتب العلمية) نحوه عن المغيرة بن شعبة، وبعض الصحابة الآخرين رضي الله عنهم أجمعين).
ثم أشكر أخانا الفاضل المستفيد أبا تراب سيف بن حضر الإندونيسي حفظه الله، الذي قال فيه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: حافظ القرآن، ورياض الصالحين، مدرس له بحث في مساكن السلف ومبانيهم، ومشارك لبعض إخوانه الإندونيسيين في إخراج زوائد مشكل الآثار ومعاني الآثار للطحاوي على كتب الستة اهـ. ("الطبقات"/الطبقات الأولى/ص75/دار الآثار).
قال المصنف سدده الله: ولأخينا أبي تراب -حفظه الله- كتب منها: "أريج الأزهار"، و"الفرائض"، و"فتح المجيد في أحكام التجويد"، و"الزهد والورع لشيخ الإسلام"، "تحقيق السبل السوية"، و"تحقيق رياض الجنة"، و"النبع في القراءة السبع"، و"الملخص النافع برواية ورش عن نافع"، و"اكتب كتابتي"، و"شرح الأصول الثلاثة"، و"تعليقات على شرح لمعة الاعتقاد"، و"تيسير الإله في أدلة لا إله إلا الله"، و"الحجج والاختيارات في القراءة للطبري"، و"البلغة إلى شواهد قراءات في كتب اللغة"، و"مساكن السلف ومبانيهم"، وغير ذلك من الرسائل.
وغيره من طلبة العلم –منهم أبو صالح ذكوان، وأبو عبد الله محمد بن عمر، وأبو حذيفة حسن، وأبو عبد الرحمن إرحم الإندونيسيين- الذين بذلوا الإرشاد، والتشجيع، والنصرة، والتسلية للمصنف مع شغلهم بالحفظ والمراجعة وتحصيل العلم. أحسبهم كذلك، والله حسيبهم، ولا أزكي على الله أحدا. نسأل الله أن يحفظهم جميعاً، ويرعاهم، ويتقبل منهم، ويرفع درجاتهم في الدارين، ويجزيهم أحسن الجزاء وأجزله.
ذكرت هذا الثناء والشكر والدعاء ردًّا على طعونات الحزبيين فيهم، وافتراءات المميعين عليهم.
الباب الأول: وجوب بيان أحوال المنافقين والمبتدعة وأن ذلك جهاد في سبيل الله
قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ في موضعين: في سورة التوبة/73، وفي سورة التحريم/9، كما سيأتي ذكرها. وهاتان الآيتان محكمتان في جهاد الكفار والمنافقين إلى يوم القيامة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض أهل البدع والعناد: فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن، وما أحبّ جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن، وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان، والجهاد بالحجة واللسان مقدّم على الجهاد بالسيف والسنان. ولهذا أمر الله في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذاراً وتعذيراً، فقال تعالى: ]فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا[ (الفرقان/ 52).
وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير، فقال تعالى: ]يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير[ (التحريم 9).
فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق إلخ. ("القصيدة النونية" /1/ص8/مقدمة/شرح الهراس/دار الكتب العلمية)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: (الرجل يصوم، ويصلى، ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلم فى أهل البدع؟) فقال: (إذا قام، وصلى، واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم فى أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل)، فبيّن أن نفع هذا عام للمسلمين فى دينهم من جنس الجهاد فى سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله، ودينه، ومنهاجه، وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 231-232/إحالة/دار الوفاء).
وقال أيضا رحمه الله: وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 3 / ص 358/إحالة/دار الوفاء)
وقال أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: (الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد) اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 4 / ص 13/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله: سمعت يحيى بن معين يقول: (الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله). فقلت ليحيى: (الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه !؟) قال: (نعم، بكثير) اهـ ("سير أعلام النبلاء" /10 / ص 518/ط. مؤسسة الرسالة).
تنبيه: أدخل الإمام الذهبي رحمه الله هذا الأثر في ترجمة يحيى بن يحيى رحمه الله، والله أعلم.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض المبتدعة: فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-: «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله»، وقال: «أهجهم أو هاجهم وجبريل معك»، وقال: «اللهم أيده بروح القدس ما دام ينافح عن رسولك»، وقال عن هجائه لهم: «والذي نفسي بيده لهو أشد فيهم من النبل» وكيف لا يكون بيان ذلك من الجهاد في سبيل الله؟ اهـ ("الصواعق المرسلة" /1/ ص114/الفصل العاشر: في أن التأويل شر من التعطيل/ط. مكتبة الرشد).
وقال الإمام عبد الرحمن بن ناصر آل السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾ [العنكبوت/69]
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ وهم الذين هاجروا في سبيل الله، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالعون والنصر والهداية. دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين اهـ. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص763/دار إحياء التراث العربي)
وقال الإمام الوادعي رحمه الله: فإن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله، بل ومن الجهاد في سبيل الله بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والذّب عنها، وكشف عوار أهل البدع والملحدين والتحذير منهم، كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم: ]بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق[.
وجزى الله أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون لأهل البدع، حتى فضّل بعضهم الرّدّ على أهل البدع على الجهاد في سبيل الله اهـ. (مقدمة"ردود أهل العلم"/للإمام الوادعي رحمه الله/ص5-6/ط. دار الآثار).
وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله: وقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على ذلك: أن من ردّ على أصحاب البدع قاصداً بذلك الذود عن الدين، وتنقيته مما ليس منه أن ذلك يعد جهادا في سبيل الله، وحماية لشرعه، ... إلخ ("الرد المحبر" ص138 للشيخ أحمد النجمي رحمه الله/ط. دار المنهاج).
وقال فضيلة الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في شأن السلف: فهموا منها المواقف السليمة والصحيحة من أهل البدع والضلال، ودَوَّنوا ذلك في كتبهم، وقالوا: (إن المبتدع لا غيبة له، وأنه يجب التحذير منه، وأن محاربة أهل البدع جهاد، وهو أفضل من الضرب بالسيوف) اهـ. ("الموقف الصحيح" ص23/للشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/دار الإمام أحمد).
وقال أيضا حفظه الله: ... وأن الرد على أهل البدع والتحذير منهم جهاد في سبيل الله اهـ. ("نقد الرجال" /للشيخ ربيع المدخلي حفظه الله /ص137/ دار المنهاج)
وقال شيخنا المحدث الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله في شأن جهاد الكفار والمنافقين وغيرهم: ما أشبه المجاهد بلسانه بالمجاهد بسنانه، بل المجاهد بسنانه أشدّ اهـ (سجلتْ في 27 جمادى الأولى 1430 هـ).
وقال فضيلة الشيخ سليم بن عيد الهلالي حفظه الله: أما بعد: فإن الرد على أهل الأهواء باب شريف من أبواب الجهاد، وكيف لا يكون كذلك وأهله في موقع الحراسة لهذا الدين: يذبون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، قد تسنموا غارب الحق، وامتشقوا حسام العلم، ليبقى الإسلام صافيا نقيا يتلألأ بهالة الرسالة التي أنزلت على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. ومن استقرأ حالهم في حلهم وترحالهم، وجد أنهم قد رفعوا قواعد الرد على المخالف على أصل النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم اهـ. (في مقدمته على "نقد الرجال" ص13/ دار المنهاج)
فقال المصنف –عفى الله عنه-: لقد واللهِ صدقوا ونصحوا. إن جهاد المنافقين والمبتدعة أعظم من قتال الكفار بالسيف. لقد رأينا بأعيننا أن كفرة الروافض البغاة لما هجموا على هذا البلد وركزوا على هذا المعهد قام المسلمون كبارهم وصغارهم بجميع قوَّتهم –مع الدولة اليمنية والسعودية- بمقاومتهم. ولكن عند هجومات الحزبيين وأمثلهم من المبتدعة الجدد قلّ مَن تفطّن بهم. بل كلهم عجزوا عن معرفة شبهاتهم وتلبيساتهم إلا بعض علماء السنة وطائفة من طلبة العلم وغيرهم ممن أبصرهم الله ورزقهم فرقاناً، ولا سيما نحن في أواخر الزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم»()
فتجددت الأهواء والشرور وأساليبها، كما قال فضيلة الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: .. لأن أهل البدع الآن لهم أساليب، ولهم نشاطات، ولهم طرق - يمكن ماكان يعرفها الشياطين في الوقت الماضي- فعرفوا الآن هذه الأساليب وهذه الطرق وكيف يخدعون الناس اهـ. ("الموقف الصحيح" ص18/دار الإمام أحمد).
الباب الثاني: بين تعريفي التلون والنفاق
* تعريف التلون:
قال ابن المنظور رحمه الله: وقد تَلَوَّنَ ولَوَّنَ ولَوَّنه والأَلْوانُ الضُّروبُ واللَّوْنُ النوع وفلان مُتَلَوِّنٌ إذا كان لا يَثْبُتُ على خُلُقٍ واحد. ("لسان العرب"/8 / ص 166/مادة ل-و-ن/دار الحديث)
هكذا ذكره أيضا الفيروز آبادي في "القاموس المحيط" (ص1135/مادة ل-و-ن/دار إحياء التراث)، ومحمد بن أبي بكر الرازي في "المختار الصحاح" (ص314/مادة ل-و-ن/دار الغد الجديد).
ذكر ابن دريد : تلوّن فلان علينا، إذا اختلفت أخلاقُه. قال الشاعر: فما تدومُ على حالٍ تكون بها ... كما تَلَوّن في أثوابها الغُولُ اهـ. ("جمهرة اللغة" /2 /ص 276/باب اللام والنون/دار الكتب العلمية)
وقال أبو حيان رحمه الله: اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان الطعام: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه: يتلوّن تلوّن الحرباء، وذلك أن الحرباء، لصفاء جسمها، أيّ لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون. اهـ ("تفسير البحر المحيط" /تفسير سورة البقرة: 69/مكتبة ابن تيمية).
وقال أبو القاسم الراغب الأصفهاني رحمه الله: لون: اللون معروف وينطوى على الأبيض والأسود وما يركب منهما، ويقال: (تلون) إذا اكتسى لوناً غير اللون الذى كان له، ...-إلى قوله:- ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع، يقال: فلان أتى بالألوان من الأحاديث، وتناول كذا ألوانا من الطعام. اهـ ("مفردات غريب القرآن" /ص 460 /مادة ل-و-ن/المكتبة التوفيقية).
وقال فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله: ونحن نقول لهم: إن الله حرم التلون، وهو الظهور بوجهين. وذمّ النبي –صلى الله عليه وسلّم- ذا الوجهين ... إلخ ("دحر افتراءات أهل الزيغ"/طعونات المالكي الشنيعة/ص76/دار المنهاج).
فالتلون الذي نحن بصدده هو التلون في الدين، وهو عدم ثبات شخص على خلق واحد، وحال واحد. ولسنا نتكلم في التلون في الأطعمة، أو الملابس، أو المراكب، أو نحو ذلك.
* وأما النفاق:
قال ابن الأثير رحمه الله: نافقَ يُنَافق مُنافَقةً ونِفاقا وهو مأخوذ من النَّافِقاء : أحَد جِحَرة اليَرْبوع إذا طُلِب من واحِدٍ هرَب إلى الآخَر وخرَج منه. وقيل: هو من النَّفَق: وهو السَّرَب الذي يُسْتَتَر فيهِ لِسَتْرِه كُفْرَه. ("النهاية في غريب الأثر" /5/ ص 82/مادة ن-ف-ق/المكتبة العصرية).
قال ابن المنظور رحمه الله: قال أبو عبيد: سمي المنافقُ مُنافقاً للنَّفَق وهو السَّرَب في الأَرض وقيل إنما سمي مُنافقاً لأنه نافَقَ كاليربوع وهو دخوله نافقاءه يقال قد نفق به ونافَقَ وله جحر آخر يقال له القاصِعاء فإذا طلِبَ قَصَّع فخرج من القاصِعاء فهو يدخل في النافِقاء ويخرج من القاصِعاء أو يدخل في القاصِعاء ويخرج من النافِقاء فيقال هكذا يفعل المُنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه. الجوهري: والنافِقاء إحدى جِحَرةَ اليَرْبوع يكتمها ويُظْهر غيرها وهو موضع يرققه فإذا أُتِيَ من قِبَلِ القاصِعاء ضرب النافِقاء برأْسه فانْتَفَق أَي خرج والجمع النَّوَافِقُ. اهـ ("لسان العرب" /8/ص657 /مادة ن-ف-ق /دار الحديث).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: ولما تقرَّر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّ النفاق هو اختلافُ السرِّ والعلانية خشي بعضهم على نفسه أنْ يكونَ إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقتُه وخشوعه عندَ سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أنْ يكونَ ذلك منه نفاقاً، كما في "صحيح مسلم"() عن حنظلة الأسيدي أنَّه مرَّ بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قالَ : نافق حنظلةُ يا أبا بكر، نكون عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّرُنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عين، فإذا رجعنا، عافَسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيراً، قالَ أبو بكر: فوالله إنّا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ : «ما لك يا حَنْظَلة؟» قال: نافق حنظلة يا رسولَ الله، وذكر له مثلَ ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تَدُومونَ على الحال التي تقومون بها من عندي، لصَافَحَتكُم الملائكة في مجالسكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً». ("جامع العلوم والحكم" - الحديث الثامن والأربعون/ص 750/ط. دار ابن رجب)
* بين التلون والنفاق
فبالتأمل إلى تعريف التلون والنفاق، علمنا أن معظم التلونات في الدين من صور النفاق. ذلك لأن معظمها يتضمن إظهار ما يخالف اعتقاد الباطن، فهذا هو النفاق.
قال الله تعالى: ]يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ[ [آل عمران/154]
وقال تعالى: ]وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ[ [آل عمران/167].
قال ابن حجر رحمه الله في قصة الإفك: قَوْله: (فَإِنَّك مُنَافِق تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ) أَطْلَقَ أُسَيْد ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ عَنْ الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : (فَإِنَّك مُنَافِق) أَيْ تَصْنَع صَنِيع الْمُنَافِقِينَ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (تُجَادِل عَنْ الْمُنَافِقِينَ) وَقَابَلَ قَوْله لِسَعْدِ بْن مُعَاذ : (كَذَبْت لَا تَقْتُلْهُ) بِقَوْلِهِ هُوَ: (كَذَبْت لَنَقْتُلَنَّهُ). وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : إِطْلَاق أُسَيْدٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ نِفَاق الْكُفْر وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْمَوَدَّة لِلْأَوْسِ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ضِدّ ذَلِكَ فَأَشْبَهَ حَال الْمُنَافِق لِأَنَّ حَقِيقَته إِظْهَار شَيْء وَإِخْفَاء غَيْره، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي تَرْك إِنْكَار النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. ("فتح الباري" ج 8 / ص 366/كتاب التفسير/مكتبة الصفا).
فالشاهد: أن إِظْهَار شَيْء وَإِخْفَاء غَيْره من النفاق.
وقال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن، قال: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وكان يقال: أسّ النفاق الذي يبنى عليه النفاق: الكذب. ("صفة النفاق وذم المنافقين"/ للفريابي / رقم 48/دار الآثار صنعاء).
وفي سنده ضعف من أجل هشام بن عمار رحمه الله. وله متابع كما عند الفريابي رحمه الله أيضاً في رقم (47) فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، قال: قال الحسن به.
وهو سند صحيح، جميع رواته ثقات معروفون. وأبو الأشهب هو جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري الخراز الاعمى، ثقة ("تهذيب التهذيب" – 1/ص303/من اسمه جعفر/الرسالة).
والأثر صححه شيخنا أبو عبد الرحمن جميل الصلوي حفظه الله في "فتح أرحم الراحمين" (ص39/دار التيسير).
وقال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذّ مقال على أسماعهم؛ أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سبّ المسلمين والمؤمنين ـ والعياذ بالله ـ لأنهم منافقون، و]هم العدو[، كما قال الله ـ عز وجل ـ ]فاحذرهم[. المنافق الذي يظهر لك خلاف ما يبطن. اهـ ("شرح رياض الصالحين" للعثيمين رحمه الله ج 12 / ص 53/دار السلام)
وهذا كله موجود في معظم صور التلون في الدين.
وهناك صورة أخرى من التلونات وهي: أن الرجل يعتقد اعتقادا صحيحا فسلك صراطا سويا في البداية، ثم أصابته فتنة –إما شبهة وإما غيرها- فتغير اعتقاده فحاد عن الطريق المستقيم، وأظهره أمام الناس. فمثل هذا أطلق عليه بعض السلف: تلونا في الدين، وإن لم يحصل اختلاف بين ظاهره وباطنه. وسيأتي الكلام على هذا النوع في الباب الثالث والعشرين إن شاء الله.
الباب الثالث: بعض الأدلة على أن التلون في الدين من النفاق، وفاعله من شرّ الناس
قال تعالى: ]وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[ [البقرة/14].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول [الله] تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: ]آمَنَّا[ أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ]وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ[ يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. –إلى قوله:- و ]شَيَاطِينِهِمْ[ يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين. –إلى قوله:- وقوله تعالى: ]قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ[ قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه() ]إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[ أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. ("تفسير القرآن العظيم" 1/ ص 182-183/دار طيبة).
وقال تعالى: }الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [النساء/141].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفر عليهم، وذهاب ملّتهم ]فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله[ أي: نصرٌ وتأييدٌ وظَفَرٌ وغنيمةٌ ]قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ[ ؟ أي: يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ]وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ[ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ]قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ ؟ أي: ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم. اهـ ("تفسير القرآن العظيم"- ج 2 / ص 436/ط. دار طيبة)
وقال تعالى: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[ [النساء/143].
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[ يعني: المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك ]كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا[ الآية [البقرة: 20]. اهـ ("تفسير القرآن العظيم"/2 /ص439 /دار طيبة).
* وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه– قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: «تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الله ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما قيل في ذي الوجهين/6058/دار الكتب العلمية) واللفظ له، ومسلم (كتاب البر والصلة/باب ذم ذي الوجهين/2526/دار ابن الجوزي)).
وقال النووي رحمه الله: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ (إِنَّهُ مِنْ شِرَار النَّاس)، فَسَبَبه ظَاهِر لِأَنَّهُ نِفَاق مَحْض، وَكَذِب وَخِدَاع، وَتَحَيُّل عَلَى اِطِّلَاعه عَلَى أَسْرَار الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلّ طَائِفَة بِمَا يُرْضِيهَا، وَيَظْهَر لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا فِي خَيْر أَوْ شَرّ، وَهِيَ مُدَاهَنَة مُحَرَّمَة. ("شرح النووي على مسلم" - ج 8 / ص 138/دار إحياء التراث).
وقال ابن حجر رحمه الله: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالنَّاسِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ خَاصَّة، فَإِنَّ كُلّ طَائِفَة مِنْهُمَا مُجَانِبَة لِلْأُخْرَى ظَاهِرًا فَلَا يَتَمَكَّن مِنْ الِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَارهَا إِلَّا بِمَا ذُكِرَ مِنْ خِدَاعه الْفَرِيقَيْنِ لِيَطَّلِع عَلَى أَسْرَارهمْ فَهُوَ شَرّهمْ كُلّهمْ. وَالْأَوْلَى حَمْل النَّاس عَلَى عُمُومه فَهُوَ أَبْلَغ فِي الذَّمّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي شِهَاب عَنْ الْأَعْمَش بِلَفْظِ «مِنْ شَرّ خَلْق الله ذُو الْوَجْهَيْن». قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ شَرّ النَّاس لِأَنَّ حَاله حَال الْمُنَافِق، إِذْ هُوَ مُتَمَلِّق بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ ، مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاس اهـ. ("فتح الباري" /تحت رقم 6058/مكتبة الصفا)
وقال ملا علي القاري رحمه الله: (ذا الوجهين) أي بقصد الفساد الذي يأتي هؤلاء أي طائفة بوجه وهؤلاء بوجه أي بوجه آخر كالمنافقين والنمامين، وقد قال تعالى: ]مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ (النساء) اهـ المراد ("مرقاة المفاتيح" /كتاب الآداب/باب حفظ اللسان/رقم 4823/المكتبة التجارية).
* وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ: قَالَ أُنَاسٌ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا. (أخرجه البخارى/كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/7178/دار الكتب العلمية)
وقال ابن حجر رحمه الله: وَمِثْله لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن هَارُون عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد " وَعِنْده (مِنْ النِّفَاق) وَزَادَ : قَالَ عَاصِم: فَسَمِعَنِي أَخِي - يَعْنِي عُمَر - أُحَدِّث بِهَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: قَالَ أَبِي قَالَ اِبْن عُمَر: (عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَده عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد إِلَى قَوْله (نِفَاقًا)، قَالَ عَاصِم: فَحَدَّثَنِي أَخِي عَنْ أَبِي أَنَّ ابْن عُمَر قَالَ: (كُنَّا نَعُدّهُ نِفَاقًا عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَوَقَعَ فِي "الْأَطْرَاف" لِلْمِزِّيِّ مَا نَصّه: خ فِي الْأَحْكَام عَنْ أَبِي نُعَيْم عَنْ عَاصِم بْن مُحَمَّد بْن زَيْد عَنْ أَبِيهِ بِهِ: قَالَ وَرَوَاهُ مُعَاذ بْن مُعَاذ عَنْ عَاصِم، وَقَالَ فِي آخِره: فَحَدَّثْت بِهِ أَخِي عُمَر فَقَالَ: إِنَّ أَبَاك كَانَ يَزِيد فِيهِ: (فِي عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَمِنْ قَوْله: "وَقَالَ مُعَاذ" إِلَى آخِره : لَمْ يَذْكُرهُ أَبُو مَسْعُود، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَقَلَهُ مِنْ كِتَاب خَلَف، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْء مِنْ الرِّوَايَات الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا عَنْ الْفَرَبْرِيِّ وَلَا غَيْره عَنْ الْبُخَارِيّ، وَقَدْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَقِبَ الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبُخَارِيّ (عَلَى عَهْد رَسُول الله) . ("فتح الباري" /تحت رقم7179 /ط. مكتبة الصفا).
* وقال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء، قال: دخل نفر على عبد الله بن عمر من أهل العراق فوقعوا في يزيد بن معاوية فتناولوه، فقال لهم عبد الله: هذا قولكم لهم عندي، أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا: لا بل نمدحهم، ونثني عليهم، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا النفاق عندنا. ("صفة النفاق"/للفريابي/ رقم (65)/ دار الآثار صنعاء)
ورجال السند معروفون، وهو أثر صحيح، وقد صححه شيخنا جميل الصلوي حفظه الله في كتابه النفيس "فتح أرحم الراحمين" (ص 129/دار التيسير).
قال المناوي رحمه الله: (وتجدون شر الناس) وفي رواية بزيادة من يوم القيامة (عند الله ذا الوجهين) وفسره بأنه (الذي) يشبه المنافق (يأتي هؤلاء) القوم (بوجه ويأتي هؤلاء) القوم (بوجه) فيكون عند أناس بكلام وعند أعدائهم بضده * ]مذبذبين بين ذلك[ * وذلك من السعي في الأرض بالفساد أي إذا لم يكن لإصلاح ونحوه وشمل مَن يظهر الخير والصلاح وإذا خلا خلا بالمعاصي القباح. اهـ المراد ("فيض القدير" – تحت رقم (3241)/دار الفكر).
قال بدر الدين العيني رحمه الله: أي: شرّ الناس المنافقون، قال الكرماني: فإن قلت: هذا عام لكل نفاق سواء كان كفرا أم لا فكيف يكون سواء في القسم الثاني قلت هو للتغليظ وللمستحل. أو المراد شر الناس عند الناس لأن من اشتهر بذلك لا يحبه أحد من الطائفتين. ("عمدة القاري شرح صحيح البخاري" /كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/ج 25/ص 255/دار الفكر).
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق قال: حدثنا جعفر ابن محمد الخياط، قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد الصائغ، مردويه قال: سمعت الفضيل بن عياض -رحمه الله-: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي صاحب بدعة إلا من النفاق() اهـ.
ثم قال ابن بطة رحمه الله: صدق الفضيل رحمة الله عليه، فإنا نرى ذلك عيانا. ("الإبانة الكبرى" /رقم 434/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
وسيأتي ذكر بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار السلف رضي الله عنهم في هذا الباب (الأرواح جنود مجندة)، وبالله التوفيق.
وقال الإمام محمد الشنقيطي رحمه الله في إحدى خطبه: من يجامل أهل البدع فلا يلومن إلا نفسه. اهـ (شريط خطبة الإمام الشنقيطي رحمه)
* وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبي ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة قالا حدثنا عبيدالله ح وحدثنا محمد بن المثنى (واللفظ له) أخبرنا عبدالوهاب (يعني الثقفي) حدثنا عبيدالله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» .(أخرجه مسلم /كتاب صفات المنافقين/2784/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله عقب الحديث: كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا، لا كثرهم الله، وسلمنا وإياكم من شر المنافقين، وكيد الباغين، ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين، ولا من الذين استهوتهم الشياطين ، فارتدوا ناكصين، وصاروا حائرين. اهـ
وقال الإمام النووي رحمه الله: (الْعَائِرَة): الْمُتَرَدِّدَة الْحَائِرَة لَا تَدْرِي لِأَيِّهِمَا تَتْبَع، وَمَعْنَى تُعِير أَيْ: تُرَدَّد وَتَذْهَب، وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: ( تَكِرّ فِي هَذِهِ مَرَّة وَفِي هَذِهِ مَرَّة ) أَيْ: تَعْطِف عَلَى هَذِهِ وَعَلَى هَذِهِ، ("شرح النووي على مسلم" ج 9/ص 68/دار إحياء التراث).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله: في شرحه على حديث ذي الوجهين: قوله: «ذا الوجهين» مفعول ثان لقوله: «تجدون شر الناس» وذو الوجهين هو المنافق وهو الذي يمشي بين الطائفتين بوجهين يأتي لإحداهما بوجه ويأتي للأخرى بخلاف ذلك، وقال الله تعالى: ]مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء[ (النساء). قال المفسرون: مذبذبين يعني المنافقين متحيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً، ولا هم مع الكفار ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى هؤلاء. وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن النبي قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيتهما تتبع» ("عمدة القاري" /كتاب المناقب/باب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ /16/ص 69/دار الفكر).
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله الثاني
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن إسحاق البزاز قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن نصر الصايغ قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد الصايغ مردويه قال: قال الفضيل: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة، أورثه الله العمى -يعني في قلبه-، قال: وقال الفضيل: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، قال: وقال الفضيل: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، قال: وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه ، قال : وقال الفضيل : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة() اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/ باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
وسيأتي إن شاء الله مزيد الكلام في العلاقة بين النفاق والتلون في باب (تلونات المنافقين).
الباب الرابع: بعض الأدلة على أن المتلونين لا يؤتمنون
قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ [آل عمران/118، 119]
قال الإمام السعدي رحمه الله: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم ]وما تخفي صدورهم أكبر[ مما يسمع منهم فلهذا ]لا يألونكم خبالا[ أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين: ]قد بينا لكم الآيات[ أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية ]لعلكم تعقلون[ فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه. –إلى قوله:- بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان ]وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل[ وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم ]قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور[ وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه، بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة. اهـ ("تيسير الكريم الرحمن" /ص128/دار ابن حزم).
* حديث «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا».
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن سلمان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا»(). ("الأدب المفرد" (رقم 313) / باب: ليس المؤمن بالطعان/دار الصديق).
الباب الخامس: بعض الأدلة على قبح عاقبة المتلونين في الآخرة
وقد جعل الله عز وجل الجزاء من جنس العمل. قال جل ذكره: ]جَزَاءً وِفَاقًا[ [النبأ/26]،
وقال تعالى: ]فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [يس/54]،
وقال تعالى: ]وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[ [الأنعام/160]،
فنحن نؤمن بأن قبح منظر أهل النار موافق لقبح أعمالهم. قال تعالى: ]وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [ [المؤمنون/103، 104].
والمتلون يأتي يوم القيامة على صورة سيئة: له وجهان، أو له لسانان جزاء وفاقاً.
* حديث «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ».
وقال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ نُعَيْم بْن حَنْظَلَةَ عَنْ عَمَّارٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ»().(أخرجه أبو داود (كتاب الأدب/باب في ذي الوجهين/4864/العون/دار الحديث)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1310/باب إثم ذي الوجهين/دار الصديق) وغيرهما، من طريق شريك به).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: ومعنى «من كان ذا لسانين» أي يتكلم مع هؤلاء بكلام وهؤلاء بكلام وهو بمعنى صاحب الوجهين. ("الكبائر" مع شرح ابن العثيمين- ص 252/الكبيرة الثالثة والأربعون/دار الغد الجديد).
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: «من كان له وجهان» إلخ قال العلقمي: معناه أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار، كما كان له في الدنيا لسانان عند كل طائفة انتهى ("عون المعبود" – كتاب الأدب/ باب في ذي الوجهين /تحت رقم 4865/ دار الحديث).
الباب السادس: حكم التلوّن والمتلوّن في الدين
فبما سبق من الأدلة علمنا أن معظم التلونات في الدين من النفاق، وأن فاعله غير أمين، ويكون يوم القيامة له لسانان من نار. وقد نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه شرّ الناس، أو من شر الناس. ويعتبر فاعله –كما سيأتي- قد تشبّع بما لم يعط، فكأنه يلبس ثوبي الزور. ويعتبر أيضاً قد ادّعى ما ليس له، فهو متوعّد بالنار، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريءٌ منه.
هذا الوعيد الشديد كله يدل على أن ذلك من الكبائر.
قال العلامة الهيتمي رحمه الله: الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ وَهُوَ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي لَا يَكُونُ عِنْدَ الله وَجِيهًا) . –ثم ذكر الأحاديث- ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 39/الكبيرة 253/دار الفكر).
وقال الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي رحمه الله: الكبيرة السابعة والستون: ذو الوجهين. اهـ ("الذخائر لشرح منظومة الكبائر" له ص411، وأصل المنظومة للإمام أبي النجا موسى بن أحمد المقدسي رحمه الله/ط. دار البشائر).
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله في شرح هذين الحديثين: وهذا يوجد في كثير من الناس والعياذ بالله، وهو شعبة من النفاق، تجده يأتي إليك يتملق ويثني عليك وربما يغلو في ذلك الثناء، ولكنه إذا كان من ورائك عقرك وذمك وشتمك، وذكر فيك ما ليس فيك، فهذا والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَجِدُ شَرّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، يَأْتِى هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ». وهذا من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف فاعله بأنه شرّ الناس، ...إلخ ("شرح رياض الصالحين"، تحت رقم 1540-1541/دار السلام).
وتلون بعض المسلمين الذين يأتون الأمراء فيثنون عليهم، ثم يذمونهم وراءهم، أو من له في الناس وجهان ولسانان، أو نحو ذلك –الذي قاله الإمام ابن عثيمين رحمه الله: شعبة من النفاق- ملحق بالنفاق العملي، وهو فسوق، من الكبائر. وفاعله من فساق المسلمين، عسى الله أن يغفر له ولنا جميعاً.
وأما المتلوّن في العقيدة، حيث إنه أظهر الإيمان أمام عموم الناس، وإنما باح بالكفر عند أصحابه وأشكاله –كما فعله عبد الله بن أبي، والحسين بن منصور الحلاج، وابن سينا، ورؤساء أهل الحلول والاتحاد، وصناديد الروافض، فإنه منافق نفاقاً اعتقادياً، زنديقٌ كافرٌ، والعياذ بالله.
وقال الإمام الوادعي رحمه الله: والباطنية هم منافقون، ومنهم الإسماعيلية فنهاية أمرهم إلى تعطيل شرع الله ويلتقون مع الشيوعية في التعطيل، والطائفة الإسماعيلية تتظاهر بالإسلام وبحب أهل بيت النبوة، وهم كاذبون مخادعون، ومن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمكارمة فهم رؤوس الضلال، وهم الذين أضلوا رجال (يام) الهمدانيين وأضلوا طائفة بحراز، وأخرى بعراس، وأخرى بالعُدين، وقد سكن بعضهم بجوار نُقُم، وبعضهم بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمون بنخاولة، وبعضهم بالإحساء، وبالقطيف، ومنهم طائفة كبيرة بالبحرين، وطائفة بالهند. والأسماعيلية رؤوسهم كفار، والأتباع ضالون يحرفون كتاب الله على ما يهوون، وقد ذكرتُ نبذة عنهم في "هذه دعوتنا وعقيدتنا". وواجب أهل العلم أن يحذروا المسلمين من هذه الطائفة المارقة، فإن رجال (يام) لو علموا أن المكارمة كفار ما اتبعوهم على الضلال، والله المستعان اهـ. (مقدمة الإمام مقبل الوادعي رحمه الله على تحقيق "صفة النفاق للفريابي" للشيخ عبد الرقيب الإبي حفظه الله/ص11/دار الآثار).
ويخشى على من ادعى أنه من دعاة الإسلام –وهو خادم الغرب الكافر- مثل عمرو خالد أن يتزندق. هو الذي يتظاهر بالإسلام، ولكنه يبرئ إبليس من الكفر، ويتردد في كمال قدرة الله، ويدعو المسلمين إلى ممارسة الفنّ للنهوض بها، ومحبة العصاة، والضلال، والملحدين، ولا يقول للمحرم حراماً، ويغير الحقائق الشرعية مسايرة لدعوة الحرية، والمساواة الديمقراطية، ويصف حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتهزير، ويفضل النساء على الرجال بدرجات، ويؤصل أن الإخلاق أهم وأسمى من الصلاة والصيام والحج، وهو ينتصر لليهود، ويدعو إلى حبّ الغرب الكافر –وعلى وجه الخصوص أمريكا-، ويفضل الغرب الكافر على المسلمين، وما إلى ذلك. (راجع كتاب "إعانة الأماجد ببيان حال عمرو خالد" /للشيخ محمد الإمام الريمي اليمني حفظه الله/ ط. مكتبة الإمام الألباني).
الباب السابع: لا يجوز استهانة محقرات الذنوب، فإن الجبال من الحصا
لا يجوز تحقير السيئات –من النفاق العملي، والتلون، والبدعة، والمعصية، ونحو ذلك- وإن كانت حقيرةً في أعين الناس.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَهْدِىٌّ عَنْ غَيْلاَن عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُوبِقَاتِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله يَعْنِى بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ . (أخرجه البخارى - كتاب الرقاق/باب ما يتقى من محقرات الذنوب/6492/دار الكتب العلمية).
قال ابن حجر رحمه الله: أَيْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تَحْسَبُونَهَا هَيِّنَةً وَهِيَ عَظِيمَةٌ أَوْ تَؤُول إِلَى الْعِظَمِ . ("فتح الباري" لابن حجر /ج 11 / ص 371 /مكتبة الصفا).
وَقَالَ اِبْن بَطَّال : الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَار. ("فتح الباري" لابن حجر /ج 11 / ص 371 /مكتبة الصفا).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «لَعَنَ الله السَّارِقَ ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». (أخرجه البخاري (كتاب الحدود/ باب لعن السارق.../6783/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الحدود/باب حد السرقة .../1687/دار ابن الجوزي)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلُهُ ذَمُّ السَّرِقَةِ وَتَهْجِينُ أَمْرِهَا وَتَحْذِير سُوء مَغَبَّتِهَا فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ مِنْ الْمَال كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّ سَرِقَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا قِيمَة لَهُ كَالْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ وَالْحَبْلِ الْخَلَقِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا تَعَاطَاهُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْعَادَةُ لَمْ يَيْأَسْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى سَرِقَة مَا فَوْقهَا حَتَّى يَبْلُغ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، كَأَنَّهُ يَقُول: فَلْيَحْذَرْ هَذَا الْفِعْلَ وَلْيَتَوَقَّهُ قَبْل أَنْ تَمْلِكهُ الْعَادَةُ وَيَمْرُنَ عَلَيْهَا لِيَسْلَمَ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ وَوَخِيمِ عَاقِبَتِه اهـ ("فتح الباري"/كتاب الحدود/باب لعن السارق.../6783/مكتبة الصفا)
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[ أي: ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها. اهـ ("تفسير القرآن العظيم" - 2/ص146 /دار طيبة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا أصرّ على ترك ما أمر به من السنة وفعل ما نهى عنه فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات حتى يصير فاسقاً أو داعياً إلى بدعة. وإن أصرّ على الكبائر فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 22 / ص 305-306/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: والنفاق الأصغر وسيلةٌ وذريعةٌ إلى النفاق الأكبر، كما أنَّ المعاصي بريدُ الكفر، فكما يخشى على من أصرَّ على المعصية أنْ يُسلَبَ الإيمانَ عندَ الموت ، كذلك يخشى على مَنْ أصرَّ على خصالِ النفاق أنْ يُسلَبَ الإيمانَ، فيصير منافقاً خالصاً. اهـ ("جامع العلوم والحكم" /ص 748/الحديث الثامن والأربعون/دار ابن رجب).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى نِفَاق الْمَعْصِيَة خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِي بِهِ إِلَى نِفَاق الْكُفْر. ("فتح الباري" /1 / ص 141/باب خوف المؤمن أن يحبط عمله/مكتبة الصفا)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: واحذر صغار المحدثات من الأمور فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان بها، فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام. ("شرح السنة" للبربهاري رحمه الله/ ص 18/دار الآثار).
وقال فضيلة الشيخ ًصالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله- في شرحه عليه: قوله (واحذر صغار المحدثات من الأمور) يقول لا تتساهل بشيء من البدعة ولو كان صغيرا، فإنه يكبر وينضاف إليه غيره، وهذا من مفاسد البدع، لأنه إذا انفتح باب البدع زادت، فلا تتساهل فيها. ويقال: هذه بدعة صغيرة ولا تضرّ. البدعة مثل الجمرة ولو كانت صغيرة فهي تكبر حتى تحرق البيت أو المتجر أو البلد كله:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
فلا يتهاون بها، بل يسدّ باب البدع نهائيا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور»(). «إياكم » تحذير من محدثات الأمور مطلقا سواء كانت محدثات صغيرة أو محدثات كبيرة لم يستثن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئا من البدع. فنهيه عام في جميع البدع، وقال: «وشر الإمور محدثاتها».
(وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها) الفتن أول ما حدثت في الأمة بسبب التساهل مع أهل الإفساد، حتى عاثوا في الأرض فسادا، وغسلوا أدمغة الشباب والعوام، وحشوها من الشر حتى حصلت الفتن في الإسلام، وبين المسلمين كما هو معلوم.
هذا كله بسبب التغاضي عن أهل الشر وتركهم حتى يستفحل الأمر، فلا بد من الحزم، وسد الباب في هذا الأمر، ولا يعصم من البدع بعد الله جل وعلا إلا العلم النافع. أما الذي ليس عنده علم فهذا ينحرف مع البدع، ويظنها طيبة لأنه لا يدري عن البدع، فلا ينجي من البدع إلا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين». هذا هو الذي يعصم من البدع. وهذا يحتاج إلى تعلم وتفقه في دين الله. ولهذا لما كان السلف أفقه الأمة كانوا أشد حذرا من البدع، و أشد تحذيرا من البدع، لعلمهم بما تجره إليه... إلخ ("إتحاف القاري بالتعليقات على شرح السنة للإمام البربهاري" /للشيخ صالح الفوزان /ص34-39/دار ابن حزم)
وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي : فالواجب على الأمة وعلماء الأمة أن ينكروا المنكر ولا يحتقروا بدعة أبداً، لا يجوز التهاون في أي بدعة، لا بد من إنكارها إلخ. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي /ص306/دار الإمام أحمد).
وقال شيخنا الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: لا يستهان بالبدعة، ومن يستهين بالبدعة ما عرف ضررها اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ).
قلت –وفقني الله-: كذلك التلون الملحق بالنفاق العملي، قد يؤدي إلى التلون الملحق بالنفاق الاعتقادي. والتلون نفسه من الكبائر، كما قرره العلماء.
الباب الثامن: تلونات الشيطان
ولما كان التلون هو اختلاف الأخلاق، أو عدم الدوام على حال واحد، أو عدم الثبات على خلق واحد، فهذا النوع كثير في الشيطان.
ومن أمثلة ذلك: أن إبليس -لعنة الله عليه- قد قال بين يدي الله عز وجل: ]قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ [ص/82، 83].
وقال الله تعالى: ]قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا[ [الإسراء/62-65].
ومع شدة حقده على آدم عليه السلام، تظاهر له الشيطان -لعنة الله عليه- بالنصح فقال: ]فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ[ [الأعراف/20، 21].
وقال تعالى: ]فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [ [طه/120].
ومن تلونات الشيطان –عليه لعائن الله- ما قاله الله تعالى: ]كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ[ [الحشر/16].
ومنها قول الله تعالى عنه: ]يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا[ [النساء/120].
ثم يوم الحسرة فضح الشيطان تلوّنه، قال الله تعالى: ]وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [إبراهيم/22].
ومن تلونات الشيطان أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد -رضي الله عنه- قال: أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احتلبوا هذا اللبن بيننا» قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه. قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه، فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربتُ نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل قال ندّمني الشيطان فقال ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليَّ شملةٌ إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال: «اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني» قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، وأخذت الشفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي حافلة وإذا هن حفل، كلهن فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أشربتم شرابكم الليلة؟» قال: قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب، فشرب، ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إحدى سوآتك يا مقداد» فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها» قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس. (رقم 2055/ط. دار ابن الجوزي).
الباب التاسع: تلونات المشركين
قال تعالى: ]وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين[ [النمل/48-51].
وقال تعالى: ]كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ[ [التوبة/8]
وبعض المشركين يتلونون، فيتظاهرون بنصرة المسلمين فإذا حصلت فرصة خنقوهم. قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ - يَعْنِى ابْنَ سَلاَّمٍ - عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ قَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُ الله الْهَوْزَنِىُّ قَالَ: لَقِيتُ بِلاَلاً مُؤَذِّنَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بِحَلَبَ، فَقُلْتُ: يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَىْءٌ كُنْتُ أَنَا الَّذِى أَلِى ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ الله إِلَى أَنْ تُوُفِّىَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الإِنْسَانُ مُسْلِمًا فَرَآهُ عَارِيًا يَأْمُرُنِى فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِى لَهُ الْبُرْدَةَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حَتَّى اعْتَرَضَنِى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ يَا بِلاَلُ إِنَّ عِنْدِى سَعَةً فَلاَ تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ مِنِّى. فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ قُمْتُ لأُؤَذِّنَ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا الْمُشْرِكُ قَدْ أَقْبَلَ فِى عِصَابَةٍ مِنَ التُّجَّارِ فَلَمَّا أَنْ رَآنِى قَالَ: يَا حَبَشِىُّ. قُلْتُ: يَا لَبَّاهُ. فَتَجَهَّمَنِى، وَقَالَ لِى قَوْلاً غَلِيظًا، وَقَالَ لِى: أَتَدْرِى كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَرِيبٌ . قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعٌ فَآخُذُكَ بِالَّذِى عَلَيْكَ فَأَرُدُّكَ تَرْعَى الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ فِى نَفْسِى مَا يَأْخُذُ فِى أَنْفُسِ النَّاسِ ... الحديث (أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الخراج/باب الإمام يقبل هدايا المشركين/3053/العون/دار الحديث))
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم(185)/الطبعة الجديدة /دار الآثار).
الباب العاشر: تلونات اليهود
قال تعالى: ]وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ [آل عمران/72].
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ الله بْنَ بَكْرٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الله بْنُ سَلاَمٍ بِقُدُومِ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ فِى أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِىٌّ: فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ. قَالَ: «أَخْبَرَنِى بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا». قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: ]مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ[ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ». قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله. يَا رَسُولَ الله إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهمْ إِنْ يَعْلَموا بِإِسْلاَمِى قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِى. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَىُّ رَجُلٍ عَبْدُ الله فِيكُمْ» . قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الله بْنُ سَلاَمٍ» . فَقَالُوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ الله فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَانْتَقَصُوهُ . قَالَ: فَهَذَا الَّذِى كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسولَ الله. (كتاب تفسير القرآن/باب قوله: من كان عدوا لجبريل/4480/دار الكتب العلمية).
فأمر اليهود كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ... قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده ، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوّن حالهم واضطراب أفعالهم اهـ. ("فتح القدير" / تفسير الأعراف: 150/دار الوفاء).
الباب الحادي عشر: تلونات النصارى
هرقل أعظم ملوك الأرض في زمنه يتلوّن من أجل بقاء ملكه.
قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَه: -فذكر القصة بطولها إلى قوله-: فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ. وَقَالَ: إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. (أخرجه البخاري (كتاب بدء الوحي/باب-6/رقم (7) /دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الجهاد/باب كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل/1773/دار ابن الجوزي)).
ومن تلونات النصارى ما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في قصة ملك الروم "نقفور": كتب نقفور إلى الرشيد: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك).
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام).
ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئا كثيراً، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد. اهـ ("البداية والنهاية" - ج 10 / ص 161/سنة 187 هـ/مكتبة الصفا).
الباب الثاني عشر: تلونات المنافقين
قد مرّ بنا في أوائل الرسالة أن التلون من سمة المنافقين. وهناك آيات كثيرة كشفت تلوناتهم، منها ما قاله ربنا عز وجل: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَالله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ[ [الحشر/11، 12].
وقال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ [المجادلة/14].
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: ]مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا[ [النساء : 143]، وقال ها هنا: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ[ يعني: اليهود، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال: ]مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ[ أي: هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.
ثم قال: ]وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ يعني: المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [له] أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"- ج 8 / ص 51-53/دار طيبة).
وقال جل ذكره: }هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ [آل عمران/119].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي: يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم. وقوله: ]لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ[ أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل: هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره. ("تفسير القرآن"/2 / ص 106/دار طيبة).
وقال رحمه الله: وقوله تعالى: ]هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ[ أي: أنتم -أيها المؤمنون-تحبون المنافقين مما يظهرون لكم من الإيمان، فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم، لا باطنا ولا ظاهرا ]وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ[ أي: ليس عندكم في شيء منه شك ولا رَيْب، وهم عندهم الشك والرِّيَب والحِيرة. –إلى قوله:-
وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى: ]وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ[ وذلك أشد الغيظ والحنق، قال الله تعالى: ]قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله مُتمّ نعمته على عباده المؤمنين ومُكَملٌ دينه، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم ]إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها. اهـ ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 108/دار طيبة).
* سرد بعض أوصاف المنافقين –وفيها أدلة على أن التلوّن لم ينفكّ عنهم أبداً-
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن المنافقين: ... أن الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين، فيرضوا المؤمنين ليعزّوهم، ويرضوا الكفار ليعزّوهم أيضاً، ومن ههنا دخل عليهم البلاء فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض في الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذلّ، وهو أن جعل مستقرهم في أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين ءامنوا، والاستهزاء بأهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم على الكفر والشرك وعداوة الله ورسوله، أمرٌ اختصوا به عن الكفار، فتغلظ كفرهم به فاستحقوا الدرك الأسفل من النار، ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة البقرة 22 فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن، وهم المنافقون، وذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفي حق الكفار آيتين 6 -7، فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية (8-20) ذمّهم فيها غاية الذمّ وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاء المفسدون في الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب، وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذمّاً ولا عيباً إلا ذمّهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم وبغضه إياهم وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته-، ومن تأمل ما وصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك، ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاء بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراء الضلالة بالهدى، والصمم، والبكم، والعمى، والحيرة، والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره والحلف باسمه تعالى كذبا وباطلا وبالكذب وبغاية الجبن وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبالرب وبأنهم مضرة على المؤمنين.
ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال و الإسراع بينهم بالشرّ وإلقاء الفتنة وكراهتهم لظهور أمر الله ومحو الحق() وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين، وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة الله وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما لس فيهم فيلزمون المتصدقين، ويعيبون مزهدهم، ويرمون بالرياء وإرادة الثناء في الناس مكثرهم، وأنهم عبيد الدنيا إن أعطوا منها رضوا وإن منعوا سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله، وينسبونه إلى ما برأه الله منه، ويعيبونه بما هو من كماله وفضله، وأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين، ولا يطلبون إرضاء رب العالمين، وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله، ويكرهون الجهاد في سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله ليهمّ بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، وأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأن المنافق أحلف الناس بالله كاذبا قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقي بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس، والرجس من جنس أخبثه وأقذره، فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم، وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان، يقصدون التفريق بينهم ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضراب بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً، وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله، وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم في كل زمان، وارتابوا في الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأماني الباطلة، وغرّهم الشيطان.
وأنهم أحسن الناس أجساماً، تعجب الرائي أجسامهم والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسندة، ولا إيمان، ولا فقه، ولا علم، ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراء ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها، وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركّب مغن عنها وعن الطاعات جملة، كحال كثير من الزنادقة، وإما احتقاراً وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاء به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، ونسيان ذكره، وبأنهم يتولّون الكفار، ويدَعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم، وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله، فلا يذكرونه إلا قليلاً.
وأنهم حزب الشيطان، وأنهم يوادّون من حادّ الله ورسوله، وبأنهم يتمنّون ما يعنت المؤمنين ويشقّ عليهم، وأن البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وبأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول الله: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء، ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها الشحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فهم أحدّ الناس ألسنة عليهم كما قيل:
جهلا علينا وجبنا من عدوكم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وأنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتها، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبآت، وبدت الأسرار، ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة وأمرهم قلوبا وأعظم الناس خلفا بين أعمالهم وأقوالهم، ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه في دين أبداً، ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم، ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم في شيء، فإنهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجاً منه بحق أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سمي منافقاً أخذاً من نافقاء اليربوع، وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة، فكلما طُلب من سربٍ خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره في سرب واحد. قال الشاعر :
ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيخة اليتقصع
فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء، ومن صفاتهم كثرة التلون وسرعة التقلب وعدم الثبات على حال واحد، بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذا انقلب إلى ضدّ ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلونا وتقلبا وتنقلا، جيفة بالليل قطرب بالنهار، ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك، وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم قال تعالى: ]ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً[
ومن صفاتهم معارضة ما جاء به الرسول بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاء به فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم، دون ما جاء به، فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين. فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى؟ ومن صفاتهم كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم، فيرمونهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض، وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون في الأرض.
وإذا دعاهم ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير مشوبة رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزور، والتلبيس، والمحال. وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم. وليس على الأديان أضر من هذا الضرب من الناس. وإنما تفسد الأديان من قبلهم. ولهذا جلا الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكررّ ذكرهم لشدة المؤنة على الأمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم، والتحرز من مشابهتهم، والإصغاء إليهم. فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى، وَعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنوهم الويل والثبور. فكم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان، وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان، وأسيرٍ لا يرجى له الخلاص، وفارٍّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار ومودّتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار، من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان، وقطعت له مقطعات من البلاء والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالا، ويمشي على عقبيه القهقهرى إدباراً منه، وهو يحسب ذلك إقبالاً فهم والله قطاع الطريق.
فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء حذار منهم حذار إذ هم الجزّارون ألسنتهم شفار البلايا ففراراً منهم أيها الغنم فراراً. ومن البلية إنهم الأعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم وخلطتهم أعظم الداء وليس بد في مخالطتهم، قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعدا للمستجيبين. ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات فويل للمغترين ... إلخ ("طريق الهجرتين" - / ص 499-504/فصل في مراتب المكلفين في الدار/دار ابن رجب).
قلت –وفقني الله-: والحمد لله، مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله من أحوال المنافقين، استفدنا بعض ما يتعلق بشئون المتلونين الحزبيين الجدد في الجملة، منها:
1- أن الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين
2- الخداع، والاستهزاء، والسخرية، والكذب، والتلاعب بالدين، إظهار الموافقة وإبطان المخالفة،
4- مرضى القلوب شبهةً،
5- الكسل عند عبادة الله
6- الولاء للأعداء،
7- والجبن،
8- وعدم العلم والفقه في الدين،
9- ولا يحصل لهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال
10- كرهوا ظهور الحق،
11- وأنهم يتربصون الدوائر بنا
12- عبيد الدنيا
13- الأذى والطعونات،
14- وأنهم يتركون بعض ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه،
15- اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم،
16- يقصدون التفريق بين أهل الحق،
17- يؤوون من حارب الحق وأهل الحق
18- البغضاء تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم
19- يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
20- عذب اللسان مع مرارة القلوب
21- أعمالهم تكذّب أقوالهم، وباطنهم يكذّب ظاهرهم، وسرائرهم تناقض علانيتهم
22- إنهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجاً منه بحق أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سمي منافقاً
23- فأنت منه كقابض على الماء ليس معك منه شيء
24- معارضة الأدلة والحجج بتقليد الرجال
25- ومن صفاتهم كتمان الحق، والتلبيس على أهله،
26- رميهم لأهل الحق بأدوائهم
27- إذا أمر أهل الحق بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ودعوا إلى الله ورسوله، قالوا: (أهل فتن! مفسدون في الأرض!)
28- وإذا رأوا مع أهل الحق حقا ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه.
29- وإذا كان معهم أنفسهم باطلٌ ألبسوه لباس الحق وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم
30- أنهم في السلفيين كالزغل في النقود يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس وقليل ما هم.
31- قطعوا على السالكين إلى الله بعض طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى
32- ومن البلية إنهم الأعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم وخلطتهم أعظم الداء وليس بد في مخالطتهم.
الباب الثالث عشر: التلونات في الدين من أفعال أهل البدع
إن أهل الباطل يتوارثون أباطليهم، كما أن أهل الحق يتوارثون الحق. وكلٌّ يتواصي بما يناسبه. قال تعالى: ]وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [البقرة/132].
وقال تعالى: ]وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ [الزخرف/28].
وقال تعالى: ]كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[ [الذاريات/52، 53].
ولكن ليس هذا الوارث كذاك الوارث. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون اهـ ("مدارج السالكين" /ج 1 / ص 289/فصل: وأما النفاق/ط. دار الحديث).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن الرسل وأعدائهم:
لا بد أن يرث الرسول وضدّه في الناس طائفتان مختلفتان
فالوارثون له على منهاجه والوارثون لضدّه فئتان
أحداهما حرب له ولحزبه ما عندهم في في ذاك من كتمان
فرموه من ألقابهم بعظائم هم أهلها لا خيرة الرحمن
فأتى الألى ورثوهم فرموا بها وراثه بالبغي والعدوان
هذا يحقق إرث كل منهما فاسمع وعه يا من له أذنان
والآخرون أولوا النفاق فأضمروا شيئا وقالوا غيره بلسان
. اهـ ("القصيدة النونية" - 1 / ص 401/ شرح الهراس/دار الكتب العلمية).
وقال فضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي حفظه الله في الفرق الضالّة: لا بد لكلّ نحلة من مورّث ووارث، فبئس المورّث وبئس الوارث والموروث. ("قطوف من نعوت السلف" /ص39/دار المنهاج).
فأهل البدع يرثون التلوّن وتعداد الوجوه من الشيطان، والكفار والمنافقين.
وعلى رأسهم الرافضة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهم أشد ضرراً على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الاسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة اكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه و سلم: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف واذا اؤتمن خان». وفى رواية: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر». وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود() ويستعملونها مع المسلمين يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه. اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 479/إحالة/دار الوفاء).
إن التلون قريب من التقية. لما كان المتلون لا بد له أن يتزين بما ليس في باطنه عند فلان، وأظهر سريرته عند من يناسبه، فإنه قد تلوّن، وقد فعل التقية. فكلاهما من صنيع أهل النفاق.
ومن المتلونين أيضا: الحسين بن منصور الحلاج الزنديق، له تلونات قبيحة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي ويلبس لباس الزهاد تارة ولباس الأجناد تارة .
وكان من مخاريقه أنه بعث بعض أصحابه إلى مكان فى البريه يخبأ فيه شيئا من الفاكهة والحلوى ثم يجىء بجماعة من أهل الدنيا إلى قريب من ذلك المكان فيقول لهم ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية فيشتهى أحدهم فاكهة أو حلاوة، فيقول: امكثوا، ثم يذهب إلى ذلك المكان، ويأتى بما خبأ أو ببعضه فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له وكان صاحب سيما ... إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 35 / ص 111-112/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول: الناس فيه - يعني حسين بن منصور الحلاج - بين قبولٍ وردٍّ، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي.
فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال: قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال، خبيث كافر.
قلت: كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.
وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب "حفظ قلوب المشايخ": أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن.
قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته.
وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتابا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلطه على صديق.
كيف وقد تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى: ]ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم[ [ الحج: 25 ] ولا إلحاد أعظم من هذا.
وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم: ]وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين[ [ الانفال: 31 ]. ("البداية والنهاية" /11/ص117-118/مكتبة الصفا).
قلت –أعاذني الله وإياكم من الفتن-: قد ثبت أن الحلاج يدعي الألوهية والربوبية، ومع ذلك لما أخذه الأمراء وأبرزوا له بينات على أباطيله جحد وأنكر.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعوا الناس إلى طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود. ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته، وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده.
فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صحّ عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذّبهم وقال: (أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله، وأكثر له الصوم، والصلاة، وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك). وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: (سبحنك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيداً، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم والليلة ألف ركعة. وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذونا لمن يدخل إليه، وكان يسمى نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، -إلى قوله:- وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق. ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرقة والسحر شيئا كثيراً.
وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة. من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال: (قومي إلى الصلاة؟) وإنما كان يريد أن يطأها.
وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد البشر لبشر ؟ فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض. ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانير كثيرة مبدورة. انتهى المراد ("البداية والنهاية" - ج 11 / ص 121/سنة 308 هـ/مكتبة الصفا).
قلت –سددني الله وإياكم-: انظروا إلى تلونات هذا الخبيث في الملابس، والعقائد، والحيل في وطء زوجة ابنه، وحتى في الأسماء.
ومن المتلونين أيضا الجهمية ومتفلسفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله في شأن الجهمية ومتفلسفة: ... إن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلوّن والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلا عمن كان من ذوي الألباب، والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس كما أن الشعاع آية على الشمس اهـ المراد. ("بيان تلبيس الجهمية" ج 2 / ص 479/الطرق النظرية تفيد العلم/دار القاسم).
ومن المتلونين أيضا ابن سينا الطبيب الزنديق. حكى الإمام ابن القيم رحمه الله كما في "شرح الكافية والشافية" (ج 1 / ص 93/دار الكتب العلمية) تبجح ملحد زنديق بأسلافه في الزندقة والإلحاد:
وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا أتباعه بل صانعوا بدهان
قال الشيخ العلامة محمد خليل هراس رحمه الله: شرح: -حكاية عن قولهم-: وكذلك ابن سينا وهو الفيلسوف الإسلامي المشهور مؤلف كتاب "الشفاء" في الفلسفة، و"القانون" في الطب، و"الإشارات" وغيرها في المباحث العقلية لم يكن منكم يا معشر أهل الإثبات، ولا أتباعه في فلسفته كذلك، ولكنهم كانوا يصانعونكم بالمداهنة والحيلة حتى لا ينكشف أمرهم، ولا تعرف زندقتهم، فابن سينا كان يتظاهر أمام العامة بأنه يريد أن يخدم الدين من طريق التوفيق بينه وبين الفلسفة اليونانية مع أنه في قرارة نفسه لا يحمل للدين أي قدسية وكل عنايته في كتبه، إنما كانت بتقرير نظريات أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان. اهـ
ثم إن الجهمية وأمثالهم عيّروا الأشاعرة الذين أثبتوا بعض الصفات دون بعض بأنهم مثل المنافقين. حكى الإمام ابن القيم رحمه الله في "الكافية والشافية" - (ج 1 /ص 340/دار الكتب العلمية) تعييرهم:
فعلام هذا الحرب فيما بيننا مع ذا الوفاق ونحن مصطلحان
فإذا أبيتم سلمنا فتحيزوا لمقالة التجسيم بالإذعان
عودوا مجسمة وقولوا ديننا الـ إثبات دين مشبه الديان
أو لا فلا منا ولا منه وذا شأن المنافق إذ له وجهان
هذا يوقل مجسم وخصومه ترميه بالتعطيل والكفران
هو قائم هو قاعد هو جاحد هو مثبت تلقاه ذا ألوان
يوما بتأويل يقول وتارة يسطو على التأويل بالنكران
وقال الإمام الألباني رحمه الله في جماعة التبليغ: فجماعة التبليغ ليس لهم منهج علمي وإنما منهجهم حسب المكان الذي يوجدون فيه فهم يتلونون بكل لون اهـ (نقله الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في "حقيقة المنهج الواسع لأبي الحسن" /مجموعة الردود/ص408/دار الإمام أحمد)، وأيضا في "الفتاوى الإماراتية للألباني" س (73) ص (38)/دار الضياء).
وقال الشيخ أحمد النجمي رحمه الله في شأن جماعة التبليغ: ولهم شبه بالشيعة في المقدرة على النفاق وإظهار التوحيد وإخفاء الإشراك، بل النداء بالتوحيد وترويج الإشراك اهـ ("المورد العذب الزلال" ص288/الباب العاشر/دار الآثار).
وهكذا الحزبيون. وقال الإمام الوادعي رحمه الله: فالحزبي مستعد أن يكون له خمسة أوجه، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إنّ من شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». أما السني فإنه متمسك بدينه سواء رضي فلان أم لم يرض، بخلاف الحزبيين اهـ ("تحفة المجيب" ص 290/من وراء التفجير .../دار الآثار).
وقال رحمه الله: ولكن الحزبية تجعل أهلها يتلونون ويتقلبون اهـ ("غارة الأشرطة" /أسئلة الأخ عبد الكريم من بريطانيا/م2 ص237/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال رحمه الله في شأن السرورية: نعم هي جماعة موجودة، وإن كان الأخ محمد سرور ينفي هذا فهي موجودة بأرض الحرمين ونجد و باليمن وكانت بدأ أمرها على الاستقامة، وكما تقدم أن قلنا: إن الشخص يتستر ولا يظهر الحزبية إلا بعد أن تقوى عضلاته، ويرى أن الكلام لا يؤثر فيه. ("غارة الأشرطة" /أجوبة إخواننا أهل الطائف /ج2 ص17/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال الإمام الوادعي رحمه الله في شأن عبدالرحمن عبدالخالق وأصحابه: وهم يتلونون، فقد رد عليهم الشيخ عبدالعزيز بن باز، ثم يأتي عبدالرحمن عبدالخالق، وأنا متأكد أنه ما أجاب بما أجاب به ولا تراجع عما تراجع عنه إلا أنه يخشى من الحكومة الكويتية فإنّها تثق بالشيخ ابن باز وتحبه، فلو قال لهم: رحّلوه، هذا لا خير فيه، لرحّل. من أجل هذا تراجع، ونحن نقول لعبدالرحمن عبدالخالق: هل تراجعت عن قولك أنه لا بأس بالتحالف مع العلمانيين، إلخ ("فتح المجيب" ص198-199/أسئلة البريطانيين/دار الآثار).
وقال رحمه الله: ربما يكون شخصاً يدعو على الحزبية تحت غلاف السلفية بل يدعو إلى الكتاب والسنة وإلى السلفية وإلى أصحاب الحديث. اهـ ("غارة الأشرطة" /أجوبة أسئلة أخينا أبي عبد الرحمن المصري /ج1 ص209/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال رحمه الله لبعض الحزبيين: يا هذا، عبد الله بن سبأ اليهودي الذي خرج من صنعاء إلى المدينة يظهر الزهد والتقى والعبادة والغيرة على الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم بعد ذلك بذر الفتنة وصار سببا لكثير من الفتن، فلا بد أن نعرف السني من الحزبي(). اهـ ("إسكات الكلب العاوي" ص6/دار الآثار).
ومن المتلونين أيضا إبراهيم بن حسن الشعبي. لما أظهر هذا الإخواني المدحَ للدولة السعودية، قال مفتي المملكة السعودية الجانوبية فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله: وأصحاب الحزبيات قد غدروا، وخانوا الدولة والشعب، والله من ورائهم محيط ... –إلى قوله:- ليتك تقول هذا –أي الثناء- في الخفاء كما تقوله في العلن، فتنجو من النفاق الذي لا يسلم منه من كان ذا وجهين، وذا لسانين اهـ. ("الرد المحبر" ص122 للشيخ أحمد النجمي رحمه الله/دار المنهاج).
فالحزبيون متلوّنون. قال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: قلما تجد شابّاً يريد الإسلام إلا واحتوته هذه الأحزاب - إلى قوله- مع الأخذ بالتقية بالباطنية وتظاهرهم بمحاربة التحزب. ("الحد الفاصل" /ص 112-113/دار المنهاج).
وقال حفظه الله لعبد الرحمن عبد الخالق: فالتقية شعار الأحزاب التي تنافح عنها ولا سيما في البلدان التي تحظر هذه الأحزاب فهم يلبسون للناس، ويظهرون لهم خلاف ما يقولونه ويفعلونه في الأقبية والسراديب ويظهرون بألسنتهم للناس خلاف ما يكنونه في قلوبهم من العقائد والاتجاهات، ولعلهم يسيرون على هذه الحال في ضوء توجيهات عبدالرحمن وأمثاله .اهـ ("النصر العزيز" /ص108/دار المنهاج).
وقال حفظه الله في شأن حمزة المليباري –أحد المنحرفين الماكرين بصحيح مسلم-: ويُؤسفني أن أقول : إنَّ حمزة المليباري من أشدِّ الناس معاندة للحق النَيِّرِ الواضح وردًّا له وتباكياً منه، يرافق ذلك شكاوى وافتراءات وطعون ظالمة، وجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، مع دعاوى كبيرة ومع التهرب من منهجه الذي وضعه لتدمير "صحيح مسلم" وطبَّقَه فعلاً على باب بكامله ثمَّ تطوير هذا المنهج إلى صورة أخرى ثمَّ تطويره إلى صورة ثالثة ثمَّ إنكار هذه الأفاعيل ورمي من يوضحها بالأدلة العملية والقولية من أقوال وتطبيقات هذا المليباري العجيب في الكذب والتلون والتظاهر بأنَّه مظلوم مفترى عليه وكتاباته بأيدي الناس، فالمنصف يدرك بدون عناء انحراف هذا الرجل وتلونه وتلون كلامه وتأصيله وتطبيقه، ويدرك كذبه في دعاواه وتصرفاته، أما من اتبع هواه فقد يعمى عن رؤية الحقِّ الواضح كالشمس ويعمى عن رؤية الباطل ولكن الله له بالمرصاد اهـ. ("عقيدة المليباري ومنهجيته" /للشيخ ربيع حفظه الله/ص1/عين السلسبيل)
ولما ظهر من فالح الحربي وحزبه النفاق، والخيانة والتقلبات في حربهم للإمام ابن عثيمين قال الشيخ ربيع حفظه الله في فالح: فما أسهل التلون عليه وما أكثره! ("دفع بهت وكيد الخائنين" /مجموع الردود على الحدادية/ص68/دار الإمام أحمد).
وقال حفظه الله: واستمرَّ الحداديون على خطِّه بل أشَّد منه وعلى رأسهم عبد اللطيف باشميل الذي لا يهدأ له حقد على أهل السنَّة ومنهم الألباني، وهو يحقد على ابن باز، والعثيمين، وغيرهم من علماء السنَّة، لكن ما يستطيع أن يواجه فيتستر بهؤلاء لضرب الألباني، وربَّى على هذه الطريقة الخبيثة، وكان فالح صديقاً لعبد اللطيف، وفريد المالكي، ولمَّا وجَّهنا لهم النقد اللاذع كان هو يجاملهم ويماشيهم وما أدري متى تركهم ظاهراً أو باطناً-الله أعلم- لكنّه كانت تظهر عليه آثار الحدادية، ونحن وبعض المشايخ نقدِّم له النصائح إلى أن جاءت هذه الأيام فرفع لواء الحدادية، وكان يقول : (الألباني أستاذي و و... والذين يرمون الألباني بالإرجاء خوارج)، ويتقلَّب ويتقلَّب، ويهمس أحياناً بالطعن في الألباني بالإرجاء، وأحيانا يجهر بالدفاع عنه !! يتلوَّن كالحرباء في قضية الألباني وغيرها، ثم أخيراً جهر بأنَّ ربيعاً قلَّد الألباني في قضية الإرجاء، وفي قضية الأعمال شرط كمال، فأنا والله حاربت عبارة "الأعمال شرط كمال" (مجموع الردود على الحدادية /"كلمة في التوحيد" ص88/دار الإمام أحمد).
وقال الشيخ ربيع حفظه الله في عدنان عرعور: فالمآخذ على عدنان عرعور كثيرة وخطيرة، وله تقلبات حول قضايا يخالف فيها دين الله الحق ومنهج السلف، فإذا أخذ في قضية من جهة قفز إلى جهة أخرى ، فإذا أخذ من الجهة الأخرى فرَّ إلى جهة أخرى جديدة. ولنضرب مثلاً لتقلبه وتلونه في بيان أسباب وضعه لبعض القواعد التي شغب بـها على المنهج السلفي وأهله ... إلخ ("دفع بغي عدنان" /مقدمة/عين السلسبيل)
ومن أوصاف أبي الحسن المصري ما قاله العلامة الشيخ ربيع المدخلي - حفظه الله-: ولأبي الحسن نظائر من هذا التلونات اهـ ("تلون أبي الحسن" /الحاشية/مجموعة الردود على أبي الحسن/ص280/دار الإمام أحمد).
وقال شيخنا المحدث الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: أكثر الناس نصحا للمسلمين هم أهل السنة، وأما أهل البدع هم أهل المجاملة اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ).
ومن المتلونين أيضا رأس الحزب الجديد عبد الرحمن بن عمر العدني هداه الله، الذي قام بثورة على أعظم مراكز السلفيين في العالم دار الحديث بدماج حرسه الله. من تلوناته: أنه قال لمحسن زياد – في أيام الفتنة- : (انتبه لا تتكلم في الشيخ يحيى) (ملزمة "المؤامرة الكبرى" ص34)، وهو نفسه له طعونات كثيرة فيه - حفظه الله-. كأنه بنصيحته لمحسن زياد أراد اكتساب عطفه من حيث أنه مظلوم –كما زعموا- ولم يأخذ بثأره ولو بالطعن!
ومنها: حثّه -في إحدى بياناته- الجميع على الحفاظ على الدعوة، وهو يقلقل على أعظم مراكز السنة باليمن خصوصا، وعلى الدعوة السلفية عموماً!
ومنها: حثّه -في بيانه 5 محرم 1429 هـ- الجميع على جمع الكلمة والتآلف، وهو مع أخيه عبد الله يهرول إلى هناك وهناك يحرش بين المشايخ في اليمن بل في السعودية.
ومنها: قوله -في بيانه 5 محرم 1429 هـ- أنه بريء ممن يثير الفتن ويطعن في الشيخ يحيى الحجوري -حفظه الله- ومركز دماج، وهو رأس تلك الحملات وهو حتى الآن لم يزل حول أتباعه الطعانين السبابين الشتامين في شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-، وهو نفسه له طعونات كثيرة فيه - حفظه الله- ولم يعتذر منها!
ومنها: إنه كان يثني على شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-، وذكر أهليته لحمل الدعوة ويحث الناس على تلقي العلم منه - حفظه الله-، فإذا بالرجل في منشوره "التعليقات الرضية" يشهد بالله أنه لم ير أحدا ممن ينتسب على العلم –منذ طلبه للعلم إلى الآن- أكذب من شيخنا يحيى الحجوري - حفظه الله-!
فالواقع يشهد أن عبد الرحمن العدني هو الكذاب، وأن الحزبيين هم الكذابون.
إذا كان كلامه الأخير صادقاً لماذا كتمه أكثر من ثمان سنوات وهو يعرف انخداع آلاف الناس بشيخنا يحيى الحجوري حفظه الله – على فرض صحة يمينه - في الفترة الطويلة، وهو نفسه يحثهم على تلقي العلم من شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله. إذن هذا الرجل - عبد الرحمن العدني- لمن أكبر الغشاشين المتلونين.
وقال شيخنا يحيى بن علي الحجوري حفظه الله للشيخ عبيد وفقه الله: الوجه الثاني: أنك إن أظهروا لك حسن المجالسة فقد أظهروا سوءها لنا، ولدعوةٍ سلفية هائلة عندنا. اهـ (ملزمة "التوضيح" /لشيخنا يحيى حفظه الله /ص9).
والمقصود بهم: عبد الرحمن بن مرعي العدني، وعبد الله بن عمر بن مرعي، وهانئ بن بريك وأمثالهم.
ومن تلونات أتباع الحزب الجديد –سواء في اليمن أو في إندونيسيا-: أنهم إذا أرادوا الهجوم على السلفيين من دار الحديث بدماج تستروا وراء لون: (اتباع فتوى كبار العلماء من اليمن –الشيخ محمد الوصابي لا جزاه الله خيراً- في التحذير من الشيخ يحيى حفظه الله)، وتارة أتوا بلون أعظم من ذلك –زعموا-: (تحذير كبار العلماء من السعودية -الشيخ عبيد لا جزاه الله خيرا- من الشيخ يحيى حفظه الله)، وتارة جاءوا بلون أعمّ: (نصرة العلماء، والدفاع عن حرمتهم الممزقة!) كما فعله محمد السربيني الإندونيسي الكذوب.
فإذا عجزوا من مقاومة حجج السلفيين من دار الحديث بدماج، تستروا بلون آخر: (بيننا وبينكم وصية العلماء بالسكوت!)، وتارة أتوا بلون الإخوان المسلمين: (نتعاون فيما اتفقنا في مواجهة الصوفية، والشيعة، والمعتزلة، والعقلانية، والخوارج من القطبيين، والسرورية، والتراثيين، ولا نتكلم فيكم ولا تتكلمون فينا، ولا يكون أحد منا سببا للتفرق والاختلاف ...) كما صنعه هؤلاء أصحاب براءة الذمة الجديدة –لقمان با عبدة، محمد عفيف الدين، ومحمد السربيني، وعسكري، وفوزان، وعبد جبار وبقية الثلاثين الموقعين- في رسالتهم المفتوحة لشيخنا الناصح الأمين حفظه الله. وقد أدانهم شيخنا المحدث العلامة يحيى الحجوري حفظه الله بأنهم حزبيون.
ومن تلونات بعضهم أن بعض رؤساء أفراخهم في إندونيسيا (منهم لقمان با عبده، ومحمد السربيني، وعسكري، ومحمد عفيف الدين، وعبد الجبار، وفوزان وغيرهم) يصرخون: (اسكتوا! اسكتوا! لا تكن بيننا فتنة! كلنا سلفيون في صف واحد!) –أو نحو ذلك-، مع أن فيهم من يلتمسون فتوى عبيد الجابري في منع محاضرات علماء السنة من دار الحديث بدماج، ويتركون بعض أتباعهم يمزّقون إعلان محاضرات علماء السنة من دار الحديث بدماج.
ومن تلوناتهم أن هؤلاء المذكورين في رسالتهم المفتوحة قالوا لبعض علماء السنة من دار الحديث بدماج: (مرحباً بكم، أهلاً وسهلاً)، ومن وراء الجدار فيهم من يسعون جادّين في إلغاء محاضراتهم بأيدي الحكومة. وشوشوا على اتصالاتنا وحاولوا قطع الكلام بيننا وبينا أصحابنا في بلدنا هاتفياً.
وقد قدر الله عز وجل أن الحكومة الإندونيسية –وفقهم الله- لم تأذن للشيخين الفاضلين أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني وأبي عبد السلام حسن بن قاسم الريمي-حفظهما الله ورعاهما- بالقدوم، وتعللت ببعض التهم والظنون.
وقد سمى شيخنا يحيى حفظه الله هؤلاء المتلونين أصحاب الرسالة المفتوحة: حزبيين. فهم بهذه المظالم جديرون أن يُقرأ عليهم قول ربنا تبارك وتعالى: ]وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[ [الشعراء/227].
وقال شيخنا المجاهد يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: إنسان حزبي قوله يخالف فعله، وفعله يخالف قوله اهـ (سجّلت هذه الفائدة في 4 رجب 1430 هـ).
* ومن تلونات الحزبين: البراءة السياسية
بعض الحزبيين أمام الأمة يتظاهرون بالبراءة من القبائح التي ارتكبوها، أو ارتكبها بعض أتباعهم بدون النكير، وأما فيما بينهم كأنهم قالوا: (خلوا هذا الأمر سرّاً بيننا).
قال الإمام الوادعي رحمه الله: فنسأل الله أن يفضحه مثل عبدالمجيد الزنداني، فإنك تذهب إليه وتقول له: إخوانك أخذوا علينا المسجد الفلاني، وإخوانك ضربوا إخواننا في المسجد الفلاني، وإخوانك تكلموا في أهل السنة، فيقول: أنا أبرأ إلى الله من هذا، فإذا كنت تبرأ إلى الله فاخرج منهم ولا تبق على ما أنت عليه، ("تحفة المجيب" ص290/من وراء التفجير ... /دار الآثار)
وسئل الإمام رحمه الله عن أتباع عبد الرحمن عبد الخالق: بعض الأخبار تقول: إن السلفية الجديدة حزب سري مثلما كان الإخوان من قبل ولهذا ينظّمون بعض الأمور معًا فهل هذا صحيح؟
فأجاب رحمه الله: الذي يظهر أنه ليس بصحيح، فعندهم حزبية لكن لا يبلغون مبلغ الإخوان المسلمين، وأيضًا ليسوا متفقين، فقد اتفقوا ببعض زعمائهم وأورد عليه أسئلة حتى عجّزوه وقال: أنا أبرأ إلى الله، تبرأ إلى الله من ماذا؟ وأنت تدعو في كل مجلس إلى الإخوان المفلسين، فمن الذي أمسكك حتى تبقى مع الإخوان المسلمين أأنت مربوط ومقيد؟ انصرف إذا كنت تبرأ إلى الله.. الله المستعان. ("مقتل الشيخ جميل الرحمن" /ص60/دار الآثار)
ومن هذا الباب صنيع عبد الرحمن عبد الخالق. لما تكلم الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في كذبه في تراجعه –كما في "جماعة واحدة" (ص61/دار المنهاج)- ذكر في الحاشية: ويخشى أن يكون القصد من وعده للشيخ –يعني الإمام ابن باز رحمه الله – هو الخداع وانتزاع التزكية من غير تحقيق لما وعد به، وقد مضى على هذا الوعد زمن طويل لم يتحقق من خلاله ما وعد به إلا قوله: "أنا بريء مما يخالف الكتاب والسنة". وهي عبارة مجملة تحتمل، وكلٌّ يفسرها بما يريد. اهـ
وقال محمد البيضاني السروري: وسرور نفسه يقول: أنا برئ من كل من قال: أنا سروري ( "نبذة يسيرة من أعلام الجزيرة"/ ص81/للشيخ أبي همام البيضاني حفظه الله/دار الآثار)
وعبد الرحمن بن مرعي العدني هداه الله في بيانه بالحديدة أظهر البراء إلى الله ممن طعن في دار الحديث بدماج وفي شيخنا أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله . ومع ذلك لم يزل مع هؤلاء الطاعنين، وهو نفسه طعّان في شيخنا حفظه الله ولم يعتذر. فقد ورث عبد الرحمن بن مرعي العدني هداه الله أسلوب هؤلاء الحزبيين، وصدق الشيخ ريبع المدخلي حفظه الله بنقله: لكل قوم وارث كما يقال. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي حفظه الله/ص332/دار الإمام أحمد).
وقد أحسن الشيخ أبو حمزة محمد العمودي حفظه الله في تعليقه على صنيع عبد الرحمن العدني ذلك، في "سلسلة الطليعة" ح5 فراجع فيها فإنها مفيدة مهمة في كشف تلبيسات عبد الرحمن بن مرعي العدني.
فقلنا لعبد الرحمن بن مرعي العدني كما قال الإمام الوادعي رحمه الله لعبد المجيد الزنداني: فإذا كنت تبرأ إلى الله فاخرج منهم ولا تبق على ما أنت عليه.
ونرجو منه الاستفادة من كلام شيخه الإمام الوادعي رحمه الله في التراثيين: تبرأ إلى الله من ماذا؟ وأنت تدعو في كل مجلس إلى الإخوان المفلسين، فمن الذي أمسكك حتى تبقى مع الإخوان المسلمين أأنت مربوط ومقيد؟ انصرف إذا كنت تبرأ إلى الله.. الله المستعان.
وليست تلك البراءة هي أول مرة صادرة من عبد الرحمن بن مرعي العدني. وقد فعلها قبل ذلك في بيان معبر فقال: وإني أبرأ إلى الله سبحانه من كل تعصب جاهلي ومن كل ما يكون سبب (هكذا) في تمزيق الصف وتشتت الشمل، سواء كان هذا التعصب لي أو لغيري اهـ
فقد أحسن وأوجز شيخنا الفاضل أبو عبد الله محمد باجمال حفظه الله في تعليقه عليه فقال: هذا التبرؤ وبهذا الأسلوب كل مبطل يحسنه، وكل مبطل ينكر حصوله منه، فإبليس قال الله عنه: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، وهكذا أبو الحسن وسائر أهل البدع يعلنونها بملئ أفواههم: نحن نبرأ إلى الله من كل تعصب جاهلي.
وهذا أمر لا يخفى، فلذا كان من المُلْزِم -في مثل هذه الأمور- الإيضاح والبيان، ليُعرف هل يقر بأن ما يجري هنا من جراء قضيته تعصب جاهلي أم لا؟ وهل هذه الأعمال التي يحدثها المُرَبَّطُون بالأراضي تشتت الشمل، وتفرق الصف أم لا؟ اهـ (ملزمة "ملحق المنظار" له/ص15).
الباب الرابع عشر: بعض أهل الخذلان يتلونون
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لأمته، وأعدوا له عدته، وأخذوا مصافهم ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس ودارت رحى الحرب واشتد القتال وتنادت الأقران النزال النزال، وهو في الملجأ والمغارات، والمدخل مع الخوالف كمين وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أني معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين، اهـ المراد ("القصيدة النونية"ج 1/ ص 8/ شرح الهراس/دار الكتب العلمية).
ولهذا الصنيع أصل في القرآن في صفات المنافقين، حيث قال الله تعالى: ]الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ [النساء/141].
ويليق أن يقال لهم: تطلب مشاركة الغانمين وما شهدت الحرب تحل الغنيمة لمن شهد الوقعة اهـ ("بدائع الفوائد" - ج 3 / ص 726/دار الحديث).
الباب الخامس عشر: غالب الصحفيين والجواسيس يتلونون
قال الإمام الوادعي رحمه الله: وبعد هذا فننصحك أيها الصحفي أن تسلم إذا أردت أن تنقذ نفسك من النار، ثم تعمل بصدق وإخلاص، فإن الغالب على الصحفيين أنّهم يتلونون، فهم يمدحون الحكام من أجل أن يعطوهم أموالاً، وربما يقلبون الحقائق ويهاجمون أهل العلم، فلا بد أن يكون الشخص ذا مبدأ صادق ولا يبالي بمن خالف، أما إذا كان يتلون فحتى صحيفته لن يطمئن الناس إليها، لأنّها قد أصبحت كذابة ومع المادة، ... -إلى قوله:-
وبما أن هذا الزائر ادعى أنه صحفي، وغالب ظني أنه جاسوس وليس بصحفي، على أن الصحفيين يجوز أن يكون غالبهم جواسيس، ففي ذات مرة أتاني شخص من اليمنيين قد علق كاميرا التصوير، وقال: أنا صحفي أريد أن ألقي معك مقابلة، فأريد أن تخبرني بكتبك التي ألفتها، وبحالة الدعوة، وهكذا، ثم تحدثنا قليلاً، فقال: أنا أقول لك بالمفتوح الآن مع أزمة الخليج وكان هذا في أيام أزمة الخليج من أين يأتيكم المال؟ فلعلكم قد تعطلتم من المال، فإذا كان قد حصل هذا فسنطلب من الحكومة أن تساعدكم. فقلنا: له: لا، نحن بخير والحمد لله.
وفي مرة أخرى أتاني أربعة أو خمسة في المكتبة القديمة وقالوا: نحن صحفيون، فهذا مندوب وزارة الإعلام، وهذا مندوب صحيفة كذا، وهذا مندوب لجريدة كذا، فقلت لهم: لا أدري أصحفيون أنتم أم جواسيس؟ فقالوا: هكذا. قلت: نعم. فقالوا: إذًا نترك المقابلة. فقلت: اتركوها. ثم رأيت واحدًا منهم في صعدة.
فالغالب عليهم أنّهم يريدون أن يفتنوا بين الدعاة إلى الله، وبين الدعاة إلى الله والحكومات وكذلك مسألة الكذب فأحدهم مستعد أن يكذب ولا يبالي، وعدم الصراحة، وربنا يقول في كتابه الكريم: ]ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرًا[. ("تحفة المجيب"/ ص229-وما بعدها/جلسة مع الصحفي الألماني/دار الآثار).
وقد سأل سائل ما ملخصه: إن لي أرضا في عمران، وحولها سكان اليهود، وأنا محتاج إلى المال. فهل عليّ إثم إن بعتها لليهود؟
فأجاب عنه شيخنا العلامة الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله ما ملخصه: لا تبع ممتلكتك لليهود، فإن ذلك سببا لتمكنهم في بلاد الإسلام. إن أكثرهم –يعني يهود عمران ونحوهم- جواسيس لليهود، وإن كانوا يتظاهرون أنهم بدو اهـ. (سجلت هذه الفائدة بتاريخ 6 شعبان 1430 هـ).
الباب السادس عشر: ابتلاء نبي الله الكريم يوسف عليه السلام
* تلونات إخوة يوسف عليه السلام قبل التوبة
قال الله تعالى: ]لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ...-إلى قوله:- فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ [يوسف/7-18].
قلت –عفى الله عني-: انظر كيف أبدوا شدة حسدهم وحقدهم على يوسف عليه السلام فيما بينهم، وتمالئوا على إلقائه في غيابة الجبّ، ثم تظاهروا أمام أبيهم يعقوب عليه السلام أنهم ليوسف لناصحون حافظون. ثم انظر كيف تباكوا بين يدي أبيهم، وأتوا على قميص يوسف بدم كذب، يكذبون على الذئب.
ففي هذه القصة بيان واضح على تلونات أهل مكر وخداع –نعوذ بالله من شرّهم-.
وما ذكرت هذه القصة تتبعاً لسيئات قومٍ قد تابوا وحسنت توبتهم، وإنما هذا من باب قول الله تعالى في هذه السورة: ]لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ[ و ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ [يوسف/111].
وفي هذه القصة أيضا عبرة بأن لا يغتر بدموع المدعي حتى ظهر صدق ادعائه. فبعض الناس –بل بعض الحزبيين المتلونين- حذاق في استعطاف الناس بالبكاء. ومنهم الإخوان المسلمون أصحاب التمثيليات.
قال الإمام أبو بكر ابن عربي المالكي رحمه الله: قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، وَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ حَكِيمٌ: (إذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى) وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مُشْتَبِهٌ ، وَأَنَّ مِنْ الْخَلْقِ فِي الْأَكْثَرِ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ التَّطَبُّعِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الطَّبْعَ. ("أحكام القرآن" /3/ ص32/سورة يوسف/المكتبة العصرية).
* عدم صحة قصة البائسة مع القاضي شريح
قال وكيع رحمه الله: قال حدثنا أحمد بن عمر بن بكير؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا الهيثم، عن مجالد، عن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة؛ فقال: يا شعبي: إن إخوة يوسف جاءوا أباءهم عشاءاً يبكون اهـ. ("أخبار القضاة" للقاضي وكيع رحمه الله - ج 1 / ص 191/المكتبة الشاملة)
وكيع، هو القاضي محمد بن خلف بن حيان بن صدقة أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع، كان عرافاً بالسير وأيام الناس، وله تصانيف منها عدد آي القرآن، قال الخطيب: وبلغني أن أبا بكر ابن مجاهد سئل أن يصنف كتاباً في العدد فقال: كفانا ذاك وكيع، وله "أخبار القضاة وتواريخهم"، كتاب "الأنواء"، كتاب "الشريف" يجري مجرى المعارف لابن قتيبة، كتاب "الغرر" فيه أخبار، كتاب "الطريف" ...-إلى قوله: - كان صدوقاً ثقة ("الوافي بالوفيات" – رقم 934/ دار إحياء التراث).
مجالد، هو ابن سعيد بن عمير أبو عمرو ويقال أبو سعيد الكوفي، ضعفه جملة من الأئمة الكبار، وروايته عن الشعبي رحمه الله ضعيفة.
فسند القصة ضعيف، ولم أجد لها سنداً آخر، والله المستعان.
* تلون امرأة العزيز قبل التوبة
قال الله تعالى في قصة نبيه الكريم يوسف عليه السلام: ]وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [يوسف/23-25].
انظر قولها أمام يوسف عليه السلام، وقارن بينه وبين قولها أمام سيدها.
وفي الآخر اعترفت: ]قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ الله لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [يوسف/51-53]
وليست هذه الرسالة موضعاً لذكر فوائد قصة يوسف عليه السلام الغزيرة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل اهـ. ("الجواب الكافي" /ص 273/فصل: ]في عشق الصور/[مكتبة العلوم والحكم).
الباب السابع عشر: إن التلون ليس طريقة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم
إن أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم صرحوا في دعوتهم وتخطئتهم أمتهم أمامهم، ولم يتلونوا ولم يكتموا عقيدتهم الصحيحة المخالفة لعقائدهم.
قال تعالى في قصة نوح عليه السلام: ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُون[ [الأعراف/59-62].
وقال تعالى في قصة هود عليه السلام: ]وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ [هود/50، 51].
وقال تعالى في قصة صالح عليه السلام: ]أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ[ [الشعراء/146-152].
وقال تعالى عنه: ]قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ[ [هود/63].
وقال تعالى في قصة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِين * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ[ [الأنبياء/58-68].
وقال تعالى عن لوط عليه السلام: ]وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا الله وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ[ [هود/78].
وقال تعالى عنه: ]قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ [ [الشعراء/167، 168].
وقال تعالى عن شعيب خطيب الأنبياء عليه السلام: ]قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[ [هود/91، 92].
وقال جل ذكره عنه: ]قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[ [الأعراف/88، 89].
وقال تعالى في قصة كليمه موسى عليه السلام: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[ [الإسراء/101، 102].
ولم تخرج هذه الأقوال القوية أمام قومهم إلا عن صدق وشجاعة ويقين وتوكل على الله عز وجل. وليس هذا السرد حصراً.
وهذا نبي الله الخليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يتلون أمام ملأ العرب.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما – قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى: «يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ» . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ». قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ: «فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ]تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ[. (أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن/باب لا تخزني يوم يبعثون/4770/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين/208/دار ابن الجوزي)).
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم كلاما قويا على أبي جهل لعنة الله عليه.
قال الإمام النسائي رحمه الله: أخبرني إبراهيم بن يعقوب نا أبو النعمان نا أبو عوانة وأنا أبو داود نا محمد بن سليمان نا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس –عن- ]أولى لك فأولى[ ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزله الله عز وجل. ("السنن الكبرى" /كتاب التفسير/سورة القيامة/رقم (11574)/ط. الرسالة)، وسنده صحيح، وقد قال الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 261/دار الآثار): الحديث رجاله رجال الصحيح اهـ.
وقال الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قُلْتُ: ] أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى[ ؟ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. ("تفسير القرآن العظيم" /رقم )19069/( ط. مكتبة نزار مصطفى الباز)، والسند صحيح إلى سعيد بن جبير رحمه الله.
وقال رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ] أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى[، وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ الله أَبَا جَهْلٍ، أَخَذَهُ نَبِيُّ الله بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى " ، فَقَالَ عَدِوُ الله أَبُو جَهْلٍ: أَتَوْعِدْنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَالله لا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلا رَبُّكَ، وَإِنِّي لاعَزَّ مَنْ مَشِيَ بَيْنَ جَبَلِيهَا". ("تفسير القرآن العظيم" /رقم )19070/( ط. مكتبة نزار مصطفى الباز).
سعيد هو ابن أبي عروبة، ثقة، أثبت الناس في قتادة.
وشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، هو ابن عبدالرحمن بن عبدالله بن راشد الدمشقي. روى عن سعيد بن أبي عروبة، ووثقه أحمد، وأبو داود وابن معين وغيرهم. قال ابن حبان كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة (44) قبل أن يختلط بسنة اهـ.
قلت –وفقني الله-: ومعنى قوله: سنة (44) قبل أن يختلط بسنة، أي: أربع وأربعين ومائة. وأصرح من هذا ما قاله هشام بن عمار عن شعيب: سمعت من سعيد سنة (144). (انظر "تهذيب التهذيب" – ج2/ ص34 و171/مؤسسة الرسالة)
وأما هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ هو أبو مرزان الأزرق القرشي الدمشقي، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم رحمهما الله: سمعت أبى يقول: هشام بن خالد صدوق . ("الجرح والتعديل" - ج 9 / ص 57)، وقال الذهبي رحمه الله: من ثقات الدماشقة. ("ميزان الاعتدال" – رقم 9222 / دار المعرفة).
فمن مراسيل سعيد بن جبير وقتادة رحمهما الله، استفدنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله لأبي جهل، وهذا هو ترجيح المفسرين رحمهم الله.
ولم يتلون صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته إلى هرقل أعظم ملوك الأرض يومئذ.
قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَه: -فذكر القصة بطولها إلى قوله:- بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[ (كتاب بدء الوحي/باب-6/رقم (7) /دار الكتب العلمية) ومسلم (كتب الجهاد/باب ... إلى هرقل/1773/دار ابن الجوزي)).
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ»، ولم يبدأ باسم هرقل،
وقوله: «إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، ولم يقل: (ملك الروم)،
وقوله: «سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى»، ولم يقل: (سلام عليكم)،
وقوله: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»،
وقوله: «فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ».
وقراءته الآية التي فيها: ]أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله[، فيها هدم جميع العبودية لغير الله تعالى، وإنزال العباد –منهم الأحبار والرهبان- منازلهم،
وقراءته قوله تعالى: ]فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[،
هذا كله يدل دلالة واضحة على عدم تلوّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مجاملة، ولا مداهنة، ولا تنازلات في مواجهة أعظم ملوك الأرض الكفار يومئذ.
وكذلك نهي نبينا الخليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته عن التلون في الدين، وذمه إياه، كل ذلك يدل على أن التلون في الدين ليس من الإسلام. فعلينا اتباع هذا الدين المضيء اتباعا كليا ما استطعنا ولا نتبع نزغات الشيطان. قالى تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ [البقرة/208، 209].
وقال جل ذكره: ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[ [الجاثية/18].
* الحديث المرفوع: «إياكم والتلون في الدين» لم يثبت
هناك حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما عن الإمام الطبراني رحمه الله قال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بن سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بن مُوسَى، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَبْدِ الله بن عَمْرٍو: «كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ مُزِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَصَارُوا هَكَذَا؟» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «اعْمَلْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِين». ("المعجم الكبير" /رقم 5851 /دار الكتب العلمية).
هذا الحديث لا يصح من أجل ضعف سويد بن سعيد الحدثاني().
* عدم تلوّن أصحاب الكهف
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف/13-15]
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار يقال له: دقيانوس، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبّت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه ]فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض[ ("فتح القدير" - ج3 / ص 379/دار الوفاء)
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى : ]وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ[، أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام. ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعلى يقوي قلبه ، ويثبته على تحمل الشدائد ، والصبر الجميل اهـ. ("أضواء البيان" – ص713 / دار الكتب العلمية)
* ثبات سحرة فرعون على الحق بعد العلم
قال الله تعالى: ]فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[ [طه/70-73].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و ]قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ[ أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين. ]وَالَّذِي فَطَرَنَا[ يحتمل أن يكون قسمًا، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات. يعنون: لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت. ]فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ[ أي: فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك، ]إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[ أي: إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار . ]إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا[ أي: ما كان منا من الآثام، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" - ص1864/ دار ابن الهيثم).
ولولا أن الله تعالى قد حبب إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم فذاقوا حلاوته، لما ثبتوا في هذا الظرف العصيب.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل النفوس وقالوا لفرعون: (اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ!) ومتى تمكنت المحبة في القلب لم ينبعث الجوارح إلا إلى طاعة الربّ ... إلخ ("كلمة التوحيد"/ص34/ط. المكتب الإسلامي)
الباب الثامن عشر: أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلوّنوا
إن أهل السنة والجماعة السلفيين أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صرحوا بالحق وصدعوا به ولم يتلونوا في دينهم. فمن نماذج ذلك:
1- إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يتلون
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِى حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله . فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله». فَقَالَ: وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه -: فَوَالله مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ الله صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ . (أخرجه البخاري (كتاب الزكاة/باب وجوب الزكاة/1399-1400/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب الأمر بقتال الناس/20/دار ابن الجوزي)).
الشاهد هنا: أن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -رضي الله عنهم أجمعين- ثبتوا على الحق ولم يتلوّنوا في ذلك الموطن العصيب –موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- حين ارتدّ كثير من العرب. ثم إن أبا بكر رضي الله عنه عزم على أخذ الزكاة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يغيّره وإن لم يكن سبيل إلا القتال. وأما الصحابة الآخرون رضي الله عنهم، ما نقول إنهم يتلوّنون، بل نقول إنهم وقفوا على حسب علمهم وشدة ورعهم، فلما تبين لهم الحق اتبعوه بلا توانٍ.
2- عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتلون
قال الإمام البخارى رحمه الله: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِىُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ ذَكَرَ لِى ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِى أَهْلِى حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ ، إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَأْتِينِى فَقَالَ أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ يَا مَالِ ، إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ . فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِى . قَالَ اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ . فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ . فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا ، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ . فَأَذِنَ لَهُمَا ، فَدَخَلاَ فَسَلَّمَا فَجَلَسَا ، فَقَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا . وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَنِى النَّضِيرِ . فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ . قَالَ عُمَرُ تَيْدَكُمْ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَهُ . قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ . فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ . قَالَ عُمَرُ فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِى هَذَا الْفَىْءِ بِشَىْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ - ثُمَّ قَرَأَ ]وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ[ إِلَى قَوْلِهِ ]قَدِيرٌ[ - فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ ، وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهُ ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ حَيَاتَهُ ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ . ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى ، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، ثُمَّ جِئْتُمَانِى تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ ، جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ، وَجَاءَنِى هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا ، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ » . فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا ، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا . فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا ، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ . قَالَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ، لاَ أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ ، فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا. (أخرجه البخاري /كتاب فرض الخمس/باب فرض الخمس /(3094) /دار الكتب العلمية، ومسلم/كتاب الجهاد والسير/باب حكم الفيء/ (1757)/دار طيبة).
قال المصنف وفقه الله: ثبات أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الحديث ظاهر. وأما عباس وعلي –فاظمة أيضا- رضي الله عنهم معذورون في طلبهم ميراثهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمسكاً بظواهر أدلة الميراث. والحق مع الشيخين رضي الله عنهما لأن التخصيص حاصل، والله أعلم.
3- عثمان بن عفان رضى الله عنه ثبت على الوصية ولم يتلون.
قال الإمام ابن ماجه رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ وَعَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِى مَرَضِهِ «وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِى بَعْضَ أَصْحَابِى». قُلْنَا يَا رَسُولَ الله أَلاَ نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ فَسَكَتَ قُلْنَا أَلاَ نَدْعُو لَكَ عُمَرَ فَسَكَتَ قُلْنَا أَلاَ نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ قَالَ «نَعَمْ». فَجَاءَ عُثْمَانُ فَخَلاَ بِهِ فَجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُهُ وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ. قَالَ قَيْسٌ فَحَدَّثَنِى أَبُو سَهْلَةَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّارِ إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَىَّ عَهْدًا وَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَلِىٌّ فِى حَدِيثِهِ وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ. قَالَ قَيْسٌ فَكَانُوا يُرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. ("سنن ابن ماجه" -كتاب السنة/فضل عثمان/رقم 113/دار الفكر).
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1588) /الطبعة الجديدة /دار الآثار).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو المغيرة قال ثنا الوليد بن سليمان قال حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الأُخْرَى فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلاَمٍ كَلَّمَهُ أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ وَقَالَ « يَا عُثْمَانُ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصاً فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِى يَا عُثْمَانُ إِنَّ الله عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصاً فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِى ». ثَلاَثاً فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ قَالَتْ نَسِيتُهُ وَالله فَمَا ذَكَرْتُهُ. قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِى أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنِ اكْتُبِى إِلَىَّ بِهِ فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَاباً. ("مسند أحمد" - (24610)/ط. الرسالة)
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1589)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
4- علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يتلون
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رضى الله عنهما - وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا . فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ، أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ أَحَدٍ. (أخرجه البخاري/كتاب الحج/باب التمتع والإقران/1563/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا محمد بن المثننى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك أهلّ بهما جميعا. (أخرجه مسلم /كتاب الحج/باب جواز التمتع/1223/دار ابن الجوزي).
5- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صدع بالحق ولم يتلون.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن قيس عن عياض بن عبدالله بن سعد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول تصدقوا تصدقوا تصدقوا وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف.
فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرّني نحو المنبر، وأنا أجرّه نحو الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الإبتداء بالصلاة ؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم -ثلاث مرار- ثم انصرف. (أخرجه مسلم (كتاب صلاة العيدين/889/دار ابن الجوزي)).
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ثنا يزيد بن هارون أنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن رجل عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لا يمنعن أحدكم مخافة الناس ان يقول بالحق إذا شهده أو علمه».
قال شعبة: فحدثت هذا الحديث قتادة فقال: ما هذا عمرو بن مرة عن أبي البختري عن رجل عن أبي سعيد؟ حدثني أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بالحق إذا شهده أو علمه». قال أبو سعيد: فحملني على ذلك أني ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت.
قال شعبة: حدثني هذا الحديث أربعة نفر عن أبي نضرة قتادة وأبو سلمة الجريري ورجل آخر. (أخرجه أحمد (11793) /ط. الرسالة).
السند الأول ضعيف للإبهام، والثاني صحيح بلا شك. وصححه الإمام الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (1/ص 323/تحت رقم168/مكتبة المعارف)، وأصل الحديث صححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم(414)/دار الآثار).
6- جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم لم يتلونوا
قال الإمام مسند أحمد بن حنبل رحمه الله: ثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم: أنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله أيم الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائن في ذلك ما هو كائن فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء. قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدراً من ]كهيعص[ قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدا عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم فقال له جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله. اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون-، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم. فما أحب أنّ لي دبراً ذهباً وإني آذيت رجلا منكم. -والدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى من ينازعه في ملكه. (أخرجه الإمام أحمد (22498)/ط. الرسالة، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (1651)/دار الآثار)
7- عدم تلون النجاشي رحمه الله
وهذا يعرف من الحديث السابق. وتكملة الخبر قالت أم سلمة رضي الله عنها: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى من ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم: مَن رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سنّاً قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بمكة.
8- الإمام ابن شهاب الزهري لم يتلون
قال الإمام الذهبي رحمه الله: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن الزهري لكونه كان مداخلاً للخلفاء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة. وأين مثل الزهري رحمه الله؟ -ثم ذكر رحمه الله أثراً من:- سلام بن أبي مطيع، عن أيوب السختياني، قال: لو كنت كاتباً عن أحد لكتبت عن ابن شهاب، قلت: قد أخذ عنه أيوب قليلاً.
-ثم ذكر رحمه الله أثراً من:- يعقوب السدوسي: حدثني الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبدالملك، فقال: (يا سليمان، من الذي تولى كبره منهم؟) قال: (عبد الله بن أبي ابن سلول)، قال: (كذبت، هو علي)، فدخل ابن شهاب، فسأله هشام، فقال: (هو عبد الله بن أبي)، قال: (كذبت، هو علي)، فقال: (أنا أكذب؟! لا أبا لك، فوالله لو نادى مناد من السماء، إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص، عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي)، قال: فلم يزل القوم يغرون به، فقال له هشام: (ارحل فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل على مثلك)، قال: (ولم؟ أنا اغتصبتك على نفسي، أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخل عني)، فقال له: (لا. ولكنك استدنت ألفي ألف)، فقال –يعني الزهري-: (قد علمت، وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك)، فقال هشام: (إنا أن نهيج الشيخ). فأمر فقضى عنه ألف ألف فأخبر بذلك، فقال: (الحمد لله الذي هذا هو من عنده). اهـ ("سير أعلام النبلاء"/5/ص339-340/ترجمة الزهري/الرسالة).
هكذا في "السير": (إنا أن نهيج الشيخ). وأما الذي في "تاريخ دمشق" (ج55/ص 370/ترجمة الزهري/دار الفكر) فإنه بلفظ: (إنا إن نهيج الشيخ يهيج الشيخ)، وهذا متجه()، والله أعلم.
9- الإمام ابن أبي ذئب رحمه الله لم يتلون
قال الإمام الذهبي رحمه الله: قال البغوي: حدثنا هارون بن سفيان قال: قال أبو نعيم: حججت عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، فدعا ابن أبي ذئب، فأقعده معه على دار الندوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد بن حسن - يعني أمير المدينة - ؟ فقال: إنه ليتحرّى العدل. فقال له: ما تقول فيَّ - مرتين - ؟ فقال: ورب هذه البنية إنك لجائر. قال: فأخذ الربيع الحاجب بلحيته، فقال له أبو جعفر: كف يا ابن اللخناء، ثم أمر لابن أبي ذئب بثلاث مئة دينار. ("سير أعلام النبلاء"/7 /ص 144/ترجمة ابن أبي الذئب/الرسالة).
10- الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم يتلون
قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: قال أبي: كان يوجّه إليّ كلّ يوم برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا قاما دعي بقيد، فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد. فلما كان في اليوم الثالث، دخل علي فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق. قلت: كفرت بالله، فقال الرسول الذي كان يحضر من قِبَل إسحاق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين. فقلت: إن هذا قد كفر. إلخ.
ذكرها صالح بن أحمد رحمهما الله في "سيرة الإمام أحمد" (ص51/ط. دار السلف). وذكرها أيضا الإمام المقدسي رحمه الله في كتابه "محنة الإمام أحمد بن حنبل" (ص52/مكتبة الهدي المحمدي)، والإمام الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" (ج 11 / ص 243/ترجمة الإمام أحمد/الرسالة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض الى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية بل قد أظهر من سنة رسول الله وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين ولهذا قال بعض شيوخ الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التى لا قدر لها اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 12 / ص 439/إحالة/دار الوفاء).
11- الإمام ابن الحطيئة رحمه الله لم يتلون
هو الإمام العلامة القدوة، شيخ الاسلام، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام اللخمي المغربي الفاسي المقرئ الناسخ ابن الحطيئة. مولده بفاس سنة ثمان وسبعين وأربع مئة.
قال الإمام السِلفي رحمه الله: كان ابن الحطيئة رأسا في القراءات، وقرأت بخط أبي الطاهر بن الأنماطي قال: سمعت شيخنا شجاعاً المدلجي وكان من خيار عباد الله يقول: كان شيخنا ابن الحطيئة شديداً في دين الله، فظّاً غليظاً على أعداء الله، لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة() مع عظم سلطانه ونفوذ أمره، فما يحتشمه، ولا يكرمه، ويقول: أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض، خالفوا الكتاب والسنة، وكفروا بالله، وكنت عنده يوما في مسجده بشرف مصر وقد حضره بعض وزراء المصريين أظنه ابن عباس، فاستسقى في مجلسه، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة، فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده، وصرخ صرخة ملات المسجد، وقال: واحرها على كبدي، أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آنية الفضة ؟ ! لا والله لا تفعل، وطرد الغلام، فخرج، وطلب الشيخ كوزا، فجئ بكوز قد تثلم، فشرب، واستحيى من الشيخ، فرأيته والله كما قال الله: ﴿يتجرعه ولا يكاد يسيغه﴾ [إبراهيم: 17].
وذكرنا في " طبقات القراء " أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس، فاشترط عليهم شروطا صعبة، منها أنه لا يقضي بمذهبهم - يعني الرفض -، فلم يجيبوا إلا أن يقضي على مذهب الإمامية. ("سير أعلام النبلاء" - ج 20 / ص 344-347/ط. الرسالة).
12- شيخ الاسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله أيضاً لم يتلون
قال ابن طاهر رحمه الله: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان ألب أرسلان هراة في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه وقالوا: ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم صنما من نحاس صغيرا وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ وخرجوا وقام إلى خلوته ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري وأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنما يزعم ان الله على صورته وإن بعث الآن السلطان يجده فعظم ذلك على السلطان وبعث غلاما ومعه جماعة فدخلوا الدار وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم ورجع الغلام بالصنم فبعث السلطان من أحضر الانصاري فأتى فرأى الصنم والعلماء والسلطان قد اشتد غضبه، فقال السلطان له: ما هذا ؟ قال: هذا صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة، قال: لست عن ذا أسألك ؟ قال: فعم يسألني السلطان قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول أن الله على صورته، فقال الأنصاري بصولة وصوت جهورى: سبحانك هذا بهتان عظيم. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه فأمر به فأخرج إلى داره مكرما، وقال لهم: اصدقوني. وهددهم فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة فأردنا أن نقطع شره عنا، فأمر بهم ووكل بكل واحد منهم وصادرهم وأهانهم. ("تذكرة الحفاظ"/3/ص1187-1189/ترجمة الهروي/دار الكتب العلمية).
13- شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يتلون
ذكر الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله قصة رائعة لشيخ الإسلام رحمه الله: ... ثم إن الوزير أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للديوان في كل سنة سبعمائة ألف درهم زيادة على الجالية على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة وأن يعفوا من هذه العمائم المصبغة كلها بهذه الألوان التي ألزمهم بها ركن الدين الشاشنكير. فقال السلطان للقضاة ومن هناك ما تقولون؟ فسكت الناس. فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا جثا على ركبتيه، وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ويرد ما عرضه الوزير عنهم ردا عنيفا، والسلطان يسكّته بترفقٍ وتؤدةٍ وتوقير. فبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، حتى رجع السلطان عن ذلك وألزمهم بما هم عليه واستمروا على هذه الصفة.
فهذه من حسنات الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ...إلخ ("الانتصار" وسمي أيضاً "العقود الدرية" - ص 297/ط. مجلس السيرة والسنة بالقاهرة).
14- الإمام الوادعي رحمه الله لم يتلون
قال رحمه الله في نصيحته للرئيس وغيره: ... المهم أن ننصح الرئيس ألاّ يمكنهم –يعني الإخوان المسلمين- من أهل السنة، ما لهم ولأهل السنة، أهل السنة ما يتلونون نحن نقول اليوم وغدًا وبعد غد: الانتخابات طاغوتية محرمة. نحن ما نطالب الرئيس بأن يتنازل لنا ما نطالبه، بل نحن نقول له: أيها الرئيس نطالبك بالاستقامة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وإلا فكم نبح عبدالله صعتر يقولون له: يا شيخ الذي لا يدخل في الانتخابات وينتخب حزب الإصلاح؟ قال: مثله كمثل الذي لا يصلي. وآخر يقول: يا شيخ الذي ما يدخل في الانتخابات وينتخب حزب الإصلاح؟ قال: مثله كمثل القواعد أي النسوة القواعد اللاتي قد أصبحن عجائز ، وهكذا وصفنا بأننا عملاء للاشتراكيين، وأننا عملاء للصهاينة، وأننا عملاء لأمريكا. والحمد لله الناس يعرفون من هو المتلون ومن هو العميل والفضل في هذا لله سبحانه وتعالى. فإياك إياك أيها الرئيس أن تمكن هؤلاء المهوسين.
والحزبية إذا فرضت عليهم أن ينقلبوا سينقلبون اليوم أو غدًا أو بعد غد. بالأمس يقولون: علي عبدالله صالح علماني كافر. وبالأمس يقولون لنا في الانتخابات التي حصلت بعد الوحدة: إذا فزنا ولم يسلمها علي عبدالله صالح سنقاتله، سنقاتله. وصعتر يقول: إذا لم يثبتوا في الدستور (المصدر للتشريع هو القرآن) -أو بهذا المعنى فكل واحد يأخذ بندقيته وعلى رأس جبل. والحكومة تعرفهم تقول: هي ناقة ولو هدرت. الناقة تهدر ثم بعد ذلك تقرّب ويعطون كرسيًا، ويعطون سيارات أو كذا وانتهى الأمر، أو يقلب عينيه فيهم وما تدري وهو خارجون: لا، والله الجو مكهرب.
فننصح الإخوة أهل السنة سواء أكنت مدرسًا أم كنت مدير مدرسة أم كنت إمام مسجد أو غير ذلك ننصحك ألاّ تشارك في الانتخابات وإلا فسنيتك مزعزعة، تتركها لله لا لئلا يعيرك إخوانك، ولكن تتركها لله سبحانه وتعالى. اهـ ("تحفة المجيب" /ص400-402/رسالة إلى أهل عبس/دار الآثار).
فالأمثلة كثيرة، وإنما الذي سبق نبذة يسيرة.
فالتلون ليس من سيما المؤمنين، بل هم يُنهون عنه .
قال تعالى تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[ [الأحزاب/70، 71].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة مَنْ كأنه يراه، وأن يقولوا ]قَوْلا سَدِيدًا[ أي: مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها. ("تفسير القرآن العظيم" ج 6 / ص 487/دار طيبة).
وقال تعالى: ]فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[ [القلم/8، 9].
قال الإمام البغوي رحمه الله: يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم.]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[ قال: الضحاك لو تكفر فيكفرون. قال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. قال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. قال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة. اهـ ("معالم التنزيل" – ص1336-1337/ط. ابن حزم).
وقال العلامة السعدي رحمه الله: يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ]فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[ الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلا لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: ]وَدُّوا[ أي: المشركون ]لَوْ تُدْهِنُ[ أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ]فَيُدْهِنُونَ[ ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. اهـ ("تيسير الكريم الرحمن" /ص 841/دار ابن حزم).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله في شرحه على حديث ذي الوجهين: قوله ((نفاقا)) لأنه إبطان أمر وإظهار أمر آخر، ولا يراد به أنه كفر بل إنه كالكفر، ولا ينبغي لمؤمن أن يثني على سلطان أو غيره في وجهه وهو عنده مستحق للذم، ولا يقول بحضرته خلاف ما يقوله إذا خرج من عنده لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر. وقال فيه: ((شر الناس ذو الوجهين)) الحديث، لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم ويريد أنه منهم، وهذه المذاهب محرمة على المؤمنين اهـ. ("عمدة القاري" /كتاب الأحكام/باب ما يكره من ثناء السلطان/ج 25/ص 255/دار الفكر)
قال الإمام ابن بطال رحمه الله في شرح حديث أَبُي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال النَّبِى - صلى الله عليه وسلم-: «تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الله ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ»: يريد أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه هى المداهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن هذا دأبه فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو كان مع إحدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى باسم الطائفة المنفرد بصحبتها.
وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: «ذو الوجهين لايكون عند الله وجيهًا» وروى أنس عن النبى عليه السلام أنه قال: «من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة» فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله - تعالى. اهـ ("شرح ابن بطال" – كتاب الآداب/باب ذي الوجهين/9/ص251-252/مكتبة الرشد).
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: والواجب على الإنسان أن يكون صريحاً، لا يقول إلا ما في قلبه، فإن كان خيرا حُمد عليه، وإن كان سوى ذلك وُجِّه إلى الخير، أما كونه يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، سواء كان فيما يتعلق بعبادته يظهر أنه عابد مؤمن تقي وهو بالعكس، أو فيما يتعلق بمعاملته مع الشخص يظهر أنه ناصح له ويثني عليه ويمدحه، ثم إذا غاب عنه عقره، فهذا لا يجوز. ("شرح رياض الصالحين"، تحت رقم 1540-1541/دار السلام).
وقال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى: فالدعوة عندنا أعزّ من أنفسنا، ومن أهلينا وأموالنا، ومستعدون أن نأكل ولو التراب ولا نخون ديننا وبلدنا ولا نتلون، التلون ليس من شيمة أهل السنة. اهـ )"الباعث على شرح الحوادث" ص 57/مكتبة صنعاء الأثرية).
ولما كان التلون يصاحب التزلف، أحبّ أن أذكر هذه الفائدة: قال شيخنا الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: المتزلّفون للحكومة لا ينصحونهم. وأما أهل السنة نصحوا الحكومة اهـ (سجلت هذه الفائدة في 19 جمادى الثانية 1430 هـ)
* أثر الإمام الأوزاعي رحمه الله
وهناك أثر جميل أخرجه الإمام ابن بطة رحمه الله فقال: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد القصباني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن هارون، قال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: حدثنا زياد بن أيوب الطوسي، قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، قال: قيل للأوزاعي: إن رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة، وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل().
قال الشيخ –يعني: الإمام ابن بطة رحمه الله-: صدق الأوزاعي، أقول: إن هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ]وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم[ ("الإبانة الكبرى" – رقم 435 / باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
لاحظ قول الإمام ابن بطة رحمه الله بأن من يجالس أهل السنة، وكذلك يجالس أهل البدع، فإنه لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ]وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم[.
قلت –عفى الله عني-: إنا قد رأينا هذا الصنف بأبصارنا، وسمعنا تفوّههم بأسماعنا. إذا كانوا حولنا أو بين أيدي شيخنا الكريم -حفظه الله- قالوا: (نحن على ما قاله الشيخ) وتكلموا في المبطلين بشدة، فلما خلوا إلى أصحاب المرض والعناد قالوا: (إنا معكم، إن هؤلاء متشددون)، أو نحو ذلك.
الباب التاسع عشر: أفضل الجهاد
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر». (أخرجه أحمد بن حنبل في "المسند" رقم 18828/ط. الرسالة)،
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (518/(الطبعة الجديدة /دار الآثار).
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم رحمه الله: إِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَل الْجِهَاد لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوّ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْن رَجَاء وَخَوْف لَا يَدْرِي هَلْ يَغْلِب أَوْ يُغْلَب وَصَاحِب السُّلْطَان مَقْهُور فِي يَده ، فَهُوَ إِذَا قَالَ الْحَقّ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ وَأَهْدَفَ نَفْسه لِلْهَلَاكِ فَصَارَ ذَلِكَ أَفْضَل أَنْوَاع الْجِهَاد مِنْ أَجْل غَلَبَة الْخَوْف قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره. اهـ ("عون المعبود" – كتاب الفتن والملاحم/ باب الأمر والنهي /تحت رقم 4336/ دار الحديث).
ولعظم هذا البلاء –وغير ذلك- كره السلف الصالح رضي الله عنهم الدخول على السلطان إلا بنية صالحة مع القوة على النصح وإنكار المنكر.
وقد قال تعالى: ]وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ [البقرة/195]،
وقال تعالى: ]وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[ [النساء/29].
قال الإمام البخارى رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ الله وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الله بْنُ أَبِى أَوْفَى - رضى الله عنهما - فَقَرَأْتُهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ. ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ». (أخرجه البخاري (كتاب الجهاد/باب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقاتل .../2965-2966/دار الكتب العلمية)، ومسلم (كتاب الجهاد/باب كراهية تمني لقاء العدو/1742/دار ابن الجوزي)).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». ("صحيح البخارى" - (كتاب الإيمان/باب من الدين الفرار من الفتن/رقم19/دار الكتب العلمية))
وقال الإمام النووي رحمه الله: والسلامة لا يعدلها شيءٌ. ("رياض الصالحين" / ص 371/باب تحريم الغيبة/مكتبة خالد بن الوليد).
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله: الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملا، فهو صديق. ومن ضعف، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب. ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله.اهـ ("سير أعلام النبلاء" ج 11 / ص 234/ترجمة الإمام أحمد/الرسالة).
* حديث «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه»
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» قيل وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(). ("المسند" /(23491)/ط. مؤسسة الرسالة)
وأما من تعمّد الدخول على السلاطين فأثنى عليهم، ونصرهم على باطلهم فقد أهلك نفسه.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا هداب بن خالد الأزدي حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا». (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة/باب وجوب الإنكار .../1854/دار ابن الجوزي)).
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن خثيم عن عبد الرحمن بن ثابت عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: «أمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردوا على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردوا على حوضي، يا كعب بن عجرة الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة والصلاة قربان -أو قال:- برهان، يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به، يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها». ("مسند أحمد بن حنبل" (14441/ط. الرسالة) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (245/ الطبعة الجديدة /دار الآثار) من أجل ابن خثيم -وهو عبد الله-، حسن الحديث).
الباب العشرون: احذروا من اندساس الأعداء
إن اندساس الأعداء ضرره عظيم، وخطره جسيم، فلا بد من التفطن، والانتباه، وتكرار التنبيه، وزيادة الإنذار.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه، فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله، فأطلق قيده، ثم أناخ، وقعد عليه، فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتدّ فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل، فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض، اخترطت سيفي، فضربت رأس الرجل، فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال: «من قتل الرجل؟» قال: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع». (أخرجه مسلم (كتاب الجهاد/باب استحقاق القاتل سلب القتيل/1754) وأصله عند البخاري (كتاب الجهاد/باب الحربي إذا دخل دار الإسلام/3051) /دار الكتب العلمية).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ... الْجَاسُوس الْمَذْكُور أَوْهَمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَهُ أَمَان ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَته مِنْ التَّجسِيسِ اِنْطَلَقَ مُسْرِعًا فَفَطِنَ لَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ حَرْبِيّ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ اهـ ("فتح الباري" - ج 6 / ص 216/مكتبة الصفا)
قلت –وفقني الله-: هذا الحديث دليل على قضية الجاسوس. وهو أيضاً صالح للاستدلال على أن عامة المندسّين لا يستطيعون الدخول في أوساط المسلمين إلا من طريق التلون، والتستر، والتقية، ونحو ذلك.
وكذلك المندسّون في أوساط أهل السنة وعلمائهم، لا يطيقون إلا من طريق التلون، والتستر، والتقية ونحو ذلك. فبهذه الطرق غرّوا على المجتمع –بل بعض العلماء- فيحسبونهم من أهل السنة وهم عقارب!
قال الإمام البربهاري رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون . ("طبقات الحنابلة"/2/ ص 44/ترجمة الإمام حسن بن علي البربهاري/دار المعرفة).
وقد قال فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي - حفظه الله- : .. أن أهل البدع بأصنافهم كانوا ينحازون ويتميزون عن أهل السنة فيخف شرهم وضررهم نسبيا، أما في هذا العصر فقد استطاع أهل البدع بكيدهم ومكرهم ودهائهم أن يتخللوا صفوف أهل السنة بل ويندمجوا في أوساطهم مما كان له الآثار السيئة الكبيرة ولا سيما في شباب الأمة ومثقفيهم، ولا سيما في الجامعات والجوامع بل والبيوت بل والأسواق. (مقدمة الشيخ على "إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء" ص5/مكتبة الأصالة الأثرية).
والمندسون هم من أخطر أنصار أعداء الإسلام. قال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: فهبّ أعداء الإسلام من يهود، وماسونيين، ومستشرقين، ومستعمرين، لإيقاظ هذه الفتنة من سباتها، أو نبشها من قبورها المندثرة، ثم بثّها في الشرق، والغرب، وفي صفوف أبناء الأمة الإسلامية خصوصاً المثقفين والجامعيين، وانضم إلى صفوف هؤلاء الأعداء سفهاء وأغبياء من أبناء جلدتنا، ومن يتكلم بلغتنا، فكان هجومهم على السنة أشد وأعنف، وكانوا أشد خطراً على الإسلام من أعداء الإسلام المكشوفين الواضحين.
ولكن الله الذي تعهـد بحفظ دينـه ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (الحجر:9). لهؤلاء جميعاً -من أعداء الإسلام الواضحين، وأعداء السنن المندسين في صفوف الإسلام، واللاهثـين وراءهم- بالمرصاد اهـ. ("حجية خبر الآحاد" ص9/مقدمة /الدار الأثرية)
وقال فضيلة الشيخ حفظه الله في شأن حزب الحدادية: إنما هذه فئة مدسوسة على المنهج السلفي لتشويهه وإسقاط علمائه. ("شرح عقيدة السلف"/ للشيخ ريبع المدخلي /ص173/دار الإمام أحمد).
وقال فيهم في ص180: ولا يعترفون إلا بشخص واحد - تقريباً - وهو الشيخ صالح الفوزان فقط، ليندسوا ورائه وليطعنوا في أهل السنة جميعا. وهم والله بدأوا بالشيخ صالح الفوزان ـ ورب السماء ـ وأدين الله بأنهم يبغضونه ويحتقرونه. اهـ
وقال فضيلة شيخنا المتفرّس الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري - حفظه الله-: والحزبيون الآن عندهم زحف على مشايخ السنة، يعني من حيث المجالسة والحضور والاحتفاء والالتفاف. (ملزمة "زجر العاوي" ص12 لأبي حمزة العمودي).
ومن هذا الباب أيضا شدة اندساس الحزبيين في الجامعة الإسلامية بالمدينة. قال شيخنا المحدث المجاهد أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: وهذا رسالة أخينا الشيخ الفاضل محمد بن هادي المدخلي أحد المدرسين في الجامعة الإسلامية مع أخينا الشيخ حسن بن قاسم الريمي -حفظهما الله- إلى شيخنا مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- قال الأخ حسن في رسالته التي ناقش فيها جملة من كلام الشيخ عبيد عن الجامعة الإسلامية، وأثبت بصفته أحد المتخرجين منها أن الأغلبية والسيطرة في الجامعة الإسلامية للحزبيين، وهذا ما نقله عن فضيلة الشيخ محمد بن هادي أنه قال له: أخْبر الشيخ مقبلا بأن الجامعة الإسلامية ليست بأيدي السلفيين. ("التوضيح" ص7 لشيخنا يحيى الحجوري حفظه الله).
ولا تنس أن كينونة أبي الحسن الندوي الجشتي الصوفي عضوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة تعتبر اندساسا! قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: ومن كبار مشايخ التبليغيين أبو الحسن الندوي، وقد ترجم له محمد أسلم في ص22-26 من كتابه المسمى "جماعة التبليغ عقيدتها وأفكار مشايخها"، وذكر أنه من خلفاء ورفقاء وتلامذة الشيخ محمد إلياس مؤسس جماعة التبليغ. ثم ذكر: الأستاذ أبو الحسن علي الندوي الجشتي الصوفي، وهو من كبار علماء جماعة التبليغ، ومدير دار العلوم الندوة العلماء لكهنو – الهند، وعضو لرابطة العالم الإسلامي، وعضو لمجلس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. اهـ النقل ("القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ" ص137/دار الصميعي).
وقد قال الشيخ سيف الرحمن بن أحمد أن من التشابه بين القاديانية وبين التبليغيين: وكلتا الاثتنين تفرغان جهودهما على الاختلاس والاختناس والاصطياد والتزلف إلى الحكام وأصحاب الاعتبار وذوي النفوذ، واجتذابهم إلى أنفسهم إلخ (نقله الشيح حمود رحمه الله في "القول البليغ" ص21/دار الصميعي).
وقال شيخنا العلامة أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله : الوسيلة الخامسة: محاولة دخول الحزبيين في أوساط السلفيين، وفي معاقلهم، وتفكيكهم، ألا تلاحظون حفظكم الله ما صنعوا في السعودية؟، فإنهم لما رأوا دعوة التوحيد والسنة سائدة في تلك الدولة، حاول الحزبيون من أصحاب أفكار حسن البناء، وسيد قطب، أن يدخلوا في جامعاتهم، وأن يدخلوا في شئون دعوتهم باسمهم؛ حتى أنشأوا من يقوم بالدور، ولما حصل هذا القيام بالدور، من أيادي قوية ممكّنة، جعلوا يزحزحون السلفيين عن كثير من الأعمال الهامة، واحداً بعد واحد. ("أضرار الحزبية" ص35/دار الآثار).
وقال شيخنا الفقيه يحيى الحجوري حفظه الله: أتباع أبي الحسن مندسون في أوساط السلفيين، فلما قام عبد الرحمن العدني بفتنته نصروه وأيّدوه (أو كما قال حفظه الله. ليلة الخميس، 22 جماد الثاني 1430 هـ).
الباب الحادي والعشرون: الحزبيون المندسون يتشبعون بما لم يعطوا
إن الحزبيين الذين يندسون في أوساط أهل السنة والجماعة ويتظاهرون أمام العلماء أنهم سلفيون فإنهم أهل الزور. لو صدقوا، وصرحوا، وخلعوا "جبة السلفية" و"عمامة السنة" لعُرفت جواهرهم الحزبية الخبيثة. ولكن هيهات أن يصدق الحزبيون ويتركوا أركانهم: الكذب، والتلبيس، والخداع. فالحزبيون يتلونون ببعض الألوان ليست على حقيقتهم، لأنهم أصحاب الزور.
قال الله تعالى: ]لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [آل عمران/188].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها لم يَزِدْه الله إلا قِلَّة»() وفي "الصحيح": «المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور»(). ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 181/دار طيبة).
وسيأتي شروح حديث المتشبع.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ ]لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ[ الآيَةَ. (أخرجه البخاري (كتاب التفسير/باب لا تحسبن الذين يفرحون.../4567/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب صفات المنافقين/ 2777/دار ابن الجوزي)).
قلت –وفقني الله-: لا بد من وجود التلون في صنيع هؤلاء المتشبعين بما لم يعطوا، والله أعلم.
وقد روي سبب آخر لهذه الآية:
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِىَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَىْءٍ ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ]وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ[ كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ ]يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا[. تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. (أخرجه البخاري (كتاب التفسير/باب لا تحسبن الذين يفرحون.../ 4568/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب صفات المنافقين/2778) /دار ابن الجوزي).
هذان الحديثان لم يتعارضا، لأن ظاهر الآية عام لكل من اتصف بأن يفرح بما أوتي وأن يحمد بما لم يفعل.
وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ولا منَافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم. ("تفسير القرآن العظيم" - ج 2 / ص 182/دار طيبة).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَبِهَذَا أَجَابَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره، وَحَكَى الْفَرَّاء أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْل الْيَهُود نَحْنُ أَهْل الْكِتَاب الْأُوَل وَالصَّلَاة وَالطَّاعَة، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ فَنَزَلَتْ ]وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا[. وَرَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طُرُق أُخْرَى عَنْ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ نَحْو ذَلِكَ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَلَا مَانِع أَنْ تَكُون نَزَلَتْ فِي كُلّ ذَلِكَ ، أَوْ نَزَلَتْ فِي أَشْيَاء خَاصَّة وَعُمُومهَا يَتَنَاوَل كُلّ مَنْ أَتَى بِحَسَنَةٍ فَفَرِحَ بِهَا فَرَح إِعْجَاب وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدهُ النَّاس وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَالله أَعْلَمُ. اهـ ("فتح الباري" - ج 8/ ص 94/مكتبة الصفا).
قلت –وفقني الله-: لو ثبت هذان الحديثان لسلكنا طريقة الجمع بأن الآية تعددت أسباب نزولها. ولكن عند التحقيق، حديث أبي سعيد رضي الله عنه أصح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: ولو رجح حديث أبي سعيد لكان أولى، لأن حديث ابن عباس مما انتقد على الشيخين كما في مقدمة "الفتح" ج2 ص132. وكما في "الفتح" ج9 ص302 ولا معنى لقصرها على أهل الكتاب –قلت: كما أفاده حديث ابن عباس رضي الله عنهما-. ("الصحيح المسند في أسباب النزول" /ص68/دار الآثار)
وقال رحمه الله في نفس الصفحة (68): هذا، ومما يؤيد ما قلته في الترجيح أن الحافظ رحمه الله قال في "الفتح" في أبي رافع الرسول إلى ابن عباس الذي يدور عليه: (لم أر له ذكراً في كتب الرواة إلا بما أتى في الحديث. والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى مروان فبلغه الرِّسَالَة وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَان بِالْجَوَابِ فَلَوْلَا أَنَّهُ مُعْتَمَد عِنْد مَرْوَان مَا قَنَعَ بِرِسَالَتِهِ) إلى آخر ما قال رحمه الله (في "فتح الباري" /ج 8/ ص94/مكتبة الصفا)
فعلى هذا فأبو رافع مجهول اهـ (من كلام الإمام الوادعي رحمه الله).
* معنى حديث المتشبع
قال القاضي عياض رحمه الله: وأصله كله من إظهار الشبع وهو جيعان، ... إلخ ("مشارق الأنوار على صحاح الآثار" - ج 2 / ص 409/مادة ش ب ع/دار الكتب العلمية).
قال المناوي رحمه الله: وأصل المتشبع الذي يظهر أنه شبعان وليس بشبعان، انتهى المراد ("فيض القدير" – تحت رقم 9168/دار الفكر)
وقال الإمام النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده، يَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس، وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور ... إلخ ("شرح النووي على مسلم" - ج 7 / ص 235/دار إحياء التراث)
وقال المناوي رحمه الله: ... وهو بمعنى قول بعضهم هو الذي يلبس ثياب الزهاد وباطنه مملوء بالفساد وكل منهما زور أي مخالف بالنسبة للآخر ... إلخ ("فيض القدير"- تحت رقم 9168/دار الفكر)
وقال ابن حجر رحمه الله: قَالَ –يعني أبا عبيد معمر بن المثنى رحمه الله-: قَوْله " الْمُتَشَبِّع " أَيْ الْمُتَزَيِّن بِمَا لَيْسَ عِنْده يَتَكَثَّر بِذَلِكَ وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ؛ كَالْمَرْأَةِ تَكُون عِنْد الرَّجُل وَلَهَا ضَرَّة فَتَدَّعِي مِنْ الْحَظْوَة عِنْد زَوْجهَا أَكْثَر مِمَّا عِنْده تُرِيد بِذَلِكَ غَيْظ ضَرَّتهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرِّجَال، قَالَ: وَأَمَّا قَوْله "كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور" فَإِنَّهُ الرَّجُل يَلْبِس الثِّيَاب الْمُشْبِهَة لِثِيَابِ الزُّهَّاد يُوهِم أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَظْهَر مِنْ التَّخَشُّع وَالتَّقَشُّف أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه مِنْهُ،
قَالَ: وَفِيهِ وَجْه آخَر أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالثِّيَابِ الْأَنْفَس كَقَوْلِهِمْ (فُلَان نَقِيّ الثَّوْب) إِذَا كَانَ بَرِيئًا مِنْ الدَّنَس، وَ(فُلَان دَنِسَ الثَّوْب) إِذَا كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينه،
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الثَّوْب مَثَل، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَاحِب زُور وَكَذِب، كَمَا يُقَال لِمَنْ وُصِفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْأَدْنَاس (طَاهِر الثَّوْب) وَالْمُرَاد بِهِ نَفْس الرَّجُل،
وَقَالَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير: الْمُرَاد بِهِ أَنَّ شَاهِد الزُّور قَدْ يَسْتَعِير ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّل بِهِمَا لِيُوهِم أَنَّهُ مَقْبُول الشَّهَادَة اهـ. وَهَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ نُعَيْم بْن حَمَّاد قَالَ: كَانَ يَكُون فِي الْحَيّ الرَّجُل لَهُ هَيْئَة وَشَارَة، فَإِذَا اُحْتِيجَ إِلَى شَهَادَة زُور لَبِسَ ثَوْبَيْهِ وَأَقْبَلَ، فَشَهِدَ، فَقُبِلَ لِنُبْلِ هَيْئَته وَحسْن ثَوْبَيْهِ، فَيُقَال: (أَمْضَاهَا بِثَوْبَيْهِ) يَعْنِي الشَّهَادَة، فَأُضِيفَ الزُّور إِلَيْهِمَا، فَقِيلَ: (كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور). ("فتح الباري" - ج 9/ ص 261/مكتبة الصفا).
لماذا يعبر بالثوبين لا بالثوب الواحد؟
قال الحافظ رحمه الله: وَأَمَّا حُكْم التَّثْنِيَة فِي قَوْله "ثَوْبَيْ زُور" فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كَذِب الْمُتَحَلِّي مَثْنَى، لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى نَفْسه بِمَا لَمْ يَأْخُذ، وَعَلَى غَيْره بِمَا لَمْ يُعْطِ، وَكَذَلِكَ شَاهِد الزُّور يَظْلِم نَفْسه وَيَظْلِم الْمَشْهُود عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي التَّثْنِيَة إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ كَالَّذِي قَالَ الزُّور مَرَّتَيْنِ مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنَّ بَعْضهمْ كَانَ يَجْعَل فِي الْكُمّ كُمًّا آخَر يُوهِم أَنَّ الثَّوْب ثَوْبَانِ، قَالَهُ اِبْن الْمُنَيِّر . قُلْت: وَنَحْو ذَلِكَ مَا فِي زَمَاننَا هَذَا فِيمَا يُعْمَل فِي الْأَطْوَاق، وَالْمَعْنَى الْأَوَّل أَلْيَق. ("فتح الباري" - ج 9/ ص 261/مكتبة الصفا).
وقال ملا علي القاري رحمه الله: وأتى بالتثنية لإرادة الرداء والإزار، إذ هما متلازمان للإشارة إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه، وقيل للإشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان فقدان ما يشبع به وإظهار الباطل، ... إلخ ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" – كتاب النكاح/باب عشرة النساء/3247 / المكتبة التجارية)
وفي التشبع بما لم يعط خطر وفساد
قال الحافظ رحمه الله: وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَنْفِير الْمَرْأَة عَمَّا ذَكَرْت خَوْفًا مِنْ الْفَسَاد بَيْن زَوْجهَا وَضَرَّتهَا وَيُورِث بَيْنهمَا الْبَغْضَاء فَيَصِير كَالسِّحْرِ الَّذِي يُفَرِّق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه . اهـ (نفس المصدر من "فتح الباري"/مكتبة الصفا)
قلت –وفقني الله-: إذا كان في حق الزوجين، فكيف بحق مجتمع المسلمين والسلفيين اندسّ عليهم الحزبيون المتسترون يبثّون سمومهم القتّالة؟ لا شكّ أن فسادهم على الرجال والنساء والصبيان والشباب بل الكهول أعظم، كما شهد على ذلك الواقع. والله المستعان.
وهل يفتضح المتلونون المندسّون أصحاب الزور؟
أبى الله إلا أن يفضح أمرهم ويبصّر أولياءه بحقيقة القوم. ﴿وَالله مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون﴾ [البقرة/72] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُم﴾ [محمد/29]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، إلخ ("تفسير القرآن العظيم"- ج 7 / ص 321/دار طيبة)
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَالله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم﴾ [محمد/30] ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة/64].
وَقَالَ ابْن التِّين رحمه الله في شرح حديث ثوبي الزور: هُوَ أَنْ يَلْبَس ثَوْبَيْ وَدِيعَة أَوْ عَارِيَة يَظُنّ النَّاس أَنَّهُمَا لَهُ وَلِبَاسهمَا لَا يَدُوم وَيَفْتَضِح بِكَذِبِهِ. (نقله ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" /9/ 261/مكتبة الصفا).
قال الإمام الفريابي رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن الرجل منكم ليخرج من بيته فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول : ذيت وذيت فيمدحه فعسى أن لا يحلأ من حاجته بشيء فيرجع وقد أسخط الله عز وجل عليه وما معه من دينه شيء. اهـ ("صفة النفاق وذم المنافقين"/ رقم (109) /دار الآثار صنعاء)
والأثر صحيح، وقد صححه شيخنا أبو عبد الرحمن جميل بن عبده الصلوي حفظه الله في "فتح أرحم الراحمين" (ص 102/دار التيسير).
فليتق الله من تصنع ليُحمد وهو لم يكن كذلك، لأن ذلك يضرّ دينه.
الباب الثاني والعشرون: المتلوّنون يدّعون بما ليس لهم
قال الإمام مسلم رحمه الله: وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ الله. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ». (كتاب الإيمان/باب بيان حال إيمان/ (رقم61)/دار ابن الجوزي).
موضع الشاهد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وفي لفظ البخاري (كتاب المناقب/الباب-5/3508/دار الكتب العلمية): «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهْوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
قال ابن حجر رحمه الله: وَهُوَ –أي رواية مسلم- أَعَمّ مِمَّا تَدُلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْبُخَارِيّ إلخ ("فتح الباري" - ج 6/ ص 670/مكتبة الصفا)
وقال رحمه الله: وَيُؤْخَذ مِنْ رِوَايَة مُسْلِم تَحْرِيم الدَّعْوَى بِشَيْء لَيْسَ هُوَ لِلْمُدَّعِي ، فَيَدْخُل فِيهِ الدَّعَاوِي الْبَاطِلَة كُلّهَا مَالًا وَعِلْمًا وَتَعَلُّمًا وَنَسَبًا وَحَالًا وَصَلَاحًا وَنِعْمَة وَوَلَاء وَغَيْر ذَلِكَ، وَيَزْدَاد التَّحْرِيم بِزِيَادَةِ الْمَفْسَدَة الْمُتَرَتِّبَة عَلَى ذَلِكَ ... إلخ ("فتح الباري" /نفس المصدر).
وكم من حزبي يندس في أوساط السلفيين ويتزلفون في أقدام العلماء يقولون: (نحن سلفيون، عندنا دعوة طيبة، فعلنا كذا وكذا، وعندنا طلاب العلم، وحفاظ القرآن، و...، و...، و...،) كذباً، وزوراً.
فليتقوا الله، وليعلموا أن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً، وأنهم متعرضون لبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وللقعود في النار، عياذا بالله.
الباب الثالث والعشرون: من صور التلونات: تنقلات الآراء وتقلبات المناهج
معظم ما سبق ذكره يدل على وجود المكر والخداع في تعداد وجوه المتلونين. ولما كان التلون هو عدم الثبات على حال واحد وخلق واحد، دخل فيه أيضا تنقلات الآراء وتقلبات المناهج بسبب التأثر بشبهة أو عدم الصبر على البلاء.
* فأما التلون بسبب التأثر بشبهة:
فذلك إما بسماع كلام أهل الباطل، وإما بقراءة كتبهم أو نحو ذلك.
وقد جمع شيخنا الوالد أبو إبراهيم محمد بن محمد بن مانع الصنعاني حفظه الله فتاوى الأئمة في التعامل مع كتب المبتدعة، بعنوان: "منهج السلف في التعامل مع كتب أهل البدعة" (ط. دار الآثار) فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته من سماع شبهات المبطلين.
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير حدثنا حميد بن هلال عن أبى الدهماء قال: سمعت عمران بن حصين -رضي الله عنه- يحدث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات ». هكذا قال. ("سنن أبى داود" – كتاب الملاحم/باب خروج الدجال/رقم 4311 /ط. دار الحديث)
وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم 1019/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة)
بعد ذكر الحديث قال الإمام ابن بطة رحمه الله: هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: (أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه)، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار، والردّ عليهم ، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم اهـ. ("الإبانة الكبرى" – تحت رقم (480) /ط. دار الكتب والوثائق القومية).
قلت –وفقني الله-: انظروا -أرشدكم الله- إلى هذه التقلبات بسبب سماع الشبهات، كان الرجل مؤمناً فلما سمع شبهات الدجال انقلب إلى الكفر. كذلك من طعن في المبتدعة ولعنهم، فلما سمع شبهاتهم اتبعهم.
وقد أدخل الإمام الوادعي رحمه الله ذلك الحديث في كتابه المتين "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" في أول "كتاب الفتن" تحت عنوان: "الابتعاد عن الفتن".
واستنبط لنا خليفته شيخنا المحدث العلامة يحيى بن علي الحجوري حفظه الله ورعاه من هذا الحديث، منها:
الابتعاد عن الفتن واجب
عين الحزم، ومنهج السلف، وتطبيق الأدلة: تجنب الفتن
أصحاب الفتن هلكى
لا تركن إلى إيمانك، وجأشك، وعلمك، فتخالط أصحاب الشبهات
شبهة لها تأثير، وفي أهل الأهواء كذبات كثيرة لجرف أهل الخير إلى صفهم. والكذبات بضاعتهم، فالبعد عنهم سلامة
لا تأمن على نفسك البدعة الكبرى ولا الكفر، وإن استنكره قلبك، فإنك لا يؤمن على نفسك التأثر بمجالسة أهله.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جدال المبتدعة من أجل هذا.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِى غَالِبٍ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾. ("سنن الترمذى" /كتاب تفسير القرآن/من سورة الزخرف/ رقم (3253)/دار الحديث)
وهو في "الصحيح المسند" للإمام الوادعي رحمه الله (رقم 479 /ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة)
وقد كثرت أقوال السلف رحمه الله في ذم الجدال في الدين لما فيه من زلزلة الأقدام وغير ذلك من الأضرار. وقد أدخل الإمام ابن بطة رحمه الله هذا الحديث في كتابه "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" في باب ذم المراء والخصومات في الدين ... (1/ص344/ ط. دار الكتب والوثائق القومية).
وكذلك الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "الشريعة" باب ذم الجدال والخصومات في الدين (ص64)/دار الكتاب العربي
وكذلك الإمام اللالكائي رحمه الله في كتابه "شرح أصول اعتقاد" باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم ... (1/ص110/دار الآثار)
وكذلك الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء (1/ص135/ط. دار ابن الجوزي)
وتحت هذه العناوين آثار كثيرة رويت من السلف الصالح رحمهم الله تحذيراً من سماع شبهات المبطلين لأنه سبب الاضطرابات في المنهج والتلونات في الدين، منها ما يلي:
قال الإمام الآجري رحمه الله: وحدثنا الفريابي قال : ثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب قال : كان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم. (كتاب "الشريعة" باب ذم الجدال والخصومات في الدين (ص57)/دار الكتب العلمية/وسنده صحيح مسلسل بالأئمة، كما هو معروف)
وهناك أثر جيد إلا أنه معلّ، وهو:
* أثر إبراهيم النخعي رحمه الله
وعن مغيرة عن إبراهيم رحمه الله، قال : كانوا يكرهون التلون في الدين().
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: «كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله»(). ("الإبانة الكبرى" - رقم 580 / باب ذم المراء والخصومات/دار الكتب والوثائق).
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله في "الفنون" : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال. ﴿أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾.
كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام -إلى أن قال- : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة، فمن طلب به العاجلة أخطأ اهـ. (كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح - /ص 173/ فَصْلٌ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ/ط. الرسالة).
* فائدة يتهاون فيها كثير من الناس:
ترك سماع كلام أهل الهوى بجميع وسائله قد صار عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، كما مر بنا في الكتب السابقة ذكرها.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء، والجدال، والخصومات في الدين اهـ ("أصول السنة للإمام أحمد"/شرح الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/ص7/ط. دار الإمام أحمد).
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات: ... وترك المراء والجدال في الدين، وترك كل ما أحدثه المحدثون اهـ. (العقيدة القيروانية/مقدمة الرسالة/ص13/دار العقيدة)
وقال الإمام الصابوني رحمه الله: جملة من آداب أصحاب الحديث: ... ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ... –إلى قوله:- ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس فيه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم ... إلخ ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث"/ ص107-108/ط. دار المنهاج).
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة اهـ. ("لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد"/مع شرح ابن العثيمين/ص97/دار الآثار)
وقال الإمام ابن العثيمين رحمه الله في شرحه: ومن هجر أهل البدع: ترك النظر في كتبهم خوفا من الفتنة بها أو ترويجها بين الناس، فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدجال: «من سمع به فلينأ عنه فوالله ان الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات». رواه أبو داود، قال الألباني: وإسناده صحيح.
ولكن إن كان الغرض من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به، وكان قادرا على الرد عليهم، بل كان واجبا لأن رد البدعة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب اهـ ("شرح لمعة الاعتقاد"/ص97-98/دار الآثار).
وقال العلامة أبو الطيب صديق بن حسن خان القنوجي رحمه الله:() ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة. وكل محدثة في الدين بدعة. وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم في أصول الدين وفروعه، ... إلخ ("قطف الثمرفي بيان عقيدة أهل الأثر" مع تحقيق شيخنا أبي عمرو الحجوري حفظه الله/ ص178/ط. مكتبة صنعاء الأثرية).
* وأما التلون بسبب التأثر ببلاء:
قال تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين[ [العنكبوت/10، 11]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، بأنهم إذا جاءتهم فتنة ومحنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام؛ ولهذا قال: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله﴾. قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله. وكذا قال غيره من علماء السلف –إلى قوله:- أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنه ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة؟ اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"/3/ص2179-2180/دار ابن الهيثم)
وقال تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين[ [الحج/11].
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِى بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ[ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ. وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ . ("صحيح البخارى" –كتاب التفسير/باب (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ)/(4742)/دار الكتب العلمية).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر. وقال مجاهد في قوله: ]انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ[ أي: ارتد كافرًا. وقوله: ]خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ[ أي: فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة؛ ولهذا قال: ]ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[ أي: هذه هي الخسارة العظيمة، والصفقة الخاسرة اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"- ج 3 / ص 1929/دار ابن الهيثم).
قال الشيخ الإسلام رحمه الله: فالمهتدون لما كانوا على هدى من ربهم ونور وبينة وبصيرة صار مكانة لهم استقروا عليها وقد تحيط بهم بخلاف الذين قال فيهم: ]ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه[ فإن هذا ليس ثابتا مستقرا مطمئنا بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه فقد يطمئن إذا أصابه خير وقد ينقلب على وجهه ساقطا فى الوادي اهـ. ("مجموع الفتاوى" /ج 15 / ص 64/إحالة/دار الوفاء)
وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعا عن إسماعيل بن جعفر قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل قال: أخبرني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا». (أخرجه مسلم /كتاب الإيمان/باب الحثّ على المبادرة .../(118)/ط. دار ابن الجوزي(
فإذا علمنا أن من أسباب التلوّنات، والتقلبات، والاضطرابات هي إما الشبهة وإما الابتلاء، علمنا عظم قدر الصبر، واليقين، والعافية، وهي من أعظم نعم أنعم الله بها على من يشاء من عباده.
* فأما الصبر والعافية
فهما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما المرفوع المتقدم: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ». (أخرجه البخاري (2965-2966)، ومسلم (1742)).
وفي حديث المقداد رضي الله عنه. قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصى حدثنا حجاج - يعنى ابن محمد - حدثنا الليث بن سعد قال: حدثنى معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلى فصبر فواها». ("سنن أبى داود" – كتاب الفتن/باب في النهي عن السعي في الفتنة/رقم 4257/ط. دار الحديث)
حسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم 1140/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة).
معنى العافية:
قال ابن المنظور رحمه الله: فأَما العَفْوُ فهو ما وصفْناه من مَحْو الله تعالى ذُنوبَ عبده عنه، وأَما العافية فهو أَن يُعافيَهُ الله تعالى من سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وهي الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض يقال عافاهُ الله وأَعْفاه أَي وهَب له العافية من العِلَل والبَلايا وأَما المُعافاةُ فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ من الناس ويُعافِيَهم منكَ أَي يُغْنيك عنهم ويغنيهم عنك ويصرف أَذاهم عنك وأَذاك عنهم وقيل هي مُفاعَلَة من العفوِ وهو أَن يَعْفُوَ عن الناس ويَعْفُوا هُمْ عنه وقال الليث العافية دِفاعُ الله تعالى عن العبد يقال عافاه اللهُ عافيةً وهو اسم يوضع موضِع المصدر الحقيقي وهو المُعافاةُ اهـ. ("لسان العرب" /مادة ع-ي-ف/6 / ص 339/دار الحديث)
* وأما العافية واليقين
فهما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَوْسَطَ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَقَامِى هَذَا عَامَ الأَوَّلِ - وَبَكَى أَبُو بَكْرٍ- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَلُوا الله الْمُعَافَاةَ - أَوْ قَالَ الْعَافِيَةَ - فَلَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ قَطُّ بَعْدَ الْيَقِينِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَافِيَةِ أَوِ الْمُعَافَاةِ. عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِى الْجَنَّةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِى النَّارِ، وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا إِخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمُ الله تَعَالَى. ("مسند أحمد" – رقم (5) /ط. الرسالة).
حسنه الإمام الوادعي رحمه الله -من طريق ابن ماجه رحمه الله- في "الصحيح المسند" (رقم 706/ط. دار الآثار/الطبعة الجديدة).
معنى اليقين:
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: يقين: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، ويقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم، وقال علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وبينها فروق مذكورة في غير هذا الكتاب، يقال استيقن وأيقن، قال تعالى: ]إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين[ - ]وفى الارض آيات للموقنين[ - ]لقوم يوقنون[ وقوله عز وجل: ]وما قتلوه يقينا[ أي ما قتلوه قتلا تيقنوه، بل إنما حكموا تخمينا ووهما اهـ. ("مفردات غريب القرآن" /ص553 /المكتبة التوفيقية).
واليقين والطمأنينة من ثمار العلم، كما أن الريبة والاضطراب من ثمار الشكّ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الريب ضد الطمأنينة واليقين، فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار، يقال (رابني مجيئه وذهابه وفعله) ولا يقال (شككني) فالشك سبب الريب فإنه يشك أولا فيوقعه شكه في الريب فالشك مبتدأ الريب كما أن العلم مبتدأ اليقين اهـ ("بدائع الفوائد" – فائدة: الفرق بين الشك والريب/ج 4 / ص 879/ط. دار الحديث).
* وأما الصبر واليقين
فهما في قول الله تعالى: ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ [السجدة/24]
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجعل الإمامة فى الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ فإن الدين كله علم بالحق وعمل به والعمل به لا بد فيه من الصبر بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 10 / ص 39/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ...وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. قال تعالى: ]وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر[ وقوله تعالى: ]واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار[ اهـ ("إعلام الموقعين" - ج 1 / ص 113/دار الحديث).
والصبر واليقين مقرونان. قال الشيخ الإسلام رحمه الله: فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السئ المحظور، ويدخل فى ذلك الصبر على الأذى، وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر، ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن لهم ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذى به، وهو اليقين اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 153/دار الوفاء)
فائدة: قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله في "الفنون" : من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلوّن يراعي به أحوال الرجال. ﴿أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾. كان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام -إلى أن قال- : وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش، وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة، فمن طلب به العاجلة أخطأ اهـ. (كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح - /ص 173/ فَصْلٌ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ/ط. الرسالة).
ثم إن من البلية أن يأتي أناس من أهل السنة، ولكنهم يدعون إلى عدم نصرة الحق وأهله في أمس الحاجة –أغنانا الله عنهم- وإلى التوقف في قمع المتحزبين الذين يكرّون على أعظم منارات السنة في العالم. فحصل بسبب دعوة هذا الصنف التثبيط والتخذيل. فلا ريب أن هذا الصنيع خلاف القرآن حيث قال ربنا عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة/2]
وقال جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة/38، 39]
وقال جل ذكره: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة/41]
وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آَمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران/52]
وخالفوا هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب حدثنا داود ( يعني ابن قيس ) عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. (أخرجه مسلم /كتاب البر والصلة/باب تحريم ظلم مسلم وخذله/2564/دار ابن الجوزي).
وسيأتي ذكر زيادة الأدلة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
وخالفوا منهج السلف. قال شيخ الإسلام رحمه الله في صفات الفرقة الناجية: فصل: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ؛ يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه»()، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»(). ("العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية"/مع تعليق الإمام ابن باز رحمه الله /ص90/ط. دار الآثار)
وقال رحمه الله: فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال لصاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحقى على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه فهذا هو الأصل الذى عليهم اعتماده اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 17/إحالة/دار الوفاء).
ثم إن هذا الشخص مع جدّه في الدعوة إلى التوقف ظهر من خلال كلامه الغمز في أهل السنة بدماج حرسها الله. فقال لأحدنا: (إن اعتمدتَ على أخبار أهل دماج فقط لم يكن لديك تصور تام في هذه الفتنة –يعني: فتنة حزبية ابن مرعي-) وقال أيضا: (أخبار أهل دماج معوجة) وقال: (عليك بالسكوت ويكفيك طلب العلم). أو نحو ذلك.
ومع كون هذا الرجل أكبر الدعاة الجادين إلى التوقف، هو أيضاً صاحب المؤسسة المبتدعة، وقد أهان الدعوة السلفية كثيرا بتسولاته الهائلة في بلدنا، وفي السعودية والإمارات.
وقد اضطرب بسبب دعوته أناس كانوا على ثقة تامة ببيان شيخنا الناصح الأمين يحيى الحجوري حفظه الله وأسود السنة بدماج حفظهم الله. وقد كانوا علموا أن اثني عشر عالما –أو أكثر- قد أدانوا ابني مرعي ولقمان با عبده بالحزبية، فاقتنعوا بذلك ونصروا أهل الحق وحملوا حملة على هؤلاء الحزبيين، وقالوا: (ابنا مرعي حزبيان مبتدعان) و(لقمان با عبده حزبي)
فلما أتاهم هذا الشخص فشوش عليهم تحت ستار (ننتظر كلام إمام الجرح والتعديل الشيخ ربيع) تزلزلوا، وتلوّنوا، وقالوا: (الشيخ عبد الرحمن، والشيخ عبد الله)، وقالوا: (ليس لنا أن نحزب الأستاذ لقمان، ننتظر إدانة الشيخ ربيع على عبد الرحمن). ذهبت عنهم إدانة اثني عشر عالما المؤيدة بالأدلة الحجج والبينات بسبب شبهات ذلك الشخص ودعوته إلى التوقف وتقليد الأشخاص.
خشيت أنهم وأمثالهم وقعوا في بدعة جديدة: "جميع براهين وبينات عالم –بل عدة من العلماء- على أباطيل شخص مردود إلا إذا أقر على ذلك إمام الجرح والتعديل. ولا يجوز أن يكون إمام الجرح والتعديل أكثر من واحد".
ولما رأينا تقلبات بعض الدعاة بعد ثباتهم، لم نصبر أن نصرخ: أيها المقلدون المذبذبون، أين أنتم من كلام حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما؟
* أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما
قال خالد بن سعد قال: دخل أبو مسعود على حذيفة -رضي الله عنهما- فقال: اعهد إلي، قال : أولم يأتك اليقين؟ قال: بلى. قال: فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد().
وأما هذا الداعي إلى التوقف والتخذيل، وإن لم يكن من أهل الهوى، لا بأس أن نقول فيه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدّل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذى لم ينكر على أهله.
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا فى بدع من بدع المنافقين التى تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها اهـ. ("مجموع الفتاوى" - ج 28 / ص 233/إحالة/دار الوفاء).
ما نقول إنه منافق، ولا أهل الهوى، ولا تلقى من أحد منهم، ولكن لا بد أن يُنتبه لدعوته، ويرد عليه أباطيله.
بل قبل ذلك لما نشر بعضُ طلبة العلم الملازمَ الكاشفة لمكر الحزب الجديد وأباطيلهم في الشبكات، نشر هذا المخذل منشوراً قال فيه: (لا ترسلوا مثل هذه الكتابات، لأنها سبب للفتنة والفرقة! أما سمعتم ما قاله الشيخ ربيع!؟)
الباب الرابع والعشرون: بعض الإشكالات
الإشكال الأول: فما الجمع بين أحاديث ذم ذي الوجهين، وقَوْل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَة»، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل؟
قال ابن حجر رحمه الله: وَتَعَرَّضَ اِبْن بَطَّال هُنَا لِذِكْرِ مَا يُعَارِض ظَاهِره مِنْ قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَة»، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْل، وَتَكَلَّمَ عَلَى الْجَمْع بَيْنَهُمَا، وَحَاصِله أَنَّهُ حَيْثُ ذَمَّهُ كَانَ لِقَصْدِ التَّعْرِيف بِحَالِهِ وَحَيْثُ تَلَقَّاهُ بِالْبِشْرِ كَانَ لِتَأْلِيفِهِ أَوْ لِاتِّقَاءِ شَرّه، فَمَا قَصَدَ بِالْحَالَتَيْنِ إِلَّا نَفْع الْمُسْلِمِينَ. وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِفهُ فِي حَال لِقَائِهِ بِأَنَّهُ فَاضِل وَلَا صَالِح، إلخ ("فتح الباري" /تحت رقم7179 /ط. مكتبة الصفا).
قال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله: وَمَرَّ خَبَرُ: أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُسْتَأْذِنٍ عَلَيْهِ: «ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ فَقَالَ: «إنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِ»، وَلَكِنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْإِقْبَالِ وَنَحْوِ التَّبَسُّمِ. فَأَمَّا الثَّنَاءُ فَهُوَ كَذِبٌ صَرِيحٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةِ حَاجَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ. وَمِنْ النِّفَاقِ أَنْ تَسْمَعَ بَاطِلًا فَتُقِرَّهُ بِنَحْوِ تَصْدِيقٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَتَحْرِيكِ الرَّأْسِ إظْهَارًا لِذَلِكَ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُنْكِرَ بِيَدِهِ ثُمَّ لِسَانِهِ ثُمَّ قَلْبِهِ اهـ ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 39/الكبيرة 253/دار الفكر).
إذا قال بعض الحزبيين: إنما نحن نداري، وقد بوب البخارى في "صحيحه" باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ. ثم ذكر أثرا عن أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُم.
الجواب: أولاً: إن الأثر قد اعترفتم أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه، فلا نحتاج إلى المحاكمة في صحته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تولى ابن حجر رحمه الله في بيان إسناده فقال: وَهَذَا الْأَثَر وَصَلَهُ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي "غَرِيب الْحَدِيث" وَالدِّينَوَرِيّ فِي "الْمُجَالَسَة" مِنْ طَرِيق أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْر بْن نُفَيْر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء فَذَكَرَ مِثْله وَزَادَ: (وَنَضْحَك إِلَيْهِمْ) وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ اللَّعْن، وَلَمْ يَذْكُر الدِّينَوَرِيّ فِي إِسْنَاده جُبَيْر بْن نُفَيْر، وَرَوَيْنَاهُ فِي "فَوَائِد أَبُي بَكْر بْن الْمُقْرِي" مِنْ طَرِيق كَامِل أَبِي الْعَلَاء عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ: (إِنَّا لَنُكَشِّر أَقْوَامًا) فَذَكَرَ مِثْله وَهُوَ مُنْقَطِع، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي "الْحِلْيَة" مِنْ طَرِيق خَلَف بْن حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء -فَذَكَرَ اللَّفْظ الْمُعَلَّق سَوَاء-، وَهُوَ مُنْقَطِع أَيْضًا، وَالْكَشْر بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَفَتْح أَوَّله ظُهُور الْأَسْنَان، وَأَكْثَر مَا يُطْلَق عِنْدَ الضَّحِك، وَالِاسْم الْكِشْرَة كَالْعِشْرَةِ اهـ. ("فتح الباري" ج 10/ ص 616/مكتبة الصفا).
وقال الإمام الألباني رحمه الله: وبالجملة ، فالحديث لا أصل له مرفوعا ، و الغالب أنه ثابت موقوفا ، والله أعلم . (راجع "السلسلة الضعيفة" - ج 1 / ص 383/رقم 216/مكتبة المعارف).
ثانياً: إذا كان من قول أبي الدرداء رضي الله عنه، ورأيتموه معارضاً لأدلة النهي عن تعداد الوجوه، فلا تجوز معارضة النصوص بقول بشر.
ثالثاً: وأثر أبي الدرداء رضي الله عنه محمول على المداراة الشرعية، اقتضتها الحاجة.
قال صاحب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" رحمه الله: فَإِنْ اضْطَرَّ لِلدُّخُولِ لِنَحْوِ تَخْلِيصِ ضَعِيفٍ لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَخَافَ مِنْ عَدَمِ الثَّنَاءِ فَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّ اتِّقَاءَ الشَّرِّ جَائِزٌ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : (إنَّا لَنَكْشِرُ أَيْ نَضْحَكُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ)، إلخ ("الزواجر عن اقتراف الكبائر" ج 2 / ص 41/الكبيرة 253/دار الفكر).
رابعا: وأما التلون الذي فعله الحزبيون هو الوفاق والمداهنة، لا المداراة.
قال ابن حجر رحمه الله: قَالَ اِبْن بَطَّال: الْمُدَارَاة مِنْ أَخْلَاق الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَفْض الْجَنَاح لِلنَّاسِ وَلِين الْكَلِمَة وَتَرْك الْإِغْلَاظ لَهُمْ فِي الْقَوْل وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَاب الْأُلْفَة. وَظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُدَارَاة هِيَ الْمُدَاهَنَة فَغَلَط؛ لِأَنَّ الْمُدَارَة مَنْدُوب إِلَيْهَا وَالْمُدَاهَنَة مُحَرَّمَة، وَالْفَرْق أَنَّ الْمُدَاهَنَة مِنْ الدِّهَان وَهُوَ الَّذِي يَظْهَر عَلَى الشَّيْء وَيُسْتَر بَاطِنه، وَفَسَّرَهَا الْعُلَمَاء بِأَنَّهُ مُعَاشَرَة الْفَاسِق وَإِظْهَار الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْر إِنْكَار عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاة هِيَ الرِّفْق بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيم وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْي عَنْ فِعْله، وَتَرْك الْإِغْلَاظ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَر مَا هُوَ فِيهِ، وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْل وَالْفِعْل، وَلَا سِيَّمَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَأَلُّفه وَنَحْو ذَلِكَ. اهـ ("فتح الباري" ج 10/ ص 616-617/مكتبة الصفا).
خامساً: فالذي فعله الحزبيون فإنه من باب النفاق والمداهنة. قال الإمام ابن مفلح رحمه الله لما ذكر أدلة ذم الوجهين: وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ اهـ. ("الآداب الشرعية" - ص15 / في البهت والغيبة و.../ط. الرسالة)
وأما تشبث الحزبيين بحديث «الحرب خدعة».
فالجواب: قال ابن حجر رحمه الله: وَأَصْل الْخَدْع إِظْهَار أَمْر وَإِضْمَار خِلَافه. ("فتح الباري" /كتاب الجهاد/باب الحرب خدعة/6 /ص 202/مكتبة الصفا).
قلت –وفقني الله-: فالخدعة في الحرب من السياسات الشرعية لمصالح المسلمين عند محاربة الكفار، فظفر المسلمون عليهم بأقلّ الخسارة ما أمكن. وقد قَالَ ابْن الْمُنِير رحمه الله: مَعْنَى الْحَرْب خَدْعَة أَيْ الْحَرْب الْجَيِّدَة لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَة فِي مَقْصُودهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَة لَا الْمُوَاجَهَة، وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَة وَحُصُول الظَّفَر مَعَ الْمُخَادَعَة بِغَيْرِ خَطَر اهـ. (كما في المصدر السابق).
فهذا يكون في محاربة الكفار والذين يستحقون أن يحارَبوا.
قال ابن حجر رحمه الله: وَفِيهِ التَّحْرِيض عَلَى أَخْذ الْحَذَر فِي الْحَرْب، وَالنَّدْب إِلَى خِدَاع الْكُفَّار، وَأنَّ مَنْ لَمْ يَتَيَقَّظ لِذَلِكَ لَمْ يَأْمَن أَنْ يَنْعَكِس الْأَمْر عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلَّا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَجُوز اهـ ، (كما في المصدر السابق).
وأما الحزبيون فإنهم استعملوا هذا الحديث على المسلمين –ولا سيما أهل السنة-، فخادعوهم لمصالح حزبيتهم وأغراضهم، فما زادوا المسلمين إلا خبالا، فهم أشبه بالمنافقين الذين قال فيهم الله تعالى: ]يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[ [البقرة/9].
يتشبث بعض الحزبيين المتسترين بقول الله تعالى: ]مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [النحل/106].
قالوا: قد رخص الله تعالى عباده عند الضرورة أن يقولوا كلمة الكفر –تقية- وقلوبهم مطمئنة بعقيدتهم!
فالجواب: ظاهر الأية، وأسباب نزولها يكون في حالة ضعف المسلمين أمام سيطرة الكفار حيث لا ينجون إلا بذلك. وهذا واضح جدّاً.
وأما الحزبيون طبقوها بين أيدي علماء السنة وطلبة العلم الثابتين، كأنهم اقتبسوا من قدمائهم الخوارج حيث جعلوا آية الكفار للمسلمين. وأيضا إن الحزبيين قد توسعوا جدّاً في ضابظ الضرورة –وهم ليسوا على ضرورة!-، فأمرهم كما قال الإمام الوادعي رحمه الله: فيقولون: نحن مضطرون إلى ذلك. والواقع أنهم ليسوا بمضطرين إلى ذلك. فقد توسعوا بالضرورة حتى لم يتركوا ضرورة. ("غارة الأشرطة" /أجوبة أسئلة إخواننا في أبي ظبي / 2 ص59/مكتبة صنعاء الأثرية).
وقال أيضاً رحمه الله في تفسير ]إلا من أكره ...[: وحدّ الإكراه أن تتأكد أن يحل بك، أو مالك، أو عرضك ما لا تتحمله. وأما تلوّن الرافضة فليس من التقية في شيء بل هو النفاق، أعاذن الله من النفاق اهـ. (مقدمة الإمام مقبل الوادعي رحمه الله على تحقيق "صفة النفاق للفريابي" للشيخ عبد الرقيب الإبي حفظه الله /ص11).
فالحزبيون المتسترون المتلوّنون بين أظهر مجتمع أهل السنة أشبه بالمنافقين بين أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم. فأهل السنة يرثون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأما الحزبيون يرثون من المنافقين.
فجدير أن نحذر المسلمين السلفيين من أولئك المختبئين لأنهم أعداء. قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله*{ [المجادلة/16]: أي بسبب اتخاذهم أيمانهم جنةً، وخفاء كفرِهم الباطن، تمكنوا من صدِّ بعض الناس عن سبيل الله، لأن المسلمين يظنونهم إخواناً وهم أعداء. وشر الأعداء من تظن أنه صديق، ولذا حذر الله نبيه منهم بقوله: ﴿ هُمُ العدو فاحذرهم﴾ [ المنافقون: 4] (" أضواء البيان" ص 1801/دار الكتب العلمية).
5- إذا قال قائل: إنما نتمثل بصنيع اليربوع يدخل في نافذة، ويخرج من نافذة أخرى لسلامة نفسه، واليربوع لا يُذمّ على ذلك!
الجواب:
* خصال اليربوع:
خصال اليربوع معروفة عند الناس، ولا يطمئن قلبي في الرجوع إلى "حياة الحيوان" للدميري لكثرة الشعوذة التي فيه. وفي "معجم الوسيط"(): (اليربوع) حيوان من الفصيلة اليربوعية صغير على هيئة الجرد الصغير و له ذنب طويل ينتهي بخصلة من الشعر و هو قصير اليدين طويل الرجلين اهـ. (مادة ر-ب-ع/ص349/دار المعارف)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبواباً عديدة ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند اكمة أو صخرة علامة له على البيت إذا ضل عنه ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لتقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر اهـ ("شفاء العليل" - الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال / ص 135-136/دار ابن الهيثم).
نعم، اليربوع ماهر بالحيلة لسلامة نفسه. ومع ذلك لا يجوز لنا التشبه به لمخادعة المسلمين.
* كلام عظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال شيخ الإسلام رحمه الله: التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه في أصواتها وأفعالها، ونحو ذلك مثل أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك، وذلك لوجوه، أحدها: أنا قررنا في "اقتضاء الصراط المستقيم" نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص، كالتشبه بالاعراب وبالأعاجم، وبأهل الكتاب، ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبيّنّا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتُسِب من أخلاقها كالكلابين، والجمالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء، وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة، بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذموماً بعينه، لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابياً أو عجمياً خير من كونه كلباً، أو حماراً، أو خنزيراً، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبهاً فيما يستلزم النقص ويدعو إليه فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموماً ومنهيا عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى: ]ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم اضل أولئك هم الغافلون[.
الوجه الثالث: إن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له، كقوله: ]فمثله كمثل الكلب إن تحمل إليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون[، وقال تعالى: ]مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً[ الآية. وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذمّ من غير أن يقصد المذموم التشبه بها، فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموماً، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذموماً من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذموماً من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه. يؤيد هذا:
الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيح": «العائد في هبته كالعائد في قيئه ليس لنا مثل السوء». ولهذا يذكر أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة، فقال له الشافعي: الكلب ليس بمكلف، فقال له أحمد: ليس لنا مثل السوء. وهذه الحجة في نفس الحديث، فإن النبي لم يذكر هذا المثل إلا ليبن أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما، وإن لم يكن الكلب مذموماً في ذلك من جهة التكليف، ولهذا ليس لنا مثل السوء، والله سبحانه قد بين بقوله: ]ساء مثلا[ إن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزّه عن مثل السوء. فإذا كان له مثل سوء من الكلب، كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء.
الوجه الخامس: أن النبي قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب»، وقال: ]إذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا»، فدلّ ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وإنها منفّرة للملائكة، ومعلوم أن المشابهة للشيء لابد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة. فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين، وتنفير الملائكة، بحسبه وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة. ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة لجلب منفعة كالصيد، أو دفع مضرة عن الماشية، والحرث، حتى قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط». وبالجملة فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه. لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين، والله سبحانه أعلم.
الوجه السادس: أن النبي لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره وبين أمر مختص به، فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين، ولهذا لم يكن من مواقع النهي، وإنما مواقع النهي الأمور المختصة فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء، ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات، لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج، وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفاً بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة وذلك محرم، والله أعلم. اهـ ("مجموع الفتاوى" - ج 32 / ص 256-260/إحالة/دار الوفاء).
تنبيه: جاز للإنسان أن يبني بيتاً ويجعل له أبواباً يدخل في باب، ويخرج من باب آخر كما يشاء، ولا سيما إذا ألجأه ضرر. وإنما الذمّ على التشبه باليربوع هنا أن يتصف الإنسان بالتلون، والخداع، فيبطن المكر الخبيث والعقيدة الفاسدة، ويظهر حسن الهدي والسمت والأخلاق إغراراً للمسلمين، ونحو ذلك. والله أعلم.
الباب الخامس والعشرون: إياكم والتشبه بالحرباء!
* حديث « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » ثابت
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِى مُنِيبٍ الْجُرَشِىِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». (أخرجه أبو داود/كتاب اللباس/باب في لبس الشهرة/ 4026/العون/دار الحديث).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا إسناد جيد، فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال : هم من رجال "الصحيحين".
وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأحمد بن عبد الله: ليس به بأس.
وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم: هو ثقة وقال أبو حاتم: هو مستقيم الحديث.
وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: هو ثقة وما علمت أحدا ذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد، وغيره بهذا الحديث . اهـ ("اقتضاء الصراط المستقيم" - ج 1 / ص 269-270/مكتبة الرشد).
ولا نحتاج إلى تطويل الكلام في سند هذا الحديث لأنه ثابت عند جلّ أهل السنة –إن لم يكن كلهم-. راجع كلام الإمام الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (رقم 1269 / ط. المكتب الإسلامي).
وقال شيخنا المحدث البصير أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: الحديث ثابت. اهـ.
وقد مر بنا آنفا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله عدم جواز التشبه بالحيوانات، وإن كانت غير مكلَّفة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوى عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة، أو كلمة عوراء، وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله.ومنهم من هو على طبيعة الطاوس، ليس له إلا التطوس، والتزين بالريش، وليس وراء ذلك من شيء. ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كبداً. ومنهم من هو على طبيعة الدبّ أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد اهـ. ("مدارج السالكين" ج 1 / ص325-326/ مشهد الحيوانية/ط. دار الحديث)
قلت –وفقني الله-: كذلك في الناس متلونون منافقون، طبيعتهم طبيعة الحرباء.
* خصال الحرباء:
الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص ذات قوائم أربع دقيقة الرأس مخططة الظهر، تستقبل الشمس نهارها وتدور معها كيف دارت، وتتلون ألواناً، ويضرب بها المثل في الحزم والتلون فيقال: (أحزم من حرباء) و (تلوّن تلوّن الحرباء) ويقال: (أصرد من عين الحرباء) لمن اشتدت إصابته بالبرد ( ج ) حرابي. ("المعجم الوسيط" / ص 164/المكتبة الإسلامية).
لعل الدميري في كتابه "حياة الحيوان" تكلم في الحرباء أكثر وأشمل، إلا أنني لا أحبّ كثرة الشعوذة فيه.
وبعد أن فَضَحَ الإخوان المسلمين كثيراً، قال الإمام الوادعي رحمه الله: فنسأل الله أن يدفع عن اليمن الفتن وشر هذه الحزبية الدخيلة، فيجب على الحزبيين أن يتوبوا إلى الله، وأنا آيس من توبة بعضهم، مثلهم كشجرة عباد الشمس() فهي تتقلب مع الشمس تارة كذا وأخرى كذا، وكذلك الحرباء الذي إن مشى في أرض بيضاء صار أبيض أو في أرض سوداء صار أسود، وإن مشى في خضرة صار أخضر، وهكذا حالة الإخوان المسلمين يتقلبون ويتلونون. اهـ ("تحفة المجيب" ص323/حرمة الانتخابات/دار الآثار).
الباب السادس والعشرون: بعض أضرار التلونات
من خلال النظر في الأدلة السابقة وواقع الأمة، ظهر لنا بعض أضرار التلونات، منها ما يتعلق بفاعلها، ومنها ما يتعلق بغيره والمجتمع.
* من أضرار التلونات المتعلقة بفاعلها:
1- أن المتلونين متشبهون بالمنافقين، ومتحلّون بصفاتهم، فهم يلحقون بهم على قدر تشبّههم بهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم».
فيخشى عليهم أن يصيبهم عقوبة نظيرهم. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ]وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ[ أي: وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم، ببعيد عنه اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" - ج 4 / ص 351/سورة هود/دار طيبة).
وفي تفسير قول الله تعالى: ]وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[ [هود/102]، قال الإمام رحمه الله: يقول تعالى: وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم، ]إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[. ("تفسير القرآن العظيم" /4/ص358/دار طيبة).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: نبّه –تعالى- على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: ﴿فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ﴾ فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله : ﴿أولئك حبطت أعمالهم﴾ هو الحكم ... إلخ ("إعلام الموقعين" /قياس العلة/1 / ص 112/دار الحديث).
2- وأنهم يتشبهون بالحيوان الخسيس مثل اليربوع والحرباء
3- وأنهم شرّ الناس أو من شرّ الناس لأنهم أصحاب تعداد الوجوه
4- وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برىء منهم، لما كان فيهم ادعاء ما ليس لهم
5- وأن لهم مقعداً من نار، لما كان فيهم ادعاء ما ليس لهم
6- وأنهم يلبسون ثوبي الزور
7- وأنهم مجروحون، لم يكونوا أمناء
8- وأن لكل متلوّن لسانان من نار، كما كان له في الدنيا لسانان عند كل طائفة، جزاء وفاقاً.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: كَانَ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ الله عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ الله بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ الله عَلَيْهِ، وَمَنْ خَذَلَ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ خَذَلَهُ الله فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ، وَمَنْ سَمَحَ سَمَحَ الله لَهُ، وَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَمَنْ أَنْفَقَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَوْعَى أَوْعَى عَلَيْهِ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا الله لَهُ عَنْ حَقِّهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ تَجَاوَزَ الله عَنْهُ، وَمَنْ اسْتَقْصَى اسْتَقْصَى الله عَلَيْهِ؛ فَهَذَا شَرْعُ الله وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ ... إلخ ("إعلام الموقعين" /الجزاء من جنس العمل/ 1 / ص 158/ط. دار الحديث).
9- كثير من المتلونين نمامون، وقد توعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعذاب القبر.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا ابن سلام أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان فى قبورهما، فقال: «يعذبان، وما يعذبان فى كبيرة، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشى بالنميمة». ثم دعا بجريدة فكسرها بكسرتين أو ثنتين، فجعل كسرة فى قبر هذا، وكسرة فى قبر هذا، فقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب النميمة من الكبائر/ 6055/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الطهارة/باب نجاسة البول/292/دار ابن الجوزي)).
10- وتوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النمامين بعدم دخول الجنة.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما يكره من النميمة/ 6056/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الإيمان/باب بيان غلظ تحريم النميمة/105/دار ابن الجوزي))
قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم . اهـ ("شرح النووي على مسلم" /2/ص181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
فائدة: نقل الإمام النووي رحمه الله عن الغزالي رحمه الله: وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: (فلان يقول فيك)، أو (يفعل فيك كذا)، فعليه ستة أمور:
الأول : ألا يصدقه لأن النمام فاسق.
الثاني : أن ينهاه عن ذلك، وينصحه ويقبح له فعله.
الثالث : أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.
الرابع : ألا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس : ألا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.
السادس : ألا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه؛ فلا يحكي نميمته عنه، فيقول: فلان حكى كذا فيصير به نماما، ويكون آتيا ما نهي عنه. اهـ ("شرح النووي" /2/181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
تنبيه: كثير من الحزبيين –استدلالاً بهذا الحديث وأمثاله- يحرصون على إسكات أهل السنة عن قول الحق، ويشوهون سمعتهم بأنهم "نمامون". فلا بد من إيضاح الأدلة. قال الإمام النووي رحمه الله: وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية. فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها؛ وذلك كما إذا أخبره بأن إنساناً يريد الفتك به، أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام، أو من له ولاية بأن إنساناً يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة. ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته. فكل هذا وما أشبه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا، وبعضه مستحبا على حسب المواطن. والله أعلم اهـ. ("شرح النووي" /2/ص181/تحت الحديث 105/دار أحياء التراث).
والواقع يشهد أن كثيراً من الحزبيين هم أهل الغيبة، والنميمة، والفجور . وأنهم إذا عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجأوا إلى الحكومة وأصحاب السلطان، فيغتابون، وينمّون، ويكذبون على أهل السنة، لأن يبطشوا بأهل السنة. هذا صنيع أهل البدع منذ قديم الزمن.
11- السيئة تجلب سيئة بعدها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: أعملني أيضا. فاذا عملها قالت الثانية كذلك وهلم جرا فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة ... –إلى قوله:- ولايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزه اليها أزا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه اليها ولايزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتي يرسل الله اليه الشياطين فتأزه اليها أزا فالأول قوي جند الطاعة بالمدد فكانوا أكثر من أعوانه وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه اهـ. ("الجواب الكافي" /ص87/فصل: ]في آثار المعاصي[ /مكتبة العلوم).
12- توقع سوء الخاتمة. قال الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا، ولا علم به، ولله الحمد. وإنما تكون لمن كان له فساد فى العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله اهـ. ("العاقبة في ذكر الموت"/ص92/للإمام عبد الحق الإشبيلي رحمه الله/مكتبة دار الأقصى)
ونقله الإمام ابن القيم رحمه الله في "الجواب الكافي" (ص219 / فصل: ]في تحريم الفواحش[ /مكتبة العلوم والحكم).
فائدة: الإشبيلي هو الامام الحافظ البارع المجود العلامة، أبو محمد عبد الحق بن عبدالرحمان بن عبد الله بن الحسين بن سعيد الازدي الاندلسي الاشبيلي المعروف في زمانه بابن الخراط. توفي ببجاية بعد محنة نالته من قبل الدولة في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمس مئة. ("سير الأعلام" /21 / ص 199/ط. الرسالة).
13- يُخشى على المتلونين فساد حسناته يوم القيامة.
وقد سبق ذكر كلام الأئمة أن من صور التلون أن يـأتي الشخص قوماً بوجه حسن يرضيهم، وهو عند التخلي لم يكن كذلك. وقد مر بنا كلام المناوي رحمه الله في شرح حديث ذي الوجهين: ...وشمل مَن يظهر الخير والصلاح وإذا خلا خلا بالمعاصي القباح. اهـ المراد ("فيض القدير" – تحت رقم (3241)/دار الفكر).
قال الإمام ابن ماجه رحمه الله: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ الرَّمْلِىُّ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ حُدَيْجٍ الْمَعَافِرِىُّ عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِى عَامِرٍ الأَلْهَانِىِّ عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا». ("سنن ابن ماجه" - كتاب الزهد/باب ذكر الذنوب/رقم 4245/دار الفكر)
صححه الإمام الألباني في "السلسلة الصحيحة" (انظر رقم 505/مكتبة المعارف)، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (189)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
قال شيخنا العلامة المحدث يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: هؤلاء لهم أعمال كما قال تعالى: ]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[ [الفرقان/23]
هؤلاء القوم لم يعملوا تلك الحسنات من أجل الله عزّ وجلّ. لو كانوا مخلصين لله لشكر الله لهم. إن هذا شأن المنافقين المرائين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». ]أخرجه مسلم/ رقم(2985)/ عن أبي هريرة رضي الله عنه[
هذه أوصاف المنافقين ضعفاء مراقبة الله، عملوا أعمالا رآء الناس. وهو من الكبيرة. هؤلاء في الخالية توثبوا على محارم الله، وأما في العلانية تصنعوا فيظنّ الناس أنهم صلحاء. ويوم القيامة ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ [الزلزلة/7، 8]
]أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ[ [العاديات/9، 11]
(سجلت هذه الفائدة في درس "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" تاريخ 7 شعبان 1430 هـ)
قلت –وفقني الله-: إنما هذه نماذج من أضرار التلوّن ونحوه، لا على حسب الحصر، والله أعلم.
* وما يتوقع من أضرار التلونات المتعلقة بغير فاعلها وبالمجتمع:
1- اغترار بعض الصالحين بهذا المتلون، فيظنون أنه على الجادة، وهو عدو مندسّ!
2- فساد ذات البين. لما أتى هذا المتلونُ طائفةً من المسلمين بما يرضونه، وأتى طائفةً أخرى من المسلمين بما يحبونه، فنقل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وقول هؤلاء إلى هؤلاء لقصد سوء، وكلا الطائفتين يثقون به، حصلت فتنة، واختلاف، وفرقة!
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ*: قَالَ رَسُولُ الله-صلى الله عليه وسلم-*: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ ». ("سنن الترمذى" /كتاب صفة القيامة/باب صلاح ذات البين/ رقم(2509)/تحفة الأحوذي/دار الحديث)
الحديث صححه الإمام الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب" (رقم (2814)/مكتبة المعارف)، والإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (1050)/ الطبعة الجديدة /دار الآثار).
3- ظفر المتلوّن ببعض أسرار من يثق به، فصار سلاحاً له عليه يوما من الدهر، لنيل بعض أغراضه، أو يفشيها مباشرة بين الناس حتى فسدت سمعة هذا المسكين.
4- ظفر الأعداء ببعض أسرار دولة المسلمين. إذا أرسل الكفار جاسوساً فيندسّ في دولة المسلمين فيتلون ويتستر ويتتبع بعض الأخبار حتى ظفر بها، فهذا خطير، لا بدّ من التنبّه، ونسأل الله سلامة.
ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني أن أحمد بن طولون جلس يأكل، فرأى سائلاً، فأمر له بدجاجة ورغيف وحلوى. فجاء الغلامُ وقال : (ناولته فما هشّ له). فقال: (علي به). فلما مثّل بين يديه لم يضطرب من الهيبة فقال: (أحضِرِ الكتب التي معك، وأصْدِقني، فقد ثبت عندي أنك صاحب خبر). وأُحضر السياطُ، فاعترف. فقال بعض من حضر: (هذا والله السحر). قال: (ما هو بسحر، ولكنه قياس صحيح. ورأيت سوء حاله فسيرت له طعاماً يسرّ له الشبعان، فما هشّ، فأحضرته فتلاني بقوّة جأشٍ، فعلمت أنه صاحب خبر اهـ. ("تاريخ الإسلام" - ص 48/سنة 270 هـ/دار الكتاب العربي).
(ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن هذه القصة مِنْ عَجِيبِ الْفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ طُولُون ("الطرق الحكمية" – فصل: ]فراسة أحمد بن طولون[ /ص 66/دار الأرقم)).
5- ومن أضرار التلون: أن يتمكن العدو المندس حول بعض العلماء والأمراء، وذلك يعتبر بداية المصيبة
6- وبعد هذا التمكن يستطيع هذا المندس تبييت المكر الخبيث داخل البنيان خطوة خطوة.
قال شيخنا البصير يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله اندس بعض الحزبيين في حلقته، فلما توفي رحمه الله تمكنوا واستقروا (سجلت هذه الفائدة في 5 رجب 1430 هـ).
7- ومن أضرار التلون: ائتمان من ليس بأمين، وتولية الأمانة من لم يكن أهلها –لأن العلماء والأمراء يحكمون بما ظهر-، فحصل ضياع بل فساد.
8- ومن أضرار التلون: أن المتلون في الغالب يطري ويكثر المدائح الغالية لمن قصد من العلماء أو الأمراء أو غيرهم، وهذا ابتلاء للممدوح.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم-: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا. إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ الله، وَلاَ يُزَكِّى عَلَى الله أَحَدًا» . قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ: «وَيْلَكَ». (أخرجه البخارى (كتاب الأدب/باب ما يكره من التمادح/6061/دار الكتب العلمية) ومسلم (كتاب الزهد/باب النهي عن المدح/3000/دار ابن الجوزي)).
والمتلون المتزلف يستحق التراب. قال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث: أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه -وكان رجلا ضخماً-، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: (ما شأنك؟) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب». ("صحيح مسلم" (كتاب الزهد/باب النهي عن المدح/3002))
ولا يخاف أهل السنة في الله لومة لائم.
9- في ثناء ذلك المتلون على بعض الأمراء إبقاؤهم على التقصير.
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله –أي: البخاري- (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك)، المراد بالكراهة هنا التحريم، لأن هذا نفاق، ولأنه يُغري السلطان على ما كان عليه من التقصير، وهذا كما هو موجود فيما سبق هو موجود الآن أكثر مما مضى، فيدخل الواحد منهم على ولي الأمر من أمير، أو وزير، أو رئيس، أو ملك، -وكل هؤلاء لهم سلطة-، فيثني عليه ويقول: (حصل كذا وكذا، وأنت الذي فيك كذا وكذا) المهم أنه يثني عليه بما به ينخدع السلطان، أو الأمير، أو الوزير، أو الرئيس، أو الملك، أو غيره ويظنون أنهم قد قاموا بما يجب عليهم فيستمرون فيما هم عليه من التقصير والتفريط، بناء على قول هذا القائل الذي مدحه، وهؤلاء جنوا على عدة وجوه:
الوجه الأول: أنهم كذبوا
والوجه الثاني: أنهم خدعوا الحاكم
والوجه الثالث: أنهم أبقوا الأمر على ما هم عليه من السوء
الوجه الرابع: أنهم حرموا ذوي الحقوق حقوقهم إذا كان الولي قد فرّط في هذا الحقوق ... انتهى المراد
("شرح صحيح البخاري" للإمام ابن ثعيمين رحمه الله/تحت رقم (7178-7179)/المكتبة الإسلامية).
وذكرت –عفا الله عني- هذه الأضرار لا للحصر، نسأل الله السلامة والعافية.
تنبيه:
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وأما من يتحدث بالسلطان في غير مكانه فالواجب المدافعة عن عرض السلطان، لأنه كما يجب علينا أن ندافع عن عرض إخواننا العامة فكذلك يجب أن ندافع عن عرض السلطان من باب أولى، لأن وقوع الناس في عرض السلطان يوجب البغض له، وعدم الانصياع لأوامره ومعاندته، وهذا ضرر عظيم. لكن لو سألك سائل يريد الحق، فهنا يجب عليك أن تبين ما في السلطان من الخير، وما فيه من الشر، أو كنت تريد أن تتكلم بما في السلطان من الأشياء التي لا ينبغي أن يفعلها عند شخص يغلب على ظنك أنه يفيد السلطان. فهذا أيضا لا بأس أن يقتصر على ما في السلطان من المخالفة، ولا تذكر كل شيء() اهـ. ("شرح صحيح البخاري" للإمام ابن ثعيمين رحمه الله/تحت رقم (7178-7179)/المكتبة الإسلامية).
الباب السابع والعشرون: انكشاف أحوال المتلونين المتسترين
مع شدة محاولة أهل الباطل أن يتصنعوا، ويكتموا سرائرهم، ويستروا كمائنهم، أبى الله إلا كشف حالهم، أحياء أو أمواتاً. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَالله مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة/72]
وقال تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة/94].
وسيأتي زيادة الأدلة على ذلك بعد قليل.
ومن طرق انكشاف أحوال أهل التقية والتصنع:
1- قبول خبر الثقة، -وهذا شديد على المبطلين، فلم يألوا جهداً في إسقاط الشهود الثقات-
قال فضيلة الشيخ أحمد النجمي – رحمه الله-: ربما أنهم يغترون بأناس من أهل البدع يظهرون الصلاح، ولكن وراء هذا الصلاح أمر خفي لا يعرفه كثير من الناس فهذا يؤخذ فيه بقول من عرفوه إذا كانوا ثقات اهـ. ("الفتاوى الجلية" /ص 42/دار الآثار)
قال –رحمه الله-: فلا يجوز أن يغتر بظاهر الإنسان، لا شك أننا نقول بأن هذا ظاهره الخير ما لم نعرف فيه شر، فإذا قيل لنا (إن هذا الإنسان من ورائه كذا) فيجب علينا أن نأخذ بقول من قال لنا إن كان هذا موثوقاً. وإن أهل العلم عندما يقولون عن قوم (إنهم مبتدعة) فإنهم لا يقولون هذا القول اعتباطا، وإنما يقولونه بأمور استندوا إليها... إلخ ("الفتاوى الجلية"/ ص 44-45/دار الآثار)
2- من لحن القول وصفحات الوجه، وأفعال الجوارح
قال تعالى: ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَالله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[ [محمد/29-30]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير ]وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ[ أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، إلخ ("تفسير القرآن العظيم" / ص 2629/دار ابن الهيثم)
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ]تعرفهم بسيماهم[ فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، إلخ ("الجامع لأحكام القرآن" / تفسير سورة البقرة: 273/دار الحديث).
وقال الإمام البغوي رحمه الله: ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته اهـ. ("معالم التنزيل" / ص 1199/ط. دار ابن حزم(
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: أي: في فحوى القول، ومقصده، ومغزاه. وعن بعضهم: قزل الإنسان وفعله دليل على نيته. اهـ ("تفسير القرآن" /5/ص183/دار الوطن)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وقد قال تعالى عن المنافقين: ]ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم[ ثم قال: ]ولتعرفنهم فى لحن القول[ وهو جواب قسم محذوف أي والله لتعرفهم فى لحن القول. فمعرفة المنافق فى لحن القول لا بد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة إلخ ("مجموع الفتاوى" - ج 14 / ص 110/إحالة/دار الوفاء)
وقال رحمه الله: ودلّ على أن ظهور ما فى باطن الإنسان على فلتات لسانه أقوى من ظهوره على صفحات وجهه لأن اللسان ترجمان القلب فإظهاره لما أكنه أو كد و لأن دلالة اللسان قالية و دلالة الوجه حالية والقول أجمع وأوسع للمعانى التى فى القلب من الحال إلخ ("مجموع الفتاوى" ج 16 / ص 68/إحالة/دار الوفاء)
قال الألوسي رحمه الله: وكثيراً ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب ، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه إلخ ("روح المعاني"- تفسير سورة محمد: 30 / دار الفكر)
قال فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله:.. ولكن غالبا أن من أسر سريرة لا بد أن يظهرها الله على لمحات وجهه، وعلى فلتات لسانه. فالذي يظهر للناس أنه على السنة والسلفية وهو مبتدع فلا بد أن يخرج منه شيء من البدع فلا بد أن يحذر منه. أما إذا لم يظهر منه شيء فلا حول ولا قوة إلا بالله ("الفتاوى الجلية" /ص 54/دار الآثار).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله إلى الشيخ بكر أبي زيد –عفا الله عنه-: ولن تجدي المغالطات عند الله وعند أولي الألباب والبصائر ولن تنطلي على أولي النهى مهما أمعن المغالطون في مغالطاتـهم ومهما تستر الحزبيون خلف أسوار تقيَّتهم اهـ. ("الحد الفاصل بين الحق والباطل"/ص118/ط. موافقة الإعلام)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره فإن الذي خفي عنك أكثر مما أظهر. ("شرح السنة" /ص 45/دار الآثار)
وقال السعدي رحمه الله: أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن معارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر ("تيسير الكريم الرحمن" /تفسير سورة محمد: 29/ص 755/دار ابن حزم)
وقال تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران/118]
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾. ("تفسير القرآن العظيم" / ص 578-579/دار ابن الهيثم)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ إلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي عَمَلِهِ. ("إعلام الموقعين عن رب العالمين" ج 1 / ص 113/فصل: في القياس/ط. دار الحديث)
3- يعرف بالمجالسة والمصاحبة والموالاة
* قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالعزيز -يعني ابن محمد- عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (أخرجه مسلم (كتاب البر/باب الأرواح جنود مجندة/2638)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (901/ باب الأرواح جنود مجندة/دار الصديق) بسند صحيح).
ورواه البخاري معلّقاً في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، ووصله في "الأدب المفرد" رقم (900/ باب الأرواح جنود مجندة/دار الصديق) بسند صحيح.
قال الإمام النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ جُمُوع مُجْتَمَعَة ، أَوْ أَنْوَاع مُخْتَلِفَة . وَأَمَّا تَعَارَفهَا فَهُوَ لِأَمْرٍ جَعَلَهَا الله عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا مُوَافَقَة صِفَاتهَا الَّتِي جَعَلَهَا الله عَلَيْهَا ، وَتَنَاسُبهَا فِي شِيَمهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مُجْتَمِعَة ، ثُمَّ فُرِّقَتْ فِي أَجْسَادهَا ، فَمَنْ وَافَقَ بِشِيَمِهِ أَلِفَهُ ، وَمَنْ بَاعَدَهُ نَافَرَهُ وَخَالَفَهُ . اهـ ("شرح النووي على مسلم" /8/ص234/تحت الحديث 2638/دار أحياء التراث).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون إِشَارَة إِلَى مَعْنَى التَّشَاكُل فِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَالصَّلَاح وَالْفَسَاد ، وَأَنَّ الْخَيِّرَ مِنْ النَّاس يَحِنّ إِلَى شَكْله وَالشِّرِّير نَظِير ذَلِكَ يَمِيل إِلَى نَظِيره فَتَعَارُف الْأَرْوَاح يَقَع بِحَسَبِ الطِّبَاع الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْهَا مِنْ خَيْر وَشَرّ ، فَإِذَا اِتَّفَقَتْ تَعَارَفَتْ ، وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ تَنَاكَرَتْ. إلخ ("فتح الباري"/كتاب أحاديث الأنبياء/باب الأرواح جنود .../6/ص 461/مكتبة الصفا).
* وقال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا زهير بن محمد قال حدثنى موسى بن وردان عن أبى هريرة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»() (أخرجه أبو داود (كتاب الأدب/باب من يؤمر أن يجالس/4835/العون/دار الحديث) والترمذي (كتاب الزهد/باب-45/2552/تحفة/دار الحديث)).
وقال المناوي رحمه الله: (الرجل على دين خليله) أي صاحبه (فلينظر أحدكم من يخالل) أي فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ يريد صداقته فمن رضي دينه وخلقه صادقه وإلا تجنبه. اهـ ("فيض القدير"- رقم(4516)/دار الفكر).
* بعض الآثار في هذا الباب:
* قال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثني أبو محمد بن أيوب، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال : حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة ، عن عبد الله -ابن مسعود- رضي الله عنه: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله(). ("الإبانة" رقم 504 /باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي، قال: سمعت معاذ بن معاذ يقول: قلت ليحيى بن سعيد: يا أبا سعيد الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا جليسه(). ("الإبانة الكبرى"/رقم 514/ باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* قال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن السكن، قال: حدثنا يوسف بن عطية، قال: قال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم(). ("الإبانة" /رقم 516/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو زفر القرشي، عن بعض العلماء، عن الأوزاعي: من ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته(). ("الإبانة" لابن بطة / رقم 513/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن حسان الهاشمي، قال: سمعت محمد بن عبيد الله الغلابي، يقول : كان يقال : «يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة»() ("الإبانة" /رقم 515/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: «فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال، وعافية من قبيح الفعال». ("الإبانة الكبرى" لابن بطة - تحت رقم 46/ باب ذكر الأخبار والآثار .../دار الكتب والوثائق)
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: أخبرني أبو القاسم عمر قال: حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان، يقول لما قدم سفيان الثوري البصرة: جعل ينظر إلى أمر الربيع يعني ابن صبيح، وقدره عند الناس، سأل: (أي شيء مذهبه؟) قالوا: (ما مذهبه إلا السنة) قال: (من بطانته؟) قالوا: (أهل القدر) قال: (هو قدري)(). ("الإبانة" لابن بطة / رقم 426/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق)
وبعد أن ذكر هذا الأثر الجميل قال الإمام ابن بطة رحمه الله: رحمة الله على سفيان الثوري، لقد نطق بالحكمة، فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة، وما توجبه الحكمة، ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان، قال الله عز وجل: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم[ اهـ.
* وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء قال: حدثنا موسى بن حمدون، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا مؤمل بن إهاب الربعي، قالا: حدثنا سيار بن جعفر، قال: سمعت مالك بن دينار، يقول: «الناس أجناس كأجناس الطير الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبطّ مع البطّ، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله» قال: وسمعت مالك بن دينار، يقول: «من خلط خلط له، ومن صفى صفي له، وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم»(). ("الإبانة الكبرى" /رقم 517/باب التحذير من صحبة قوم .../دار الكتب والوثائق).
* وبهذا السند أيضا: حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد، فذكر لأحمد بن حنبل، فقال: انظروا على من نزل، وإلى من يأوي. ("الإبانة الكبرى"/ لابن بطة/ باب التحذير من صحبة قوم .../ رقم (519)/دار الكتب والوثائق).
والسند صحيح، والحمد لله.
وقال فضيلة الشيخ حمود التويجري رحمه الله في "القول البليغ"/ص 30-31/دار الصميعي:
فلا تصحب أخا الجهل وإيــاك وإيـــاه
فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمــــرء إذا ما هو ماشاه
وقال فضيلة الشيخ ربيع - حفظه الله- لما تكلم في كثرة النفاق في أوساط الحزبيين: كثير من الناس يقول: أنا من أهل السنة والجماعة وهو مبتدع، ينطوي على البدعة ويتظاهر ويقول: أنا من أهل السنة. هذا من النفاق، هؤلاء يتولون أهل البدع ينطوون على بدع، ويقولون: نحن من أهل السنة، والعلامات أنهم يتولون أهل البدع ويضعون المناهج لحمايتهم، ... –إلى قوله:- كثير من السياسيين عندهم نفاق عملي في الأحزاب السياسية. ومن علامات هذا النفاق تولي أهل البدع .. إلخ ("شرح أصول السنة للإمام أحمد" /ص70-71/دار الإمام أحمد)
وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله : وقد قال بعض السلف: (من أخفى عنا عقيدته لم تخف عنا ألفته) يعني الجماعة الذين يألفهم ما يخفون عنا إذا كان يذهب ويجيئ مع الحزبيين إذاً هو حزبي مثلهم ("الفتاوى الجلية" /ص 86/دار الآثار).
وقال شيخنا المحدث المتفرس يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: إن خفيت على الناس عقائد إنسان ترى من صحبته اهـ (سجلت هذه الفائدة تاريخ 16 رجب 1430 هـ)
الباب الثامن والعشرون: التحذير من المنافقين المتلونين
قال الله تعالى: ]إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ[ [المنافقون/1-4]
قلت –وفقني الله-: في هذه الآية دليل واضح على تلوّن المنافقين، وهم بذلك السلاح يطمعون مخادعة المسلمين، فحذّر الله تعالى منهم، ونبّه عز وجل المسلمين أن يغتروا بهم.
وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله في المنافقين بكلام نفيس: وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين. ولهذا قال تعالى في حقهم: ]هم العدو فاحذرهم[ ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم. ولكن لم يرد ها هنا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياما ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر فلهذا قيل ]هم العدو فاحذرهم[ لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوا من الكفار المجاهرين.
ونظير ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه». فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذي لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطوّاف الذي يسمونه مسكيناً.
ونظيره قوله: «ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب» ليس نفيا للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عن الغضب أحق منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله: «ما تعدون المفلس فيكم؟» قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: «المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثل الجبال، ويأتي قد لطم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فألقي في النار».
ونظيره قوله: «ما تعدون الرقوب فيكم؟» قالوا: من لا يولد له. قال: «الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً». ومنه عندي قوله: «الربا في النسيئة» وفي لفظ: «إنما الربا في النسيئة». هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه نفي اسم الربا عن ربا الفضل، فتأمله اهـ ("طريق الهجرتين"/ص497-498/فصل: في مراتب المكلفين/دار ابن رجب).
هذا التحذير وإن كان أصله يتعلق بالمنافقين نفاقاً اعتقادياً، فهو يشمل أيضاً جميع من يتصف بصفاتهم، وكلٌّ على حسبه. والنفاق العملي والتلون لهما ضرر على الأمة أيضا.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي : أنْ يعملَ الإنسان عملاً ، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ ، فيتمّ له ذلك ، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره ، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه اهـ ("جامع العلوم والحكم" /ص 749/الحديث الثامن والأربعون/دار ابن رجب).
الباب التاسع والعشرون: ترخيص العلماء رحمهم الله لبعض تلونات
وقد رخّص العلماء رحمهم الله أن يصلح إنسانٌ ذات البين –إصلاحا مشروعاً- ، وإن سلك ما فيه نوع من التزيين المباح.
قال النووي رحمه الله: وَالْمُرَاد مَنْ يَأْتِي كُلّ طَائِفَة، وَيَظْهَر أَنَّهُ مِنْهُمْ وَمُخَالِف لِلْآخَرِينَ مُبْغِض، فَإِنْ أَتَى كُلّ طَائِفَة بِالْإِصْلَاحِ فَمَحْمُود. انتهى المراد. ("شرح مسلم" /8/ص207/تحت الحديث 2526/دار أحياء التراث).
وبعد أن ذكر قول النووي رحمه الله: (فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح ويؤيد هذه التفرقة رواية الأسماعيلي من طريق بن عمير عن الأعمش الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء اهـ ("فتح الباري" /تحت رقم 6058/مكتبة الصفا).
وذكره أيضا المباركفوري رحمه الله في "تحفة الأحوذي" (كتاب البر والصلة/باب ما جاء في ذي الوجهين/تحت رقم 2025 / دار الحديث).
كذلك التلون –كما عبّر بذلك بعض العلماء- في الملابس والمراكب المباحة، فلا بأس، وإن كان تعبير ذلك بالتنوع أحبّ إلينا. قال ابن حزم رحمه الله: التلّون المذموم هو التنقّل من زيّ متكلّف لا معنى له، إلى زي آخر مثله في التكلف، وفي أنه لا معنى له، ومن حال لا معنى لها، إلى حال لا معنى لها بلا سبب يوجب ذلك. وأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة، وترك التزيد مما لا يحتاج إليه، فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة في كل خير، والذي أثنى الله تعالى على خلقه، والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها، وأبعده عن كل نقص- يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خفّ، ولا نعل، ولا قلنسوة، ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، وقد يلبس الوشي من الحبرات إذا حضره، ولا يتكلف ما لا يحتاج إليه، ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجده عما لا يجد، ومرّة يمشي راجلاً حافياً، ومرّة يلبس الخفّ، ويركب البغلة الرائعة الشهباء، ومرة يركب الفرس عريا، ومرة يركب الناقة، ومرّة يركب حماراً، ويردف عليه بعض أصحابه إلخ ("مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق" (الأخلاق والسير...) / لابن حزم/مع تحقيق الشيخ علي الرازحي/ص77 /دار العقيدة).
الباب الثلاثون: نداء للمتلونين
قد بذلنا –بحول الله وقوته- البيانَ على صفاء صراط الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان.
وقد وضّحنا –بتوفيق الله وتيسيره- سبل الكفار والشيطان، والمنافقين والحزبيين المتلوّثة بالتلونات، وهي من أمارات تمكّن خصلة الكذب في قلوب أربابها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وَلِهَذَا تَرَى الصَّادِقَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَالْكَاذِبَ مِنْ أَمْهَنِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ تَلَوُّناً، وَأَقَلِّهِمْ ثَبَاتًا ، إلخ )"إعلام الموقعين عن رب العالمين" / ضرب المثل للكافر/ج 1 / ص 237/دار الحديث).
فنقول للمتلوّنين : اتقوا الله وتوبوا إلى الله من تلك الخصلة المذمومة قبل ذهاب أوان التوبة.
قال تعالى: ]اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ[ [الشورى/47، 48].
وقلنا لهم كما قال شاعر:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما.
("المعجم المفصّل في شواهد اللغة العربية"/ د. إميل بديع يعقوب/7/ص92/دار الكتب العلمية)
قال جلال الدين محمد بن سعد الدين القزويني رحمه الله: فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سرِّه العلنَ اهـ. ("الإيضاح في علوم البلاغة" - ج 1 / ص 151/المكتبة الشاملة).
وقال شيخنا أبو بلال الحضرمي حفظه الله: المعنى: انتقل عن هذا المكان ولا تقيمن فيه، وإلا، أي: إن لم ترحل فكن على ما يكون عليه المسلم من استواء الحالين في السر والجهر فإن عدم ذلك شأن المنافق. اهـ ("موصل الطلاب" / للأزهري / بتحقيق شيخنا أبي بلال حفظه الله تعليقه عليه/ ص80/دار الآثار).
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى من كتابته
الفقير إلى الله أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
بتاريخ 7 شعبان 1430 هـ
بدماج اليمن حرسها الله.
فهرس
مقدمة الشيخ الفاضل أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله ورعاه 2
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله 19
* أثر الفضيل بن عياض رحمه الله الثاني 22
* حديث «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا». 23
* حديث «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِى الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ». 24
* سرد بعض أوصاف المنافقين –وفيها أدلة على أن التلوّن لم ينفكّ عنهم أبداً- 36
* ومن تلونات الحزبين: البراءة السياسية 49
الباب الرابع عشر: بعض أهل الخذلان يتلونون 51
* تلونات إخوة يوسف عليه السلام قبل التوبة 52
* عدم صحة قصة البائسة مع القاضي شريح 53
* تلون امرأة العزيز قبل التوبة 54
* الحديث المرفوع: «إياكم والتلون في الدين» لم يثبت 58
* عدم تلوّن أصحاب الكهف 59
* ثبات سحرة فرعون على الحق بعد العلم 59
* أثر الإمام الأوزاعي رحمه الله 71
* حديث «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» 73
* معنى حديث المتشبع 79
* فأما التلون بسبب التأثر بشبهة: 82
* أثر إبراهيم النخعي رحمه الله 84
* فائدة يتهاون فيها كثير من الناس: 86
* وأما التلون بسبب التأثر ببلاء: 87
* فأما الصبر والعافية 88
* وأما العافية واليقين 89
* وأما الصبر واليقين 89
* أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما 92
* خصال اليربوع: 97
* حديث « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » ثابت 99
* خصال الحرباء: 100
* من أضرار التلونات المتعلقة بفاعلها: 101
* وما يتوقع من أضرار التلونات المتعلقة بغير فاعلها وبالمجتمع: 104
* بعض الآثار في هذا الباب: 110
& & & & &
تعليق