تنبيه الظالمين
بالكفّ عن تبديع أئمة المسلمين
كتبه الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي وفقه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد ظهر في هذه الأشهر شخصان بنشر بعض أفكار الحدادية في التسرع في التبديع ورمي مخالفهما بالإرجاء، ويدندان حول تبديع أئمة المسلمين كالنووي، وابن حجر، وأمثالهما، بل أحدهما لما سأله أحد الإخوة عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله سكت عن الجواب، ولما سألته أنا عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله حاد، وسكت أياماً، ثم يحيد عن الجواب ويكثر الجدال، ولم يجب السؤال. وهل يشكّ عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله سنّيٌّ في هذا العصر يَعرف مكانته؟
ومما قال: (إن أخطاء النووي ومخالفاته العقدية والمنهجية أضعاف أضعاف أضعاف ما حُزِّب لأجله عبدالرحمن العدني وبُدِّع عليه...).
هكذا يريد تبديع بعض الأئمة المشاهير رحمهم الله بهذا الإلزام الفاشل.
ويطلب مني هذا الشخص ألا ألتزم في تلقيب النووي بـ: "إمام"،
ولا شك أنه ليس لازماً أن نذكر النووي أو من هو أرفع منه في كل وقت بلقب: "إمام". ولكن الرجل يريد أن يبدِّع هؤلاء الأئمة، ويحطّ مكانتهم التي أعطاهم الله إياها.
فمما قلت له: (إن إمامة أبي زكريا النووي رحمه الله قد أقرّ بها كثير من أئمة السلفيين، مع تنبيههم الأمة على زلاته. فلو تذكر لي أسماء العلماء الذين قد أقاموا على النووي الحجة، وثبت عناده بعد النصح فليس له عذر بعد ذلك فانحطّ عن إمامته بعد ذلك).
وسألته أيضاً ما الذي بعثه ليشغل الإخوةَ السلفيين في هذه الآونة في شأن النووي؟ لأنه قد ظهر في هذا الشخص وصاحبه السعيُ الجادّ في تبديع النووي وأمثاله.
فحاد الرجل عن الجواب، ويكثر الجدال، ويطلب مني جواب أسئلته ولم يرض بترتيب الأول فالأول.
ولا أحتاج إلى سرد جميع أقواله، وهي منشورة في مجموعته "منهاج السنة والآثار".
واتهمني –من أجل سوء فهمه أو سوء قصده- أني أتيت بتأصيل خطير.
فليعلم أن سؤالاتي ليس فيها تأصيل مخالف للحق، وإنما هي سؤالات ممهدة لسؤالات أخرى، لكن الشخص يستعجل في الحكم الكذب والاتهام المفترى.
وقد وجدت فيه وفي صاحبه التسرعَ في تبديع بعض الإخوة السلفيين الثابتين، وكما أخبرني به أيضا بعض الإخوة.
وقد أرسلت إليهما نصيحة سرية بعنوان: "حكم الاعتزال عن إرشاد سائر أئمة السنة بعلّة عدم التقليد وتقديم الحجة"، فلا ينتصح هو ولا صاحبه، بل يصرّان على عزمهما في إسقاط الأئمة الكبار رحمهم الله. فأبرزتُ الرسالة ليستفيد الإخوة إن لم تفدهما هي.
ثم يُخرج هذا الشخص في اليوم الثلاثاء 9 شوال 1435 من الهجرة ما سماه "بيانا" قال فيها: )تنبيه: لستُ مسئولا عن أخطاء الكاتب الإملائية(
هذا بيان **
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فهذا بيان لمن سألني البينة في رد ما اشترطه بعض اﻹخوة الفضلاء من أنه لا يحكم على المخالف في العقائد الظاهرة واﻷقوال المكفرة حتى يناصحه عالم ويقيم عليه الحجة ثم يصرّ هذا المخالف ويعاند؛ فهم غير مدركين لخطورة تأصيلهم الفاسد الذي لا يتأتى اطراده إلا على قواعد المرجئة الغلاة ومذاهبهم؛ فأنقل راجيا من الله شرح الصدور وإذهاب ما بخلدهم يدور؛
**قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (13/ 361):
( و فِي الْجُمْلَةِ: مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَايُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُه ) انتهى.
قال عبدالله : فسماه (مبتدعاً) مع وجود العذر والتأويل
قال أبو عبدالعزيز: وفي هذا الكلام من شيخ الإسلام مخالفة صريحة لمن يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع. ومن تشبع من علوم شيخ اﻹسلام وفهومه وجمع أقواله بعضها إلى بعض تبين له أن كلام شيخ الإسلام هذا يحمل على المخالفة في أمرين "نوعين" :
اﻷول: فيما اشتهر فيه الخلاف بين أهل السنة وأهل البدعة ولو كان جزئيا إن كان من الأمور الظاهرة.
والثاني: من كان في أصله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والخوارج واﻷشاعرة والمرجئة والجبرية والقدرية كما قرره الشيخ ربيع في جوابه*المشهور في حكم اشتراط إقامة الحجة للتبديع.
**ولا شك أن هذه الكلمة في (التبديع) من شيخ الإسلام لا يمكن أن تقال في التكفير فدل على أن الباب في التبديع أوسع منه في التكفير.
**وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 180):
(لَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَ لَا عَاصِياً) انتهى.
ولي مع كلام شيخ اﻹسلام هذا عدة توضيحات:
منها أنه سماه مبتدعاً رغم إنه قد لا يكون حتى عاصياً، وذلك إن كان في حقيقة أمره عند الله معذورا؛ وهو : 1- المجتهد الذي يحق له الاجتهاد.
2- في مسألة يجوز فيها الاجتهاد.
3- مع سلوك الطريقة السلفية في الاجتهاد.
فهذه شروط ثلاثة سبق وأن بينتها في مقال لي نشرته سابقا في مجموعة أخبار الدعوة السلفية حين أبنت إرجاء محمد الريمي في فتاواه مع الرافضة.
ومنها: أن كلام شيخ اﻹسلام السابق قد دل على أنه لا يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع.
ومنها: أنه لا تعارض عند شيخ اﻹسلام بين الاعتذار لبعض المخالفين أحيانا وبين الحكم عليهم بما يناسب حالهم ونوع مخالفتهم؛ وهذا أيضا قد سبق أن بينته في مقال لي سبق نشره في هذه المجموعة المباركة حين أجبت عن شبهة التعلق بموقف شيخ اﻹسلام من أبي إسماعيل الهروي.
ولكن يؤسفني أن اﻹخوة لا يقرؤون ما أكتبه ولا يهتمون إلا بمقالات من يعرفون وكأن الحق لا يأتي إلا من البعض دون البعض وحسبي من كل ذلك البلاغ.
**وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 356):
(فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا وَكِلَاهُمَاَ جاهِلٌ مُتَأَوِّل).
قال (عبدالله): فسماه مبتدعاً رغم كونه متأولاً، فدل على أنه لا يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع.
وفي نهاية بحثي هذا أرجو من كل منصف مخلص أن يتجرد للحق حيث ظهر وأن يقر بالخطأ حين بان ، والله على كل الأمور المستعان.
وكتب أبو عبد العزيز الطيري
ولما نبّهه أخونا السلفي الفاضل عبد الملك اليزيدي حفظه الله بكلام فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: (من قال عن الإمام النووي وابن حجر والذهبي مبتدعة هذا مهبول)،
كتب هذا الشخص في نفس اليوم: (إذا كان من يحاجج بآية وحديث وآثار والنقل عن الأئمة المحققين من أصحاب السبر العام والاستقراء التام كشيخ اﻹسلام؛ إن كان من هذا حاله عندكم مهبولا فحيا هلا بالهبل) أقرّ بنفسه أنه على منوال ما ذكره الشيخ صالح الفوزان.
فأجيب –أنا أبو فيرو عبد الرحمن الإندونيسي- مستعينا بالله ومتوكلا عليه وحده:
الجواب الأول بتوفيق الله:
أن هذا الشخص لما قيل له: إن هذا الصنيع -من نهيه الإخوة عن تلقيب النووي بالإمام- شيء غريب ومخالف لعادة الأئمة المستقرة في الاعتراف بإمامة النووي رحمه الله، قال هذا الشخص: (ومن المهم هنا التذكير بأن السلف الذين تعبدنا الله باتباع أفهامهم والاحتجاج بأقوالهم هم الصحابة ثم التابعون وأتباعهم؛ وليسوا ابن باز ولا اﻷلباني ولا الحجوري ولا الوادعي ولا من فوقهم...).
أقول بتوفيق الله وحده: من تعني بقولك: (وأتباعهم)؟ فالأئمة الذين ذكرتُ هم من أتباع الصحابة. فكلامك: (وليسوا ابن باز ولا اﻷلباني ولا الحجوري ولا الوادعي ولا من فوقهم.) خطأ محض وتهمة أنهم لم يتبعوا الصحابة رضي الله عنهم.
وإن كنتَ تعني بـ: (وأتباعهم) أتباع التابعين –يعني: من عاش في ذلك الزمن المعروف-، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً ليس من أتباع التابعين. فكيف تردّ طريقة هؤلاء الأئمة بعلة أنهم ليسوا من أتباع التابعين وتأتي بمن هو أيضا ليس من أتباع التابعين؟
قال الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
وقد قال المتوكّل اللّيثي:
لا تنهَ عَن خُلُقِ وَتأْتِيَ مِثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ
("العقد الفريد"/لابن عبد ربه الأندلسي/1/ص190).
الجواب الثاني بتوفيق الله:
أن هذا الشخص يتبجح بتظاهره القيام على الحجة والدليل، ويعيّر الإخوة السلفيين الثابتين بقوله: (شيخهم يقول: (الحق أقوى من الرجال) وهم يقولون : (قال الشيخ فلان وقال الشيخ فلان). إذن فلماذا كانوا ينكرون على من فتن بكتاب "اﻹبانه" باحتجاجه بقول الشيخ فلان وتزكية الشيخ فلان وسكوت الشيخ فلان؟!).
فإذا هذا الشخص يقول: (قال شيخ الإسلام، قال شيخ الإسلام)، فشيخ الإسلام أيضاًَ ليس دليلاً ولا حجة. كيف يعيرنا وهو واقع في ذلك؟ هذا يدل على تناقض الشخص، وكفى بذلك فساداً في طريقه.
فأهل السنة الثابتين هم أسعد الناس بكلام شيخ الإسلام رحمه الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن التناقض أول مقامات الفساد. ("مجموع الفتاوى"/6/ص 389).
الجواب الثالث بتوفيق الله:
أن هذا الشخص يعيِّر السلفيين الثابتين ويتّهمهم بالتقليد. ومما قال: (...من طلاب العلم من لم يفهم السلفية بأدلتها من كتاب وسنة وآثار بل سلفية التقليد للمشايخ الخالي عن الحجة والبرهان).
فإذا هو نفسه يقلِّد شيخ الإسلام رحمه الله. انظروا إلى أقوال شيخ الإسلام التي تعلق بها، هل ذكر شيخ الإسلام شيئاً من الحجة والدليل على ما قال؟ كلا. فهذا عين التقليد من هذا الشخص المتعالم المتطاول على الأئمة.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: التقليد قبول قول المرء في الدين بغير دليل. ("قواطع الأدلة فى الأصول" / للسمعاني/3/ص424).
فقد وقع هذا المتطاول فيما اتهم به السلفيين مع ادعائه الإتيان بالدليل، فصار متناقضاً، وكفى بذلك فساداً. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والأقوال إذا تعارضت وتعذر الترجيح كان دليلا على فسادها وبطلانها. ("مفتاح دار السعادة"/2/ص 147/المكتبة العصرية).
الجواب الرابع بتوفيق الله وحده:
أن هذا الشخص يتبجح بشيخ الإسلام بقوله: (...والنقل عن الأئمة المحققين من أصحاب السبر العام والاستقراء التام كشيخ اﻹسلام). وشيخ الإسلام رحمه الله مع إمامته، وتحقيقه، وسبره العام، واستقرائه التام لم يبدّع النووي رحمه الله ولا يسعى في حطّه، كما سعي في ذلك هذا المتطاول. وكفى بهذا تجاوزاً وتعادياً.
الجواب الخامس بتوفيق الله وحده:
إنْ صحّ أن شيخ الإسلام رحمه الله صرّح بعدم وجوب إقامة الحجة في هذه المسألة –وحاشا المتطاول يجد النصّ منه فيها-، فشيخ الإسلام هو الذي صنف كتاباً نفيساً لا يرضاه من سار على طريقة الحداديين: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وهو يف رسائله ينقل كثيرا من الإمام النووي رحمه الله ويستفيد منه.
الجواب السادس بتوفيق الله وحده:
إن ثبت أن شيخ الإسلام رحمه الله قال بعدم وجوب إقامة الحجة في التبديع، فقد خالفه غيره من الأئمة، فليس كلامه بحجة، لأن الحجة إنما هي: الكتاب أو السنة أو الإجماع. قال شيخ الإسلام رحمه الله: كانت الحجة الواجبة الاتباع للكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه. ("مجموع الفتاوى"/19/ص5).
وهذه بعض فتاوى الأئمة في وجوب إقامة الحجة قبل الحكم.
قال الإمام ابن باز رحمه الله: وقال جل وعلا : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ لإقامة الحجة وقطع المعذرة . وقال سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾، وقال عز وجل : ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. فبين سبحانه وتعالى أنه لابد من بيان ، ولا بد من إقامة حجة حتى لا يؤخذ أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه . ("مجموع فتاوى ابن باز"/2/ص303).
وسئل الإمام ابن عثيمين رحمه الله: بعض الإخوة ذهبوا بدعوة صلة أرحامهم في جنوب اليمن وأرحامهم هؤلاء تربوا وترعرعوا على أيدي علماء الصوفية ومما علموهم قالوا: إذا جاءكم أي شخص من الحجاز أو من نجد أو كان موحداً فهذا يعتبر وهابياً فلا تقبل منه، وأردنا أن ندعوهم إلى التوحيد فلم يقبلوا منا هذه الدعوة، فهل هذه حجة؟ وهل يشترط مع إقامة الحجة فهم الحجة أم لا؟
فأجاب رحمه الله: لا شك أنه إذا قيل لهم: هذا هو الحق وهذا هو كتاب الله، وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد قامت عليهم الحجة؛ لأنهم عرب يفهمون بمجرد ما يسمعون، أما لو كان أعجمياً وكنت تتكلم أمامه باللغة العربية وهو لا يفهمها؛ فإن الحجة لم تقم عليه؛ لأنه لا يفهم ما تقول، فإذا كان يعلم ما تقول، وأتيت بالكتاب والسنة دليلاً ولكنه أصرّ وقال: سأتبع مشايخي فقد قامت عليه الحجة، ويكون هذا كالذين قال الله عنهم: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23] إذاً نقول: سمونا ما شئتم، وهابية، أو حنبلية، أو نجدية، أو حجازية، أو ما شئتم، ألستم تؤمنون بالله ورسوله؟! ألستم ترون أن القرآن دليل، وأن السنة دليل؟!
ولكن يبدو أن بعض الدعاة يكون منه انفعال، وإذا قالوا: نحن لا نأخذ منكم أنتم وهابية، ينفر منهم، أو يرد عليهم بالمثل، ويقول: أنتم ضلال، وأنتم فيكم كذا وكذا، فلا يحصل منه الدعوة بالحكمة.
("لقاءات الباب المفتوح"/35/ص18).
وقال رحمه الله: الذي نراه: أن الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجه يفهمها، لكن نعرف أن أفهام الناس تختلف، من الناس من يفهم من هذا النص معنىً جلياً مثل الشمس، ومعنىً لا يحتمل عنده أي شك، ومن الناس من يفهم النص فهماً أولياً مع احتمال شك في قلبه، فالأول في قمة المعرفة والعلم، والثاني في أول العلم، والثاني قد قامت عليه الحجة لا شك؛ لأنه فهم منه ما يراد به، لكن ليس على الفهم التام الذي فهمته الطائفة الأولى كأبي بكر وعمر ، وأما من بلغه النص ولكنه لم يعرف منه معنىً أصلاً كرجل أعجمي بلغه النص باللغة العربية ولكن لا يدري ما معنى هذا النص، فهذا لم تقم عليه الحجة بلا شك، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:4] أي: بعد البيان بهذا اللسان الذي يفهمونه يضل الله من يشاء، فلا يقبل ويهدي من يشاء فيقبل. وأي فائدة لرجل أعجمي يُقرأ عليه القرآن من لسان عربي وهو لا يدري ما هو، أنت الآن لو أتى إليك رجل أعجمي وأنت عربي لا تفهم الأعجمية ثم كلمك بخطبة خمس صفحات أو أكثر لا تفهم منها شيئاً إطلاقاً فكذلك العجم بالنسبة للعرب. فالذي نرى: أنه لا بد من بلوغ الحجة وفهم معناها على وجه يتبين له الحق، وأما قوله تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19]، فلا شك أن القرآن نزل بلفظ ومعنى، فالمراد من بلغه لفظه ومعناه، أو ومن بلغه من أهل هذه اللغة الذين تقوم عليهم الحجة إذا بلغهم القرآن بمجرد وصوله إليهم، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة بخصوصها وأدلة أخرى بعمومها مثل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، وقوله: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ومن المعلوم أن من لا يعرف المعنى فإنه ليس بوسعه أن يقبله، لكن على من بلغه أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد بعث، وأن دينه نسخ الأديان كلها، يجب عليه أن يبحث، وهنا قد يفرط في البحث فلا يكون معذوراً لتفريطه. ("لقاءات الباب المفتوح"/98/ص14).
وسئل شيخنا العلامة المحدث يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: هل شروط التكفير وموانع التكفير تكون شروطا وموانعا في التبديع والتفسيق؟
فأجاب حفظه الله: نعم، موانع التكفير خمسة:
1- الجهل. 2- والإكراه. 3- والخطأ. 4- والنسيان. 5- والتأويل السائغ.
يقول النبي ص: «من قال لأخيه يا كافر؛ فإن كان كما قال وإلا حار عليه»، أي: رجع عليه إثم تكفيره وليس حار عليه الكفر يصير كافرا هذا هو القول الصحيح، فلو أن مسلما قال لمسلم: أنت كافر! لا يجوز أن يكفر ذلك المكفر بتكفيره ذلك، بل يقال: إنه عصى الله بهذا التكفير للمسلم الذي لم يكفر بالدليل، ومثل ذلك أيضًا قوله ص: «كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه»،
وكذلك التفسيق، وكذلك التبديع، فإذا إنسان من الناس كان جاهلا بأن (حي على خير العمل) محدثة في الأذان فوجد أباه، أو أهل قريته يؤذنون بهذا يبين له، وبعد أن يبين له يقال: هذا الرجل مبتدع بهذه البدعة، وما كان من هذا فشروط التكفير وكذا التفسيق والتبديع وموانعهما؛ لقول النبي ص: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار»، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ا، وهو حديث حسن، وأيضًا لاقتران هذه الأمور فيما يكرهه الله، قال تعالى: وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان.
(انتهى من "الإفتاء"/مكتبة الشيخ يحي الحجوري/5/ص12).
الجواب السابع بتوفيق الله وحده:
بل أقوال شيخ الإسلام رحمه الله الأخرى تدل على شرطية إقامة الحجة قبل إنزال العقوبة.
قال رحمه الله: لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة . وهذا كقوله تعالى : ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [ هود : 13 ] ، وقوله تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [ فصلت : 6، 7 ] ، وقال : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [ نوح : 14 ] . فدل على أنها كانت ذنوباً قبل إنذاره إياهم . وقال عن هود : ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ﴾ [ هود : 50- 52 ]. ("مجموع الفتاوى"/11/ص679-680).
هذا هو الكلام الموافق للكتاب والسنة، لا كما زعمه المتطاول.
والعقوبة إما شرعية وإما كونية. والتبديع والتحذير من العقوبات الشرعية، فلا تكون إلا بعد قيام الحجة.
الجواب الثامن بتوفيق الله وحده:
أن التبديع أمر عظيم تترتب عليه أشياء كبيرة كالهجر، والتحذير، والإهانة وغير ذلك.
قال الإمام الآجري رحمه الله: ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا وهو كتاب الشريعة أن يهجر جميع أهل الأهواء من الخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية ، وكل من ينسب إلى المعتزلة ، وجميع الروافض ، وجميع النواصب ، وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه مبتدع بدعة ضلالة ، وصح عنه ذلك ، فلا ينبغي أن يكلم ولا يسلم عليه ، ولا يجالس ولا يصلي خلفه ، ولا يزوج ولا يتزوج إليه من عرفه ، ولا يشاركه ولا يعامله ولا يناظره ولا يجادله ، بل يذله بالهوان له ، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك. ("الشريعة"/ باب ذكر هجرة أهل البدع والأهواء /للآجري).
وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمـن الصابوني - رحمه الله - حاكياً مذهب السلف أهل الحديث: واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث" /ص 114/دار المنهاج).
فكيف يُهجر الرجل، ويهان، ويحذَّر منه وهو لم يعرف ما ذنبه؟ هل يقول هذا من يشمّ رائحة الفقه الإسلامي وسموّ حكمته وسعة رحمته؟
بل الصواب الذي عليه السلف الموافق للشريعة: الإنذار قبل العقاب.
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال: لا أو تعلِّمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: المرء بخدنه. ("طبقات الحنابلة"/1 /ص 160/دار المعرفة/سنده صحيح).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فحذِّره واعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى. ("شرح السنة"/له/ص44/دار الآثار).
وسئل فضيلة الشيخ العلامة زيد بن محمد المدخلي رحمه الله: هل يقال عن رجل من عوام المسلمين يحمل شبه الحزبيين أنه حزبي؟
فأجاب حفظه الله بعد حمد الله والصلاة على النبي: من تشبه بقوم فهو منهم، ولكن ينصح أولا، ويبين له الحق لأن الجاهل قد يلبَّس عليه، فيبين له الحق ويرشد إليه. هذه رحمة العلماء. فإذا أصرّ وأبى ودافع عن أهل البدع فحكمه حكمهم لاتفاقهم جميعا على اختيار البدعة وتقديمها على السنة، وهذا من الضلال المبين. ومن وصايا السلف الحذر من مروجي البدعة فإنهم أحطر على الناس من أصحابها ...إلخ. ("العقد المنضد الجديد"/2/ص95/ دار الإتقان).
انظروا إلى الفروق بين موقف أهل السنة والعلم والرحمة، وبين تهور أهل البدعة والجهل والغلظة، فإياكما أن تكونا من الصنف الثاني.
الجواب التاسع بتوفيق الله وحده:
كيف يُبدَّع مَن لم يفهم؟ ألا تفهّمانه قبل أن تنزلا عليه التبديع؟! فأين الفقه الصحيح؟
إنما حصلت العقوبة بالتضليل وغيره عند المعاندة بعد تبين الهدى، فإذا أشكل على شخص أمرٌ وهو يريد الخير ويتحرى الحق، فهو معذور، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى﴾ أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، ...إلخ. ("تفسير القرآن العظيم"/2 /ص412).
وقال فضيلة الشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي رحمه الله: قد يكون المخالف في أمر من أمور العقيدة بسبب تأويل أو سوء فهم، وعنده علوم شرعية يستفاد منها، فلا يصنَّف هذا الصنف مع أهل البدع والضلال الذين قعّدوا قواعدها، وألّفوا في ترويجها، ودعوا الناس إليها؛ وإنما يبين للناس ما أخطأ فيه ليحذروا متابعته عليه، ويعتذر له تقديرا لما يحمل من العلم الشرعي والمؤلفات فيه ، وأمثلة ذلك كثيرة، فقد وقع في شيء من التأويلات في نصوص الصفات وذرائع الشرك بعض فحول العلماء كصاحب "الفتح"، وكالنووي، وكأبي حنيفة، وكابن خزيمة الذي يطلق عليه إمام الأئمة، وكالأمير الصنعاني، والشوكاني، فهؤلاء لهم علوم واسعة، ودفاع عن السنة، إلا أنهم وقعوا –كما أسلفت- في تأويل بعض النصوص على سبيل الخطأ في الفهم، والتأثر بالمشيخة، والبيئة التي عاشوا فيها. ("العقد المنضد الجديد"/2/ص84-85/دار الإتقان).
وقد علم أهل السنة أن مجرد مجيء الدليل لا يكفي في إقامة الحجة، بل لا بد من حصول الفهم عند المنصوح، لأن قدرة الأفهام تختلف، وسوء الفهم يؤثر على المعتقد والفعل.
سئل فضيلة شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: هل هناك فرق بين قيام الحجة وفهم الحجة؟
فأجاب حفظه الله: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ص تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ*وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهواتِ أَنْ تَمِيلوا مَيْلًا عَظِيمًا*يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:26-28]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم﴾ [النحل: 44]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:4]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]، وثبت من حديث العرباض بن سارية وغيره بمجموع طرقه أن النبي ص قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصب قال: كنا مع النبي ص في سفر فنزلنا منزلا فمنا من هو في جَشَرِهِ، وَمِنَّا من يصلح خباءه ومنا من ينتظر فنادى منادي رسول الله ص، فلما حضرنا قال: «إنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذر أمته شر ما يعلمه لهم، ألا وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، ويصيب آخرها فتن وأمور تنكرونها، وتأتي فتنة، فيقول: المؤمن هذه مهلكتي، فتنكشف وتأتي الأخرى، ويقول: هَذِهِ هَذِه...» ، وذكر الحديث إلى آخره، وشاهدنا من هذه الأدلة أنه لا بد من فهم الحجة، لا بد من فهم الحجة على من أراد تبليغها أن يفهمها ولهذا؛ فإن الله عز وجل يرسل الرسل من قومهم وبلسانهم، ونوح عليه السلام يذكر صفة دعوته لقومه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارا﴾ [نوح:5-7]، إلى آخر سورة نوح بما فيها من البيان في الليل والنهار، والسر والجهر؛ لإقامة الحجة، وإيصال الحجة، قال تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]، فمن هذه الأدلة كما سمعتم يتبين أن إقامة الحجة تكون بفهمها وأنه إن أتى أعجمي إلى عربي لا يفهم كلامه، يبربر بكلام ما يدري ما يقول، ما يكون قد أقام عليه الحجة؛ لأن المبلَّغ ما تبينت له الحجة، والله يقول: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]، فحاصل ذلك أن قيام الحجة يحصل بفهمها. أما بغير فهمها لا يحصل قيام الحجة على من أقيمت عليه؛ فالحجة كتاب الله وسنة رسوله ص، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهو ا﴾ [الحشر:7]، وقال: ﴿المص. كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:1-2]، وقال: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم:1].
("مكتبة الشيخ يحي الحجوري"/5/ص97-99).
الجواب العاشر بتوفيق الله وحده:
ليس سبيل الضلال الجهال مثل سبيل الراسخين في العلم. فالضلال الجهال متسرعون في تبديع النووي وأمثاله وترك كتبهم، فإياكما أن تكونا من هذا الصنف.
وقد سئل شيخنا العلامة يحيى الحجوري حفظه الله: أناس إذا قلنا لهم: عودوا إلى كتب أهل السنة مثل "فتح الباري شرح صحيح البخاري "يقولون: إنه مليان بالبدع، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب حفظه الله: هؤلاء ضلال جهال ، فكتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" من كتب السنة المهمة التي لا يستغني عنها طالب علم ولا عالم . وقد شاعت فتوى لبعض الغلاة وهو المسمى محمود الحداد بأن "فتح الباري" ينبغي إحراقه، فلما بلغ هذا القول شيخنا العلامة الوادعي رحمه الله قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: »لا يعذب بالنار إلا رب النار« لقلنا: إن محمود الحداد أحق بالإحراق من فتح الباري اهـ
وأما ما وقع من أخطاء الحافظ بان حجر وأمثاله رحمهم الله في تأويل بعض الصفات أو الاسترسال في التبرك بآثار الصالحين؛ فهذا الخطأ يجتنب ويبين ويحذر منه الناس مع الاستفادة من تلك الكتب النافعة المليئة بالعلم والسنة.
(انتهى من "أسئلة من أهل مريس بالضالع"، بتاريخ: الإثنين 18 رمضان 1422هـ.. دماج - دار الحديث).
وأما الراسخون في العلم بعُد نظرهم، واستقام منهجهم، وأقسط ميزانهم. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]. فالعلماء هم القادرون على استقراء الأدلة وتتبع النصوص والاستنباط كما ينبغي، ووضع الشيء موضعه.
قال علماء اللجنة الدائمة تحت رياسة الإمام ابن باز رحمه الله: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها - أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك. ("فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"/3/ص403).
وسئل فضيلة الشيخ العلامة زيد بن محمد المدخلي رحمه الله: ما هو الحد الذي إذا تجاوزه الهالم صار من أهل البدع، وإن كان أقلّ منه فهو لا يزال سنياً؟
فأجاب رحمه الله بعد مقدمة: الأصل في العلماء أنهم أهل سنة عالمين بها، وعاملين بها، وداعين إليها. فمن خرج من السنة إلى البدعة فلا تخلو بدعته إما أن تكون مكفرة أو مفسقة. فإن كانت مكفرة كالقبورية، والغلو في الصالحين كالاستغاثة بهم، أو دعوى أنهم يعلمون الغيب ونحو ذلك، فقد أردته بدعته ولم ينتفع بشيء من علمه إن كان لديه علم قبل انغماسه في البدعة.
وإن كانت البدعة مفسقة، أي: لم تخرج صاحبها من دائرة الإسلام فلا يخلو صاحب هذه البدعة من حالين:
الحالة الأولي: أن يكون من مروجي البدع والدعاة إليها في وسائل النشر كالتأليف ونحوه، ولم يقبل نصيحة الناصحين، فقد تجاوز الحد عمدا وجهرة، فلا عذر له، ولا تثريب على من أطلق عليه أنه مبتدع وحذر الناس من شره.
الحالة الثانية: أن يقع في البدعة من طريق التأويل بحسب اجتهاده فيما لم يتبين له الخطأ ، أو كان جاهلا، فقلد أهل البدع، فهذا لا يعتبر متجاوزا للحد كالأول؛ لا سيما إذا بين له الصواب ليعتصم به، والخطأ ليبتعد عنه فقبل ذلك.
("العقد المنضد الجديد"/2/ص85-86/دار الإتقان).
ولما سئل رحمه الله: هل يجوز تسمية أهل البدع بأئمة؟
أجاب فضيلته رحمه الله ببيان أنه لا يجوز، ثم قال: لعل سائلا يسأل فيقول: لماذا أطلق العلماء على أبي حنيفة، وابن حجر، والنووي، والقرطبي، والشوكاني ونحوهم أنهم أئمة؟ فيقال له: إن هؤلاء أئمة علم في علوم القرآن ، وعلوم السنة، وعلوم الفقه، وقد حصل منهم موافقة لأهل التأويل المذموم في بعض نصوص الصفات بسبب أخذهم للعلم عمن ابتلوا بتأويل نصوص الصفات أو تتلمذوا على كتبهم. فلذا فلا يجوز أن يصنَّفوا مع أهل الأهواء والبدع الذين قعّدوا قواعدها ونشروا فافتتن بها من افتتن ممن قلّ نصيبهم من العلم. انتهى المراد.
("العقد المنضد الجديد"/2/ص87/دار الإتقان).
وقد سئل فضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله: بعض الناس يبدّع بعض الأئمة كابن حجر، والنووي، وابن حزم، والشوكاني، والبيهقي، فهل قولهم هذا صحيح ؟
فأجاب حفظه الله: لهؤلاء الأئمة من الفضائل، والعلم الغزيز، والإفادة للناس، والاجتهاد في حفظ السنّة ونشرها، والمؤلفات العظيمة؛ ما يغطي ما عندهم من أخطاء، رحمهم الله - تعالى - . وهذه الأمور ننصح طالب العلم أن لا يشتغل بها، لأنه يُحرم العلم والذي يتتبع هذه الأمور على الأئمة سيُحرم من طلب العلم، فيصير مشغولاً بالفتنة، ومحبة النزاع بين الناس، نوصي الجميع بطلب العلم والحرص على ذلك، والاشتغال به عن الأمور التي لا فائدة منها . والنووي، وابن حزم، وابن حجر، والشوكاني، والبيهقي؛ هؤلاء أئمة كبار، محل ثقة عند أهل العلم، ولهم من المؤلفات العظيمة، والمراجع الإسلامية- التي يرجع إليها المسلمون - ما يغطي أخطاءهم وزلاتهم، رحمهم الله - تعالى - .
(انتهى من "كتب المناهج والفرق"/للفوزان /1/ص129-130).
انظرا وفقكما الله فرقاً عظيما بين نظر العلماء الراسخين في العلم وتوجيهاتهم الصائبة المحلاة بالحجج، وبين مجازفات الضالّين الجهال، فتوبا إلى الله وارجعا إلى رشدكما.
الجواب الحادي عشر بتوفيق الله وحده:
إذا علمنا فرقاً عظيماً بين نظر العلماء وموفقهم، وبين تصرفات الضلال الجهال؛ فتسليط الجهال الضلال على تكفير العلماء أو تبديعهم أو تضليلهم فهو من أعظم الضرر على الأمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين . وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم. ("مجموع الفتاوى"/35/ص 100).
وقد مرّ بنا أن الشروط والموانع في التكفير والتبديع سواء: الجهل، والإكراه، والخطأ، والنسيان، والتأويل السائغ.
أتقولان إن من لم يفهم الأدلة ومقتضاها يبدَّع؟ أو تقولان إن المتعالم الجاهل قادر على إقامة الحجة ويعرف متى يُعذَر له، ومتى قد استوفيت فيه الشروط مع انتفاء عنه الموانع؟ لا يقول هذا عاقل فضلا عن عالم. فلا ينبغي لكما أن تتهورا وتتعالما وتتشبعا بما لم تُعطيا فتتطاولا على أئمة الإسلام بالتبديع خلافاً فتخالفا سبيل المؤمنين.
وأما الراسخون في العلم ورثة الأنبياء يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العذر بالجهل والخطأ والنسيان.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح». (أخرجه مسلم (2747)).
ولم يحكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى فعله، لأن المانع قائم، وهو: الخطأ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا الحديث: لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يُرِده. والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته. ("إعلام الموقعين" /3/ص63).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك فغفر له». (أخرجه البخاري (3481) ومسلم (2756)).
ولم يحكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى صنيعه، وبل ولا عقيدته، لأن المانع قائم، وهو: الجهل، أو السهو من شدة الاندهاش، أو غير ذلك.
وسيأتي إن شاء الله كلام جميل من شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الحديث.
وهذه الأدلة وأمثالها هي من أعظم حجة أئمة أهل السنة والجماعة في عذر من زلّت قدمه في الأمور الدينية حتى في المسائل العقدية، لمانع من الموانع، ولو كره الحداديون وأنصارهم.
الجواب الثاني عشر:
كأنكما متظاهران بتضلع أقوال شيخ الإسلام رحمه الله، فقال أحدكما مع إقرار صاحبه: (ومن تشبع من علوم شيخ اﻹسلام وفهومه وجمع أقواله بعضها إلى بعض...)، وما أنتما إلا متشبعان بما لم تُعطيا. فكلاكما لم تفرقا بين الكلام العام وبين تطبيقه على الأعيان، فتخبطا.
فكم من قاعدة عامة لم تنطبق على أعيان لعدم استيفاء الشروط أو لقيام مانع من الموانع؟ فليس كل من وقع في كفرٍ كافراً، ولا بدعةٍ مبتدعاً، ولا فسقٍ فاسقاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الأطلاق والتعيين . وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة [ الوعيد ] ، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية [ النساء : 10 ] ، وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة . وهي بمنزلة قول من قال من السلف : من قال كذا، فهو كذا . ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة .
والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة . وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا .
وكنت دائمًا إذكر الحديث الذي في "الصحيحين" في: «الرجل الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني . ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله له : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك فغفر له ».
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد . وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك .
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/3/ص230-231).
فليس كل من وقع في الوعيد ينطبق عليه هذا الوعيد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم -من الذم والعقاب وغير ذلك- لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد؛ إذ ليس الوعيد إلا نوعا من الذم والعقاب. ("رفع الملام عن الأئمة الأعلام"/ص 63).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: أما كونه عند المستمع معلومًا، أو مظنونًا، أو مجهولاً، أو قطعيًا، أو ظنيًا، أو يجب قبوله، أو يحرم، أو يكفر جاحده، أو لا يكفر، فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال . فإذا رأيت إمامًا قد غلظ على قائل مقالته، أو كَفَّره فيها، فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه، والتكفير له، فإن من جحد شيئًا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئًا ببلد جهل، لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية .
وكذلك العكس، إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم، فتدبره فإنه نافع .
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/6/ص60-61)
وقال رحمه الله: ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له . وكذلك [ التكفير المطلق ] ، و [ الوعيد المطلق ] . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته. ("مجموع الفتاوى"/10/ص329-330)
وقال رحمه الله: ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقا روايتين حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان أصحهما لا يكفر وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقا وهو خطأ محض والجهمية عند كثير من السلف مثل عبدالله بن المبارك ويوسف ابن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام احمد وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة بل أصول هذه عند هؤلاء هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذا المأثور عن أحمد وهو المأثور عم عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر)، ونحو ذلك.
ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين أحدهما أنه كفر ينقل عن الملة. قال: وهو قول الأكثرين و الثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ. وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث كأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم وامتنع بعضهم من القول بالتخليد.
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فيتعارض عندهم الدليلان.
وحقيقة الأمر: أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في الفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: (من قال كذا فهو كافر) اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.
يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/12/ص486-488).
ألا فلتتشبعا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم سلف الأمة وأئمة السلفيين، ثم لتتشبعا بهذه الأقوال من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن كنتما من الصادقين.
إن أبيتما إلا المضي في الغيّ فذلك فتنة عظيمة على أنفسكما قبل غيركما.
قال فضيلة الشيخ محمد بن أمان الجامي رحمه الله: فمن الفتن التي ابتليَ بها بعض الشباب التسرع في التكفير والتبديع والتضليل والخوض في أعراض الناس وكأنهم يرون إنما تحرم الغيبة والنميمة والطعن والسخرية فيمن يَنْتَمِي إلى الاتجاه الذي هم فيه ومن خالف هذا الاتجاه استباحوا تكفيره وما دون التكفير من باب أولى. هذه فتنة يجب أن يعالجها العلماء والعلاج التعليم. وكل هذا من الجهل ومن التأثر ببعض الأفكار الواردة من خارج هذا البلد. ("مكتبة محمد أمان الجامي"/53/ص13).
وسئل رحمه الله: إن بعض الشباب السلفيين كلما ذُكِرَ عندهم الحافظ ابن حجر يقولون إنه أشعريٌ فيريد توضيح عقيدة هذا الإمام ... (السائل) توضيحا شافيا ـ كما قال ـ وغيره من الأئمة الذين قد زلوا في بعض العقائد، فيطلب السائل إزالة الغبش على حد تعبيره من هذه المسألة؟؟؟
فأجاب رحمه الله: الحافظ ابن حجر والإمام النووي والذهبي والبيهقي أحياناً والإمام الشوكاني وغير ذلك من الأئمة الذين خدموا الكتاب والسنة وقعوا في بعض التأويلات، في بعض تأويلات نصوص الصفات، في أمثال هؤلاء يقول شيخ الإسلام: فإذا كان الله يقبل عذر من يجهل تحريم الخمر وربما وجوب الصلاة لكونه عاش بعيداً عن العلم وأهله فهو لم يطلب العلم ولم يطلب الهدى ولم يجتهد، فكون الله يعفو ويسمح فيقبل عذر من اجتهد ليعلم الخير وليعلم الهدى وبذل كل جهوده في ذلك ولكنه لم يدرك كل الإدراك فوقع في أخطاءٍ إما في باب الأسماء والصفات أو في باب العبادة أخطئ أخطاءً بعد أن اجتهد ليعرف الحق، يقول شيخ الإسلام: أمثال هؤلاء أحق بالعفو والرحمة والسماح أو كما قال رحمه الله، وشيخ الإسلام كان يناقش علماء الجهمية جهابذة علماء الجهمية فيقول لهم: لو قلت أنا ما قلتموه أنتم أي لو كنت أنا مكانكم لأكون كافرا ولكنكم معذورون لأنكم جُهَّال، يرى شيخ الإسلام أن الإنسان يُعذر بجهله وخصوصا إذا بذل مجهوده ليعرف الحق ولا فرق عنده وعند غيره من المحققين بأن الجهل في الفروع والأصول قد يصوغ في هذا أدلةً منها قصة الإسرائيلي النباش الذي لمَّا دنى أجله أوصى إلى أولاده إذا مات يحرقوه فيسحقوه فيرموه في اليم ويضعوا جزءً منه من الذر في البرد والجزء الآخر في البحر ويتفرق وفي زعمه إذا فعل ذلك سوف يفوت على الله،قال لأن قَدِرَ الله عليَّ ليعذبني عذابا لم يعذب أحداً قبلي أو كما قال. يقول الإمام بن تيميه إنه جهل عموم قدرة الله تعالى. وفُعِلَ به ذلك فبعثه الله فأوقفه بين يديه فسأله ما الذي حملك على، هذا قال خشيتك يا رب، الخوف من الله، بمعنى إنه مؤمنٌ ويخاف الله مع ذلك جهل عموم قدرة الله تعالى وأن الله قادر على أن يجمع تلك الذرَّات فيبعثها، هذا جهلٌ في أصول الدين.
وكثير من أئمة الدعوة والمحققون يَرَوْنَ ذلك حَتَّى نَقَلَ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب عن والده أنه كان يقول: أولئك الذين يطوفون بضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني وأمثاله لا بد من تنبيههم أولا قبل الحكم عليهم بالكفر.
ولو تتبعنا أقوال المحققين الفقهاء أدركنا بأن العذر بالجهل عامٌ في الأصول والفروع. وهؤلاء الأئمة وإن لم يكونوا جُهَّالاً لكنهم فاتتهم مسائل كثيرة، الإمام الشوكاني كان شيعيا لأنه زيدي والزيدية من الشيعة، ومن أقرب طوائف الشيعة إلى الحق، ترك الزيدية ورحل وقاطع جميع المذاهب تقليدا، كان مجتهدا غير مقلد وسعى ليلحق بركب السلف في تفسيره وفي "نيل الأوطار" وفي غيرهما مما كتب ولكن فاته الشيء الكثير إلى أن تصور الإمام رحمه الله أن التفويض هو منهج السلف، وهذا خطأ، التفويض ... تفويض معاني النصوص ليس هو منهج السلف، منهج السلف معرفة معاني النصوص كلها من السمع والبصر والاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك، وتفويض الحقيقة إلى الله، التفويض تفويضان: تفويض المعاني وهذا خطأ وهو الذي وقع به الإمام الشوكاني عفا الله عنه، وتفويض الحقيقة والكيفية والكنه وهذا الذي عناه الإمام مالك حيث قال: ((الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)).
وبالاختصار: هؤلاء معذورون فيما وقع منهم من الأخطاء في التأويل. و إطلاق اللسان عليهم بكل جرأة إنهم مبتدعة وأن من لم يبدعهم فهو مبتدع، هذه جرأة جديدة من بعض الشباب الذين أصيبوا بنكسة الحداد، فنسأل الله تعالى أن يهدي قلوبهم ويردهم إلى الصواب وهم اخطئوا كثيرا وابتعدوا كثيرا عن الجادة، فصاروا يبدعون الأحياء والأموات على حدٍ سواء، العلماء كبار علمائنا الذين يحضرهم مجالسهم طلاب العلم وغيرهم، طلاب العلم وغيرهم، السلفيون والخلفيون على حدٍ سواء الذين يستفيدون من مجالسهم، مجالسهم مجالس العلم والمذاكرة يُبَدِّعُونَهُمْ بدعوة أنهم يجالسون المبتدعة، وهذا الخطأ فشى للأسف بين الشباب في الآونة الأخيرة وخير ما نقوله: - اللهم اهدي قلوبهم -.
(انتهى من "مكتبة محمد أمان الجامي"/45/ص2-4).
إن شاء الله أواصل الكلام في وقت آخر، بالله التوفيق. والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 10 شوال 1435 من الهجرة.
بالكفّ عن تبديع أئمة المسلمين
كتبه الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي وفقه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد ظهر في هذه الأشهر شخصان بنشر بعض أفكار الحدادية في التسرع في التبديع ورمي مخالفهما بالإرجاء، ويدندان حول تبديع أئمة المسلمين كالنووي، وابن حجر، وأمثالهما، بل أحدهما لما سأله أحد الإخوة عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله سكت عن الجواب، ولما سألته أنا عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله حاد، وسكت أياماً، ثم يحيد عن الجواب ويكثر الجدال، ولم يجب السؤال. وهل يشكّ عن سلفية الإمام الألباني رحمه الله سنّيٌّ في هذا العصر يَعرف مكانته؟
ومما قال: (إن أخطاء النووي ومخالفاته العقدية والمنهجية أضعاف أضعاف أضعاف ما حُزِّب لأجله عبدالرحمن العدني وبُدِّع عليه...).
هكذا يريد تبديع بعض الأئمة المشاهير رحمهم الله بهذا الإلزام الفاشل.
ويطلب مني هذا الشخص ألا ألتزم في تلقيب النووي بـ: "إمام"،
ولا شك أنه ليس لازماً أن نذكر النووي أو من هو أرفع منه في كل وقت بلقب: "إمام". ولكن الرجل يريد أن يبدِّع هؤلاء الأئمة، ويحطّ مكانتهم التي أعطاهم الله إياها.
فمما قلت له: (إن إمامة أبي زكريا النووي رحمه الله قد أقرّ بها كثير من أئمة السلفيين، مع تنبيههم الأمة على زلاته. فلو تذكر لي أسماء العلماء الذين قد أقاموا على النووي الحجة، وثبت عناده بعد النصح فليس له عذر بعد ذلك فانحطّ عن إمامته بعد ذلك).
وسألته أيضاً ما الذي بعثه ليشغل الإخوةَ السلفيين في هذه الآونة في شأن النووي؟ لأنه قد ظهر في هذا الشخص وصاحبه السعيُ الجادّ في تبديع النووي وأمثاله.
فحاد الرجل عن الجواب، ويكثر الجدال، ويطلب مني جواب أسئلته ولم يرض بترتيب الأول فالأول.
ولا أحتاج إلى سرد جميع أقواله، وهي منشورة في مجموعته "منهاج السنة والآثار".
واتهمني –من أجل سوء فهمه أو سوء قصده- أني أتيت بتأصيل خطير.
فليعلم أن سؤالاتي ليس فيها تأصيل مخالف للحق، وإنما هي سؤالات ممهدة لسؤالات أخرى، لكن الشخص يستعجل في الحكم الكذب والاتهام المفترى.
وقد وجدت فيه وفي صاحبه التسرعَ في تبديع بعض الإخوة السلفيين الثابتين، وكما أخبرني به أيضا بعض الإخوة.
وقد أرسلت إليهما نصيحة سرية بعنوان: "حكم الاعتزال عن إرشاد سائر أئمة السنة بعلّة عدم التقليد وتقديم الحجة"، فلا ينتصح هو ولا صاحبه، بل يصرّان على عزمهما في إسقاط الأئمة الكبار رحمهم الله. فأبرزتُ الرسالة ليستفيد الإخوة إن لم تفدهما هي.
ثم يُخرج هذا الشخص في اليوم الثلاثاء 9 شوال 1435 من الهجرة ما سماه "بيانا" قال فيها: )تنبيه: لستُ مسئولا عن أخطاء الكاتب الإملائية(
هذا بيان **
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فهذا بيان لمن سألني البينة في رد ما اشترطه بعض اﻹخوة الفضلاء من أنه لا يحكم على المخالف في العقائد الظاهرة واﻷقوال المكفرة حتى يناصحه عالم ويقيم عليه الحجة ثم يصرّ هذا المخالف ويعاند؛ فهم غير مدركين لخطورة تأصيلهم الفاسد الذي لا يتأتى اطراده إلا على قواعد المرجئة الغلاة ومذاهبهم؛ فأنقل راجيا من الله شرح الصدور وإذهاب ما بخلدهم يدور؛
**قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (13/ 361):
( و فِي الْجُمْلَةِ: مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَايُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُه ) انتهى.
قال عبدالله : فسماه (مبتدعاً) مع وجود العذر والتأويل
قال أبو عبدالعزيز: وفي هذا الكلام من شيخ الإسلام مخالفة صريحة لمن يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع. ومن تشبع من علوم شيخ اﻹسلام وفهومه وجمع أقواله بعضها إلى بعض تبين له أن كلام شيخ الإسلام هذا يحمل على المخالفة في أمرين "نوعين" :
اﻷول: فيما اشتهر فيه الخلاف بين أهل السنة وأهل البدعة ولو كان جزئيا إن كان من الأمور الظاهرة.
والثاني: من كان في أصله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والخوارج واﻷشاعرة والمرجئة والجبرية والقدرية كما قرره الشيخ ربيع في جوابه*المشهور في حكم اشتراط إقامة الحجة للتبديع.
**ولا شك أن هذه الكلمة في (التبديع) من شيخ الإسلام لا يمكن أن تقال في التكفير فدل على أن الباب في التبديع أوسع منه في التكفير.
**وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 180):
(لَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَ لَا عَاصِياً) انتهى.
ولي مع كلام شيخ اﻹسلام هذا عدة توضيحات:
منها أنه سماه مبتدعاً رغم إنه قد لا يكون حتى عاصياً، وذلك إن كان في حقيقة أمره عند الله معذورا؛ وهو : 1- المجتهد الذي يحق له الاجتهاد.
2- في مسألة يجوز فيها الاجتهاد.
3- مع سلوك الطريقة السلفية في الاجتهاد.
فهذه شروط ثلاثة سبق وأن بينتها في مقال لي نشرته سابقا في مجموعة أخبار الدعوة السلفية حين أبنت إرجاء محمد الريمي في فتاواه مع الرافضة.
ومنها: أن كلام شيخ اﻹسلام السابق قد دل على أنه لا يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع.
ومنها: أنه لا تعارض عند شيخ اﻹسلام بين الاعتذار لبعض المخالفين أحيانا وبين الحكم عليهم بما يناسب حالهم ونوع مخالفتهم؛ وهذا أيضا قد سبق أن بينته في مقال لي سبق نشره في هذه المجموعة المباركة حين أجبت عن شبهة التعلق بموقف شيخ اﻹسلام من أبي إسماعيل الهروي.
ولكن يؤسفني أن اﻹخوة لا يقرؤون ما أكتبه ولا يهتمون إلا بمقالات من يعرفون وكأن الحق لا يأتي إلا من البعض دون البعض وحسبي من كل ذلك البلاغ.
**وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 356):
(فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا وَكِلَاهُمَاَ جاهِلٌ مُتَأَوِّل).
قال (عبدالله): فسماه مبتدعاً رغم كونه متأولاً، فدل على أنه لا يشترط إقامة الحجة في (كل) تبديع.
وفي نهاية بحثي هذا أرجو من كل منصف مخلص أن يتجرد للحق حيث ظهر وأن يقر بالخطأ حين بان ، والله على كل الأمور المستعان.
وكتب أبو عبد العزيز الطيري
ولما نبّهه أخونا السلفي الفاضل عبد الملك اليزيدي حفظه الله بكلام فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: (من قال عن الإمام النووي وابن حجر والذهبي مبتدعة هذا مهبول)،
كتب هذا الشخص في نفس اليوم: (إذا كان من يحاجج بآية وحديث وآثار والنقل عن الأئمة المحققين من أصحاب السبر العام والاستقراء التام كشيخ اﻹسلام؛ إن كان من هذا حاله عندكم مهبولا فحيا هلا بالهبل) أقرّ بنفسه أنه على منوال ما ذكره الشيخ صالح الفوزان.
فأجيب –أنا أبو فيرو عبد الرحمن الإندونيسي- مستعينا بالله ومتوكلا عليه وحده:
الجواب الأول بتوفيق الله:
أن هذا الشخص لما قيل له: إن هذا الصنيع -من نهيه الإخوة عن تلقيب النووي بالإمام- شيء غريب ومخالف لعادة الأئمة المستقرة في الاعتراف بإمامة النووي رحمه الله، قال هذا الشخص: (ومن المهم هنا التذكير بأن السلف الذين تعبدنا الله باتباع أفهامهم والاحتجاج بأقوالهم هم الصحابة ثم التابعون وأتباعهم؛ وليسوا ابن باز ولا اﻷلباني ولا الحجوري ولا الوادعي ولا من فوقهم...).
أقول بتوفيق الله وحده: من تعني بقولك: (وأتباعهم)؟ فالأئمة الذين ذكرتُ هم من أتباع الصحابة. فكلامك: (وليسوا ابن باز ولا اﻷلباني ولا الحجوري ولا الوادعي ولا من فوقهم.) خطأ محض وتهمة أنهم لم يتبعوا الصحابة رضي الله عنهم.
وإن كنتَ تعني بـ: (وأتباعهم) أتباع التابعين –يعني: من عاش في ذلك الزمن المعروف-، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً ليس من أتباع التابعين. فكيف تردّ طريقة هؤلاء الأئمة بعلة أنهم ليسوا من أتباع التابعين وتأتي بمن هو أيضا ليس من أتباع التابعين؟
قال الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
وقد قال المتوكّل اللّيثي:
لا تنهَ عَن خُلُقِ وَتأْتِيَ مِثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ
("العقد الفريد"/لابن عبد ربه الأندلسي/1/ص190).
الجواب الثاني بتوفيق الله:
أن هذا الشخص يتبجح بتظاهره القيام على الحجة والدليل، ويعيّر الإخوة السلفيين الثابتين بقوله: (شيخهم يقول: (الحق أقوى من الرجال) وهم يقولون : (قال الشيخ فلان وقال الشيخ فلان). إذن فلماذا كانوا ينكرون على من فتن بكتاب "اﻹبانه" باحتجاجه بقول الشيخ فلان وتزكية الشيخ فلان وسكوت الشيخ فلان؟!).
فإذا هذا الشخص يقول: (قال شيخ الإسلام، قال شيخ الإسلام)، فشيخ الإسلام أيضاًَ ليس دليلاً ولا حجة. كيف يعيرنا وهو واقع في ذلك؟ هذا يدل على تناقض الشخص، وكفى بذلك فساداً في طريقه.
فأهل السنة الثابتين هم أسعد الناس بكلام شيخ الإسلام رحمه الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن التناقض أول مقامات الفساد. ("مجموع الفتاوى"/6/ص 389).
الجواب الثالث بتوفيق الله:
أن هذا الشخص يعيِّر السلفيين الثابتين ويتّهمهم بالتقليد. ومما قال: (...من طلاب العلم من لم يفهم السلفية بأدلتها من كتاب وسنة وآثار بل سلفية التقليد للمشايخ الخالي عن الحجة والبرهان).
فإذا هو نفسه يقلِّد شيخ الإسلام رحمه الله. انظروا إلى أقوال شيخ الإسلام التي تعلق بها، هل ذكر شيخ الإسلام شيئاً من الحجة والدليل على ما قال؟ كلا. فهذا عين التقليد من هذا الشخص المتعالم المتطاول على الأئمة.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: التقليد قبول قول المرء في الدين بغير دليل. ("قواطع الأدلة فى الأصول" / للسمعاني/3/ص424).
فقد وقع هذا المتطاول فيما اتهم به السلفيين مع ادعائه الإتيان بالدليل، فصار متناقضاً، وكفى بذلك فساداً. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والأقوال إذا تعارضت وتعذر الترجيح كان دليلا على فسادها وبطلانها. ("مفتاح دار السعادة"/2/ص 147/المكتبة العصرية).
الجواب الرابع بتوفيق الله وحده:
أن هذا الشخص يتبجح بشيخ الإسلام بقوله: (...والنقل عن الأئمة المحققين من أصحاب السبر العام والاستقراء التام كشيخ اﻹسلام). وشيخ الإسلام رحمه الله مع إمامته، وتحقيقه، وسبره العام، واستقرائه التام لم يبدّع النووي رحمه الله ولا يسعى في حطّه، كما سعي في ذلك هذا المتطاول. وكفى بهذا تجاوزاً وتعادياً.
الجواب الخامس بتوفيق الله وحده:
إنْ صحّ أن شيخ الإسلام رحمه الله صرّح بعدم وجوب إقامة الحجة في هذه المسألة –وحاشا المتطاول يجد النصّ منه فيها-، فشيخ الإسلام هو الذي صنف كتاباً نفيساً لا يرضاه من سار على طريقة الحداديين: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وهو يف رسائله ينقل كثيرا من الإمام النووي رحمه الله ويستفيد منه.
الجواب السادس بتوفيق الله وحده:
إن ثبت أن شيخ الإسلام رحمه الله قال بعدم وجوب إقامة الحجة في التبديع، فقد خالفه غيره من الأئمة، فليس كلامه بحجة، لأن الحجة إنما هي: الكتاب أو السنة أو الإجماع. قال شيخ الإسلام رحمه الله: كانت الحجة الواجبة الاتباع للكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه. ("مجموع الفتاوى"/19/ص5).
وهذه بعض فتاوى الأئمة في وجوب إقامة الحجة قبل الحكم.
قال الإمام ابن باز رحمه الله: وقال جل وعلا : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ لإقامة الحجة وقطع المعذرة . وقال سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾، وقال عز وجل : ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. فبين سبحانه وتعالى أنه لابد من بيان ، ولا بد من إقامة حجة حتى لا يؤخذ أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه . ("مجموع فتاوى ابن باز"/2/ص303).
وسئل الإمام ابن عثيمين رحمه الله: بعض الإخوة ذهبوا بدعوة صلة أرحامهم في جنوب اليمن وأرحامهم هؤلاء تربوا وترعرعوا على أيدي علماء الصوفية ومما علموهم قالوا: إذا جاءكم أي شخص من الحجاز أو من نجد أو كان موحداً فهذا يعتبر وهابياً فلا تقبل منه، وأردنا أن ندعوهم إلى التوحيد فلم يقبلوا منا هذه الدعوة، فهل هذه حجة؟ وهل يشترط مع إقامة الحجة فهم الحجة أم لا؟
فأجاب رحمه الله: لا شك أنه إذا قيل لهم: هذا هو الحق وهذا هو كتاب الله، وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد قامت عليهم الحجة؛ لأنهم عرب يفهمون بمجرد ما يسمعون، أما لو كان أعجمياً وكنت تتكلم أمامه باللغة العربية وهو لا يفهمها؛ فإن الحجة لم تقم عليه؛ لأنه لا يفهم ما تقول، فإذا كان يعلم ما تقول، وأتيت بالكتاب والسنة دليلاً ولكنه أصرّ وقال: سأتبع مشايخي فقد قامت عليه الحجة، ويكون هذا كالذين قال الله عنهم: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23] إذاً نقول: سمونا ما شئتم، وهابية، أو حنبلية، أو نجدية، أو حجازية، أو ما شئتم، ألستم تؤمنون بالله ورسوله؟! ألستم ترون أن القرآن دليل، وأن السنة دليل؟!
ولكن يبدو أن بعض الدعاة يكون منه انفعال، وإذا قالوا: نحن لا نأخذ منكم أنتم وهابية، ينفر منهم، أو يرد عليهم بالمثل، ويقول: أنتم ضلال، وأنتم فيكم كذا وكذا، فلا يحصل منه الدعوة بالحكمة.
("لقاءات الباب المفتوح"/35/ص18).
وقال رحمه الله: الذي نراه: أن الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجه يفهمها، لكن نعرف أن أفهام الناس تختلف، من الناس من يفهم من هذا النص معنىً جلياً مثل الشمس، ومعنىً لا يحتمل عنده أي شك، ومن الناس من يفهم النص فهماً أولياً مع احتمال شك في قلبه، فالأول في قمة المعرفة والعلم، والثاني في أول العلم، والثاني قد قامت عليه الحجة لا شك؛ لأنه فهم منه ما يراد به، لكن ليس على الفهم التام الذي فهمته الطائفة الأولى كأبي بكر وعمر ، وأما من بلغه النص ولكنه لم يعرف منه معنىً أصلاً كرجل أعجمي بلغه النص باللغة العربية ولكن لا يدري ما معنى هذا النص، فهذا لم تقم عليه الحجة بلا شك، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:4] أي: بعد البيان بهذا اللسان الذي يفهمونه يضل الله من يشاء، فلا يقبل ويهدي من يشاء فيقبل. وأي فائدة لرجل أعجمي يُقرأ عليه القرآن من لسان عربي وهو لا يدري ما هو، أنت الآن لو أتى إليك رجل أعجمي وأنت عربي لا تفهم الأعجمية ثم كلمك بخطبة خمس صفحات أو أكثر لا تفهم منها شيئاً إطلاقاً فكذلك العجم بالنسبة للعرب. فالذي نرى: أنه لا بد من بلوغ الحجة وفهم معناها على وجه يتبين له الحق، وأما قوله تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19]، فلا شك أن القرآن نزل بلفظ ومعنى، فالمراد من بلغه لفظه ومعناه، أو ومن بلغه من أهل هذه اللغة الذين تقوم عليهم الحجة إذا بلغهم القرآن بمجرد وصوله إليهم، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة بخصوصها وأدلة أخرى بعمومها مثل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، وقوله: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ومن المعلوم أن من لا يعرف المعنى فإنه ليس بوسعه أن يقبله، لكن على من بلغه أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد بعث، وأن دينه نسخ الأديان كلها، يجب عليه أن يبحث، وهنا قد يفرط في البحث فلا يكون معذوراً لتفريطه. ("لقاءات الباب المفتوح"/98/ص14).
وسئل شيخنا العلامة المحدث يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: هل شروط التكفير وموانع التكفير تكون شروطا وموانعا في التبديع والتفسيق؟
فأجاب حفظه الله: نعم، موانع التكفير خمسة:
1- الجهل. 2- والإكراه. 3- والخطأ. 4- والنسيان. 5- والتأويل السائغ.
يقول النبي ص: «من قال لأخيه يا كافر؛ فإن كان كما قال وإلا حار عليه»، أي: رجع عليه إثم تكفيره وليس حار عليه الكفر يصير كافرا هذا هو القول الصحيح، فلو أن مسلما قال لمسلم: أنت كافر! لا يجوز أن يكفر ذلك المكفر بتكفيره ذلك، بل يقال: إنه عصى الله بهذا التكفير للمسلم الذي لم يكفر بالدليل، ومثل ذلك أيضًا قوله ص: «كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه»،
وكذلك التفسيق، وكذلك التبديع، فإذا إنسان من الناس كان جاهلا بأن (حي على خير العمل) محدثة في الأذان فوجد أباه، أو أهل قريته يؤذنون بهذا يبين له، وبعد أن يبين له يقال: هذا الرجل مبتدع بهذه البدعة، وما كان من هذا فشروط التكفير وكذا التفسيق والتبديع وموانعهما؛ لقول النبي ص: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار»، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ا، وهو حديث حسن، وأيضًا لاقتران هذه الأمور فيما يكرهه الله، قال تعالى: وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان.
(انتهى من "الإفتاء"/مكتبة الشيخ يحي الحجوري/5/ص12).
الجواب السابع بتوفيق الله وحده:
بل أقوال شيخ الإسلام رحمه الله الأخرى تدل على شرطية إقامة الحجة قبل إنزال العقوبة.
قال رحمه الله: لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة . وهذا كقوله تعالى : ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [ هود : 13 ] ، وقوله تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [ فصلت : 6، 7 ] ، وقال : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [ نوح : 14 ] . فدل على أنها كانت ذنوباً قبل إنذاره إياهم . وقال عن هود : ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ﴾ [ هود : 50- 52 ]. ("مجموع الفتاوى"/11/ص679-680).
هذا هو الكلام الموافق للكتاب والسنة، لا كما زعمه المتطاول.
والعقوبة إما شرعية وإما كونية. والتبديع والتحذير من العقوبات الشرعية، فلا تكون إلا بعد قيام الحجة.
الجواب الثامن بتوفيق الله وحده:
أن التبديع أمر عظيم تترتب عليه أشياء كبيرة كالهجر، والتحذير، والإهانة وغير ذلك.
قال الإمام الآجري رحمه الله: ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا وهو كتاب الشريعة أن يهجر جميع أهل الأهواء من الخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية ، وكل من ينسب إلى المعتزلة ، وجميع الروافض ، وجميع النواصب ، وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه مبتدع بدعة ضلالة ، وصح عنه ذلك ، فلا ينبغي أن يكلم ولا يسلم عليه ، ولا يجالس ولا يصلي خلفه ، ولا يزوج ولا يتزوج إليه من عرفه ، ولا يشاركه ولا يعامله ولا يناظره ولا يجادله ، بل يذله بالهوان له ، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك. ("الشريعة"/ باب ذكر هجرة أهل البدع والأهواء /للآجري).
وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمـن الصابوني - رحمه الله - حاكياً مذهب السلف أهل الحديث: واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث" /ص 114/دار المنهاج).
فكيف يُهجر الرجل، ويهان، ويحذَّر منه وهو لم يعرف ما ذنبه؟ هل يقول هذا من يشمّ رائحة الفقه الإسلامي وسموّ حكمته وسعة رحمته؟
بل الصواب الذي عليه السلف الموافق للشريعة: الإنذار قبل العقاب.
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال: لا أو تعلِّمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: المرء بخدنه. ("طبقات الحنابلة"/1 /ص 160/دار المعرفة/سنده صحيح).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فحذِّره واعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى. ("شرح السنة"/له/ص44/دار الآثار).
وسئل فضيلة الشيخ العلامة زيد بن محمد المدخلي رحمه الله: هل يقال عن رجل من عوام المسلمين يحمل شبه الحزبيين أنه حزبي؟
فأجاب حفظه الله بعد حمد الله والصلاة على النبي: من تشبه بقوم فهو منهم، ولكن ينصح أولا، ويبين له الحق لأن الجاهل قد يلبَّس عليه، فيبين له الحق ويرشد إليه. هذه رحمة العلماء. فإذا أصرّ وأبى ودافع عن أهل البدع فحكمه حكمهم لاتفاقهم جميعا على اختيار البدعة وتقديمها على السنة، وهذا من الضلال المبين. ومن وصايا السلف الحذر من مروجي البدعة فإنهم أحطر على الناس من أصحابها ...إلخ. ("العقد المنضد الجديد"/2/ص95/ دار الإتقان).
انظروا إلى الفروق بين موقف أهل السنة والعلم والرحمة، وبين تهور أهل البدعة والجهل والغلظة، فإياكما أن تكونا من الصنف الثاني.
الجواب التاسع بتوفيق الله وحده:
كيف يُبدَّع مَن لم يفهم؟ ألا تفهّمانه قبل أن تنزلا عليه التبديع؟! فأين الفقه الصحيح؟
إنما حصلت العقوبة بالتضليل وغيره عند المعاندة بعد تبين الهدى، فإذا أشكل على شخص أمرٌ وهو يريد الخير ويتحرى الحق، فهو معذور، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى﴾ أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، ...إلخ. ("تفسير القرآن العظيم"/2 /ص412).
وقال فضيلة الشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي رحمه الله: قد يكون المخالف في أمر من أمور العقيدة بسبب تأويل أو سوء فهم، وعنده علوم شرعية يستفاد منها، فلا يصنَّف هذا الصنف مع أهل البدع والضلال الذين قعّدوا قواعدها، وألّفوا في ترويجها، ودعوا الناس إليها؛ وإنما يبين للناس ما أخطأ فيه ليحذروا متابعته عليه، ويعتذر له تقديرا لما يحمل من العلم الشرعي والمؤلفات فيه ، وأمثلة ذلك كثيرة، فقد وقع في شيء من التأويلات في نصوص الصفات وذرائع الشرك بعض فحول العلماء كصاحب "الفتح"، وكالنووي، وكأبي حنيفة، وكابن خزيمة الذي يطلق عليه إمام الأئمة، وكالأمير الصنعاني، والشوكاني، فهؤلاء لهم علوم واسعة، ودفاع عن السنة، إلا أنهم وقعوا –كما أسلفت- في تأويل بعض النصوص على سبيل الخطأ في الفهم، والتأثر بالمشيخة، والبيئة التي عاشوا فيها. ("العقد المنضد الجديد"/2/ص84-85/دار الإتقان).
وقد علم أهل السنة أن مجرد مجيء الدليل لا يكفي في إقامة الحجة، بل لا بد من حصول الفهم عند المنصوح، لأن قدرة الأفهام تختلف، وسوء الفهم يؤثر على المعتقد والفعل.
سئل فضيلة شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله: هل هناك فرق بين قيام الحجة وفهم الحجة؟
فأجاب حفظه الله: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ص تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ*وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهواتِ أَنْ تَمِيلوا مَيْلًا عَظِيمًا*يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:26-28]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم﴾ [النحل: 44]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:4]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]، وثبت من حديث العرباض بن سارية وغيره بمجموع طرقه أن النبي ص قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصب قال: كنا مع النبي ص في سفر فنزلنا منزلا فمنا من هو في جَشَرِهِ، وَمِنَّا من يصلح خباءه ومنا من ينتظر فنادى منادي رسول الله ص، فلما حضرنا قال: «إنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذر أمته شر ما يعلمه لهم، ألا وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، ويصيب آخرها فتن وأمور تنكرونها، وتأتي فتنة، فيقول: المؤمن هذه مهلكتي، فتنكشف وتأتي الأخرى، ويقول: هَذِهِ هَذِه...» ، وذكر الحديث إلى آخره، وشاهدنا من هذه الأدلة أنه لا بد من فهم الحجة، لا بد من فهم الحجة على من أراد تبليغها أن يفهمها ولهذا؛ فإن الله عز وجل يرسل الرسل من قومهم وبلسانهم، ونوح عليه السلام يذكر صفة دعوته لقومه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارا﴾ [نوح:5-7]، إلى آخر سورة نوح بما فيها من البيان في الليل والنهار، والسر والجهر؛ لإقامة الحجة، وإيصال الحجة، قال تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]، فمن هذه الأدلة كما سمعتم يتبين أن إقامة الحجة تكون بفهمها وأنه إن أتى أعجمي إلى عربي لا يفهم كلامه، يبربر بكلام ما يدري ما يقول، ما يكون قد أقام عليه الحجة؛ لأن المبلَّغ ما تبينت له الحجة، والله يقول: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]، فحاصل ذلك أن قيام الحجة يحصل بفهمها. أما بغير فهمها لا يحصل قيام الحجة على من أقيمت عليه؛ فالحجة كتاب الله وسنة رسوله ص، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهو ا﴾ [الحشر:7]، وقال: ﴿المص. كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:1-2]، وقال: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم:1].
("مكتبة الشيخ يحي الحجوري"/5/ص97-99).
الجواب العاشر بتوفيق الله وحده:
ليس سبيل الضلال الجهال مثل سبيل الراسخين في العلم. فالضلال الجهال متسرعون في تبديع النووي وأمثاله وترك كتبهم، فإياكما أن تكونا من هذا الصنف.
وقد سئل شيخنا العلامة يحيى الحجوري حفظه الله: أناس إذا قلنا لهم: عودوا إلى كتب أهل السنة مثل "فتح الباري شرح صحيح البخاري "يقولون: إنه مليان بالبدع، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب حفظه الله: هؤلاء ضلال جهال ، فكتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" من كتب السنة المهمة التي لا يستغني عنها طالب علم ولا عالم . وقد شاعت فتوى لبعض الغلاة وهو المسمى محمود الحداد بأن "فتح الباري" ينبغي إحراقه، فلما بلغ هذا القول شيخنا العلامة الوادعي رحمه الله قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: »لا يعذب بالنار إلا رب النار« لقلنا: إن محمود الحداد أحق بالإحراق من فتح الباري اهـ
وأما ما وقع من أخطاء الحافظ بان حجر وأمثاله رحمهم الله في تأويل بعض الصفات أو الاسترسال في التبرك بآثار الصالحين؛ فهذا الخطأ يجتنب ويبين ويحذر منه الناس مع الاستفادة من تلك الكتب النافعة المليئة بالعلم والسنة.
(انتهى من "أسئلة من أهل مريس بالضالع"، بتاريخ: الإثنين 18 رمضان 1422هـ.. دماج - دار الحديث).
وأما الراسخون في العلم بعُد نظرهم، واستقام منهجهم، وأقسط ميزانهم. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]. فالعلماء هم القادرون على استقراء الأدلة وتتبع النصوص والاستنباط كما ينبغي، ووضع الشيء موضعه.
قال علماء اللجنة الدائمة تحت رياسة الإمام ابن باز رحمه الله: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها - أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك. ("فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"/3/ص403).
وسئل فضيلة الشيخ العلامة زيد بن محمد المدخلي رحمه الله: ما هو الحد الذي إذا تجاوزه الهالم صار من أهل البدع، وإن كان أقلّ منه فهو لا يزال سنياً؟
فأجاب رحمه الله بعد مقدمة: الأصل في العلماء أنهم أهل سنة عالمين بها، وعاملين بها، وداعين إليها. فمن خرج من السنة إلى البدعة فلا تخلو بدعته إما أن تكون مكفرة أو مفسقة. فإن كانت مكفرة كالقبورية، والغلو في الصالحين كالاستغاثة بهم، أو دعوى أنهم يعلمون الغيب ونحو ذلك، فقد أردته بدعته ولم ينتفع بشيء من علمه إن كان لديه علم قبل انغماسه في البدعة.
وإن كانت البدعة مفسقة، أي: لم تخرج صاحبها من دائرة الإسلام فلا يخلو صاحب هذه البدعة من حالين:
الحالة الأولي: أن يكون من مروجي البدع والدعاة إليها في وسائل النشر كالتأليف ونحوه، ولم يقبل نصيحة الناصحين، فقد تجاوز الحد عمدا وجهرة، فلا عذر له، ولا تثريب على من أطلق عليه أنه مبتدع وحذر الناس من شره.
الحالة الثانية: أن يقع في البدعة من طريق التأويل بحسب اجتهاده فيما لم يتبين له الخطأ ، أو كان جاهلا، فقلد أهل البدع، فهذا لا يعتبر متجاوزا للحد كالأول؛ لا سيما إذا بين له الصواب ليعتصم به، والخطأ ليبتعد عنه فقبل ذلك.
("العقد المنضد الجديد"/2/ص85-86/دار الإتقان).
ولما سئل رحمه الله: هل يجوز تسمية أهل البدع بأئمة؟
أجاب فضيلته رحمه الله ببيان أنه لا يجوز، ثم قال: لعل سائلا يسأل فيقول: لماذا أطلق العلماء على أبي حنيفة، وابن حجر، والنووي، والقرطبي، والشوكاني ونحوهم أنهم أئمة؟ فيقال له: إن هؤلاء أئمة علم في علوم القرآن ، وعلوم السنة، وعلوم الفقه، وقد حصل منهم موافقة لأهل التأويل المذموم في بعض نصوص الصفات بسبب أخذهم للعلم عمن ابتلوا بتأويل نصوص الصفات أو تتلمذوا على كتبهم. فلذا فلا يجوز أن يصنَّفوا مع أهل الأهواء والبدع الذين قعّدوا قواعدها ونشروا فافتتن بها من افتتن ممن قلّ نصيبهم من العلم. انتهى المراد.
("العقد المنضد الجديد"/2/ص87/دار الإتقان).
وقد سئل فضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله: بعض الناس يبدّع بعض الأئمة كابن حجر، والنووي، وابن حزم، والشوكاني، والبيهقي، فهل قولهم هذا صحيح ؟
فأجاب حفظه الله: لهؤلاء الأئمة من الفضائل، والعلم الغزيز، والإفادة للناس، والاجتهاد في حفظ السنّة ونشرها، والمؤلفات العظيمة؛ ما يغطي ما عندهم من أخطاء، رحمهم الله - تعالى - . وهذه الأمور ننصح طالب العلم أن لا يشتغل بها، لأنه يُحرم العلم والذي يتتبع هذه الأمور على الأئمة سيُحرم من طلب العلم، فيصير مشغولاً بالفتنة، ومحبة النزاع بين الناس، نوصي الجميع بطلب العلم والحرص على ذلك، والاشتغال به عن الأمور التي لا فائدة منها . والنووي، وابن حزم، وابن حجر، والشوكاني، والبيهقي؛ هؤلاء أئمة كبار، محل ثقة عند أهل العلم، ولهم من المؤلفات العظيمة، والمراجع الإسلامية- التي يرجع إليها المسلمون - ما يغطي أخطاءهم وزلاتهم، رحمهم الله - تعالى - .
(انتهى من "كتب المناهج والفرق"/للفوزان /1/ص129-130).
انظرا وفقكما الله فرقاً عظيما بين نظر العلماء الراسخين في العلم وتوجيهاتهم الصائبة المحلاة بالحجج، وبين مجازفات الضالّين الجهال، فتوبا إلى الله وارجعا إلى رشدكما.
الجواب الحادي عشر بتوفيق الله وحده:
إذا علمنا فرقاً عظيماً بين نظر العلماء وموفقهم، وبين تصرفات الضلال الجهال؛ فتسليط الجهال الضلال على تكفير العلماء أو تبديعهم أو تضليلهم فهو من أعظم الضرر على الأمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين . وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم. ("مجموع الفتاوى"/35/ص 100).
وقد مرّ بنا أن الشروط والموانع في التكفير والتبديع سواء: الجهل، والإكراه، والخطأ، والنسيان، والتأويل السائغ.
أتقولان إن من لم يفهم الأدلة ومقتضاها يبدَّع؟ أو تقولان إن المتعالم الجاهل قادر على إقامة الحجة ويعرف متى يُعذَر له، ومتى قد استوفيت فيه الشروط مع انتفاء عنه الموانع؟ لا يقول هذا عاقل فضلا عن عالم. فلا ينبغي لكما أن تتهورا وتتعالما وتتشبعا بما لم تُعطيا فتتطاولا على أئمة الإسلام بالتبديع خلافاً فتخالفا سبيل المؤمنين.
وأما الراسخون في العلم ورثة الأنبياء يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العذر بالجهل والخطأ والنسيان.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح». (أخرجه مسلم (2747)).
ولم يحكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى فعله، لأن المانع قائم، وهو: الخطأ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا الحديث: لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يُرِده. والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته. ("إعلام الموقعين" /3/ص63).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك فغفر له». (أخرجه البخاري (3481) ومسلم (2756)).
ولم يحكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى صنيعه، وبل ولا عقيدته، لأن المانع قائم، وهو: الجهل، أو السهو من شدة الاندهاش، أو غير ذلك.
وسيأتي إن شاء الله كلام جميل من شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الحديث.
وهذه الأدلة وأمثالها هي من أعظم حجة أئمة أهل السنة والجماعة في عذر من زلّت قدمه في الأمور الدينية حتى في المسائل العقدية، لمانع من الموانع، ولو كره الحداديون وأنصارهم.
الجواب الثاني عشر:
كأنكما متظاهران بتضلع أقوال شيخ الإسلام رحمه الله، فقال أحدكما مع إقرار صاحبه: (ومن تشبع من علوم شيخ اﻹسلام وفهومه وجمع أقواله بعضها إلى بعض...)، وما أنتما إلا متشبعان بما لم تُعطيا. فكلاكما لم تفرقا بين الكلام العام وبين تطبيقه على الأعيان، فتخبطا.
فكم من قاعدة عامة لم تنطبق على أعيان لعدم استيفاء الشروط أو لقيام مانع من الموانع؟ فليس كل من وقع في كفرٍ كافراً، ولا بدعةٍ مبتدعاً، ولا فسقٍ فاسقاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الأطلاق والتعيين . وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة [ الوعيد ] ، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية [ النساء : 10 ] ، وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة . وهي بمنزلة قول من قال من السلف : من قال كذا، فهو كذا . ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة .
والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة . وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا .
وكنت دائمًا إذكر الحديث الذي في "الصحيحين" في: «الرجل الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني . ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله له : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك فغفر له ».
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد . وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك .
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/3/ص230-231).
فليس كل من وقع في الوعيد ينطبق عليه هذا الوعيد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لم يلزم دخول المجتهد تحت حكم هذا التحريم -من الذم والعقاب وغير ذلك- لم يلزم دخوله تحت حكمه من الوعيد؛ إذ ليس الوعيد إلا نوعا من الذم والعقاب. ("رفع الملام عن الأئمة الأعلام"/ص 63).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: أما كونه عند المستمع معلومًا، أو مظنونًا، أو مجهولاً، أو قطعيًا، أو ظنيًا، أو يجب قبوله، أو يحرم، أو يكفر جاحده، أو لا يكفر، فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال . فإذا رأيت إمامًا قد غلظ على قائل مقالته، أو كَفَّره فيها، فلا يعتبر هذا حكمًا عامًا في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه، والتكفير له، فإن من جحد شيئًا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئًا ببلد جهل، لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية .
وكذلك العكس، إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم، فتدبره فإنه نافع .
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/6/ص60-61)
وقال رحمه الله: ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له . وكذلك [ التكفير المطلق ] ، و [ الوعيد المطلق ] . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته. ("مجموع الفتاوى"/10/ص329-330)
وقال رحمه الله: ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقا روايتين حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان أصحهما لا يكفر وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقا وهو خطأ محض والجهمية عند كثير من السلف مثل عبدالله بن المبارك ويوسف ابن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام احمد وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة بل أصول هذه عند هؤلاء هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذا المأثور عن أحمد وهو المأثور عم عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر)، ونحو ذلك.
ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين أحدهما أنه كفر ينقل عن الملة. قال: وهو قول الأكثرين و الثاني: أنه كفر لا ينقل. ولذلك قال الخطابي: أن هذا قالوه على سبيل التغليظ. وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث كأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم وامتنع بعضهم من القول بالتخليد.
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فيتعارض عندهم الدليلان.
وحقيقة الأمر: أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في الفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: (من قال كذا فهو كافر) اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.
يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/12/ص486-488).
ألا فلتتشبعا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم سلف الأمة وأئمة السلفيين، ثم لتتشبعا بهذه الأقوال من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن كنتما من الصادقين.
إن أبيتما إلا المضي في الغيّ فذلك فتنة عظيمة على أنفسكما قبل غيركما.
قال فضيلة الشيخ محمد بن أمان الجامي رحمه الله: فمن الفتن التي ابتليَ بها بعض الشباب التسرع في التكفير والتبديع والتضليل والخوض في أعراض الناس وكأنهم يرون إنما تحرم الغيبة والنميمة والطعن والسخرية فيمن يَنْتَمِي إلى الاتجاه الذي هم فيه ومن خالف هذا الاتجاه استباحوا تكفيره وما دون التكفير من باب أولى. هذه فتنة يجب أن يعالجها العلماء والعلاج التعليم. وكل هذا من الجهل ومن التأثر ببعض الأفكار الواردة من خارج هذا البلد. ("مكتبة محمد أمان الجامي"/53/ص13).
وسئل رحمه الله: إن بعض الشباب السلفيين كلما ذُكِرَ عندهم الحافظ ابن حجر يقولون إنه أشعريٌ فيريد توضيح عقيدة هذا الإمام ... (السائل) توضيحا شافيا ـ كما قال ـ وغيره من الأئمة الذين قد زلوا في بعض العقائد، فيطلب السائل إزالة الغبش على حد تعبيره من هذه المسألة؟؟؟
فأجاب رحمه الله: الحافظ ابن حجر والإمام النووي والذهبي والبيهقي أحياناً والإمام الشوكاني وغير ذلك من الأئمة الذين خدموا الكتاب والسنة وقعوا في بعض التأويلات، في بعض تأويلات نصوص الصفات، في أمثال هؤلاء يقول شيخ الإسلام: فإذا كان الله يقبل عذر من يجهل تحريم الخمر وربما وجوب الصلاة لكونه عاش بعيداً عن العلم وأهله فهو لم يطلب العلم ولم يطلب الهدى ولم يجتهد، فكون الله يعفو ويسمح فيقبل عذر من اجتهد ليعلم الخير وليعلم الهدى وبذل كل جهوده في ذلك ولكنه لم يدرك كل الإدراك فوقع في أخطاءٍ إما في باب الأسماء والصفات أو في باب العبادة أخطئ أخطاءً بعد أن اجتهد ليعرف الحق، يقول شيخ الإسلام: أمثال هؤلاء أحق بالعفو والرحمة والسماح أو كما قال رحمه الله، وشيخ الإسلام كان يناقش علماء الجهمية جهابذة علماء الجهمية فيقول لهم: لو قلت أنا ما قلتموه أنتم أي لو كنت أنا مكانكم لأكون كافرا ولكنكم معذورون لأنكم جُهَّال، يرى شيخ الإسلام أن الإنسان يُعذر بجهله وخصوصا إذا بذل مجهوده ليعرف الحق ولا فرق عنده وعند غيره من المحققين بأن الجهل في الفروع والأصول قد يصوغ في هذا أدلةً منها قصة الإسرائيلي النباش الذي لمَّا دنى أجله أوصى إلى أولاده إذا مات يحرقوه فيسحقوه فيرموه في اليم ويضعوا جزءً منه من الذر في البرد والجزء الآخر في البحر ويتفرق وفي زعمه إذا فعل ذلك سوف يفوت على الله،قال لأن قَدِرَ الله عليَّ ليعذبني عذابا لم يعذب أحداً قبلي أو كما قال. يقول الإمام بن تيميه إنه جهل عموم قدرة الله تعالى. وفُعِلَ به ذلك فبعثه الله فأوقفه بين يديه فسأله ما الذي حملك على، هذا قال خشيتك يا رب، الخوف من الله، بمعنى إنه مؤمنٌ ويخاف الله مع ذلك جهل عموم قدرة الله تعالى وأن الله قادر على أن يجمع تلك الذرَّات فيبعثها، هذا جهلٌ في أصول الدين.
وكثير من أئمة الدعوة والمحققون يَرَوْنَ ذلك حَتَّى نَقَلَ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب عن والده أنه كان يقول: أولئك الذين يطوفون بضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني وأمثاله لا بد من تنبيههم أولا قبل الحكم عليهم بالكفر.
ولو تتبعنا أقوال المحققين الفقهاء أدركنا بأن العذر بالجهل عامٌ في الأصول والفروع. وهؤلاء الأئمة وإن لم يكونوا جُهَّالاً لكنهم فاتتهم مسائل كثيرة، الإمام الشوكاني كان شيعيا لأنه زيدي والزيدية من الشيعة، ومن أقرب طوائف الشيعة إلى الحق، ترك الزيدية ورحل وقاطع جميع المذاهب تقليدا، كان مجتهدا غير مقلد وسعى ليلحق بركب السلف في تفسيره وفي "نيل الأوطار" وفي غيرهما مما كتب ولكن فاته الشيء الكثير إلى أن تصور الإمام رحمه الله أن التفويض هو منهج السلف، وهذا خطأ، التفويض ... تفويض معاني النصوص ليس هو منهج السلف، منهج السلف معرفة معاني النصوص كلها من السمع والبصر والاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك، وتفويض الحقيقة إلى الله، التفويض تفويضان: تفويض المعاني وهذا خطأ وهو الذي وقع به الإمام الشوكاني عفا الله عنه، وتفويض الحقيقة والكيفية والكنه وهذا الذي عناه الإمام مالك حيث قال: ((الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)).
وبالاختصار: هؤلاء معذورون فيما وقع منهم من الأخطاء في التأويل. و إطلاق اللسان عليهم بكل جرأة إنهم مبتدعة وأن من لم يبدعهم فهو مبتدع، هذه جرأة جديدة من بعض الشباب الذين أصيبوا بنكسة الحداد، فنسأل الله تعالى أن يهدي قلوبهم ويردهم إلى الصواب وهم اخطئوا كثيرا وابتعدوا كثيرا عن الجادة، فصاروا يبدعون الأحياء والأموات على حدٍ سواء، العلماء كبار علمائنا الذين يحضرهم مجالسهم طلاب العلم وغيرهم، طلاب العلم وغيرهم، السلفيون والخلفيون على حدٍ سواء الذين يستفيدون من مجالسهم، مجالسهم مجالس العلم والمذاكرة يُبَدِّعُونَهُمْ بدعوة أنهم يجالسون المبتدعة، وهذا الخطأ فشى للأسف بين الشباب في الآونة الأخيرة وخير ما نقوله: - اللهم اهدي قلوبهم -.
(انتهى من "مكتبة محمد أمان الجامي"/45/ص2-4).
إن شاء الله أواصل الكلام في وقت آخر، بالله التوفيق. والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 10 شوال 1435 من الهجرة.