إبطال مزاعم أبي الحسن
حول المجمل والمفصل
كتبه
الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإن الرد على أهل الأخطاء وأهل البدع والذب عن السنة أمر محمود ومشروع في شرعة الإسلام ومن هنا قام أئمة الإسلام بنقد أهل الأخطاء وأهل الأهواء ونقد الرواة وامتلأت كتب الإسلام بذلك وألفت كتب في الجرح والتعديل العام وكتب خاصة بالثقات وكتب خاصة بالجرح قياماً منهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصحاً للمسلمين وحفاظاً على دين الإسلام، فشكر الله لهؤلاء الأئمة ومن تبعهم جهودهم وأثابهم أحسن المثوبة.
وقد ضاق أناس من صوفية وغيرهم ذرعاً بهذا المنهج العظيم في السابق واللاحق وقذفوا بشبهات متعددة، قد تروج على كثير من الناس.
منها- التظاهر بالزهد والورع وليسوا كذلك.
ومنها- أن هذا المنهج يفرق المسلمين وهم المفرقون.
ومنها- التظاهر بالعدل والإنصاف أو ما يسمى بمنهج الموازنات.
ومنها-الدعوة إلى حمل المجمل على المفصل والمطلق على المقيد والعام على الخاص وأشهر من نادى بالأخير عبد الله عزام للدفاع عن سيد قطب.
ولقد تعلق أبو الحسن مصطفى إسماعيل المصري المأربي بحمل المجمل على المفصل في الدفاع عن سيد قطب وغيره وبالغ فيه وادعى أنه من منهج السلف الصالح وتعلق بشبهـات ومتشابـهات مـن كلام العلمـاء والحق أنّ تعلقه بهذا المجمل والمفصل لا يعرفـه الأصوليون.
وسأعرض للقراء الكرام:
أولاً- تعريف أبي الحسن للمجمل والمفصل.
ثانياً- تطبيقه للمجمل والمفصل.
ثالثاً- على من يطبقه.
رابعاً- سأذكر للقراء ما هو المجمل والمبين والنص والظاهر عند الأصوليين وسائر العلماء.
خامساً- بيان دلالات سياقات الكلام وأنها تعين المجمل وبيان عدم التفات أبي الحسن لهذه الأمور الأصولية العظيمة.
أولاً: تعريف أبي الحسن للمجمل والمفصل.
قال في بداية الشريط الثالث من القول الأمين الوجه الأول:
" عقيدة النيرفانا لها صلة بعقيدة الحلول والاتحاد على كل حال-أيضاً- عندما أوقفني بعض الإخوة على كلامه الأول في الظلال في (1/106) وهو صريح في نفي القول بوحدة الوجود, وظاهر كلامه أنه يكفر من قال بوحدة الوجود, فكنت عندما أسمع أحادية الفاعلية أحادية الوجود, أحادية كذا أقول هذا الكلام المجمل يحمل على ذلك المفصل لأن هذا كلام مجمل ليس بصريح( )، فهذا كلامه ص 106 /جـ 1"
وقال أبو الحسن في شريط رقم (1) من أشرطة أبي الحسن المسماة بالقول الأمين:
((يقول هنا الإمام ابن القيم:
"والكلمة الواحدة يقولها اثنان أي يقولها شخصان أو رجلان يريد أحدهما بها أو يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق يعني كلمة واحدة تخرج من شخصين أحدهما مبطل بها والثاني محق بها.
يقول الإمام ابن القيم: "والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه".
يعني كيف نحملها على المعنى الحق أو نحملها على المعنى الباطل؟
نرجع إلى سيرة هذا القائل وإلى طريقته ومنهجه الذي عرف به فنحمل على الحق إن كان سنياً، ونحمل على الباطل إن كان مبتدعاً))( ).
ثم قال أبو الحسن: ((الشاهد من هذا إن شاء الله أن نعرف أن الكلام المجمل من الشخص السلفي أو من الداعية السلفي أو من طالب العلم أو من المناصر للدعوة السلفية بعلم وبصيرة هذا يحمل على المجمل الحسن))( ).
وقال في شريط رقم (4) القول الأمين _ لأبي الحسن جهة (أ):
((هناك من يقول إن هذه القاعدة ( ) لخدمة أهل البدع أبداً أنا أخالف في هذا( )، حمل المجمل على المفصل سواءً من السني أو المبتدع؛ السني مفصله الخير والحسن، والبدعي مفصله القبيح والشر، مجمل السني الكلمة التي تحتمل خيراً وشراً تحمل على الخير، ومجمل البدعي تحمل على الشر لأن صريحه في هذا الموضع شر( )، فأي خدمة لأهل البدع في هذا. حتى يقال إن هذه القاعدة تنافي جهاد الأئمة في الرد على أهل البدع لا منافاة أبداً.
فالمبتدعة إن قالوا كلاماً مجملاً يحتمل خيراً ويحتمل شراً ولهم موضع آخر قد فصلّوا وصرّحوا بالشر فنحن نحمل مجملهم على مفصلهم القبيح بخلاف أهل السنة أهل السنة نحملهم على المجمل الحسن وننظر في قصدهم فإن الأمور ترجع للمقاصد( ))).
ولم أقف لأبي الحسن على تعريف للمجمل والمفصل غير هذا الذي نقله عن ابن القيم، وهذا ليس بتعريف كما ترى، ولعله يريد حسن الظن ببعض الكبار ممن شهروا بالسير على منهج السلف ودعوا إلى ذلك وناظروا عليه( ) ولا يريد بذلك وضع قاعدة مطردة في كل من هب ودب من المنتسبين إلى السنة فان كانت قاعدة كما يزعم أبو الحسن فأين دليلها من كتاب الله وسنة رسوله فهذا الإمام أحمد إمام السنة يقول في من وقف في القرآن إنّه مبتدع ضال، وفيهم أناس من كبار المنتسبين إلى السنة والحديث مثل يعقوب بن شيبة.
وقال إسماعيل ابن علية وهو من كبار أهل السنة والحديث كلمة فهم منها أنه يقول بخلق القرآن فضلله بعض الأئمة، وشن عليه الغارة كل أهل الحديث أو جلهم حتى رجع عن قوله ولو لم يرجع لأسقطوه.
ولو أراد ابن القيم –رحمه الله- تعريف المجمل لنقل لنا كلام الأصوليين لأنّه يعد من أعلم الناس به، وإذا كان الأمر كذلك فيظل كلام أبي الحسن بالمجمل والمفصل بمجمل لا يعرفه الناس وبمفصل لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة ولا عمل السلف الصالح بل الكتاب والسنة على خلافه في أقوال الناس وأعمالهم.
وأقول إيراداً على أبي الحسن: إذا صدرت كلمة مجملة تتضمن سباً لله أو لرسوله أو كتابه أو لأحد الأنبياء أو الصحابة من سني ومبتدع فهل تحمل من السني على الحق ومن المبتدع على الباطل.
وإذا صدر من رجلين سني ومبتدع أو سني ومنافق أو كافر كلمة تتضمن قذفاً فهل تحمل من السني على الحسن والحق، وعلى غيره على القبح والباطل وإذا صدرت أي كلمة تتضمن الردة من رجلين سني ومبتدع فهل تكون ردة من المبتدع وحقاً وحسناً من السني.
ثانياً: تطبيق أبي الحسن للمجمل والمفصل.
أ- على سيد قطب المعروف بالضلالات الكبرى.
قال في بداية الشريط الثالث من القول الأمين الوجه الأول:
" عقيدة النيرفانا لها صلة بعقيدة الحلول والاتحاد على كل حال-أيضاً- عندما أوقفني بعض الإخوة على كلامه الأول في الظلال في (1/106) وهو صريح في نفي القول بوحدة الوجود, وظاهر كلامه أنه يكفر من قال بوحدة الوجود, فكنت عندما أسمع أحاديث الفاعلية أحاديث الوجود, أحاديث كذا أقول هذا الكلام المجمل يحمل على ذلك المفصل لأن هذا كلام مجمل ليس بصريح( )، فهذا كلامه ص 106 /جـ 1"
وقال في محاضرة ألقاها في مسجد شيخان في عدن وقد سئل عن سيد قطب:
" الشيخ سيد قطب رحمه الله رجل من المسلمين، هداه الله سبحانه وتعالى على كبر سنه إلى الهدى( ) فاتجه إلى الله عز وجل بحسب ما يرى.
له أقوال خالف فيها أهل السنة والجماعة، وله أقوال وافق فيها الحق ؛ لكنه ليس بعالم حديث ولا عالم فقه ولا عالم بالتفسير وإن كان قد كتب في ظلال القرآن،فإن الرجل رحمه الله أديب لغوي.
قواعد التفسير عند أهل العلم التي هي مأخوذة بالأثر والأسانيد ما اشتغل بها، ولا يكلف الرجل أن يشتغل بكل شيء، وإنما يكلف من عمل في عمل أن يدخل البيت من بابه ؛ وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها مـا هـو خطـأ( ).
من المسائل التي لا أراها صواباً فيه أو عليه في الانتقاد:
1- القول بأنه يرى الحلول أو الإتحاد، أي بأنه يرى أن كل شيء الله فيه، كقول أهل الحلول و الإتحاد الذين يقولون أن الله حل في كل شيء ! الرجل حاشاه من ذلك نعم، له كلمات الناظر فيها يفهمها بذلك، ومعذور من لم يفهم واقع مصر وواقع هذه الكلمات عند أهلها في هذا الفهم.
أهل مصر عندهم يقولون كل شيء هو الله ما يعنون بذلك أن الله دخل في العمود هذا ؛ والأرض هذه ؛ والشجرة هذه ؛ والمروحة هذه لا ! يعنون أن كل شيء ملك لله وكل شيء خلق لله، ما يفهمون من ذلك خلق القرآن و لا الأشياء الأخرى التي عندنا( ).
الرجل كما قلت لكم لم يتجه للعلم من أبوابه ولم تترك له الحكومة آنذاك فرصة( ) لذلك! فله كلمات كل شيء هو الله، فيفهم الناظر فيها أنه يقول بالحلول و الإتحاد.
أكبر دليل على عكس ذلك أنه وقف في وجه عبد الناصر ! ولو كان يعتقد أن الله حلَّ في كل شيء - ومن جملة هؤلاء عبد الناصر حلَّ الله - فيه فلماذا يحاربه( )؟ لماذا يحذر منه؟.
فأقول ما ينبغي أن نزيد عليه( )، ولا ينبغي أن نقول اجتهاداته كاجتهادات ابن حجر والنووي، فرق يا إخوان عظيم بين عالمين في العقيدة، في الفقه، في الأصول، في الحديث، في أبواب العلم كلها وبين رجل ليس كذلك.
حسبنا أن نقول هو رجل قصد الحق فزلت قدمه في مسائل، يجب أن تعرف هذه المسائل وتُبيَّن لشباب الأمة من أجل ألا يغتروا بها، كما أنه يجب ألا يغالى( ) في الحكم له أو عليه.
هذه دعوتنا التي ندعو الناس إليها أن الغلو(2) مرفوض في دعوتنا
أن الغلو أضر في دعوتنا من التفريط.
المرجئة مفرطة والخوارج عندهم إفراط وغلو، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الخوارج أقوالاً كثيرة، ووصفهم بأنهم كلاب أهل النار ولم يقل ذلك في المرجئة.
الخوارج أهل عبادة أهل صلاة أهل صيام، لكنهم أهل غلو ! حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام تحذيراً شديداً أشد مما حذر في المرجئة مما يدلكم على أن الإفراط أشد من التفريط( )، فيجب الاعتدال( ) لا نرفعه فوق قدره ولا نجعله من الكافرين.
استقم كما أمرت والتزم بالهدى والصواب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه وأن يغفر له زلته( ) ".
فهذا اعتراف منه أنه كان في سابق أمره يحمل المجمل على المفصل في حق أهل البدع وغيرهم.
وقد صرح هو بضلال سيد قطب في مواضع من كلامه.
ثم أصبح له مذهب آخر في حمل المجمل على المفصل، فهو بالنسبة لأهل السنة يحمل كلامهم المجمل على الحق ويحمل كلام المبتدع على المعنى الباطل، فصار له مذهبان في المجمل والمفصل الذي اخترعه ولا يعرفه الأصوليون وغيرهم من أهل العلم بالشريعة الإسلامية.
ترى كم خاصم أهل السنة في سيد قطب وخالفهم ورماهم بالخطأ في أحكامهم على سيد قطب بقوله:
((وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ)) ويرمي من أدان سيد قطب بالقول بالحلول ووحدة الوجود بالغلو وينـزل عليهم أحاديث الخوارج الغلاة.
فعلى أي أساس يخطؤهم ويرميهم بالغلو والخطأ في اعتراضاتهم ويعتذر لسيد قطب بالجهل.
وأخيراً يقول: ((وإلا فأنا أصلاً لا أقرأ كلامه ولا أشتغل بشيء من ذلك)).قال هذا في بداية الشريط رقم (3) من القول الأمين في عام 1423هـ.
فكيف تخطيء العلماء الذين عرفوا ضلاله وحكموا عليه بما يستحق، وأنت لم تقرأ له أصلاً ولا تشتغل بشيء من ذلك وترميهم بالغلو وتحمل مجمله على مفصله.
وقبلها يدعي فيقول في شريط جلسة مأرب في عام 1423هـ، رقم (1) وجه (ب): ((سيد قطب أنا تكلمت عليه في مجالس كثيرة وكثيرة جداً وأنا من جملة الذين يحذرون من كتبه( ) وأنا الذي تصديت للأهدل( ) عندما قال: إن تفسير سيد قطب أفضل من تفسير ابن كثير وأنك إن حفظت تفسير ابن كثير فلا تزيد إلا نسخه في السوق ولا تفهم معنى لا إله إلا الله إلى غير ذلك.
وتكلمت حتى أشرت إلى شيء من ذلك في كتابي السراج الوهاج ومعتقدي من ذلك الوقت إلى الآن أن سيد قطب رحمه الله رجل ضل السبيل وهو يظن أنه يحسن صنعاً إلى أن يقول: فضل السبيل وظن أنه على الهدى فوقع في أخطاء كثيرة، من ذلك ما شحن كتابه فيه من تكفير للمجتمعات أو الحكم بجاهلية المجتمعات وهذه لا تعني عند اتباعه إلا الكفر( ).
قارن بين هذين القولين وانظر هل تستطيع التوفيق بينهما بحمل المجمل على المفصل أو أنك ستعجز وستعلم أن كل إناء بما فيه ينضح ولقد طال جداله في جلسة مأرب في موضوع سيد قطب مع تمحل في التأويل وتحدّ مُهيل.
فمما قاله: " بقى أمر أيضاً يتصل بالكلام حول سيد قطب وهي مسألة سأسحبها معي في كثير من القضايا.
لو أني خالفت جزماً ويقيناً في فهمي عن كتب سيد قطب ومقالاته وأموره ورأيت أنه مصيب ليس بمخطيء ومدحته كما مدحه الشيخ ابن باز مثلاً( ) فهل أكون بهذا أقرر قاعدة الموازنات وأنا أقعّد قاعدة الموازنات عملياً؟ وادعى أن الألباني مدحه.
ونقول: لا تستطيع تثبت أن الشيخين قد مدحاه ولقد استطاع خصومك وغيرهم أن يثبتوا أنهما طعنا فيه.
وأما لو خالفت جزماً ويقيناً وادعيت أن سيد قطب مصيب في كتبه ومقالاته وأموره وليس بمخطيء فيقال: لك هذا التحدي لا يصدر من عاقل فضلاً عمن يدعي السلفية.
ولو قلت جازماً بما ذكر لتجاوزت منهج الموازنات والمجمل والمفصل واستخففت بالإسلام وأهله ولن يتقاعس العلماء من إصدار الأحكام التي تستحقها لأن معنى هذا القول: أن الحلول ووحدة الوجود حق، وتعطيل صفات الله حق، والطعن في أصحاب محمد حق، والقول بخلق القرآن وأزلية الروح إلى ضلالات أخرى تصير كلها حق على ما تهدد به.
ووالله إنك لحري أن تؤدب على هذا الأسلوب المزعج، وهكذا ترى هذا الرجل يصل إلى هذه الدرجة في دفاعه عن أهل الباطل وفي تأصيله الفاسد وتطبيقه الكاسد للمجمل والمفصل المخترع الذي لا يخطر على بال أئمة الأصول تأصيلاً ولا تطبيقاً.
ب- على الصحابي الجليل حسان –رضي الله عنه-.
قال أبو الحسن في لقاء مأرب شعبان (1422) الشريط الثاني
" قاعدة إن الكلام المجمل يحمل على المفسر هذه القاعدة صحيحة أم لا؟ ثم قال أنا أجيب بعدة أمور في هذا الأمر منها ما هو في زمن الصحابة ومنها ما بعد زمن الصحابة من العلماء والأئمة أما عن زمن الصحابة فقد تكلم حسان بن ثابت في عائشة أم المؤمنين كما تكلم أهل الإفك فرماه الناس بالنفاق( ) كما جرى من الذين وقعوا في ذلك فكانت عائشة تدافع عنه وتقول: لا أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فاستدلت ببيت الشعر وهو في موضع آخر من كلامه وهو في موضع النـزاع فإن فيه دفاعاً عن عرض رسول الله فاستدلت بأنه بريء من النفاق بهذا البيت مع انه بلسانه قـال مقالـة المنافقين ووقع في عرض عائشة واتهمها كما أتهمها غيره عبد الله بن أبي سلول وغيره ولكن شفع له موضع آخر من كلامه، فحمل الموضع الأول على ذلك الموضع هذا وهو ليس في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
أقول: إنّ هذا الكلام يؤكد أن أبا الحسن لا يعرف المجمل والمفصل عند الأصوليين بل سمع هذا من خصوم أهل السنة فذهب يركض به هنا وهناك بدون تثبت وتروٍ أو أنه يتعمد مثل هذه المغالطات.
فهل هناك عاقل في الدنيا يقول: إن قذف حسان لأم المؤمنين يتضمن الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أحد محتملات لفظ القذف.
إن من شروط التأويل عند الأصوليين " احتمال اللفظ لما حمله عليه المؤول فهل الأمر كذلك؟ وهل يدعيه عاقل فضلاً عن الأصوليين وسائر العلماء.
لقد ناقشت كلام أبي الحسن هذا في ((تنبيه أبي الحسن إلى القول بالتي هي أحسن))( ) وبينت له بطلان قوله بحمل المجمل على المفصل في قضية حسان رضي الله عنه وأرضاه الذاب فعلاً عن عرض رسول الله وبينت له أن القرآن شدد وتوعد في هذه القضية ولم يحمل المجمل المزعوم على المفصل الموهوم كما أقول الآن ولم يحمل رسول الله في هذه القضية المجمل على المفصل كما أقول الآن ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بذلك بل غضب هو وأصحابه وحزنوا وتألموا الآلام الشديدة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد القاذفين فأين حمل المجمل على المفصل أيها العقلاء، ولولا تفضل الله ورحمته لمن شارك في هذه القضية لهلكوا قال تعالى: لولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم فلم يستفد أبو الحسن من بياني له في التنبيه وذهب يعاند ويرد على من قالوا إنه لا يؤول إلا كلام المعصوم ولم يذكر أن من أدلتهم وجوب الأخذ بالظاهر الذي هو أصل أصيل في الإسلام، ورد على الشوكاني دعوى الإجماع الذي من أدلته الأخذ بالظاهر ولعله بالاستقراء.
لقد صال أبو الحسن بهذا الأصل: (الظاهر) على الصحابي الجليل أسامة بن زيد و صال به على السلفيين الذابين عن السنة والمنهج السلفي ونسيه من أجل نفسه وأوليائه وذهب يتعلق بمجمله ومفصله الذي لا يعرفه الأصوليون وإنما يعرفون مجملاً ومفصلاً آخر ضبطوه وذكروا شروط تأويله.
جـ - محمد المغراوي الذي كُتِبَ في مخالفاته لمنهج السلف ثلاثة كتب حيث بَيَّنَت هذيانه بالتكفير والردة والعجول والحكم على كثير من المصلين الحاجين لبيت الله الحرام المكثرين من هذه العبادات بأن ما عندهم شعرة من الإسلام وبُيِّنَت له مخالفات أخري انظر كتاب "مخالفات محمد بن عبد الرحمن المغراوي" لأبي إسحاق هشام بن مهدي لقصاص، هذه المخالفات جعلت من المغراوي جبلاً أشم وعملاقاً عند أبي الحسن، وجعلت من ينتقده بحق وبعلم بمنهج السلف أصاغر وأراذل وقواطي صلصة وهذا ميزان أبي الحسن الذي لا يضر فيه مع الإيمان الضعيف ذنب والتمسك بالحق والذب عنه يضر ويسقط في هذا الميزان وفي إحدى كفتي الميزان حمل المجمل على المفصل بالنسبة لأهل الضلال والباطل وفي الكفة الأخرى البخس لأهل الحق فلا مجمل ولا مفصل ولا منهج الموازنات ولا كرامة ولا حرمة أعراض في هذا الميزان.
اسمع شريط حقيقة الدعوة رقم (2) وشريط الجواب المعرب على أسئلة المغرب كلاهما لأبي الحسن المأربي.
انظر لقول المغراوي: ((وإذا كانت الأمة تتواصى وتتفق على المعصية وتتفق على الشرك وتتفق على الانحراف وتتفق على التبرج وتتفق على الانسلاخ من دين الله وتتفق على الردة، وتجهل كل المخالفات، ماذا يقع لها ماذا تريدون؟)).
ويكثر في أشرطته من هذا اللون من الكلام ويوجد هذا اللون في كتابه عقيدة السلف كما يوجد فيه أصل الخوارج في التكفير وأنكر عليه الشيخ عطية محمد سالم أحد المدرسين في الجامعة الإسلامية سابقاً والقاضي بالمدينة والمدرس بالمسجد النبوي أنكر عليه التكفير الشامل الواضح في مناقشة إحدى رسائله.
ثم لما بينت له أخطاؤه وانحرافاته استكبر وحارب من بين له ورماهم هو وحزبه بالزندقة والخيانة والشتائم المقذعة ثم لما أدانه العلماء زاد في عناده وذهب يحط من شأنهم ويسخر منهم، ثم ألف كتاباً سماه بـ (أهل الإفك والبهتان الصادين عن السنة والقرآن) الأمر الذي يؤكد فيه عناده وطعنه، وعدد فيه أخطاء الأنبياء والصحابة والأئمة الكبار وانتهى بغير خجل بأنه لم يخطئ.
ومع كل هذا لا يزال جبلاً شامخاً وعملاقاً وكبيراً عند أبي الحسن.
فهذا مما يسقط الرجلين الجاني والشاهد المزكي بالباطل بعد ظهور عناد الجاني وتعاليه، ولو فرض وجود أصل أبي الحسن المجمل والمفصل الذي خالف فيه الأصوليين تأصيلاً وتطبيقاً.
د - شعبة ومسعر –رحمهما الله-.
قال أبو الحسن: ((وأنا أقول للذين يخالفون في هذا سأضع عليكم إشكال وأريد الجواب.
ثبت عن شعبة ابن الحجاج وعن مسعر بن كدام الهلالي أنهما قالا: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون هذا ثابت بالإسناد الصحيح عن شعبة وعن مسعر في شرف أصحاب الحديث وغيره، لو أنا قلت لك هذه الكلمة، ولم أذكر لك قائلها هل تشك أن هذا زنديق يطعن في الحديث وأهله ويزهد في الحديث هل تشك في هذا؟
العلماء أولوا هذه الكلمة في حق مسعر وفي حق شعبة بالرغم أنه ما جاء نص آخر في هذا الموضع بعينه أن مسعراً وأن شعبة يقصدان بهذا كذا وبهذا كذا إنما هذا من فهم أهل العلم لأن هذين عالمان من أهل السنة، فكيف تنسب لهما الزندقة)).
الجواب:
1- أن هذا ليس من باب حمل المجمل على المبين عند الأصوليين أو المفصل.
2- أن شعبة إمام كبير جداً بل أمير المؤمنين في الحديث وأفنى حياته في تعلمه وتعليمه ونقد رجاله، ويقوم بالرحلة الطويلة الشاقة في الحديث الواحد. فهذه قرائن عظيمة جداً أنه لا يقصد ظاهر الكلام، وقل مثل ذلك في مسعر –رحمه الله-.
وقرينة أخرى أن من أهل الحديث من يتشاغل بالغرائب وقد نهى السلف عن الاهتمام بالغرائب ووصف أبو خليفة تلميذ تلميذ شعبة ذلك بالمكاثرة وقد نقل أبو الحسن مثل هذا.
3- ممن تأول هذا الكلام الإمام أحمد رحمه الله لهذه القرائن وغيرها ولم يتأول لعلماء كبار مثل داود الظاهري ويعقوب بن شيبة( ).
وكذلك تكلموا في إسماعيل بن علية والمحاسبي والكرابيسي في قضايا القرآن، فكيف بمن هو مثل أبي الحسن والمغراوي وسيد قطب ولم يتأول عمر –رضي الله عنه- لصبيغ ولا ابن عمر لمعبد الجهني وهو ما كان يعرفه ولا كان مشهوراً ببدعة عنده ولا عند غيره فأعلن البراءة منه، والحاصل أن كتب العقائد وكتب الجرح الخاص والعام مليئة بنقد الناس في أقوالهم وأفعالهم فبماذا تحكم عليهم وهم لم يأخذوا بأصلك الذي توجبه على الناس؟ ألا يدل صنيع العلماء أن أصلك الذي تهوش به ليس بأصل، ولو سلكوا منهج أبي الحسن ودعوا إليه لما وجد نقد.
مع أنه لا يطبق أصوله في حق أهل السنة مع الأسف الشديد والحق أنه ليس كل كلام يتأول ولو من أمثال شعبة رحمه الله، فلو وقع من شعبة مثل ما وقع من هؤلاء لحكم عليه أحمد وغيره بمثل ما حكموا به عليهم، وعلى كل حال قد يتسامح مع بعض كبار أئمة السنة فيما يند منهم مخالفاً لمنهجهم وعقيدتهم وعلمهم ودعوتهم وذبهم عن السنة وغير ذلك من القرائن القوية التي تمنع من إرادة المعنى السيىء المخالف لمنهجهم وعقيدتهم الخ.
وقد لا يتسامح بعض العلماء حتى في مثل هذا فلا يلومهم علماء السنة ولا يحاسبونهم ولا يحاربونهم ولا يحتجون عليهم بهذا الأصل المزعوم.
هـ - ابن حبان رحمه الله
قال أبو الحسن: ((في النبلاء جـ 16 / ص 96 ترجمة ابن حبان يقول: هنا عن ابن حبان لما تكلم عنه بأنه قال:"النبوة العلم والعمل" وأن بعض الناس رموه بالزندقة وشنع عليه ومنهم من وشى به إلى الأمير من أجل أن يطرد، وأيضاً وقد أخرج من تلك البلد قال هنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري مؤلف كتاب ذم الكلام سمعت عبد الصمد بن محمد قال: سمعت أبي يقول: أنكروا على أبي حاتم ابن حبان قوله: "النبوة العلم والعمل" فحكموا عليه بالزندقة وهجر وكتب فيه إلى الخليفة فكتب بقتله. قال الذهبي: قلت: هذه حكاية غريبة وابن حبان إمام من كبار الأئمة ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ.
لكن هذه الكلمة التي أطلقها يطلقها المسلم ويطلقها الزنديق الفيلسوف)).
التعليق على هذا الكلام:
1- أن الذهبي استغربها فإسنادها يحتاج إلى إثبات.
2- على فرض صحتها فالذين حكموا عليه بالزندقة علماء والغالب أنهم من كبار العلماء ولو كان أصل أبي الحسن حمل المجمل على المفصل على اصطلاحه هو، من الأصول الثابتة لما خالفوه ولأنكر عليهم العلماء الآخرون في عصرهم وبعده مخالفة هذا الأصل.
3- لم يقل الذهبي ومنهم من وشى به إلى الأمير وهذا ذم شنيع لعلماء السنة الذين أنكروا على ابن حبان هذا الكلام غيرة لدين الله.
4- لم يشنع الذهبي ولا غيره على هؤلاء الذين أنكروا على ابن حبان ولم يحاربهم أحد على شدتهم في الإنكار.
5- ثم قال الذهبي بعد كلامه السابق: ((فإطلاق المسلم لها لا ينبغي( ) لكن يعتذر عنه فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجاً بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهم الحج.
وكذا هذا ذكر مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبياً إلا بوجودهما وليس كل من برز فيهما نبياً، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللّدني والعمل الصالح.
وأما الفيلسوف فيقول النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل فهذا كفر ولا يريده أبو حاتم أصلاً وحاشاه.
وإن كان في تقاسيمه من الأقوال، والتأويلات البعيدة والأحاديث المنكرة عجائب))( ).
فأنت ترى أن الذهبي لم يعد هذا الكلام مجملاً وإنما صرف المعنى السيىء عن هذا الإمام بالقرائن ويلوح لي أن العلماء في الأقوال المكفرة يلجأون فيها إلى القرائن وإلى أصل الاستصحاب وهو بقاء ما كان على ما كان لا على حمل المجمل على المفصل على مذهب أبي الحسن.
6- ولم يلم الذهبي ولا غيره من أنكر من العلماء على ابن حبان ورموه بالزندقة ولا قال: ينبغي أو يجب أن يلاموا ولا قال هذا كلام مجمل يحمل على مفصله.
وقال الذهبي –رحمه الله- بعد نقله الرواية التي ذكرها أبو إسماعيل الأنصاري:
((قلت: ولقوله هذا محمل سائغ إن كان عناه( ) ، أي: عماد النبوة العلم والعمل؛ لأن الله لم يؤت النبوة والوحي إلا من اتصف بهذين النعتين، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- يصير بالوحي عالماً ويلزم من وجود العلم الإلهي العمل الصالح، فصدق بهذا الاعتبار قوله: النبوة العلم اللدني والعمل المقرب إلى الله، فالنبوة إذا تفسر بوجود هذين الوصفين الكاملين، ولا سبيل إلى تحصيل هذين الوصفين بكمالهما إلا بالوحي الإلهي، وهو علم يقيني ما فيه ظن، وعلم غير الأنبياء منه يقيني وأكثره ظني. ثم النبوة ملازمة للعصمة ولا عصمة لغيرهم ولو بلغ في العلم والعمل ما بلغ. والخبر عن الشيء يصدق ببعض أركانه وأهم مقاصده، غير أنّا لا نسوغ لأحد إطلاق هذا إلا بقرينة، كقوله عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة، وإن كان عنى الحصر أي ليس شيء إلا العلم والعمل فهذه زندقة وفلسفة))( ).
وقال الذهبي أيضاً: ((وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح –وذكره في طبقات الشافعية-: غلط الغلط الفاحش في تصرفه، وصدق أبو عمرو))( ).
فانظر كيف لم يعتذر له ابن الصلاح ولا الذهبي في غلطه الفاحش في تصرفه، وإذن فالعذر والتأويل ليس لكل كلام من عالم أو غيره.
وقال ابن كثير –رحمه الله-: ((وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية، والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه))( ).
ولم يعتذر له ابن كثير على فرض صحة نسبة هذا الكلام إليه، وقال: ((وهي نزعة فلسفية)).
والحاصل أن بعض العلماء قد يعذرون بعض كبار العلماء في بعض العبارات ولا يعذرونهم في كل شيء لأنهم غير معصومين، وبعضهم لا يعذرهم كما هو حال الإمام أحمد ومئات العلماء في عصره الذين لم يعذروا من وقف في القرآن من المنتسبين للسنة وأهل الحديث، وكما هو حال العلماء الذين شنعوا على ابن حبان والهروي؛ لأن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وكتب الجرح والتعديل والفقه والتفسير وشروح الحديث مملوءة بنقد كلام العلماء وغيرهم وتضليل الضالين من المنسوبين إلى السنة وغيرها وإن في ذلك لعبرة للمعتبرين الفاقهين.
جـ- أبو إسماعيل الهروي.
قال أبو الحسن في شريط رقم (1):
((وأقول يا إخوان هناك كلام كثير سيكون مجملاً وعند الإجمال فسيحمل هذا على التفصيل المعروف عن الشخص كما هو كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين أقرأ عليكم كلمته في الجزء (3) ص521 طبعة دار الكتاب العربي تحقيق محمد حامد الفقي بيروت.
يقول هنا رحمه الله وهو في سياق دفاعه عن أبي إسماعيل الهروي الملقب بشيخ الإسلام وأبو إسماعيل الهروي له نصرة عظيمة للسنة وله كتاب " ذم الكلام " وله كتب كثيرة نقض فيها ما عليه أهل البدع فانتصر انتصاراً عظيماً وله ترجمة نيرة في سير أعلام النبلاء ومع ذلك له كلام استغله أهل وحدة الوجود وله كلام في الفناء وغير ذلك مما حقيقة يؤخذ عليه بل شنع عليه بعض أهل العلم( ) وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يدافعان عنه لكن هناك بعض أهل العلم شنعوا عليه لكن على كل حال يقول هنا الإمام ابن القيم " والكلمة الواحدة يقولها اثنان أي يقولها شخصان أو رجلان يريد أحدهما بها أو يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق يعني كلمة واحدة تخرج من شخص أحدهما مبطل بها والثاني محق بها يقول الإمام ابن القيم " والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه يعني كيف نحملها على المعنى الحق أو نحملها على المعنى الباطل نرجع إلى سيرة هذا القائل وإلى طريقته ومنهجه الذي عرف به فتحمل على الحق إن كان سنياً وتحمل على الباطل إن كان مبتدعاً فأقول بارك الله فيكم ولم يكن سياق هذه الكلمة هذا الموضع ولها ولأخواتها سياق آخر لكن الشاهد من هذا إن شاء الله أن نعرف أن الكلام المجمل في الشخص السلفي أو من الداعية السلفي أو من طالب العلم أو من المناصر للدعوة السلفية بعلم وبصيرة هذا يحمل على المحمل الحسن وهذه مسألة من جملة المسائل التي شنع بها الحدادية عليّ وقالوا إنني أقول بحمل المجمل على المفصل وهذا خارق للإجماع وسأبين لكم ما هذا الإجماع وأين موضعه وسأبين لكم هذا الكلام الذي أنا أقوله به هو كلام أهل العلم ليس كلاماً عارضاً وليس كلاماً من هنا أو من هناك بل هو كلام أهل العلم المؤصل من أيام الصحابة إلى زمن علمائنا هذا إن شاء الله عندما يأتي الرد المفصل لكن في الرد المجمل هذا سنجيب بما تيسر الآن من جمعه أو بما تيسر الآن من تجهيزه بما جمعته ويكون في ذلك الخير إن شاء الله)).
أقول:
كلام أبو الحسن هذا يفيد القارئ أن الإمامين ابن تيمية وابن القيم لم ينتقدا أبا إسماعيل الهروي، وإنما دافعا عنه فقط وهذا ليس بجيد فإنهما –رحمهما الله- انتقداه نقداً مراً بل شنعا عليه كما شنع عليه العلماء الذين ذكر أبو الحسن أنهم شنعوا على الهروي.
ولم يحملا المجمل على المفصل المعروف عند الأصوليين، وإنما أحسنا به الظن لقرائن عظيمة وكثيرة وقويّة وهي جهاده العظيم في نصرة السنة فقد كان سيفاً مسلولاً على أهل البدع وله مؤلفات كثيرة تدعوا إلى السنة وتنافح عنها وتسحق أهل البدع ومن مؤلفاته ما نقله أبو الحسن عن الإمام ابن القيم بالنسبة لقوله الموهم للاتحاد الصوفي.
أما بالنسبة لعقيدة الفناء والجبر فقد أدانه شيخ الإسلام ابن تيمية بهما، ولم يحمل المجمل على المفصل الذي يزعمه أبو الحسن، ولشيخ الإسلام في موضع آخر من المنهاج اعتذار عن كلامه الموهم للاتحاد، فهو تارة يصرح بإدانته وتارة يعتذر له.
وليس شيء من ذلك من باب المجمل والمفصل.
وقد قلت في كتابي الحد الفاصل (ص:130-135):
((إن أهل وحدة الوجود قد استغلوا كلام أبي إسماعيل الهروي المتشابه ووجهوه إلى وحدة الوجود الخبيثة، فرأى ابن القيم بفهمه الثاقب وبصيرته النافذة أن هؤلاء الزنادقة قد افتروا على الهروي من جهة، وأنـهم ساعون في تضليل المسلمين بكلام رجل له منـزلة عظيمة عند الأمة بما له من عقيدة صحيحة دوَّنـها في كتاب (الفاروق) وفي كتاب (ذم الكلام) وبما له من صراع مرير مع الأشاعرة وغيرهم ممن خالف السلف في المنهج والمعتقد)).
ثم قلت: ((فابن القيم يوجه كلام أبي إسماعيل المتشابه توجيها صحيحا بعلم وخبرة واسعة بالكلام والمذاهب لا بالعواطف العمياء.
وهو مع كل هذا لا يترك أبا إسماعيل من وخز ونقد وذم ولأضرب للقاريء أمثلة من نقد ابن القيم اللاذع للهروي خلال ست صفحات فقط من كتاب (مدارج السالكين) قال رحمه الله في (1/147): (وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع وجاء بما يرغب عنه الكمل من سادات الكمل والواصلين إلى الله).
وقال في (1/148) بعد أن بين الفرق الواضح بين كلام أبي إسماعيل وبين كلام أهل عقيدة وحدة الوجود: (فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزندقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه، وأقسموا بالله جهد أيمانـهم إنه لمنهم وما هو منهم وغره سراب الفناء فظن أنه لجة في بحر المعرفة وغاية العارفين وبالغ في تحقيقه وإثباته فقاده قسرا إلى ما ترى).
وقال في (1/152) بعد أن دفع تعلق الاتحادي بكلام أبي إسماعيل: (وإنما مراده انتفاء الحاجب عن درجة الشهود لا عن حقيقة الوجود، لكنه باب للإلحاد، هؤلاء الملاحدة منه يدخلون).
وقال في (1/153) (قوله: (الدرجة الثالثة: الفناء عن شهود الفناء)) فشرح الإمام ابن القيم – رحمه الله – هذا الكلام لأبي إسماعيل ثم تعقبه بقوله: (وسنذكر إن شاء الله أن العبد لا يدخل بـهذا الفناء والشهود في الإسلام فضلا أن يكون به من المؤمنين فضلا أن يكون به من خاصة أولياء الله المقربين فإن هذا شهود مشترك لأمر أقر به عباد الأصنام وسائر أهل الملل أنه لا خالق إلا الله).
فهذا كلام ابن القيم في بضع صفحات فكم من الانتقادات في ثلاث مجلدات؟.))
وقلت أيضا:
((وأما شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فله نقد قوي لأبي إسماعيل الهروي، ثم بعد هذا النقد قد يعتذر له لأسباب قوية من علمه وجهاده للبدع وفي نصرة السنة، ولا يمكن أن يعتذر لمثل سيد قطب، لماضيه المظلم ولحياته كلها التي يتخبط فيها في البدع الضلالات.
قال رحمه الله في (منهاج السنة)( ) عن الهروي وكتابه (منازل السائرين):
(وقد ذكر في كتابه (منازل السائرين) أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة، ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد...) ثم ساق كلاما طويلا من منازل السائرين في تقسيم التوحيد ثم ناقشه فيه نقاشا علميا يليق بعلمه ومكانته – أي ابن تيمية رحمه الله -... ثم قال: (وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية، لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحِكَم كما هو قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه، والأشعري وغيره)( )، فانظر إلى هذا النقد الصريح الواضح الجلي لما في كلام الهروي من الانتهاء إلى حقيقة الاتحاد ثم إلى القول بالجبر وبعد هذا النقد الواضح الجلي الذي جَلَّى خلاله هاتين الحقيقتين قال: (وشيخ الإسلام، وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات، وقد صنف كتابه (الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة) وصنف كتاب (تكفير الجهمية)، وصنف كتاب (ذم الكلام وأهله) وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات، لكنه في القَدَر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب، والكلام في الصفات نوع، والكلام في القدر نوع، وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء، فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التي تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص)( ).
... ثم استمر يناقش أقوال الهروي في الجبر ويطعن طعنا شديدا في الجبرية القائلين بتلك الأقوال التي يقولها الهروي فمن هذه المناقشات المرة الصعبة قوله ناقدا للهروي ومن على مذهبه في الجبر (وقول القائل (يسلك سبيل إسقاط الحدث)( ) إن أراد أني أعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أني أسقط الحدث من قلبي، فلا أشهد محدثا – وهو مرادهم – فهذا خلاف ما أمرت به وهو خلاف الحق، بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته، بما خلقه من الأسباب، ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شيء قط( )...) ثم استمر ينتقد كلام الهروي نقدا شديدا لاذعا يتخلله وصف بالضلال والجهل وبالحلول والاتحاد( ).
نعم بعد إدانة كلام الهروي والحكم عليه بما يستحقه قد يتلمسان( ) الأسباب لعذره لأدلة قوية من علمه وجهاده لأهل البدع والضلال وبالمؤلفات الواسعة في بيان الحق ونصره وهدم البدع والضلال ثم بعد ذلك كله يبقى القاريء حرا فإما أن يقتنع بـهذا العذر وإما لا يقتنع فلا إلزام بـهذا ولا ذاك.)) ا.هـ
هذا بالنسبة لقضية القول بالاتحاد أما ما عداه فلا كما رأيت وكما أشرت سلفاً في قضايا التكفير لا يكفرون وأعتقد أنهم يلجأون إلى أصل آخر وهو الاستصحاب أي بقاء ما كان على ما كان لا إلى ما يزعمه أبو الحسن من حمل المجمل على المفصل، لأن كلمة الكفر لا تحتمل التوحيد بل هي تضادها التضاد الشديد.
رابعاً: المجمل والنص والظاهر والمبين عند الأصوليين.
أ - المجمل: هو مالا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين، وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
ب- المبين: هو ما قابل المجمل وهو ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين من نص، أو ظهور أو بعد البيان.
ج - النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال.
د - الظاهر: وهو ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر.
فأنت ترى أن المجمل ما لا يفهم منه معنى عند الإطلاق أو ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك مثل الألفاظ المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة وغيرهما، والقرء للحيض والطهر، والشفق للبياض والحمرة، ولك أن تسأل أبا الحسن هل عرج من قريب أو بعيد على المجمل والمبين عند الأصوليين وسائر العلماء.
بل هل هو يعرف المجمل والمفصل المعروفين عند الأصوليين بل عند طلاب العلم ولك أن تسأله لماذا تَعْمد إلى كلام أهل البدع والباطل الواضح كالشمس في معانيه، إما نصوص أو ظواهر فتجعلها من باب المجملات ثم تحملها على ما تسميه المفصل وهو ليس بالمفصل ولا بالمبين المعروف عند الأصوليين.
ألا إن هذا عدوان على اصطلاحات وتأصيلات علماء الإسلام التي ساروا عليها من فجر تاريخ تدوين علم الأصول وقواعده.
هذا العلم العظيم الذي وضع خدمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهل أخذت تعريف المجمل والمفصل من الإمام ابن القيم المحدث الفقيه الأصولي وهل قال ابن القيم إنّ عادة الرجل وسيرته هي المفصل وأخطاؤه أو ضلالاته هي المجمل.
خامساً: بيان دلالات سياقات الكلام وأنها تعين المجمل
وبيان عدم التفات أبي الحسن لهذا الأصل العظيم.
أولاً: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج (3/236) في رده على الرافضي ابن المطهر " وأما جوابه عن احتجاجهم بقوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " بأن المراد الأصنام، فلا ننازعه بأن المراد بذلك الأصنام، فإن هذا هو أصح القولين، و"ما" بمعنى " الذي"، ومن قال: إنها مصدرية والمراد والله خلقكم وعملكم، فهو ضعيف، فإن سياق الكلام إنما يدل على الأول، لأنه قال: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون" فأنكر عليهم عبادة المنحوت، فالمناسب أن يذكر ما يتعلق بالمنحوت، وأنه مخلوق لله والتقدير والله خلق العابد والمعبود، ولأنه لو قال: والله خلقكم وعملكم لم يكن في هذا ما يقتضي ذمهم على الشرك، بل قد يقال: إنه عذر لهم))
والشاهد أخذ شيخ الإسلام بدلالة السياق.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (16/520) وهو يفسر سورة التكاثر ويرد التفسيرات الفاسدة لقول الله تعالى: كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم .
قال: " وجوابه أن سياق الكلام يقتضي الوعيد والتهديد حيث أفتتحه
بقوله: ألهاكم التكاثر، وأيضاً فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد غالباً أو في الوعد وإذا كان العلم مقيداً بالسياق اللفظي وبالوضع العرفي، فقوله: (لو تعلمون) هو ذاك العلم أخبر بوقوعه مستقبلاً ثم علق بوقوعه حاضراً وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علماً هو بيقين".
وقد تعلق بكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ظن أنه يؤكد ما يدعو إليه من حمل المجمل على المفصل، فرددت عليه في تنبيه أبي الحسن بالكلام الآتي:
((هل شيخ الإسلام يريد بهذا الكلام وضع قاعدة لكلام أهل البدع ومواقفهم وأحوالهم من روافض وجهمية ومعتزلة وقدرية ومرجئة وصوفية وأشعرية وماتريدية، ولمن سيأتي بعدهم من أهل البدع والتحزبات السياسية؟!.
إن هذا الكلام رد فعل لعمل رجل أفاك متجن على شيخ الإسلام ومكفر له، رغم أنه يقرر التوحيد ويرد الشرك والضلال بأساليب واضحة وعبارات صريحة فقال هذا الكلام من باب فرض مالم يقع أنه قد وقع، لدفع ظلم معين من شخص جاهل ظالم ، وليس معنى كلامه وضع الحبل على الغارب لأهل الأهواء أن يتكلموا بالمجملات والمتشابهات، بل وبالألفاظ والمقالات المسهبة في تقرير الباطل، فإذا نوقشوا في هذه التصرفات الفاسدة فزعوا إلى المجمل والمفصل والصريح والكناية.
شيخ الإسلام لا يريد بهذا الكلام التأصيل وإنما على الوجه الذي ذكرنا،ولو علم أنَّ بعض الناس سيتعلق بكلامه هذا لما قاله، انظر إلى قوله -رحمه الله- خلال كلامه في رده على بعض الناس الذين يتعلقون ببعض قواعد الأئمة فينصرون باطلهم وحيلهم، قال -رحمه الله- :((فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها))"بيان بطلان التحليل"(ص215).
ونحن نقول لو علم شيخ الإسلام ما يفضي إليه كلامه هذا لم يقله، ولو فرضنا أنه يراه قاعدة، فإنما مراده المجمل الذي يرافقه البيان في نفس السياق وتقييد المطلق في نفس السياق.
والأدلة على ذلك كثيرة:
1-حياته التي كلها جهاد ونقد لأهل الأهواء وأهل الأخطاء، ولو كان يعتقد مضمون هذا الكلام العارض لما أفنى حياته في رد الأباطيل الصريحة والمجملة التي زخرت بدحضها ونقدها كتبه الكثيرة التي تملأ مكتبة.
2-قال البكري في كتاب الاستغاثة :(2/609-610) "إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للنبي صلى الله عليه وسلم فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه، علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أقواله وأفعاله وغيره ليس كذلك"
فأجابه شيخ الإسلام بقوله:" هذا مبني على صدور عبارة موهمة، وقد تقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها بل نص لا يحتمل معنيين، فضلا عن كونها توهم غير ما أريد بها، وأيضاً فغير الرسول إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام، كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام، وأيضا فإذا كان الوهم لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس" .
فانظر كيف علق الجواز على كون اللفظ الموهم مقروناً بما يزيل الإيهام ومضمونه، أنه إذا لم يقرن بما يزيل الإيهام فإنه غير جائز لما فيه من التلبيس.
3- قـال شيخ الإسلام خلال ردوده على البكري في كتابه " الاستغاثة" (2/522): (( وقد يكون اللفظ مطلقا لتقييده بسؤال السائل مثل أن يقال: هل يصلى عليه عند الذبح؟فيقال لا يصلى عليه، أو يقال: هل يستغاث به بعد موته أو في مغيبه؟، فيقال: لا يستغاث به، لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئا، ولا يستشفع به بمعنى أنه ليس أهلا لذلك لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا، وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس إلا حيث يجوز التعريض خاصة وليس هذا موضع تعريض، ولو قدر أن مطلقا أطلقها وكنى( كذا ولعله عنى ) بها معنى صحيحا و المستمع فهم منها الكفر لم يكفر المتكلم بذلك لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد)).
أقول ونفي الكفر عن هذا المتكلم لا يعني أنه يجوز له إطلاق اللفظ الموهم، لأنه من التلبيس المنافي للبيان الذي يقصد من الكلام، وقد اشترط شيخ الإسلام والحمد لله صحة المعنى.
4- وسبق شيخ الإسلام أئمة الإسلام في رد الضلالات والأخطاء، ومنهم الليث بن سعد والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من أئمة الإسلام، وجرحوا المجروحين في ضلالهم وأخطائهم وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص كثيرة معروفة،ولو كانت هذه القاعدة شرعية لما وجدت شيئاً من هذا النقد والجرح.
والإجمال والإطلاق هو سلاح أهل الأهواء ومنهجهم والبيان والتفصيل والتصريح هو سبيل أهل السنة والحق.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وعليك بالتفصيل والتبــين فالــ إجمال والإطلاق دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الــ أذهـان والأراء كل زمان
والأدهى من هذا أن كلام بعض أهل الباطل واضح صريح في الباطل، ثم تجد من يدخله في باب الإجمال ويتعلق في نصرة رأيه بأوهى الخيوط والحبال، فعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى الحق وينصروا الحق ويقولوا به ويشهدوا به لأهله ويردوا الباطل، ويشهدوا به على أهله، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم والوالدين والأقربين الآية. )).
وهذا الكلام من شيخ الإسلام وذاك وتطبيقاته الكثيرة في نقد أهل الباطل وغيره وكلام العلماء وموقفهم وتطبيقاتهم تجتث ما يقوله ويدعو إليه أبو الحسن من جذوره.
ثانياً: قال الإمام بن القيم في بدائع الفوائد (4/9-10) [الطبعة المنيرية]:
((السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى :ذق إنك أنت العزيز الكريم كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير)).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة (1/302-304):
(( الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء، فهذا الموضع مما يغلط فيه كثير من الناس غلطاً قبيحاً، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم ويعرف مراد المتكلم بطرق:
1- منها أن يصرح بإرادة ذلك المعنى.
2- ومنها أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ولا تبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى.
فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له كقوله: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء164).
" وإنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ".
" والله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأيس منها فنام ثم استيقظ فإذا راحلته عند رأسه فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته ".
فهذا مما يقطع السامع فيه بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة له كان صادقاً في إخباره.
وأما إذا تأول كلامه بما لم يدل عليه لفظه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره أن هذا مراده كذب عليه إلى أن قال رحمه الله: " وحقيقة الأمر إن قول القائل نحمله على كذا أو نتأوله بكذا إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ على ما وضع له، فإن منازعه لما أحتج عليه به، ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال أحمله على خلاف ظاهره "( ) .
ثالثاً: وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (4/297) مع العدة للصنعاني في شرح حديث البراء بن عازب رضي الله عنه -: وفيه قال رسول الله عليه الصلاة والسلام " الخالة بمنـزلة الأم ".
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: " الحديث أصل في باب الحضانة وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم وقوله عليه الصلاة والسلام
" الخالة بمنـزلة الأم " سياق الحديث يدل على أنها بمنـزلتها في الحضانة وقد يستدل بإطلاقه أهل التنـزيل على تنـزيلها منـزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى، فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنـزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم( ) وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر ".
وقال الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول ص162:
" المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق، قد تردد قول الشافعي في ذلك وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانه " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك باباً فقال باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه وذكر قوله سبحانه " وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " قال فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله:
" إذ يعدون في السبت " قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم. قال ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما أشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصاً فلا يمنع أن يورد لفظ عام بتناوله وغيره كما في " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ".
ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه مالا يمكنك حصره انتهى. والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك.
وإن لم يكن السياق بهذه المنـزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص.
أقول: وكلام العلماء من أصوليين ومفسرين وغيرهم ولا سيما ابن تيمية وابن القيم وابن كثير في أن السياقات تدل على مقاصد المتكلمين.
ولم يُعر أبو الحسن المأربي أي اهتمام لسياقات كلام من يدافع عنهم بحمل المجمل على المفصل، بل إن كلامهم الذي يدافع عنه يكون من الواضح المبين المفصل فيجعله من المجملات، وذلك من الشغب والمغالطات ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز ذلك إلى رمي من يرد الباطل ويذب عن السنة ومنهج السلف بالغلو ويقذفهم بشتى التهم ويشتمهم بالألفاظ المقذعة كالأصاغر والأراذل والهدامين والمفسدين وأعداء الدعوة وخصومها وحدادية... إلخ.
انظر في النصوص التالية من نصوص من يدافع عنهم فهل تراها في غاية الوضوح والصراحة في الدلالة على معانيها، وسياقاتها وسباقاتها تدل على مقاصد قائليها أو تراها كما يزعم أبو الحسن من المجملات.
(1) يقول سيد قطب في تفسير سورة الإخلاص:
"إنها أحدية الوجود، فليس هناك حقيقة إلا حقيقته، وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده، وكل موجود آخر؛ فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية، وهي من ثم أحدية الفاعلية، فليس سواه فاعلاً لشيء أو فاعلاً في شيء في هذا الوجود أصلاً، وهذه عقيدة في الضمير( )، وتفسير للوجود أيضاً.
فإذا استقر هذا التفسير، ووضح هذا التصور؛ خلص القلب في كل غاشية ومن كل شائبة ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية، خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود، إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلاً؛ فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية؛ فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته؟!.
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله؛ فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها، وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه، ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلا الله؛ لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله( ).
كذلك ستصحبه نفي فاعلية الأسباب، ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت، وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني، ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائماً( )، ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( )
وَمَـا النَّصْـرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ( ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ( )، وغيرها كثير.
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها، تنسكب في القلب الطمأنينة، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب، ويتقي عنده ما يرهب، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود"( ).
(2) ويقول:
"وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحقيقة الواقعية بكل خصائصها ويزاولون الحياة البشرية والخلافة الأرضية بكل مقوماتها، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله، وأن لا وجود إلا وجوده، وأن لا فاعلية إلا فاعليته… ولا يريد طريقاً غير هذا الطريق"( ).
ولسيد قطب كلام نحو هذا في تفسير سورة الحديد (6/3479-3480) من كتاب الظلال، وقد صرح بذلك في ديوانه الشعري شعراً ونثراً وأكد ذلك بدفاعه عن عقيدة النيرفانا التي تتضمن عقيدة الحلول ووحدة الوجود ووحدة الأديان وعقيدة التناسخ وكل نص من نصوصه واضح وصريح وسياقه وسباقه في غاية الدلالة على مقاصده، فإن كانت هذه النصوص مجملات فلا يوجد في كلام البشر كلهم كلامٌ مفصلٌ بسبب هذه السفسطة التي اخترعها عبدالله عزام وتابعه عليها القطبيون والأخوان المسلمون وعدنان عرعور ثم أبو الحسن الذي عاش على ذلك دهراً وأحدث من أجله فتناً لا يرأب صدعها إلا الله ثم أبدى لنفسه معاذير -الله يعلمـها- ولكنهـا هل ترأب الصـدع العظيـم الذي أحدثته هذه الفتنة العمياء.
وبقي من ذيول دفاع أبي الحسن عن سيد قطب: مخالفته للعلماء في إدانة سيد قطب ورميه إياهم بالغلو وتنـزيله أحاديث الخوارج عليهم.
ورميه إياهم بالخطأ فيما ناقشوا فيه سيد قطب من ضلالاته الكبرى الكثيرة، حيث قال :
((وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ))، فعليه أن يبين هذا الخطأ ليزيل هذا التشكيك في نقدهم الحق الذي يرى السلفيون أن نقدهم لسيد قطب كله صواب وعليه أن يعلن التوبة من رمي هؤلاء العلماء مما رماهم به مما ذكرنا عنه آنفاً.
(3) وقال المغراوي في تفسير سورة البقرة رقم (14) وجه (أ) ـ تسجيلات أهل الحديث ـ الدار البيضاء:
((إذا كانت الأمة تتواتر، وتتواصى، وتتفق على المعصية، وتتفق على الشرك، وتتفق على الانحراف، وتتفق على التبرج، وتتفق على الانسلاخ من دين الله، وتتفق على الردة، وتجهل كل المخالفات، ماذا يقع لها؟ ماذا تريدون؟
فلابد أيها الإخوة من هذا الربط، لابد نربط واقعنا بهذه الآيات( ) التي أنزلها الله على نبينا محمد وستبقى إن شاء الله إلى أن تقوم الساعة: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه)).
(4) وقال في نفس الشريط:
((نريد أن نسعد وأن تكون عندنا جميع المقومات للحياة، ونحن لا يد لنا في الخير ولا أصبع لنا في الخير، نزل القرآن هجرناه جاءت السنة ضيعناها، ما عندنا عناية بكتاب الله، ما عندنا عناية بسنة رسوله، ما عندنا عناية بعقيدتنا، المجتمع منفك، المجتمع منغمس في المحرمات، المجتمع منتكس غالبه مرتد.
كيف؟ كيف تتحقق السعادة؟ كيف يتحقق الأمن؟ كيف تتحقق سياسة؟ كيف يتحقق الاقتصاد؟)).
(5) وقال في كتاب العقيدة السلفية "موقف مالك من العقيدة السلفية" (ص:158-159) معلقاً على حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم- في الخوارج وفيه:((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )).
: ((وهذا الحديث الذي أورده الإمام مالك في موطئه من عجيب آيات النبوة فإن هذا الوصف الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ينطبق تمام الانطباق على كثير من المبتدعة تشاهدهم كثيري الصلاة، كثيري الحج والعمرة، كثيري البذل للمال ولكن مع هذا ماعندهم من الإسلام شعرة واحدة، فسبحان من اختار نبينا -صلى الله عليه وسلّم- وأنطقه بالنبوة، وكما وصف الله تبارك وتعالى العابدين الخاشعين، ولكن لما لم يكن عندهم عقيدة صحيحة واتباع لنبينا -صلى الله عليه وسلّم- فإنهم يصلون جهنم هل أتاك حديث الغاشية، وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية فالحديث ينطبق مع الآية ويسير بحذوها وهو تفسير لها، فمبتدعة الخارجين عن أهل السنة والجماعة حظهم من الإسلام كما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فالميزان هو الميزان النبوي، والميزان هو الميزان السلفي وعبادة وعمل لاينبني على ذلك، فيرجع إلى هذا الحديث، فخلوات الصوفية وتعبداتهم بالأذكار المبتدعة والطرق المخترعة وإحداثهم في دين الله ماليس منه، فكله من هذا الباب". أ.هـ
(6) وقال في كتاب العقيدة السلفية موقف مالك من العقيدة السلفية، المطبعة الوطنية، مراكش، 1991، (ص55):
: ((وهكذا نلاحظ الإمام مالك والمالكية رحمهم الله يجعلون مفارقة الإسلام رافعة للعصمة والولاية، وأنه لالقاء بين مرتد ومسلمة، وبين مرتدة ومسلم، فكيف في هذه الأزمنة التي اختلط فيها الحابل بالنابل لايميز فيها بين المرتدين والمرتدات، والمسلمين والمسلمات وما أكثر الأولين وأقل الآخرين، وماأكثر مانسمع من عقود تعقد على كثير من المرتدين على المسلمات، والله المستعان )).
(7) وقال في شريط مرئي، صفات المنافقين (3) 22/6/1996.
: (( أين القرآن في نفوس الناس، وأين السنة في نفوس الناس، حالهم تنبئ عن هذه الآية، كأن هذه الآية تتحدث، يعني لو جمعت المسلمين في الكرة الأرضية في مكان واحد وفي صعيد واحد لنطقت هذه الآية وتكلمت: صم بكم عمي.
لأن هذا لايمكن، لايمكن أن الأمة ينـزل فيها قرآن ويبعث فيها نبي ويترك لهم سنن، وتحفظ هذه السنن، وتجد حالة المسلمين على عكس ذلك: لاعقيدة، لاتوحيد، لاشريعة، لاحكم، لاصلاة، إلى الله المشتكى)).
ومن العجائب والغرائب أنّ أبا الحسن يجعل هذه النصوص الواضحة المفصلة الدالة على مقاصد قائلها دلالات واضحة من المجملات فلا ندري على أي منهج يسير هذا الرجل وبأي لغة يفهم ويعقل ولا ندري من يخاطب بهذه اللغة والتأصيل وبهذا المنهج الغريب.
وأخيرا أقول:
اللهم اهد شباب الأمة لأقوم السبل وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن وثبتنا وإياهم على الحق.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
19/ربيع الأول/1423هـ
حول المجمل والمفصل
كتبه
الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإن الرد على أهل الأخطاء وأهل البدع والذب عن السنة أمر محمود ومشروع في شرعة الإسلام ومن هنا قام أئمة الإسلام بنقد أهل الأخطاء وأهل الأهواء ونقد الرواة وامتلأت كتب الإسلام بذلك وألفت كتب في الجرح والتعديل العام وكتب خاصة بالثقات وكتب خاصة بالجرح قياماً منهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصحاً للمسلمين وحفاظاً على دين الإسلام، فشكر الله لهؤلاء الأئمة ومن تبعهم جهودهم وأثابهم أحسن المثوبة.
وقد ضاق أناس من صوفية وغيرهم ذرعاً بهذا المنهج العظيم في السابق واللاحق وقذفوا بشبهات متعددة، قد تروج على كثير من الناس.
منها- التظاهر بالزهد والورع وليسوا كذلك.
ومنها- أن هذا المنهج يفرق المسلمين وهم المفرقون.
ومنها- التظاهر بالعدل والإنصاف أو ما يسمى بمنهج الموازنات.
ومنها-الدعوة إلى حمل المجمل على المفصل والمطلق على المقيد والعام على الخاص وأشهر من نادى بالأخير عبد الله عزام للدفاع عن سيد قطب.
ولقد تعلق أبو الحسن مصطفى إسماعيل المصري المأربي بحمل المجمل على المفصل في الدفاع عن سيد قطب وغيره وبالغ فيه وادعى أنه من منهج السلف الصالح وتعلق بشبهـات ومتشابـهات مـن كلام العلمـاء والحق أنّ تعلقه بهذا المجمل والمفصل لا يعرفـه الأصوليون.
وسأعرض للقراء الكرام:
أولاً- تعريف أبي الحسن للمجمل والمفصل.
ثانياً- تطبيقه للمجمل والمفصل.
ثالثاً- على من يطبقه.
رابعاً- سأذكر للقراء ما هو المجمل والمبين والنص والظاهر عند الأصوليين وسائر العلماء.
خامساً- بيان دلالات سياقات الكلام وأنها تعين المجمل وبيان عدم التفات أبي الحسن لهذه الأمور الأصولية العظيمة.
أولاً: تعريف أبي الحسن للمجمل والمفصل.
قال في بداية الشريط الثالث من القول الأمين الوجه الأول:
" عقيدة النيرفانا لها صلة بعقيدة الحلول والاتحاد على كل حال-أيضاً- عندما أوقفني بعض الإخوة على كلامه الأول في الظلال في (1/106) وهو صريح في نفي القول بوحدة الوجود, وظاهر كلامه أنه يكفر من قال بوحدة الوجود, فكنت عندما أسمع أحادية الفاعلية أحادية الوجود, أحادية كذا أقول هذا الكلام المجمل يحمل على ذلك المفصل لأن هذا كلام مجمل ليس بصريح( )، فهذا كلامه ص 106 /جـ 1"
وقال أبو الحسن في شريط رقم (1) من أشرطة أبي الحسن المسماة بالقول الأمين:
((يقول هنا الإمام ابن القيم:
"والكلمة الواحدة يقولها اثنان أي يقولها شخصان أو رجلان يريد أحدهما بها أو يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق يعني كلمة واحدة تخرج من شخصين أحدهما مبطل بها والثاني محق بها.
يقول الإمام ابن القيم: "والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه".
يعني كيف نحملها على المعنى الحق أو نحملها على المعنى الباطل؟
نرجع إلى سيرة هذا القائل وإلى طريقته ومنهجه الذي عرف به فنحمل على الحق إن كان سنياً، ونحمل على الباطل إن كان مبتدعاً))( ).
ثم قال أبو الحسن: ((الشاهد من هذا إن شاء الله أن نعرف أن الكلام المجمل من الشخص السلفي أو من الداعية السلفي أو من طالب العلم أو من المناصر للدعوة السلفية بعلم وبصيرة هذا يحمل على المجمل الحسن))( ).
وقال في شريط رقم (4) القول الأمين _ لأبي الحسن جهة (أ):
((هناك من يقول إن هذه القاعدة ( ) لخدمة أهل البدع أبداً أنا أخالف في هذا( )، حمل المجمل على المفصل سواءً من السني أو المبتدع؛ السني مفصله الخير والحسن، والبدعي مفصله القبيح والشر، مجمل السني الكلمة التي تحتمل خيراً وشراً تحمل على الخير، ومجمل البدعي تحمل على الشر لأن صريحه في هذا الموضع شر( )، فأي خدمة لأهل البدع في هذا. حتى يقال إن هذه القاعدة تنافي جهاد الأئمة في الرد على أهل البدع لا منافاة أبداً.
فالمبتدعة إن قالوا كلاماً مجملاً يحتمل خيراً ويحتمل شراً ولهم موضع آخر قد فصلّوا وصرّحوا بالشر فنحن نحمل مجملهم على مفصلهم القبيح بخلاف أهل السنة أهل السنة نحملهم على المجمل الحسن وننظر في قصدهم فإن الأمور ترجع للمقاصد( ))).
ولم أقف لأبي الحسن على تعريف للمجمل والمفصل غير هذا الذي نقله عن ابن القيم، وهذا ليس بتعريف كما ترى، ولعله يريد حسن الظن ببعض الكبار ممن شهروا بالسير على منهج السلف ودعوا إلى ذلك وناظروا عليه( ) ولا يريد بذلك وضع قاعدة مطردة في كل من هب ودب من المنتسبين إلى السنة فان كانت قاعدة كما يزعم أبو الحسن فأين دليلها من كتاب الله وسنة رسوله فهذا الإمام أحمد إمام السنة يقول في من وقف في القرآن إنّه مبتدع ضال، وفيهم أناس من كبار المنتسبين إلى السنة والحديث مثل يعقوب بن شيبة.
وقال إسماعيل ابن علية وهو من كبار أهل السنة والحديث كلمة فهم منها أنه يقول بخلق القرآن فضلله بعض الأئمة، وشن عليه الغارة كل أهل الحديث أو جلهم حتى رجع عن قوله ولو لم يرجع لأسقطوه.
ولو أراد ابن القيم –رحمه الله- تعريف المجمل لنقل لنا كلام الأصوليين لأنّه يعد من أعلم الناس به، وإذا كان الأمر كذلك فيظل كلام أبي الحسن بالمجمل والمفصل بمجمل لا يعرفه الناس وبمفصل لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة ولا عمل السلف الصالح بل الكتاب والسنة على خلافه في أقوال الناس وأعمالهم.
وأقول إيراداً على أبي الحسن: إذا صدرت كلمة مجملة تتضمن سباً لله أو لرسوله أو كتابه أو لأحد الأنبياء أو الصحابة من سني ومبتدع فهل تحمل من السني على الحق ومن المبتدع على الباطل.
وإذا صدر من رجلين سني ومبتدع أو سني ومنافق أو كافر كلمة تتضمن قذفاً فهل تحمل من السني على الحسن والحق، وعلى غيره على القبح والباطل وإذا صدرت أي كلمة تتضمن الردة من رجلين سني ومبتدع فهل تكون ردة من المبتدع وحقاً وحسناً من السني.
ثانياً: تطبيق أبي الحسن للمجمل والمفصل.
أ- على سيد قطب المعروف بالضلالات الكبرى.
قال في بداية الشريط الثالث من القول الأمين الوجه الأول:
" عقيدة النيرفانا لها صلة بعقيدة الحلول والاتحاد على كل حال-أيضاً- عندما أوقفني بعض الإخوة على كلامه الأول في الظلال في (1/106) وهو صريح في نفي القول بوحدة الوجود, وظاهر كلامه أنه يكفر من قال بوحدة الوجود, فكنت عندما أسمع أحاديث الفاعلية أحاديث الوجود, أحاديث كذا أقول هذا الكلام المجمل يحمل على ذلك المفصل لأن هذا كلام مجمل ليس بصريح( )، فهذا كلامه ص 106 /جـ 1"
وقال في محاضرة ألقاها في مسجد شيخان في عدن وقد سئل عن سيد قطب:
" الشيخ سيد قطب رحمه الله رجل من المسلمين، هداه الله سبحانه وتعالى على كبر سنه إلى الهدى( ) فاتجه إلى الله عز وجل بحسب ما يرى.
له أقوال خالف فيها أهل السنة والجماعة، وله أقوال وافق فيها الحق ؛ لكنه ليس بعالم حديث ولا عالم فقه ولا عالم بالتفسير وإن كان قد كتب في ظلال القرآن،فإن الرجل رحمه الله أديب لغوي.
قواعد التفسير عند أهل العلم التي هي مأخوذة بالأثر والأسانيد ما اشتغل بها، ولا يكلف الرجل أن يشتغل بكل شيء، وإنما يكلف من عمل في عمل أن يدخل البيت من بابه ؛ وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها مـا هـو خطـأ( ).
من المسائل التي لا أراها صواباً فيه أو عليه في الانتقاد:
1- القول بأنه يرى الحلول أو الإتحاد، أي بأنه يرى أن كل شيء الله فيه، كقول أهل الحلول و الإتحاد الذين يقولون أن الله حل في كل شيء ! الرجل حاشاه من ذلك نعم، له كلمات الناظر فيها يفهمها بذلك، ومعذور من لم يفهم واقع مصر وواقع هذه الكلمات عند أهلها في هذا الفهم.
أهل مصر عندهم يقولون كل شيء هو الله ما يعنون بذلك أن الله دخل في العمود هذا ؛ والأرض هذه ؛ والشجرة هذه ؛ والمروحة هذه لا ! يعنون أن كل شيء ملك لله وكل شيء خلق لله، ما يفهمون من ذلك خلق القرآن و لا الأشياء الأخرى التي عندنا( ).
الرجل كما قلت لكم لم يتجه للعلم من أبوابه ولم تترك له الحكومة آنذاك فرصة( ) لذلك! فله كلمات كل شيء هو الله، فيفهم الناظر فيها أنه يقول بالحلول و الإتحاد.
أكبر دليل على عكس ذلك أنه وقف في وجه عبد الناصر ! ولو كان يعتقد أن الله حلَّ في كل شيء - ومن جملة هؤلاء عبد الناصر حلَّ الله - فيه فلماذا يحاربه( )؟ لماذا يحذر منه؟.
فأقول ما ينبغي أن نزيد عليه( )، ولا ينبغي أن نقول اجتهاداته كاجتهادات ابن حجر والنووي، فرق يا إخوان عظيم بين عالمين في العقيدة، في الفقه، في الأصول، في الحديث، في أبواب العلم كلها وبين رجل ليس كذلك.
حسبنا أن نقول هو رجل قصد الحق فزلت قدمه في مسائل، يجب أن تعرف هذه المسائل وتُبيَّن لشباب الأمة من أجل ألا يغتروا بها، كما أنه يجب ألا يغالى( ) في الحكم له أو عليه.
هذه دعوتنا التي ندعو الناس إليها أن الغلو(2) مرفوض في دعوتنا
أن الغلو أضر في دعوتنا من التفريط.
المرجئة مفرطة والخوارج عندهم إفراط وغلو، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الخوارج أقوالاً كثيرة، ووصفهم بأنهم كلاب أهل النار ولم يقل ذلك في المرجئة.
الخوارج أهل عبادة أهل صلاة أهل صيام، لكنهم أهل غلو ! حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام تحذيراً شديداً أشد مما حذر في المرجئة مما يدلكم على أن الإفراط أشد من التفريط( )، فيجب الاعتدال( ) لا نرفعه فوق قدره ولا نجعله من الكافرين.
استقم كما أمرت والتزم بالهدى والصواب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه وأن يغفر له زلته( ) ".
فهذا اعتراف منه أنه كان في سابق أمره يحمل المجمل على المفصل في حق أهل البدع وغيرهم.
وقد صرح هو بضلال سيد قطب في مواضع من كلامه.
ثم أصبح له مذهب آخر في حمل المجمل على المفصل، فهو بالنسبة لأهل السنة يحمل كلامهم المجمل على الحق ويحمل كلام المبتدع على المعنى الباطل، فصار له مذهبان في المجمل والمفصل الذي اخترعه ولا يعرفه الأصوليون وغيرهم من أهل العلم بالشريعة الإسلامية.
ترى كم خاصم أهل السنة في سيد قطب وخالفهم ورماهم بالخطأ في أحكامهم على سيد قطب بقوله:
((وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ)) ويرمي من أدان سيد قطب بالقول بالحلول ووحدة الوجود بالغلو وينـزل عليهم أحاديث الخوارج الغلاة.
فعلى أي أساس يخطؤهم ويرميهم بالغلو والخطأ في اعتراضاتهم ويعتذر لسيد قطب بالجهل.
وأخيراً يقول: ((وإلا فأنا أصلاً لا أقرأ كلامه ولا أشتغل بشيء من ذلك)).قال هذا في بداية الشريط رقم (3) من القول الأمين في عام 1423هـ.
فكيف تخطيء العلماء الذين عرفوا ضلاله وحكموا عليه بما يستحق، وأنت لم تقرأ له أصلاً ولا تشتغل بشيء من ذلك وترميهم بالغلو وتحمل مجمله على مفصله.
وقبلها يدعي فيقول في شريط جلسة مأرب في عام 1423هـ، رقم (1) وجه (ب): ((سيد قطب أنا تكلمت عليه في مجالس كثيرة وكثيرة جداً وأنا من جملة الذين يحذرون من كتبه( ) وأنا الذي تصديت للأهدل( ) عندما قال: إن تفسير سيد قطب أفضل من تفسير ابن كثير وأنك إن حفظت تفسير ابن كثير فلا تزيد إلا نسخه في السوق ولا تفهم معنى لا إله إلا الله إلى غير ذلك.
وتكلمت حتى أشرت إلى شيء من ذلك في كتابي السراج الوهاج ومعتقدي من ذلك الوقت إلى الآن أن سيد قطب رحمه الله رجل ضل السبيل وهو يظن أنه يحسن صنعاً إلى أن يقول: فضل السبيل وظن أنه على الهدى فوقع في أخطاء كثيرة، من ذلك ما شحن كتابه فيه من تكفير للمجتمعات أو الحكم بجاهلية المجتمعات وهذه لا تعني عند اتباعه إلا الكفر( ).
قارن بين هذين القولين وانظر هل تستطيع التوفيق بينهما بحمل المجمل على المفصل أو أنك ستعجز وستعلم أن كل إناء بما فيه ينضح ولقد طال جداله في جلسة مأرب في موضوع سيد قطب مع تمحل في التأويل وتحدّ مُهيل.
فمما قاله: " بقى أمر أيضاً يتصل بالكلام حول سيد قطب وهي مسألة سأسحبها معي في كثير من القضايا.
لو أني خالفت جزماً ويقيناً في فهمي عن كتب سيد قطب ومقالاته وأموره ورأيت أنه مصيب ليس بمخطيء ومدحته كما مدحه الشيخ ابن باز مثلاً( ) فهل أكون بهذا أقرر قاعدة الموازنات وأنا أقعّد قاعدة الموازنات عملياً؟ وادعى أن الألباني مدحه.
ونقول: لا تستطيع تثبت أن الشيخين قد مدحاه ولقد استطاع خصومك وغيرهم أن يثبتوا أنهما طعنا فيه.
وأما لو خالفت جزماً ويقيناً وادعيت أن سيد قطب مصيب في كتبه ومقالاته وأموره وليس بمخطيء فيقال: لك هذا التحدي لا يصدر من عاقل فضلاً عمن يدعي السلفية.
ولو قلت جازماً بما ذكر لتجاوزت منهج الموازنات والمجمل والمفصل واستخففت بالإسلام وأهله ولن يتقاعس العلماء من إصدار الأحكام التي تستحقها لأن معنى هذا القول: أن الحلول ووحدة الوجود حق، وتعطيل صفات الله حق، والطعن في أصحاب محمد حق، والقول بخلق القرآن وأزلية الروح إلى ضلالات أخرى تصير كلها حق على ما تهدد به.
ووالله إنك لحري أن تؤدب على هذا الأسلوب المزعج، وهكذا ترى هذا الرجل يصل إلى هذه الدرجة في دفاعه عن أهل الباطل وفي تأصيله الفاسد وتطبيقه الكاسد للمجمل والمفصل المخترع الذي لا يخطر على بال أئمة الأصول تأصيلاً ولا تطبيقاً.
ب- على الصحابي الجليل حسان –رضي الله عنه-.
قال أبو الحسن في لقاء مأرب شعبان (1422) الشريط الثاني
" قاعدة إن الكلام المجمل يحمل على المفسر هذه القاعدة صحيحة أم لا؟ ثم قال أنا أجيب بعدة أمور في هذا الأمر منها ما هو في زمن الصحابة ومنها ما بعد زمن الصحابة من العلماء والأئمة أما عن زمن الصحابة فقد تكلم حسان بن ثابت في عائشة أم المؤمنين كما تكلم أهل الإفك فرماه الناس بالنفاق( ) كما جرى من الذين وقعوا في ذلك فكانت عائشة تدافع عنه وتقول: لا أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
فاستدلت ببيت الشعر وهو في موضع آخر من كلامه وهو في موضع النـزاع فإن فيه دفاعاً عن عرض رسول الله فاستدلت بأنه بريء من النفاق بهذا البيت مع انه بلسانه قـال مقالـة المنافقين ووقع في عرض عائشة واتهمها كما أتهمها غيره عبد الله بن أبي سلول وغيره ولكن شفع له موضع آخر من كلامه، فحمل الموضع الأول على ذلك الموضع هذا وهو ليس في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
أقول: إنّ هذا الكلام يؤكد أن أبا الحسن لا يعرف المجمل والمفصل عند الأصوليين بل سمع هذا من خصوم أهل السنة فذهب يركض به هنا وهناك بدون تثبت وتروٍ أو أنه يتعمد مثل هذه المغالطات.
فهل هناك عاقل في الدنيا يقول: إن قذف حسان لأم المؤمنين يتضمن الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أحد محتملات لفظ القذف.
إن من شروط التأويل عند الأصوليين " احتمال اللفظ لما حمله عليه المؤول فهل الأمر كذلك؟ وهل يدعيه عاقل فضلاً عن الأصوليين وسائر العلماء.
لقد ناقشت كلام أبي الحسن هذا في ((تنبيه أبي الحسن إلى القول بالتي هي أحسن))( ) وبينت له بطلان قوله بحمل المجمل على المفصل في قضية حسان رضي الله عنه وأرضاه الذاب فعلاً عن عرض رسول الله وبينت له أن القرآن شدد وتوعد في هذه القضية ولم يحمل المجمل المزعوم على المفصل الموهوم كما أقول الآن ولم يحمل رسول الله في هذه القضية المجمل على المفصل كما أقول الآن ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بذلك بل غضب هو وأصحابه وحزنوا وتألموا الآلام الشديدة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد القاذفين فأين حمل المجمل على المفصل أيها العقلاء، ولولا تفضل الله ورحمته لمن شارك في هذه القضية لهلكوا قال تعالى: لولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم فلم يستفد أبو الحسن من بياني له في التنبيه وذهب يعاند ويرد على من قالوا إنه لا يؤول إلا كلام المعصوم ولم يذكر أن من أدلتهم وجوب الأخذ بالظاهر الذي هو أصل أصيل في الإسلام، ورد على الشوكاني دعوى الإجماع الذي من أدلته الأخذ بالظاهر ولعله بالاستقراء.
لقد صال أبو الحسن بهذا الأصل: (الظاهر) على الصحابي الجليل أسامة بن زيد و صال به على السلفيين الذابين عن السنة والمنهج السلفي ونسيه من أجل نفسه وأوليائه وذهب يتعلق بمجمله ومفصله الذي لا يعرفه الأصوليون وإنما يعرفون مجملاً ومفصلاً آخر ضبطوه وذكروا شروط تأويله.
جـ - محمد المغراوي الذي كُتِبَ في مخالفاته لمنهج السلف ثلاثة كتب حيث بَيَّنَت هذيانه بالتكفير والردة والعجول والحكم على كثير من المصلين الحاجين لبيت الله الحرام المكثرين من هذه العبادات بأن ما عندهم شعرة من الإسلام وبُيِّنَت له مخالفات أخري انظر كتاب "مخالفات محمد بن عبد الرحمن المغراوي" لأبي إسحاق هشام بن مهدي لقصاص، هذه المخالفات جعلت من المغراوي جبلاً أشم وعملاقاً عند أبي الحسن، وجعلت من ينتقده بحق وبعلم بمنهج السلف أصاغر وأراذل وقواطي صلصة وهذا ميزان أبي الحسن الذي لا يضر فيه مع الإيمان الضعيف ذنب والتمسك بالحق والذب عنه يضر ويسقط في هذا الميزان وفي إحدى كفتي الميزان حمل المجمل على المفصل بالنسبة لأهل الضلال والباطل وفي الكفة الأخرى البخس لأهل الحق فلا مجمل ولا مفصل ولا منهج الموازنات ولا كرامة ولا حرمة أعراض في هذا الميزان.
اسمع شريط حقيقة الدعوة رقم (2) وشريط الجواب المعرب على أسئلة المغرب كلاهما لأبي الحسن المأربي.
انظر لقول المغراوي: ((وإذا كانت الأمة تتواصى وتتفق على المعصية وتتفق على الشرك وتتفق على الانحراف وتتفق على التبرج وتتفق على الانسلاخ من دين الله وتتفق على الردة، وتجهل كل المخالفات، ماذا يقع لها ماذا تريدون؟)).
ويكثر في أشرطته من هذا اللون من الكلام ويوجد هذا اللون في كتابه عقيدة السلف كما يوجد فيه أصل الخوارج في التكفير وأنكر عليه الشيخ عطية محمد سالم أحد المدرسين في الجامعة الإسلامية سابقاً والقاضي بالمدينة والمدرس بالمسجد النبوي أنكر عليه التكفير الشامل الواضح في مناقشة إحدى رسائله.
ثم لما بينت له أخطاؤه وانحرافاته استكبر وحارب من بين له ورماهم هو وحزبه بالزندقة والخيانة والشتائم المقذعة ثم لما أدانه العلماء زاد في عناده وذهب يحط من شأنهم ويسخر منهم، ثم ألف كتاباً سماه بـ (أهل الإفك والبهتان الصادين عن السنة والقرآن) الأمر الذي يؤكد فيه عناده وطعنه، وعدد فيه أخطاء الأنبياء والصحابة والأئمة الكبار وانتهى بغير خجل بأنه لم يخطئ.
ومع كل هذا لا يزال جبلاً شامخاً وعملاقاً وكبيراً عند أبي الحسن.
فهذا مما يسقط الرجلين الجاني والشاهد المزكي بالباطل بعد ظهور عناد الجاني وتعاليه، ولو فرض وجود أصل أبي الحسن المجمل والمفصل الذي خالف فيه الأصوليين تأصيلاً وتطبيقاً.
د - شعبة ومسعر –رحمهما الله-.
قال أبو الحسن: ((وأنا أقول للذين يخالفون في هذا سأضع عليكم إشكال وأريد الجواب.
ثبت عن شعبة ابن الحجاج وعن مسعر بن كدام الهلالي أنهما قالا: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون هذا ثابت بالإسناد الصحيح عن شعبة وعن مسعر في شرف أصحاب الحديث وغيره، لو أنا قلت لك هذه الكلمة، ولم أذكر لك قائلها هل تشك أن هذا زنديق يطعن في الحديث وأهله ويزهد في الحديث هل تشك في هذا؟
العلماء أولوا هذه الكلمة في حق مسعر وفي حق شعبة بالرغم أنه ما جاء نص آخر في هذا الموضع بعينه أن مسعراً وأن شعبة يقصدان بهذا كذا وبهذا كذا إنما هذا من فهم أهل العلم لأن هذين عالمان من أهل السنة، فكيف تنسب لهما الزندقة)).
الجواب:
1- أن هذا ليس من باب حمل المجمل على المبين عند الأصوليين أو المفصل.
2- أن شعبة إمام كبير جداً بل أمير المؤمنين في الحديث وأفنى حياته في تعلمه وتعليمه ونقد رجاله، ويقوم بالرحلة الطويلة الشاقة في الحديث الواحد. فهذه قرائن عظيمة جداً أنه لا يقصد ظاهر الكلام، وقل مثل ذلك في مسعر –رحمه الله-.
وقرينة أخرى أن من أهل الحديث من يتشاغل بالغرائب وقد نهى السلف عن الاهتمام بالغرائب ووصف أبو خليفة تلميذ تلميذ شعبة ذلك بالمكاثرة وقد نقل أبو الحسن مثل هذا.
3- ممن تأول هذا الكلام الإمام أحمد رحمه الله لهذه القرائن وغيرها ولم يتأول لعلماء كبار مثل داود الظاهري ويعقوب بن شيبة( ).
وكذلك تكلموا في إسماعيل بن علية والمحاسبي والكرابيسي في قضايا القرآن، فكيف بمن هو مثل أبي الحسن والمغراوي وسيد قطب ولم يتأول عمر –رضي الله عنه- لصبيغ ولا ابن عمر لمعبد الجهني وهو ما كان يعرفه ولا كان مشهوراً ببدعة عنده ولا عند غيره فأعلن البراءة منه، والحاصل أن كتب العقائد وكتب الجرح الخاص والعام مليئة بنقد الناس في أقوالهم وأفعالهم فبماذا تحكم عليهم وهم لم يأخذوا بأصلك الذي توجبه على الناس؟ ألا يدل صنيع العلماء أن أصلك الذي تهوش به ليس بأصل، ولو سلكوا منهج أبي الحسن ودعوا إليه لما وجد نقد.
مع أنه لا يطبق أصوله في حق أهل السنة مع الأسف الشديد والحق أنه ليس كل كلام يتأول ولو من أمثال شعبة رحمه الله، فلو وقع من شعبة مثل ما وقع من هؤلاء لحكم عليه أحمد وغيره بمثل ما حكموا به عليهم، وعلى كل حال قد يتسامح مع بعض كبار أئمة السنة فيما يند منهم مخالفاً لمنهجهم وعقيدتهم وعلمهم ودعوتهم وذبهم عن السنة وغير ذلك من القرائن القوية التي تمنع من إرادة المعنى السيىء المخالف لمنهجهم وعقيدتهم الخ.
وقد لا يتسامح بعض العلماء حتى في مثل هذا فلا يلومهم علماء السنة ولا يحاسبونهم ولا يحاربونهم ولا يحتجون عليهم بهذا الأصل المزعوم.
هـ - ابن حبان رحمه الله
قال أبو الحسن: ((في النبلاء جـ 16 / ص 96 ترجمة ابن حبان يقول: هنا عن ابن حبان لما تكلم عنه بأنه قال:"النبوة العلم والعمل" وأن بعض الناس رموه بالزندقة وشنع عليه ومنهم من وشى به إلى الأمير من أجل أن يطرد، وأيضاً وقد أخرج من تلك البلد قال هنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري مؤلف كتاب ذم الكلام سمعت عبد الصمد بن محمد قال: سمعت أبي يقول: أنكروا على أبي حاتم ابن حبان قوله: "النبوة العلم والعمل" فحكموا عليه بالزندقة وهجر وكتب فيه إلى الخليفة فكتب بقتله. قال الذهبي: قلت: هذه حكاية غريبة وابن حبان إمام من كبار الأئمة ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ.
لكن هذه الكلمة التي أطلقها يطلقها المسلم ويطلقها الزنديق الفيلسوف)).
التعليق على هذا الكلام:
1- أن الذهبي استغربها فإسنادها يحتاج إلى إثبات.
2- على فرض صحتها فالذين حكموا عليه بالزندقة علماء والغالب أنهم من كبار العلماء ولو كان أصل أبي الحسن حمل المجمل على المفصل على اصطلاحه هو، من الأصول الثابتة لما خالفوه ولأنكر عليهم العلماء الآخرون في عصرهم وبعده مخالفة هذا الأصل.
3- لم يقل الذهبي ومنهم من وشى به إلى الأمير وهذا ذم شنيع لعلماء السنة الذين أنكروا على ابن حبان هذا الكلام غيرة لدين الله.
4- لم يشنع الذهبي ولا غيره على هؤلاء الذين أنكروا على ابن حبان ولم يحاربهم أحد على شدتهم في الإنكار.
5- ثم قال الذهبي بعد كلامه السابق: ((فإطلاق المسلم لها لا ينبغي( ) لكن يعتذر عنه فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجاً بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهم الحج.
وكذا هذا ذكر مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبياً إلا بوجودهما وليس كل من برز فيهما نبياً، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللّدني والعمل الصالح.
وأما الفيلسوف فيقول النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل فهذا كفر ولا يريده أبو حاتم أصلاً وحاشاه.
وإن كان في تقاسيمه من الأقوال، والتأويلات البعيدة والأحاديث المنكرة عجائب))( ).
فأنت ترى أن الذهبي لم يعد هذا الكلام مجملاً وإنما صرف المعنى السيىء عن هذا الإمام بالقرائن ويلوح لي أن العلماء في الأقوال المكفرة يلجأون فيها إلى القرائن وإلى أصل الاستصحاب وهو بقاء ما كان على ما كان لا على حمل المجمل على المفصل على مذهب أبي الحسن.
6- ولم يلم الذهبي ولا غيره من أنكر من العلماء على ابن حبان ورموه بالزندقة ولا قال: ينبغي أو يجب أن يلاموا ولا قال هذا كلام مجمل يحمل على مفصله.
وقال الذهبي –رحمه الله- بعد نقله الرواية التي ذكرها أبو إسماعيل الأنصاري:
((قلت: ولقوله هذا محمل سائغ إن كان عناه( ) ، أي: عماد النبوة العلم والعمل؛ لأن الله لم يؤت النبوة والوحي إلا من اتصف بهذين النعتين، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- يصير بالوحي عالماً ويلزم من وجود العلم الإلهي العمل الصالح، فصدق بهذا الاعتبار قوله: النبوة العلم اللدني والعمل المقرب إلى الله، فالنبوة إذا تفسر بوجود هذين الوصفين الكاملين، ولا سبيل إلى تحصيل هذين الوصفين بكمالهما إلا بالوحي الإلهي، وهو علم يقيني ما فيه ظن، وعلم غير الأنبياء منه يقيني وأكثره ظني. ثم النبوة ملازمة للعصمة ولا عصمة لغيرهم ولو بلغ في العلم والعمل ما بلغ. والخبر عن الشيء يصدق ببعض أركانه وأهم مقاصده، غير أنّا لا نسوغ لأحد إطلاق هذا إلا بقرينة، كقوله عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة، وإن كان عنى الحصر أي ليس شيء إلا العلم والعمل فهذه زندقة وفلسفة))( ).
وقال الذهبي أيضاً: ((وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح –وذكره في طبقات الشافعية-: غلط الغلط الفاحش في تصرفه، وصدق أبو عمرو))( ).
فانظر كيف لم يعتذر له ابن الصلاح ولا الذهبي في غلطه الفاحش في تصرفه، وإذن فالعذر والتأويل ليس لكل كلام من عالم أو غيره.
وقال ابن كثير –رحمه الله-: ((وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية، والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه))( ).
ولم يعتذر له ابن كثير على فرض صحة نسبة هذا الكلام إليه، وقال: ((وهي نزعة فلسفية)).
والحاصل أن بعض العلماء قد يعذرون بعض كبار العلماء في بعض العبارات ولا يعذرونهم في كل شيء لأنهم غير معصومين، وبعضهم لا يعذرهم كما هو حال الإمام أحمد ومئات العلماء في عصره الذين لم يعذروا من وقف في القرآن من المنتسبين للسنة وأهل الحديث، وكما هو حال العلماء الذين شنعوا على ابن حبان والهروي؛ لأن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وكتب الجرح والتعديل والفقه والتفسير وشروح الحديث مملوءة بنقد كلام العلماء وغيرهم وتضليل الضالين من المنسوبين إلى السنة وغيرها وإن في ذلك لعبرة للمعتبرين الفاقهين.
جـ- أبو إسماعيل الهروي.
قال أبو الحسن في شريط رقم (1):
((وأقول يا إخوان هناك كلام كثير سيكون مجملاً وعند الإجمال فسيحمل هذا على التفصيل المعروف عن الشخص كما هو كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين أقرأ عليكم كلمته في الجزء (3) ص521 طبعة دار الكتاب العربي تحقيق محمد حامد الفقي بيروت.
يقول هنا رحمه الله وهو في سياق دفاعه عن أبي إسماعيل الهروي الملقب بشيخ الإسلام وأبو إسماعيل الهروي له نصرة عظيمة للسنة وله كتاب " ذم الكلام " وله كتب كثيرة نقض فيها ما عليه أهل البدع فانتصر انتصاراً عظيماً وله ترجمة نيرة في سير أعلام النبلاء ومع ذلك له كلام استغله أهل وحدة الوجود وله كلام في الفناء وغير ذلك مما حقيقة يؤخذ عليه بل شنع عليه بعض أهل العلم( ) وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يدافعان عنه لكن هناك بعض أهل العلم شنعوا عليه لكن على كل حال يقول هنا الإمام ابن القيم " والكلمة الواحدة يقولها اثنان أي يقولها شخصان أو رجلان يريد أحدهما بها أو يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق يعني كلمة واحدة تخرج من شخص أحدهما مبطل بها والثاني محق بها يقول الإمام ابن القيم " والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه يعني كيف نحملها على المعنى الحق أو نحملها على المعنى الباطل نرجع إلى سيرة هذا القائل وإلى طريقته ومنهجه الذي عرف به فتحمل على الحق إن كان سنياً وتحمل على الباطل إن كان مبتدعاً فأقول بارك الله فيكم ولم يكن سياق هذه الكلمة هذا الموضع ولها ولأخواتها سياق آخر لكن الشاهد من هذا إن شاء الله أن نعرف أن الكلام المجمل في الشخص السلفي أو من الداعية السلفي أو من طالب العلم أو من المناصر للدعوة السلفية بعلم وبصيرة هذا يحمل على المحمل الحسن وهذه مسألة من جملة المسائل التي شنع بها الحدادية عليّ وقالوا إنني أقول بحمل المجمل على المفصل وهذا خارق للإجماع وسأبين لكم ما هذا الإجماع وأين موضعه وسأبين لكم هذا الكلام الذي أنا أقوله به هو كلام أهل العلم ليس كلاماً عارضاً وليس كلاماً من هنا أو من هناك بل هو كلام أهل العلم المؤصل من أيام الصحابة إلى زمن علمائنا هذا إن شاء الله عندما يأتي الرد المفصل لكن في الرد المجمل هذا سنجيب بما تيسر الآن من جمعه أو بما تيسر الآن من تجهيزه بما جمعته ويكون في ذلك الخير إن شاء الله)).
أقول:
كلام أبو الحسن هذا يفيد القارئ أن الإمامين ابن تيمية وابن القيم لم ينتقدا أبا إسماعيل الهروي، وإنما دافعا عنه فقط وهذا ليس بجيد فإنهما –رحمهما الله- انتقداه نقداً مراً بل شنعا عليه كما شنع عليه العلماء الذين ذكر أبو الحسن أنهم شنعوا على الهروي.
ولم يحملا المجمل على المفصل المعروف عند الأصوليين، وإنما أحسنا به الظن لقرائن عظيمة وكثيرة وقويّة وهي جهاده العظيم في نصرة السنة فقد كان سيفاً مسلولاً على أهل البدع وله مؤلفات كثيرة تدعوا إلى السنة وتنافح عنها وتسحق أهل البدع ومن مؤلفاته ما نقله أبو الحسن عن الإمام ابن القيم بالنسبة لقوله الموهم للاتحاد الصوفي.
أما بالنسبة لعقيدة الفناء والجبر فقد أدانه شيخ الإسلام ابن تيمية بهما، ولم يحمل المجمل على المفصل الذي يزعمه أبو الحسن، ولشيخ الإسلام في موضع آخر من المنهاج اعتذار عن كلامه الموهم للاتحاد، فهو تارة يصرح بإدانته وتارة يعتذر له.
وليس شيء من ذلك من باب المجمل والمفصل.
وقد قلت في كتابي الحد الفاصل (ص:130-135):
((إن أهل وحدة الوجود قد استغلوا كلام أبي إسماعيل الهروي المتشابه ووجهوه إلى وحدة الوجود الخبيثة، فرأى ابن القيم بفهمه الثاقب وبصيرته النافذة أن هؤلاء الزنادقة قد افتروا على الهروي من جهة، وأنـهم ساعون في تضليل المسلمين بكلام رجل له منـزلة عظيمة عند الأمة بما له من عقيدة صحيحة دوَّنـها في كتاب (الفاروق) وفي كتاب (ذم الكلام) وبما له من صراع مرير مع الأشاعرة وغيرهم ممن خالف السلف في المنهج والمعتقد)).
ثم قلت: ((فابن القيم يوجه كلام أبي إسماعيل المتشابه توجيها صحيحا بعلم وخبرة واسعة بالكلام والمذاهب لا بالعواطف العمياء.
وهو مع كل هذا لا يترك أبا إسماعيل من وخز ونقد وذم ولأضرب للقاريء أمثلة من نقد ابن القيم اللاذع للهروي خلال ست صفحات فقط من كتاب (مدارج السالكين) قال رحمه الله في (1/147): (وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع وجاء بما يرغب عنه الكمل من سادات الكمل والواصلين إلى الله).
وقال في (1/148) بعد أن بين الفرق الواضح بين كلام أبي إسماعيل وبين كلام أهل عقيدة وحدة الوجود: (فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزندقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه، وأقسموا بالله جهد أيمانـهم إنه لمنهم وما هو منهم وغره سراب الفناء فظن أنه لجة في بحر المعرفة وغاية العارفين وبالغ في تحقيقه وإثباته فقاده قسرا إلى ما ترى).
وقال في (1/152) بعد أن دفع تعلق الاتحادي بكلام أبي إسماعيل: (وإنما مراده انتفاء الحاجب عن درجة الشهود لا عن حقيقة الوجود، لكنه باب للإلحاد، هؤلاء الملاحدة منه يدخلون).
وقال في (1/153) (قوله: (الدرجة الثالثة: الفناء عن شهود الفناء)) فشرح الإمام ابن القيم – رحمه الله – هذا الكلام لأبي إسماعيل ثم تعقبه بقوله: (وسنذكر إن شاء الله أن العبد لا يدخل بـهذا الفناء والشهود في الإسلام فضلا أن يكون به من المؤمنين فضلا أن يكون به من خاصة أولياء الله المقربين فإن هذا شهود مشترك لأمر أقر به عباد الأصنام وسائر أهل الملل أنه لا خالق إلا الله).
فهذا كلام ابن القيم في بضع صفحات فكم من الانتقادات في ثلاث مجلدات؟.))
وقلت أيضا:
((وأما شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فله نقد قوي لأبي إسماعيل الهروي، ثم بعد هذا النقد قد يعتذر له لأسباب قوية من علمه وجهاده للبدع وفي نصرة السنة، ولا يمكن أن يعتذر لمثل سيد قطب، لماضيه المظلم ولحياته كلها التي يتخبط فيها في البدع الضلالات.
قال رحمه الله في (منهاج السنة)( ) عن الهروي وكتابه (منازل السائرين):
(وقد ذكر في كتابه (منازل السائرين) أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة، ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد...) ثم ساق كلاما طويلا من منازل السائرين في تقسيم التوحيد ثم ناقشه فيه نقاشا علميا يليق بعلمه ومكانته – أي ابن تيمية رحمه الله -... ثم قال: (وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية، لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحِكَم كما هو قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه، والأشعري وغيره)( )، فانظر إلى هذا النقد الصريح الواضح الجلي لما في كلام الهروي من الانتهاء إلى حقيقة الاتحاد ثم إلى القول بالجبر وبعد هذا النقد الواضح الجلي الذي جَلَّى خلاله هاتين الحقيقتين قال: (وشيخ الإسلام، وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات، وقد صنف كتابه (الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة) وصنف كتاب (تكفير الجهمية)، وصنف كتاب (ذم الكلام وأهله) وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات، لكنه في القَدَر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب، والكلام في الصفات نوع، والكلام في القدر نوع، وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء، فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التي تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص)( ).
... ثم استمر يناقش أقوال الهروي في الجبر ويطعن طعنا شديدا في الجبرية القائلين بتلك الأقوال التي يقولها الهروي فمن هذه المناقشات المرة الصعبة قوله ناقدا للهروي ومن على مذهبه في الجبر (وقول القائل (يسلك سبيل إسقاط الحدث)( ) إن أراد أني أعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أني أسقط الحدث من قلبي، فلا أشهد محدثا – وهو مرادهم – فهذا خلاف ما أمرت به وهو خلاف الحق، بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته، بما خلقه من الأسباب، ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شيء قط( )...) ثم استمر ينتقد كلام الهروي نقدا شديدا لاذعا يتخلله وصف بالضلال والجهل وبالحلول والاتحاد( ).
نعم بعد إدانة كلام الهروي والحكم عليه بما يستحقه قد يتلمسان( ) الأسباب لعذره لأدلة قوية من علمه وجهاده لأهل البدع والضلال وبالمؤلفات الواسعة في بيان الحق ونصره وهدم البدع والضلال ثم بعد ذلك كله يبقى القاريء حرا فإما أن يقتنع بـهذا العذر وإما لا يقتنع فلا إلزام بـهذا ولا ذاك.)) ا.هـ
هذا بالنسبة لقضية القول بالاتحاد أما ما عداه فلا كما رأيت وكما أشرت سلفاً في قضايا التكفير لا يكفرون وأعتقد أنهم يلجأون إلى أصل آخر وهو الاستصحاب أي بقاء ما كان على ما كان لا إلى ما يزعمه أبو الحسن من حمل المجمل على المفصل، لأن كلمة الكفر لا تحتمل التوحيد بل هي تضادها التضاد الشديد.
رابعاً: المجمل والنص والظاهر والمبين عند الأصوليين.
أ - المجمل: هو مالا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين، وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
ب- المبين: هو ما قابل المجمل وهو ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين من نص، أو ظهور أو بعد البيان.
ج - النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال.
د - الظاهر: وهو ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر.
فأنت ترى أن المجمل ما لا يفهم منه معنى عند الإطلاق أو ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك مثل الألفاظ المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة وغيرهما، والقرء للحيض والطهر، والشفق للبياض والحمرة، ولك أن تسأل أبا الحسن هل عرج من قريب أو بعيد على المجمل والمبين عند الأصوليين وسائر العلماء.
بل هل هو يعرف المجمل والمفصل المعروفين عند الأصوليين بل عند طلاب العلم ولك أن تسأله لماذا تَعْمد إلى كلام أهل البدع والباطل الواضح كالشمس في معانيه، إما نصوص أو ظواهر فتجعلها من باب المجملات ثم تحملها على ما تسميه المفصل وهو ليس بالمفصل ولا بالمبين المعروف عند الأصوليين.
ألا إن هذا عدوان على اصطلاحات وتأصيلات علماء الإسلام التي ساروا عليها من فجر تاريخ تدوين علم الأصول وقواعده.
هذا العلم العظيم الذي وضع خدمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهل أخذت تعريف المجمل والمفصل من الإمام ابن القيم المحدث الفقيه الأصولي وهل قال ابن القيم إنّ عادة الرجل وسيرته هي المفصل وأخطاؤه أو ضلالاته هي المجمل.
خامساً: بيان دلالات سياقات الكلام وأنها تعين المجمل
وبيان عدم التفات أبي الحسن لهذا الأصل العظيم.
أولاً: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج (3/236) في رده على الرافضي ابن المطهر " وأما جوابه عن احتجاجهم بقوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " بأن المراد الأصنام، فلا ننازعه بأن المراد بذلك الأصنام، فإن هذا هو أصح القولين، و"ما" بمعنى " الذي"، ومن قال: إنها مصدرية والمراد والله خلقكم وعملكم، فهو ضعيف، فإن سياق الكلام إنما يدل على الأول، لأنه قال: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون" فأنكر عليهم عبادة المنحوت، فالمناسب أن يذكر ما يتعلق بالمنحوت، وأنه مخلوق لله والتقدير والله خلق العابد والمعبود، ولأنه لو قال: والله خلقكم وعملكم لم يكن في هذا ما يقتضي ذمهم على الشرك، بل قد يقال: إنه عذر لهم))
والشاهد أخذ شيخ الإسلام بدلالة السياق.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (16/520) وهو يفسر سورة التكاثر ويرد التفسيرات الفاسدة لقول الله تعالى: كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم .
قال: " وجوابه أن سياق الكلام يقتضي الوعيد والتهديد حيث أفتتحه
بقوله: ألهاكم التكاثر، وأيضاً فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد غالباً أو في الوعد وإذا كان العلم مقيداً بالسياق اللفظي وبالوضع العرفي، فقوله: (لو تعلمون) هو ذاك العلم أخبر بوقوعه مستقبلاً ثم علق بوقوعه حاضراً وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علماً هو بيقين".
وقد تعلق بكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ظن أنه يؤكد ما يدعو إليه من حمل المجمل على المفصل، فرددت عليه في تنبيه أبي الحسن بالكلام الآتي:
((هل شيخ الإسلام يريد بهذا الكلام وضع قاعدة لكلام أهل البدع ومواقفهم وأحوالهم من روافض وجهمية ومعتزلة وقدرية ومرجئة وصوفية وأشعرية وماتريدية، ولمن سيأتي بعدهم من أهل البدع والتحزبات السياسية؟!.
إن هذا الكلام رد فعل لعمل رجل أفاك متجن على شيخ الإسلام ومكفر له، رغم أنه يقرر التوحيد ويرد الشرك والضلال بأساليب واضحة وعبارات صريحة فقال هذا الكلام من باب فرض مالم يقع أنه قد وقع، لدفع ظلم معين من شخص جاهل ظالم ، وليس معنى كلامه وضع الحبل على الغارب لأهل الأهواء أن يتكلموا بالمجملات والمتشابهات، بل وبالألفاظ والمقالات المسهبة في تقرير الباطل، فإذا نوقشوا في هذه التصرفات الفاسدة فزعوا إلى المجمل والمفصل والصريح والكناية.
شيخ الإسلام لا يريد بهذا الكلام التأصيل وإنما على الوجه الذي ذكرنا،ولو علم أنَّ بعض الناس سيتعلق بكلامه هذا لما قاله، انظر إلى قوله -رحمه الله- خلال كلامه في رده على بعض الناس الذين يتعلقون ببعض قواعد الأئمة فينصرون باطلهم وحيلهم، قال -رحمه الله- :((فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها))"بيان بطلان التحليل"(ص215).
ونحن نقول لو علم شيخ الإسلام ما يفضي إليه كلامه هذا لم يقله، ولو فرضنا أنه يراه قاعدة، فإنما مراده المجمل الذي يرافقه البيان في نفس السياق وتقييد المطلق في نفس السياق.
والأدلة على ذلك كثيرة:
1-حياته التي كلها جهاد ونقد لأهل الأهواء وأهل الأخطاء، ولو كان يعتقد مضمون هذا الكلام العارض لما أفنى حياته في رد الأباطيل الصريحة والمجملة التي زخرت بدحضها ونقدها كتبه الكثيرة التي تملأ مكتبة.
2-قال البكري في كتاب الاستغاثة :(2/609-610) "إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للنبي صلى الله عليه وسلم فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه، علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أقواله وأفعاله وغيره ليس كذلك"
فأجابه شيخ الإسلام بقوله:" هذا مبني على صدور عبارة موهمة، وقد تقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها بل نص لا يحتمل معنيين، فضلا عن كونها توهم غير ما أريد بها، وأيضاً فغير الرسول إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام، كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام، وأيضا فإذا كان الوهم لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس" .
فانظر كيف علق الجواز على كون اللفظ الموهم مقروناً بما يزيل الإيهام ومضمونه، أنه إذا لم يقرن بما يزيل الإيهام فإنه غير جائز لما فيه من التلبيس.
3- قـال شيخ الإسلام خلال ردوده على البكري في كتابه " الاستغاثة" (2/522): (( وقد يكون اللفظ مطلقا لتقييده بسؤال السائل مثل أن يقال: هل يصلى عليه عند الذبح؟فيقال لا يصلى عليه، أو يقال: هل يستغاث به بعد موته أو في مغيبه؟، فيقال: لا يستغاث به، لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئا، ولا يستشفع به بمعنى أنه ليس أهلا لذلك لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا، وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس إلا حيث يجوز التعريض خاصة وليس هذا موضع تعريض، ولو قدر أن مطلقا أطلقها وكنى( كذا ولعله عنى ) بها معنى صحيحا و المستمع فهم منها الكفر لم يكفر المتكلم بذلك لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد)).
أقول ونفي الكفر عن هذا المتكلم لا يعني أنه يجوز له إطلاق اللفظ الموهم، لأنه من التلبيس المنافي للبيان الذي يقصد من الكلام، وقد اشترط شيخ الإسلام والحمد لله صحة المعنى.
4- وسبق شيخ الإسلام أئمة الإسلام في رد الضلالات والأخطاء، ومنهم الليث بن سعد والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من أئمة الإسلام، وجرحوا المجروحين في ضلالهم وأخطائهم وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص كثيرة معروفة،ولو كانت هذه القاعدة شرعية لما وجدت شيئاً من هذا النقد والجرح.
والإجمال والإطلاق هو سلاح أهل الأهواء ومنهجهم والبيان والتفصيل والتصريح هو سبيل أهل السنة والحق.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وعليك بالتفصيل والتبــين فالــ إجمال والإطلاق دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الــ أذهـان والأراء كل زمان
والأدهى من هذا أن كلام بعض أهل الباطل واضح صريح في الباطل، ثم تجد من يدخله في باب الإجمال ويتعلق في نصرة رأيه بأوهى الخيوط والحبال، فعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى الحق وينصروا الحق ويقولوا به ويشهدوا به لأهله ويردوا الباطل، ويشهدوا به على أهله، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم والوالدين والأقربين الآية. )).
وهذا الكلام من شيخ الإسلام وذاك وتطبيقاته الكثيرة في نقد أهل الباطل وغيره وكلام العلماء وموقفهم وتطبيقاتهم تجتث ما يقوله ويدعو إليه أبو الحسن من جذوره.
ثانياً: قال الإمام بن القيم في بدائع الفوائد (4/9-10) [الطبعة المنيرية]:
((السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى :ذق إنك أنت العزيز الكريم كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير)).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة (1/302-304):
(( الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء، فهذا الموضع مما يغلط فيه كثير من الناس غلطاً قبيحاً، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم ويعرف مراد المتكلم بطرق:
1- منها أن يصرح بإرادة ذلك المعنى.
2- ومنها أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ولا تبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى.
فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له كقوله: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء164).
" وإنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ".
" والله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأيس منها فنام ثم استيقظ فإذا راحلته عند رأسه فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته ".
فهذا مما يقطع السامع فيه بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة له كان صادقاً في إخباره.
وأما إذا تأول كلامه بما لم يدل عليه لفظه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره أن هذا مراده كذب عليه إلى أن قال رحمه الله: " وحقيقة الأمر إن قول القائل نحمله على كذا أو نتأوله بكذا إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ على ما وضع له، فإن منازعه لما أحتج عليه به، ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال أحمله على خلاف ظاهره "( ) .
ثالثاً: وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (4/297) مع العدة للصنعاني في شرح حديث البراء بن عازب رضي الله عنه -: وفيه قال رسول الله عليه الصلاة والسلام " الخالة بمنـزلة الأم ".
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: " الحديث أصل في باب الحضانة وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم وقوله عليه الصلاة والسلام
" الخالة بمنـزلة الأم " سياق الحديث يدل على أنها بمنـزلتها في الحضانة وقد يستدل بإطلاقه أهل التنـزيل على تنـزيلها منـزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى، فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنـزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم( ) وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر ".
وقال الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول ص162:
" المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق، قد تردد قول الشافعي في ذلك وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانه " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك باباً فقال باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه وذكر قوله سبحانه " وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " قال فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله:
" إذ يعدون في السبت " قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم. قال ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما أشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصاً فلا يمنع أن يورد لفظ عام بتناوله وغيره كما في " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ".
ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه مالا يمكنك حصره انتهى. والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك.
وإن لم يكن السياق بهذه المنـزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص.
أقول: وكلام العلماء من أصوليين ومفسرين وغيرهم ولا سيما ابن تيمية وابن القيم وابن كثير في أن السياقات تدل على مقاصد المتكلمين.
ولم يُعر أبو الحسن المأربي أي اهتمام لسياقات كلام من يدافع عنهم بحمل المجمل على المفصل، بل إن كلامهم الذي يدافع عنه يكون من الواضح المبين المفصل فيجعله من المجملات، وذلك من الشغب والمغالطات ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز ذلك إلى رمي من يرد الباطل ويذب عن السنة ومنهج السلف بالغلو ويقذفهم بشتى التهم ويشتمهم بالألفاظ المقذعة كالأصاغر والأراذل والهدامين والمفسدين وأعداء الدعوة وخصومها وحدادية... إلخ.
انظر في النصوص التالية من نصوص من يدافع عنهم فهل تراها في غاية الوضوح والصراحة في الدلالة على معانيها، وسياقاتها وسباقاتها تدل على مقاصد قائليها أو تراها كما يزعم أبو الحسن من المجملات.
(1) يقول سيد قطب في تفسير سورة الإخلاص:
"إنها أحدية الوجود، فليس هناك حقيقة إلا حقيقته، وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده، وكل موجود آخر؛ فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية، وهي من ثم أحدية الفاعلية، فليس سواه فاعلاً لشيء أو فاعلاً في شيء في هذا الوجود أصلاً، وهذه عقيدة في الضمير( )، وتفسير للوجود أيضاً.
فإذا استقر هذا التفسير، ووضح هذا التصور؛ خلص القلب في كل غاشية ومن كل شائبة ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية، خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود، إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلاً؛ فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية؛ فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته؟!.
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله؛ فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها، وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه، ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئاً في الكون إلا الله؛ لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله( ).
كذلك ستصحبه نفي فاعلية الأسباب، ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت، وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني، ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائماً( )، ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( )
وَمَـا النَّصْـرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ( ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ( )، وغيرها كثير.
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها، تنسكب في القلب الطمأنينة، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب، ويتقي عنده ما يرهب، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود"( ).
(2) ويقول:
"وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحقيقة الواقعية بكل خصائصها ويزاولون الحياة البشرية والخلافة الأرضية بكل مقوماتها، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله، وأن لا وجود إلا وجوده، وأن لا فاعلية إلا فاعليته… ولا يريد طريقاً غير هذا الطريق"( ).
ولسيد قطب كلام نحو هذا في تفسير سورة الحديد (6/3479-3480) من كتاب الظلال، وقد صرح بذلك في ديوانه الشعري شعراً ونثراً وأكد ذلك بدفاعه عن عقيدة النيرفانا التي تتضمن عقيدة الحلول ووحدة الوجود ووحدة الأديان وعقيدة التناسخ وكل نص من نصوصه واضح وصريح وسياقه وسباقه في غاية الدلالة على مقاصده، فإن كانت هذه النصوص مجملات فلا يوجد في كلام البشر كلهم كلامٌ مفصلٌ بسبب هذه السفسطة التي اخترعها عبدالله عزام وتابعه عليها القطبيون والأخوان المسلمون وعدنان عرعور ثم أبو الحسن الذي عاش على ذلك دهراً وأحدث من أجله فتناً لا يرأب صدعها إلا الله ثم أبدى لنفسه معاذير -الله يعلمـها- ولكنهـا هل ترأب الصـدع العظيـم الذي أحدثته هذه الفتنة العمياء.
وبقي من ذيول دفاع أبي الحسن عن سيد قطب: مخالفته للعلماء في إدانة سيد قطب ورميه إياهم بالغلو وتنـزيله أحاديث الخوارج عليهم.
ورميه إياهم بالخطأ فيما ناقشوا فيه سيد قطب من ضلالاته الكبرى الكثيرة، حيث قال :
((وهناك اعتراضات كثيرة منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ))، فعليه أن يبين هذا الخطأ ليزيل هذا التشكيك في نقدهم الحق الذي يرى السلفيون أن نقدهم لسيد قطب كله صواب وعليه أن يعلن التوبة من رمي هؤلاء العلماء مما رماهم به مما ذكرنا عنه آنفاً.
(3) وقال المغراوي في تفسير سورة البقرة رقم (14) وجه (أ) ـ تسجيلات أهل الحديث ـ الدار البيضاء:
((إذا كانت الأمة تتواتر، وتتواصى، وتتفق على المعصية، وتتفق على الشرك، وتتفق على الانحراف، وتتفق على التبرج، وتتفق على الانسلاخ من دين الله، وتتفق على الردة، وتجهل كل المخالفات، ماذا يقع لها؟ ماذا تريدون؟
فلابد أيها الإخوة من هذا الربط، لابد نربط واقعنا بهذه الآيات( ) التي أنزلها الله على نبينا محمد وستبقى إن شاء الله إلى أن تقوم الساعة: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه)).
(4) وقال في نفس الشريط:
((نريد أن نسعد وأن تكون عندنا جميع المقومات للحياة، ونحن لا يد لنا في الخير ولا أصبع لنا في الخير، نزل القرآن هجرناه جاءت السنة ضيعناها، ما عندنا عناية بكتاب الله، ما عندنا عناية بسنة رسوله، ما عندنا عناية بعقيدتنا، المجتمع منفك، المجتمع منغمس في المحرمات، المجتمع منتكس غالبه مرتد.
كيف؟ كيف تتحقق السعادة؟ كيف يتحقق الأمن؟ كيف تتحقق سياسة؟ كيف يتحقق الاقتصاد؟)).
(5) وقال في كتاب العقيدة السلفية "موقف مالك من العقيدة السلفية" (ص:158-159) معلقاً على حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم- في الخوارج وفيه:((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )).
: ((وهذا الحديث الذي أورده الإمام مالك في موطئه من عجيب آيات النبوة فإن هذا الوصف الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ينطبق تمام الانطباق على كثير من المبتدعة تشاهدهم كثيري الصلاة، كثيري الحج والعمرة، كثيري البذل للمال ولكن مع هذا ماعندهم من الإسلام شعرة واحدة، فسبحان من اختار نبينا -صلى الله عليه وسلّم- وأنطقه بالنبوة، وكما وصف الله تبارك وتعالى العابدين الخاشعين، ولكن لما لم يكن عندهم عقيدة صحيحة واتباع لنبينا -صلى الله عليه وسلّم- فإنهم يصلون جهنم هل أتاك حديث الغاشية، وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية فالحديث ينطبق مع الآية ويسير بحذوها وهو تفسير لها، فمبتدعة الخارجين عن أهل السنة والجماعة حظهم من الإسلام كما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فالميزان هو الميزان النبوي، والميزان هو الميزان السلفي وعبادة وعمل لاينبني على ذلك، فيرجع إلى هذا الحديث، فخلوات الصوفية وتعبداتهم بالأذكار المبتدعة والطرق المخترعة وإحداثهم في دين الله ماليس منه، فكله من هذا الباب". أ.هـ
(6) وقال في كتاب العقيدة السلفية موقف مالك من العقيدة السلفية، المطبعة الوطنية، مراكش، 1991، (ص55):
: ((وهكذا نلاحظ الإمام مالك والمالكية رحمهم الله يجعلون مفارقة الإسلام رافعة للعصمة والولاية، وأنه لالقاء بين مرتد ومسلمة، وبين مرتدة ومسلم، فكيف في هذه الأزمنة التي اختلط فيها الحابل بالنابل لايميز فيها بين المرتدين والمرتدات، والمسلمين والمسلمات وما أكثر الأولين وأقل الآخرين، وماأكثر مانسمع من عقود تعقد على كثير من المرتدين على المسلمات، والله المستعان )).
(7) وقال في شريط مرئي، صفات المنافقين (3) 22/6/1996.
: (( أين القرآن في نفوس الناس، وأين السنة في نفوس الناس، حالهم تنبئ عن هذه الآية، كأن هذه الآية تتحدث، يعني لو جمعت المسلمين في الكرة الأرضية في مكان واحد وفي صعيد واحد لنطقت هذه الآية وتكلمت: صم بكم عمي.
لأن هذا لايمكن، لايمكن أن الأمة ينـزل فيها قرآن ويبعث فيها نبي ويترك لهم سنن، وتحفظ هذه السنن، وتجد حالة المسلمين على عكس ذلك: لاعقيدة، لاتوحيد، لاشريعة، لاحكم، لاصلاة، إلى الله المشتكى)).
ومن العجائب والغرائب أنّ أبا الحسن يجعل هذه النصوص الواضحة المفصلة الدالة على مقاصد قائلها دلالات واضحة من المجملات فلا ندري على أي منهج يسير هذا الرجل وبأي لغة يفهم ويعقل ولا ندري من يخاطب بهذه اللغة والتأصيل وبهذا المنهج الغريب.
وأخيرا أقول:
اللهم اهد شباب الأمة لأقوم السبل وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن وثبتنا وإياهم على الحق.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
19/ربيع الأول/1423هـ