[center]
تصحيح الفهم والخاطر
لحديث البركة مع الأكابر
[/
مقدمة مؤلف عفا الله عنه
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
فقد تمسك كثير من أهل الأهواء في هذه الآونة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البركة مع أكابركم». لتكميم أفواه أهل السنة لئلا ينتقدوا على كبرائهم بحجة أن هؤلاء النقاد صغار الأسنان فلا يصلح للكلام في الأكابر.
وقد رددت عليهم هذه الشبهة في بعض الرسالة، والتوفيق الله من الله وحده.
ثم إني رأيت تسرب هذه الشبهة في أوساط إخواننا السلفيين فيحومون حولها لحماية بعض الأكابر الذين قد ثبت مكره وبغيه على أهل السنة ، وعناده للحق والنصح الرفيق، وظهرت تأصيلاته المنحرفة.
فرأيت أهمية تكرار التنبيهات وتصحيح الأفهام والقرائح حول هذا الحديث المذكور مع بعض إضافات مهمة لعل الله عز وجل أن ينفعني وإخوتي بها، فنستقيم على الصراط السوي بسداد الفهم ولا إفراط ولا تفريط.
فقلت –وبالله التوفيق-:
الباب الأول: حال حديث ابن عباس المذكور
قال ابن حبان رحمه الله: أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلم قال : حدثنا عمرو بن عثمان قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا ابن المبارك بدرب الروم عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «البركة مع أكابركم». ("صحيح ابن حبان" برقم (559)).
والحديث أخرجه أيضاً الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (355)، والطبراني في "الأوسط" (8991)، كلهم من طريق عبد الله بن المبارك ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.
ظاهر السند الصحة، ولكن تكلم فيه الحفاظ.
قال ابن حبان رحمه الله: لم يحدث بن المبارك هذا الحديث بخراسان إنما حدث به بدرب الروم فسمع منه أهل الشام وليس هذا الحديث في كتب ابن المبارك مرفوعا. ("صحيح ابن حبان" /2 / ص 320).
وقال الزركشي رحمه الله: رواه ابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عباس مرفوعا، وقال الحاكم: على شرط البخاري. وفي صحته نظر وله علة وهي: أن الوليد بن مسلم روى من حديث ابن عباس وأنس. فحديث ابن عباس رواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس. وابن المبارك حدث به الوليد بدرب الروم ولم يكن كتبه معه، وهو في كتب ابن المبارك غير مرفوع، ولم يحدث به بخراسان.
قال الصيرفي: رواه جماعة عن الوليد، وعن نعيم أيضا عن الوليد. وقيل: عن نعيم عن ابن المبارك، وسوّوهم لأن نعيما قد سمع من ابن المبارك غير أن هذا الحديث سمعه من الوليد عنه، قاله الحافظ أبو موسى المديني.
وقال ابن أبي السري عن الوليد: كنا مع ابن المبارك في بلاد الروم، فتذاكرنا أم الكتاب، فحدثنا ابن المبارك بهذا. ولم يروه عن خالد الحذاء إلا ابن المبارك. وقد رواه ابن هشام بن عماد عن الوليد عن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقيل: إنه الأصوب.
(انتهى من "اللآلي المنثورة في الأحاديث المشهورة"/ للزركشي /ص 80).
وقال محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله: والأصل فيه مرسل. ("ذخيرة الحفاظ" /2 / ص 1126).
وقال ابن عدي رحمه الله: وهذا لا يروى موصولاً إلا عنِ ابْن المبارك روى عَنْهُ نعيم بْن حَمَّاد، والوليد بْن مسلم وبقية هَذَا والأصل فيه مرسل. ("الكامل في ضعفاء الرجال" /2/ص 270).
فالحديث مرسل.
وله شاهد لا يفرح به، من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه ابن عدي رحمه الله فقال: حدثنا أبو علي الجوعي محمد بن سليمان بن الحسين بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم بصرفندة أنا سألته كان يتصوف فلقب بالجوعي ثنا عبد السلام بن عتيق أبو هشام الدمشقي ثنا محمد بن بكار بن بلال عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم البركة من الأكابر. ("الكامل في الضعفاء"/3/ص374).
في سنده أبو علي الجوعي محمد الجوعي، مجهول.
وفي سنده أيضا: سعيد بن بشير صاحب قتادة، وهو منكر الحديث. ("ميزان الاعتدال"/2/ص128).
وله شاهد موقوف، كما أخرجه ابن خزيمة رحمه الله: حدثنا سلم بن جنادة حدثنا ابن إدريس عن عاصم ابن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال : كان عمر يسألني مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يقول : لا تكلم حتى يتكلموا. فسألهم عن ليلة القدر فقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اطلبوها في العشر الأواخر وتراً ثم ذكر قصة ابن عباس مع عمر. ("صحيح ابن خزيمة" برقم (2173)).
سلم بن جنادة هو أبو السائب الكوفي العامري، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/4/ص 113).
وابن إدريس هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري أبو محمد الكوفي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/5/ص 126).
وعاصم ابن كليب هو ابن شهاب بن المجنون الجرمي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/5/ ص49).
وأبوه كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي ثقة. ("تهذيب التهذيب"/8/ص400).
فأثر عمر رضي الله عنه صحيح.
وله شاهد آخر من حديث سهل بن أبي حثمة ورجال من كبراء قومه رضي الله عنهم في قصة مقتل عبد الله بن سهل : ... وأقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحيصة: «كبر كبر» يريد السن. (أخرجه البخاري (7192) ومسلم (1669)).
فحديث ابن عباس المرفوع حسن لغيره.
فهل الحديث يقتضي عدم جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحذير الأمة من الشر وأهل الشرور إلا بعد أن تكلم في ذلك الأكابر؟ وما توجيه هذا الحديث؟
الباب الثاني: الأجوبة عن احتجاج القوم بهذا الحديث
الجواب عن احتجاجهم به على منع الكلام في هذه الأمور حتى أن يتكلم فيها الأكابر ما يلي:
الجواب الأول: أن المعتبر العلم الكافي والعقل الصحيح، ووفاء شروط الاجتهاد، وليس كبر العمر شرطاً لصحة الكلام في الموضوع.
قال أبو هلال العسكري رحمه الله: العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه على سبيل الثقة. ("الفروق اللغوية"/للعسكري/ص94/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام ابن الوزير رحمه الله: فالعلم الحق ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك. ("إيثار الحق على الخلق"/ص 120).
والفقه لغة الفهم، أو فهم مراد المتكلم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه. ("إعلام الموقعين"/العبرة بالإرادة لا باللفظ /1/ص176/دار الحديث).
والفقه شرعاً كما قاله أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه الفيروزابادي رحمه الله : الفقه : معرفة الأحكام الشرعية، التي طريقها الاجتهاد. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص190/مكتبة التوعية الإسلامية).
والفقيه كما قال الإمام أبو البركات عبد السلام بن تيمية رحمه الله: فالفقيه حقيقة من له أهلية تامة يعرف بها الحكم إذا شاء بدليله مع معرفة جملة كثيرة من الأحكام الفرعية وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة. ("المسودة"/ص 510).
وما شروط الاجتهاد؟
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا، قد ثبت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها. ("إرشاد الفحول"/2 /ص1027/الريان).
وقال رحمه الله: وإنما يتمكن من ذلك بشروط. الأول: أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا، ولا يجوز له الاجتهاد، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة، بل ما يتعلق منهما بالأحكام. –إلى قوله:-
الشرط الثاني: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل.
الشرط الثالث: أن يكون عالما بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه –إلى قوله:-
والحاصل: أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة()، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن. قال الإمام الشافعي: يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه. قال الماوردي: ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره.
الشرط الرابع: أن يكون عالما بعلم أصول الفقه، لاشتماله على ما تمس حاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته، ومطولاته، بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه. –إلى قوله:-
الشرط الخامس: أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ.
(انتهى من "إرشاد الفحول"/2/ص1027-1032/الريان).
فمن وفى هذه الشروط فهو مجتهد، ولا يلزم أن يكون كبر سنه.
الجواب الثاني: ولا يشترط ألا يتكلم في هذا الميدان إلا المجتهد المطلق. بل كل من علم في مسألة معينة علما راسخاً فهو المجتهد فيها، ويجوز له الكلام فيها، وخلافه فيها معتبر كما أن وفاقه فيها معدود.
قال السرخسي رحمه الله: واعلم أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أحكام الشرع، وليس الاجتهاد عند العامة منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يفوز العالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض. فمن عرف طرف النظر في القياس فله أن يفتي في مسألة قياسية, وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث. ("أصول فخر الإسلام"/11/ص440).
وقال الزركشي رحمه الله: الصحيح جواز تجزؤ الاجتهاد ، بمعنى أنه يكون مجتهدا في باب دون غيره وعزاه الهندي للأكثرين. ("البحر المحيط"/8/ص96).
وقال ابن النجار الفتوحي رحمه الله: الاجتهاد يتجزأ عند أصحابنا والأكثر ، إذ لو لم يتجزأ لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع الجزئيات ، وهو محال إذ جميعها لا يحيط به بشر ، ولا يلزم من العلم بجميع المآخذ : العلم بجميع الأحكام ; لأن بعض الأحكام قد يجهل بتعارض الأدلة فيه ، أو بالعجز عن المبالغة في النظر ، إما لمانع من تشويش فكر. ("الكوكب المنير شرح مختصر التحرير"/3/ص26).
فهذا النقولات وأمثالها تردّ على من أنكر على طالب علم متمكن أن يتكلم في مسألة يحسنها بعلة سكوت الأكابر، وقد وصل مرتبة الاجتهاد فيها. وفي ذلك أيضا ردّ على جعل المعتبر هو كبر السن لا رسوخ العلم في المسألة.
الجواب الثالث: يحتمل أن يكون المراد هنا كبر السنّ ويحتمل كبر العلم. وعلى كلا الاحتمالين: الحديث لا يتكلم في شروط الخوض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الأباطيل وأهلها.
قال الحافظ محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي رحمه الله في شرح هذا الحديث -وما في معناه- ذكر أنه يجوز أن يريد بذلك: ذوو الأسنان والشيوخ الذين لهم تجارب، وقد كملت عقولهم، وسكنت حدّتهم، وكملت آدابهم، وزالت عنهم خفة الصبي، وحدة الشباب، وأحكموا التجارب، فمن جالسهم تأدب بآدابهم، وانتفع بتجاربهم، فكان سكونهم ووقارهم حاجزا لمن جالسهم، وزاجرا لهم عما يتولد من طباعهم، ويتبرك بهم(). ويجوز أن يريد بذلك: الكبراء في الحال، ومن له رتبة في الدين، ومنزلة عند الله، وإن لم يكن كبيرا في السن. ("معاني الأخبار"/ للكلاباذي/ص 100).
وقال المناوي رحمه الله: «البركة مع أكابركم» المجربين للأمور المحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أو المراد من له منصب العلم وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه وتعالى. ("فيض القدير شرح الجامع الصغير"/رقم (3205)).
فإن كان الراجح هو الاحتمال الثاني: أن البركة مع العلماء، لا مجرد كبار السنّ، فصار الحديث حجة على الملبسين المشترطين لكبر السن لا رسوخ العلم. وقد رجحه بعض الأئمة. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وقال بعض أهل العلم: إن الصغير المذكور في حديث عمر وما كان مثله من الأحاديث: إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده، وإن الكبير هو العالم في أي سن كان، وقالوا: الجاهل صغير وإن كان شيخًا، والعالم كبير وإن كان حدثًا. ("جامع بيان العلم" /1/ص 499-500/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ومما يدل على أن الأصاغر ما لا علم عنده: ما ذكره عبد الرزاق وغيره، عن معمر، عن الزهري، قال: كان مجلس عمر مغتصًّا من القراء شبابًا وكهولًا، فربما استشارهم ويقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء. ("جامع بيان العلم" /1/ص 501/دار ابن الجوزي).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ (أخرجه البخاري/(6830)/دار الكتب العلمية).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: ففيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانهم أو قلّت أقدارهم، وقد كان حكيم ابن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له تقرأ على هذا الغلام الخزرجي فقال: إنما أهلكنا التكبر اهـ. ("كشف المشكل"/مسند عمر بن الخطاب/1/ص63/دار الوطن).
وقال ابن المديني رحمه الله: إنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِالسِّنِّ اهـ. ("الآداب الشرعية"/للإمام ابن مفلح/فصل في أخذ العلم عن أهله وإن كانوا صغار السن/ص364/مؤسسة الرسالة).
وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: الْغُلَامُ أُسْتَاذٌ إذَا كَانَ ثِقَةً اهـ. ("الآداب الشرعية"/للإمام ابن مفلح/نفس المصدر).
الجواب الرابع: ولو فرض أن المراد كبر الأسنان، ليس في الحديث ما يدل على أنه من شروط الخائض في المسألة. إنما هذا من باب الحث على مجالستهم، وتوقيرهم، وفضيلة ذلك. وقد أخرجه ابن حبان رحمه الله في "صحيحه" (559) في باب: ذكر استحباب التبرك للمرء بعشرة المشايخ أهل الدين والعقل.
والحديث أخرجه البيهقي رحمه الله في "شعب الإيمان" (10493) في باب: رحم الصغير وتوقير الكبير. وأخرجه الخرائطي رحمه الله في "مكارم الأخلاق" (355) باب: إكرام الشيوخ وتوقيرهم. وقال الحافظ محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي رحمه الله بعد أن ذكر هذا الحديث: وقد أمر بتوقيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يوقر كبيرنا، فليس منا». ("معاني الأخبار"/ للكلاباذي/ص 100).
الجواب الخامس: ويحتمل أن يراد بالأكابر: هم الصحابة رضي الله عنهم، والصلحاء، وأصحاب الشرف، لا مجرد كبر السن. فالحديث أخرجه أيضا الإمام ابن عبد البر رحمه الله في "الجامع لبيان العلم" (1053) تحت باب: حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال.
وقال رحمه الله: وذكر أبو عبيد في تأويل هذا الخبر عن ابن المبارك، أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع، ولا يذهب إلى السن. قال أبو عبيد: وهذا وجه. قال أبو عبيد: والذي أرى أنا في الأصاغر: أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقدم ذلك على رأي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمهم فذاك أخذ العلم عن الأصاغر. ("جامع بيان العلم" /1/ص 496/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وقد يحتمل حديث هذا الباب أن يكون أراد أن أحق الناس بالعلم والتفقه أهل الشرف والدين والجاه، فإن العلم إذا كان عندهم لم تأنف النفوس من الجلوس إليهم، وإذا كان عند غيرهم وجد الشيطان إلى احتقارهم السبيل، وأوقع في نفوسهم أثرة الرضا بالجهل أنفة من الاختلاف إلى من لا حسب له ولا دين وجعل ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، ومن أسباب رفع العلم. ("جامع بيان العلم" /1/ص 500-501/دار ابن الجوزي).
وإذا كان المراد بالأكابر هم الصحابة رضي الله عنهم: فأسعد الناس ببركتهم هو أتبعهم لمنهجهم، سواء كان صغير السن أم كبيراً.
الجواب السادس: ليس في تركيب الكلام ما يدل على حصر البركة على الأكابر، بخلاف لو قدّم الخبر –أو المتعلق بالخبر المحذوف-، فتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، وليس في الحديث ما يدل على ذلك.
الجواب السابع: إن الله تعالى قد أشار في القرآن إلى فضيلة الشباب القائمين بدين الله. قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف/13، 14].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فذكر تعالى أنهم فتية -وهم الشباب-وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. ("تفسير القرآن العظيم"/5/ص 140).
فالبركة من الله تبارك وتعالى، وهي مع من شاء الله كباراً وصغاراً.
الجواب الثامن: واقع السلف رضي الله عنهم يدل على أن الخوض في الميدان لا يناط على كبر السن، بل يناط على الأهلية. فكم من مفت في عهد السلف وهو لم يبلغ السن الكبير. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: واستشهدوا بأن عبد الله بن عباس كان يستفتى وهو صغير، وأن معاذ بن جبل وعتاب بن أسيد كانا يفتيان الناس وهما صغيرا السن، وولاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الولايات مع صغر سنهما، ومثل هذا في العلماء كثير. ("جامع بيان العلم" /1/ص 500/دار ابن الجوزي).
وقال رحمه الله: فقد ساد بالعلم قديمًا الصغير والكبير، ورفع الله درجات من أحب. ("جامع بيان العلم" /1/ص 501/دار ابن الجوزي).
الجواب التاسع: إن الواقع في هذا العصر يدل على أن كثيراً ممن يدندن حول هذا الحديث ليصدوا عن علماء السنة هم أهل الأهواء الذين يصدون الناس عن قبول الحق تحت ستار: "إنهم صغار الأسنان!"
فيحتقرون بصغير السن وإن كان عالماً محققاً مخلصا ذكيّاً مسدداً، فيمنعون الناس من الأخذ بعلمه وجرحه وتعديله.
وقد أصيب أهل الأهواء بداء الجاهلية. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق: أن يكون المتكلم بالحق حدث السن –بالنسبة إلى من يناظره- أو قليل العلم أو الشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك، فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنا أو أقل منه علما، أو أخفى شهرة، ظنا منه أن في ذلك عليه ما يحط منه وينقص ما هو فيه، وهذا الظن فاسد فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلو والشرف في الرجوع إلى الحق، بيد من كان، وعلى أي وجه حصل اهـ. ("أدب الطلب" /ص57 /دار الكتب العلمية).
وهم بهذا الصنيع من جملة جنود إبليس. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم، ونواب إبليس وشرطه. ("مدارج السالكين"/2/ص 434).
الجواب العاشر: إن كثيرا من طلاب علم متمكنين من أهل السنة الثابتين قد بلغوا الأربعين من العمر، وهذا لا يقال إنهم صغار السن. قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ الآية. [الأحقاف/15].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾: أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين. ("تفسير القرآن العظيم"/7 /ص 280).
الجواب الحادي عشر: مما يقوّي القول بأن الأكابر هنا العلماء –لا مجرد كبار السن-: أن البركة هي ثبوت الخير ونماءه وزيادته. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وأما البركة فإنها لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئا بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر، فهو خير مستمر يتعاقب الأفراد على الدوام شيئا بعد شيء . ("بدائع الفوائد"/2/ص 675/دار عالم الفوائد).
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخير مع العلم النافع. عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ». (أخرجه البخاري (كتاب العلم/باب من يرد الله به خيرا/(71) ومسلم (كتاب الزكاة/باب النهي عن المسألة/(1037)).
وعن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». (أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن/باب خيركم من تعلم القرآن/(5027)).
وأعظم الناس بركة هو أكثرهم نفعا للمجتمع، لا مجرد كبر السن. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها. والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلّ. ("زاد المعاد"/4/ص 141).
الجواب الثاني عشر: ثم إن مشايخنا الثابتين –سواء يقال إنهم علماء أو طلاب علم متمكنين- قد صبروا على تحصيل العلوم والمعاريف والمفاهيم الدقيقة والعقيدة الصحيحة سنين طويلة مديدة، ويجمعون مدارك العلم أربعة، كما قال العلامة القرافي رحمه الله: ومدارك العلم أربعة: العقل، وأحد الحواس الخمس، والنقل المتواتر، والاستدلال. ("أنوار البروق في أنواء الفروق"/4/ص1186/ط. دار السلام).
وقد أتقنوا أساس العلم بفضل الله وحده. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول : علما، وهو النقل المصدق، والبحث المحقق، فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق. ("مجموع الفتاوى"/6/ص388).
الجواب الثالث عشر: لو فرض أن المراد بالأكابر هم كبار السنّ كما في حديث: «كبر كبر»، فهو حديث دال على فضيلة مجالستهم والاستفادة منهم. وحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (أخرجه مسلم (49)).
هذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال القرطبي رحمه الله: ولوجوبه شرطان: أحدهما: العلم بكون ذلك الفعل منكرا أو معروفا. والثاني : القدرة على التغيير. ("المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"/1 /ص149).
وليس في شروطه كبر السنّ
وقال الإمام النووي رحمه الله: وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم كما قال الامام أبو المعالى إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. ("شرح النووي على مسلم" /2 /ص22).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: فدلت الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر. ("جامع العلوم والحكم"/ص540/ط. مكتبة أولاد الشيخ).
وهو يقتضي الفور. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قصة حديبية: ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر. وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ فأخروا متأولين لذلك. وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه، وهو باطل فإنه صلى الله عليه و سلم لو فهم منهم ذلك لم يشتد غضبه لتأخير أمره ويقول : «مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور، وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة. ("زاد المعاد"/3 /ص273/ط. الرسالة).
ولاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليغيره بيده»، فإن الفاء هنا تدل على التعقيب. قال أبو زرعة العراقي رحمه الله: للفاء معنيان: أحدهما: الترتيب والتعقيب. ("الغيث الهامع"/1/ص222/ط. الفاروق).
وقال الزركشي رحمه الله: الفاء : وهي للترتيب وزيادة ، وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن ، وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه. ("البحر المحيط"/3 /ص12).
فإذا تبين لنا أن الراجح فورية الأمر، فمن رأى منكر وهو قادر على تغييره نصرة لدين الله فليبادر إلى تغييره وبث النصيحة بدون التواني متعللا بحديث فضيلة الأكابر.
فالمعتبر هو العلم والقدرة، لا مجرد كبر السن.
قال الإمام النووي رحمه الله: ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها. وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء. ("شرح النووي على مسلم"/2/ص23).
وإذا رأى طالب علم متمكن منكرا واضحاً مع سكوت الأكابر، فهل يسكت عنه؟ يصير جميعهم ساكتين فعلى الجميع إثمٌ.
قال الإمام النووي رحمه الله: إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو. ("شرح النووي على مسلم"/2/ص23).
وهذا الأمر عام شامل لإنكار المنكر وجرح المجروحين. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة». (أخرجه الإمام أحمد (7561)/صحيح).
فمن توفر فيه شروط الجرح والتعديل –سواء كان كبير السن أو صغير السن- لا يحل له السكوت عمن يستحق أن يُجرَح أو يُعَدَّل.
قال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ قالوا: بين أمره للناس. (أخرجه الخطيب/"الكفاية"/رقم (81)/صحيح).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: ولا يحل أن تكتم النصيحة للمسلمين – برّهم وفاجرهم – في أمر الدين، فمن كتم فقد غشّ المسلمين، ومن غشّ المسلمين فقد غشّ الدين، ومن غشّ الدين فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. ("شرح السنة" /ص29-30/دار الآثار).
وقال الإمام النووي رحمه الله: وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه. ("المنهاج"/16 /ص351/دار المعرفة).
إذا اختلف أهل العلم في جرح شخص وتعديله ليس كبير السن مقدم على صغيره، بل المعتبر العلم والحجة. وليس سكوت الأكابر حجة على غيرهم من أهل العلم.
وهذا الكلام كاف في بيان رجحان العلم على مجرد كبر السنّ، وأن أكابر العلم أكثر بركة مجرد من أكابر السنّ، وأكثر نفعاً للناس، وكاف في نسف شبهة من ردّ الحق بمجرّد صغر عُمْر حامله. ولله الحمد.
الباب الثالث: تنبيه مهم لا بد من اعتباره
لست مريدا احتقار العلماء الكبار ولا السخرية بكبار السن، وإنما أريد الدفاع عمن وصل إلى درجة الاجتهاد في مسألة بلوغا صحيحاً، فيحتقر الناس به لصغر سنه بالنسبة إلى هؤلاء الكبار.
ولا بد لي من تنبيه إخواني –وأنا منهم- الذين لم يصلوا إلى تلك المرتبة أن يتقوا الله ويتأنوا ولا يتكلموا في مسألة بدون إرشاد عالم من العلماء.
فقد كثرت الأدلة الدالة على علو منزلة العلماء المستقيمين، منها قول الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة/11].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: أي: في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. –إلى قوله:- والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به اهـ. ("الجامع لأحكام القرآن" /17/ص253/دار الكتاب العربي).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فصل: وقوله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ خص سبحانه رفعه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان وهم الذين استشهد بهم فى قوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط﴾ وأخبر أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى الرسول هو الحق بقوله تعالى: ﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق﴾ فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها كما قال تعالى: ﴿نرفع درجات من نشاء﴾.
قال زيد بن أسلم: بالعلم، فرفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان. فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة، أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم وأرفع قدرا في قلوب الأمة فهذا كرز بن وبرة وكهمس وابن طارق يختمون القرآن فى الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم فى القلوب أرفع اهـ.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/16 / ص 48-49/ط. مكتبة ابن تيمية).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: الوجه الثامن والثلاثون بعد المائة: أن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفا ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك – ثم ذكر الحديث- اهـ. ("مفتاح دار السعادة" /1 / ص 202/المكتبة العصرية).
وقال المزني رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه. ("سير أعلام النبلاء" /10/ص24/ط. الرسالة).
ولا شك أن حاجة الأمة إلى العلماء المستقيمين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشـراب والدواء الحسي لأنهم قدوة وهداة أنار اله قلوبهم فأناروا غيرهم. وقال الميموني: قال لي أحمد –ابن حنبل رحمه الله-: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام اهـ. ("سير أعلام النبلاء" /11/ص 296/الرسالة).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من العلماء ؟ فإن أصبت فيه أثراً عنهم: فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر فيه شيئاً فتسقط في النار اهـ. ("شرح السنة" /للبربهاري/ ص18/دار الآثار).
وقال الإمام الآجري رحمه الله: من كان له علم وعقل ، فميز جميع ما تقدم ذكري له من أول الكتاب إلى هذا الموضع علم أنه محتاج إلى العمل به ، فإن أراد الله به خيراً لزم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين في كل عصر، وتعلم العلم لنفسه ، لينتفي عنه الجهل ، وكان مراده أن يتعلمه لله تعالى ولم يكن مراده ، أن يتعلمه للمراء والجدال والخصومات ، ولا للدنيا ، ومن كان هذا مراده سلم إن شاء الله تعالى من الأهواء والبدع والضلالة ، واتبع ما كان عليه من تقدم من أئمة المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم. ("الشريعة"/للآجري /ص51/ط. دار الحديث).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فالشيخ خبير يعرف عواقب الأمور . ("مجموع الفتاوى"/3 /ص270).
وإذا ذهب العلماء ذهب معهم العلم فضلّ أناس كثير بسبب ذلك. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». (أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673)).
وعن أبي موسى ( قال: صلينا المغرب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء - قال – فجلسنا. فخرج علينا فقال: «ما زلتم ها هنا». قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلى معك العشاء. قال: «أحسنتم أو أصبتم». قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابى ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون». (أخرجه مسلم (2531)/دار ابن الجوزي)).
ومن أجل أهمية العلماء أبقاهم الله في هذه الأمة حيث إن مات أحدهم خلفهم الآخر. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن هذه الأمة أكمل الأمم وخير أمة أخرجت للناس ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلقه عالم لئلا تطمس معالم الدين وتخفى أعلامه. ("مفتاح دار السعادة"/1 /ص143).
وقال رحمه الله: ... وهذا لأن الله سبحانه ضمن حفظ حججه وبيناته وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب مَن أهّلهم الله لذلك، وارتضاهم، فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض وفي الأثر المشهور: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم بطاعته»() وكان من دعاء بعض من تقدم: (اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك). ولهذا ما أقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة إما في قلوب أمثاله وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده. ("مفتاح دار السعادة"/1/ص147-148).
ليس المعنى أننا نقلد العلماء، بل القول المخالف للنصوص مردود على قائله كائناً من كان، عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).
ولكنا –أنا ومن كان مثلي ممن لم يبلغ درجة المجتهدين- نفهم الدليل بإرشاد العلماء، ولا نأتي بشيء جديد من عند أنفسنا لا يذكره أحد من العلماء قط. والعلماء في كل عصر جعلهم الله حجة على العباد، يأمرونهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، ويجتهدون في النوازل المتجددة. فإجماعهم حجة. فإذا اختلفوا في مسألة على قولين لن يخرج الحق منهما، فعلينا اختيار أحد القولين بما ظهر لنا من الأدلة ولا نأتي بالثالث. وكذالك الكلام إذا كان الخلاف على ثلاثة أقوال أو أربعة إلى آخرها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الأصل الثالث من أصوله –يعني: الإمام أحمد-: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ في مسائله: قيل لأبي عبد الله: يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف. قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه... إلخ. ("إعلام الموقعين"/1/ص31).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله –قبل ذلك-: وهذا بمثابة ما لو اختلفت الصحابة في مسألة على قولين ، وانقرض العصر عليه ، فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث ، لأن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواهما ، كما أن إجماعهم على قول إجماع على إبطال كل قول سواه ، فكما لم يجز إحداث قول ثان فيما أجمعوا فيه على قول لم يجز إحداث قول ثالث فيما أجمعوا فيه على قولين. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص435/مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال رحمه الله في شأن الأئمة المشهورين من أتباع التابعين: ولهم نظراء كثيرون من أهل كل عصر أولو نظر واجتهاد ، فما أجمعوا عليه فهو الحجة ، ويسقط الاجتهاد مع إجماعهم ، فكذلك إذا اختلفوا على قولين، لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص433/مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على ... وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه وعما اختلفوا فيه أو في تأويله لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم. ("رسالة إلى أهل الثغر"/ص306-307/مكتبة العلوم والحكم).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. ("مجموع الفتاوى"/21/ص291).
بل قال رحمه الله: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام . ("مجموع الفتاوى"/13/ص243).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». (أخرجه مسلم (1920)).
قال الإمام البخاري رحمه الله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون» وهم أهل العلم. ("صحيح البخاري"/قبل حديث (7311)).
قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام : «إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة» وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها. فمعنى قوله : «لن تجتمع أمتي» لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة. ("الاعتصام"/ص 478).
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح خطبة "الإلمام" : والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة ، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح المحجة ، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. (كما في الغيث الهامع/لأبي زرعة العراقي/3/ص902/ط. الفاروق).
وقولي –وفقني الله-: (ويجتهدون في النوازل المتجددة) ليس بمعنى أنه يجوز للعلماء –فضلا عن غيرهم أن يبتدعوا في الدين بدعة، لأن البدعة كلها ضلالة وإن رآها الناس حسنة. ولكن المعنى: أنه إذا نزلت نازلة على بعض الأمة –أو على الأمة كلها- لم ينص عليه دليل معيَّن من الكتاب أو السنة جاز للعلماء أن يجتهدوا فيها استنباطاً من الينابيع السموية، لا بمجرد آرائهم. ويجوز لهم أن يجتهدوا في إيجاد اصطلاح جديد في العلوم النحوية (كتعاريف الاسم والفعل والكلام) أو الصرفية (كتقاسيم مباني الأفعال) أو الحديثية (كضوابيط الشاذ والمنكر والمزيد لمتصل الأسانيد) أو جمع القرآن في مصحف واحد، أو نحو ذلك مما لا يعيّنه دليل من القرآن أو السنة، لاقتضاء الحال. فليس هذا من البدع شرعاً في شيء. فهو اجتهاد ممن هو مستأهل للاجتهاد في مصالح العباد بدون مخالفة الشرع. قال الشاطبي رحمه الله: لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين. ("الموافقات"/2/ص341).
ذلك لأن الله أنزل القرآن بالألفاظ والمعاني. الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وقال: وذلك لأن الـشرع معاني لا مجرد ألفاظ. ("شرح الممتع"/1/ص181/مكتبة الأنصار).
وهذا معنى قول الإمام ابن قدامة رحمه الله: فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه. ("المغني"/1 /ص202/دار الحديث).
وهذه المعاني يفهمها العلماء. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
والعلماء يستقرئون الأدلة ويتتبعون النصوص فوجدوا أنها جاءت لمصالح العباد. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد. ("الموافقات" /2/ص5/المكتبة العصرية).
وفي هذا الباب قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا نزاع في إطلاق الألفاظ. ("مجموع الفتاوى"/10/ص764).
ومن هذه المصالح: حفظ الضروريات، والحاجيات والتحسينيات. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. ("الموافقات" /2/ص7/المكتبة العصرية).
وقال رحمه الله: ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة. وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ("الموافقات" /2/ص8/المكتبة العصرية).
وهذه المصلحة المرسلة كما قال العلامة ابن النجار الفتوحي رحمه الله: فإنها لا ترجع إلى أصل معين ، بل رأينا الشارع اعتبرها في مواضع من الشريعة ، فاعتبرناها حيث وجدت ؛ لعلمنا أن جنسها مقصود له ، وبأن الرسل - صلى الله عليهم وسلم - بعثوا لتحصيل مصالح العباد ، فيعلم ذلك بالاستقراء ، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع فنعتبرها ؛ لأن الظن مناط العمل . ("شرح الكوكب المنير"/4 /170-171/ط. العبيكان).
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: فالحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية، وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال.
واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعاً جديداً خالياً عن دليل أصلاً بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور. منها: عمل الصحابة رضي الله عنهم بها من غير أن ينكر منهم أحد وهم خير أسوة.
ومنها: أنه قد علم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها ولا سيما إن كانت المصلحة متمحضة لم تستلزم مفسدة ولم تعارض مصلحة راجحة. ولم تصادم نصا من الوحي.
(انتهى المراد من كتاب "المصالح المرسلة"/للإمام الشنقيطي رحمه الله/ص 21).
ولا شك أن بعض هذه الأمور مما يتوقف الواجبات عليه ولم تتم إلا به فصار واجباً. مثال ذلك قوانين اللغة العربية، فمن لم يتمسك بها تخبط في فهم الكتاب والسنة، فصارت مراعاتها واجبة مع كون تفاصيل هذه القوانين لم تكن منصوصة في القرآن ولا في السنة. قال شيخ الغسلام رحمه الله: ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها . فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً. ("مجموع الفتاوى"/32 /ص252).
لا شك أن النظر إلى المصالح المرسلة يحتاج إلى رسوخ العلم قام به العلماء المجتهدين لا قصيرو العلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه. ("مجموع الفتاوى"/11/ص343-344).
وهذا أيضا يحتاج إلى حسن القصد لا اتباع الهوى. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية. ("الموافقات"/2/ص29/ط. المكتبة العصرية).
ومن هنا نعلم أن المبتدعة وجميع أصحاب سوء الفهم أو سوء القصد لا مدخل لهم في المصالح المرسلة. هذا ميدان العلماء حق العلم. قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير في أمر دينه، المداوم على عبادة الله عز وجل. ("أخلاق العلماء"/ للآجري/رقم 47/صححه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله/دار الآثار).
فمن جمع بين رسوخ العلم وسداد القصد وهو الورع في الكلام، وخشية الله، وإرادة الآخرة فيا لها من هداية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم. وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد. ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية. ("إعلام الموقعين"/1/ص87).
تنبيه: وقد ذكرنا اصطلاح: (إمام) و(عالم) و(شيخ)، وليس في هذا اختلاف أو تخصيص أنه لا يقتدى به إلا من بلغ ربة الإمام. ذلك لأن الإمام هو القدوة. قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾ [البقرة/124].
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية: فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به. ("جامع البيان"/2/ص 18).
والعلماء مع اختلاف مراتبهم جعلهم الله قدوة للأمة. قال الإمام الآجري رحمه الله: وهذا النعت ونحوه في القرآن، يدل على فضل العلماء، وأن الله عز وجل جعلهم أئمة للخلق يقتدون بهم. ("أخلاق العلماء"/للآجري/ص11/دار الآثار).
والشيخ حقيقي هو العالم فهو إمام لمن اتبعه من المسلمين في الخير. والشيخ كما قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: يقال لمن طعن في السنّ الشيخ. وقد يعبر به فيما بيننا عمن يكثر علمه لما كان من شأن الشيخ أن يكثر تجاربه ومعارفه. ("مفردات غريب القرآن"/ص 270).
فطلاب العلم لا يستغنون عن إرشاد الشيخ، لأن علمه فوق علمهم، ونظره فوق نظرهم، ولكن ليس العلم بمجرد السنّ كما سبق بيانه، بل المعتبر رسوخ العلم في القلوب، وثماره في الأعمال. قال صديق حسن خان رحمه الله في تعريف الشيخ: ومن زعم أن المراد هنا مَن هو في سنّ يسنّ فيه التحديث وهو من نحو خمسين إلى ثمانين، فقد أبعد وتكلف والتزم المشي على القول المزيف؛ لأن الصحيح أن مدار التحديث على تأهل المحدث، فقد حدث البخاري وما في وجهه شعر حتى أنه رد على بعض مشايخه غلطاً وقع له في سنده. وقد حدث مالك وهو ابن سبعة عشر. والشافعي وهو في حداثة السن. والحق أن الكرامة والفضيلة إنما هي بالعلم والعقل دون العمر والكبر. فكم من شيخ في سنّ يسنّ فيه التحديث وهو لا يهتدي إلى تمييز الطيب من الخبيث. شعر:
وعند الشيخ أجزاء كبار * مجلدة ولكن ما قراها
وكم من طفل صغير يفوق الشيخ الكبير في الدراية وملكة التحرير، والله يختص برحمته من يشاء.
("الحطة في ذكر الصحاح الستة"/لصديق حسن خان/ص 253-254/دار الآثار).
بهذا البيان كله أرجو الله أن يوفقني –والإخوة جميعا- على السداد على الصراط المستقيم دون إفراط ولا تفريط.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 8 رمضان 1435 هـ.
تصحيح الفهم والخاطر
لحديث البركة مع الأكابر
[/
center]
كتبه الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
بسم الله الرحمن الرحيمكتبه الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
مقدمة مؤلف عفا الله عنه
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
فقد تمسك كثير من أهل الأهواء في هذه الآونة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البركة مع أكابركم». لتكميم أفواه أهل السنة لئلا ينتقدوا على كبرائهم بحجة أن هؤلاء النقاد صغار الأسنان فلا يصلح للكلام في الأكابر.
وقد رددت عليهم هذه الشبهة في بعض الرسالة، والتوفيق الله من الله وحده.
ثم إني رأيت تسرب هذه الشبهة في أوساط إخواننا السلفيين فيحومون حولها لحماية بعض الأكابر الذين قد ثبت مكره وبغيه على أهل السنة ، وعناده للحق والنصح الرفيق، وظهرت تأصيلاته المنحرفة.
فرأيت أهمية تكرار التنبيهات وتصحيح الأفهام والقرائح حول هذا الحديث المذكور مع بعض إضافات مهمة لعل الله عز وجل أن ينفعني وإخوتي بها، فنستقيم على الصراط السوي بسداد الفهم ولا إفراط ولا تفريط.
فقلت –وبالله التوفيق-:
الباب الأول: حال حديث ابن عباس المذكور
قال ابن حبان رحمه الله: أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلم قال : حدثنا عمرو بن عثمان قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا ابن المبارك بدرب الروم عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «البركة مع أكابركم». ("صحيح ابن حبان" برقم (559)).
والحديث أخرجه أيضاً الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (355)، والطبراني في "الأوسط" (8991)، كلهم من طريق عبد الله بن المبارك ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.
ظاهر السند الصحة، ولكن تكلم فيه الحفاظ.
قال ابن حبان رحمه الله: لم يحدث بن المبارك هذا الحديث بخراسان إنما حدث به بدرب الروم فسمع منه أهل الشام وليس هذا الحديث في كتب ابن المبارك مرفوعا. ("صحيح ابن حبان" /2 / ص 320).
وقال الزركشي رحمه الله: رواه ابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عباس مرفوعا، وقال الحاكم: على شرط البخاري. وفي صحته نظر وله علة وهي: أن الوليد بن مسلم روى من حديث ابن عباس وأنس. فحديث ابن عباس رواه عن ابن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس. وابن المبارك حدث به الوليد بدرب الروم ولم يكن كتبه معه، وهو في كتب ابن المبارك غير مرفوع، ولم يحدث به بخراسان.
قال الصيرفي: رواه جماعة عن الوليد، وعن نعيم أيضا عن الوليد. وقيل: عن نعيم عن ابن المبارك، وسوّوهم لأن نعيما قد سمع من ابن المبارك غير أن هذا الحديث سمعه من الوليد عنه، قاله الحافظ أبو موسى المديني.
وقال ابن أبي السري عن الوليد: كنا مع ابن المبارك في بلاد الروم، فتذاكرنا أم الكتاب، فحدثنا ابن المبارك بهذا. ولم يروه عن خالد الحذاء إلا ابن المبارك. وقد رواه ابن هشام بن عماد عن الوليد عن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقيل: إنه الأصوب.
(انتهى من "اللآلي المنثورة في الأحاديث المشهورة"/ للزركشي /ص 80).
وقال محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله: والأصل فيه مرسل. ("ذخيرة الحفاظ" /2 / ص 1126).
وقال ابن عدي رحمه الله: وهذا لا يروى موصولاً إلا عنِ ابْن المبارك روى عَنْهُ نعيم بْن حَمَّاد، والوليد بْن مسلم وبقية هَذَا والأصل فيه مرسل. ("الكامل في ضعفاء الرجال" /2/ص 270).
فالحديث مرسل.
وله شاهد لا يفرح به، من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه ابن عدي رحمه الله فقال: حدثنا أبو علي الجوعي محمد بن سليمان بن الحسين بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم بصرفندة أنا سألته كان يتصوف فلقب بالجوعي ثنا عبد السلام بن عتيق أبو هشام الدمشقي ثنا محمد بن بكار بن بلال عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم البركة من الأكابر. ("الكامل في الضعفاء"/3/ص374).
في سنده أبو علي الجوعي محمد الجوعي، مجهول.
وفي سنده أيضا: سعيد بن بشير صاحب قتادة، وهو منكر الحديث. ("ميزان الاعتدال"/2/ص128).
وله شاهد موقوف، كما أخرجه ابن خزيمة رحمه الله: حدثنا سلم بن جنادة حدثنا ابن إدريس عن عاصم ابن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال : كان عمر يسألني مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يقول : لا تكلم حتى يتكلموا. فسألهم عن ليلة القدر فقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اطلبوها في العشر الأواخر وتراً ثم ذكر قصة ابن عباس مع عمر. ("صحيح ابن خزيمة" برقم (2173)).
سلم بن جنادة هو أبو السائب الكوفي العامري، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/4/ص 113).
وابن إدريس هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري أبو محمد الكوفي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/5/ص 126).
وعاصم ابن كليب هو ابن شهاب بن المجنون الجرمي، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/5/ ص49).
وأبوه كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي ثقة. ("تهذيب التهذيب"/8/ص400).
فأثر عمر رضي الله عنه صحيح.
وله شاهد آخر من حديث سهل بن أبي حثمة ورجال من كبراء قومه رضي الله عنهم في قصة مقتل عبد الله بن سهل : ... وأقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحيصة: «كبر كبر» يريد السن. (أخرجه البخاري (7192) ومسلم (1669)).
فحديث ابن عباس المرفوع حسن لغيره.
فهل الحديث يقتضي عدم جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحذير الأمة من الشر وأهل الشرور إلا بعد أن تكلم في ذلك الأكابر؟ وما توجيه هذا الحديث؟
الباب الثاني: الأجوبة عن احتجاج القوم بهذا الحديث
الجواب عن احتجاجهم به على منع الكلام في هذه الأمور حتى أن يتكلم فيها الأكابر ما يلي:
الجواب الأول: أن المعتبر العلم الكافي والعقل الصحيح، ووفاء شروط الاجتهاد، وليس كبر العمر شرطاً لصحة الكلام في الموضوع.
قال أبو هلال العسكري رحمه الله: العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه على سبيل الثقة. ("الفروق اللغوية"/للعسكري/ص94/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام ابن الوزير رحمه الله: فالعلم الحق ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك. ("إيثار الحق على الخلق"/ص 120).
والفقه لغة الفهم، أو فهم مراد المتكلم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه. ("إعلام الموقعين"/العبرة بالإرادة لا باللفظ /1/ص176/دار الحديث).
والفقه شرعاً كما قاله أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه الفيروزابادي رحمه الله : الفقه : معرفة الأحكام الشرعية، التي طريقها الاجتهاد. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص190/مكتبة التوعية الإسلامية).
والفقيه كما قال الإمام أبو البركات عبد السلام بن تيمية رحمه الله: فالفقيه حقيقة من له أهلية تامة يعرف بها الحكم إذا شاء بدليله مع معرفة جملة كثيرة من الأحكام الفرعية وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة. ("المسودة"/ص 510).
وما شروط الاجتهاد؟
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا، قد ثبت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها. ("إرشاد الفحول"/2 /ص1027/الريان).
وقال رحمه الله: وإنما يتمكن من ذلك بشروط. الأول: أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا، ولا يجوز له الاجتهاد، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة، بل ما يتعلق منهما بالأحكام. –إلى قوله:-
الشرط الثاني: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل.
الشرط الثالث: أن يكون عالما بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه –إلى قوله:-
والحاصل: أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة()، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن. قال الإمام الشافعي: يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه. قال الماوردي: ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره.
الشرط الرابع: أن يكون عالما بعلم أصول الفقه، لاشتماله على ما تمس حاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته، ومطولاته، بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه. –إلى قوله:-
الشرط الخامس: أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ.
(انتهى من "إرشاد الفحول"/2/ص1027-1032/الريان).
فمن وفى هذه الشروط فهو مجتهد، ولا يلزم أن يكون كبر سنه.
الجواب الثاني: ولا يشترط ألا يتكلم في هذا الميدان إلا المجتهد المطلق. بل كل من علم في مسألة معينة علما راسخاً فهو المجتهد فيها، ويجوز له الكلام فيها، وخلافه فيها معتبر كما أن وفاقه فيها معدود.
قال السرخسي رحمه الله: واعلم أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أحكام الشرع، وليس الاجتهاد عند العامة منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يفوز العالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض. فمن عرف طرف النظر في القياس فله أن يفتي في مسألة قياسية, وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث. ("أصول فخر الإسلام"/11/ص440).
وقال الزركشي رحمه الله: الصحيح جواز تجزؤ الاجتهاد ، بمعنى أنه يكون مجتهدا في باب دون غيره وعزاه الهندي للأكثرين. ("البحر المحيط"/8/ص96).
وقال ابن النجار الفتوحي رحمه الله: الاجتهاد يتجزأ عند أصحابنا والأكثر ، إذ لو لم يتجزأ لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع الجزئيات ، وهو محال إذ جميعها لا يحيط به بشر ، ولا يلزم من العلم بجميع المآخذ : العلم بجميع الأحكام ; لأن بعض الأحكام قد يجهل بتعارض الأدلة فيه ، أو بالعجز عن المبالغة في النظر ، إما لمانع من تشويش فكر. ("الكوكب المنير شرح مختصر التحرير"/3/ص26).
فهذا النقولات وأمثالها تردّ على من أنكر على طالب علم متمكن أن يتكلم في مسألة يحسنها بعلة سكوت الأكابر، وقد وصل مرتبة الاجتهاد فيها. وفي ذلك أيضا ردّ على جعل المعتبر هو كبر السن لا رسوخ العلم في المسألة.
الجواب الثالث: يحتمل أن يكون المراد هنا كبر السنّ ويحتمل كبر العلم. وعلى كلا الاحتمالين: الحديث لا يتكلم في شروط الخوض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الأباطيل وأهلها.
قال الحافظ محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي رحمه الله في شرح هذا الحديث -وما في معناه- ذكر أنه يجوز أن يريد بذلك: ذوو الأسنان والشيوخ الذين لهم تجارب، وقد كملت عقولهم، وسكنت حدّتهم، وكملت آدابهم، وزالت عنهم خفة الصبي، وحدة الشباب، وأحكموا التجارب، فمن جالسهم تأدب بآدابهم، وانتفع بتجاربهم، فكان سكونهم ووقارهم حاجزا لمن جالسهم، وزاجرا لهم عما يتولد من طباعهم، ويتبرك بهم(). ويجوز أن يريد بذلك: الكبراء في الحال، ومن له رتبة في الدين، ومنزلة عند الله، وإن لم يكن كبيرا في السن. ("معاني الأخبار"/ للكلاباذي/ص 100).
وقال المناوي رحمه الله: «البركة مع أكابركم» المجربين للأمور المحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أو المراد من له منصب العلم وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه وتعالى. ("فيض القدير شرح الجامع الصغير"/رقم (3205)).
فإن كان الراجح هو الاحتمال الثاني: أن البركة مع العلماء، لا مجرد كبار السنّ، فصار الحديث حجة على الملبسين المشترطين لكبر السن لا رسوخ العلم. وقد رجحه بعض الأئمة. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وقال بعض أهل العلم: إن الصغير المذكور في حديث عمر وما كان مثله من الأحاديث: إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده، وإن الكبير هو العالم في أي سن كان، وقالوا: الجاهل صغير وإن كان شيخًا، والعالم كبير وإن كان حدثًا. ("جامع بيان العلم" /1/ص 499-500/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ومما يدل على أن الأصاغر ما لا علم عنده: ما ذكره عبد الرزاق وغيره، عن معمر، عن الزهري، قال: كان مجلس عمر مغتصًّا من القراء شبابًا وكهولًا، فربما استشارهم ويقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء. ("جامع بيان العلم" /1/ص 501/دار ابن الجوزي).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ (أخرجه البخاري/(6830)/دار الكتب العلمية).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: ففيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانهم أو قلّت أقدارهم، وقد كان حكيم ابن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له تقرأ على هذا الغلام الخزرجي فقال: إنما أهلكنا التكبر اهـ. ("كشف المشكل"/مسند عمر بن الخطاب/1/ص63/دار الوطن).
وقال ابن المديني رحمه الله: إنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِالسِّنِّ اهـ. ("الآداب الشرعية"/للإمام ابن مفلح/فصل في أخذ العلم عن أهله وإن كانوا صغار السن/ص364/مؤسسة الرسالة).
وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: الْغُلَامُ أُسْتَاذٌ إذَا كَانَ ثِقَةً اهـ. ("الآداب الشرعية"/للإمام ابن مفلح/نفس المصدر).
الجواب الرابع: ولو فرض أن المراد كبر الأسنان، ليس في الحديث ما يدل على أنه من شروط الخائض في المسألة. إنما هذا من باب الحث على مجالستهم، وتوقيرهم، وفضيلة ذلك. وقد أخرجه ابن حبان رحمه الله في "صحيحه" (559) في باب: ذكر استحباب التبرك للمرء بعشرة المشايخ أهل الدين والعقل.
والحديث أخرجه البيهقي رحمه الله في "شعب الإيمان" (10493) في باب: رحم الصغير وتوقير الكبير. وأخرجه الخرائطي رحمه الله في "مكارم الأخلاق" (355) باب: إكرام الشيوخ وتوقيرهم. وقال الحافظ محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي رحمه الله بعد أن ذكر هذا الحديث: وقد أمر بتوقيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يوقر كبيرنا، فليس منا». ("معاني الأخبار"/ للكلاباذي/ص 100).
الجواب الخامس: ويحتمل أن يراد بالأكابر: هم الصحابة رضي الله عنهم، والصلحاء، وأصحاب الشرف، لا مجرد كبر السن. فالحديث أخرجه أيضا الإمام ابن عبد البر رحمه الله في "الجامع لبيان العلم" (1053) تحت باب: حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال.
وقال رحمه الله: وذكر أبو عبيد في تأويل هذا الخبر عن ابن المبارك، أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع، ولا يذهب إلى السن. قال أبو عبيد: وهذا وجه. قال أبو عبيد: والذي أرى أنا في الأصاغر: أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقدم ذلك على رأي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمهم فذاك أخذ العلم عن الأصاغر. ("جامع بيان العلم" /1/ص 496/دار ابن الجوزي).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وقد يحتمل حديث هذا الباب أن يكون أراد أن أحق الناس بالعلم والتفقه أهل الشرف والدين والجاه، فإن العلم إذا كان عندهم لم تأنف النفوس من الجلوس إليهم، وإذا كان عند غيرهم وجد الشيطان إلى احتقارهم السبيل، وأوقع في نفوسهم أثرة الرضا بالجهل أنفة من الاختلاف إلى من لا حسب له ولا دين وجعل ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، ومن أسباب رفع العلم. ("جامع بيان العلم" /1/ص 500-501/دار ابن الجوزي).
وإذا كان المراد بالأكابر هم الصحابة رضي الله عنهم: فأسعد الناس ببركتهم هو أتبعهم لمنهجهم، سواء كان صغير السن أم كبيراً.
الجواب السادس: ليس في تركيب الكلام ما يدل على حصر البركة على الأكابر، بخلاف لو قدّم الخبر –أو المتعلق بالخبر المحذوف-، فتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، وليس في الحديث ما يدل على ذلك.
الجواب السابع: إن الله تعالى قد أشار في القرآن إلى فضيلة الشباب القائمين بدين الله. قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف/13، 14].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فذكر تعالى أنهم فتية -وهم الشباب-وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. ("تفسير القرآن العظيم"/5/ص 140).
فالبركة من الله تبارك وتعالى، وهي مع من شاء الله كباراً وصغاراً.
الجواب الثامن: واقع السلف رضي الله عنهم يدل على أن الخوض في الميدان لا يناط على كبر السن، بل يناط على الأهلية. فكم من مفت في عهد السلف وهو لم يبلغ السن الكبير. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: واستشهدوا بأن عبد الله بن عباس كان يستفتى وهو صغير، وأن معاذ بن جبل وعتاب بن أسيد كانا يفتيان الناس وهما صغيرا السن، وولاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الولايات مع صغر سنهما، ومثل هذا في العلماء كثير. ("جامع بيان العلم" /1/ص 500/دار ابن الجوزي).
وقال رحمه الله: فقد ساد بالعلم قديمًا الصغير والكبير، ورفع الله درجات من أحب. ("جامع بيان العلم" /1/ص 501/دار ابن الجوزي).
الجواب التاسع: إن الواقع في هذا العصر يدل على أن كثيراً ممن يدندن حول هذا الحديث ليصدوا عن علماء السنة هم أهل الأهواء الذين يصدون الناس عن قبول الحق تحت ستار: "إنهم صغار الأسنان!"
فيحتقرون بصغير السن وإن كان عالماً محققاً مخلصا ذكيّاً مسدداً، فيمنعون الناس من الأخذ بعلمه وجرحه وتعديله.
وقد أصيب أهل الأهواء بداء الجاهلية. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق: أن يكون المتكلم بالحق حدث السن –بالنسبة إلى من يناظره- أو قليل العلم أو الشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك، فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنا أو أقل منه علما، أو أخفى شهرة، ظنا منه أن في ذلك عليه ما يحط منه وينقص ما هو فيه، وهذا الظن فاسد فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلو والشرف في الرجوع إلى الحق، بيد من كان، وعلى أي وجه حصل اهـ. ("أدب الطلب" /ص57 /دار الكتب العلمية).
وهم بهذا الصنيع من جملة جنود إبليس. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم، ونواب إبليس وشرطه. ("مدارج السالكين"/2/ص 434).
الجواب العاشر: إن كثيرا من طلاب علم متمكنين من أهل السنة الثابتين قد بلغوا الأربعين من العمر، وهذا لا يقال إنهم صغار السن. قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ الآية. [الأحقاف/15].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾: أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين. ("تفسير القرآن العظيم"/7 /ص 280).
الجواب الحادي عشر: مما يقوّي القول بأن الأكابر هنا العلماء –لا مجرد كبار السن-: أن البركة هي ثبوت الخير ونماءه وزيادته. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وأما البركة فإنها لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئا بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر، فهو خير مستمر يتعاقب الأفراد على الدوام شيئا بعد شيء . ("بدائع الفوائد"/2/ص 675/دار عالم الفوائد).
وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخير مع العلم النافع. عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين ». (أخرجه البخاري (كتاب العلم/باب من يرد الله به خيرا/(71) ومسلم (كتاب الزكاة/باب النهي عن المسألة/(1037)).
وعن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». (أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن/باب خيركم من تعلم القرآن/(5027)).
وأعظم الناس بركة هو أكثرهم نفعا للمجتمع، لا مجرد كبر السن. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها. والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلّ. ("زاد المعاد"/4/ص 141).
الجواب الثاني عشر: ثم إن مشايخنا الثابتين –سواء يقال إنهم علماء أو طلاب علم متمكنين- قد صبروا على تحصيل العلوم والمعاريف والمفاهيم الدقيقة والعقيدة الصحيحة سنين طويلة مديدة، ويجمعون مدارك العلم أربعة، كما قال العلامة القرافي رحمه الله: ومدارك العلم أربعة: العقل، وأحد الحواس الخمس، والنقل المتواتر، والاستدلال. ("أنوار البروق في أنواء الفروق"/4/ص1186/ط. دار السلام).
وقد أتقنوا أساس العلم بفضل الله وحده. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول : علما، وهو النقل المصدق، والبحث المحقق، فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق. ("مجموع الفتاوى"/6/ص388).
الجواب الثالث عشر: لو فرض أن المراد بالأكابر هم كبار السنّ كما في حديث: «كبر كبر»، فهو حديث دال على فضيلة مجالستهم والاستفادة منهم. وحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (أخرجه مسلم (49)).
هذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال القرطبي رحمه الله: ولوجوبه شرطان: أحدهما: العلم بكون ذلك الفعل منكرا أو معروفا. والثاني : القدرة على التغيير. ("المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"/1 /ص149).
وليس في شروطه كبر السنّ
وقال الإمام النووي رحمه الله: وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم كما قال الامام أبو المعالى إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. ("شرح النووي على مسلم" /2 /ص22).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: فدلت الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر. ("جامع العلوم والحكم"/ص540/ط. مكتبة أولاد الشيخ).
وهو يقتضي الفور. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قصة حديبية: ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر. وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ فأخروا متأولين لذلك. وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه، وهو باطل فإنه صلى الله عليه و سلم لو فهم منهم ذلك لم يشتد غضبه لتأخير أمره ويقول : «مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور، وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة. ("زاد المعاد"/3 /ص273/ط. الرسالة).
ولاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليغيره بيده»، فإن الفاء هنا تدل على التعقيب. قال أبو زرعة العراقي رحمه الله: للفاء معنيان: أحدهما: الترتيب والتعقيب. ("الغيث الهامع"/1/ص222/ط. الفاروق).
وقال الزركشي رحمه الله: الفاء : وهي للترتيب وزيادة ، وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن ، وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه. ("البحر المحيط"/3 /ص12).
فإذا تبين لنا أن الراجح فورية الأمر، فمن رأى منكر وهو قادر على تغييره نصرة لدين الله فليبادر إلى تغييره وبث النصيحة بدون التواني متعللا بحديث فضيلة الأكابر.
فالمعتبر هو العلم والقدرة، لا مجرد كبر السن.
قال الإمام النووي رحمه الله: ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها. وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء. ("شرح النووي على مسلم"/2/ص23).
وإذا رأى طالب علم متمكن منكرا واضحاً مع سكوت الأكابر، فهل يسكت عنه؟ يصير جميعهم ساكتين فعلى الجميع إثمٌ.
قال الإمام النووي رحمه الله: إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو. ("شرح النووي على مسلم"/2/ص23).
وهذا الأمر عام شامل لإنكار المنكر وجرح المجروحين. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة». (أخرجه الإمام أحمد (7561)/صحيح).
فمن توفر فيه شروط الجرح والتعديل –سواء كان كبير السن أو صغير السن- لا يحل له السكوت عمن يستحق أن يُجرَح أو يُعَدَّل.
قال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ قالوا: بين أمره للناس. (أخرجه الخطيب/"الكفاية"/رقم (81)/صحيح).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: ولا يحل أن تكتم النصيحة للمسلمين – برّهم وفاجرهم – في أمر الدين، فمن كتم فقد غشّ المسلمين، ومن غشّ المسلمين فقد غشّ الدين، ومن غشّ الدين فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. ("شرح السنة" /ص29-30/دار الآثار).
وقال الإمام النووي رحمه الله: وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه. ("المنهاج"/16 /ص351/دار المعرفة).
إذا اختلف أهل العلم في جرح شخص وتعديله ليس كبير السن مقدم على صغيره، بل المعتبر العلم والحجة. وليس سكوت الأكابر حجة على غيرهم من أهل العلم.
وهذا الكلام كاف في بيان رجحان العلم على مجرد كبر السنّ، وأن أكابر العلم أكثر بركة مجرد من أكابر السنّ، وأكثر نفعاً للناس، وكاف في نسف شبهة من ردّ الحق بمجرّد صغر عُمْر حامله. ولله الحمد.
الباب الثالث: تنبيه مهم لا بد من اعتباره
لست مريدا احتقار العلماء الكبار ولا السخرية بكبار السن، وإنما أريد الدفاع عمن وصل إلى درجة الاجتهاد في مسألة بلوغا صحيحاً، فيحتقر الناس به لصغر سنه بالنسبة إلى هؤلاء الكبار.
ولا بد لي من تنبيه إخواني –وأنا منهم- الذين لم يصلوا إلى تلك المرتبة أن يتقوا الله ويتأنوا ولا يتكلموا في مسألة بدون إرشاد عالم من العلماء.
فقد كثرت الأدلة الدالة على علو منزلة العلماء المستقيمين، منها قول الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة/11].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: أي: في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. –إلى قوله:- والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به اهـ. ("الجامع لأحكام القرآن" /17/ص253/دار الكتاب العربي).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فصل: وقوله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ خص سبحانه رفعه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان وهم الذين استشهد بهم فى قوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط﴾ وأخبر أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى الرسول هو الحق بقوله تعالى: ﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق﴾ فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها كما قال تعالى: ﴿نرفع درجات من نشاء﴾.
قال زيد بن أسلم: بالعلم، فرفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان. فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة، أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم وأرفع قدرا في قلوب الأمة فهذا كرز بن وبرة وكهمس وابن طارق يختمون القرآن فى الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم فى القلوب أرفع اهـ.
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/16 / ص 48-49/ط. مكتبة ابن تيمية).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: الوجه الثامن والثلاثون بعد المائة: أن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفا ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك – ثم ذكر الحديث- اهـ. ("مفتاح دار السعادة" /1 / ص 202/المكتبة العصرية).
وقال المزني رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه. ("سير أعلام النبلاء" /10/ص24/ط. الرسالة).
ولا شك أن حاجة الأمة إلى العلماء المستقيمين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشـراب والدواء الحسي لأنهم قدوة وهداة أنار اله قلوبهم فأناروا غيرهم. وقال الميموني: قال لي أحمد –ابن حنبل رحمه الله-: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام اهـ. ("سير أعلام النبلاء" /11/ص 296/الرسالة).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من العلماء ؟ فإن أصبت فيه أثراً عنهم: فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر فيه شيئاً فتسقط في النار اهـ. ("شرح السنة" /للبربهاري/ ص18/دار الآثار).
وقال الإمام الآجري رحمه الله: من كان له علم وعقل ، فميز جميع ما تقدم ذكري له من أول الكتاب إلى هذا الموضع علم أنه محتاج إلى العمل به ، فإن أراد الله به خيراً لزم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين في كل عصر، وتعلم العلم لنفسه ، لينتفي عنه الجهل ، وكان مراده أن يتعلمه لله تعالى ولم يكن مراده ، أن يتعلمه للمراء والجدال والخصومات ، ولا للدنيا ، ومن كان هذا مراده سلم إن شاء الله تعالى من الأهواء والبدع والضلالة ، واتبع ما كان عليه من تقدم من أئمة المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم. ("الشريعة"/للآجري /ص51/ط. دار الحديث).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فالشيخ خبير يعرف عواقب الأمور . ("مجموع الفتاوى"/3 /ص270).
وإذا ذهب العلماء ذهب معهم العلم فضلّ أناس كثير بسبب ذلك. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». (أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673)).
وعن أبي موسى ( قال: صلينا المغرب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلى معه العشاء - قال – فجلسنا. فخرج علينا فقال: «ما زلتم ها هنا». قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلى معك العشاء. قال: «أحسنتم أو أصبتم». قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابى ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون». (أخرجه مسلم (2531)/دار ابن الجوزي)).
ومن أجل أهمية العلماء أبقاهم الله في هذه الأمة حيث إن مات أحدهم خلفهم الآخر. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن هذه الأمة أكمل الأمم وخير أمة أخرجت للناس ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلقه عالم لئلا تطمس معالم الدين وتخفى أعلامه. ("مفتاح دار السعادة"/1 /ص143).
وقال رحمه الله: ... وهذا لأن الله سبحانه ضمن حفظ حججه وبيناته وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب مَن أهّلهم الله لذلك، وارتضاهم، فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض وفي الأثر المشهور: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم بطاعته»() وكان من دعاء بعض من تقدم: (اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك). ولهذا ما أقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة إما في قلوب أمثاله وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده. ("مفتاح دار السعادة"/1/ص147-148).
ليس المعنى أننا نقلد العلماء، بل القول المخالف للنصوص مردود على قائله كائناً من كان، عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).
ولكنا –أنا ومن كان مثلي ممن لم يبلغ درجة المجتهدين- نفهم الدليل بإرشاد العلماء، ولا نأتي بشيء جديد من عند أنفسنا لا يذكره أحد من العلماء قط. والعلماء في كل عصر جعلهم الله حجة على العباد، يأمرونهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، ويجتهدون في النوازل المتجددة. فإجماعهم حجة. فإذا اختلفوا في مسألة على قولين لن يخرج الحق منهما، فعلينا اختيار أحد القولين بما ظهر لنا من الأدلة ولا نأتي بالثالث. وكذالك الكلام إذا كان الخلاف على ثلاثة أقوال أو أربعة إلى آخرها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الأصل الثالث من أصوله –يعني: الإمام أحمد-: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ في مسائله: قيل لأبي عبد الله: يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف. قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه... إلخ. ("إعلام الموقعين"/1/ص31).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله –قبل ذلك-: وهذا بمثابة ما لو اختلفت الصحابة في مسألة على قولين ، وانقرض العصر عليه ، فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث ، لأن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواهما ، كما أن إجماعهم على قول إجماع على إبطال كل قول سواه ، فكما لم يجز إحداث قول ثان فيما أجمعوا فيه على قول لم يجز إحداث قول ثالث فيما أجمعوا فيه على قولين. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص435/مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال رحمه الله في شأن الأئمة المشهورين من أتباع التابعين: ولهم نظراء كثيرون من أهل كل عصر أولو نظر واجتهاد ، فما أجمعوا عليه فهو الحجة ، ويسقط الاجتهاد مع إجماعهم ، فكذلك إذا اختلفوا على قولين، لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. ("الفقيه والمتفقه"/للخطيب البغدادي/1/ص433/مكتبة التوعية الإسلامية).
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على ... وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه وعما اختلفوا فيه أو في تأويله لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم. ("رسالة إلى أهل الثغر"/ص306-307/مكتبة العلوم والحكم).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. ("مجموع الفتاوى"/21/ص291).
بل قال رحمه الله: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام . ("مجموع الفتاوى"/13/ص243).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». (أخرجه مسلم (1920)).
قال الإمام البخاري رحمه الله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون» وهم أهل العلم. ("صحيح البخاري"/قبل حديث (7311)).
قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام : «إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة» وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها. فمعنى قوله : «لن تجتمع أمتي» لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة. ("الاعتصام"/ص 478).
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح خطبة "الإلمام" : والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة ، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح المحجة ، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. (كما في الغيث الهامع/لأبي زرعة العراقي/3/ص902/ط. الفاروق).
وقولي –وفقني الله-: (ويجتهدون في النوازل المتجددة) ليس بمعنى أنه يجوز للعلماء –فضلا عن غيرهم أن يبتدعوا في الدين بدعة، لأن البدعة كلها ضلالة وإن رآها الناس حسنة. ولكن المعنى: أنه إذا نزلت نازلة على بعض الأمة –أو على الأمة كلها- لم ينص عليه دليل معيَّن من الكتاب أو السنة جاز للعلماء أن يجتهدوا فيها استنباطاً من الينابيع السموية، لا بمجرد آرائهم. ويجوز لهم أن يجتهدوا في إيجاد اصطلاح جديد في العلوم النحوية (كتعاريف الاسم والفعل والكلام) أو الصرفية (كتقاسيم مباني الأفعال) أو الحديثية (كضوابيط الشاذ والمنكر والمزيد لمتصل الأسانيد) أو جمع القرآن في مصحف واحد، أو نحو ذلك مما لا يعيّنه دليل من القرآن أو السنة، لاقتضاء الحال. فليس هذا من البدع شرعاً في شيء. فهو اجتهاد ممن هو مستأهل للاجتهاد في مصالح العباد بدون مخالفة الشرع. قال الشاطبي رحمه الله: لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين. ("الموافقات"/2/ص341).
ذلك لأن الله أنزل القرآن بالألفاظ والمعاني. الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وقال: وذلك لأن الـشرع معاني لا مجرد ألفاظ. ("شرح الممتع"/1/ص181/مكتبة الأنصار).
وهذا معنى قول الإمام ابن قدامة رحمه الله: فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه. ("المغني"/1 /ص202/دار الحديث).
وهذه المعاني يفهمها العلماء. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
والعلماء يستقرئون الأدلة ويتتبعون النصوص فوجدوا أنها جاءت لمصالح العباد. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد. ("الموافقات" /2/ص5/المكتبة العصرية).
وفي هذا الباب قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا نزاع في إطلاق الألفاظ. ("مجموع الفتاوى"/10/ص764).
ومن هذه المصالح: حفظ الضروريات، والحاجيات والتحسينيات. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. ("الموافقات" /2/ص7/المكتبة العصرية).
وقال رحمه الله: ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة. وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ("الموافقات" /2/ص8/المكتبة العصرية).
وهذه المصلحة المرسلة كما قال العلامة ابن النجار الفتوحي رحمه الله: فإنها لا ترجع إلى أصل معين ، بل رأينا الشارع اعتبرها في مواضع من الشريعة ، فاعتبرناها حيث وجدت ؛ لعلمنا أن جنسها مقصود له ، وبأن الرسل - صلى الله عليهم وسلم - بعثوا لتحصيل مصالح العباد ، فيعلم ذلك بالاستقراء ، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع فنعتبرها ؛ لأن الظن مناط العمل . ("شرح الكوكب المنير"/4 /170-171/ط. العبيكان).
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: فالحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية، وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال.
واعلم أن العمل بالمصالح المرسلة المذكور ليس تشريعاً جديداً خالياً عن دليل أصلاً بل من يعمل بها من العلماء كمالك وغيره يستند في ذلك إلى أمور. منها: عمل الصحابة رضي الله عنهم بها من غير أن ينكر منهم أحد وهم خير أسوة.
ومنها: أنه قد علم من استقراء الشرع الكريم محافظته على المصالح وعدم إهدارها ولا سيما إن كانت المصلحة متمحضة لم تستلزم مفسدة ولم تعارض مصلحة راجحة. ولم تصادم نصا من الوحي.
(انتهى المراد من كتاب "المصالح المرسلة"/للإمام الشنقيطي رحمه الله/ص 21).
ولا شك أن بعض هذه الأمور مما يتوقف الواجبات عليه ولم تتم إلا به فصار واجباً. مثال ذلك قوانين اللغة العربية، فمن لم يتمسك بها تخبط في فهم الكتاب والسنة، فصارت مراعاتها واجبة مع كون تفاصيل هذه القوانين لم تكن منصوصة في القرآن ولا في السنة. قال شيخ الغسلام رحمه الله: ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها . فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً. ("مجموع الفتاوى"/32 /ص252).
لا شك أن النظر إلى المصالح المرسلة يحتاج إلى رسوخ العلم قام به العلماء المجتهدين لا قصيرو العلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه. ("مجموع الفتاوى"/11/ص343-344).
وهذا أيضا يحتاج إلى حسن القصد لا اتباع الهوى. قال العلامة الشاطبي رحمه الله: المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية. ("الموافقات"/2/ص29/ط. المكتبة العصرية).
ومن هنا نعلم أن المبتدعة وجميع أصحاب سوء الفهم أو سوء القصد لا مدخل لهم في المصالح المرسلة. هذا ميدان العلماء حق العلم. قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير في أمر دينه، المداوم على عبادة الله عز وجل. ("أخلاق العلماء"/ للآجري/رقم 47/صححه شيخنا يحيى الحجوري حفظه الله/دار الآثار).
فمن جمع بين رسوخ العلم وسداد القصد وهو الورع في الكلام، وخشية الله، وإرادة الآخرة فيا لها من هداية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم. وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد. ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية. ("إعلام الموقعين"/1/ص87).
تنبيه: وقد ذكرنا اصطلاح: (إمام) و(عالم) و(شيخ)، وليس في هذا اختلاف أو تخصيص أنه لا يقتدى به إلا من بلغ ربة الإمام. ذلك لأن الإمام هو القدوة. قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾ [البقرة/124].
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية: فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به. ("جامع البيان"/2/ص 18).
والعلماء مع اختلاف مراتبهم جعلهم الله قدوة للأمة. قال الإمام الآجري رحمه الله: وهذا النعت ونحوه في القرآن، يدل على فضل العلماء، وأن الله عز وجل جعلهم أئمة للخلق يقتدون بهم. ("أخلاق العلماء"/للآجري/ص11/دار الآثار).
والشيخ حقيقي هو العالم فهو إمام لمن اتبعه من المسلمين في الخير. والشيخ كما قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: يقال لمن طعن في السنّ الشيخ. وقد يعبر به فيما بيننا عمن يكثر علمه لما كان من شأن الشيخ أن يكثر تجاربه ومعارفه. ("مفردات غريب القرآن"/ص 270).
فطلاب العلم لا يستغنون عن إرشاد الشيخ، لأن علمه فوق علمهم، ونظره فوق نظرهم، ولكن ليس العلم بمجرد السنّ كما سبق بيانه، بل المعتبر رسوخ العلم في القلوب، وثماره في الأعمال. قال صديق حسن خان رحمه الله في تعريف الشيخ: ومن زعم أن المراد هنا مَن هو في سنّ يسنّ فيه التحديث وهو من نحو خمسين إلى ثمانين، فقد أبعد وتكلف والتزم المشي على القول المزيف؛ لأن الصحيح أن مدار التحديث على تأهل المحدث، فقد حدث البخاري وما في وجهه شعر حتى أنه رد على بعض مشايخه غلطاً وقع له في سنده. وقد حدث مالك وهو ابن سبعة عشر. والشافعي وهو في حداثة السن. والحق أن الكرامة والفضيلة إنما هي بالعلم والعقل دون العمر والكبر. فكم من شيخ في سنّ يسنّ فيه التحديث وهو لا يهتدي إلى تمييز الطيب من الخبيث. شعر:
وعند الشيخ أجزاء كبار * مجلدة ولكن ما قراها
وكم من طفل صغير يفوق الشيخ الكبير في الدراية وملكة التحرير، والله يختص برحمته من يشاء.
("الحطة في ذكر الصحاح الستة"/لصديق حسن خان/ص 253-254/دار الآثار).
بهذا البيان كله أرجو الله أن يوفقني –والإخوة جميعا- على السداد على الصراط المستقيم دون إفراط ولا تفريط.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 8 رمضان 1435 هـ.
تعليق