نصرة الحقّ بالحجج الجليّة
لا تسمى تقليداً ولا حزبية ولا عصبية
كتبها الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن الإندونيسي
لا تسمى تقليداً ولا حزبية ولا عصبية
كتبها الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن الإندونيسي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة مؤلف عفا الله عنهالحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:فقد يلتبس على بعض طلبة العلم الفرق بين نصرة الحق بأدلته وبين نصرة شخص عصبية وتحزبا وتقليداً، فتختلط عليه الأمور، فيسيء الظنّ ببعض إخواننه الذين قام بنصرة الحق وأهل في أيام شدة غربة السنة.فأطلب من الله مولاي التوفيق في تسطير شيء من البيان تجلية للغموض ونسفا للغبار. وهذا البيان موجود في بعض الرسائل المتقدمة تدعو الحاجة إلى إعادتها وجمعها هنا، مع بعض الزيادات، فأقول بحول الله وقوته وحده:
الباب الأول: تعريف الحزبية
للحزب معان، ذكرهاالإمام الطبري رحمه الله، منها: الناصر. ("جامع البيان"/10 / 428/سورة المائدة:55).ومنها: الفريق. ("جامع البيان"/ 19 / 42 /المؤمنون : 53).ومنها: الجند والأتباع والأصحاب. ("جامع البيان"/23 / 255 /المجادلة: 19).ومنها: الولي. ("جامع البيان"/23 / 258 /المجادلة : 22).وحِزْب الرجُل : أصحابُه الذين على رَأْيه . والأحزاب : الطَّوائف من الناس ("النهاية في غريب الأثر"/1 / 945). وانظر ("المخصص"/لابن سيده /1 / 331).وقال الراغب الأصبهاني رحمه الله: الحزب جماعة فيها غلظ ، قال عز وجل : ﴿أي الحزبين أحـصى لما لبثوا أمدا﴾، وحزب الشيطان، وقوله تعالى : ﴿ولما رأى المؤمنون الأحزاب﴾ عبارة عن المجتمعين لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم : ﴿فإن حزب الله هم الغالبون﴾ يعني أنصار الله. ("المفردات في غريب القرآن"/1 / 115).وقال محمد بن محمد الحسيني رحمه الله: الحِزْبُ : الصِّنْفُ مِنَ الناس ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم : 32 ) أَي كُلُّ طَائِفَةٍ هَوَاهُمْ وَاحِدٌ . ("تاج العروس"/2 / 262).وقال ابن منظور رحمه الله: وحزب الرجل أصحابه وجنده الذين على رأيه والجمع كالجمع والمنافقون والكافرون حزب الشيطان، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضا بمنزلة عاد، وثمود، وفرعون، أولئك الأحزاب. وكل حزب بما لديهم فرحون، كل طائفة هواهم واحد. ("لسان العرب"/1 / 308).وقال الصاحب بن عباد: والحِزْبُ أصْحابُ الرَّجُلِ مَعَه على رَأْيِه وأمْره، والجَميعُ الأحْزَابُ. وتَحَزَّبَ القَوْمُ اجْتمعوا فصاروا أحْزاباً. وحَزَّبَهُم فلانٌ. وحازَبْتُه كُنْتَ من حِزْبِه. وفلانٌ يُحَازِبُ لفلانٍ أي يَعْصَبُ به ويَنْصُرُه. ("المحيط في اللغة"/1 / 206).وقال الجوهري رحمه الله: والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء عليهم السلام. ("الصحاح في اللغة"/1/ 126).وقال ابن سيده رحمه الله: والأحزاب جنود الكفار تألبوا وتظاهروا على حزب النبي صلى الله عليه وسلم وهم قريش وغطفان وبنو قريظة، وقوله تعالى: ﴿يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب﴾ الأحزاب هاهنا قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن أهلك بعدهم، وحزب الرجل أصحابه وجنده الذين على رأيه اهـ. ("المحكم"/ 3 /ص231).فالحزبية المقصودة في موضوعنا هذا: تعصب الشخص لشيعته وطائفته وفرقته، فيوافقهم في الأعمال، أو الأهواء، أو الأفكار ضد الحق.وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: فيجب على طالب العلم أن يتخلى عن: الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة معينة أو على حزب معين ؛ فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزابًا بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله - عز وجل -: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الحج: الآية 78) . فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلا من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلا عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى وإن كانوا أقرب إلى الحق منه، ويأخذا مبدأ: من ليس معي فهو عليّ، وهذا مبدأ خبيث؛ لأن هناك وسطًا بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا » ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في المسلمين، وتنوعت الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يُضَلّل بعضًا، ويأكل لحم أخيه ميتًا، لحقهم الفشل كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: الآية 46) لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. ("كتاب العلم"/للعثيمين/ص 89-91).وقال الإمام الوادعي رحمه الله: إن الشخص يتستر ولا يظهر حزبيته إلا بعد أن تقوى عضلاته ويرى أن الكلام لا يؤثر فيه، وأنا أعجب كل العجب، فبعضهم يقسم بالله ما هو حزبي. فلا أدري هل يعرف معنى الحزبية، لأن الحزبية تتضمن الولاء والبراء، والحزبية الضيقة. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا». -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ» (صحيح مسلم) إلخ ("غارة الأشرطة"/2/ص14-15/مكتبة صنعاء الأثرية).وسئل أيضا رحمه الله: كيف يحذر الشباب من الحزبيات غير الظاهرة والتي لا يحذر منها إلا قليل من الناسوكيف يعرف الشاب أنه خالف منهج السلف في ذلك؟فأجاب رحمه الله: يعرف بالولاء الضيق، فمنكان معهم فهم يكرمونه، ويدعون الناس إلى محاضراته وإلى الالتفاف حوله، ومن لم يكنمعهم فهو يعتبر عدوّهم. ("تحفة المجيب" /ص112/دار الآثار).فمن نصر الحق وأهله بأدلته لا يسمى حزبياً لأنه ينصره لإقامة دين الله على وفق شرع الله لا لغرض من الأغراض الشخصية.ومما يدل على أنه فعله لله: أنه يحب الشخص وينصره لما كان على الحق، فإذا عمل باطلاً وأصرّ على ذلك أبغضه ولم ينصره.قال الله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]؟! هذه الآية تدل على أن مودة أعداء الله ذنب قد يخرج صاحبه من الإسلام، وقد ينقص إيمانه فقط، على حسب تلك المودة الزائغة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً. ("مجموع الفتاوى" /7/ص 522-523). وقال تقي الدين أبو بكر بن محمد الدمشقي الشافعي رحمه الله: فقد نفى الله تعالى الوجدان ممن آمن، فدلّ على أن من وادّدهم ليس بمؤمن، وقد عدا بعض العلماء ذلك إلى مواددة الفسقة من المسلمين، فحرم مجالسة الفساق على سبيل المؤانسة، وقد صرح الرافعي والنووي بذلك في كتاب الشهادات. ("كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار"/2/ص71).وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه» الحديث. (أخرجه البخاري (الأذان/من جلس في المسجد/(660)) ومسلم (الزكاة/فصل إخفاء الصدقة/(1031)).قال الإمام ابن رجب رحمه الله: الرابع : المتحابان فِي الله - عز وجل -، فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله ؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا ، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه ، وهذا عزيز جداً –إلى قوله:- وقوله : «اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ» يحتمل أَنَّهُ يريد : أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا أو غيبة أحدهما عَن الآخر ، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله ، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً . قَالَ بعض السلف : إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله ، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى . ("فتح الباري" لابن رجب /3 / ص 370-371/دار الكتب العلمية).وقال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: إذا أحب الرجل أخاه في الله عز وجل ثم أحدث حدثا في الإسلام فلم يبغضه عليه فلم يحبه في الله عز وجل. (أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"/1 /ص90/ط. دار الأمم/سنده صحيح).
الباب الثاني: تعريف العصبية
إن العصبي هو الذي يغضب لعصبته ويُحَامي عنهم. والتعصب من العصبية، والعَصَبِيَّة: أن يدْعو الرجلَ إِلى نُصْرةِ عَصَبَتِه والتَّأَلُّبِ معهم على من يُناوِئُهُم ظالمين كانوا أَو مظلومين. (انظر "لسان العرب"/6/ص275، وص276. و "النهاية في غريب الأثر"/3/ص 204).هذا يدل على أن المتعصب هو الذي ينصر عصبته أو فرقته ويحامي عنهم محقين كانوا أو مبطلين. وليس أهل السنة متعصبين لأنهم قاموا بنصرة الحق وأهله بالأدلة لا من أجل المال ولا الجاه ولا الوطن ولا القبيلة. وقد قامت البينات والحجج.والحق عرف بالحجة، والحجة هي اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف. قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾.قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مسألة النزاع: وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله. ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد، وإما متعصب صاحب هوى عاص لله تعالى ورسوله صل الله عليه وسلم، متعرض للحوق الوعيد به. ("إغاثة اللهفان" /ص 323).
الباب الثالث: الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي الوجوب والفورية
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (أخرجه مسلم (49)).هذا الحديث يدل على وجوب تغيير المنكر لمن يستطيع ذلك. ذلك لأن الأصل في الأمر يقتضي الوجوب مع الفور وعدم التراخي.أما اقتضاؤه الوجوب فكما هو المعروف الراجح في أصول الفقه. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة». (أخرجه البخاري (887) ومسلم (252)).والمشقة حصلت عند أداء الوجوب، ولما لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم مشقة أمته لم يأمرهم به، فدل على أن الأمر المجرد يقتضي الوجوب.وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس، فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار. قال: «أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معى حتى اشتريه ثم أحل كما حلوا». (أخرجه مسلم (1211)).هذا يدل على أن الأمر المجرد يقتضي الوجوب.قال الإمام الطوفي رحمه الله: فإن قيل: هذا في أمر اقترن به ما دل على الوجوب، قلنا: النبي صلى الله عليه و سلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب لما غضب من تركه. وقول النبي صلى الله عليه و سلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب. ("روضة الناظر وجنة المناظر"/ص 195).وقال الإمام علاء الدين علي المرداوي رحمه الله في أن الأمر المجرد عن قرينة حقيقة في الوجوب: هذا مذهب إمامنا وأصحابه، وجمهور العلماء من أرباب مذاهب الأربعة وغيرهم. ("التحبير شرح التحرير" /ص2202/مكتبة الرشد).وأما الفورية فقد قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].قال الإمام الطوفي رحمه الله: ولنا أدلة أحدها: قوله تعالى: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أمر بالمسارعة وأمره يقتضي الوجوب. الثاني: أن مقتضاه عند أهل اللسان الفور فإن السيد لو قال لعبده اسقني فأخر حسن لومه وتوبيخه وذمه ولو اعتذر عن تأديبه على ذلك بأنه خالف أمري وعصاني لكان عذره مقبولا. ("روضة الناظر وجنة المناظر"/ص 203).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في قصة حديبية: ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر. وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ فأخروا متأولين لذلك. وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه، وهو باطل فإنه صلى الله عليه و سلم لو فهم منهم ذلك لم يشتد غضبه لتأخير أمره ويقول : «مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور، وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة. ("زاد المعاد"/3 /ص273/ط. الرسالة).ولاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليغيره بيده»، فإن الفاء هنا تدل على التعقيب. قال أبو زرعة العراقي رحمه الله: للفاء معنيان: أحدهما: الترتيب والتعقيب. ("الغيث الهامع"/1/ص222/ط. الفاروق).وقال الزركشي رحمه الله: الفاء : وهي للترتيب وزيادة ، وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن ، وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه. ("البحر المحيط"/3 /ص12).فإذا تبين لنا أن الراجح فورية الأمر، فمن رأى منكر وهو قادر على تغييره نصرة لدين الله فليبادر إلى التعاون على تغييره وبث النصيحة بدون التواني.قال الله عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة/2].وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آَمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾]آل عمران/52[.وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وإذا وقع بين معلّم ومعلّم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلّم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يعاونه بجهل، ولا بهوى. بل ينظر في الأمر. فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط. ("مجموع الفتاوى"/28 / ص 16).فأهل السنة ينصرون الحق وأهله ويدافعون عن المظلومين بأمر الله تعالى، سواء يطلب المظلوم النصرة منهم أو لا.عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه». (أخرجه مسلم (2564/دار ابن الجوزي).قال الإمام ابن العثيمين رحمه الله: «ولا يخذله» في مقام يحب أن ينتصر فيه. وقال رحمه الله في فوائد الحديث: ..السادسة: بيان حال المسلم مع أخيه وأنه لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، لأن ذلك كل هذا ينافى الأخوة الإيمانية. ("شرح الأربعين النووية"/ص249-251/الدرة السلفية/مكتبة الأنصار).
وقال الإمام النووي رحمه الله : «ولا يخذله» أي عند أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو عند مطالبته بحق من الحقوق، بل ينصره ويعينه ويدفع عنه الأذى ما استطاع. ("شرح الأربعين النووية"/ص246/الدرة السلفية/مكتبة الأنصار).
هذا هو منهج السلف.قال شيخ الإسلام رحمه الله في صفات الفرقة الناجية: فصل: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ؛ يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه»([1])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»([2]). ("العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية"/مع تعليق الإمام ابن باز رحمه الله /ص90/ط. دار الآثار).وبهذا عرفنا أن تخذيل أهل الحق في وقت الحاجة ليس من صفات المؤمنين. انظر ("مجموع الفتاوى"/28 / ص 208/إحالة/دار الوفاء).فهذا واجب من الواجبات تنزل من السماء، فأهل السنة ينصرون الحق وأهله بأمر الله لا بأمر المظلوم.فإذا رأوا منكراً أو ظلماً قاموا بتغيير ذلك، وليس من شروطه إذن من المظلوم. هذا إذا كان الاعتداء حاصلا على مظلوم واحد، فكيف إذا حصل على عدد من الأبرياء، بل على المنهج السلف؟ فلا ينبغي السكوت، بل على القادر أن يقوم بالحق لله، بدون إفراط ولا تفريط، ولا تقصير ولا مجاوزة الحدّوقال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال لصاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله. والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحقيّ على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذى عليهم اعتماده اهـ ("مجموع الفتاوى"/28 / ص 17/إحالة/دار الوفاء).فنحن نخاف على أنفسنا التقصير مع القدرة فعاقبنا اللهُ من حيث لا نشعر.قال الإمام ابن القيم رحمه الله: لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن ضار مسلما ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه، ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه، -إلى قوله:- فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل. ("إعلام الموقعين"/1/ص157-158).
الباب الرابع: رسوخ العلم وقوة الحجة في العمل دليل على عدم التقليد
الحمد لله الذي بصر السلفيين ووفقهم على الإنصاف وعدم الكيل بكيلين، فقام بنصرة الحق وأهله في هذه الفتنة قياما على علم ويقين لا مجرد الظنون ولا التقليد.قال ابن حزم رحمه الله: والعلم: هو تيقن الشيء على ما هو عليه، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل،... إلخ. ("الأحكام"/1 / ص 34).وقال أبو هلال العسكري رحمه الله: العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه على سبيل الثقة. ("الفروق اللغوية"/للعسكري/ص94/دار الكتب العلمية).وقال الإمام ابن الوزير رحمه الله: فالعلم الحق ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك. ("إيثار الحق على الخلق"/ص 120).ولا يكون العلم إلا أن يكون مبنياً على الدليل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول. فالشأن في أن نقول علما وهو النقل المصدق والبحث المحقق، فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق. ("مجموع الفتاوى"/6/ص 388).وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في "النونية" (ج 1 / ص 65):إذ أجمع العلماء أن مقلدا*** للناس والأعمى هما أخوانوالعلم معرفة الهدى بدليله*** ما ذاك والتقليد مستويانوقال الإمام الصنعاني رحمه الله: فالعلم هو المعنى الذي اقتضى سكون النفس بما علمته، وهو الذي يعبرون عنه بأنه التصديق الجازم المطابق مع سكون النفس. ("إجابة السائل شرح بغية الآمل"/1/ص33).وقال الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: والعلم معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر ليس إلا. ("عيون الرسائل"/له/2/ص525-526/مكتبة الرشد).فلا شك العقلاء أن من قامت لديه بينات، وشهادات الثقات، مع تظاهر الأمارات ودلالات الحال فقد حصل على علم. بل العلم يحصل بما هو أقلّ من ذلك.وأما من لم يفهم المسألة ويرمي أهل السنة بمجرّد الظنون والتخرصات، لا بينة ولا ضبط. جدير أن يذكَّر بما قاله الإمام السرخسي رحمه الله: فإن زعمت أنك تقوله عن علم، فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل. ("أصول السرخسي"/2/ص217).فأهل السنة متبعون لا مقلّدون. وليس التقليد مجرد مساواة الأقوال والآراء، ولكن التقليد اتباع من ليس بحجة بغير حجة.قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: التقليد في اللغة وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به ويسمى ذلك الشيء قلادة. والجمع: قلائد. قال الله تعالى: ﴿ولا الهدي ولا القلائد﴾. ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم: «ولا تقلدوها الأوتار». قال الشاعر ... قلدوها تمائما ... خوف واش وحاسد ... ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة كأنه ربط الأمر بعنقه، كما قال لقيط الإيادي:وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا ... وهو في عرف الفقهاء قبول قول الغير من غير حجة. أخذا من هذا المعنى فلا يسمى الأخذ بقول النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع تقليدا لأن ذلك هو الحجة في نفسه.(انتهى من " روضة الناظر وجنة المناظر"/ص382).وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: وأعلم أن قول الغير لا يطلق إلا على اجتهاده ، أما ما فيه النصوص فلا مذهب فيه لأحد ولا قول فيه لأحد لوجوب اتباعها على الجميع ، فهو اتباع لا قول حتى يكون فيه التقليد. والاجتهاد إنما يكون في شيئين :أحدهما : ما لا نص فيه أصلاً .والثاني : ما فيه نصوص ظاهرها التعارض ، فيجب الاجتهاد في الجمع بينها ، أو الترجيح .(انتهى من " مذكرة أصول الفقه"/ص287).وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: والتقليد عند العلماء غير الاتباع ؛ لأن الاتباع هو تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى. ("جامع بيان العلم وفضله"/2/ص489).فبهذا البيان كله عرف العقلاء السلفيون الذين قاموا بمناصرة الحق وأهله هم على بينة من ربهم، لا على تقليد، وذلك من فضل الله علينا وعلى العقلاء، ولكن أكثر الحزبيين لا يعلمون.والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
10 شعبان 1435 هـ
دار الحديث - مسجد الفتح صنعاء اليمن
حرسها الله
([1]) أخرجه البخارى (2446/دار الكتب العلمية) ومسلم (2585/دار ابن الجوزي)
([2]) أخرجه البخارى (6011/دار الكتب العلمية) ومسلم (2586/دار ابن الجوزي)
([2]) أخرجه البخارى (6011/دار الكتب العلمية) ومسلم (2586/دار ابن الجوزي)
تعليق