التعصب الذميم
(بمقدمة جديدة)
محاضرة مفرغة للشيخ العلامة
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد :
فإن كتابي هذا كان تأليفه في حدود عام (1411هـ) لمواجهة تيار جديد من التعصب حينذاك.
وأعتقد أنه كان له أثره في تثبيت السلفيين الصادقين على الحق.
وكشف حال المزيفين ممن تجرفهم العصبيات العمياء وتيارات الأهواء.
واليوم يُعاد نشره في المواقع السلفية لمعالجة أمراض التعصب؛ لعل الله أن ينفع به أناساً يريدون بأعمالهم ومواقفهم وجه الله والدار الآخرة، ليس للشيطان عليهم سلطان؛ كما قال تعالى عنه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) [النحل 99-100].
أسأل الله أن يصرف مكايد الشيطان عن كل المؤمنين.
إن ربنا لسميع الدعاء.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
10/2/1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيــد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه .
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
هذا الحديث واحد من الأحاديث الكثيرة التي تعد من جوامع الكلم التي أمتاز بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وسائر ولد آدم .
فخير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم في كل أبواب العقائد والشرائع والسياسة والأخلاق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعامل مع أعداء الله من كل أصناف أهل الكفر والنفاق والتعامل مع أهل المعاصي والبدع . وفي أبواب الولاء والبراء ، الولاء لأهل الحق والبراء من أهل الباطل كفاراً كانوا أو أهل أهواء ، على شئ من التفصيل في أهل الأهواء على قدر بدعهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين .
وقد فهم سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ ومن تبعهم بإحسان كل هذه المضامين أحسن الفهم . والتزموها أقوم التزام وطبقوها أحسن تطبيق وخالفهم فيها أهل الأهواء في الفهم والالتزام والتطبيق في كل هذه المضامين في الجملة ، على شيء من التفاوت بينهم .
خالفوهم منذ طل رأس الفتنة في عهد الصحابة ، وعلى مر الزمان تتسع الدائرة وتتكاثر البدع ، وتتكاثر الفرق بتكاثر البدع إلى يومنا هذا ،وسبب ذلك هو جنوح الأهواء المردية الذي يجر إلى سوء الإدراك وسوء الفهم وانحلال عقد الالتزام والانضباط وسوء المقاصد، هذه الأمور المردية التي نجى الله منها السلف الصالح ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا .
هذه الأمور جعلت كثيرا من أهل الأهواء والفرق في وضع مزر يشابهون فيه إلى حد كبير أعداء الرسل في الإصرار على الباطل والتعصب له ولو أدركوا أنهم على ضلال وباطل ، كما قال تعالى في أعداء الرسول : )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً( ( ). وكما قال تعالى : )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ( ). هذا ما عليه العتاة وأهل العناد من أهل الباطل .
وأما الغثاء والرعاع أتباع كل ناعق فهم يشابهون أعداء الرسل في قولهم )إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ( ( ) ولهم حظ من قول الله تعالى : )ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون( ( ).ولأسباب منها جهود أهل السنة في مقاومة الباطل خفت حدة التعصب للعقائد وحدة التعصب للمذاهب في هذا العصر .
لكن الداهية الدهياء ، والضلالة العمياء والطامة الكبرى أنه قد خلفها ما هو شر منها ، وهو التحزب السياسي الوريث الجديد لتلك الأدواء .
والمصابون به أصناف :
(1) منهم من ظهر إلحاده وكفره وإدارة ظهره للإسلام ، فهؤلاء ليس لهم إلا الدعوة إلى الإسلام أو سيف أبى بكر إن وجد إذا لم يستجيبوا لهذه الدعوة.
(2) ومنهم من يرفع شعارات إسلامية لكنها خالية من العقيدة الإسلامية الصحيحة ومن أصول إسلامية مهمة ومثخنة بالأمراض الفتاكة السابقة .
نشأ عنها :
1 – تولي الروافض والانسجام معهم والتهوين من رفضهم بل إنكاره وإنكار ما عندهم من كفريات وتكفير، والدعوة إلى التلاحم معهم تحت شعار التقريب.
2 – تولي الصوفية بمختلف طرقها بل كثير منهم من أحلاس التصوف .
3 – كانوا يتظاهرون بالتركيز على مجابهة الكفار : الشيوعيين واليهود والنصارى والعلمانيين لإسكات أهل السنة والتوحيد وإقامة الحواجز المنيعة من وصول دعوة الحق إلى كثير من ضحايا البدع بأصنافهم ممن عساه أن يستجيب لدعوة الحق .
وقد سلكوا أبشع الطرق ، ونفذوا أفجر الخطط في هذا المضمار لصد الناس عن سبيل الله بل لإفساد كثير من أبناء التوحيد.
ثم إن الله تعالى الشديد المحال هتك أستارهم ، وكشف عوارهم بعد قيام دولتهم والوصول إلى غايتهم ، فأصبحوا يعقدون المؤتمرات للدعوة إلى وحدة الأديان والتآخي بين الإسلام وشتى الملل والنحل ، ويتلاحمون مع أصناف الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين في أنحاء الدنيا .
وفريق ثالث : متفرع عن هذا الصنف الثاني ومشتق منه ، لكنه يدعى أنه على منهج السلف الصالح تلبيسا وخداعاً ومكراً ، فكان ضرره أشد من أصله، ومكره أشد من مكره .
هذا الفريق يتمسح بأعلام المنهج السلفي لاسيما ابن تيمية ليتمكن بهذا التمسح وتحريف كلامه وكلام غيره من حماية أهل البدع ومناهجهم الباطلة وإبقائهم على ما هم عليه من عقائد ومناهج وانحرافات سياسية وفكرية .
ولتحقيق هذه الأهداف الخطيرة ألفوا الكتب ، ووضعوا الأصول والمناهج ومنها منهج الموازنات وتعدد الحزبيات .
وفي الوقت نفسه يشنون الحملات الشعواء على أهل السنة والتوحيد ويقذفونهم بالعظائم ففاقوا سابقيهم في نصرة أهل الباطل ، وحماية باطلهم والذب عن شخصياتهم ، ومحاربة أهل الحق وظلمهم بما لا يخطر ببال أشد أهل البدع وأغرقهم في الضلال .
ولكن الله شديد المحال القائل : )ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ( ) )وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ( ). قد استدرجهم حتى فضحهم وهتك أستارهم كما فعل بأشياعهم .
وإن شئت فاقرأ ما ألفوه مع ما انتقدهم فيه أهل الحق، وسوف يلاحقونهم إن شاء الله في جحورهم وقمع باطلهم حتى يظهر أمر الله وهم كارهون .
وإن شئت مرة أخرى فاسألهم عن أهل البدع ومنهم الدعاة إلى وحدة الأديان وأعداء السنة والتوحيد ، واستمع إلى إجابتهم وقارن بينهم وبين إجابات ومواقف السلف لترى بعد الشقة بينهما .
فإلى المغرورين المخدوعين بهذه الأصناف نوجه صرختنا هذه ضد الباطل بأصنافه وضد التعصب المهلك الذي يجر إلى عبادة الأحبار والرهبان ، والتضحية بحب الحق وأتباعه وعدم المبالاة بسخط الرحمن ومحاربة الحق وأهله والارتماء في أحضان أهل الباطل .
نهيب بهؤلاء المخدوعين إلى كسر الأغلال التي لفها على أعناقهم أولئك الماكرون المخادعون وإلى كسر الحواجز والحجب التي وضعوها بينهم وبين رؤية الحق بأنواره الساطعة ليعيشوا في ظلمات العبودية للأهواء والباطل ومروجيه .
اللهم أنقذ هؤلاء الأسرى الذين يكافح أهل الحق لإنقاذهم واستخلاصهم من قبضة الظالمين الذين حبسوهم في ظلمات الباطل وكهوف الهوى وسراديب المكر والدهاء إنك سميع الدعاء .
a( )
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( ( ).
)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا( ( ).
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاُ عظيماً( ( ).
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
وبعد ...
فإن حديثنا عن موضوع خطير جداً ، ألا وهو التعصب الذميم ، وما يؤدي إليه من آثار وإنه لداء عضال فتك بعقول الأمم ، وحطم المباديء وفتك بالأرواح ، وإنه لأول داء ابتلي به الخلق ، فإبليس اللعين أول عاص كان سبب معصيته هو التعصب )خلقتني من نار وخلقته من طين( ( ) تعصب واعتزاز بعنصره ، وقوم نوح وغيرهم من الأمم الضالة التي كذب الرسل الأحزاب .. الفرق .. أهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس والهنادك ، وسائر الكفرة والوثنيين، ما فتك بهم إلا هذا الداء العضال ـ والعياذ بالله ـ
الفرق الضالة المنتمية للإسلام قديما وحديثا سواء أصابها هذا الداء في عقائدها أو في عباداتها .
الأمراض القبلية كلها من هذا المنطلق .
إذاً هو داء فتاك بالأفراد والجماعات ويؤدي إلى تكذيب الرسل، وإلى الكذب والمغالطات في نشر المباديء الهدامة والأفكار الضالة ، فيجب أن يتحسس كل فرد وكل جماعة مواطن هذا الداء فيخلص كل واحد وكل جماعة فكره وعقله وحياته من هذا الداء الخطير ، ويتجه كل مسلم منا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففيهما الشفاء والدواء الناجع للتخلص من هذه العاهة الكريهة البغيضة ، نسأل الله أن يعافي الأمة الإسلامية من هذا المرض الفتاك وأن يوحد صفوفها ويجمع كلمتها .
إن الإسلام دين الحق نزل من الله الملك الحق المبين ، الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، والله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ، وحارب الظلم والعدوان والبغي في مختلف صورها ، ومن مختلف مصادرها والتي يبعث عليها في الغالب إنما هو هذا الداء ... داء التعصب ، وإن التعصب الذميم للأديان والقبائل والأشخاص والأفكار والمذاهب والأحزاب قد حاربه الإسلام أشد الحرب، ذلك أن التعصب المقيت هو المنبع الوحل المتعفن ،والمصدر البغيض لكل هذه الأدواء الفتاكة ، فهو الدافع للأحزاب الكافرة الظالمة لأن تقف في وجه الرسل والرسالات بالتكذيب والافتراء والاتهامات والجدال والخصام بالباطل ، قال تعالى: )ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( ( ).
حجة أهل التعصب
ما هي حجتهم في خضم هذا الجدال والصراع ضد الرسل وعلى امتداد التاريخ الإنساني ؟
الجواب : تكاد تكون حجة لكل الأمم وهي عمدة كل متعصب عاجز ظالم ، قال تعالى : )ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون ، فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشراً مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين( ( ).
هذه حجتهم ... لم يأتهم مثل ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام من طريق آبائهم ، ولو جاءهم من طريق آبائهم لقبلوه ولكنه جاء من طريق آخر ، وذلكم هو التعصب ، قال تعالى : )وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ، وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ، أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ، بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون( ( ) تعصب للآباء وعقائدهم مهما كان فيها من شر ، ومهما انطوت على الضلال والكفر ، قال تعالى : ) قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين( ( ).
عواقب التعصب
فما هي عواقب هذا التعصب والتقليد والعناد والتكذيب ؟
لقد ذكر الله جل وعلا عواقب ذلك في سور وقصص كثرة في القرآن الكريم لتأخذ هذه الأمة من مصائرهم ومصارعهم عبراً ، ولتحذر أشد الحذر من الوقوع في مثل ما وقعت فيه تلك الأمم ، فتكون العاقبة مثل عاقبة تلك الأمم والمصائر مثل مصائرهم ، سنة الله في عباده لا تتبدل ولا تتغير عدلاً من الله وحكمة وهو العليم الحكيم الحكم العدل .
قال تعالى في سورة العنكبوت بعد أن ذكر قصة نوح وقومه ، وإبراهيم وقومه ولوط وقومه وما تضمنته قصصهم من إهلاك هذه الأمم المكذبة المتعصبة المعاندة ، قال تعالى : )وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا اله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ، وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمـون( ( ).
هذه نتائج التعصب في الدنيا ، هلاك ودمار والعياذ بالله حاق بكل هذه الأمم التي ذكرت في هذه الآيات من سورة العنكبوت ، سلكهم الله تبارك وتعالى في مسلك واحد وبين نهايتهم الوخيمة والعياذ بالله .
أما نتائج هذا التعصب والعناد في الآخرة فهي :
أولا : خصومة مع زعمائهم :
قال تعالى : )وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( ( ).
هؤلاء ضحايا التعصب الأعمى وضحايا التقليد واتباع الهوى .
وقال تعالى : )وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ( ( ).
وقال تعالى : )ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين مـن النـار( ( ).
وقال تعالى : )إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً ، خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيرا ، يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا( ( ).
هذه هي نهاية الكفار الضالين الذين حملهم التعصب على تكذيب الرسل، وعلى العناد ، وعلى القتال ، وعلى سائر المشاكل التي واجهوا بها رسلهم ، فالنهاية يوم القيامة هي أن يلعن بعضهم بعضاً ، ويتمنى كل فريق منهم من التابعين والمتبوعين أن يضاعف العذاب على صديقة وحبيبه وحميمه ، وقد كانوا في الحياة الدنيا يشد بعضهم أزر بعض في مواجهة الحق ، فهذه نهايتهم الأليمة مع الأسف الشديد .
وللمتعصبين سواء انتسبوا إلى الإسلام أو إلى غيره حظ من هذا العذاب ومن هذا العتاب الذي سيتبادل بينهم يوم القيامة ، وسيتمنى كل فريق وكل فرد أن لو اتخذ مع الرسول سبيلا .
قال تعالى : ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً ا( ( ).
وقال تعالى : )وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ( ( ).
ولو قليل ولو لحظة حتى ولو أدنى شيء من التخفيف ... هل يغني عنهم شيئا هؤلاء ؟ هل يغني فرعون عن أتباعه ؟ هل يغني أبو جهل عن أتباعه ؟ هل يغني نمرود عن أتباعه ؟ هل يغني أي ضال داع إلى الضلال شيئا ولو قليلا حقيرا عن التابع ؟!
كــــلا ....!!
هذه التي سلفت خصومة الأتباع والمتبوعين :
ثانيا : وهذه خصومة أخرى بين العابدين والمعبودين :
قال تعالى : )وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إنى كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( ( ).
هذه هي نهاية العلاقة بين الشيطان وبين البشر الذين أضلهم من أولهم إلى آخرهم إلا من نجى الله تعالى من حبائله من عباده المخلصين .
يقال : إنه يقف خطيباً فيهم بهذا الكلام ويتبرأ منهم ويتبرؤن منه ويستغيثون به فلا ينجدهم وهو لا يجد صريخا منهم .
وقال تعالى : )ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( ( ).
فالملائكة عبدت من دون الله ، ولكنهم معصومون ، إلا أن الشياطين هي التي أضلت الناس ، وزينت لهم عبادة الملائكة ، وقالت لهم : إن الملائكة بنات الله وإنها تستحق العبادة ، فصنعوا لهم الأصنام والرموز ثم عبدوها فهل تلك العبادة هي عبادة للملائكة ؟ كــــلا ...
فلعنة الله على الكاذبين الظالمين :
وقال تعالى : )ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ، قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ، وقيل ادعوا شركاءكم فدعون فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون( ( ) ... يعني يتمنون أن لو كانوا على هدى وهذه هي النهاية الأليمة ، والفاجعة العظيمة ، والطامة الكبرى للتعصب الذميم والتقليد الأعمى لتحذر الأمة الإسلامية من ذلك الشر المستطير ، والبلاء الماحق.
فالله تبارك وتعالى يقص علينا هذه القصص حتى نعتبر قصص الأنبياء مع أممهم وبيان مصارعهم كذلك لنعتبر ونتعظ ونحذر أن نقع في هذا المنزلق الخطير الذي وقعت فيه الأمم فهلكت ، كما قال تعالى :
)وكلا نقص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين( ( ).
هل استفادت الأمة من المثلات التي نزلت بالأمم الظالمة :
ولكن مع الأسف الشديد أن كثيرا من هذه الأمة وقع في هوة التعصب الأعمى ، والتقليد البليد ، في عقائدهم ، وعباداتهم وسياساتهم ، وأخلاقهم وعاداتهم ، وكأن القرآن لا يعنيهم من قريب ولا من بعيد وكأنه لا يخاطبهم ولا يبصرهم ولا يحذرهم إذا ذكر عيوب الأمم السابقة ، وعقائدهم ، وأخلاقهم ، وإذا تبين كيف كانت تلك الأمور سببا في إهلاكهم وتدميرهم في الدنيا، وسبب شقائهم الأبدي وعذابهم الشديد السرمدي في الآخرة ، فتراهم يرتكبون كل الشنائع دون مبالاة ولا خوف ولا خجل ، وكم جاءت النذر ونزلت بهم المصائب والكوارث فلم يأخذوا من الدروس والعبر والعظات ما يدفعهم إلى العودة إلى الله فيتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويبتعدوا عن تلك الأعمال والعقائد المدمرة ، ويبتعدوا عن التعصب الذميم الذي مزقهم شر ممزق ، وسلط عليهم الأمم الكافرة أيما تسليط ، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ستتردى فيه معظم هذه الأمة وأنها ستتبع سنن من قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة فإنا لله وإنا إليه راجعون .
اتباع هذه الأمة سنن من قبلها
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع) ( ).
وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبرا وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟) ( ).
وعن أبى واقد الليثي رضى الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله: أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : : (الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" لتركبن سنن من كان قبلكم) ( ).
وعن أنس وغيره رضى الله عنهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي ؟ قال الجماعة) ( ).
وحذر صلى الله عليه وسلم من التعصب والعصبية العمياء ...
فعن أبى هريرة رضى الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلته جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذى عهد عهده فليس مني ولست منه) ( ) والشاهد في قوله : يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة عصبية مذهبية أو قبلية أو غيرها من العصبيات التى تنافي المبدأ الإسلامي الذي يدعو للأخوة في الله ، ونبذ هذه العصبيات على مختلف أشكالها وألوانها فهذا تحذير من العصبية المقيتة وتنفير منها .
وقال صلى الله عليه وسلم لما قال أحد المهاجرين : يا للمهاجرين ، وقال أحد الأنصار : يا للأنصار فقال عليه الصلاة والسلام : أدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة) ( ).لفظ الأنصار لفظ ممدوح ولفظ المهاجرين كذلك ، وأثنى الله على المهاجرين والأنصار لجميل صنعهم ، وكمال أفعالهم وقوة إيمانهم ، ولكنها لما صدرت عن عصبية سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية ، وقال إنها منتنة.
أما المهاجرون والأنصار فلم يكن لهذه الدعوى أي أثر فيهم؛ لرسوخ إيمانهم؛ لا سيما ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم، وأما المتأخرون فقد فعلت بهم العصبيات فعلها إلا من سلّم الله.
دعوة الإسلام إلى الأخوة بين المؤمنين
قال تعالى : )إنما المؤمنون إخوة ( ( ) وقال عليه الصلاة والسلام : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ( ). وقال عليه الصلاة والسلام : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) ( ). إلى آخر الأحاديث التي جاءت تدفع المسلمين إلى التآخي ، وإلى التحاب وإلى التناصر على الحق وضد العدوان وضد الظلم والطغيان ، كما في الحديث : (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قال : هذا أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه) ( ).
فالناس يتصورون الظلم في السطو على الأموال فقط، أو الأعراض ، ولكن الظلم قد يكون للعقيدة ... قد يكون للقرآن ... قد يكون للسنة ... قد يكون للمسلمين ... إنسان يدعو إلى الحق ويدعو إلى الإصلاح ويدعو إلى الخير فيظلم فيجب نصره بالحق ، وسيأتي كلام العلماء في طريقة التناصر ، وعلى أي أساس تكون هذه المناصرة .
ولكن للأسف هذه التوجيهات العظيمة البناءة تغلَّب عليها التعصب الهدام، والتقليد الأعمى ، والأهواء البغيضة ، ولم يستفد من تلكم التوجيهات إلا القليل من الناس، المتمثل ذلك القليل في الطائفة الناجية التي امتدحها النبي عليه الصلاة والسلام ، وذكر أنها ستبقى إن شاء الله إلى قيام الساعة ، أبقاها الله وأيدها ونصرها ، ووفق جميع المسلمين إلى العودة إليها والالتفاف حولها .
لقد ظهرت العصبيات والمذهبيات في العقائد وفي العبادات وفي السياسة وفي غيرها ، فكيف كانت مواقف أئمة الإسلام من هذه العصبيات الجاهلية الظالمة التي مزقت المسلمين ، وأضرت الإسلام في الوقت نفسه ؟
والجواب : أن الصحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن عمر تبرؤا من أهل العصبيات والأهواء كما روى ذلك الإمام مسلم حينما جاء خبر الذين اخترعوا فكرة نفي القدر فقال : "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برى منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر" ( ).
وحث النبي عليه الصلاة والسلام على قتل الخوارج ، وسماهم (شر الناس) ووصفهم بأنهم (أبغض الناس إلى الله) ، وبأنهم (شر من تحت أديم السماء) ، وقال : (اقتلوهم حيثما وجدتموهم) ، مع تشددهم في العبادة التي لا يلحقون فيها .. حتى إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يلحقون هؤلاء في صلاة ولا في صيام ولا في قراءة القرآن كما قال عليه الصلاة واسلم : (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ( ).
وقال أيضاً : (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة) ( ). لأنهم كانوا مع عبادتهم يتمتعون بهوى جامع وتعصب مقيت ، أدى بهم إلى الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى رفض كثير من النصوص التى تعالج أمراضهم بعصبيتهم ولكنهم ما كانوا يرجعون ، يحملهم شدة التعصب لما هم عليه على أن لا يعودوا إلى الحق ، ولا يحترموا أهل الحق ، بل يستبيحون دماءهم وأموالهم قبل أن يستبيحوا دماء الكفار والمجوس وغيرهم .
وقد تكلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة رواها علي وأبو سعيد وجماعة من الصحابة تبلغ أربعة عشر حديثا ، بل الأحاديث فيهم متواترة ، في ذمهم ورميهم بأنهم أصحاب أهواء ، وإن تعبدوا وأمعنوا في العبادة وفاقوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فإن هذه لا وزن لها إذا لم تقم على أساس سليم ومنهج سديد .
أما أهل الكلام المتعصبون لفلسفة اليونان الذين أولوا وحرفوا نصوص القرآن من أجل تلك العقائد الفاسدة وتعصبوا لها رغم تحذير أئمة الإسلام الأعلام وبيانهم لمفاسد هذه الأفكار وهذه العقائد التي جروها إلى الأمة الإسلامية أدخلوا الأمة الإسلامية في دوامة من الجدال والصراع المؤدي أحيانا الى القتال والى سفك الدماء ، فلقد ذمهم الأئمة أشد الذم كالإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة والأوزاعي والثوري وابن المبارك والبخاري ومسلم وألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة تبين فساد علم الكلام وأضراره الخطيرة وماذا يستحق أهله من الجزاء حتى لقد قال فيهم الإمام الشافعي : "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك كتاب الله وسنة رسول الله وأقبل على علم الكلام " أهـ .
وكلام أحمد وغيره من أئمة الإسلام كثير كثير ولهم دواوين ولله الحمد انتشرت في هذا العصر وأخرجتها المطابع وتزخر بها المكتبات فارجعوا إليها لتروا مواقف الأئمة الحازمة في رد هذا الشر وقمعه وبيان ضلال أهله وتحذير الأمة من شرهم ومن ضلالهم ، ومع الأسف الشديد مع كل هذا تكاد الأمة تجمع على بطلان هذا المنهج وفساد علم الكلام ، وعلى مر الأيام وتتابع الأزمان أصبح أصل الإسلام هذه الفلسفة اليونانية الضالة الجاهلة أصبحت أصل الإسلام في نظرهم الفاسد وأصبحت هي التوحيد مع الأسف الشديد .
وما الذي حمل هؤلاء أن يبلغوا بهذا العلم الجاهلي إلى أن يسمى أصل الدين ؟ إنما هو التعصب الأعمى والهوى الجامح الذي تحكم بعقول هؤلاء الذين ابتعدوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهم القضايا الإسلامية التي دار عليها نصوص كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينتها ووضحتها غاية البيان ، مع كل ذلك يجترؤن تعصبا وبغيا على أهل السنة والجماعة وعلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمنعون في تدريسه وتقريره في جامعات ومساجد ومدارس ويسمى مراغمة للحق وأهله : التوحيد ... وأصل الإيمان ... وأصل الإسلام ... مع الأسف الشديد .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يبصر هؤلاء ويقودهم بنواصيهم إلى الحق والخير وإلى العودة الجادة إلى كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .
ويأتي بعد بدعة الخوارج والروافض والكلام أخطر من هذه الأدواء ذلك الداء الذي استشرى في الأمة الإسلامية وسيطر على عقولها ردحاً من الزمن شعوباً وحكاماً ، ذلك الداء العضال المسمى بـ "التصوف" الذي اكتسح عقول الفقهاء وكثير من المحدثين وجر الأمة الإسلامية إلى متاهات ـ والعياذ بالله ـ جرها إلى الضلال في العقائد في ذات الله ، في أسمائه ، في صفاته في عبادته وانتشرت القبور وعبادتها وشد الرحال إليها والطواف بها وإلى آخره من البلايا والدواهي التى نزلت بالمسلمين وعقولهم وعقائدهم وللأئمة فحول العلماء كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن حجر والسخاوي والبقاعي وغيرهم ، مؤلفات وكلام يدمغ هذه الطائفة بل غلاتها ، يدمغهم بالضلال والانحراف .
وما الذي حملهم على هذا ؟ إنما هو ذلكم الداء العضال الذي فتك بكثير من الأمة الإسلامية من فجر تاريخها ألا وهو داء الهوى وداء التعصب ، ويسرى هذا الداء إلى ميدان العبادة وإلى الفقه الإسلامي فتجد الأمة قد تفرقت فرقا وتمزقت تمزقا وتعصب كل فريق لمذهب معين ولاتجاه معين مع الأسف الشديد ، مع أن نصوص الكتاب والسنة تدعو إلى وحدة الأمة وإلى التفافها حول كتاب ربها وسنة نبيها ، فكم آية حثت على اتباع الصراط المستقيم وعلى الاعتصام بحبل الله وعلى طاعة الرسول وحذرت من مخالفة أوامر الرسول )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( ( ). آيات كثيرة تأتي تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على اتباع ما أوحي اليه ، وتحث الأمة على اتباع هذا الكتاب وأن لا يتخذوا من دون الله أولياء ، ولقد لاحظ ابن عباس شيئاً من التعصب لأعظم الخلفاء أبى بكر وعمر فقال لهم : "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله وتقولون : قال أبو بكر وعمر"
قال الإمام أحمد مفسرا قوله تعالى : )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( قال : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ( ) والعياذ بالله.
وقال رحمه الله أيضا : إنى لأعجب لقوم يعرفون الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان ، وكلام الأئمة فيه كثير .
تحذير الأئمة من التعصب
وحذر من التمذهب والتعصب الأئمة الأربعة أنفسهم رضوان الله عليهم وكلامهم مدون في سجلات الإسلام ودواوينه لله الحمد ، ما عفا عليه الغبار وما نسج عليه العنكبوت ، إنما هو باق حجة دامغة لمن يتعصبون للأئمة أو غيرهم، وقد حذروا أشد التحذير من التعصب ، هذا التعصب الذي أدى بكثير منهم إلى رد النصوص الصريحة الواضحة من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
مفاسد التعصب
نصوص كثيرة ردت وهي في غاية الوضوح ... من أجل ماذا ؟ وما الذي حملهم على ردها أو تأويلها أو تحريفها ؟ إنما هو ذلكم الداء المقيت داء التعصب والعصبية العمياء ، والعياذ بالله وقد ذكر بعض العلماء ومنهم ابن القيم المفاسد التي تردى فيها المتعصبون للمذاهب فقال منها :
أولا : مخالفة النصوص الثابتة من الكتاب والسنة تعصبا للمذاهب ، وتقديم الرأي المحض أحيانا عليها .
ثانيا : كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها، حملهم التعصب وبعضهم يكذب ويفتري نصرة لمذهبه ، وكتب مصطلح الحديث فيها أمثلة من هذه النماذج لهؤلاء المتعصبين .
ثالثا : تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين ، وقد أنحى أبو شامة في كتابه المؤمل باللائمة على أهل مذهبه الشافعية ، قال : إن الشافعية الأولين كانوا يتعصبون لأقوال أئمتهم لكن يأخذون من قول المزني وقول غيره وقد يردون أقوال بعض الصحابة وبعض التابعين ثم جاء المتأخرون فردوا كلام المزني وغيره وتعلقوا بكلام الغزالي وأمثاله وأنحى عليهم باللائمة في الكتاب وبين ما تردت إليه أوضاعهم وأحوالهم التي جرهم إليها التعصب الأعمى، والعياذ بالله.
رابعا : الانحباس في مذهب واحد وعدم الاستفادة من علم المذاهب الأخرى وجهود رجالها وكتبها تعصبا لمذهب معين .
خامسا : خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية ، ورغبة كثير عن دراسة الكتاب والسنة الى هذه الكتب .
سادسا : شيوع التقليد والجمود وإقفال باب الاجتهاد .
وقد اختلفت دعوى إقفال باب الاجتهاد متى كان هذا الإقفال ؟
فمنهم من يقول على رأس المائتين أغلق باب الاجتهاد ، ومنهم من يقول على رأس الأربعمائة ، ومنهم من يقول أغلق باب الاجتهاد على أحمد بن حنبل ، إلى آخر الأقوال القائمة على الجهل والهوى والتي دفع إليها التعصب الأعمى ، وإلا فكتاب الله هذا الكتاب الخالد كيف يقصر فهمه على أناس معينين وتقصر فائدته إلى أمد قصير ؟ ثم تعطل العقول ويضرب الله عليها الأقفال حتى لا يفهم الناس شيئا من دين الله تبارك وتعالى .
هذه دعوى إغلاق باب الاجتهاد مآلها أن حطم العقل الإسلامي ووقف سير المد الإسلامي في الفتوحات وفي العلوم الإسلامية نفسها وجنى على الأمة الإسلامية جناية خطيرة مما جعلها في مؤخرة الأمم .
إن أعداء الإسلام قد سخروا هذه الطاقات العقلية في مصالحهم فاخترعوا من المخترعات ما تعرفونه وما هو موجود الآن بين أيدينا ، فمنها السيارات ومنها الصواريخ ومنها آلات الزراعة وآلات الصناعة وآلات الحرب وأشياء لا حد لها، كيف يمنح الله أعداء الإسلام من يهود ونصارى وشيوعيين هذه العقول الجبارة فتخترع هذه الاختراعات المذهلة ثم يغلق الله على قلوبنا ويجعل عليها أقفالاً فلا نفهم كتاب الله ولا نفهم سنة رسول الله ولا نفهم شيئاً من أمور الحياة ؟ .
إنها لجناية كبيرة على الأمة الإسلامية سببت من الآثار الخطيرة المدمرة في حياة المسلمين ما يعيشونه الآن من تخلف فكري وعقلي في ميادين الدين والدنيا.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجد المسلمين ، وأن يغيثهم من هذه الكبوة وهذه الهوة التي وقعوا فيها ، وأن يهيئ لهم دعاة مخلصين يجندهم بفضله ورحمته وحكمته لإنقاذهم من هذا البلاء المدمر الذي ما هو إلا ثمرة من ثمار التعصب الأعمى والجمود أدى بهم إلى أشياء مضحكة كأن يتمسك الإنسان بجملة من النص ويحتج بها ويكون في الحديث جملة أخرى تدل على شيء يخالف مذهبه فيأخذ بما يوافق مذهبه من هذا النص المعين ويرد من هذا النص ما يخالف مذهبه.
سابعا : التشدد في بعض المسائل مما فيه عنت كبير على الناس ومما يجر عليهم الوسوسة وما شابه ذلك، تجدون ذلك في النية مثلاً.
حتى إنك لتقف في كثير من المساجد فلا تهنأ بالصلاة ولا تستحضر عظمة الله ولا تستطيع الخشوع فيها لأن بجانبك من يوسوس "الله أكبر ... الله أكبر - يردد التكبير عشرات المرات - نويت نويت نويت" فهذه المذهبية والتعصب العقائدي والتعصب المذهبي ولهم ردود ومؤلفات كثيرة وممن تكلم عن هذا البلاء الخطير وعما انحدر عليه المتعصبون للمذاهب الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ( ( ).
قال عند تفسير هذه الآية عن أحد شيوخه المحققين "قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات .. فلم يلتفتوا إلهيا وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعنى كيف يمكن العمل بظاهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت بخلافها ( ).
هذا من أئمة الشافعية يشهد على أناس من أهل المذاهب أنهم يردون آيات قرآنية وإذا احتج الإنسان بالآيات يبهتون ويقفون مشدوهين كيف يمكن العمل بهذه الآيات وهي تخالف مذهبنا ؟ فهذا الرازي منتم لمذهب الشافعي لكن لا ينحدر به التعصب الأعمى إلى المنحدر الذي يهوى إليه كثير من المتعصبين . كذلك أبو شامة والنووي وابن حجر يعالجون بعض هذه القضايا .
أما ابن القيم رحمه الله وغيره فقد كتبوا في ذلك المؤلفات ، وما كتاب (إعلام الموقعين) للإمام ابن القيم ـ في أربعة مجلدات ـ إلا علاج لهذا البلاء الخطير ، بلاء التعصب الأعمى والتقليد الأعمى .
قال الفخر الرازي : " ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثر من أهل الدنيا ".
يعني داء التعصب للمذاهب وللرأي وللفكر وللسياسة وللحزب سار في أكثر الناس.
وكيف لو رأى وعايش وعاصر هذا الوقت ورأى فيه العجائب مما هو أدهى وأمر مما كان حاصلاً في عهده ؟
وقال بعد ذلك : ليس المراد من الآيات أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، ثم ذكر أوجهاً ثلاثة أخرى وقال : وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة) ( ). أهـ .
وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لعدي بن حاتم حينما دخل عليه وهو يتلو : )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ….( الآية فقال يا رسول الله : (لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم ( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى قوله تعالى : )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله( وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين :
الأول : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهو كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من أتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف للدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله ، مشركا مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً . لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنما الطاعة في المعروف) ( ).
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه .
ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باليد واللسان ، مع علمه أنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسم فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه .
ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره.
وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً ، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً . أهـ .
يعنى حتى لو كان متبوعه على الحق وهو تابعه بغير حجة ولا برهان فقط لأنه فلان . هذا آثم وإن كان متبوعه على الحق فيجب أن يتجرد الإنسان لله ويبحث عن الحق ويتبع أهله وينصر هذا الحق وينصر أهله ، هذا هو المطلوب من المؤمن .
وقد شاع التفرق والتحزب في هذا العصر المليء بالفتن والمكتظ بالكوارث وهو أمر خطير على الأمة في دينها ودنياها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا مايلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى : )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ( ( ). وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا ولياً ومن خالفهم عدواً بغيضاً . بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله ، فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ( ).
وهذا يكاد ينعدم الآن في الجماعات الإسلامية ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً على المنهج والطريق الجاهلي مع الأسف الشديد ! وهذا أمر معروف لاشك ، ولكن علينا أن نتوب إلى الله تبارك وتعالى ونرجع إلى هذا الحق الذي ربانا عليه رسول الله ، والذي يريده الله تباك وتعالى لنا أن نكون محبين للحق مناصرين له ، ثم قال بعد ذلك : فإن وقع بين معلم ومعلم وتلميذ وتلميذ ومعلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق ، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره ، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره ، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق قال تعالى : )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا( ( ). يقال : لوى يلوي لسانه فيخبر بالكذب ، والإعراض أن يكتم الحق فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ومن مال مع صاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله .
والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله ، ويكون المقدم عندهم من قدمه الله ورسوله ، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله ، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله ، بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء ، فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه .
فهذا هو الأصل الذي عليه الاعتماد وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم ، قال تعالى : )إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء( ( ). وقال تعالى : )ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( ( ).أهـ كلام ابن تيمية رحمه الله ( ).
فيجب على كل مسلم أن يفتش نفسه فقد يميل إنسان إلى صاحب الحق لهوى ، فقبل أن يتبين له الحق يتمنى أن يكون فلان هو المنتصر بالحجة أو غيرها فتميل نفسه لأنه فلان ، ولو كان على الحق لا يجوز أن يوجد هذا الميل، فيقول: إذا وجد هذا الميل ولو مع صاحب الحق يكون من حكم الجاهلية ، وهذا أمر لا يخطر بالبال عند كثير من الناس .
فيجب على المسلم أن يراقب الله في القضايا المختلف فيها ، وأن يكون قصده فقط معرفة الحق سواء مع هذا أو مع ذاك .
ومن هنا يقول الشافعي : "إذا دخلت في مناظرة لا أبالي إذا كان الحق مع صاحبي أو معي" فلا يبالي ولا يتمنى أن يكون الحق معه بل يتمنى أن يكون مع صاحبه وأن تكون النصرة له ، هذا هو الخلق العالي وهذا هو الدين المستقيم .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه النوعيات المنصفة الباحثة عن الحق، البعيدة عن الهوى وعن أساليب الجاهلية .
فالذي يلزمنا معشر الإخوة أن نفتش أنفسنا فمن وجد في نفسه شيئا من هذا المرض فعليه أن يتدارك نفسه ويقبل على العلاج الناجع ويبحث دائما عن الحق لينجو بنفسه من وهدة التعصب الأعمى الذي قد يؤدي إلى الشرك بالله تبارك وتعالى أو يؤدي إلى الضلال الخطير .
هذه لمحات موجزة عن التعصب وما أدى ويؤدي إليه من نتائج وخيمة كفى الله الأمة الإسلامية شرها ووفقها للعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفها الصالح ، وأخذ بناصيتها إلى كل خير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(بمقدمة جديدة)
محاضرة مفرغة للشيخ العلامة
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد :
فإن كتابي هذا كان تأليفه في حدود عام (1411هـ) لمواجهة تيار جديد من التعصب حينذاك.
وأعتقد أنه كان له أثره في تثبيت السلفيين الصادقين على الحق.
وكشف حال المزيفين ممن تجرفهم العصبيات العمياء وتيارات الأهواء.
واليوم يُعاد نشره في المواقع السلفية لمعالجة أمراض التعصب؛ لعل الله أن ينفع به أناساً يريدون بأعمالهم ومواقفهم وجه الله والدار الآخرة، ليس للشيطان عليهم سلطان؛ كما قال تعالى عنه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) [النحل 99-100].
أسأل الله أن يصرف مكايد الشيطان عن كل المؤمنين.
إن ربنا لسميع الدعاء.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
10/2/1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيــد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه .
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
هذا الحديث واحد من الأحاديث الكثيرة التي تعد من جوامع الكلم التي أمتاز بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وسائر ولد آدم .
فخير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم في كل أبواب العقائد والشرائع والسياسة والأخلاق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعامل مع أعداء الله من كل أصناف أهل الكفر والنفاق والتعامل مع أهل المعاصي والبدع . وفي أبواب الولاء والبراء ، الولاء لأهل الحق والبراء من أهل الباطل كفاراً كانوا أو أهل أهواء ، على شئ من التفصيل في أهل الأهواء على قدر بدعهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين .
وقد فهم سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ ومن تبعهم بإحسان كل هذه المضامين أحسن الفهم . والتزموها أقوم التزام وطبقوها أحسن تطبيق وخالفهم فيها أهل الأهواء في الفهم والالتزام والتطبيق في كل هذه المضامين في الجملة ، على شيء من التفاوت بينهم .
خالفوهم منذ طل رأس الفتنة في عهد الصحابة ، وعلى مر الزمان تتسع الدائرة وتتكاثر البدع ، وتتكاثر الفرق بتكاثر البدع إلى يومنا هذا ،وسبب ذلك هو جنوح الأهواء المردية الذي يجر إلى سوء الإدراك وسوء الفهم وانحلال عقد الالتزام والانضباط وسوء المقاصد، هذه الأمور المردية التي نجى الله منها السلف الصالح ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا .
هذه الأمور جعلت كثيرا من أهل الأهواء والفرق في وضع مزر يشابهون فيه إلى حد كبير أعداء الرسل في الإصرار على الباطل والتعصب له ولو أدركوا أنهم على ضلال وباطل ، كما قال تعالى في أعداء الرسول : )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً( ( ). وكما قال تعالى : )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ( ). هذا ما عليه العتاة وأهل العناد من أهل الباطل .
وأما الغثاء والرعاع أتباع كل ناعق فهم يشابهون أعداء الرسل في قولهم )إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ( ( ) ولهم حظ من قول الله تعالى : )ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون( ( ).ولأسباب منها جهود أهل السنة في مقاومة الباطل خفت حدة التعصب للعقائد وحدة التعصب للمذاهب في هذا العصر .
لكن الداهية الدهياء ، والضلالة العمياء والطامة الكبرى أنه قد خلفها ما هو شر منها ، وهو التحزب السياسي الوريث الجديد لتلك الأدواء .
والمصابون به أصناف :
(1) منهم من ظهر إلحاده وكفره وإدارة ظهره للإسلام ، فهؤلاء ليس لهم إلا الدعوة إلى الإسلام أو سيف أبى بكر إن وجد إذا لم يستجيبوا لهذه الدعوة.
(2) ومنهم من يرفع شعارات إسلامية لكنها خالية من العقيدة الإسلامية الصحيحة ومن أصول إسلامية مهمة ومثخنة بالأمراض الفتاكة السابقة .
نشأ عنها :
1 – تولي الروافض والانسجام معهم والتهوين من رفضهم بل إنكاره وإنكار ما عندهم من كفريات وتكفير، والدعوة إلى التلاحم معهم تحت شعار التقريب.
2 – تولي الصوفية بمختلف طرقها بل كثير منهم من أحلاس التصوف .
3 – كانوا يتظاهرون بالتركيز على مجابهة الكفار : الشيوعيين واليهود والنصارى والعلمانيين لإسكات أهل السنة والتوحيد وإقامة الحواجز المنيعة من وصول دعوة الحق إلى كثير من ضحايا البدع بأصنافهم ممن عساه أن يستجيب لدعوة الحق .
وقد سلكوا أبشع الطرق ، ونفذوا أفجر الخطط في هذا المضمار لصد الناس عن سبيل الله بل لإفساد كثير من أبناء التوحيد.
ثم إن الله تعالى الشديد المحال هتك أستارهم ، وكشف عوارهم بعد قيام دولتهم والوصول إلى غايتهم ، فأصبحوا يعقدون المؤتمرات للدعوة إلى وحدة الأديان والتآخي بين الإسلام وشتى الملل والنحل ، ويتلاحمون مع أصناف الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين في أنحاء الدنيا .
وفريق ثالث : متفرع عن هذا الصنف الثاني ومشتق منه ، لكنه يدعى أنه على منهج السلف الصالح تلبيسا وخداعاً ومكراً ، فكان ضرره أشد من أصله، ومكره أشد من مكره .
هذا الفريق يتمسح بأعلام المنهج السلفي لاسيما ابن تيمية ليتمكن بهذا التمسح وتحريف كلامه وكلام غيره من حماية أهل البدع ومناهجهم الباطلة وإبقائهم على ما هم عليه من عقائد ومناهج وانحرافات سياسية وفكرية .
ولتحقيق هذه الأهداف الخطيرة ألفوا الكتب ، ووضعوا الأصول والمناهج ومنها منهج الموازنات وتعدد الحزبيات .
وفي الوقت نفسه يشنون الحملات الشعواء على أهل السنة والتوحيد ويقذفونهم بالعظائم ففاقوا سابقيهم في نصرة أهل الباطل ، وحماية باطلهم والذب عن شخصياتهم ، ومحاربة أهل الحق وظلمهم بما لا يخطر ببال أشد أهل البدع وأغرقهم في الضلال .
ولكن الله شديد المحال القائل : )ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون( ( ) )وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ( ). قد استدرجهم حتى فضحهم وهتك أستارهم كما فعل بأشياعهم .
وإن شئت فاقرأ ما ألفوه مع ما انتقدهم فيه أهل الحق، وسوف يلاحقونهم إن شاء الله في جحورهم وقمع باطلهم حتى يظهر أمر الله وهم كارهون .
وإن شئت مرة أخرى فاسألهم عن أهل البدع ومنهم الدعاة إلى وحدة الأديان وأعداء السنة والتوحيد ، واستمع إلى إجابتهم وقارن بينهم وبين إجابات ومواقف السلف لترى بعد الشقة بينهما .
فإلى المغرورين المخدوعين بهذه الأصناف نوجه صرختنا هذه ضد الباطل بأصنافه وضد التعصب المهلك الذي يجر إلى عبادة الأحبار والرهبان ، والتضحية بحب الحق وأتباعه وعدم المبالاة بسخط الرحمن ومحاربة الحق وأهله والارتماء في أحضان أهل الباطل .
نهيب بهؤلاء المخدوعين إلى كسر الأغلال التي لفها على أعناقهم أولئك الماكرون المخادعون وإلى كسر الحواجز والحجب التي وضعوها بينهم وبين رؤية الحق بأنواره الساطعة ليعيشوا في ظلمات العبودية للأهواء والباطل ومروجيه .
اللهم أنقذ هؤلاء الأسرى الذين يكافح أهل الحق لإنقاذهم واستخلاصهم من قبضة الظالمين الذين حبسوهم في ظلمات الباطل وكهوف الهوى وسراديب المكر والدهاء إنك سميع الدعاء .
a( )
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( ( ).
)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا( ( ).
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاُ عظيماً( ( ).
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
وبعد ...
فإن حديثنا عن موضوع خطير جداً ، ألا وهو التعصب الذميم ، وما يؤدي إليه من آثار وإنه لداء عضال فتك بعقول الأمم ، وحطم المباديء وفتك بالأرواح ، وإنه لأول داء ابتلي به الخلق ، فإبليس اللعين أول عاص كان سبب معصيته هو التعصب )خلقتني من نار وخلقته من طين( ( ) تعصب واعتزاز بعنصره ، وقوم نوح وغيرهم من الأمم الضالة التي كذب الرسل الأحزاب .. الفرق .. أهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس والهنادك ، وسائر الكفرة والوثنيين، ما فتك بهم إلا هذا الداء العضال ـ والعياذ بالله ـ
الفرق الضالة المنتمية للإسلام قديما وحديثا سواء أصابها هذا الداء في عقائدها أو في عباداتها .
الأمراض القبلية كلها من هذا المنطلق .
إذاً هو داء فتاك بالأفراد والجماعات ويؤدي إلى تكذيب الرسل، وإلى الكذب والمغالطات في نشر المباديء الهدامة والأفكار الضالة ، فيجب أن يتحسس كل فرد وكل جماعة مواطن هذا الداء فيخلص كل واحد وكل جماعة فكره وعقله وحياته من هذا الداء الخطير ، ويتجه كل مسلم منا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففيهما الشفاء والدواء الناجع للتخلص من هذه العاهة الكريهة البغيضة ، نسأل الله أن يعافي الأمة الإسلامية من هذا المرض الفتاك وأن يوحد صفوفها ويجمع كلمتها .
إن الإسلام دين الحق نزل من الله الملك الحق المبين ، الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، والله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ، وحارب الظلم والعدوان والبغي في مختلف صورها ، ومن مختلف مصادرها والتي يبعث عليها في الغالب إنما هو هذا الداء ... داء التعصب ، وإن التعصب الذميم للأديان والقبائل والأشخاص والأفكار والمذاهب والأحزاب قد حاربه الإسلام أشد الحرب، ذلك أن التعصب المقيت هو المنبع الوحل المتعفن ،والمصدر البغيض لكل هذه الأدواء الفتاكة ، فهو الدافع للأحزاب الكافرة الظالمة لأن تقف في وجه الرسل والرسالات بالتكذيب والافتراء والاتهامات والجدال والخصام بالباطل ، قال تعالى: )ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( ( ).
حجة أهل التعصب
ما هي حجتهم في خضم هذا الجدال والصراع ضد الرسل وعلى امتداد التاريخ الإنساني ؟
الجواب : تكاد تكون حجة لكل الأمم وهي عمدة كل متعصب عاجز ظالم ، قال تعالى : )ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون ، فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشراً مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين( ( ).
هذه حجتهم ... لم يأتهم مثل ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام من طريق آبائهم ، ولو جاءهم من طريق آبائهم لقبلوه ولكنه جاء من طريق آخر ، وذلكم هو التعصب ، قال تعالى : )وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ، وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ، أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ، بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون( ( ) تعصب للآباء وعقائدهم مهما كان فيها من شر ، ومهما انطوت على الضلال والكفر ، قال تعالى : ) قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين( ( ).
عواقب التعصب
فما هي عواقب هذا التعصب والتقليد والعناد والتكذيب ؟
لقد ذكر الله جل وعلا عواقب ذلك في سور وقصص كثرة في القرآن الكريم لتأخذ هذه الأمة من مصائرهم ومصارعهم عبراً ، ولتحذر أشد الحذر من الوقوع في مثل ما وقعت فيه تلك الأمم ، فتكون العاقبة مثل عاقبة تلك الأمم والمصائر مثل مصائرهم ، سنة الله في عباده لا تتبدل ولا تتغير عدلاً من الله وحكمة وهو العليم الحكيم الحكم العدل .
قال تعالى في سورة العنكبوت بعد أن ذكر قصة نوح وقومه ، وإبراهيم وقومه ولوط وقومه وما تضمنته قصصهم من إهلاك هذه الأمم المكذبة المتعصبة المعاندة ، قال تعالى : )وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا اله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ، وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمـون( ( ).
هذه نتائج التعصب في الدنيا ، هلاك ودمار والعياذ بالله حاق بكل هذه الأمم التي ذكرت في هذه الآيات من سورة العنكبوت ، سلكهم الله تبارك وتعالى في مسلك واحد وبين نهايتهم الوخيمة والعياذ بالله .
أما نتائج هذا التعصب والعناد في الآخرة فهي :
أولا : خصومة مع زعمائهم :
قال تعالى : )وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( ( ).
هؤلاء ضحايا التعصب الأعمى وضحايا التقليد واتباع الهوى .
وقال تعالى : )وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد ( ( ).
وقال تعالى : )ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين مـن النـار( ( ).
وقال تعالى : )إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً ، خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيرا ، يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا( ( ).
هذه هي نهاية الكفار الضالين الذين حملهم التعصب على تكذيب الرسل، وعلى العناد ، وعلى القتال ، وعلى سائر المشاكل التي واجهوا بها رسلهم ، فالنهاية يوم القيامة هي أن يلعن بعضهم بعضاً ، ويتمنى كل فريق منهم من التابعين والمتبوعين أن يضاعف العذاب على صديقة وحبيبه وحميمه ، وقد كانوا في الحياة الدنيا يشد بعضهم أزر بعض في مواجهة الحق ، فهذه نهايتهم الأليمة مع الأسف الشديد .
وللمتعصبين سواء انتسبوا إلى الإسلام أو إلى غيره حظ من هذا العذاب ومن هذا العتاب الذي سيتبادل بينهم يوم القيامة ، وسيتمنى كل فريق وكل فرد أن لو اتخذ مع الرسول سبيلا .
قال تعالى : ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً ا( ( ).
وقال تعالى : )وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ( ( ).
ولو قليل ولو لحظة حتى ولو أدنى شيء من التخفيف ... هل يغني عنهم شيئا هؤلاء ؟ هل يغني فرعون عن أتباعه ؟ هل يغني أبو جهل عن أتباعه ؟ هل يغني نمرود عن أتباعه ؟ هل يغني أي ضال داع إلى الضلال شيئا ولو قليلا حقيرا عن التابع ؟!
كــــلا ....!!
هذه التي سلفت خصومة الأتباع والمتبوعين :
ثانيا : وهذه خصومة أخرى بين العابدين والمعبودين :
قال تعالى : )وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إنى كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( ( ).
هذه هي نهاية العلاقة بين الشيطان وبين البشر الذين أضلهم من أولهم إلى آخرهم إلا من نجى الله تعالى من حبائله من عباده المخلصين .
يقال : إنه يقف خطيباً فيهم بهذا الكلام ويتبرأ منهم ويتبرؤن منه ويستغيثون به فلا ينجدهم وهو لا يجد صريخا منهم .
وقال تعالى : )ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( ( ).
فالملائكة عبدت من دون الله ، ولكنهم معصومون ، إلا أن الشياطين هي التي أضلت الناس ، وزينت لهم عبادة الملائكة ، وقالت لهم : إن الملائكة بنات الله وإنها تستحق العبادة ، فصنعوا لهم الأصنام والرموز ثم عبدوها فهل تلك العبادة هي عبادة للملائكة ؟ كــــلا ...
فلعنة الله على الكاذبين الظالمين :
وقال تعالى : )ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ، قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ، وقيل ادعوا شركاءكم فدعون فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون( ( ) ... يعني يتمنون أن لو كانوا على هدى وهذه هي النهاية الأليمة ، والفاجعة العظيمة ، والطامة الكبرى للتعصب الذميم والتقليد الأعمى لتحذر الأمة الإسلامية من ذلك الشر المستطير ، والبلاء الماحق.
فالله تبارك وتعالى يقص علينا هذه القصص حتى نعتبر قصص الأنبياء مع أممهم وبيان مصارعهم كذلك لنعتبر ونتعظ ونحذر أن نقع في هذا المنزلق الخطير الذي وقعت فيه الأمم فهلكت ، كما قال تعالى :
)وكلا نقص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين( ( ).
هل استفادت الأمة من المثلات التي نزلت بالأمم الظالمة :
ولكن مع الأسف الشديد أن كثيرا من هذه الأمة وقع في هوة التعصب الأعمى ، والتقليد البليد ، في عقائدهم ، وعباداتهم وسياساتهم ، وأخلاقهم وعاداتهم ، وكأن القرآن لا يعنيهم من قريب ولا من بعيد وكأنه لا يخاطبهم ولا يبصرهم ولا يحذرهم إذا ذكر عيوب الأمم السابقة ، وعقائدهم ، وأخلاقهم ، وإذا تبين كيف كانت تلك الأمور سببا في إهلاكهم وتدميرهم في الدنيا، وسبب شقائهم الأبدي وعذابهم الشديد السرمدي في الآخرة ، فتراهم يرتكبون كل الشنائع دون مبالاة ولا خوف ولا خجل ، وكم جاءت النذر ونزلت بهم المصائب والكوارث فلم يأخذوا من الدروس والعبر والعظات ما يدفعهم إلى العودة إلى الله فيتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويبتعدوا عن تلك الأعمال والعقائد المدمرة ، ويبتعدوا عن التعصب الذميم الذي مزقهم شر ممزق ، وسلط عليهم الأمم الكافرة أيما تسليط ، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ستتردى فيه معظم هذه الأمة وأنها ستتبع سنن من قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة فإنا لله وإنا إليه راجعون .
اتباع هذه الأمة سنن من قبلها
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع) ( ).
وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبرا وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟) ( ).
وعن أبى واقد الليثي رضى الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله: أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : : (الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" لتركبن سنن من كان قبلكم) ( ).
وعن أنس وغيره رضى الله عنهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي ؟ قال الجماعة) ( ).
وحذر صلى الله عليه وسلم من التعصب والعصبية العمياء ...
فعن أبى هريرة رضى الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلته جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذى عهد عهده فليس مني ولست منه) ( ) والشاهد في قوله : يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة عصبية مذهبية أو قبلية أو غيرها من العصبيات التى تنافي المبدأ الإسلامي الذي يدعو للأخوة في الله ، ونبذ هذه العصبيات على مختلف أشكالها وألوانها فهذا تحذير من العصبية المقيتة وتنفير منها .
وقال صلى الله عليه وسلم لما قال أحد المهاجرين : يا للمهاجرين ، وقال أحد الأنصار : يا للأنصار فقال عليه الصلاة والسلام : أدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة) ( ).لفظ الأنصار لفظ ممدوح ولفظ المهاجرين كذلك ، وأثنى الله على المهاجرين والأنصار لجميل صنعهم ، وكمال أفعالهم وقوة إيمانهم ، ولكنها لما صدرت عن عصبية سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية ، وقال إنها منتنة.
أما المهاجرون والأنصار فلم يكن لهذه الدعوى أي أثر فيهم؛ لرسوخ إيمانهم؛ لا سيما ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم، وأما المتأخرون فقد فعلت بهم العصبيات فعلها إلا من سلّم الله.
دعوة الإسلام إلى الأخوة بين المؤمنين
قال تعالى : )إنما المؤمنون إخوة ( ( ) وقال عليه الصلاة والسلام : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ( ). وقال عليه الصلاة والسلام : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) ( ). إلى آخر الأحاديث التي جاءت تدفع المسلمين إلى التآخي ، وإلى التحاب وإلى التناصر على الحق وضد العدوان وضد الظلم والطغيان ، كما في الحديث : (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قال : هذا أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه) ( ).
فالناس يتصورون الظلم في السطو على الأموال فقط، أو الأعراض ، ولكن الظلم قد يكون للعقيدة ... قد يكون للقرآن ... قد يكون للسنة ... قد يكون للمسلمين ... إنسان يدعو إلى الحق ويدعو إلى الإصلاح ويدعو إلى الخير فيظلم فيجب نصره بالحق ، وسيأتي كلام العلماء في طريقة التناصر ، وعلى أي أساس تكون هذه المناصرة .
ولكن للأسف هذه التوجيهات العظيمة البناءة تغلَّب عليها التعصب الهدام، والتقليد الأعمى ، والأهواء البغيضة ، ولم يستفد من تلكم التوجيهات إلا القليل من الناس، المتمثل ذلك القليل في الطائفة الناجية التي امتدحها النبي عليه الصلاة والسلام ، وذكر أنها ستبقى إن شاء الله إلى قيام الساعة ، أبقاها الله وأيدها ونصرها ، ووفق جميع المسلمين إلى العودة إليها والالتفاف حولها .
لقد ظهرت العصبيات والمذهبيات في العقائد وفي العبادات وفي السياسة وفي غيرها ، فكيف كانت مواقف أئمة الإسلام من هذه العصبيات الجاهلية الظالمة التي مزقت المسلمين ، وأضرت الإسلام في الوقت نفسه ؟
والجواب : أن الصحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن عمر تبرؤا من أهل العصبيات والأهواء كما روى ذلك الإمام مسلم حينما جاء خبر الذين اخترعوا فكرة نفي القدر فقال : "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برى منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر" ( ).
وحث النبي عليه الصلاة والسلام على قتل الخوارج ، وسماهم (شر الناس) ووصفهم بأنهم (أبغض الناس إلى الله) ، وبأنهم (شر من تحت أديم السماء) ، وقال : (اقتلوهم حيثما وجدتموهم) ، مع تشددهم في العبادة التي لا يلحقون فيها .. حتى إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يلحقون هؤلاء في صلاة ولا في صيام ولا في قراءة القرآن كما قال عليه الصلاة واسلم : (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ( ).
وقال أيضاً : (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة) ( ). لأنهم كانوا مع عبادتهم يتمتعون بهوى جامع وتعصب مقيت ، أدى بهم إلى الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى رفض كثير من النصوص التى تعالج أمراضهم بعصبيتهم ولكنهم ما كانوا يرجعون ، يحملهم شدة التعصب لما هم عليه على أن لا يعودوا إلى الحق ، ولا يحترموا أهل الحق ، بل يستبيحون دماءهم وأموالهم قبل أن يستبيحوا دماء الكفار والمجوس وغيرهم .
وقد تكلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة رواها علي وأبو سعيد وجماعة من الصحابة تبلغ أربعة عشر حديثا ، بل الأحاديث فيهم متواترة ، في ذمهم ورميهم بأنهم أصحاب أهواء ، وإن تعبدوا وأمعنوا في العبادة وفاقوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فإن هذه لا وزن لها إذا لم تقم على أساس سليم ومنهج سديد .
أما أهل الكلام المتعصبون لفلسفة اليونان الذين أولوا وحرفوا نصوص القرآن من أجل تلك العقائد الفاسدة وتعصبوا لها رغم تحذير أئمة الإسلام الأعلام وبيانهم لمفاسد هذه الأفكار وهذه العقائد التي جروها إلى الأمة الإسلامية أدخلوا الأمة الإسلامية في دوامة من الجدال والصراع المؤدي أحيانا الى القتال والى سفك الدماء ، فلقد ذمهم الأئمة أشد الذم كالإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة والأوزاعي والثوري وابن المبارك والبخاري ومسلم وألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة تبين فساد علم الكلام وأضراره الخطيرة وماذا يستحق أهله من الجزاء حتى لقد قال فيهم الإمام الشافعي : "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك كتاب الله وسنة رسول الله وأقبل على علم الكلام " أهـ .
وكلام أحمد وغيره من أئمة الإسلام كثير كثير ولهم دواوين ولله الحمد انتشرت في هذا العصر وأخرجتها المطابع وتزخر بها المكتبات فارجعوا إليها لتروا مواقف الأئمة الحازمة في رد هذا الشر وقمعه وبيان ضلال أهله وتحذير الأمة من شرهم ومن ضلالهم ، ومع الأسف الشديد مع كل هذا تكاد الأمة تجمع على بطلان هذا المنهج وفساد علم الكلام ، وعلى مر الأيام وتتابع الأزمان أصبح أصل الإسلام هذه الفلسفة اليونانية الضالة الجاهلة أصبحت أصل الإسلام في نظرهم الفاسد وأصبحت هي التوحيد مع الأسف الشديد .
وما الذي حمل هؤلاء أن يبلغوا بهذا العلم الجاهلي إلى أن يسمى أصل الدين ؟ إنما هو التعصب الأعمى والهوى الجامح الذي تحكم بعقول هؤلاء الذين ابتعدوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهم القضايا الإسلامية التي دار عليها نصوص كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينتها ووضحتها غاية البيان ، مع كل ذلك يجترؤن تعصبا وبغيا على أهل السنة والجماعة وعلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمنعون في تدريسه وتقريره في جامعات ومساجد ومدارس ويسمى مراغمة للحق وأهله : التوحيد ... وأصل الإيمان ... وأصل الإسلام ... مع الأسف الشديد .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يبصر هؤلاء ويقودهم بنواصيهم إلى الحق والخير وإلى العودة الجادة إلى كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .
ويأتي بعد بدعة الخوارج والروافض والكلام أخطر من هذه الأدواء ذلك الداء الذي استشرى في الأمة الإسلامية وسيطر على عقولها ردحاً من الزمن شعوباً وحكاماً ، ذلك الداء العضال المسمى بـ "التصوف" الذي اكتسح عقول الفقهاء وكثير من المحدثين وجر الأمة الإسلامية إلى متاهات ـ والعياذ بالله ـ جرها إلى الضلال في العقائد في ذات الله ، في أسمائه ، في صفاته في عبادته وانتشرت القبور وعبادتها وشد الرحال إليها والطواف بها وإلى آخره من البلايا والدواهي التى نزلت بالمسلمين وعقولهم وعقائدهم وللأئمة فحول العلماء كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن حجر والسخاوي والبقاعي وغيرهم ، مؤلفات وكلام يدمغ هذه الطائفة بل غلاتها ، يدمغهم بالضلال والانحراف .
وما الذي حملهم على هذا ؟ إنما هو ذلكم الداء العضال الذي فتك بكثير من الأمة الإسلامية من فجر تاريخها ألا وهو داء الهوى وداء التعصب ، ويسرى هذا الداء إلى ميدان العبادة وإلى الفقه الإسلامي فتجد الأمة قد تفرقت فرقا وتمزقت تمزقا وتعصب كل فريق لمذهب معين ولاتجاه معين مع الأسف الشديد ، مع أن نصوص الكتاب والسنة تدعو إلى وحدة الأمة وإلى التفافها حول كتاب ربها وسنة نبيها ، فكم آية حثت على اتباع الصراط المستقيم وعلى الاعتصام بحبل الله وعلى طاعة الرسول وحذرت من مخالفة أوامر الرسول )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( ( ). آيات كثيرة تأتي تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على اتباع ما أوحي اليه ، وتحث الأمة على اتباع هذا الكتاب وأن لا يتخذوا من دون الله أولياء ، ولقد لاحظ ابن عباس شيئاً من التعصب لأعظم الخلفاء أبى بكر وعمر فقال لهم : "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله وتقولون : قال أبو بكر وعمر"
قال الإمام أحمد مفسرا قوله تعالى : )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( قال : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ( ) والعياذ بالله.
وقال رحمه الله أيضا : إنى لأعجب لقوم يعرفون الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان ، وكلام الأئمة فيه كثير .
تحذير الأئمة من التعصب
وحذر من التمذهب والتعصب الأئمة الأربعة أنفسهم رضوان الله عليهم وكلامهم مدون في سجلات الإسلام ودواوينه لله الحمد ، ما عفا عليه الغبار وما نسج عليه العنكبوت ، إنما هو باق حجة دامغة لمن يتعصبون للأئمة أو غيرهم، وقد حذروا أشد التحذير من التعصب ، هذا التعصب الذي أدى بكثير منهم إلى رد النصوص الصريحة الواضحة من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
مفاسد التعصب
نصوص كثيرة ردت وهي في غاية الوضوح ... من أجل ماذا ؟ وما الذي حملهم على ردها أو تأويلها أو تحريفها ؟ إنما هو ذلكم الداء المقيت داء التعصب والعصبية العمياء ، والعياذ بالله وقد ذكر بعض العلماء ومنهم ابن القيم المفاسد التي تردى فيها المتعصبون للمذاهب فقال منها :
أولا : مخالفة النصوص الثابتة من الكتاب والسنة تعصبا للمذاهب ، وتقديم الرأي المحض أحيانا عليها .
ثانيا : كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها، حملهم التعصب وبعضهم يكذب ويفتري نصرة لمذهبه ، وكتب مصطلح الحديث فيها أمثلة من هذه النماذج لهؤلاء المتعصبين .
ثالثا : تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين ، وقد أنحى أبو شامة في كتابه المؤمل باللائمة على أهل مذهبه الشافعية ، قال : إن الشافعية الأولين كانوا يتعصبون لأقوال أئمتهم لكن يأخذون من قول المزني وقول غيره وقد يردون أقوال بعض الصحابة وبعض التابعين ثم جاء المتأخرون فردوا كلام المزني وغيره وتعلقوا بكلام الغزالي وأمثاله وأنحى عليهم باللائمة في الكتاب وبين ما تردت إليه أوضاعهم وأحوالهم التي جرهم إليها التعصب الأعمى، والعياذ بالله.
رابعا : الانحباس في مذهب واحد وعدم الاستفادة من علم المذاهب الأخرى وجهود رجالها وكتبها تعصبا لمذهب معين .
خامسا : خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية ، ورغبة كثير عن دراسة الكتاب والسنة الى هذه الكتب .
سادسا : شيوع التقليد والجمود وإقفال باب الاجتهاد .
وقد اختلفت دعوى إقفال باب الاجتهاد متى كان هذا الإقفال ؟
فمنهم من يقول على رأس المائتين أغلق باب الاجتهاد ، ومنهم من يقول على رأس الأربعمائة ، ومنهم من يقول أغلق باب الاجتهاد على أحمد بن حنبل ، إلى آخر الأقوال القائمة على الجهل والهوى والتي دفع إليها التعصب الأعمى ، وإلا فكتاب الله هذا الكتاب الخالد كيف يقصر فهمه على أناس معينين وتقصر فائدته إلى أمد قصير ؟ ثم تعطل العقول ويضرب الله عليها الأقفال حتى لا يفهم الناس شيئا من دين الله تبارك وتعالى .
هذه دعوى إغلاق باب الاجتهاد مآلها أن حطم العقل الإسلامي ووقف سير المد الإسلامي في الفتوحات وفي العلوم الإسلامية نفسها وجنى على الأمة الإسلامية جناية خطيرة مما جعلها في مؤخرة الأمم .
إن أعداء الإسلام قد سخروا هذه الطاقات العقلية في مصالحهم فاخترعوا من المخترعات ما تعرفونه وما هو موجود الآن بين أيدينا ، فمنها السيارات ومنها الصواريخ ومنها آلات الزراعة وآلات الصناعة وآلات الحرب وأشياء لا حد لها، كيف يمنح الله أعداء الإسلام من يهود ونصارى وشيوعيين هذه العقول الجبارة فتخترع هذه الاختراعات المذهلة ثم يغلق الله على قلوبنا ويجعل عليها أقفالاً فلا نفهم كتاب الله ولا نفهم سنة رسول الله ولا نفهم شيئاً من أمور الحياة ؟ .
إنها لجناية كبيرة على الأمة الإسلامية سببت من الآثار الخطيرة المدمرة في حياة المسلمين ما يعيشونه الآن من تخلف فكري وعقلي في ميادين الدين والدنيا.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجد المسلمين ، وأن يغيثهم من هذه الكبوة وهذه الهوة التي وقعوا فيها ، وأن يهيئ لهم دعاة مخلصين يجندهم بفضله ورحمته وحكمته لإنقاذهم من هذا البلاء المدمر الذي ما هو إلا ثمرة من ثمار التعصب الأعمى والجمود أدى بهم إلى أشياء مضحكة كأن يتمسك الإنسان بجملة من النص ويحتج بها ويكون في الحديث جملة أخرى تدل على شيء يخالف مذهبه فيأخذ بما يوافق مذهبه من هذا النص المعين ويرد من هذا النص ما يخالف مذهبه.
سابعا : التشدد في بعض المسائل مما فيه عنت كبير على الناس ومما يجر عليهم الوسوسة وما شابه ذلك، تجدون ذلك في النية مثلاً.
حتى إنك لتقف في كثير من المساجد فلا تهنأ بالصلاة ولا تستحضر عظمة الله ولا تستطيع الخشوع فيها لأن بجانبك من يوسوس "الله أكبر ... الله أكبر - يردد التكبير عشرات المرات - نويت نويت نويت" فهذه المذهبية والتعصب العقائدي والتعصب المذهبي ولهم ردود ومؤلفات كثيرة وممن تكلم عن هذا البلاء الخطير وعما انحدر عليه المتعصبون للمذاهب الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ( ( ).
قال عند تفسير هذه الآية عن أحد شيوخه المحققين "قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات .. فلم يلتفتوا إلهيا وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعنى كيف يمكن العمل بظاهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت بخلافها ( ).
هذا من أئمة الشافعية يشهد على أناس من أهل المذاهب أنهم يردون آيات قرآنية وإذا احتج الإنسان بالآيات يبهتون ويقفون مشدوهين كيف يمكن العمل بهذه الآيات وهي تخالف مذهبنا ؟ فهذا الرازي منتم لمذهب الشافعي لكن لا ينحدر به التعصب الأعمى إلى المنحدر الذي يهوى إليه كثير من المتعصبين . كذلك أبو شامة والنووي وابن حجر يعالجون بعض هذه القضايا .
أما ابن القيم رحمه الله وغيره فقد كتبوا في ذلك المؤلفات ، وما كتاب (إعلام الموقعين) للإمام ابن القيم ـ في أربعة مجلدات ـ إلا علاج لهذا البلاء الخطير ، بلاء التعصب الأعمى والتقليد الأعمى .
قال الفخر الرازي : " ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثر من أهل الدنيا ".
يعني داء التعصب للمذاهب وللرأي وللفكر وللسياسة وللحزب سار في أكثر الناس.
وكيف لو رأى وعايش وعاصر هذا الوقت ورأى فيه العجائب مما هو أدهى وأمر مما كان حاصلاً في عهده ؟
وقال بعد ذلك : ليس المراد من الآيات أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، ثم ذكر أوجهاً ثلاثة أخرى وقال : وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة) ( ). أهـ .
وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لعدي بن حاتم حينما دخل عليه وهو يتلو : )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ….( الآية فقال يا رسول الله : (لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم ( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى قوله تعالى : )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله( وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين :
الأول : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهو كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من أتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف للدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله ، مشركا مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً . لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنما الطاعة في المعروف) ( ).
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه .
ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باليد واللسان ، مع علمه أنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسم فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه .
ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره.
وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً ، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً . أهـ .
يعنى حتى لو كان متبوعه على الحق وهو تابعه بغير حجة ولا برهان فقط لأنه فلان . هذا آثم وإن كان متبوعه على الحق فيجب أن يتجرد الإنسان لله ويبحث عن الحق ويتبع أهله وينصر هذا الحق وينصر أهله ، هذا هو المطلوب من المؤمن .
وقد شاع التفرق والتحزب في هذا العصر المليء بالفتن والمكتظ بالكوارث وهو أمر خطير على الأمة في دينها ودنياها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا مايلقي بينهم العداوة والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى : )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ( ( ). وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا ولياً ومن خالفهم عدواً بغيضاً . بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله ، فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ( ).
وهذا يكاد ينعدم الآن في الجماعات الإسلامية ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً على المنهج والطريق الجاهلي مع الأسف الشديد ! وهذا أمر معروف لاشك ، ولكن علينا أن نتوب إلى الله تبارك وتعالى ونرجع إلى هذا الحق الذي ربانا عليه رسول الله ، والذي يريده الله تباك وتعالى لنا أن نكون محبين للحق مناصرين له ، ثم قال بعد ذلك : فإن وقع بين معلم ومعلم وتلميذ وتلميذ ومعلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق ، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره ، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره ، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق قال تعالى : )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا( ( ). يقال : لوى يلوي لسانه فيخبر بالكذب ، والإعراض أن يكتم الحق فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ومن مال مع صاحبه سواء كان الحق له أو عليه فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله .
والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله ، ويكون المقدم عندهم من قدمه الله ورسوله ، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله ، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله ، بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء ، فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه .
فهذا هو الأصل الذي عليه الاعتماد وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم ، قال تعالى : )إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء( ( ). وقال تعالى : )ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( ( ).أهـ كلام ابن تيمية رحمه الله ( ).
فيجب على كل مسلم أن يفتش نفسه فقد يميل إنسان إلى صاحب الحق لهوى ، فقبل أن يتبين له الحق يتمنى أن يكون فلان هو المنتصر بالحجة أو غيرها فتميل نفسه لأنه فلان ، ولو كان على الحق لا يجوز أن يوجد هذا الميل، فيقول: إذا وجد هذا الميل ولو مع صاحب الحق يكون من حكم الجاهلية ، وهذا أمر لا يخطر بالبال عند كثير من الناس .
فيجب على المسلم أن يراقب الله في القضايا المختلف فيها ، وأن يكون قصده فقط معرفة الحق سواء مع هذا أو مع ذاك .
ومن هنا يقول الشافعي : "إذا دخلت في مناظرة لا أبالي إذا كان الحق مع صاحبي أو معي" فلا يبالي ولا يتمنى أن يكون الحق معه بل يتمنى أن يكون مع صاحبه وأن تكون النصرة له ، هذا هو الخلق العالي وهذا هو الدين المستقيم .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذه النوعيات المنصفة الباحثة عن الحق، البعيدة عن الهوى وعن أساليب الجاهلية .
فالذي يلزمنا معشر الإخوة أن نفتش أنفسنا فمن وجد في نفسه شيئا من هذا المرض فعليه أن يتدارك نفسه ويقبل على العلاج الناجع ويبحث دائما عن الحق لينجو بنفسه من وهدة التعصب الأعمى الذي قد يؤدي إلى الشرك بالله تبارك وتعالى أو يؤدي إلى الضلال الخطير .
هذه لمحات موجزة عن التعصب وما أدى ويؤدي إليه من نتائج وخيمة كفى الله الأمة الإسلامية شرها ووفقها للعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفها الصالح ، وأخذ بناصيتها إلى كل خير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .