• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الانتصار للصحابةِ\العلامة العباد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الانتصار للصحابةِ\العلامة العباد

    الانتصار للصحابةِ الأخيار
    في ردِّ أباطيل حسن المالكي
    تأليف:
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
    فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
    وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله  الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: (( عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ))، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391هـ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.
    وألَّفتُ رسالةً بعنوان: (( فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة )) طُبعتْ في عام 1422هـ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً بعنوان: (( مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان )).
    وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
    في أوَّل الأمر (( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين ))، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه )).
    وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: (( الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية ))، والثانية بعنوان: (( قراءةٌ في كتب العقائد ))، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.
    وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
    ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله  إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله  الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله  بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله  وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله  وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.
    ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله ، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.
    والله يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في
    المَثَل: (( مُكرَهٌ أخوك لا بطل ))، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها،
    وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه (( مفتاح الجنة في الاحتجاج
    بالسنة )) (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما
    يُحتجُّ بالقرآن وحده!) قال: (( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة )) إلى أن قال في (ص:6): (( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار )).
    ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262).
    وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
    الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
    وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: (( قراءةٌ في كتب العقائد )) فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في (( قراءته )) كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: (( الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي )).
    وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.
    * * *
    زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
    قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: (( أصحابُ النَّبِيِّ :
    ـ الصحبة الشرعية ـ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ  وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
    فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ ، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النَّبِيِّ ) إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ  إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! )).
    وقد علَّق عند قوله: (( قبل فتح الحُديبية )) بقوله في الحاشية: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ  قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! )).
    وقال في نهاية الكتاب (ص:84 ـ 85): (( الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ  في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.
    الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ  من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ  صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.
    فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
    فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ  صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة )).
    أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
    الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
    الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله  الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
    الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ  بعد فتح مكة ـ سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود ـ لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
    الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.
    الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ  بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.
    والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:
    إنَّ الهجرةَ إلى الرسول  في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
    فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
    وما ذكره في (ص:85 ـ 86) من تقسيم الهجرة إلى (هجرة شرعية) تنتهي بصلح الحُديبية و(شرعيةِ هجرةٍ) تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
    ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:
    1 ـ حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ  قال يومَ الفتح: (( لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا )).
    قال الحافظ في شرحه: (( قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ )).
    2 ـ حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: (( جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ ، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام )).
    وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: (( أتيتُ النَّبِيَّ  أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد )).
    وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
    3 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( انقطعت الهجرةُ منذُ فتح الله على نبِيِّه  مكة )) رواه البخاري (3080).
    وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
    4 ـ حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة ))، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
    والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
    وقد أورد المالكي في (ص:46 ـ 47) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 45 ـ 46) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: (( الدليلُ الخامس عشر ما رواه البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ  بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
    أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ ، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ)، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك! )).
    ثمَّ علَّق على هذا بقوله:(( وقوله: (ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها) أي
    بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم )).
    وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.
    وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ  مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.
    قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/10): (( وأصحُّ ماوقفتُ عليه من ذلك أنَّ الصحابيَّ مَن لقي النَّبِيَّ  مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه مَن طالت مجالسته له أوقصُرت، ومن روى عنه أو لَم يروِ، ومن غزا معه أو لَم يغزُ، ومن رآه رُؤيةً ولو لَم يجالسْه، ومَن لَم يرَه لعارضٍ كالعمى )) ثمَّ شرح تعريفَه هذا إلى أن قال (1/12): (( وهذا التعريفُ مَبنِيٌّ على الأصحِّ المختارِ عند المحقِّقين كالبخاري وشيخِه أحمدَ بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوالٌ أخرى شاذَّةٌ ... )) وأشار إلى جملةٍ منها، وهذا التعريفُ هو الأسلمُ، وهو يشملُ حتى الذين رأوا النَّبِيَّ  مجرَّدَ رؤية ولَم يُجالِسوه، ويدلُّ لذلك أدلَّةٌ:
    الأول: قال الله عزَّ وجلَّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
    فإنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ عامَّةٌ في جميع أصحاب الرسول  سواءً مَن كان أسلم عام الفتح وصحبه ، ومَن كان قبل ذلك وبعده إلى وفاة الرسول .
    وقد تأوَّل المالكيُّ هذه الآيةَ بقصرِ عمومِها على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو تحكُّمٌ وتعسُّفٌ، وسيأتي الرَّدُّ عليه.
    الثاني: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
    فإنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، والفتحُ فيها فتحُ مكةَ على قول الجمهور، وصلحُ الحُديبية على قول بعض العلماء، وسيأتي ذكر المالكي للآية مستدلاًّ بها على رأيه الباطل والرَّدّ عليه.
    الثالث: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
    ففي الآية دليلٌ على أنَّ مَن آمن وهاجر وجاهد مع المهاجرين والأنصار من الصحابة الذين تأخَّر إسلامُهم أنَّهم منهم في الأجر والثواب، مع التفاوت الكبير بين هؤلاء وهؤلاء، قال الشوكاني في فتح القدير: (( ثمَّ أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأوَّلين والأنصار فهو مِن جملتِهم أي: من جملة المهاجرين الأوَّلين والأنصار في استحقاق ما استحقُّوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم )).
    الرابع: قال الله عزَّ وجلَّ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
    فإنَّ الآيةَ في الصحابة جميعاً، فيدخلُ فيها كلُّ مَن كان معه وجاهد قبل الفتح وبعده، في حُنين والطائف وغزوة تبوك، قال ابن كثير في تفسيره: ((لَمَّا ذكر تعالى ذمَّ المنافقين بيَّن ثناءَه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم، فقال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} إلى آخر الآيتين من بيان حالِهم ومآلهم، وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ}، أي: في الدار الآخرة في جنَّات الفردوس والدرجات العُلَى )).
    ويدلُّ لذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي: أنَّ الله كافيك وكافي من اتَّبَعك من المؤمنين.
    الخامس: قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذين آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
    ففي الآيةِ الكريمة بيانُ حال النَّبِيِّ  والذين آمنوا معه يوم القيامة، ويدخل في ذلك الصحابة رضي الله عنهم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّهم خيارُ المؤمنين وسادات الأولياء بعد الأنبياء والمرسَلين.
    السادس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ  قال:
    (( يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسولَ الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى مَن صَحب رسولَ الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن صَحِب من صَحب رسولَ الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم )) رواه مسلم (2532).
    فهذا الحديث الصحيحُ دالٌّ على أنَّ الصُّحبةَ للرسول  تحصُل برؤيته ، وإن لَم تطُلْ صحبتُه إيَّاه.
    قال علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في اعتقاده الذي رواه عنه اللالكائي بإسناده في كتابه (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )) (1/188) فساقه، وفيه: (( مَن صَحِبَه سَنةً أو شهراً أو ساعةً، أو رآه، أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه، فأدناهم صحبةً هو أفضلُ من الذين لَم يروه، ولو لقوا الله عزَّ وجلَّ بجميع الأعمال، كان الذي صحب النَّبِيَّ  ورآه بعينيه وآمن به ولو ساعة أفضلَ بصُحبته من التابعين كلِّهم، ولو عملوا كلَّ أعمال الخير )).
    وقد ساق اللالكائيُّ في كتابه أيضاً (1/180) اعتقاد الإمام أحمد بإسناده إلى عَبدوس بن مالك العطَّار عنه، وفيه تعريف الصحابي وبيان فضيلة الصُّحبة بنحو كلام علي بن المديني المتقدِّم.
    قال ابن تيمية في منهاج السنَّة (8/382 ـ 388): (( ومِمَّا يبيِّن هذا أنَّ الصُّحبةَ فيها عمومٌ وخصوصٌ، فيُقال: صَحبِه ساعةً ويوماً وجمعةً وشهراً وسنةً، وصَحِبَه عمرَه كلَّه.
    وقد قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}، قيل: هو الرفيق في السَّفر، وقيل: الزوجة، وكلاهما تقلُّ صُحبتُه وتكثر، وقد سَمَّى الله الزوجةَ صاحبةً في قوله: {أَنَّى يُكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ}.
    ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عَبْدوس بن مالك عنه: (مَن صحب النَّبِيَّ  سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً، أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه).
    وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرِهم: يَعُدُّون في أصحابه مَن قلَّت صحبتُه ومَن كثرت، وفي ذلك خلافٌ ضعيف.
    والدليلُ على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبِيِّ  قال: (يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى رسول الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب النَّبِيَّ ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب من صحب رسولَ الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم)، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: (يأتي على الناس زمان يُبعَثُ منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً مِن أصحاب رسول الله ؟ فيوجد الرَّجل، فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعث البعثُ الثاني، فيقولون: هل فيكم مَن رأى أصحابَ رسول الله ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعثُ البعثُ الثالث، فيُقال: انظروا هل ترون فيكم مَن رأى مَن رأى أصحابَ رسولِ الله ؟ فيقولون: نعم، ثمَّ يكون البعثُ الرابع، فيُقال: هل ترون فيكم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب رسول الله ؟ فيوجد الرَّجل فيُفتحُ لهم به)، ولفظ البخاري ثلاث مرَّات كالرواية الأولى، لكن لفظه: (يأتي على الناس زمان يغزو فِئامٌ من الناس)، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلِّها: (صَحِب)، واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابةِ والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة، وأمَّا القرن الرابع فهو في بعضها، وذِكرُ القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : (خيرُ أمَّتِي القرن الذين يَلونَنِي، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يَمينَه ويَمينُه شهادتَه).
    وفي الصحيحين عن عِمران: أنَّ النَّبِيَّ  قال: (إنَّ خيرَكم قرنِي ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم)، قال عِمران: فلا أدري أقال رسول الله  بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، (ثمَّ يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمَنون، وينذِرون ولا يوفون)، وفي رواية: (ويحلفون ولا يُستحلفون)، فقد شكَّ عمران في القرن الرابع ... )).
    إلى أن قال: (( ففي الحديث الأول: (هل فيكم مَن رأى رسول الله ؟) ثمَّ قال: (هل فيكم مَن رأى مَن صحب رسول الله ؟)، فدلَّ على أنَّ الرَّائي هو الصَّاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: (هل فيكم من رأى مَن صَحبَ مَن صَحِبَ رسولَ الله ؟) ثمَّ يكون المراد بالصَّاحب الرائي.
    وفي الرواية الثانية: (هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب رسول الله ؟) ثمَّ يقال في الثالثة: (هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله ؟).
    ومعلومٌ إن كان الحكمُ لصاحب الصاحب معلَّقاً بالرؤية، ففي الذي صحب رسولَ الله  بطريق الأوْلَى والأحْرَى.
    ولفظ البخاري قال فيها كلِّها: (صَحِب)، وهذه الألفاظ إن كانت كلُّها من ألفاظ رسول الله  فهي نصٌّ في المسألة، وإن كان قد قال بعضَها، والراوي مثل أبي سعيد يروي اللَّفظ بالمعنى، فقد دلَّ على أنَّ معنى أحد اللَّفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلمُ بِمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله .
    وأيضاً فإنْ كان لفظ النَّبِيِّ  (رأى) فقد حصل المقصود، وإن كان لفظه (صحب) في طبقة أو طبقات، فإن لَم يُرِد به الرؤية لَم يكن قد بيَّن مرادَه، فإنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، والعُرف فيها مختلف.
    والنَّبِيُّ  لَم يُقيِّد الصُّحبةَ بقيدٍ، ولا قدَّرها بقدر، بل علَّق الحكمَ بمطلقها، ولا مُطلقَ لها إلاَّ الرؤية.
    وأيضاً فإنَّه يُقال: صَحِبَه ساعةً وصَحِبَه سنةً وشهراً، فتقع على القليل والكثير، فإذا أُطلقت من غير قيد لَم يَجُز تقييدُها بغير دليل، بل تُحملُ على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
    ولا ريب أنَّ مجرَّدَ رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يُقال: قد صَحِبَه، ولكن إذا رآه على وجه الاتِّباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ  من الكفَّار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رؤيةَ مَن قَصْدُه أن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدِّقين له فيما أخبر، المطيعين له فيما أمر، الموالين له، المُعادين لِمَن عاداه، الذي هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأموالِهم وكلِّ شيء )).
    السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله  أتى المقبرة، فقال: (( السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لَم يأتوا بعد )) الحديث، رواه مسلم (249) وغيرُه.
    فدلَّ الحديثُ على التمييز بين أصحابه وإخوانِه، وأنَّ أصحابَه هم الذين أدركوه ورأوه، وإخوانَه الذين يأتون مِن بعد ولَم يروه، والمرادُ بالأُخوَّة الأخوَّة الإيمانية، والصحابةُ جمعوا بين الصُّحبةِ والأُخوَّة، والذين بعدَهم نصيبُهم الأُخوَّة وحدها.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/389): (( ومعلومٌ أنَّ قوله (إخواني) أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأمَّا أنتم فلكم مزيَّة الصُّحبة ...
    فجعل هذا حدًّا فاصلاً بين إخوانه الذين ودَّ أن يراهم وبين أصحابه، فدلَّ على أنَّ مَن آمن به ورآه فهو من أصحابه، لا مِن هؤلاء الإخوان الذين لَم يَرَهم ولَم يَرَوْه، فإذا عُرف أنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ تَعُمُّ قليلَ الصُّحبة وكثيرَها، وأدناها أن يصحبَه زمناً قليلاً، فمعلومٌ أنَّ الصِّديقَ في ذروةِ سَنَام الصُّحبة وأعلى مراتبها؛ فإنَّه صَحِبَه من حين بعثه الله إلى أن مات )).
    الثامن: روى الإمام أحمد في مسنده (4/152) عن محمد بن عُبيد الطنافسي قال: ثنا محمد ـ يعني ابنَ إسحاق ـ حدَّثني يزيد بن أبي حبيب، عن مَرثد بن عبد الله اليَزَنِي، عن أبي عبد الرحمن الجُهنِيِّ قال: (( بينا نحن عند رسول الله  طلع رَكْبان، فلمَّا رآهما قال: كِنديان ومُذْحجِيان، حتى أتياه، فإذا رجالٌ من مُذحج، قال: فدنا إليه أحدُهما ليُبايِعه، قال: فلمَّا أخذ بيده قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ قال: طوبى له، قال: فمسح على يده، فانصرف، ثمَّ أقبل الآخرُ حتى أخذ بيده ليُبايِعه، قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن آمن بك وصدَّقك واتَّبعك ولَم يرَك؟ قال: طوبى له، ثمَّ طوبى له، ثمَّ طوبى له، فمسح على يده فانصرف )).
    وهذا الإسناد فيه محمد بن عُبيد ويزيد بن أبي حبيب ومرثَد بن
    عبد الله اليزني، وهم ثقات من رجال الجماعة، ومحمد بن إسحاق صدوق يدلِّس، وقد صرَّح بالتحديث.
    وقد رُتِّب الفضلُ في الحديث على رؤيته  والإيمان به وتصديقه واتِّباعه.
    التاسع: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللِّفظ للبخاري (3650) عن عِمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( خيرُ أُمَّتِي قرنِي، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، قال عِمران: فلا أدري أَذَكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة )) الحديث.
    وروَيا أيضاً، واللفظ للبخاري (3651) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ  قال: (( خيرُ الناس قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم )) الحديث.
    والقرنُ الأوَّل مِن هذه القرون هو قرنُ الصحابة رضي الله عنهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/84): (( اتَّفق العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ، والمرادُ أصحابُه )).
    ونقل عن القاضي عياض أنَّ شهر بن حوشَب قال: (( قرنُه: ما بَقيتْ عينٌ رأتْه، والثاني: ما بقيت عينٌ رأت مَن رآه، ثمَّ كذلك )).
    وقال ابن تيمية في منهاج السنة (8/384): (( واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة )).
    وجاء في السنة الصحيحة وَصْفُ الذين لَم يُدركوا زمنَه  ويَروه
    بـ (التابعين)، ففي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنِّي سمعتُ رسول الله  يقول: (( إنَّ خيرَ التابعين رجلٌ يُقال له أُوَيس، له والدةٌ وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم ))، وهو يدلُّ على التمييز بين الصحابة والتابعين.
    العاشر: روى مسلم (2531) عن أبي بُردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( صلَّينا المغربَ مع رسول الله ، ثمَّ قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاءَ، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتُم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلَّينا معك المغربَ، ثمَّ قلنا: نجلس حتى نصلِّيَ معك العشاءَ، قال: أحسنتم أو أَصبتُم، قال: فرفع رأسَه إلى السماء، وكان كثيراً مِمَّا يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعَدون )).
    وفي صحيح البخاري (3876) أنَّ أبا موسى رضي الله عنه قدِم إلى النَّبِيِّ  حين فتح خيبر، وكان ذلك بعد الحُديبية، وأبو موسى رضي الله عنه مِمَّن يشمله حديثه هذا، لا كما يقول المالكي مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة هي لِمَن كانت هجرتُه قبل الحُديبية؛ لأنَّ الحُديبية في سنة ست من الهجرة، وفتح خيبر في سنة سبع.
    الحادي عشر: روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس (1739) وأبي بكرة (1741) في خطبة النَّبِيِّ  بِمِنى في حجَّة الوداع، وفي آخرها: (( فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ ))، وحديث أبي بكرة رواه مسلم أيضاً (29).
    وهؤلاء الذين حجُّوا معه وشهدوا خطبتَه وسَمعوها، وأُمروا بإبلاغها غيرَهم هم من أصحابه، لا كما يقول المالكي من أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة خاصَّةٌ بِمَن كان قبل الحُديبية.
    الثاني عشر: روى أبو داود في سننه (3659) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله : (( تَسمعون ويُسمع منكم، ويُسمَع مِمَّن سَمِع منكم )).
    وهو دالٌّ على أنَّ الذين سَمعوا منه  هم من أصحابه، وأنَّ الذين سَمعوا من الصحابة هم التابعون، وأنَّ الذين سَمعوا مِمَّن سَمع من الصحابة هم أتباع التابعين، ولا يُقال: إنَّ مَن سَمع رسولَ الله  وحدَّث عنه ليس بصحابي.
    الثالث عشر: روى أبوداود في سننه (3660) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله  يقول: (( نضَّر الله امرءاً سَمِع منَّا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه ... )) الحديث.
    وهوحديثٌ متواتر؛ رواه أربعة وعشرون صحابيًّا، وقد جمعتُ طرقَه وتكلَّمتُ على فقهه في بحث بعنوان: (( دراسة حديث (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتِي ...) رواية ودراية))، وهو مطبوع، وهو دالٌّ على كون مَن سَمع حديثَه  منه أنَّه من أصحابه.
    الرابع عشر: روى البخاري في الأدب المفرد (87) قال: حدَّثنا بِشر ابن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا صفوان بن عمرو قال: حدَّثني عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه قال: (( جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرَّ به رجلٌ، فقال: طوبَى لِهاتَين العينين اللَّتين رأَتا رسولَ الله ، والله! لوَدِدنا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ، فاستُغضِب، فجعلت أَعْجَب: ما قال إلاَّ خيراً! ثمَّ أقْبَلَ عليه فقال: ما يَحمل الرَّجلَ على أن يتمنَّى مَحضراً غيَّبه الله عنه؟ لا يدري لو شَهدَه كيف يكون فيه؟ والله! لقد حضر رسولَ الله  أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرِهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يُصدِّقوه، أوَ لا تَحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم فتُصدِّقون بِما جاء به نبيُّكم ، قد كُفيتُم البلاء بغيركم ... )) الحديث.
    وعبد الله الذي في الإسناد هو ابن المبارك، وهو ثقة، أخرج له الجماعة، والثلاثة الذين فوقه ثقات، أخرج لهم البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن، والراوي عن ابن المبارك، قال عنه الحافظ في التقريب:
    (( صدوق ))، وقد رواه عن ابن المبارك جمعٌ، منهم: يَعمر بن بشر في مسند الإمام أحمد (6/3)، وحسين بن حسن في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (292)، وقد أورد الحديثَ ابنُ كثير في تفسيره في آخر سورة الفرقان من مسند الإمام أحمد، وقال: (( هذا إسنادٌ صحيح ولَم يخرجوه )).
    وهو يدلُّ على أنَّ التابعين يَرون أنَّ شَرَفَ الصُّحبةِ يَحصُل برؤيتِه  مع الإيمان به؛ ولَم يُنكر ذلك المقداد رضي الله عنه، وإنَّما غضب لِتمنِّي أمرٍ لا يدري المُتمنِّي ماذا يكون حالُه عند حصولِه، وهذا الذي غضب منه المقداد نظيرُ ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: أنَّ النَّبِيَّ  قال: (( لا تَتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسلُوا الله العافيةَ، وإذا لقيتُموه فاصبِروا، واعلموا أنَّ الجنَّةَ تحت ظلالِ السيوف ))؛ لأنَّ متمنِّيَ لقاء العدوِّ لا يدري عن حاله حين لقائه: هل تكون حسنة أو سيِّئة؟
    ويدلُّ أيضاً لفرح التابعين برؤية الصحابة ما رواه أبو داود في سننه (948) بإسنادٍ فيه ضعف، عن هلال بن يَسَاف قال: (( قدمتُ الرَّقَّةَ، فقال لي بعضُ أصحابي: هل لك في رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ ؟ قال: قلت: غنيمة! فدفعنا إلى وابِصة، قلت لصاحبِي: نبدأ فننظر إلى دلِّه، فإذا عليه قلنسوة لاطئةٌ ذات أُذنين وبُرنس خَزٍّ أغبر ... )) الحديث.
    ووابِصةُ هو ابن معبد رضي الله عنه، وقد وفد على النَّبِيِّ  سنة تسع من الهجرة، ولَمَّا عُرض على هلال بن يساف لقاؤه فرح، وقال: (( غنيمة! )).
    أقول: وإنَّها والله غنيمة وأيُّ غنيمة؛ ظَفَرُ التابعيِّ برؤية مَن شرَّفه الله بصحبة النَّبِيِّ  مع الإيمان به والاتِّباع له!
    الخامس عشر: قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/20 ـ 21):
    (( وقد كان تعظيمُ الصحابة ـ ولو كان اجتماعُهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم قليلاً ـ مقرَّراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمِن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، بخطِّ بعضِ مَن سمعه منه في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا زهير هو الجعفي، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِي قال: كنت عند أبي سعيد الخدري ))، ثمَّ ذكره الحافظ بإسناده إلى نُبيح قال: (( كنَّا عنده وهو متَّكئ، فذكرنا عليًّا ومعاوية، فتناول رجلٌ معاويةَ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، ثمَّ قال: كنَّا ننزلُ رفاقاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنَّا رفقةً فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجلٌ من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أَيَسُرُّك أن تلِدي غلاماً، قالت: نعم! قال: إن أعطيتِنِي شاةً ولَدتِ غلاماً، فأعطَتْه، فسَجَع لها أسجاعاً، ثمَّ عمد إلى الشاةِ فذبحها وطبخها، وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر، فلمَّا علم بالقصَّة قام فتقيَّأ كلَّ شيءٍ أكل، قال: ثمَّ رأيتُ ذلك البَدَويَّ أُتِي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أنَّ له صحبةً من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما نال فيها لَكَفَيْتُكموه، ولكن له صحبة مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم )).
    ثمَّ قال الحافظ: (( لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقَّف عمر رضي الله عنه عن معاتبتِه فضلاً عن معاقبتِه لكونه علم أنَّه لقي النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك أبينُ شاهد على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شأنَ الصحبة لا يعدله شيء )).
    ثمَّ ذكر أحاديث في فضل أصحاب رسول الله ، ورجال الإسناد ثقات كما قال الحافظ ابن حجر، فعليُّ بن الجعد خرَّج له البخاري وأبو داود، وزهير بن معاوية والأسود بن قيس خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة، ونُبيح العَنَزي خرَّج له أصحاب السنن، قال عنه المزيُّ في تهذيب الكمال: (( روى عنه الأسود بن قيس وأبو خالد الدالاني، قال أبو
    زرعة: ثقة لَم يرو عنه غير الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ))، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: (( قلت: وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وصحح الترمذي حديثه وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم )).
    وقول الحافظ: (( رجال هذا الحديث ثقات ))، وفيهم نُبيح هو المعتمَد، وأمَّا قوله في التقريب عنه: (( مقبول ))، أي: حيث يُتابَع، فغير مقبول.
    ولا شكَّ أنَّ هجوَ هذا الأعرابي الصحابي للأنصار لا يرجع إلى نُصرتهم للرسول ؛ لأنَّ ذلك نفاقٌ، وإنَّما يرجع لشيء غير ذلك، وسيأتي نقل ابن حجر عن القرطبي صاحب المفهم ما يوضح ذلك.
    وقد يكون هذا الهجوُ أخفَّ من الذَّمِّ الذي أضافه المالكي للأنصار، وذلك بنسبته إلى أكثرهم كون علي رضي الله عنه أولى بالخلافة من أبي بكر، كما سيأتي عند ذِكر تشكيكه في أحقَّية أبي بكر بالخلافة، ؛ فإنَّ ذلك سوءُ ظنٍّ بهم، وأنَّهم يأبَون إلاَّ غير أبي بكر، وقد قال النَّبِيُّ :
    (( يأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).
    ويدلُّ أيضاً لشمول الصُّحبة لكلِّ من رآه أو سَمع منه حديثاً وصحبه مدَّة وجيزة أو طويلة ما يلي:
    الأول: أنَّ الذين دوَّنوا سنَّة رسول الله  متَّفقون على ثبوت الصُّحبة لكلِّ مَن سَمِع منه ، ولو كان الذي سمعه منه حديثاً واحداً؛ فإنَّهم يسوقون الأسانيد حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوا منه ويتَرضَّون عنهم، ومن طريقة أهل السُّنَّة والجماعة الترضِّي عن الصحابة عند ذِكرهم والتَّرحُّم على مَن كان بعدهم.
    الثاني: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة أثبتوا فيهم مَن حصل له مجرَّد اللُّقيّ للرَّسول ، ومَن لَم يَروِ عنه إلاَّ حديثاً واحداً.
    الثالث: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة وغيرهم، عندما يأتي ذكر الصحابي ـ سواء قلَّت صُحبتُه أو طالت ـ يقولون عنه: صحابي، لا يحتاجون إلى إضافة شيء على هذا الوصف إلاَّ إذا كان الوصفُ فيه زيادة فضل ومنقبة، ككونه من السابقين إلى الإسلام أو مِن أهل بدر أو مِن أهل بيعة الرضوان، فإنَّهم يُضيفون ذلك إلى وصف الصُّحبة.
    الرابع: أنَّ العلماءَ على مختلف العصور والدُّهور مُطْبقون على عدِّ كلِّ مَن أسلم بعد صُلح الحُديبية وظفر بصحبة النَّبِيِّ  أنَّه من أصحابه، سواء قصرت مدَّة صحبتِه أو طالت، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ المالكيَّ الذي ابتلي بالرأي الباطل، وهو قَصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية لَم يَجد له سَلَفاً في هذا الرأي الباطل إلاَّ شخصاً واحداً من المعاصرين سَمَّاه، وهو عبد الرحمن محمد الحكمي، وقد ذكر في ملحق قراءته أنَّه طالبٌ يُواصل دراسته العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند ذِكر إعلان المالكي إفلاسه من وجود سلفٍ له في رأيه سوى ذلك الشخص.
    وبناءً على هذا الرأي الباطل، ماذا يقالُ للصَّحابة الكثيرين الذين أسلموا وصحِبوا النَّبِيَّ  بعد بيعة الرِّضوان وسَمعوا حديثَه؟ أيقالُ لهم: تابعون، أم ماذا يقال لهم؟!
    وماذا يقال لأحاديثهم: أهي مرفوعةٌ أم غيرُ مرفوعة؟!
    وعند أهل السنة أنَّ المرفوعَ تصريحاً ما قال فيه الصحابيُّ: سمعتُ رسول الله  يقول كذا، وعندهم أنَّ الإسنادَ المنتهي إلى الصحابيِّ يقال له: موقوفٌ، والمنتهي إلى التَّابعي ومَن دونه يقال له: مقطوعٌ، وما قال فيه التابعي (قال رسول الله ) يقال له مرسل، وعلى هذا الرأيِ الباطل للمالكي يحتاج الأمرُ إلى إعادة النَّظر في مصطلحات علم المصطلح، وذلك واضحٌ في شذوذه وشذوذ قدوته الحكمي، ثمَّ يقال أيضاً إنَّ هذا الرأيَ المحدَث في القرن الخامس عشر لو كان خيراً لسبق إليه سلفُ هذه الأمَّة، وليس من المعقول أن يُحجب حقٌّ في العصور المختلفة عن الناس ويُدَّخَر للمالكي وقدوته!
    بقي بعد ذلك أن أُشير إلى أمورٍ:
    الأمرُ الأوَّلُ: ما ذكره مِن أنَّ صحبةَ مَن رآه بعد الحُديبية ليست شرعية، وأنَّها كصحبة المنافقين والكفار، مردودٌ بأنَّ رؤيةَ الصحابة رؤيةٌ مع الإيمان به والتصديق بما جاء به، بخلاف رؤية المنافقين والكفار، وقد مرَّ في الدليل الثامن أنَّه لما قال للنَّبيِّ  رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت من رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ فأجابه  بقوله: (( طوبى له )).
    وهو واضحٌ في الفرق بين رؤية الصَّحابيِّ المصدِّق للنَّبيِّ  المتَّبع
    له، ورؤية المنافقين والكفار، ومرَّ أيضاً في أثر المقداد ـ وهو الدليلُ الرابع عشر ـ قولُه رضي الله عنه: (( والله! لقد حضر رسولَ الله  أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يصدِّقوه، أوَ لاَ تحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم، فتصدِّقون بما جاء به نبيُّكم ، قد كُفيتم البلاء بغيركم )).
    ومرَّ قولُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الدليل السادس:
    (( ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ  من الكفار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رُؤيةَ مَن قصدُه أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه )).
    ومِمَّا تقدَّم يتَّضحُ بطلان تسوية المالكي بين صحبة مَن صحب النَّبِيَّ  بعد الحُديبية وصحبةِ المنافقين والكفار، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!
    الثاني: ما ذكره في الحاشية (ص:25) من قوله: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة )).
    أقول: هذا الذي ذكره كلامٌ جميلٌ لو سلِمَ مِن ذكر (( قد )) في أوَّله؛ لأنَّ ذكره إيَّاه مصَدَّراً بهذا الحرف واضحٌ في عدم الجزم بصحبة هؤلاء، لكن التعريف الذي قال: إنَّه أسلمُ تعريفٍ ـ وهو في الحقيقة أفسدُ تعريفٍ ـ فيه الجزمُ بعدم صحبة مَن بعد الحُديبية، وكذا كلامه الأخير الذي ختم به الكتاب (ص:84 ـ 85) واضحٌ في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار إلى زمن الحُديبية.
    ومِمَّا يوضِّح فسادَ تعريف الصحبة الشرعية المحمود أهلها ، المثنى عليهم في الكتاب والسنة بقَصرِها على مَن كان قبل الحُديبية، أنَّه يخرُجُ بذلك جمعٌ كبيرٌ من الصحابة مشهورون كأبي هريرة رضي الله عنه الذي هو أكثرُ الصحابة حديثاً عن رسول الله ، وكأبي موسى الأشعري وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وغيرهم مِمَّن هاجر إلى النَّبِيِّ  قبل فتح مكة وبعد الحُديبية، بل وكالعباس عم النَّبِيِّ  وابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكلّ من هاجر إلى النَّبِيِّ  قبل فتح مكة فهو من المهاجرين كما تقدَّم إيضاحُ ذلك بأدلَّتِه.
    الثالث: وأمّا أبناءُ المهاجرين والأنصار فقد أخرجهم من الصُّحبة الشرعية التي خصَّ بها المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فقال في (ص:28): (( ولا يدخل فيهم ـ يعني الأنصار ـ أبناءُ الأنصار (الأطفال)، كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين! ))، وقال أيضاً في (ص:28): (( ومنهم ـ يعني الذين اتَّبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان ـ أبناءُ المهاجرين وأبناءُ الأنصار! ))، وأكَّد ذلك في (ص:85 و87).
    أقول: أمَّا كونُ أبناء المهاجرين والأنصار من الذين اتّبعوهم بإحسان ففيه تفصيل، فمَن كان منهم رأى النَّبِيَّ  فهو من أصحابه، ومن لَم يره منهم فإنَّه يكون من التابعين للصحابة بإحسان.
    ومن المعلوم قطعاً أنَّ من القسم الأول: الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وهم مِن أهل بيته ، ومنهم النعمان بن بَشير رضي الله عنهما الذي كان عمرُه عند وفاة النَّبِيِّ  ثمان سنين، والسائب ابن يزيد رضي الله عنهما الذي قال: (( حُجَّ بي مع النَّبِيِّ  وأنا ابن سبع سنين ))، وكلُّهم رَوَوا الأحاديث عن النَّبِيِّ .
    ولكلِّ مَن رأى النَّبِيَّ  من هذا القسم شرفُ الصُّحبة التي نوَّه بها  بقوله: (( طوبى له ))، جواباً لِمَن قال له: (( يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ ))، وقد مرَّ ذِكر هذا الحديث قريباً.
    الرابع: وأمَّا من أسلم عام الفتح وما بعده فقد جزم بعدمِ دخولِهم في مسمَّى الأصحاب، فقال في (ص:25 ـ الحاشية): (( لكن لا يدخل فيهم طُلقاء قريش، ولا عُتقاء ثقيف، ولا مَن كان في حكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة!! )).
    أقول: إنَّ من المعلوم أنَّ كلَّ مَن رآه  مؤمناً به متَّبعاً له فهو من أصحابه، وقد مرَّ الدليل على ذلك قريباً، ومن هؤلاء مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ  عام فتح مكة وما بعده، وكذا الذين شهدوا معه حجَّة الوداع.
    ومن أشهر الذين أسلموا عام الفتح أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية وسُهيل بن عمرو وعتَّاب بن أسيد الذي جعله النَّبِيُّ  أميراً على مكة بعد فتحها، والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
    ولَمَّا ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، لقيه أبو عُبيدة وأمراء الأجناد، وأخبروه أنَّ الطاعون وقع بالشام، فاستشار عمر أصحابَ رسول الله : المهاجرين الأوَّلين، ثمَّ الأنصار، ثمَّ مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فقد روى البخاري (5729) ومسلم (2219) ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس: (( أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أُمراءُ الأجناد: أبو عُبيدة وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباءَ قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباءَ قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضُهم: معك بقيَّة الناس وأصحابُ رسول الله ، ولا نرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْع لي الأنصار، فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافِهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْعُ لي مَن كان ههنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم فلَم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مُصبحٌ على ظهر، فأصْبِحوا عليه ... )) الحديث، وفي آخره: (( فجاء
    عبد الرحمن بن عوف ـ وكان متغيِّباً في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سَمعتُ رسول الله  يقول: إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمرُ ثمَّ انصرف )).
    وهو واضحٌ في أنَّ عمرَ استشار الصحابةَ رضي الله عنهم، ومنهم كبار الذين أسلموا عام الفتح، واستقرَّ رأيُه على الرجوع وعدم الدخول على الطاعون، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخبر بِما عنده من الحديث في ذلك، فسُرَّ بذلك عمر وحَمِد الله ثمَّ انصرف.
    * * *
    هذا وقد أورد المالكي آياتٍ وأحاديث وآثاراً يستدلُّ بها على قَصْر صُحبة الرسول  على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وليس فيما أورده ما يدلُّ على دعواه؛ لأنَّها إمَّا نصوصٌ فيها ذِكر المهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وذلك حقٌّ، لكن لا تدلُّ على قصر الصُّحبة عليهم دون غيرهم، وإمَّا آياتٌ وأحاديث فيها الثناء على الصحابة عموماً حَمَلَها تعسُّفاً على المهاجرين والأنصار فقط، وإمَّا أحاديثُ وآثارٌ فيها ذكرُ الصحابي أصحابَ رسول الله ، وهي لا تدلُّ على إخراج المتكلِّم والمخاطَب من الصحابة، كما سيأتي إيضاح ذلك عند ذكر كثيرٍ من أدلَّتِه على وجه التفصيل، ولَم أتعقَّبْه في كلِّ دليلٍ أورده؛ لأنَّ الإجابةَ عن بعض أدلَّته تغني عن الإجابة عن غيرها مِمَّا يشابهها، ولَم أرتِّب الردَّ عليه على وفق ترتيب أدلَّته، بل قد أجيب عن دليل متأخِّرٍ قبل الإجابة على ما كان هو قدَّمه.
    * * *
    استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:
    قال في (ص:25 ـ 27): (( الدليلُ الأوَّلُ: مع أنَّ غزوةَ تبوك في السنة التاسعة بعد العودة من حصار الطائف، وكان عددُ جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفاً، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلَّة، ومع ذلك لَم يأت الثناءُ إلاَّ عليهم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
    والسؤال: لماذا لَم يخبرنا الله عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب على كلِّ جيش
    النَّبِيِّ  يوم تبوك؟! لماذا لَم يقل الله عزَّ وجلَّ: (لقد تاب الله على النبي والذين آمنوا الذين اتّبعوه في ساعة العسرة...)؟! أو (... على النَّبِيِّ والمؤمنين ...)؟!
    الجوابُ واضحٌ بأنَّ تخصيصَ الله عزَّ وجلَّ المهاجرين والأنصار بالتوبة دليلٌ على أنَّ مَن سواهم ليسوا في منزلتهم، ولا يجوز الجزمُ بالتوبة عليهم.
    وإنَّما نسكتُ عنهم كما سكت الله عنهم، وكأنَّ الله ـ والله أعلم ـ أراد بقَصْره الثناءَ على المهاجرين والأنصار أن يُشعر مَن سواهم بأنَّ المهاجرين والأنصار لَم يستحقوا التوبة عليهم من الله إلاَّ بأعمال جليلةٍ قدَّموها في الماضي، وأنَّ على مَن سواهم أن يُكثروا من التَّأسِّي بهم حتى يتوب الله عليهم كما تاب على المهاجرين والأنصار، والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يَخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة، مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان يستطيع أن يقول ذلك ويُعمِّم التوبةَ على كلِّ المؤمنين يومئذ، ولكنَّه لَم يقتصر على المهاجرين والأنصار إلاَّ لحكمة!! )).
    وعلَّق في الحاشية على قوله: (( والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة )) بقوله:
    (( ويقصدون بالصحابة كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ  أو لَقِيَه من المسلمين، ثمَّ يقولون هذا وقلوبهم على الطُّلَقاء !! )).
    والجوابُ عن ذلك من وجوه:
    الأوّل: أن يقال: إنَّ الآيةَ مشتملةٌ على توبة الله على المهاجرين والأنصار الذين معه في غزوة تبوك، لكن ليس في ذلك دليلٌ على ما زعمه من قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو الذي من أجله أورد الآية، وسبق أن أوردتُ الأدلَّةَ الدالَّة على شمول الصحبة لكلِّ مَن صحبه أو رآه بعد الحُديبية إلى حين وفاته .
    الثاني: أنَّ الآيةَ دالَّةٌ على توبة الله عزَّ وجلَّ على مَن أسلم وهاجر إلى المدينة بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومنهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، وقد أخرجهم المالكي، وسبق أن ذكرت الأدلَّةَ الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة.
    الثالث: أنَّ الآيةَ وإن لَم تنصَّ على التوبة على غير المهاجرين والأنصار، فليس فيها دليلٌ على حرمان الذين أسلموا بعد الفتح وخرجوا مع النَّبِيِّ  إلى تبوك من فضل الله ورحمته، بل قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة حصول الأجر لِمَن لَم يخرج إلى تبوك بسبب العذر، تبعاً للخارجين إليها، فقد روى البخاري في صحيحه (4423) عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ رسول الله  رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة فقال: إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهم العُذر )).
    وروى مسلم في صحيحه (1911) بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: (( كنَّا مع النَّبِيِّ  في غزاة، فقال: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلاَّ كانوا معكم، حبسهم المرض )).
    وبإسنادٍ آخر إليه، وفيه زيادة: (( إلاَّ شَرَكوكم في الأجر ))، فلماذا تحجر الواسع؟! ولماذا البخل على أهل الفضلِ بما تفضَّل الله به عليهم مِمَّن كانوا معه في غزوة تبوك من الطُّلَقاء وغيرهم، وقد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يَفُتهم الجهادُ والنيَّة والنَّفيرُ عند الاستنفار؟! فقد قال : (( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا )) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري (2825).
    ثمَّ إنَّ الأنصارَ الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز إنَّما حصَّلوا اسمَ النُّصرة ووصْفَها لكونِهم نصروا الرسول ، وقد حصَّل المهاجرون وصْفَ النُّصرةِ مع الهجرة، ومَن لَم يكن من المهاجرين والأنصار وقد نصر النَّبِيَّ  وجاهد معه في سبيل الله له نصيبٌ من هذا الوصف في الجملة، وله الثواب الجزيل من الله على ما حصل منه من النُّصرة، وقد نوَّه الله بفضل وثواب مَن آمن وجاهد مع رسول الله  في غزواته ـ ومنها تبوك ـ بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}، وأخبر أنَّه كافيه وكافي مَن اتَّبعه من المؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}.
    * * *
    استدلالُه بآية: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، والرد عليه:
    قال في (ص:27 ـ 29): (( الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
    فهنا أخبر الله عزَّ وجلَّ بثلاث طوائف كانت كلُّها في عهد النَّبِيِّ :
    الطائفة الأولى: السابقون من المهاجرين، وهذا قيْدٌ يُخرج المتأخِّرين من المهاجرين كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ولا يدخل فيهم أبناء المهاجرين ولا رجال الوفود إن لَم يبقوا في المدينة، حتى ولو أسلموا قبل الحُديبية.
    والطائفةُ الثانية: هم الأنصار، ولا يدخل فيهم أبناء الأنصار (الأطفال) كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين.
    الطائفة الثالثة: الذين اتَّبعوهم بإحسان، كالمهاجرين بعد الحُديبية والمهاجرين من وفود العرب مِمَّن ثبت على الإسلام أيَّام الرِّدَّة، ومنهم أبناءُ المهاجرين وأبناء الأنصار، وقد يدخل في هؤلاء مَن حسن إسلامه من طُلقاء قريش وعُتقاء ثقيف وغير هؤلاء.
    إذن فالمهاجرون والأنصار لَم يشترط الله فيهم (الإحسان)؛ لأنَّ الهجرةَ والنُّصرةَ اللَّتين تقتضيان الإنفاقَ والجهادَ في أيَّام الضَّعف هما من أفضل الأعمال، ولا يحتاج هذا لقيد الإحسان، فلَم يقل: (... من المهاجرين بإحسان والأنصار بإحسان)؛ لأنَّ الرَّجلَ إن قام بالهجرة التي تقتضي ترك الأوطان والأولاد هي غاية الإحسان، كما أنَّ النُّصرة التي أجلبت على الأنصار قبائل العرب، مع تحمُّلِهم مهمَّة حماية الإسلام في أيامه الأولى لا تحتاج لقيد الإحسان؛ لأنَّها في الذِّروة منه.
    أما بعد قوَّة الإسلام والمسلمين فأصبحت الهجرةُ إلى النَّبِيِّ  تعود على نفس المهاجر بالمصلحة بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ  بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً، أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة لكثرة المال وأمن القتل.
    ولهذا كلِّه نعرف لماذا قَصَرَ الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار فقط، ثمَّ قيد المهاجرين بالسابقين منهم، وهم المهاجرون الهجرة الشرعية!! )).
    ويُجاب على ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّه ليس في الآيةِ دليلٌ على ما أُورِدَت الآية من أجله، وهو قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، ثمَّ إنَّه جاء في سياق الآية عند المالكي زيادة حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }، وهو خطأ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي لَم يأت فيه حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}.
    الثاني: جاء في الآية وصْف المهاجرين بالسابقين، وهو يدلُّ على أنَّ المهاجرين فيهم سابقون وفيهم متأخِّرون، وقد ذكر ابنُ كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية قولين في المراد بالسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، أحدهما: أنَّهم الذين أدركوا بيعة الرِّضوان عام الحُديبية، والثاني: أنَّهم الذين صلَّوا إلى القبلتين مع رسول الله ، وقدكان تحويل القبلةِ إلى الكعبة بعد الهجرة بستة عشر شهراً.
    وعلى القول الأول يكون المهاجرون المتأخِّرون مَن هاجر بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومِن هؤلاء خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره، وقد أخرجهم المالكي من الصحبة ذات المدح والثناء، وكذلك الهجرة ذات المدح والثناء.
    الثالث: أنَّ الذين اتَّبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: صحابة، وهم الذين صحبوا الرسول  ورأوه.
    والثاني: الذين لَم يَصحبوا النَّبِيَّ  ولَم يرَوه، مِمَّن كان في زمنهم أو بعدهم.
    ويحصلُ للجميع الأجرُ العظيمُ الموعود به في الآية.
    الرابع: أنَّ ما ذكره عن المهاجرين بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أنَّ (( الهجرة تعود على نفس المهاجر بالمصلحة، بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ  بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً )) غير صحيح؛ فإنَّ المصلحة تعود بجهاد مَن جاهد منهم على النَّبِيِّ  والمسلمين، ومن أوضح الأمثلة لذلك ما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه من البلاء الحسن في الغزوات التي شهدها، ومنها غزوة مُؤْتة التي أمَّر نفسَه فيها بعد استشهاد الأمراء الثلاثة الذين عَيَّنَهم الرسول ، وما حصل من الفتح للمسلمين في إمارته، فقد روى البخاري في صحيحه (4262) بإسناده عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ النَّبِيَّ  نَعى زيداً وجعفراً وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتيَهم خبرُهم، فقال: أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ جعفرٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ ابنُ رواحة فأُصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم )).
    وهذا السيف من سيوف الله لَم يظفر بشرف الصُّحبة لرسول الله  على رأي المالكي الباطل الذي قَصَر فيه الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
    ومن أوضَح الأمثلة أيضاً ثبوت العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ـ وهو من الطُّلقاء ـ مع رسول الله  حينما انهزم الناسُ يومَ حُنين، ففي صحيح مسلم (1775) من حديث العباس رضي الله عنه قال: (( شهدتُ مع رسول الله  يوم حنين، فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسولَ الله  فلَم نفارِقه، ورسول الله  على بغلةٍ له بيضاء، أهداها له فروة بن نُفاثة الجذامي، فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مُدبرين، فطَفِق رسولُ الله  يُركضُ بغْلَتَه قِبَل الكفَّار، قال عباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلةِ رسول الله  أكفُّها إرادةَ أن لا تُسرِع، وأبو سفيان آخذٌ برِكاب رسول الله  ... )) الحديث.
    وهذان الصحابيان الجليلان عمُّه وابنُ عمِّه اللذان ثَبَتَا مع رسول الله  ولَم يفِرَّا يوم حُنين وقد عادت مصلحةُ إسلامهما في هذه الغزوة على الرسول ، لا يعتبرهما المالكي من الصحابة؛ لأنَّ إسلامهما بعد الحُديبية، وهو يقصُر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
    الخامس: أنَّ قولَه: (( أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة؛ لكثرة المال وأمن القتل )) غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجاهدَ في سبيل الله ليست سلامتُه من القتل مُحقَّقةً؛ فإنَّه قد يُقتل وقد يسلَم.
    السادس: أمَّا ما ذكره من أنَّ أبناءَ المهاجرين لا يدخلون في المهاجرين، وأنَّ أبناءَ الأنصار لا يدخلون في الأنصار، وقد قصَر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار، فمُقتضاه أنَّ أبناء المهاجرين والأنصار ليسوا من الصحابة، وسبق أن ذكرتُ أنَّ مَن رأى النَّبِيَّ  من أبناء المهاجرين والأنصار فهو من الصحابة، بخلاف مَن لَم يرَه منهم.
    * * *
    استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:
    وقال في (ص:30 ـ 31): (( الدليل الثالث: وهو مفسِّرٌ للدليل السَّابق، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيـمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
    أقول: أيضاً في هذه الآية قَصَر الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار، وأخبرنا بعلاماتهم، ثمَّ فصَّل في الإحسان المشتَرَط فيمَن بعدهم بأنَّه ـ إضافة لصالح الأعمال ـ من علاماته الكبرى الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ.
    {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة، ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. اهـ.
    أقول: فهذا إقرارٌ من البغوي بأنَّ مَن بعد المهاجرين والأنصار يُسمون (التابعين)، يعنِي أنَّ الناسَ مِن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، مروراً بمعاوية والوليد، وانتهاءً بنا في هذا العصر مأمورون بحبِّ المهاجرين والأنصار، الذين قام عليهم الإسلام حتى استوى، ومأمورون بالدعاء لهم والاستغفار لهم؛ لأنَّهم السببُ بعد الله ورسولِه في قيام هذا الدِّين، بل مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة مأمورون ابتداءً، ومَن بعدهم من باب الأولى )).
    وعلَّق في الحاشية عند قوله: (( الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ )) بقوله: (( وهذا الإحسان لَم يفعله بعضُ الطُّلَقاء كمعاوية والوليد بن عُقبة وبُسر بن أبي أرطاة والذين حاربوا السابقين كعليٍّ وعمَّار والبدريِّين والرِّضوانيِّين الذين كانوا مع علي، بالإضافة إلى سبِّهم عليًّا على المنابر، وسَنِّ هذه السنة السيِّئة، إذن فالذين طعنوا في الصحابة هم أولئك الطُّلَقاء، وهم أوَّلُ من خالف الأمر الإلَهي بالاستغفار للذين سبقونا بالإيمان!! )).
    وعلَّق في الحاشية أيضاً على قوله: (( {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة )) بقوله: (( وعلى هذا فلا حُجَّة للذين يستدلُّون بهذه الآيات على وجوب السكوت عن دراسة التاريخ وذِكر الظالمين بظلمِهم والعادلين بعدلِهم؛ حتى يعرفَ الناسُ موطنَ القُدوة والتأسِّي من السلف!! )).
    ويُجاب عن استدلاله بما يلي:
    الأول: أنَّ الآيات الثلاث في بيان مصارف الفيء، وهي مشتملةٌ على الثناء على المهاجرين والأنصار، ولا دليل فيها على ما أراده المالكي من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية.
    الثاني: أنَّ الآيةَ الثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصارمن فتح مكة وما بعده، داعين لهم لسبقهم بالإيمان، وسائلين الله عزَّ وجلَّ سلامةَ قلوبهم من الغلِّ للذين آمنوا، وليس فيها خروجُ من أسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة ، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونحوهما من وصْف الصُّحبة والهجرة، كما زعم المالكي.
    الثالث: أنَّ ما جرى من خلاف بين بعض المهاجرين السابقين كعليٍّ رضي الله عنه وبين بعض مَن أسلموا عام الفتح أو قبله أو بعده لا يقتضي نَيل مَن بعدهم مِن أحدٍ منهم، بل الواجب مَحبَّة الجميع والثناء عليهم والدعاء لهم وإنزالهم منازلهم، وقد وُعدوا جميعاً بالحُسنى، وما كان في قلوبهم من غلٍّ إن بقي فإنَّ الله ينزعُه كما أخبر بذلك في كتابه العزيز بقوله في سورتي الأعراف والحِجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، وما أحسن ما قاله شارح الطحاوية: (( والفتنُ التي كانت في أيَّامه ـ يعنِي أميرَ المؤمنين عليًّا رضي الله عنه ـ قد صان الله عنها أيدينا، فنسألُ الله أن يَصون ألسِنَتنا بِمَنِّه وكرمِه )).
    قال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قال بعد أن فسَّر الذين جاؤوا من بعدهم أي بعد المهاجرين والأنصار بأنَّهم التابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال: (( أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابةُ دخولاً أوَّليًّا؛ لكونهم أشرفَ المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمَن لَم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآيةِ، فإن وَجَدَ في قلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابه نَزْغٌ من الشيطان وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله بعداوة أوليائه وخِيرة أمَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان يَفِدُ به على نار جهنَّم إن لَم يتدارَك نفسَه باللُّجوء إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طَرَقَه مِن الغِلِّ لِخَيرِ القرون وأشرفِ هذه الأمَّة، فإن جاوز ما يَجده من الغِلِّ إلى شَتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسَخطِه، وهذا الدَّاءُ العُضال إنَّما يُصاب به مَن ابتُلي بِمُعلِّم من الرافضة أو صاحبٍ من أعداء خير الأمَّة الذين تلاعب بهم الشيطانُ وزيَّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرَفَهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وعن سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كلِّ عصرٍ من العصور، فاشتروا الضَّلالةَ بالهُدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالرِّبح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلُهم من منزلة إلى منزلة، ومن رُتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداءَ كتاب الله وسُنَّة رسوله وخير أمَّته وصالِحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدِّين، وسَعوا في كيد الإسلام
    وأهله كلَّ السَّعي، ورَموا الدِّينَ وأهلَه بكلِّ حَجَرٍ ومَدَر، والله من ورائهم مُحيط )). اهـ.
    الرابع: أمَّا ما أشار إليه حول دراسة التاريخ، فيُجاب عنه بأنَّ دراسةَ التاريخ لها حالتان:
    الأولى: دراسة مع سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع أصحاب رسول الله ، تعتمد على تَمييز ما صحَّ من أخبار عنهم مِمَّا لَم يصحَّ، فيُطَّرح ما لَم يصحَّ، وما صحَّ فيُحمَلُ على أحسن المحامل، ويُحسَّن بهم الظنُّ، ويُدعى لهم ويُستغفرُ لهم، فهذه الدراسة محمودة.
    والثانية: دراسةٌ خالية من سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع الصحابة، تنبنِي على الغلوِّ في بعضٍ والجفاءِ في بعضٍ، وينتُج عنها إفسادُ النفوس وإيغارُ الصدور ومَلءُ القلوب بأمراض الشبُهات، وتعتمدُ على إظهار ما خبث من كلِّ ما جاء في التاريخ مِمَّا لَم يكن له خطام أو زِمام، فهذا النوع من الدراسة للتاريخ مذموم وحرام، ودراسة المالكي من هذا النَّوع المذموم، ويمكن معرفةُ حقيقة ذلك بالاطِّلاع على ما نقلته من كلامه ورددتُ عليه، ولا سيَما تشكيكه في أَحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فقد جاء فيه أنَّ عليًّا رضي الله عنه لو كان موجوداً ـ أي في السقيفة ـ لَتَمَّ له الأمرُ، وذلك رجمٌ بالغيب، و(( لو )) تفتح عمل الشيطان، وأيضاً جاء فيه وصْف الطريقة التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه بأنَّها تُضعف شرعيَّة البيعة، وتَجعلُها أشبَه ما تكون بالقهر والغلبة، وخلافةُ الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترتيبهم مِمَّا أراده الله قَدَراً وشرعاً، فوقوع خلافتهم على هذا الترتيب دالٌّ على تقديره ذلك، وأنَّ الله قد شاءَه فوقع، ولَم يشأْ غيرَه فلَم يقع، ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، ويدلُّ لكونه مراداً شرعاً ما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه من قوله : (( ... فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي )) الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: (( حديث حسن صحيح ))، ويدلُّ له أيضاً حديثُ سفينة مولى رسول الله ، قال: قال رسول الله : (( خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي الله المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء )) رواه أبو داود (4646) وغيرُه، ونقل تصحيحَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (460) عن تسعة من العلماء.
    أمَّا الزعم بأنَّ الطريقةَ التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه تُضعفُ شرعيَّة البيعة، وتجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة، فهو كلامٌ يُنادي على قائله بأنَّه في وادٍ، والسُّنةَ وأهلَها في وادٍ آخر، وسيأتي الرَّدُّ عليه عند ذِكر تشكيكه في أحقِّية أبي بكر بالخلافة.
    ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة من المالكي في كتب العقائد قد تلقَّفها ونشرها مركزٌ للدراسات التاريخية في دولة عربية، وقد اطَّلعتُ أخيراً على صورة منه، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فإنَّ نشرَ الباطل لا حدَّ لضرَرِه، كما أنَّ نشرَ الحقِّ لا حدَّ لنفعه؛ لقوله : (( مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبِعَه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2674).
    * * *
    استدلاله بآية سورة الحديد والرد عليه:
    وقال في (ص:31 ـ 32): (( الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
    أقول: الغريب أنَّ بعضَ الناس يستدلُّ بهذه الآية على أنَّ كلَّ الصحابة في الجنَّة؛ لأنَّ الله قد وعد المتقدِّمين منهم والمتأخرين بالجنة، ووعدُه حقٌّ لن يُخلفه!
    أقول: إمَّا أن تكون هذه الآية تشمل المهاجرين والأنصار {مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ}، وتفضلهم على من جاء بعدهم إلى فتح مكة فقط، ولا تشمل الطُّلَقاءَ ولا العُتقاء ولا غيرَهم مِمَّن لَم يُقاتِل ولَم ينفق في هذه الفترة؛ لأنَّ سورةَ الحديد نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فلا يشملهم الثناء، ثمَّ هي مقيَّدةٌ بالإنفاق والقتال.
    مثلما الثناء على المهاجرين والأنصار لا يشملنا، فكذلك الثناء على المسلمين من بعد الحُديبية إلى فتح مكة لا يشمل مَن أسلم في الفتح أو بعد ذلك، وإمَّا أن تكون الآيةُ شاملةً لهؤلاء ولنا من باب الأولى، لكن هناك شرط الإحسان الذي سبق في الآية السابقة، بمعنى أنَّ الله وعد بالجنَّة المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، أمَّا المتَّبعون بغير الإحسان فلا يُقال فيهم هذا.
    والخلط بين الأمور هو الذي سبَّب لنا الخلل الكبير في الرؤية التعميمية التي خلطنا بها الطُّلَقاء مع السابقين، فلا بدَّ من وضع الأمور في مواضِعها الصحيحة )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّ للعلماء في المراد بالفتح في هذه الآية قولين، ذكرهما ابن كثير والشوكاني:
    أحدهما: أنَّه فتح مكة، وهو قول الجمهور.
    والثاني: أنَّه صلح الحُديبية.
    وعلى قول الجمهور فالآيةُ تدلُّ على تفضيل القتال والإنفاق مِمَّن كانوا قبل فتح مكة، على القتال والإنفاق مِمَّن كانوا بعد فتحها، وهو متَّفق مع ما جاءت به الأحاديث من استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة، وهو يردُّ قولَ المالكي في قصْر الصُّحبة والهجرة المحمود أهلها على مَن كانوا قبل صُلح الحُديبية.
    وعلى القول بأنَّ المرادَ بالفتح صلح الحُديبية فليس هناك دليل يَمنعُ من دخول بقيَّة أصحاب رسول الله  مِمَّن كان إسلامُهم وصُحبتُهم بعد الحُديبية إلى حين وفاته  في الوعد الكريم الذي دلَّت عليه الآية، مع القطع بالتفاوت بين المتقدِّمين منهم والمتأخرين.
    الثاني: أنَّه لا وجه لاستغراب المالكي الوعد لجميع الصحابة بالحُسنى وهي الجنَّة، ومِمَّن فسَّر {الحُسْنَى} في الآية بالجنَّة القرطبيُّ والشوكاني والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفاسيرهم، وقدجاء في السُّنَّة تفسير {الحُسْنَى} في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بأنَّها الجنَّة، وذلك من حديث صُهيب رضي الله عنه عند الإمام مسلم (297 ـ 298).
    فلماذا هذا الاستغراب، وفضلُ الله واسعٌ ورحمتُه وسعت كلَّ شيء؟!
    وأسْعَدُ الناسِ بجنَّتِه ورحمتِه أصحابُ رسوله  الذين هم خير هذه الأمَّة، التي هي خير أمَّة أُخرجت للناس، الذين اختارهم الله لِصُحبته، ومتَّع أبصارَهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، ومتَّع أسماعَهم بسماع القرآن والسُّنَّة منه  ونقلهما إلى الناس بعدهم، وهم الواسطة بين الرسول  وبين غيرهم.
    * * *
    استدلاله بآية سورة الأنفال والرد عليه:
    وقال في (ص:33 ـ 34): (( الدليل الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
    أقول: هذه الآية من سورة الأنفال (72) فيها فوائد عظيمة:
    الأولى: إثبات ولاية المهاجرين مع الأنصار فقط، وهذا ما يُفسِّرُه الحديث الشريف عن رسول الله : (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة)، والحديث فيه إخراج للطُّلقاء من المهاجرين والأنصار الذين هم أصحاب النَّبِيِّ  فقط، كما في حديثٍ الآخر: (أنا وأصحابي حيِّز، والناس حيِّز)، قالها النَّبِيُّ  يوم الفتح، وكلمة (أصحابي) في هذا الحديث الأخير كلمة مطلقةٌ فسَّرها الحديثُ المتقدِّم وقيَّدها بأنَّ المرادَ بها (المهاجرون والأنصار)، فتأمَّل لهذا التوافق والترابط؛ فإنَّك لن تجدَه في غير هذا المكان!
    الفائدة الثانية: أنَّ الذين أسلموا ولَم يُهاجروا لا يستحقُّون من المسلمين في عهد النَّبِيِّ  الولايةَ التي تعنِي النُّصرةَ والولاء، فإذا كان المسلمون قبل فتح مكة لا يستحقُّون النُّصرةَ ولا الولاء حتى يُهاجروا، فكيف بِمَن انتظر من الطُّلَقاء حتى قال النَّبِيُّ : (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة).
    فهؤلاء لَم يُدركوا فضلَ من لا يستحقُّ النُّصرة والولاية، فضلاً عن إدراكهم لفضل السابقين من المهاجرين والأنصار.
    الثالثة: أنَّ المسلمين الذين لَم يُهاجِروا لا يجوز أن يُنصَروا على الكفَّار المعاهدين الذين معهم ميثاق مع المهاجرين والأنصار، وهذا الحكم يبيِّن الفرقَ الواسع بين مَن هاجر ومَن بقي مؤمناً في دياره، فكيف بِمَن لَم يؤمن إلاَّ عند إلغاء الهجرةِ الشرعية من مكة، وأسلم رغبة في الدنيا ورهبةً من السيف، حتى وإن حسُن إسلامه فيما بعد؟!!! )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    الأول: أنَّ كونَ المهاجرين والأنصار بعضُهم أولياء بعض لا يدلُّ على نفي ولايتِهم عن غيرهم مِمَّن أسلموا بعد فتح مكة، فالكلُّ خيار المؤمنين، مع التفاوت الكبير بينهم في الإيمان، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وسيأتي لذلك زيادةُ بيان عند ذِكر حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )).
    الثاني: أنَّ حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )) صحيح، وحديث (( الحيز )) ضعيف، وسيأتي بيان ذلك عند ذِكر الحديثين.
    الثالث: أنَّ ما ذكره من كون المهاجرين والأنصار هم أصحاب النَّبِيِّ  فقط قولٌ باطلٌ، وقد تكرَّر منه قصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، وتكرَّر منِّي التنبيه على بطلان قوله بسبب تكراره.
    الرابع: أنَّ الطُّلقاءَ وغيرَهم قد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يفُتهم الجهاد والنيَّة، فقد أبلى كثيرٌ منهم في الجهادِ مع النَّبِيِّ  بلاءً حسناً، وقوله: (إنَّ إسلامهم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف) هو مِن الظلم البيِّن، والظُّلمُ ظلمات يوم القيامة، لا سيما ما كان منه لأصحاب رسول الله .
    ولو حصل إسلام أحد منهم من أجل الدنيا فإنَّ الحالة تتغيَّر إلى خير؛ لقول أنس رضي الله عنه: (( إن كان الرَّجلُ لَيُسلِم ما يريد إلاَّ الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها )) رواه مسلم في صحيحه (2312).
    * * *
    استدلاله بآية سورة الفتح والرد عليه:
    وقال (ص:36 ـ 37): (( الدليل الثامن: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
    أقول: لولا أنَّ بعضَ الناس يورد هذه الآية للدلالة على فضل مسلمة الفتح وأمثالهم لَما أوردتُها هنا، فالآية من سورة الفتح التي نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فالثناء الذي فيها على (الذين مع النَّبِيِّ ) ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين والأنصار، ولا ينزل على مَن بعدهم، إضافةً إلى أنَّ المعيَّة تقتضي النُّصرةَ والتمكينَ أيَّام الحاجة والذُّلِّ والضَّعف )).
    ويُجاب عن قوله هذا:
    أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، وليس فيها ذِكر المهاجرين والأنصار، لكن المالكي قصَرها عليهم، حرصاً على حِرمان مسلمة الفتح من تحصيل الفضلِ الوارد فيها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}، وكون سورة الفتح ـ ومنها هذه الآية ـ نزلت قبل فتح مكة لا يدلُّ على قصْر ما فيها على مَن كان قبل نزول الآية، بل الحكم شاملٌ لكلِّ مَن كان معه إلى نهاية حياته .
    ثمَّ إنَّ هذه الصفات للذين مع النَّبِيِّ  قد ذُكرت في التوارة والإنجيل، وهي لجميع الصحابة، فلا وجه لإخراج أحدٍ من أصحاب رسول الله  منها، وحرف (من) في قوله عزَّ وجلَّ: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لبيان الجنس وليس للتبعيض، أي: كلّهم موعودون بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا نظيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فإنَّ (من) للجنس وليست للتبعيض؛ فإنَّ العذابَ حاصلٌ لهم جميعاً.
    * * *
    استدلالُه بحديث: (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )) والرد عليه:
    قال في (ص:42 ـ 43): (( الدليل الثاني عشر: قول النَّبِيِّ : (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة).
    أقول: وهذا الحديث واضحٌ في أنَّ طُلَقاء قريش وعُتقاء ثقيف ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار، وعلى هذا فلا يستحقُّون الفضائلَ التي نزلت في فضل المهاجرين والأنصار، وعلى هذا لا يجوز لنا أن نخلط الأمورَ ونرفع مَن وَضعه الله أو نضع مَن رفعه الله ...!! )).
    والجواب:
    أنَّ الحديثَ صحيحٌ، وقد أوردتُه فيما تقدَّم في الأدلَّة الدَّالة على استمرار الهجرةِ المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صُلح الحُديبية كما زعم المالكي، وهو لا يدلُّ على أنَّ العُتقاء والطُّلَقاء ليسوا من أصحاب رسول الله ، وإنَّما يدلُّ على التَّماثل والتشابه بين المهاجرين والأنصار، وبين الطُّلَقاء والعُتقاء، وليس فيهم مَن وَضعه الله كما زعم، بل كلُّهم قد رفعهم الله لِصُحبتِهم الرسول ، مع تفاوتِهم في الرِّفعة.
    وكون المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض لا يتنافى مع كون العُتقاء والطُّلَقاء بعضهم أولياء بعض؛ فإنَّ الصحابةَ جميعاً خيار المؤمنين، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، وقد قال ابن كثير في تفسيره في تفسير الآيات من آخر سورة الأنفال: (( ذكر تعالى أصنافَ المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالَهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار: وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانَهم المهاجرين في منازلِهم وواسَوهم في أموالِهم، ونَصَروا الله ورسولَه بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، أي: كلٌّ منهم أحقُّ بالآخر من كلِّ أحد، ولهذا آخى رسول الله  بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدَّماً على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث )).
    * * *
    استدلالُه بحديث: (( الناسُ حيِّز وأنا وأصحابي حيِّز )) والرد عليه:
    قال في (ص: 40 ـ 42): (( الدليل الحادي عشر: حديث أبي سعيد الخدري: (لَمَّا كان يوم الفتح قرأ النَّبِيُّ : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ}، قال: الناس حَيِّز، وأنا وأصحابي حيِّز، فغضب مروان وأراد أن يضربَ أبا سعيد الخدري، فلمَّا رأى ذلك رافع بنُ خديج وزيد ابنُ ثابت قالا: صدق) ذكرتُه مختصراً )).
    وقد علَّق عليه قائلاً: (( مسند الإمام أحمد (4/45) ـ دار الفكر، الحديث رواه الإمام أحمد، عن محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عَمرو بن مُرَّة، عن أبي البَختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين، فالإمام أحمد وشيخه غندر وشعبة من كبار أئمَّة الحديث الثقات الأثبات، وعمرو بن مرَّة شيخ شعبة ثقة عابد من رجال الجماعة، وأبو البختري اسمه سعيد بن فيروز وهو ثقة ثبت من رجال الجماعة وهو يرسل، وقد أخرج الشيخان عنعنته في صحيحيهما، فالإسناد من أصحِّ الأسانيد، كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام!!! )).
    وقال: (( فهذا الحديث فيه إخراج واضحٌ للطُّلَقاء الذين دخلوا في الإسلام من أصحاب النَّبِيِّ  بأكثر من دلالة:
    الدلالة الأولى: تلاوته  لسورة النصر التي فيها ذكر (الناس) الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، هؤلاء الناس المراد بهم الطُّلَقاء، ثمَّ أخبرنا النَّبِيُّ  بأنَّ (الناس حَيِّز)، وهو وأصحابه حيِّز آخر!! فماذا يعنِي هذا؟
    هذا بكلِّ وضوح لا يعنِي إلاَّ أنَّ هؤلاء (الناس) لايدخلون في (الأصحاب) الذين فازوا بتلك (الصحبة الشرعية) التي تستحقُّ الثناء وتتنزَّل فيها كلُّ الثناءات على الصحابة، فإذا سمعنا بأيِّ حديث يُثنِي على (أصحاب النَّبِيِّ ) أو أيِّ أثرٍ من الصحابة خاصَّة يُثنِي على (أصحاب النَّبِيِّ)، فلا تنزل تلك الأحاديث والآثار إلاَّ على هؤلاء (الأصحاب) الذين فصلهم النَّبِيُّ  عن سائر (الناس) من غيرهم، وأول الناس دخولاً في هؤلاء (الناس) هم الطُّلَقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، ولا يجوز أن نجمعَ بين (حيِّزين) قد فرَّق بينهما النَّبِيُّ ، ومَن تأكَّد له هذا ثمَّ أراد أن يجعل (الحيِّزين) حيِّزاً واحداً فقد اتَّهم النَّبِيَّ  بعدم الإنصاف، مثلما اتَّهمه ذو الخُويصِرة يوم حُنين!! ونعوذ بالله أن نردَّ حديثَ رسول الله  أو نُؤوِّلَه على غير مراده ، ذلك المراد الذي يظهر بوضوح من لفظ الحديث الصريح.
    الدلالة الثانية: غضبُ مروان بن الحكم الذي أراد أن يضرب أبا سعيد الخدري على رواية هذا الحديث؛ لأنَّ هذا الحديث يعنِي إخراج مروان ووالده ومعاوية ـ الذي يعمل له مروان ـ من الصحابة إلى (الناس) الذين ليس لهم ميزة عن سائر الناس!!
    الدلالة الثالثة: فهمُ رافع بن خديج وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري، فالثلاثة عَرفوا أنَّ هذا سيُغضب مروان، ولكنَّهم صدَعوا بكلمة الحقِّ بعد أن كاد يُخفيها زيد ورافع، خوفاً على نفسيهما من مروان!!
    شبهة: وقد يقول البعض أنَّهم (الناس) من الطُّلَقاء وغيرهم قد اكتسبوا الصحبة فيما بعد؟!
    نقول: هم (الطُّلَقاء) والعتقاء أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة، وكلا الطائفتين لا تدخلان لا في المهاجرين ولا في الأنصار؛ لما سبق شرحه )).
    ويُجاب عن ذلك بِما يلي:
    الأول: أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، والإسنادَ غيرُ صحيح فضلاً عن أن يكون من أصحِّ الأسانيد كما زعم المالكي؛ للانقطاع بين أبي البَختري وبين أبي سعيد، ففي تهذيب الكمال للمزي في ترجمة أبي البَختري سعيد بن فيروز: (( وقال أبوداود: لَم يسمع من أبي سعيد))، وقول أبي داود هذا هو في سننه قال عقِب الحديث (رقم:1559): (( قال أبو داود: أبو البَختَري لَم يسمع من أبي سعيد )).
    وفي تهذيب التهذيب لابن حجر في ترجمة أبي البَختري: (( وقال ابن سعد: ... وكان كثيرَ الحديث يرسل حديثَه، ويروي عن الصحابة ولَم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سَماعاً فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه: لَم يُدرك أبا
    ذر ولا أبا سعيد ولا زيد بن ثابت ولا رافع بن خديج، وهو عن عائشة مرسل )).
    الثاني: أنَّ ما ذكره من إخراج الشيخين عنعنة أبي البَختري في صحيحيهما غيرُ مُسلَّم؛ لأنَّهما لَم يُخرجَا له عن أبي سعيد شيئاً، وكلُّ الذي له في الكتب الستة من روايته عن أبي سعيد ثلاثة أحاديث، خرَّجها بعضُ أصحاب السنن، كما في تحفة الأشراف للمزي (3/356 ـ 357)، ولو صحَّ أنَّ الشيخين خرَّجَا له من روايته عن أبي سعيد بالعنعنة فإنَّ قبول ذلك يكون مُختَصًّا بما في الصحيحين لاشتراطهما الصِّحةَ فيهما، ولا تُقبل العنعنة في غيرهما إلاَّ مع ثبوت التصريح بالسماع، قال النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم (1/33): (( واعلم أنَّ ما كان في الصحيحين عن المدلسين بـ (عن) ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثيرٌ منه في الصحيح بالطريقين جميعاً، فيذكر رواية المدلس بـ (عن) ثمَّ يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى )).
    الثالث: وقوله عن رجال الإسناد: (( كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام ))، أقول: لا وجه لاستثناء الإمام أحمد؛ فإنَّه من رجال الجماعة.
    الرابع: أنَّه لو صحَّ الحديث فإنَّه حجَّةٌ على المالكي؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ المهاجرين بعد الحُديبية وقبل الفتح من أصحاب النَّبِيِّ ، وهو خلاف ما زعمه في رأيه المبتَكر من أنَّ الصُّحبةَ المحمود أهلها مختصَّةٌ بالمهاجرين قبل صلح الحُديبية.
    * * *
    تشكيكه في أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على غيرِه والرد عليه:
    قال في (ص:52): (( الدليل العشرون: قول إبراهيم النخعي: (مَن فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أَزْرَى على أصحاب رسول الله  المهاجرين والأنصار ...) فضائل الصحابة لأحمد (1/249)، وسنده جيِّد، رجاله كلُّهم ثقات إلاَّ الوليد بن بكير مختلَف فيه.
    وفي الأثر تفسير من إبراهيم النخعي للصحابة بأنَّه (كذا) المهاجرون والأنصار فقط، فتأمَّل!!
    وإبراهيم هذا من كبار التابعين، مع التحفُّظ على تشنيعه على مَن فضَّل عليًّا عليهما؛ فإنَّ هذا قد فعله بعضُ السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك ابنُ عبد البر في ترجمة الإمام عليٍّ في الاستيعاب، ودلَّت عليه بعضُ الروايات )).
    والجواب عنه بما يلي:
    الأول: أمَّا قوله عن إسناد الأثر: (( وسنده جيِّد، رجاله ثقات إلاَّ الوليد بن بُكير مختلف فيه ))، فهو غير جيِّد؛ لأنَّ الوليد بنَ بكير قال عنه الدارقطني: (( متروك الحديث ))، وقال عنه أبو حاتم: (( شيخ ))، وذكره ابن حبان في الثقات، كما في تهذيب الكمال للمزي وتهذيبه لابن حجر، وقال الحافظ في التقريب: (( ليِّن ))، وقال الذهبي في الميزان: (( ما رأيت من وثَّقه غير ابن حبان ))، وابن حبان معروف بالتساهل في التوثيق، قال الحافظ في التقريب في ترجمة عبد السلام بن أبي الجَنوب: (( ضعيف، لا يُغترُّ بذِكر ابن حبان له في الثقات؛ فإنَّه ذكره في الضعفاء أيضاً )).
    وأمَّا معنى الأثر فهو صحيح.
    الثاني: وأمَّا استدلاله بالأثر على قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار دون غيرهم، فهو غير صحيح؛ وذِكر المهاجرين والأنصار في الأثر لا يدلُّ على إخراج غيرِهم من الصُّحبة؛ وإنَّما ذُكروا لأنَّهم مقدَّمون على غيرِهم من أصحاب النَّبِيِّ ، وكلُّ مَن رأى النَّبِيَّ  فهو من أصحابه، مع الجزم بتفاوت الصحابة في الصُّحبة والفضل.
    الثالث: وأمَّا تحفُّظه على ما جاء في الأثر من تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع، فهو مخالِف لِما عليه سلفُ هذه الأمَّة، ودلَّت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ والآثار عن بعض الصحابة وغيرِهم، ومنهم علي رضي الله عنه، وأذكر فيما يلي بعضَ الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك مِمَّا وقفتُ عليه من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة، وحكاية الإجماع عن عدد من العلماء:
    أوَّلاً: الأحاديث المرفوعة:
    1 ـ ما رواه مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البَجلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ  قبل أن يَموت بخمس وهو يقول:
    (( إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً مِن أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً )) الحديث.
    فقد أخبر النَّبِيُّ  عن أمرٍ لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دالٌّ على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على الصحابة جميعاً.
    2 ـ ما رواه البخاري (3662) ومسلم (2384) في صحيحيهما عن عَمرو بن العاص رضي الله عنه: (( أنَّ النَّبِيَّ  بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: عمر بن الخطَّاب، فعدَّ رجالاً )).
    3 ـ روى الترمذي في جامعه (3890) قال: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة الضبِّي، حدَّثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: (( قيل: يا رسول الله! مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها ))، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ أحمد بن عبدة الضبِّي فهو من رجال مسلم.
    ثانياً: الآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه:
    1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن أبي طالب ـ قال: (( قلتُ لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله ؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين )).
    2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده (835 ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد) قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن
    عبد الرحمن يعنِي الغُداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهْب الخير، قال: قال لي عليٌّ: (( يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه ))، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).
    3 ـ روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (484): قَثَنَا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى قالا: نا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج ابن دينار، عن أبي مَعشر، عن إبراهيم النخعي، قال: (( ضرب علقمة بنُ قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمِد الله وذكره ما شاء الله أن يذكرَه، ثمَّ قال: ألا إنَّه بلغنِي أنَّ أناساً يفضِّلونِي على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمت في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكرَه العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفْتَرٍ، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله  أبو بكر ثمَّ عمر ... )).
    وهذا إسنادٌ حسن، وأبو مَعشر هو زياد بن كُليب، وهو ثقة.
    وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: (( إسناده حسن )).
    في زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسنادٍ فيه ضعف إلى الحَكَم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: (( لا يفضلني أحدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري )).
    وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريبٌ في المعنى من الذي قبله عن علقمة.
    وقد أشار إبراهيم النَّخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضِّله على الشيخين بقوله لرجلٍ قال له: (( عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكرٍ وعمر، فقال له إبراهيم: أما إنَّ علياًّ لو سَمع كلامَك لأَوْجَع ظَهْرَك، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا )) رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد بن يونس عن أبي الأحوص ومُفضَّل بن مُهَلْهَل عن مغيرة عنه، ورجالُه ثقاتٌ محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلِّس.
    4 ـ روى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة قال: سمعتُ علياًّ يقول: (( خيرُ الناس بعد رسول الله  أبو بكر، وخير الناس بعد أبي بكر عمر )).
    ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
    5 ـ روى البخاري في صحيحه (3655) بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنَّه قال: (( كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبِيِّ ، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم )).
    ثالثاً: حكايةُ الإجماع:
    قد جاء حكايةُ الإجماع أو ما يدلُّ عليه في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرِهما من الصحابة عن جماعةٍ من العلماء، منهم:
    1 ـ يحيى بن سعيد الأنصاري (144هـ) ذكره اللاّلكائي في شرح أصول الاعتقاد (2608 و2609).
    2 ـ سفيان بن سعيد الثوري (161هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة (194).
    3 ـ شريك بن عبد الله النخعي الكوفي (177هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (194).
    4 ـ عبد الله بن المبارك (181هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (197).
    5 ـ محمد بن إدريس الشافعي (204هـ)، ذكره البيهقي في الاعتقاد (ص:192).
    6 ـ يوسف بن عدي (232هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (196).
    7 و8 ـ أبوزرعة (264هـ) وأبو حاتم (277هـ) الرازيان، ذكره عنهما اللاّلكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (321).
    9 ـ النووي (676هـ)، ذكره في شرحه على مسلم (15/148).
    10 ـ ابن تيمية (728هـ)، ذكره في الوصية الكبرى (ص:59 و60)، وفي منهاج السنة (8/413).
    11 ـ الذهبي (748هـ)، ذكره في كتاب الكبائر (ص:236).
    وأمَّا ما عزاه إلى كتاب الاستيعاب لابن عبد البر من تفضيل عددٍ من الصحابة عليًّا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلَم أقف على أسانيد عنهم بذلك، ولو ثبت شيءٌ من هذا فهو محمولٌ على مثل ما حصل لأبي جُحيفة رضي الله عنه قبل أن يَسمع من عليٍّ تفضيل أبي بكر وعمر عليه، حيث قال: (( ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه ))، وقد مرَّ قريباً.
    وأيضاً لو ثبت النقلُ عنهم فإنَّه لا يُقاوم ما ثبت في الأحاديث المرفوعة إلى النَّبِيِّ  والآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم عليّ رضي الله عنه، وهو مخالِف لِما نُقل من الإجماع في تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع.
    وأمَّا ما زعمه من دلالة بعض الروايات على تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على غيره فلَم يُبيِّن شيئاً من هذه الروايات، ولعلَّه يعنِي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ  قال لعليٍّ رضي الله عنه: (( أمَا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ))، وقد أشار إليه في كلامه الذي شكَّك فيه بأحقِّية أبي بكر بالخلافة، وسيأتي ذكرُه قريباً والجواب عنه، وهو يدلُّ على فضل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يدلُّ على أفضليَّته على الخلفاء الثلاثة الذين قبله، رضي الله عن الجميع.
    ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكايات الإجماع اتَّضح أنَّ الحقَّ هو تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره من الصحابة، ومن العجب أن يُشكِّك المالكي في أفضليَّة أبي بكر على غيره، مع أنَّ تفضيلَه على سائر الصحابة دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة وحكاية الإجماع من عددٍ من العلماء، بل قد ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه من رواية أربعة من التابعين أنَّ عليًّا رضي الله عنه يُفضِّلُ أبا بكر عليه، وواحد منها في صحيح البخاري، وفي بعضها تفضيله ـ أي علي ـ عمرَ عليه، بل لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصيَّة الكبرى (ص:59 ـ 60): (( وقد اتَّفق أهلُ السنَّة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثمَّ عمر، رضي الله عنهما )).
    وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: (( أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه )).
    وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول:
    (( والله! ما انشرح صدري قطُّ أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين! ))، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم.
    * * *
    تشكيكه في أَحقِّية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله  والرد عليه:
    جاء في قراءته (ص:28) عنوان بلفظ: (( الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية ))، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص:34) اشتمل على تشكيك في أحقية أبي بكر وأولويَّته بالخلافة، وأنا أورد هنا بعضَ المقاطع المشتملة على جُمل من هذا التشكيك:
    1 ـ ففي (ص:29) قال: (( فعند علم الأنصار بوفاة النَّبِيِّ  اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبِيَّ  من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبِيَّ  ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلاَّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف )).
    2 ـ وقال في (ص:30 ـ حاشية): (( بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!! ... )).
    3 ـ وقال في (ص:30 ـ 32): (( وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبِيِّ  وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، كالحسن والحسين وعمِّه العباس بن عبد المطلب وأبنائه عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبو (كذا) ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ بن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبِيِّ ! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ  (كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة)، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبِيِّ  نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبِيِّ !! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!)؛ لعلمِهم بأنَّ عليًّا وإن كان قرشيًّا لكنَّه لن يؤْثرعليهم قريشاً، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبِيِّ ، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبِيِّ !! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه ، وهذا استغرق يومين من موته .
    وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبِيِّ ، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبِيِّ  ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأموربها شرعا {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !! )).
    4 ـ وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص:29 ـ حاشية): (( ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصب (كذا) لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائرَ البشر! )).
    5 ـ وقال في (ص:31 ـ حاشية): (( سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثرمن ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين ـ كالواقدي ـ إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش (وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش)، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش ...
    وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته ))، فذكر سبعاً منهم ثمَّ قال: (( بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب (وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!)، ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً (كذا): (لا يحب الأنصارَ إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاَّ منافق)، وورد الحديث نفسه في علي: (لا يحب عليًّا إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضه إلاَّ منافق)، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان (باب حب علي والأنصار من الإيمان)، فسبحان الله!! )).
    6 ـ وقال في (ص:33 ـ حاشية): (( أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبِيُّ !!! )).
    وبعد إيراد هذه المقاطع من كلامه المشتملة على جُمل من التشكيك في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله ، أجيب عن ذلك من جهتين:
    الأولى: التنبيه على بعض ما أورده.
    الثانية: في بيان الأدلة الدَّالة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد
    رسول الله .
    أما الجهة الأولى، فأقول: إنَّ مَن يرى أو يسمع مثلَ هذا الكلام الذي سطَّره المالكي لا يَشُمُّ منه رائحة السنَّة ولا رائحةَ أهلها، بل يتبادر إلى ذهنه أنَّ بين يديه كتاباً من كتب أهل البدع والضلال.
    وإنَّ مجرَّدَ قراءة مثل هذا الكلام أو سماعه وتصوُّره يُغنِي عن الاشتغال بالتعليق عليه، لكنِّي أنبِّه على أمور ثلاثة:
    أوَّلاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (3) من أوْلَوِيَّة علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ  كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416): (( أنَّ رسول الله  خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟! )).
    وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبِيَّ  إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلافه النَّبِيّ  لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلاَّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد  فإنَّه لانبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه.
    وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله .
    ثانياً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من أوْلوية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتل في كفار قريش، أقول إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعض من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتُهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة، وسبق ذكرُ الأدلَّة الدالَّة على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره، وسيأتي بعد قليل ذكر الأدلّة الدالَّة على تقديمه في الخلافة على غيره.
    ثالثاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلاَّن على أنَّه لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: (( الأنصار لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله )) رواه البخاري (3783) ومسلم (129)، وأيضاً من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه:(( آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار )) رواه البخاري (3784) ومسلم (128).
    وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: (( والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ  إليَّ: ألاَّ يُحبَّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافقٌ )).
    وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ  لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: (( ... فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ  قال له: (لا يُحبُّكَ إلاَّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلاَّ منافقٌ)، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة (يعني النصرة)، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم )).
    وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر.
    وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان (( باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان ))، فإنَّ مسلماً ـ رحمه الله ـ لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21): (( وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم )).
    وأما الجهة الثانية فهي في بيان الأدلَّة الدالَّة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله ، وأذكر هنا بعضَ ما وقفتُ عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع.
    أوَّلاً: الأحاديث والآثار:
    1 ـ روى البخاري (5666)، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( قال لي رسول الله  في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).
    2 ـ روى البخاري (7220)، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: (( أتت النَّبيَّ  امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر )).
    3 ـ روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( مرض النَّبيُّ  فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس )) الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420).
    وجاء أمره  أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418).
    وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 ـ 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال: (( لَمَّا قُبض رسول الله  قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله  قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! )).
    وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67)، وقال: (( هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه )) ووافقه الذهبي.
    وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: (( بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله ، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس )).
    4 ـ روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي أنَّه قال: (( سمعتُ النَّبيَّ  قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولوكنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً )) الحديث.
    وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته  وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره.
    5 ـ روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ  يقول: (( بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن )).
    ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها.
    6 ـ روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم:7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: (( قُبض رسول الله  على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله  وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر )).
    ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.
    ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
    لَم يأت نصٌّ عن رسول الله  صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول  في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً: (( يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ))، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي:
    1 ـ روى الحاكم في المستدرك (3/78 ـ 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله (يعنِي ابنَ مسعود) قال: (( ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه )).
    ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210)، وقال عنه: (( الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت )).
    2 ـ روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: (( أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبِيُّ ، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله  حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ  قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى الله به محمداً ، وإنَّ أبا بكر صاحب رسول الله  ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري (أي بالإسناد المتقدِّم) عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة )).
    3 ـ روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد ـ يعني الفريابي ـ قال: سمعتُ سفيان (يعني الثوري) يقول:
    (( مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء )).
    إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد بن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.
    4 ـ روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: (( أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين )).
    5 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص:185 ـ 186): (( وأثنى الله عزَّ وجلَّ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية.
    قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله ، وبايعوه وانقادوا له، وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك )).
    6 ـ قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: (( وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبِيُّ  عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين )). من تاريخ بغداد للخطيب (10/131).
    والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين.
    7 ـ قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص:87): (( ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله  باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله  لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول  علينا في أمور دُنيانا.
    وقولهم: قدَّمك رسول الله  فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه  قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟!
    وكان رسول الله  يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه ـ والله ـ وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه )).
    8 ـ قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص:179 ـ 180): (( وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول:كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم )).
    9 ـ قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص:35): (( وهو (أي أبو بكر الصديق) أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبِيِّ ؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبِيِّ  له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة )).
    10 ـ قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264):
    (( وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلاَّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش )).
    11 ـ قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 ـ 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: (( مَن كان رسول الله  مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيد بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا ))، قال: (( هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي بكر ثمَّ عمر في للخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست بنصٍّ من النَّبِيِّ  على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصَّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر )).
    12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455): (( ... فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر )).
    13 ـ عقد ابن القيم في كتابه (( الفوائد )) فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص:95): (( نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار )).
    14 ـ قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 ـ 418):
    (( وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: (( قُبض رسول الله ، واجتمع الناسُ في دار سعد بن عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله  كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله ، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله  وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله  وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه)، هذا أو معناه )).
    وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح.
    وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال: (( الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه ))، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه: (( إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل )).
    وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال: (( الحافظ الإمام العلاَّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد )).
    وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: (( الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب الكبار وأملى وصنَّف )).
    وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال: (( وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري ))، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال:
    (( بنحوه ))، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن.
    وقال ابن كثير أيضاً (9/417): (( وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: (أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها الله في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلاَّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله ؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله  بالصلاة بالناس وهو حي).
    وهذا اللاَّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله ، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله  في قوله: (لا نورَث ما تركنا فهو صدقة) )).
    وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية.
    15 ـ قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص:143): (( وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟! )).
    ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول  في قوله: (( يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ))، فالله يأبى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.
    ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية.
    تنبيه: بعد إيراد المالكي كلامه الذي شكَّك فيه في أَوْلَوِيَّةِ أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة أورد كلاماً يُشكِّك فيه في أوْلوية عمر وعثمان رضي الله عنهما في الخلافة من بعده، ولَم أُشغِل نفسي بإيراده هنا والردِّ عليه؛ اكتفاءاً بما تقدَّم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومن المعلوم أنَّ مَن سهُل عليه التشكيكُ في خلافة أبي بكر فإنَّ تشكيكَه في خلافة عمر وعثمان أسهلُ وأسهل، نسأل الله السلامة والعافية من كلِّ شرٍّ وسوء.
    * * *
    زعمه أنَّ العبَّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:
    ذَكَرَ آثاراً مستدلاًّ بها على أنَّ الصحابةَ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وأنَّ العباس وابنَه عبد الله ليسَا من الصحابة، فقال في (ص:52): (( الدليل الواحد والعشرون: وقال العباس لابنه عبد الله: (يا بُنَيَّ! أرى أمير المؤمنين
    ـ يقصد عمر ـ يُقرِّبك ويَخلو بك ويستشيرُك مع ناسٍ من أصحاب رسول الله ، فاحفظ عنِّي ثلاثاً ...) (فضائل الصحابة لأحمد 2/957) والإسناد رجاله ثقات إلاَّ مجالد بن سعيد.
    أقول: إن صحَّ فالعباس لا يرى نفسه ولا ابنَه من أصحاب النَّبِيِّ ، يُفهَم هذا من سياق الخبر، لكن مجالِد ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، لكن يشهد للمتن ما يأتي:
    الدليل الثاني والعشرون: قول ابن عباس نفسه (كان عمر يسألُنِي مع أصحاب محمد ، فكان يقول لي ...) (فضائل الصحابة لأحمد 2/970، وإسناده صحيح، وقد صححه المحقق).
    أقول: هذا دليل على أنَّ ابنَ عباس أخرج نفسَه من أصحاب محمد ، وهو دليل على خروج مَن أسلم بعده كالطلقاء وأمثالِهم، وهذا الإسناد صحيح إلى ابن عباس!
    الدليل الثالث والعشرون: قول ابن عباس: (لَمَّا قُبض النَّبِيُّ  قلت لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأَلْ أصحابَ النَّبِيِّ  عن حديث رسول الله ، قال: العجب منك يا ابن عباس! أترى الناسَ يحتاجون إليك وفي الأرض مَن ترى من أصحاب رسول  ...؟!) (فضائل الصحابة لأحمد 2/976، وسنده صحيح، وقد صححه المحقق).
    أقول: وهذا يشهد لقول ابن عباس السابق أنَّ الصحابةَ هم المهاجرون والأنصار فقط!!!
    الدليل الرابع والعشرون: قول الليث: قيل لطاووس: (أدركتَ أصحاب محمد، وانقطعتَ إلى ابن عباس؟! فقال: أدركتُ سبعين من أصحاب النَّبِيِّ  إذا اختلفوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس) (فضائل الصحابة لأحمد 2/967، والإسناد رجاله ثقات، إلاَّ ليث بن أبي سليم، وقد حسنه المحقق، وصحَّح الأثر).
    أقول: طاووس بن كيسان من كبار التابعين، ومن ظاهر الأثر يبدو
    ـ والله أعلم ـ أنَّه لا يرى ابنَ عباس من أصحاب النَّبِيِّ  مع جلالة ابن عباس وفضله وعلمه )).
    أقول:
    إنَّ قَصْرَ المالكي الصُّحبةَ المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية أوقعه في إخراجِ عددٍ كبير من الصحابة من أن ينالوا شرفَ الصُّحبة، وفيهم العباسُ بن عبد المطلب عمُّ النَّبِيِّ  رضي الله عنه وابنُه عبد الله بن عباس حَبْر الأمَّة وترجمان القرآن، الذي بلغت أحاديثُه في الكتب الستة ستين وستمئة وألف حديث، كما في الخلاصة للخزرجي، اتَّفق البخاري ومسلم منها على خمسة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بإخراج ثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين.
    وإنَّها لإحدى الكُبَر أن يَدَّعيَ المالكيُّ أنَّ العبَّاسَ وابنَه عبد الله لَم يظفرَا بفضيلة الصُّحبة، وهو شيء لَم يُسبَق إليه، وما سمعتُ ولا رأيتُ قبل وقوفي على كلامه هذا مثل هذه الدَّعوى الباطلة الخاطئة، وإنَّ مُجرَّدَ تصوُّر هذا القول الباطل يُغنِي عن الاشتغال بالردِّ عليه، ومع هذا فإنِّي أجيب عليه بما يأتي:
    الأول: أنَّه لَم يأت عن أحدٍ من الصحابة ومَن بعدهم ما يُخرج العباس وابنَه عبد الله مِن أن ينالاَ شرف الصُّحبة لرسول الله ، وعلى هذا فمِثْلُ هذه الدعوى من المالكي مِن مُحدَثات القرن الخامس عشر!
    الثاني: أنَّ ذِكرَ أحد الصحابة أصحابَ النَّبِيِّ  لا يُخرجه منهم، فما ذكره المالكيُّ من آثار جاء فيها ذِكرُ العباس أو ابنِه أصحابَ رسول الله  ليس فيها دليل على إخراجهما، مع أنَّ ذكرَه للعباس جاء في إسنادٍ فيه مُجالد الذي قال فيه إنَّه ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، ومِمَّا يُوَضِّح ذلك ما رواه أبو داود في سننه (3651) قال: حدَّثنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد، ح وحدَّثنا مسدَّد، حدَّثنا خالد ـ المعنى ـ عن بيان بن بِشر، قال مُسدَّد: أبو بِشر، عن وَبْرة بن عبد الرحمن، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله  كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكنِّي سَمعتُه يقول: (( مَن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعدَه من النار ))، وهوحديث صحيح، رجال إسنادِه خرَّج لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما إلاَّ أحد شيخي أبي داود وهو مسدَّد، فهو من رجال البخاري وحده.
    وقول ابن الزبير لأبيه: (( ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله  كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ )) لا يدلُّ على خروج الزبير وابنِه من أصحابِ النَّبِيِّ ؛ فإنَّ الزبير رضي الله عنه من السابقين الأولين من المهاجرين، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وابنه عبد الله أوَّل مولود وُلد بالمدينة بعد الهجرة.
    ويدلُّ لذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه (2984) عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( يا رسول الله! يرجع أصحابُك بأجر حجٍّ وعمرةٍ، ولم أزِدْ على الحج؟ )) الحديث.
    وفي حديث عائشة في صحيح مسلم (2/875) قالت: (( خرجنا مع رسول الله  مُهِلِّين بالحج؟ ... فخرج إلى أصحابه، فقال: مَن لَم يكن معه منكم هَدْيٌ فأحبَّ أن يجعلها عمرةً فليفعل، ومَن كان معه هديٌ فلا، فمنهم الآخذ بها والتَّاركُ لها مِمَّن لَم يكن معه هديٌ، فأمَّا رسول الله  فكان معه الهدي، ومع رجال من أصحابه لهم قوَّة، فدخل عليَّ رسولُ الله  وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلتُ: سمعتُ كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة فمُنِعتُ العمرة، قال: وما لك؟ قلت: لا أصلِّي )) الحديث.
    فذِكرُ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها أصحابَ رسول الله  في هذه المواضع الثلاثة لا يدلُّ على إخراجها منهم، بل إنَّه يدلُّ على أنَّ كلَّ الذين صحبوه في حجَّته هم من أصحابه. وهذا الذي جاء عن العباس وابنه وابن الزبير وعائشة رضي الله عنهم له نظائرُ كثيرةٌ في كلام أصحاب رسول الله  ورضي الله عنهم، وهو واضحٌ في عدم خروج المتكلِّم به ومَن يخاطبه مِن أن يكون مِن أصحاب النَّبِيِّ .
    الثالث: أنَّ ما زعمه المالكي مِن كون العباس وابنه عبد الله رضي الله عنهما لَم ينالا شرفَ صحبة رسول الله ، هو من الجفاء في بعض أهل البيت من أصحابه ، فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/419): (( وأبعدُ الناس عن هذه الوصيَّة ـ يعني وصيَّةَ رسول الله  في أهل بيته ـ الرافضةُ؛ فإنَّهم يُعادون العباسَ وذرِّيَّتَه، بل يعادون جمهورَ أهل البيت ويُعينون الكفارَ عليهم )).
    بل إنَّ هذا من المالكي جفاءٌ في مَن هو أقربُ نسباً إلى رسول الله ، عمه العباس رضي الله عنه الذي لوكان يُورَث  لوَرثه عمُّه مع زوجاته  وبنته رضي الله عنهنَّ؛ لقوله : (( ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأَوْلَى رجلٍ ذَكر )) متفق عليه، وأيضاً هو جفاءٌ لابن عمِّه
    عبد الله بن عباس، الذي ضَمَّه  وقال: (( اللهمَّ علِّمه الكتاب )) رواه البخاري (75)، وفي لفظ عنده (143): (( اللهمَّ فقِّهه في الدِّين )).
    أقول: أفيكون هذان الرَّجلان العظيمان لَم يظفَرَا بشرف صُحبة النَّبِيِّ ، كما زعم هذا المالكي؟! نعوذ بالله من الخذلان.
    * * *
    زعمه أنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
    قال في (ص:43 ـ 45): (( الدليلُ الثالث عشر: حديثُ خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف، وهو قولُ النَّبِيِّ : (لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، ثمَّ علَّق عليه هنا في الحاشية بقوله: (( مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة )).
    ثمَّ قال: (( أقول: الحديث مشهورٌ بلفظ (لا تسُبُّوا أصحابي)، وهو يخاطب خالدَ بنَ الوليد عندما تخاصم مع عبد الرحمن بنِ عوف في قضيَّة بني جَذِيمة بعد فتح مكة.
    وهذا دليلٌ واضحٌ على إخراج النَّبِيِّ  لخالد بن الوليد وطبقته من الصحبة الشرعية لأكثر من دلالة:
    الدلالة الأولى الأقوى: أنَّ تكملةَ الحديث فيه بيان للصحبة الشرعية، وأنَّها لا تُدرَك؛ لقوله : (فلو أنفق أحدُكم مثلَ جبل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه).
    فهذه هي الصحبة الشرعيَّةُ تماماً، وهي التي لَم يُدْرِكْها خالد بنُ الوليد، على فضله وبلائه وشجاعته، كما لَم يُدْرِكْها طبقةٌ كعمرو بن العاص ونحوه، فمن باب أولى ألاَّ يدركَها طلقاءُ مكة، ولا عُتقاءُ ثقيف، ولا الأعرابُ، ولا الوفودُ المتأخِّرون ونحوهم.
    الدلالة الثانية: أنَّ خالد (كذا) أقرَّ بهذا ولم يقل: ( يا رسول الله! أو لستُ من أصحابك؟!؛ لأنَّ خالد (كذا) يعرف الفرقَ بين الصحبة الشرعية التي قام عليها الإسلام، وبين الصحبة العامة أو اللاَّحقة التي يمكن أن يُطلق على أصحابها (التابعين) أيضاً.
    الدلالة الثالثة: أنَّ قصَّةَ الحديث وقعت بعد فتح مكة، وبعد أن صحب خالد بن الوليد النَّبِيَّ  مدَّةً من الزمن، لكن لَم تشفع له في الحصول على فضيلة الصحبة الشرعية، فكيف بِمَن بعده؟! )).
    والجوابُ:
    أنَّ قولَ النَّبِيِّ : (( لا تسبُّوا أصحابي )) ـ والمرادُ به عبد الرحمن بنُ عوف وغيرُه مِمَّن تقدَّم إسلامُهم ـ لا يدلُّ على حصر الصحبة في عبد الرحمن وأمثاله، وإنَّما يدلُّ على مزيد فضلِ هؤلاء، وإن كان غيرُهم قد شاركهم في الفضل، مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/431 ـ 433): (( ومِمَّا يبيِّن أنَّ الصحبة فيها خصوصٌ وعمومٌ، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضلُ فيها الناسُ في قَدْرِها ونَوعِها وصِفَتِها، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله : (لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، انفرد مسلمٌ بذكر خالد وعبدالرحمن دون البخاري، فالنَّبِيُّ  يقول لخالد ونحوه: (لا تسُبُّوا أصحابي)، يعني عبدالرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأنَّ عبد الرحمن ونحوَه هم السابقون الأوَّلون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهلُ بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضلُ وأخصُّ بصحبته مِمَّن أسلَم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النَّبيِّ  أهلَ مكة، ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان ابن أبي طلحة وأمثالهم، وهؤلاء أسبق من الذين تأخَّر إسلامُهم إلى أن فُتحت مكة وسُمُّوا الطُّلَقاء مثل سُهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم، مع أنَّه قد يكون في هؤلاء مَن برز بعلمِه على بعض مَن تَقَدَّمه كثيراً، كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسُهيل بن عمرو، وعلى بعض مَن أسلم قبلهم مِمَّن أسلم قبل الفتح وقاتل، وكما برز عمر بنُ الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
    والمقصود هنا أنَّه نَهْيٌ لِمَن صحِبَه آخراً أن يسبَّ مَن صحبه أوَّلاً؛ لامتيازهم عنهم في الصحبة بِما لا يمكن أن يشركهم فيه، حتى قال: لو أنفق أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
    فإذا كان هذا حالُ الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين، مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل، وهم أصحابُه السابقون، فكيف يكون حالُ مَن ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟! )).
    * * *
    زعمه أنَّ معاويةَ رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
    قال في معاوية رضي الله عنه في (ص:54 ـ 55): (( الدليلُ الخامس والعشرون: أثر الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجلٍ من الطُّلَقاء ـ يقصد معاوية ـ ينازِع أصحابَ محمد  في الخلافة؟
    قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرَّ والفاجر، وقد ملك فرعونُ أهلَ مصر أربعمائة سنة.
    أقول: الأثر فيه إخراجُ عائشة لمعاوية من أصحاب النَّبِيِّ ، وفيه أيضاً أنَّ التابعين لَم يكونوا يرون الطُّلقاءَ من أصحاب النَّبِيِّ ، بل والصحابة أيضاً؛ كما نرى من اتِّفاق رأي عائشة مع رأي التابعي الجليل الأسود بن يزيد النخعي! )).
    وقد علَّق على هذا الأثر بقوله في الحاشية: (( الأثر رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، وهذا الإسناد رجاله ثقات إلاَّ أيوب بن جابر مختلف فيه، وقد قوَّى أمرَه أحمدُ بن حنبل وعمرو بن عليّ الفلاَّس وابن عدي والذهبي والبخاري، وضعَّفه ابن معين والنسائي وابن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان، وتوسَّط فيه الذهبي: مشهور صالح الحديث، ضعَّفه بعضُهم.
    أقول: فالإسناد جيِّد في الجملة إن شاء الله )).
    وقال في معاوية رضي الله عنه وغيره في (ص:50 ـ 51): (( الدليل التاسع عشر: قولُ عائشة: (أُمروا بالاستغفار لأصحاب محمد  فسبُّوهم) (مسلم 4/231).
    كانت تلمِّح لِمَا يفعله أهلُ الشام من لعن علي وبعض أهل العراق في لعن عثمان.
    أقول: وهذا يُفهم منه أنَّ هؤلاء ليسوا من أصحاب محمد ، ومثله قول ابن عمر: (لا تسبُّوا أصحاب محمد؛ فلَمقَامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدكم عمره ) (فضائل الصحابة لأحمد 1/57، 2/97).
    فهذا القول وقول عائشة وأقوال لسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وغيرهم، إنَّما انتشرت لمَّا انتشر بين الناس سبُّ عليٍّ وعثمان، فهما من أصحاب محمد ، وقد كان يسبُّهما بعضُ من رأى النَّبِيَّ  أو له صحبة حسب فَهْمنا للصحبة، فلمَّا طال علينا الأمرُ وانقطع سبُّ علي وعثمان وطلحة والزبير وأمثالهم، وبقي سبُّ معاوية وعمرو وأمثالهما أخذنا هذه النصوص والآثار لنواجه بها الشاتِمين الجُدد، لكن المشتومين من الطُّلَقاء ليسوا مثل المشتومين من السابقين، بل إنَّ الطُّلَقاء ليسوا من الصحابة أصلاً، لكنهم دخلوا الصحبة بسبب الدفاعات التي تستلهم معها مثل هذه الآثار (تتبَّع هذا؛ فإنَّه مُهمٌّ ولن تجده بسهولة)!! )).
    ثمَّ علَّق في الحاشية على هذا الكلام بقوله: (( خاطب بالآثار السابقة ابنُ عمر الذين (كذا) مَن يلعن عثمان، وخاطب به سعيدُ بن زيد المغيرةَ ابنَ شعبة، وخاطبت عائشة مَن يسبُّ السابقين، وخاطب سعدُ بنُ أبي وقَّاص مَن يسبُّ عليًّا، وهكذا، بل قد كان ابن عباس يلعن معاوية بسبب قطعه التلبية يوم عرفة (المسند 3/264 تحقيق أحمد شاكر)، فابن عباس قد روى بعضَ النصوص في تحريم سبِّ الصحابة، ومع ذلك يرى جواز لعن معاوية، ويفعله لسببين: لأنَّه يعرف أنَّ معاوية ليس صحابيًّا، ولأنَّه رأى تغييراً لسُنَّة النَّبِيِّ (ص) (كذا)، وغيَّرها أهلُ الشام بُغضاً لعليٍّ لأنَّه كان يُلبِّي يوم عرفة اقتداءً بالنَّبِيِّ ، وقد كان يلعَن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعليٍّ وعمَّار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم، وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل (وهو عالم سُنِّي) في كتابه النصائح الكافية!! )).
    وقال في (ص:55): (( الدليل السادس والعشرون: قول معاوية لكعب لَمَّا بشَّره بأنَّه سيكون بعد عثمان: تقول هذا وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد؟ قال: أنت صاحبها، يعنِي صاحب الخلافة.
    أول: لَم أجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله ، وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم، وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: (قد صحبنا رسول الله ) فيقصدُ الصُّحبةَ العامة لا الشرعية، فإن قصد الشرعيَّة فقوله مردودٌ بالكتاب والسُّنَّة.
    وهناك أدلَّة أخرى سأستوفيها في النسخة النهائية لهذا المبحث الذي أطمع أن يخرج كتاباً إن شاء الله )).
    وعلَّق على الأثر بقوله: (( السنة للخلال (ص:281، 457)، وإسناد (كذا) صحيح، وقد صحَّح إسناده المحقق، ورواه ابن عساكر بالإسناد نفسه في تاريخه (59/123) )).
    ويُجاب عن هذا من وجوه:
    الأول: أنَّ هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها غيرُ ثابت؛ لأنَّ الذين ضعَّفوا أيوب بن جابر كثيرون، والذين لَم يُضعِّفوه كلامهم فيه
    ليس واضحاً في تقوية أمره، بل مقتضاه أنَّه يحتاج إلى مَن يعضده، وقد
    قال عنه الذهبي في الكاشف: (( ضعيف ))، وقال عنه الحافظ في التقريب:
    (( ضعيف )).
    وإسناده عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/145) هكذا: أخبرنا أبو القاسم الحُسين بن الحسن بن محمد، أنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنا عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، أنا علي بن يعقوب بن أبي العَقَب، حدَّثني القاسم بن موسى بن الحسن، نا عبدة الصفار، نا أبو داود، نا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة ... إلخ.
    وفي إسناد ابن عساكر هذا القاسم بن موسى بن الحسن المشهور بالأشيب، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد (12/435)، ولم يزِد على ذِكر اثنين من تلاميذه، واثنين من شيوخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/415)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وفي ترجمته عنده أنَّه حسن الرأي في معاوية رضي الله عنه.
    الثاني: أنَّ ما فهِمَه من قول الأسود بن يزيد لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطُّلَقاء ينازع أصحابَ محمد  في الخلافة؟ وإجابتها على ذلك، من أنَّ الطُّلَقاء ـ ومنهم معاوية ـ ليسوا من أصحاب النَّبِيِّ  هو فَهْمٌ خاطئ، وسبق أن أَوْضحتُ ذلك فيما تقدَّم من زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة، وبهذا الجواب يُجابُ أيضاً عمَّا فهمه من قول عائشة رضي الله عنها: (( أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد  فسبُّوهم )).
    الثالث: أمَّا ما ذَكَره عن ابن عباس من أنَّه يرى جواز لعن معاوية، وأنَّ من أسباب ذلك أنَّه يعتبره غير صحابي، فجوابه أن يُقال:
    1 ـ إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أيضاً قال فيه المالكي إنَّه ليس بصحابي كما قال في أبيه العباس، وقد مرَّ بيان ذلك.
    2 ـ إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أثنى على معاوية رضي الله عنه ووصفه بأنَّه فقيه، وأنَّه صَحِبَ رسولَ الله ، ففي صحيح البخاري (3764) بإسناده إلى ابن أبي مُليكة قال: (( أوتر معاويةُ بعد العشاء بركعة وعنده مولًى لابن عباس، فأتى ابنَ عباس، فقال: دَعْه؛ فإنَّه قد صحب رسول الله  )).
    وفي صحيح البخاري أيضاً (3765) بإسناده إلى ابن أبي مليكة أنَّه قال: (( قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنَّه ما أوتر إلاَّ بواحدة؟ قال: إنَّه فقيه )).
    3 ـ إنَّ ابنَ عباس لَم يلعن معاوية رضي الله عنه، ولَم يرَ جوازَ لعنِه، بل الذي حصل منه الثناء عليه ومدحه، وأمَّا الأثر الذي استند عليه في ذلك وعزاه إلى المسند بتحقيق أحمد شاكر، فهو في المسند هكذا، قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، قال: لا أدري أَسمعتُه من سعيد بن جُبير أم نُبِّئتُه عنه، قال: (( أتيتُ على ابنِ عباس بعرفة وهو يأكل رُمَّاناً، فقال: أفطر رسول الله  بعرفة، وبعثتْ إليه أمُّ الفضل بلَبَنٍ فشرِبَه، وقال: لعن الله فلاناً؛ عمَدوا إلى أعظم أيَّام الحجِّ فَمَحَوْا زينَتَه، وإنَّما زينة الحجِّ التلبية )).
    وقد ضعَّفه الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ فقال: (( إسناده ضعيف؛ لشكِّ أيوب في سماعه من سعيد بن جُبير ))، وقد اطَّلع على هذا التضعيف المالكي.
    وقد عاش ابن عباس بعد معاوية ثمان سنين، فلو صحَّ الأثر احتمل أن يكون الذي عناه ابنُ عباس غيرَ معاوية رضي الله عنه؛ لأنَّ اللَّعنَ فيه بالإبهام وليس بالتعيين.
    وما جاء في الأثر من كون النَّبِيِّ  مُفطراً بعرفة وشربه اللَّبن الذي بعثت به أمُّ الفضل فهو ثابت.
    4 ـ أمَّا قول المالكي: (( وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعلي وعمار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم ))، فلَم يذكر مستندَه في ذلك، وإن كان له مستندٌ فالغالب أنَّه من جنس مستندِه فيما أضافه إلى ابن عباس، وقد بيَّنتُ فسادَه.
    5 ـ وأمَّا قوله: وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل ـ وهو عالم سُنِّي! ـ في كتابه النصائح الكافية!! ))، فأقول: إنَّ ابنَ عقيل الذي ذكره هو الحضرمي المتوفى سنة (1350هـ)، وهو ليس من أهل السُّنَّة، بل هو من المبتدِعة، وقد ذكر صاحب معجم المؤلفين (10/297) في مصادر ترجمته كتاب أعيان الشيعة للعاملي، والضرر الذي حصل للمالكي إنَّما حصل له بقراءة كُتب هذا الرَّجل وأمثاله من أهل البدع والضلال، وكتابه الذي أشار إليه اسمه (( النصائح الكافية لِمَن يتولَّى معاوية )) ومقتضى عنوان هذا الكتاب ومضمونه زعم النُّصح لِمَن يحبُّ معاوية ألاَّ يحبَّه، بل عليه أن يُبغضَه، وهذا النُّصحُ هو من جنس نصح إبليس لآدم وحواء ـ عليهما السلام ـ الذي ذكره الله عنه بقوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنَّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، ومن جنس نصح إخوة يوسف ليوسف  الذي ذكره الله عنهم بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}، وقد أشار إلى ما أودعه في نصائحه الكافية وغيره من كتبه من ذمِّ بعضِ الصحابة والنَّيلِ منهم في مطلع كتابه (( العتب الجميل )) (ص:31)، فقال: (( لَم أتعرَّض في كتابي هذا لذكر تحامل بعضهم على عالي مقام مولانا أمير المؤمنين علي والحسنين وأمهما البَتول عليهم سلام الله، ولا لرَدِّ ما مدحوا به زوراً عدوَّهم معاوية وأباه كهف المنافقين وأمه آكلة الأكباد وعمرا بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وأبا الأعور السلمي والوليد بن عقبة وأضرابهم، مِمَّن لو مُزجت مياه البحار بذرَّة من كبائر فظائعهم لأنتنت، وذلك لظهور فساده للعاقل المنصف، ولأنِّي قد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب (النصائح الكافية)، ثمَّ في كتاب (تقوية الإيمان) ... )).
    فهذا نموذج من كلام هذا الناصح بزعمه، الذي ابتُلي المالكي بقبول نُصحه، وفي الصحابة الذين سمَّاهم المغيرة بن شعبة، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وأخبر النَّبِيُّ  أنَّهم لا يدخلون النار، كما سيأتي بيان ذلك عند ذكر المالكي المغيرة بن شعبة والنَّيل منه.
    6 ـ في النسخة التي اطَّلعتُ عليها من كتاب المالكي قد شُطب
    بالقلم على جملة: (( وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار )) إلى (( وهو عالم سُنِّي في كتابه النصائح الكافية ))، ولا أدري هل هذا الشطب مقصود أو غير مقصود؟ وهل هو من المالكي أو من غيره؟
    فإن كان الشَّطب مقصوداً وهو من المالكي فهو حسن، وكان ينبغي له أن يشطب على الكتاب من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ كلَّ ما فيه باطلٌ، وليس فيه شيءٌ من الحقِّ، وهو حقيق بالإحراق.
    وقد نقل ابن عقيل الحضرمي قدوة المالكي في كتابه العتب الجميل (ص:60) أبياتاً عن أحد شيوخه، آخرها قوله:
    قُلامة من ظفر إبهامه تعدل من مثل البخاري مئة
    والضمير فيه يرجع إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهو واضحٌ في الغلوِّ فيه، وفي الجفاء في الإمام البخاري رحمه الله، ولقد أحسن أبو سليمان الخطابي في قوله:
    ولا تغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
    وهذا الذي حصل لابن عقيل من الغلوِّ والجفاء قد ورثَه عن شيخه وأمثاله، وورثه المالكي عنهما وعن أمثالهما، وهو يُوَضِّح أنَّ البلاءَ الذي يحصل للتلاميذ غالباً إنَّما هو من شيوخهم، فابن عقيل ابتلي بمتابعة شيخه وأمثاله في الجفاء والغلوِّ، والمالكي تتلمذ على كتب ابن عقيل وأمثالها، وقد يكون تتلمذ مباشرة على علماء من أهل الضلال، فمِن أجل ذلك كان في كلامه ورأيه منحرفاً عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة الصافية النَّقيَّة إلى عقائد أهل البدع والضلال، نعوذ ?الله من الخذلان.
    الرابع: ما ذكره من أنَّه لَم يجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله  قد نقضه بعده بقوله بأنَّه قد ثبت أنَّه يقول: (( قد صحِبنا رسول الله  ))، وقول معاوية ذلك جاء في صحيح البخاري (3766) بإسناده إليه قال: (( إنَّكم لتُصلُّون صلاةً لقد صَحِبنا النَّبِيَّ ، فما رأيناه يُصلِّيها، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر )).
    وقول المالكي: (( وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: (قد صحبنا رسول الله ) فيقصدُ الصُّحبة العامة لا الشرعيَّة، فإن قصد الشرعيَّةَ فقوله مردود بالكتاب والسنَّة ))، وهذا مِمَّا يَعجبُ منه العُقلاء؛ لأنَّ نفيَ الصُّحبةِ عن كلِّ مَن كان بعد الحُديبية ومنهم معاوية رضي الله عنه، بل والعباس وابنه عبد الله وأبو هريرة وخالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وغيرهم
    رضي الله عنهم شذوذٌ عن سبيل المؤمنين لَم يسبقه إليه أحد، وما ذكره من أنَّ معاويةَ (إن قصد الصُّحبة الشرعيَّةَ فقوله مردود بالكتاب والسنَّة)، أقول: ليس في الكتاب والسنَّة دليل على نفي الصُّحبة عن معاوية، وما أورده من أدلَّة ففهمُه فيها فهمٌ خاطئ، وهو من مُحدثات القرن الخامس عشر، وقد بيَّنتُ ذلك فيما سبق.
    وأمَّا الأثر، ففي إسناده عنعنة الأعمش عن أبي صالح، وهومدلِّس، وكلام كعب فيه منكر، وما جاء فيه من ذكر أصحاب رسول الله  ـ لو ثبت ـ لا يدلُّ على خروج معاوية منهم كما زعم بقوله: (( وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم )).
    تنبيه: روى الخطيب في تاريخ بغداد (1/209) بإسناده إلى رباح بن الجراح الموصلي قال: (( سمعتُ رجلاً يسأل المعافى بن عمران، فقال: يا أبا مسعودأين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا يُقاس بأصحاب رسول الله  أحدٌ، معاوية صاحبه وصِهرُه وكاتبه وأمينه على وحي الله عزَّ وجلَّ )).
    وروى (1/209) بإسناده إلى أبي توبة الربيع بن نافع قال: (( معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله ، فإذا كَشف الرَّجلُ السِّتْرَ اجترأ على ما وراءه )).
    وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/209) بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك أنَّه قال: (( معاوية عندنا مِحنة، فمَن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتَّهمناه على القوم، يعني الصحابة )).
    هذه ثلاثة نماذج من كلام أهل الإنصاف في معاوية رضي الله عنه، وقد ذكرتُ جملةً من كلام المنصفين فيما كتبته عن معاوية رضي الله عنه، وطُبع بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفة معاوية رضي الله عنه )).
    وصدق أبو توبة وابن المبارك رحمهما الله؛ فإنَّ المالكيَّ لَمَّا تَجرَّأ على معاوية ونال منه ونفى عنه الصُّحبة، تجرَّأ على غيرِه وقال بنفي الصُّحبة عن كلِّ الذين صحِبوا رسول الله  بعد صُلح الحُديبية، بل تعدَّى ذلك إلى النَّيل من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والتشكيك فيها، ولا شكَّ أنَّ الزَّيغَ ينتج عنه إزاغة القلوب لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}، وإنَّ من العقوبة على السيِّئة أن يُبتلَى المسيئُ بسيِّئة بعدها، كما أنَّ من الثواب على الحسنة أن يُوفَّق المُحسنُ لحسنةٍ بعدها.
    وأحاديث معاوية رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، قال الخزرجي في الخلاصة: (( له ـ أي في الكتب الستة ـ مئة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة ))، وقد بلغت أحاديثه في مسند الإمام أحمد أحد عشر حديثاً ومئة حديث من رقم (16828) إلى (16938).
    * * *
    زعمه أنَّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:
    قال في حاشية (ص:78): (( سيتبع هذا البحث بحوثاً (كذا) موسَّعة عن بعض مَن رأى النَّبِيَّ ، لكن أُخِذَت عليه مآخذ كبيرة أو صغيرة )).
    فذكر أمثلة من هؤلاء، ثمَّ قال: (( وسيكون هناك أيضاً مباحث عن المختلف فيهم كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ونحوهم ))، وقد جاء ذكر عمرو بن العاص وأنَّه ليس من الصحابة في كلام المالكي المتقدِّم
    في خالد بن الوليد، وجاء ذمُّه وذمُّ المغيرة بن شعبة في كلامه المتقدِّم في معاوية.
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    أولاً: لا أعلمُ أنَّ أحداً قال بعدم صُحبة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم لرسول الله ، ولا خالف في أنَّهم صحابة إلاَّ هذا المالكي الذي اعتبر أنَّ الصحابةَ هم الأنصار والمهاجرون قبل الحُديبية فقط، وكذا الحكمي الذي حكى عنه المالكي أنَّه يقصر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والمغيرة قبل الحُديبية، فلا أدري هل الحكمي يُخرجه من الصُّحبة كما أخرجه المالكي أم لا؟
    وسبق أن ذكرتُ أنَّ هذا من مُحدثات القرن الخامس عشر، بل إنَّ بعضَ فِرَق الضلال التي ابتُليت ببغض الصحابة وسبِّهم وتفسيقهم أو تكفيرهم لَم يقولوا بعدم صُحبتِهم للنَّبِيِّ ، وإنَّما قالوا بارتدادهم بعد رسول الله .
    ثانياً: تقدَّم نقلُ جملة من كلامه السيِّئ القبيح في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه والجواب عنه.
    ثالثاً: أمَّا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله  وأميره على أحد الجيوش، ويدلُّ لفضله ما يلي:
    1 ـ روى البخاري في صحيحه (3662) بإسناده إلى عمرو بن العاص: (( أنَّ النَّبِيَّ  بعثه على جيش ذات السَّلاسل، فأتيتُه فقلت: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلتُ: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالاً )).
    أورده البخاري في مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وأورده (358) في باب غزوة ذات السلاسل، ورواه مسلم في صحيحه (2384) وقد كان في الجيش أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في باب غزوة ذات السلاسل: (( وفي الحديث جوازُ تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفةٍ تتعلَّق بتلك الولاية، ومزيَّةُ أبي بكر على الرجال وبنتِه على النساء، وقد تقدَّمت الإشارةُ إلى ذلك في المناقب، ومنقبةٌ لعَمرو بن العاص لتأميره على جيشٍ فيهم أبو بكر وعمر، وإن كان لا يقتضي أفضليَّته عليهم، لكن يقتضي أنَّ له فضلاً في الجملة )).
    أقول: أَفَيَكُونُ النَّبِيُّ  أمَّر على هذا الجيش الذي فيه أبو بكر وعمر رجلاً ليس من أصحابه ، كما هو مقتضى كلام المالكي؟!
    2 ـ روى مسلم في صحيحه (192) بإسناده إلى عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: (( حَضَرْنا عمرو بنَ العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه! أمَا بشَّرك رسولُ الله  بكذا؟ أما بشَّرك رسولُ الله  بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، إنِّي كنتُ على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُنِي وما أحدٌ أشدَّ بُغضاً لرسول الله  منِّي، ولا أحب إلَيَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو مِتُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلمَّا جعل الله الإسلامَ في قلبي، أتيتُ النَّبِيَّ  فقلت: ابسُط يَمينَك فلأُبايِعكَ، فبسط يَمينَه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ما لك يا عَمرو؟ قال: قلت: أردتُ أن أشترطَ، فقال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفرَ لي، قال: أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تَهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كان قبله؟
    وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله  ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أُطيقُ أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أَصِفَه ما أطقتُ؛ لأنَّي لَم أكن أملأُ عيني منه، ولو مِتُّ على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنَّة، ثمَّ وَلِينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مِتُّ فلا تصحبْنِي نائحةٌ ولا نار ... )).
    والحديثُ مشتمِلٌ على جُمل دالَّة على فضل عَمرو بن العاص رضي الله عنه، وما جاء فيه من بُكائه ليس عيباً فيه؛ فشأنُ أولياء الله أنَّهم يخافون الله ويرجونه، وقد جاء عن بعض أهل العلم أنَّ الخوفَ والرَّجاء للمؤمن بمنزلة الجناحَين للطائر، لا يكون راجياً فقط ولا يكون خائفاً فقط، بل يكون راجياً خائفاً، ومن صفات أولياء الله في الكتاب العزيز ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتَوْنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
    وأحاديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، وقد قال الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (3/55): (( داهيةُ قريش ورجل العالَم، ومَن يُضرب به المَثَل في الفِطْنَة والدَّهاء والحزم، هاجر إلى رسول الله  مسلماً في أوائل سنة ثمان، مرافقاً لخالد بن الوليد وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النَّبِيُّ  بقدومِهم وإسلامِهم، وأمَّر عَمراً على بعض الجيش، وجهَّزه للغزو، له أحاديث ليست كثيرة، تبلغ بالمكرَّر نحو الأربعين، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثَين )).
    رابعاً: أمَّا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله ، ومِمَّن بايَع تحت الشجرة، ويدلُّ لفضله ما يلي:
    1 ـ أنَّه من الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
    وقال فيهم رسول الله : (( لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها )) أخرجه مسلم في صحيحه (2496) من حديث أمِّ مُبشِّر رضي الله عنها، ويبيِّن كونه من أهل بيعة الرِّضوان حديث المِسوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم في صحيح البخاري (2731، 2732) في صلح الحُديبية: (( وجعل (أي عروة بن مسعود الثقفي) يُكلِّم النَّبِيَّ ، فكلَّما تكلَّم كلمةً أخذ بلِحيتِه، والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النَّبِيِّ  ومعه السَّيف وعليه المِغفر، فكلَّما أهوى عُروة بيده إلى لِحية النَّبِيِّ  ضرب يدَه بنعل السيف، وقال له: أخِّر يدَك عن لِحية رسول الله  )).
    2 ـ وفي صحيح البخاري (3159) عن جُبير بن حيَّة قال: (( بعث عمرُ الناسَ في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين ... فنَدَبَنا عمر (أي لقتال الفرس)، واستعمل علينا النُّعمان بن مقرِّن، حتى إذا كنَّا بأرض العدوِّ وخرج علينا عاملُ كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: لِيُكلِّمنِي رجلٌ منكم، فقال المغيرةُ: سَلْ عمَّا شئتَ، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناسٌ من العرب، كنَّا في شقاء شديد وبلاء شديد، نَمُصُّ الجِلدَ والنَّوى من الجوع، ونلبسُ الوَبَر والشَّعر، ونعبدُ الشَّجر والحَجَرَ، فبينا نحن كذلك إذ بعث ربُّ السموات وربُّ الأرضين تعالى ذِكرُه وجلَّت عظمتُه إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرفُ أباه وأمَّه، فأمرنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا  أن نُقاتِلَكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤتُوا الجِزيَةَ، وأخبرنا عن رسالة ربِّنا أنَّه مَن قُتل منَّا صار إلى الجنَّة في نعيم لَم ير مثلَها قطُّ، ومَن بقي مِنَّا مَلَكَ رِقابَكم )).
    أقول: الله اكبر! ما أحسن هذا الكلام، وما أعظمَه، وما أجزلَه! وهو صادرٌ عن قوَّة إيمان، وبهذه القوَّة انتصر الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن سار على نهجِهم، وحصلت العِزَّةُ للإسلام والمسلمين، وهذا الكلام بمنطق القوَّة والشجاعة، ومع الأسف نجد في هذا الزمان كثيراً من الإسلاميِّين يتكلَّمون بمنطق الضَّعف والذِّلَّة، فيقولون: إنَّ الجهادَ إنَّما شُرع في الإسلام للدِّفاع فقط، والله المستعان، وقد قال الرسول : (( بُعثتُ بين يدي الساعة بالسَّيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رِزقي تحت ظِلِّ رُمْحِي، وجُعل الذُّلُّ والصَّغارُ على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم )) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/50، 92) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث ثابت، رجاله مُحتجٌّ بهم، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف مطبوع بعنوان: (( الحِكَم الجديرة بالإشاعة في شرح حديث بُعثت بين يدي الساعة )).
    3 ـ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أميراً على الكوفة، وتوفي سنة (50هـ)، وقد روى البخاري في صحيحه (58) بإسناده إلى زياد بن عِلاَقَة قال: (( سمعتُ جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمِد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتِّقاء الله وحده لا شريك له، والوَقار والسَّكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنَّما يأتيكم الآن، ثمَّ قال: استعفوا لأميرِكم؛ فإنَّه كان يُحبُّ العفوَ، ثمَّ قال: أمَّا بعد، فإنِّي أتيتُ النَّبِيَّ  قلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشرط عليَّ: والنُّصح لكلِّ مسلم، فبايعتُه على هذا، وربِّ هذا المسجد! إنِّي لناصحٌ لكم، ثمَّ استغفَرَ ونزل )).
    وهذا الكلام من جرير رضي الله عنه لأهل الكوفة فيه وَصْفُ المغيرة رضي الله عنه بالأمير وثناؤه عليه، وبيان أنَّ مقالتَه هذه هي من النُّصح للمسلمين، الذي بايع عليه رسول الله .
    هذه بعضُ فضائل المغيرة بن شعبة، وأهمُّها كونه مِمَّن بايَع تحت الشجرة، ومع هذا لا يُسلِّم المالكيُّ بأنَّ المغيرة رضي الله عنه ظفر بشرف صُحبة رسول الله ، مع أنَّ رأيَه المبتَكر في القرن الخامس عشر هو قَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية، والمغيرة من هؤلاء، لكن مصيبة المغيرة عند المالكي كونه أميراً لمعاوية رضي الله عنه، فلذلك لَم تشفع له عنده هذه الفضائل، وقد وعد بكتابة بحوث موَسَّعة عنه وعن أمثاله، أي من وِجهته المنحرفة عن الصحابة، وهو وعْدٌ بباطل يجبُ إخلافُه.
    وأحاديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال الخزرجي في الخلاصة: (( شهد الحُديبية، وأسلم زمن الخندق، له ـ أي في الكتب الستة ـ مئة وستة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين.
    * * *
    زعمه أنَّ صُحبةَ الكثيرين من أصحاب النَّبِيِّ  لغوية لا شرعية والرد عليه:
    قال في (ص:56): (( قد يورد البعضُ على ما سبق بعضَ الاعتراضات، وهذا من حقِّ كلِّ مَن قرأ البحثَ أو سمع به، كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقٍّ أم بغيره، ومن تلك الاعتراضات:
    1 ـ قد يقول البعض: ما دام أنَّ اللغة واسعةٌ ويجوز فيها أن تطلق الصحابي أو الصاحب على من صحب ولو صحبة يسيرة، فلماذا التضييق في الأمر؟
    الجواب: نحن للأسف تجاوزنا مسألة اللغة نفسها، فأصبحنا نطلق الصاحب على من رأى وليس على من صحب، فهذا أوَّلاً.
    ثانياً: سبق أن كرَّرنا أننا لا نُمانع من إطلاق الصحبة إذا أريد بها مطلق الصحبة، لكن هذا الإطلاق جائز في الكفَّار والمنافقين أيضاً، بمعنى أنَّ المنافقين يدخلون في الصحبة من حيث اللغة كما أنَّ الكفَّار يدخلون كذلك، فاللغة تحتمل ذلك، ولذلك نحن ذكرنا أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة فقط هي التي تقول: إنَّه لا يجوز أن تطلق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ  وصَحبوه؛ لأنَّهم وإن كانوا صحابة لغة، وقد يكون بعضُهم صحابةً من حيث العُرف، لكنَّهم ليسوا صحابةً من الناحية الشرعية )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    أوَّلاً: أنَّ اعتبارَ الصُّحبة اليسيرة للنَّبِيِّ ، بل ومجرَّد الرؤية للنَّبِيِّ  كافٍ لعَدِّ مَن حصل له ذلك صحابيًّا، وسبق ذِكرُ الأدلَّة الدَّالة على اعتبار مَن لقيه  صحابيًّا في أوَّل هذا الردِّ، منها الدليل السادس والثامن والرابع عشر التي فيها النص على اعتبار مَن رآه  صحابيًّا.
    ثانياً: ما ذكره مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة لا يجوز أن تُطلَق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ وصحبوه ... إلخ، أقول: لَم يقتصِر على نفي الصُّحبة الشرعية المحمود أهلها على مَن أسلم بعد فتح مكة، بل تعدَّى ذلك إلى نفي الصُّحبة الشرعية عن الذين أسلموا بعد الحديبية وهاجروا إليه وصحِبوه ، كما ذكر ذلك في تعريف الصحابيِّ الذي ذكره في أوَّل رسالته، وذكر ذلك أيضاً في آخرها، وأثنائها، وسبقت الإجابةُ عن ذلك فيما مضى مراراً.
    ثالثاً: ما ذكره من أنَّ مَن أُضيفت إليه الصُحبة وليست صحبتُه شرعية، أنَّ صحبتَه شبيهةٌ بصُحبة الكفار المنافقين، أقول: سبق أن بيَّنتُ في أوَّل هذا الرَّدِّ أنَّ صُحبةَ هؤلاء للنَّبِيِّ  كانت مع الإيمان به وتصديقه واتِّباعه ، وهذا خلاف صحبة المنافقين والكفار، وبناءً على هذا أقول: أَيَجوز في عقل ودين أن تكون تلك الألوف الكثيرةُ مِمَّن أسلم وصحِب النَّبِيَّ  بعد الحديبية إلى حين وفاته  أن تكون صُحبتُهم كصحبةِ الكفار والمنافقين، وفيهم العباس عم النَّبِيِّ  وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية، بل والمغيرة بن شعبة ـ وهو من أهل بيعة الرضوان ـ رضي الله عنهم جميعاً؟! وسبق للمالكيِّ أن نفى صُحبتَهم للرسول ، ونقلتُ كلامَه في ذلك ورددتُ عليه فيما مضى.
    رابعاً: قوله في أول كلامه: (( كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقِّ أم بغيره ))، أقول: إذا كانت الاعتراضات بحقٍّ، فإنَّ الإجابةَ عليها بغير الرجوع والتسليم من المجادلة بالباطل.
    * * *
    فهمه الخاطئ للصُّحبة الشرعيَّة والرد عليه:
    وقال في (ص:57 ـ 59): (( 2 ـ وماذا تعنِي بالصُّحبة الشرعية؟ وهل سبقك أحدٌ إلى هذا المُسمَّى؟
    الجواب: الصُّحبة الشرعية هي تلك الصُّحبة التي أثنى عليها الله ورسولُه  جزماً، ونزلت الآيات في وصفِها، وكانت أيَّام الضَّعف والذِّلَّة، أيَّام حاجة الإسلام والنَّبِيّ إلى النُّصرة، تلك الصُّحبة التي إن ورد الثناء على الأصحاب أو الأمر بعدم سبِّهم أو الأمر باقتداء بهم فلا تنصرف هذه المعاني إلاَّ للصُّحبة الشرعية، وهذا لا يعنِي عدم الثناء على الصالحين في أيِّ زمن، وإنَّما يعني احترام خصوصية السابقين الذين فضَّلهم الله ورسولُه وهم المهاجرون والأنصار.
    أمَّا هل سبقنِي أحدٌ إلى هذه التسمية، فهذا سؤال له جوابان: عام وخاص:
    أمَّا العام: فهناك كثيرٌ من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّة غير دلالتها الأولى، وعلى سبيل المثال مصطلحات الزكاة والصلاة والحج، فمعانيها من حيث اللغة الطهارة أو التطهُّر والدعاء والقصد ... لكن الإسلام بنصوص الكتاب والسنة قد أعطى هذه المعاني دلالات أخرى
    مع عدم نفي الدلالات السابقة، فالحجُّ قصدٌ لكن إلى بيت الله الحرام
    لأداء شعائر معيَّنة، والزكاة تُطهِّر مالَ المزكى وتطَهِّر المزَكِّي من الإثم، ونحو هذا.
    بمعنى أنَّ الشرعَ يضيف تقييدات على المصطلحات العامة ليُصبح
    لها مدلولاً شرعيًّا مقيَّداً (كذا) بعد أن كان المدلول مشتركاً لفظيًّا أو يكثر فيه المجازات اللغوية، فكذلك الصُّحبة، إذا قال النَّبِيُّ : (لا تسبُّوا أصحابي ...) عرفنا أنَّ كلمة (أصحابي) في هذا الحديث لا تعنِي إلاَّ السابقين من المهاجرين أو الأنصار؛ بدلالة أنَّ المخاطب صحابي تأخر إسلامه إلى بعد الحديبية، وهو يدخل في الخطاب بطريق الأولى، وكذلك إذا وجدنا آيةً تُثني على (الذين معه) أي الذين مع الرسول ، فلا تنصرف إلاَّ إلى الصُّحبة الشرعية؛ بدلالة الآيات الأخرى التي تقتصر على (المهاجرين والأنصار)، وهذا يعنِي أنَّ كلمة (الذين معه) كلمة مُجملة مفسرة بـ (المهاجرين والأنصار)، والقرآن مفسِّرٌ بعضه بعضاً.
    وأمَّا الجواب الخاص: نعم! قد سبقنِي بعضُ الباحثين لإطلاق هذا، ومع ذلك فلا أطلب من أحدٍ أن يلتزم بهذا الإطلاق (الصُّحبة الشرعية)، لكن عليه إن أثنى على الصحابة ألاَّ ينزل هذا الثناء إلاَّ على مَن أنزله الله ورسوله عليه من المهاجرين والأنصار فقط، أمَّا أن يأتي وينزل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرضوان على الطلقاء أو مَن بعدهم فهذا خلاف المنهج العلمي.
    وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن الحكمي، فهو يرى أنَّ مَن أسلم بعد بيعة الرضوان لا يدخل في مسمى الصحابة، وعنده بحث في الموضوع عندي نسخة منه.
    ثمَّ أقول: مَن سبقكم إلى اعتبار الآيات الكريمة التي وردت في حقِّ المهاجرين والأنصار، من سبقكم إلى اعتبارها نازلة فيمَن بعدهم؟!
    ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك، وكلمة (مَن سبقك) ليس دليلاً؛ فقد أطلق المتأخرون ألفاظاً أو مصطلحات لَم تكن موجودة فيهم قبلهم، مثل التفسير والتجويد والمصطلح نفسه وأصول الفقه والخاص والعام والمطلق والمقيد ونحو ذلك من الألفاظ التي لَم تكن موجودة في عهد النَّبِيِّ  ولا القرن الأول )).
    ويُجاب عن إجابته عن هذا الاعتراض الذي أورده على نفسه بما يلي:
    أولاً: ما أشار إليه من الأدِلَّة الدَّالَّةِ على الثناءِ على المهاجرين والأنصار، فذلك حقٌّ وهم أهل ذلك الفضل، لكن ذلك لا ينفي أن يكون غيرُهم من أهل الفضل.
    ثانياً: ما أشار إليه من أدلَّة عامَّة فيها الثناء على الذين كانوا مع النَّبِيِّ ، وأنَّها محمولةٌ على المهاجرين والأنصار فقط غير صحيح؛ بل هي تشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم مِمَّن جاء بعدهم، والمهاجرون والأنصار داخلون فيها دخولاً أوَّليًّا، ولا يجوز للمالكيِّ أن يَحقِدَ على أحدٍ من الصحابةِ، ولا أن يَحملَه الحِقدُ على كثير من الصحابة كالطُّلقاء أن يَجعلَ ما ورد عامًّا لجميع الصحابة خاصًّا بالمهاجرين والأنصار.
    ثالثاً: ما ذكره من اللَّوم لِمَن ينزِّل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرِّضوان على الطلقاء أو من بعدهم، أقول: لا يُتصوَّر تنزيل قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} مثلاً على أحدٍ سواهم من الطلقاء وغيرهم، كما أنَّ الفضائلَ الخاصَّة بأهل بدر لا تُنزَّل على مَن سواهم، لكنَّه التهويل من هذا المالكي هداه الله.
    رابعاً: ما أشار إليه من أنَّ كثيراً من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّةً غير دلالتها الأولى، أقول: نعم! الأمر كذلك، لكن لا يجوز أن يُفهم فهمٌ خاطئ بقَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية وإضافة ذلك إلى الشرع، كما فعل المالكي؛ فإنَّ الصُّحبةَ في اللغة عامَّةٌ تشملُ القليلَ والكثيرَ، وتشمل المؤمنين والمنافقين والكفار، ولكن صُحبة الرسول  قد جاء الشرع بقصْرها على مَن آمن به واتَّبعه مِمَّن لقيه وصحبه، وسبق أن مرَّ في الأدلة في أوَّل هذا الرَّدِّ ما يوضح ذلك.
    خامساً: ما ذكره من أنَّ الصُّحبةَ حيث وردت تُقصَر على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، يُجاب عنه بأنَّ لفظَ الصُّحبة مثل لفظ الإيمان يشترك فيه كلُّ مؤمن ومسلم مع التفاوت الكبير بينهم فيه، وكذلك الصُّحبة يشترك فيها كلُّ صحابيٍّ طالت صُحبتُه أو قصُرت مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، ونظير ذلك في المحسوسات البصر، فإنَّ أهلَه متفاوتون فيه، منهم مَن هو حادُّ البصر يرى الهلال، ويرى من مسافات بعيدة، ويرى الشيءَ الدَّقيق، ومنهم مَن دون ذلك، ومنهم مَن هو ضعيف النَّظر لا يرى إلاَّ الشيءَ القريب والشيء الكبير، ومنهم مَن يُبصرُ الخطَّ الدقيق، ومنهم من لا يُبصر إلاَّ بزجاجة، وهم مشتركون جميعاً في أنَّهم مُبصرون ليسوا من أهل العمى، وسبق أن مرَّ الكلامُ على حديث: (( لا تسبُّوا أصحابي )) عند ذكر المالكي خالد بن الوليد وأنَّه ليس من الصحابة بزعمه.
    سادساً: هذا الرأي الفاسد للمالكي وهو قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية لَم يَجد له سلفاً فيه خلال ما مضى من قرون مع حِرصِه الشديد على وجود سلف، وقد أعلن إفلاسَه من وجود سلف بقوله هنا بأنَّه سبقه إلى ذلك شخصٌ من المعاصرين، وهو عبد الرحمن الحكمي، أمَّا ما ذكره عن النخعي وابن عبد البر فلَم يذكر كلامَهما حتى يُمكن النَّظر فيه من حيث الثبوت ومن حيث المعنى، وقوله: (( وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر ))، أقول: تعبيره بقوله: (( بألفاظ مقاربة )) يدلُّ على عدم اطمئنانه إلى معنى ما عزاه إليهما.
    سابعاً: قوله: (( ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك ))، أقول: كان الأوْلَى بالمالكيِّ بدلاً من اللُّجوء إلى هذا الكلام عند إفلاسِه أن يتَّهم رأيَه ويقتدي ببعض أهل بيعة الرِّضوان الذين لَم يرتاحوا إلى بعض شروط الصُّلح وراجعوا النَّبِيَّ  في ذلك، وكانوا فيما بعد يقولون: يا أيها الناس! اتَّهموا الرأي في الدِّين، والأدلَّة التي أشار إليها قد فهمها السَّلفُ فهماً صحيحاً، فلم يقصروها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، والواجب الاعتماد على نصوص الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السلف، وكان الأليقُ بالمالكي أن يستحيي مِن ذِكر هذا الرأي الفاسد الذي لَم يسبقه إليه إلاَّ عبد الرحمن الحكمي.
    ثامناً: أمَّا ما ذكره من حصول مصطلحات جديدة تعود بالنَّفع على العلم وأهله كعلم الأصول وعلم التجويد وعلم المصطلح وغير ذلك، فهذا شيءٌ محمود، وفيه تيسير العلم وتسهيل الوصول إليه، أمَّا ما ابتلي به المالكي من فهم خاطئ للنصوص وقصره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية فلا علاقة له في تلك المصطلحات، وإنَّما هو من الإحداث في الدِّين والتنكُّب عن سبيل المؤمنين.
    * * *
    زعمه أنَّ الإجماعَ لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقِها المختلفة والرد عليه:
    قال في (ص:59): (( 3 ـ قد يُقال: إنَّ تقييدَك للصحبة بـ (المهاجرين والأنصار) خلاف الإجماع الذي استقرَّ عليه المحدثون من (اعتبار كل من لقي النَّبِيَّ  مؤمناً به ومات على الإسلام فهو صحابي) )).
    وقد أجاب عن هذا الاعتراض بنفي وجود الإجماع، وأورد تساؤلات على هذا الاعتراض، آخرها قوله في (ص:60 ـ 61): (( هل ما استقرَّ عليه المحدِّثون يُعدُّ إجماعاً حتى لو خالف في ذلك الأصوليُّون؟! بل هل ما أجمع عليه أهلُ السنَّة يُعدُّ إجماعاً معتبراً أم لا بدَّ من إجماع كل أمَّة الإجابة؟! فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل.
    كل هذه الأسئلة بحاجة إلى بتٍّ فيها، ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها؛ لكون كاتب هذا البحث لَم يبحثها بحثاً يرضى عنه، ولا يريد أن يتكلَّم بما لا يعلم فيقع في المحظور الذي حذَّر منه، وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم )).
    وعلَّق على قوله: (( فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل )) بقوله: (( لأنَّ أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور: (لا تجتمع أمَّتي على ضلالة)، والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت، لكن (الأمة) فيه لا تعني بعض الأمة، وإنَّما كل أمة الإجابة، كل المسلمين باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، ومَن زعم بأنَّ النَّبِيَّ  أراد من (أمتي) أنَّها تعني المحدثين أو أصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف ...!! )).
    ويُجاب عن ذلك بما يلي:
    أوَّلاً: أنَّ تعريف الصحابي بأنَّه مَن رأى النَّبِيَّ  أو صحبه ثبت بأدلَّة سبق أن أوردتُ جملة منها في أول هذا الرَّد، وذلك كافٍ لاعتبار هذا التعريف، سواء أحصل فيه الإجماع أم لَم يحصل.
    ثانياً: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على بطلان الرأي الفاسد للمالكي، وهو قصْره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية؛ بدليل أنَّ المالكي لَم يجد له سلفاً في هذا الرأي إلاَّ مَن سَمَّاه: عبد الرحمن الحكمي.
    ومِن الذين أخرجهم تعريفُ الصحابي عند المالكي: العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية وغيرهم، وهم صحابة بإجماع العلماء على مختلف العصور، لَم يخالف في ذلك إلاَّ المالكي وقدوته الحكمي!
    ثالثاً: إنَّ كلامَه واضحٌ في أنَّ الإجماع لايَتِمُّ إلاَّ باتِّفاق أهل السنَّة والجماعة وسائر فرق الضلال، ومقتضى ذلك نفي وجود الإجماع أصلاً؛ لأنَّه من المستحيل اتِّفاق أهل السنَّة وأصحاب البدع والأهواء على أمر عقدي، ولا شكَّ أنَّ الذين يُعتبر إجماعهم هم أهل السنَّة والجماعة دون غيرهم من أهل الأهواء، وقد بيَّن ذلك رسول الله  عندما ذكر افتراق الأمَّة ـ وهم أمَّة الإجابة ـ على ثلاث وسبعين فرقة (( كلُّها في النار إلاَّ واحدة ))، وهم من كان على ما كان رسول الله  عليه وأصحابُه، فبيَّن أنَّ هؤلاء هم النَّاجون، فيكون الإجماع المعتبَر هو إجماعهم، ومن العجب أن يزعم زاعمٌ أنَّه لا بدَّ في الإجماع من اتِّفاق الفرق الثلاث والسبعين باختلاف مذاهبها الفقهية والعقدية والسياسية!
    ومقتضى ذلك أنَّه لا بدَّ من اتِّفاق من يقول: إنَّ القرآن مخلوقٌ، ومن يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، واتفاق من يُثبِت عذاب القبر ومن يُنكره، واتِّفاق مَن يُثبت معراج رسول الله  إلى السماء ومن يُنكره، واتِّفاق مَن لا يدعو إلاَّ الله ولا يستغيث إلاَّ به ومن يدعو أو يستغيث بالملائكة والجنِّ وأصحاب القبور، واتِّفاق مَن يعتقد أن الله يُرى في الدار الآخرة ومن يعتقد أنَّه لا يُرى أبداً!
    ورؤية الله في الدار الآخرة اتَّفق عليها الصحابة ومَن تبعهم بإحسان على تتابع القرون، ودلَّت عليها آيات الكتاب العزيز والأحاديث المتواترة، وأنكرها الجهمية والمعتزلة والخوارج والرافضة والباطنية، فعلى قول المالكي لا بدَّ في الإجماع من موافقة هذه الفرق، وإلاَّ فإنَّها تبقى مسألة خلافية لا إجماع فيها!
    ومن أراد الوقوف على تفصيل القول في مسألة رؤية الله في الدار الآخرة وذِكر الأدلة من الكتاب والسنة يُمكنه ذلك بالرجوع إلى كتب أهل السنة، ومن ذلك كتاب (( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح )) لابن القيم (ص:179 ـ 219).
    رابعاً: ما ذكره المالكي من أنَّ هذه التساؤلات التي ذكرها تحتاج إلى بتٍّ فيها ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها، أقول: لقد بادر بالإجابة كما هو واضح من كلامه الذي يرى فيه أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتَّفاق كلِّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية!
    خامساً: قوله: (( وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم! ))، أقول: ما أحوج المالكي إلى الإنصاف والتواضع ومعرفة قدر نفسه؛ ليَسْلَم من الشذوذ واتباع غير سبيل المؤمنين.
    سادساً: ما ذكره من أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، فيه احتفاؤه بأهل البدع والأهواء على اختلافها وتعدُّدها مع نيله من أهل السنَّة، ومن كلامه بالإشادة بأهل البدع والأهواء قوله في قراءته (ص:70): (( ولذلك كان أكثر بل كل التيارات التي نَصِمها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية وغيرهم، كل هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة، وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر!! )).
    وقال أيضاً (ص:75): (( لكن المعتزلة مثل غيرهم مِن الفرق أصابوا في أشياء وأخطؤوا في أشياء، لكنهم في الجملة لا يستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم، وهم مسلمون متديِّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً!!! )).
    وقال أيضاً (ص:67): (( وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه!!! )).
    ومن ذلك قوله في (ص:69 ـ 70) من قراءته بأنَّ قتلَ الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كان سياسياً ولَم يكن من أجل البدعة!!
    وأيضاً تأسفه (ص:71) من قراءته على سنوات أضاعها في بُغض ولعن الجهمية والقدرية، وأنَّه لَم يتنبَّه لبراءتهما وظلمه لهما إلاَّ بعد بحثه في الموضوع في فترة متأخرة!
    وقال في (ص:83) من قراءته: (( وقد احتوت كتبُ العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة!!! )).
    مع هذا ومع وصفه أيضاً في قراءته (ص:80 ـ 81) للكتب المؤلفة في العقائد بأنَّها تمزِّق المسلمين، وذِكره أمثلة كثيرة للكتب التي عوَّل عليها الحنابلة في العقيدة وهي كثيرة، منها كتاب التوحيد لابن خزيمة والشريعة للآجري وأصول السنة للالكائي وكتب ابن تيمية وابن القيم، مع ذلك يقول في (ص:154) من قراءته: (( أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة والشيعة والإباضية وغيرهم من المسلمين من دخول المملكة في ضوء هذا التفجُّر المعرفي!!! )).
    فقد جمع في ذلك بين التهوين من شأن كتب أهل السنة والإشادة بكتب غيرهم، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
    وكتاباته مبنيَّةٌ على النَّيل من أهل السنة، بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم حتى مَن كان في هذا العصر على طريقتهم في المملكة وغيرها، ومع ذلك يزعم أنَّه حنبليٌّ، وأنَّه نشأ في هذه البلاد وتعلَّم فيها، فيقول في (ص:149) من قراءته: (( بل لا أعتبر نفسي إلاَّ حنبليًّا؛ بحكم النشأة والتعليم والبيت والتلقي والطريقة في الاستدلال )).
    أقول: ما زعمه مِن اعتبار نفسه حنبليًّا وأنَّه على طريقتهم في الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ طريقةَ مَن زعم أنَّه منهم ـ وليس منهم ـ هي طريقة أهل السنة والجماعة، وأمَّا هو فطريقته طريقة أهل البدع.
    وأما ما ذكره من النَّشأة والتعلم، ثمَّ انحرافه عمَّا تعلَّمه، وعقوقه لِمَن علَّمه، فإنَّه يصدق عليه قول الشاعر:
    فوا عجباً مِمَّن ربَّيتُ طفلاً أُلَـقِّمُه بأطراف البنـــان
    أعـلِّمُـه الرِّمايةَ كـلَّ يـــوم فلمَّا اشتدَّ ساعِدُه رمانِي
    وكم علَّمتُـه نظـمَ القــوافي فلمَّا قال قافيةً هَجَـانِـي
    وقال في (ص:122) من قراءته: (( وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها، أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنُطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمَّة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة ... إلخ)، وكذلك قول بعضهم: (عليك بما كان عليه الصحابة)، نصيحة مطاطة؛ فإن كان يعرف أنَّ الصحابةَ قد اختلفوا في أمور كثيرة عقدية وفقهية وسياسية، فأيُّهم نتبع؟!! )).
    أقول: إنَّ الذي أرشد إلى اتِّباع ما كان عليه الصحابة هو رسول الله ، بقوله  في بيان الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة: (( هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي ))، وفي لفظ: (( هي الجماعة ))، وبقوله في حديث العرباض بن سارية: (( فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي )) الحديث، والصحابةُ رضي الله عنهم لَم يختلفوا في العقيدة.
    ومِثْل اختلاف عائشة وابن عباس رضي الله عنهما في رؤية النَّبِيِّ  ربَّه ليلة المعراج لا يُعدُّ خلافاً في العقيدة؛ لدلالة الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة وإجماع أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله في الدار الآخرة، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك قريباً.
    ويَصف المالكيُّ كثيراً من علماء السنَّة بأنَّهم نواصب، فيقول في (ص:134) من قراءته بعد أن أشار إلى جملة منهم: (( ثمَّ تتابع علماءُ الشام كابن تيمية وابن كثير وابن القيم على التوجس من فضائل علي وأهل بيته وتضعيف الأحاديث الصحيحة في فضلهم مع المبالغة في مدح غيرهم!!
    وعلماء الشام ـ مع فضلهم ـ بشرٌ لا ينجون من تأثير البيئة الشامية التي كانت أقوى من محاولات الإنصاف، خاصَّة مع استئناس هؤلاء بالتراث الحنبلي الذي خلَّفه لهم ابن حامد وابن بطة والبربهاري وعبد الله بن أحمد والخلال وأبو بكر بن أبي داود!! )).
    ومثل ذلك قوله في (ص:48): (( ثمَّ جاء بعد هؤلاء آل تيمية بحرَّان ثمَّ دمشق، وابن كثير إلى حدٍّ كبير، والذهبي إلى حدٍّ ما، أما ابن تيمية فاشتهر عنه النَّصب، وكُتُبُه تشهد بذلك، ولذلك حاكَمه علماء عصره على جملة أمور، منها بغضُ علي!!
    ولَم يُحاكموا غيرَه من الحنابلة مع أنَّ فيهم نصباً وَرثوه عن ابن بطة وابن حامد والبربهاري.
    والتيار الشامي العثماني له أثر بالغ على الحياة العلمية عندنا في الخليج، وهذا من أسرار حساسيتنا من الثناء على الإمام علي أو الحسين، وميلنا الشديد لبَنِي أمية، فتنبَّه!!
    والنواصب لهم أقوال عجيبة كغلاة الشيعة، فمنهم مَن كان ينشد الأشعار التي قيلت في هجاء النَّبِيِّ ، ومنهم من يلعن عليًّا وهم الأكثر، ومنهم من يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبِيِّ ، ومنهم من يُحرِّف الأحاديث في فضله إلى ذمٍّ، وغير ذلك مِمَّا لا أستحلُّ ذكره، والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ  نفسَه!!! )).
    وهكذا يُبالِغ المالكي بالجفاء في أهل السنَّة والنَّيل بالباطل منهم ومن كتبهم، مع إشادته بأهل البدع والأهواء، وليس بغريب على مَن لَم يسْلَم منه أصحابُ رسول الله  أن يَسْلَم منه مَن جاء بعدهم على طريقتهم، فقد مرَّ في أثناء هذا الرَّدِّ نيلُه من كثير منهم، لا سيما الطلقاء، وإخراجُه كلّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ  بعد الحديبية أن يكونوا من أصحابه ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
    وقد نقلتُ في كتابي: (( فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة )) جملةً من النقول عن بعض مَن وصفهم بأنَّهم نواصب تشتمل على توقير أهل بيت النَّبِيِّ  ومحبَّتهم وموالاتهم، والنقل عن ابن كثير (ص:37) وعن ابن القيم (ص:35)، وأمَّا الذهبي فقد قال في تذكرة الحفاظ (1/9): (( علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمَّة وفارس الإسلام وخَتَن المصطفى ، كان مِمَّن سبق إلى الإسلام ولَم يَتَلَعْثَم، وجاهد في الله حقَّ جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النَّبِيُّ  بالجنَّة، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، وقال له: (أنت منِّي بِمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبِيَّ بعدي)، وقال: (لايحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يُبغضك إلاَّ منافق)، ومناقب هذا الإمام جَمَّة أفردتُها في مجلد، وسَمَّيتُه بـ (فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وكان إماماً عالِماً متحرِّياً في الأخذ؛ بحيث إنَّه يستحلف مَن يُحدِّثه بالحديث )).
    أَفَمِثل هذا الكلام يقوله ناصبيٌّ، كما زعم المالكي؟!
    وأمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له نصيبٌ كبير من حقد المالكي وذمِّه، والذي زعم زوراً أنَّه يُبغض عليًّا رضي الله عنه، فله كتاب (( فضل أهل البيت وحقوقهم ))، وهو مطبوع، ونقلتُ عن هذا الإمام عدَّةَ نقول في كتابي المشار إليه في (ص:33 ـ 35)، و(ص:44)، ومن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ في العقيدة الواسطية: (( ويُحبُّون (يعني أهل السُّنَّة والجماعة) أهلَ بيت رسول الله  ويتوَلَّوْنَهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله  حيث قال يوم غدير خُمّ: (أُذكِّرُكم الله في أهل بيتِي) ... )) إلى أن قال: (( ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يُبغضون الصحابةَ ويَسبُّونَهم، وطريقةِ النَّواصب الذين يُؤذون أهلَ البيت بقول أو عمل )).
    وقال في مجموع الفتاوى (28/491): (( وكذلك أهل بيت رسول الله  تجبُ مَحبَّتُهم وموالاتُهم ورعايةُ حقِّهم )).
    وقال في منهاج السنة (6/18): (( وأمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فأهل السُّنَّة يُحبُّونَه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين )).
    وقول المالكي في كلامه الأخير عن النواصب: (( والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ  نفسَه!!! ))، أقول: تقدَّمت الإشارة إلى مذهب أهل السنَّة وبراءتهم من النَّصب، ونحن لَم نسكت عمَّن ذمَّ علماء أهل السنَّة على مختلف العصور، وذمَّ قبلهم الكثيرين من أصحاب الرسول ، فكيف نسكت عمَّن يهجو الرسول  أو يذمُّه؟!
    ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كتاب مفيد اسمه: (( الصارم المسلول على شاتم الرسول )).
    * * *
    إنكاره القول بعدالة الصحابة والرد عليه:
    وقال في (ص:61 ـ 63):(( 4 ـ قد يقول قائل: كيف تناقش مسألة عدالة الصحابة وهي مسألة إجماع؟! ثمَّ مَن نحن حتى نعرف هل الصحابة عدول أم لا؟! ثمَّ ماذا تفعل بتعديل الله لهم في كتابه؟
    هل لك اعتراض على ذلك؟
    أقول: أولاً: هذه أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي، ويمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة المكابرة بأسئلة مثلها، فيقال: كيف تخصُّون الصحابة بالعدالة مع أنَّ هذا التخصيص لَم يَرد عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة؟! وهذه مسألة إجماع؛ فحكم الصحابة هو حكم غيرهم في الشهادة، لقوله تعالى: {وليشهد به ذوا عدل منكم} (كذا)، فلو كان للصحابة خصوصية لكفى شاهد واحد عدل، ولو كان للصحابة خصوصية لاكتفى منهم بشاهد واحد في الزنا والقذف وغيرها، وهذا خلاف الإجماع؛ فإنَّ النصوص القرآنية والحديثية لا تفرق في الشهادة بين صحابي وتابعي، فلماذا تفرقون أنتم في الرواية بين الصحابي وغير الصحابي، فلا تبحثون عن عدالة الصحابي وتبحثون عن عدالة التابعي؟!
    بأيِّ دليل من شرع أو عقل يُبيح لكم هذا التفريق؟! إذا كنتم تحتجُّون بأنَّ الله أثنى على الصحابة في كتابه، فهذا الثناء العام معارَض بذمٍّ عامٍّ في القرآن أيضاً )).
    ثمَّ ذكر آيات عديدة فيها الذم العام بزعمه، وذكر بعدها حديثاً واحداً وأشار إليه وإلى كثير من الآيات التي ذكرها، فقال: (( ومن الأحاديث في الذمِّ العام قول النَّبِيِّ  في أحاديث الحوض في ذهاب أفواج من أصحابه إلى النار، فيقول النَّبِيُّ : (أصحابي! أصحابي! فيُقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك) الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم).
    فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذَّمِّ العام، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأنَّ البقيَّة يؤخذون إلى النار؟!
    وكيف أنَّهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، وقد تحبط أعمالهم كما حبطت أعمال الأمم الماضية، وأنَّهم يقولون ما لايفعلون، وأنَّ هذا يعقبه مقتٌ كبير عند الله، وأنَّهم يتثاقلون كلَّما دُعوا إلى الجهاد مع النَّبِيِّ ، وأنَّهم يتَّكلون على كثرتهم وتعجبهم، وينسون أنَّ أمر النَّصر والهزيمة بيد الله، وأنَّهم يتنازعون ويعصون الرسول، وبعضهم يريد الدنيا، وأنَّهم يظنون بالله الظنون، ويُسِرُّون بالمودَّة إلى الكفار، وهذا خلاف ما أُمروا به من الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وحَكم على بعضهم بالكذب، وحَكَم على آخرين بأنَّهم يقولون المنكر والزور، وهدَّد بعضَهم بإبطال الأعمال عندما لا يتأدَّبون مع رسول الله  ويرفعون أصواتهم فوق صوته، وإذا كان هذا التهديد نزل في حقِّ أبي بكر وعمر فكيف بالباقين؟!
    وحَكَم على بعضِهم بأنَّهم لايعقلون، وعلى آخرين بالفسق، وحذر الله النَّبِيَّ  من طاعتهم في كثيرمن الأمور، فكيف يكون عدلاً مَن تكون طاعته مضرة وإثماً؟!
    وأخبر الله عن إخلاف بعضهم للوعد، فيُعاهد الله ثمَّ لا يفي ويتحوَّل إلى منافق، وأخبر بأنَّ من منهم منافقون (كذا) لا يعلمهم النَّبِيُّ ، كما أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق.
    أقول: يستطيع المحتجُّ على إبطال عدالة الصحابة جملة بمثل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة، وحجته لن تكون أضعف من حجَّة القائل بتعديل كلِّ من رأى النَّبِيَّ  من المسلمين!!
    فما الحلُّ إذاً؟! هل القرآن متناقض؛ فيُثنِي على أناسٍ ثمَّ يجرحهم ويذمُّهم؟ اللهمَّ لا! نعوذ ?الله أن نضرب القرآن الكريم بعضه ببعض، لكن نقول: آيات الثناء تنزل على من يستحقها من المهاجرين والأنصار، وآيات الذَّمِّ بين أمرين: إمَّا عتاب لا ذنب فيه إن شاء الله، مثل الأمر بعدم رفع الصوت فوق صوت النَّبِيِّ ، وإمَّا ذمٌّ عام وأريد به الخصوص، يعني أريد به طائفة منهم، وتُعرف هذه الطائفة إمَّا بسبب نزول أو بمعرفة صفتها في آيات أخرى جاء ذكرهم صريحاً، أو على المتأخرين في الإسلام الذين لَم يصدر منهم في عهد النبوة ما يطمئن إلى صحَّة إسلامهم من قوة جهاد وقوة إنفاق!!! )).
    أقول: إنَّ مَن وفقَّه الله لاتِّباع السُّنَّة والسلامة من البدعة، عندما يرى أو يسمع مثل هذا الكلام المُظلِم في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم يتألَّم قلبُه ويقشعرُّ جِلدُه، ويحمد الله على العافية مِمَّا ابتلي به قائله، ويسأل الله الهدايةَ لهذا المُبتَلَى.
    ويُجاب عن كلامه بما يلي:
    الأول: ما ذكره عن الأسئلة التي تُورَد على من لا يقول بتعديل الصحابة أنَّها (( أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي ))، أقول: التعويل على البحث العلمي بدون قيود وضوابط هي طريقة المستشرقين الذين لا يلتزمون بدين، وهي طريقة أيضاً مَن أُعجب بهم، وأمَّا البحث العلمي في الإسلام، فيكون في حدود النصوص الشرعية وعلى وفق فهم السلف لها.
    الثاني: مسألة عدالة الصحابة اتَّفق عليها السلف، قال ابن عبد البر في التمهيد (22/47): (( ولا فرق بين أن يُسمِّي التابعُ الصاحبَ الذي حدَّثه أو لا يُسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ مرضيُّون ثقاتٌ أثباتٌ، وهذا أمر مجتمعٌ عليه عند أهل العلم بالحديث )).
    وقال القرطبي في تفسيره (16/299): (( فالصحابة كلُّهم عدولٌ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرتُه من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنَّة والذي عليه الجماعة من أئمَّة هذه الأمَّة، وقد ذهبت شِرذمةٌ لا مبالاة بهم إلى أنَّ حالَ الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم!! )).
    وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17): (( واتَّفق أهلُ السنَّة على أنَّ الجميعَ عدولٌ، ولَم يخالف في ذلك إلاَّ شذوذ من المبتدعة )).
    وقد أشار السيوطي في تدريب الراوي (ص:400) إلى هؤلاء الشذوذ من المبتدعة، فقال: (( وقالت المعتزلة: عدول إلاَّ من قاتل عليًّا ))، وبهذا يتبيَّن سلفُ المالكي!
    وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (ص:264): (( للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنَّه لا يُسأل عن عدالة أحدٍ منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الكتاب والسنَّة وإجماع مَن يُعتدُّ به في الإجماع من الأمَّة ... )) إلى أن قال: (ص:265):
    (( ثمَّ إنَّ الأمَّةَ مجمعةٌ على تعديلِ جميع الصحابة، ومَن لابس الفتنَ منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع؛ إحساناً للظَّنِّ بهم، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم )).
    وقال النووي في شرحه على مسلم (15/149): (( ولهذا اتَّفق أهلُ الحقِّ ومن يُعتدُّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم، رضي الله عنهم أجمعين )).
    الثالث: ما جاء من نصوص في أهل بدر وأهل بيعة الرضوان والمهاجرين والأنصار فهي دالَّةٌ على فضل هؤلاء وتعديلهم، وما جاء من نصوص عامَّة في الصحابة فهي تدلُّ على فضل جميع الصحابة وتعديلهم، وماجاء من نصوص في فضل هذه الأمَّة فأصحابُ رسول الله  داخلون فيها دخولاً أوَّلياًّ، هذه طريقةُ أهل السنَّة والجماعة، بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين ابتُلوا بعدم سلامة القلوب والألسنة في حقِّ كثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
    الرابع: ما ذكره من الاعتراض على أهل السنة من تعديلهم للصحابة على العموم والبحث في عدالة غيرهم، وقوله: إنَّهم لو كانوا كذلك لاكتفى بشاهدٍ واحدٍ منهم في الزنا وغيره.
    أقول: هذا الذي ذكره مكابرةٌ كما وصفه هو نفسه بذلك، وأهلُ السنة يقولون: إنَّ التشريعَ عامٌّ للصحابة وغيرهم، لكن الصحابةُ لا يحتاجون إلى تعديل المعَدِّلين، بعد ثناء الله عزَّ وجلَّ وثناء رسولِه  عليهم، بخلاف غيرهم، وليس في القرآن آيةٌ باللفظ الذي ذكره، وهو قولُه: (وليشهد به ذوا عدل منكم).
    الخامس: ما ذكره من إنكار التفريق بين الصحابة وغيرهم في الرواية، في قوله: (( لماذا تُفرِّقون أنتم في الرواية بين الصحابيِّ وغير الصحابيِّ فلا تبحثون عن عدالة الصحابيِّ، تبحثون عن عدالة التابعي؟! بأيِّ دليلٍ من شرعٍ أو عقلٍ يبيح لكم هذا التفريق؟! ))، يجاب عنه بوجهين:
    الأول: أنَّ المعَوَّل على كلامهم في هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم هم أهل السنة والجماعة المتَّبعون لنصوص الكتاب والسنَّة، وليس أهل البدع والأهواء، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص: 46): (( كلُّ حديثٍ اتَّصل إسنادُه بين من رواه وبين النَّبِيِّ  لَم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظرُ في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله ؛ لأنَّ عدالَةَ الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن )) ثمَّ ذكر الآيات والأحاديث في ذلك.
    ونقل الخطيب في (ص: 415) عن أبي بكر الأثرم قال: قلتُ لأبي
    عبد الله يعني أحمد بن حنبل: (( إذا قال رجلٌ من التابعين: حدَّثني رجلٌ من أصحاب النَّبِيِّ ، فالحديثُ صحيحٌ؟ قال: نعم! )).
    ونقل أيضاً عن الحسين بن إدريس قال: (( وسألتُه يعني محمد بن عبد الله بن عمار: إذا كان الحديثُ عن رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ  أيكون ذلك حجَّة؟ قال: نعم! وإن لَم يسمِّه؛ فإنَّ جميعَ أصحاب النَّبِيِّ  كلّهم حجّة )).
    الثاني: أنَّ دواوينَ السنَّة صحاحها وجوامعها وسننها ومسانيدها ومعاجمها وغير ذلك مشتملةٌ على الرواية عن الصحابة على الإبهام، وما ثبت بالإسناد إليهم فهو حجَّةٌ عند أهل السنَّة، ولا تؤثِّر جهالتُهم؛ لأنَّ المجهول منهم في حكم المعلوم.
    وما كان في كتب أصحاب الكتب الستة من ذلك أورده المزي في تحفة الأشراف (11/123 ـ 240)، وقال في أوَّله: (( فصل: ومن مسند جماعةٍ من الصحابة روي عنهم فلم يُسمَّوْا، رتَّبنا أحاديثهم على ترتيب أسماء الرواة عنهم ))، وفيهم مَن روايتُه في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكذا ذكر المزّي المبهمات من الصحابيات مرتِّباً أحاديثهنَّ على ترتيب أسماء الرواة عنهنَّ في (13/111 ـ 129).
    السادس: ما أورده من آياتٍ فيها ذمٌّ عامٌّ للصحابة بزعمه، منها آياتٌ في المنافقين، كآية {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ...}الآية، كما في تفسير الشوكاني، وكآية {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ الله ...} الآية، كما في تفسير ابن كثير.
    السابع: قوله (ص:63): (( ومن الأحاديث في الذمِّ العامِّ: قول النَّبِيِّ  في أحاديث الحوض في ذهاب أفواجٍ من أصحابه إلى النَّار، فيقول النَّبِيُّ : (أصحابي! أصحابي! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)، الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم).
    فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذمِّ العامِّ، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزةً وقد أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليلُ، وأنَّ البقيَّةَ يؤخذون إلى النَّار ؟! )).
    وقال عن هذا الحديث أيضاً (ص:64): (( كما أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليلُ (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق )).
    ويُجابُ عنه بأنَّ لفظَ الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرقاق (6587) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ  قال: (( بينا أنا نائمٌ فإذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، فقلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمَّ إذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، قلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم )).
    قال الحافظ في شرحه: (( قوله: (بينا أنا نائمٌ) كذا بالنون للأكثر، وللكشميهني (قائم) بالقاف، وهو أوجه، والمراد به قيامُه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنَّه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة ))، وقال أيضاً: (( قوله: (فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم) يعني من هؤلاء الذين دَنَوْا من الحوض وكادوا يَرِدونه فصُدُّوا عنه ))، وقال أيضاً:
    (( والمعنى أنَّه لا يرِدُه منهم إلاَّ القليل؛ لأنَّ الهمل في الإبل قليلٌ بالنسبة
    لغيره )).
    واللفظُ الذي ورد في الحديث: (( فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم )) أي من الزمرتين المذكورتين في الحديث، وهو لا يدلُّ على أنَّ الذين عُرضوا عليه هاتان الزمرتان فقط، والمالكي أورد لفظ الحديث على لفظ خاطئ لَم يرد في الحديث، وبناءً عليه حكم على الصحابة حكماً عاماًّ خاطئاً، فقال فيه: (( وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم)، فجاء بلفظ (( منكم )) على الخطاب بدل (( منهم ))، وبناءً عليه قال: ((كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأمَّا البقية يُؤخذون إلى النار ))، وقال: (( كما أخبر النَّبِيُّ  أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق!! ))، وهذا كذب على الرسول ؛ فإنَّه لَم يُخبر أنَّ أصحابَه لَم يَنْجُ منهم إلاَّ القليل، ولعل هذا الذي وقع من المالكي حصل خطأً لا عمداً.
    وأمَّا ما جاء في بعض الأحاديث مِن أنَّه يُذاد عن حوضه أُناسٌ من أصحابه، وأنَّه يقول (( أصحابي! )) وفي بعض الألفاظ (( أُصيْحابي! ))، فيُقال: (( إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ))، فهو محمولٌ على القلَّة التي ارتدَّت منهم بعد وفاة النَّبِيِّ ، وقُتِلوا في ردَّتِهم على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
    وبعضُ أهل الأهواء والبدع يَحملون هذه الأحاديث على ارتداد الصحابة بعد وفاة النَّبِيِّ  إلاَّ نفراً يسيراً منهم، وكلام المالكي الذي قال فيه: إنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل وأنَّ البقيَّةَ يُؤخذون إلى النار شبيهٌ بكلامهم، والحقيقة أنَّ هذه الفرقة الضالَّة الحاقدة على الصحابة وهم الرافضة هي الجديرة بالذَّوْد عن الحوض؛ لعدم وجود سِيمَا التحجيلِ فيها التي جاءت في الحديث في الصحيحين، وهو عند البخاري (136) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (( إنَّ أمَّتِي يُدعَون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين
    من آثار الوضوء ))، ولقوله  في حديث أبي هريرة: (( ويلٌ للأعقاب من النار )) أخرجه البخاري (165) ومسلم (242)، ولم أجد في الصحيحين التعبير بذهاب أفواج من أصحاب رسول الله  إلى النار، كما زعم المالكي، وقد تقدَّم للمالكي أنَّه أخرج كلَّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ  بعد الحُديبية إلى حين وفاته ، أخرجهم من أن يكونوا صحابة، وأنَّ الصحابةَ عنده وعند قدوته الحكمي هم المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط، فعلى قوله هنا أنَّه لَم يَنْجُ من الصحابة إلاَّ القليل مثل همل النعم، وأنَّ البقية يؤمر بهم إلى النار، لا ينجو من المهاجرين والأنصار إلاَّ القليل مثل همل النعم!
    الثامن: أنَّ قولَ أهل السنَّة والجماعة بعدالة الصحابة لا يعنِي عصمتهم؛ لأنَّ العصمةَ عندهم لا تكون إلاَّ للرُّسُل والأنبياء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص:28): (( وهم مع ذلك (يعنِي أهل السنة والجماعة) لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السَّوابِق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّهم يُغفر لهم من السيِّئات ما لا يُغفر لِمَن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله  أنَّهم خير القرون، وأنَّ المُدَّ من أحدِهم إذا تصدَّق به كان أفضلَ من جبل أُحُد ذهباً مِمَّن بعدهم، ثمَّ إذا كان قد صدر عن أحدٍ منهم ذنبٌ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد  الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المُحقَّقة فكيف الأمور التي كانوا فيها مُجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
    ثمَّ القدر الذي يُنكَر من فِعل بعضِهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنِهم من الإيمان ?الله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ وما منَّ الله عليهم من الفضائل علِمَ يقيناً أنَّهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنَّهم الصَّفوةُ من قرون هذه الأمَّة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله )).
    التاسع: إنَّ قولَ أهل السنَّة بتعديل الصحابة، كما أنَّه مستندٌ إلى نصوص من الكتاب والسُّنَّة، فهو مَبنِيٌّ على حُسن الظنِّ بهم، ومن أحسن الظنَّ بهم فهو مأجور، والقول بخلاف ذلك مَبنِيٌّ على إساءة الظنِّ بهم، ومَن أساء الظنَّ بهم فهو آثمٌ، قال بَكر بن عبد الله المُزني، كما في ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر: (( إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمتَ، وهو سوء الظنِّ بأخيك )).
    وإذا كان هذا في آحاد الناس، فإنَّه في حقِّ أصحاب رسول الله  أشدُّ وأعظم.
    وفي ختام هذا الردِّ على المالكي، أقول: إنَّ جُلَّ كلامه المردود عليه من كتابه في الصحابة، وأمَّا كتابُه (( قراءةٌ في كتب العقائد )) المشتمل على تخبُّط وتخليط في العقيدة، فلم أنقل عنه في هذه الرسالة للردِّ عليه إلاَّ في موضعين في تشكيكه في أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة، وفي إشادته بأهل البدع ونيله من علماء أهل السنة وكتبهم على مختلف العصور.



    * * *




    آثارٌ في توقير الصحابة وبيان خطرِ النَّيل من أحدٍ منهم:
    وبعد أن أوردتُ كارهاً مضطراًّ كلماتٍ للمالكي في الصحابة الأخيار مظلمةً مُحزنةً موحشةً، فإنِّي أورد كلماتٍ فيهم لبعض أهل العلم مشرقةً مضيئةً، سارَّةً مؤنسةً، وجلُّها مثبتٌ في كتابي (( من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية رضي الله عنه )).
    الإمام مالك بن أنس (179هـ) رحمه الله:
    قال البغوي في شرح السنة (1/229): (( قال مالك: مَن يبغض أحداً من أصحاب رسول الله  وكان في قلبه عليه غِلٌّ فليس له حقٌّ في فَيءِ المسلمين، ثم قرأ قولَه سبحانه وتعالى:{مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ} الآية، وذُكر بين يديه رجلٌ ينتقص أصحابَ رسول الله  فقرأ مالكٌ هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، ثم قال: مَن أصبح من الناس في قلبه غِلٌّ على أحدٍ من أصحاب النَّبِيِّ  فقد أصابته هذه الآية )).
    الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه السنة: (( ومن السنَّة ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله
     كلِّهم أجمعين، والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله  أو وأحداً منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ والدعاءُ لهم قربةٌ والاقتداءُ بهم وسيلةٌ والأخذُ بآثارهم فضيلةٌ )).
    وقال: (( لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئاً من مساوئهم ولا يطعن على أحدٍ منهم فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه ليس له أن يعفوَ عنه بل يعاقبُه ثمَّ يستتيبُه فإن تاب قبِلَ منه وإن لَم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويراجع )).
    الإمام أبوزرعة الرازي (264هـ) رحمه الله:
    روى الخطيبُ البغدادي في كتابه الكفاية (ص:49) بإسناده إليه قال: (( إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله  فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله  عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله  وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ )).
    الإمام أبوجعفر الطحاوي (322هـ) رحمه الله:
    قال في عقيدة أهل السنة والجماعة: (( ونحبُّ أصحابَ رسول الله  ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاَّ بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ )).
    الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه الجرح والتعديل (1/87): (( فأمَّا أصحابُ رسول الله  فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصحبة نبيِّه  ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا عنه  ما بلَّغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله  ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم الله عزَّ وجلَّ بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة ))، إلى أن قال: (( فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة.
    وندب الله عزَّ وجلَّ إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.
    ووجدنا النَّبِيَّ  قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطبُ أصحابَه فيها، منها أن دعا لهم فقال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتّى يبلِّغها غيرَه)، وقال  في خطبته: (فليبلِّغ الشّاهدُ منكم الغائبَ)، وقال: (بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
    ثمَّ تفرَّقت الصحابةُ رضي الله عنهم في النَّواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحدٍ منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله ، وحكموا بحكم الله عزَّ وجلَّ وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله ، وأفتوا فيما سُئلوا عنه مِمَّا حضرهم من جواب رسول الله  عن نظائرها من المسائل، وجرّدوا أنفسهم مع تقدمة حسن النيّة والقربة إلى الله تقدّس اسمُه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام، حتّى قبضهم الله عزَّ وجلَّ رضوانُ الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين )).
    الإمام ابن ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) رحمه الله:
    قال في مقدَّمة رسالته:(( وأنَّ خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا رسولَ الله  وآمنوا به، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاءُ الراشدون المهديّون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان،ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يُذكر أحدٌ من صحابة الرسول  إلاَّ بأحسن ذكرٍ، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحقُّ الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظنَّ بهم أحسنَ المذاهب )).
    الإمام أبوعثمان الصابوني (449هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (( ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله  وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيباً لهم أو نقصاً فيهم ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم )).
    الإمام أبو المظفَّر السمعاني (489هـ) رحمه الله:
    نقل الحافظ في الفتح (4/365) عنه أنَّه قال: (( التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ )).
    شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه العقيدة الواسطية: (( ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله  كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيـمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وطاعة للنبيِّ  في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) إلى أن قال: ويتبرَّءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهلَ البيت بقول أوعملٍ، ويُمسكون عمَّا جرى بين الصحابة، ويقولون إنَّ هذه الآثار المرويّة في مساوئهم منها ما هو كذبٌ ومنها ما قد زِيد فيه ونُقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيحُ منه هم فيه معذورون إمَّا مجتهدون مصيبون وإمَّا مجتهدون مخطئون )).
    وقد مرَّ ذِكرُ بقيَّة كلامه في عدالة الصحابة قريباً.
    الحافظ ابن كثير (774هـ) رحمه الله:
    قال في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية قال: (( فقد أخبر الله العظيم أنَّه قد رضي عن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، فيا ويلَ مَن أبغضَهم أو سبَّهم أو أبغضَ أو سبَّ بعضَهم ولا سِيَما سيِّدُ الصحابة بعد الرَّسول  وخيرُهم وأفضلُهم أعني الصِّديقَ الأكبرَ والخليفةَ الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإنَّ الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضلَ الصحابة، ويبغضونهم ويسبُّونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ عقولَهم معكوسةٌ وقلوبَهم منكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون مَن رضي الله عنهم، وأمَّا أهلُ السنة فإنَّهم يترَضَّوْن عمَّن رضي الله عنه ويسبون من سبَّه الله ورسولُه ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله، وهم متَّبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزبُ الله المفلحون وعبادُه المؤمنون )).
    الشيخ ابن أبي العزّ الحنفي (792هـ) رحمه الله:
    قال في شرح الطحاوية (ص:469): (( فمن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضَلهم اليهودُ والنصارى بخصلة، قيل لليهود مَن خيرُ أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحابُ موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ عيسى، وقيل للرافضة:من شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد، ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمن سبّوهم من هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعافٍ مضاعفةٍ )).
    وهذا المعنى جاء في شعر أحد علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وهو كاظم الأزري، فقال:
    أهم خير أمة أخرجت للنا س هيهات ذاك بل أشقاها!!!
    وقفتُ عليه في نقد الأستاذ محمود الملاح لقصيدته الأزرية المطبوع بعنوان: (( الرزيّة في القصيدة الأزرية )) (ص:51).
    وما جاء في هذا البيت غايةٌ في الجفاء والخبث، ومثله في الغلوِّ في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والجفاء في الصحابة قوله (ص:45):
    أَنَبِيٌّ بلا وَصِيٍّ؟!! تعالى اللـ ـه عمَّا يقوله سفهاها!!!
    ومن غلوِّه في علي رضي الله عنه قوله كما في (ص:34):
    وهو الآيةُ المحيطة في الكو ن ففي عين كل شيء تراها!!!
    وقوله كما في (ص:36):
    ورأت قسوراً لو اعترضته الـ إنسُ والجنُّ في وغى أفناها!!!
    والبيتان الأخيران يصدق عليهما الوصف المشهور: يُضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!
    الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه فتح الباري (13/34): (( واتّفق أهلُ السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروبٍ ولو عُرف المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لَم يقاتلوا في تلك الحروب إلاَّ عن اجتهادٍ وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنَّه يؤجر أجراً واحداً وأنَّ المصيبَ يؤجر أجرين )).
    الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري (893هـ) رحمه الله:
    قال في كتابه الرياض المستطابة في من له روايةٌ في الصحيحين من الصحابة (ص:311): (( وينبغي لكلِّ صيِّنٍ متديِّنٍ مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم وتسلِيم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه، فهم أعلم بالحال، والحاضرُ يرى ما لا يرى الغائبُ، وطريقةُ العارفين الاعتذارُ عن المعائب، وطريقةُ المنافقين تتبُّعُ المثالب، وإذا كان اللاَّزمُ من طريقة الدين سترُ عورات المسلمين فكيف الظنُّ بصحابة خاتم النبيّين مع اعتبار قوله : (لا تسبُّوا أحداً من أصحابي)، وقوله: (من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه) هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف )).
    * * *
    آياتٌ وأحاديث في حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير:
    وقد رأيتُ من المناسب أن أورد هنا آياتٍ من كتاب الله وأحاديثَ من سُنَّة رسول الله  في أهميّة حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في الخير؛ وذلك نصيحة لنفسي وللمالكي ولِمَن شاء الله أن يطَّلع على هذه الرسالة، وأسأل الله للجميع التوفيقَ لِمَا تُحمد عاقبتُه في الدنيا والآخرة.
    قال الله عزَّ وجلَّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله  قال: (( أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه )).
    وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}.
    روى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله بن عمرو عن النَّبِيِّ  قال: (( المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده ))، ورواه مسلم في صحيحه (64) أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله : أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال:
    (( مَن سلم المسلمون من لسانه ويده )).
    وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
    أقول: ولا شكَّ أنَّ أولى المسلمين بالسلامة من اللسان ومن الكتابة باليد أصحابُ رسول الله ، قال الحافظ في شرح الحديث: (( والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم )).
    وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
    كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابـتِي بأنَّ يـدي تفنَى ويبقى كتابُها
    فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
    وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله  قال: (( مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة ))، المراد بِما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
    وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) الحديث.
    قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): (( الواجبُ علىالعاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ )).
    وقال أيضاً (ص:47): (( الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه، ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها )).
    وقال أيضاً في (ص:49): (( لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه )).
    وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله  قال: (( إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب )).
    وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ  لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: (( حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ))، قال : (( وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم ))، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: (( يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بِمَا نتكلَّم به؟ )).
    قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (1/147): (( والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن رزع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة )).
    وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله  قال: (( أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار )).
    وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: (( بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه )).
    وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه واللفظُ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أنَّ رسول الله  خطب الناسَ يوم النحر، فقال: يا أيُّها الناس! أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: أيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض )).
    وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله  قال: (( مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )).
    قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث (( إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث ... )) الحديث، قال: (( وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم )).
    وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( إنَّ الله قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقدآذنتُه بالحرب )) الحديث.
    وإذا كان هذا في وَلِيٍّ واحدٍ من آحاد الأولياء، فكيف بالكثيرين من أصحاب رسول الله  الذين هم ساداتُ الأولياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
    * * *
    وإلى هنا انتهت هذه الرسالة التي هي من أحبِّ كُتُبِي إلى نفسي، وأرجاها لي عند ربِّي؛ لِمَا تضَمَّنتْه من الدِّفاع عن الصحابة الأخيار والذَّبِّ عنهم، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بِحُبِّهم، وبغض مَن يُبغضهم، وبغير الخير يَذكرُهم، ورضي الله عن أنس بن مالك خادم رسول الله  الذي أظهر فرحَ الصحابة الشديد لحديث (( المرء مع من أحبَّ )) فقال بعد روايته للحديث كما في صحيح البخاري (3688): (( فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النَّبِيِّ : أنت مع من أحببتَ، قال أنس: فأنا أُحبُّ النَّبِيَّ  وأبا بكر وعُمر، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم ))، والحديث متواترٌ، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة الشورى، عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
    أقول: وأنا أُحبُّ رسولَ الله  وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا والحَسَن والحُسين وأمَّهما فاطمة وأمَّهات المؤمنين وأنس بنَ مالك قائل هذا الكلام وسائرَ الصحابة رضي الله عنهم، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم.
    اللهمَّ إنَّك تعلمُ ما في قلبِي من الحبِّ للصحابةِ الأخيار والقرابة الأطهار، وتعلم سلامةَ لساني وقلبي مِمَّا لا يليق بهم، وتعلم أنَّ ما كتبتُه انتصارٌ لصحابةِ نبيِّك  ورضي الله عنهم وأرضاهم، اللهمَّ إنِّي أسألك بهذا الحبِّ والسلامة والانتصار أن تُثبِّتَنِي بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن تُحسِنَ عاقبَتِي في الأمور كلِّها، وتُجيرَنِي من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن تدخلَنِي الجنَّة، وتُعيذَنِي من النار، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأدخلنِي برحمتِك في عبادك الصَّالحين، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأَصلِح لي في ذُريَّتِي إنِّي تُبتُ إليك وإنِّي من المسلمين، اللهمَّ اغفر لي ولآبائي وأمَّهاتِي وأهلِي وأبنائي وبناتِي وإخوانِي وأخواتِي وأعمامي وعمَّاتي وأخوالِي وخالاتي وأصهاري وسائر أقربائي وشيوخي وأصدقائي وزملائي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميعٌ مجيبُ الدَّعوات، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّء لنا من أمرنا رشداً، ربَّنا لا تُزِغ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب، ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين.
    وكان الفراغ من تأليف هذه الرسالة صباح يوم الجمعة 27 شوال 1422هـ.

  • #2
    الصحابة رضوان الله عليهم دائما هدف للشيعة وحسن المالكي شيعي زيدي من بني مالك من جنوب المملكة وقد رد عليه ردودا قوية ومنها رد الشيخ العلامة / ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله وقد أجاد وأفاد.
    وقد قامت وزارة التربية والتعليم في المملكة بوقف الرجل عن العمل لما بدر منه وخشية على الطلاب من هذا المدرس المنحرف وفق الله ولاة الأمر في المملكة لمحاكمة هذا الرجل ووقفه عند حده.

    تعليق


    • #3
      وإلى هنا انتهت هذه الرسالة التي هي من أحبِّ كُتُبِي إلى نفسي، وأرجاها لي عند ربِّي؛ لِمَا تضَمَّنتْه من الدِّفاع عن الصحابة الأخيار والذَّبِّ عنهم، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بِحُبِّهم، وبغض مَن يُبغضهم، وبغير الخير يَذكرُهم، ورضي الله عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أظهر فرحَ الصحابة الشديد لحديث (( المرء مع من أحبَّ )) فقال بعد روايته للحديث كما في صحيح البخاري (3688): (( فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنت مع من أحببتَ، قال أنس: فأنا أُحبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر وعُمر، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم ))، والحديث متواترٌ، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة الشورى، عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
      أقول: وأنا أُحبُّ رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا والحَسَن والحُسين وأمَّهما فاطمة وأمَّهات المؤمنين وأنس بنَ مالك قائل هذا الكلام وسائرَ الصحابة رضي الله عنهم، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم.


      وأنا علي بن إبراهيم بن أحمد جحاف الهاشمي السلفي أقول بقول ودعاء الشيخ / العباد حفظه الله:

      اللهمَّ إنَّك تعلمُ ما في قلبِي من الحبِّ للصحابةِ الأخيار والقرابة الأطهار، وتعلم سلامةَ لساني وقلبي مِمَّا لا يليق بهم، وتعلم أنَّ ما كتبتُه انتصارٌ لصحابةِ نبيِّك صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، اللهمَّ إنِّي أسألك بهذا الحبِّ والسلامة والانتصار أن تُثبِّتَنِي بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن تُحسِنَ عاقبَتِي في الأمور كلِّها، وتُجيرَنِي من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن تدخلَنِي الجنَّة، وتُعيذَنِي من النار، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأدخلنِي برحمتِك في عبادك الصَّالحين، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأَصلِح لي في ذُريَّتِي إنِّي تُبتُ إليك وإنِّي من المسلمين، اللهمَّ اغفر لي ولآبائي وأمَّهاتِي وأهلِي وأبنائي وبناتِي وإخوانِي وأخواتِي وأعمامي وعمَّاتي وأخوالِي وخالاتي وأصهاري وسائر أقربائي وشيوخي وأصدقائي وزملائي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميعٌ مجيبُ الدَّعوات، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّء لنا من أمرنا رشداً، ربَّنا لا تُزِغ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب، ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين.

      تعليق

      يعمل...
      X