وجوبُ تضليلِ المُخالفِ في الأصولِ
والبراءةُ منهُ وهتكُ سترِه
والبراءةُ منهُ وهتكُ سترِه
قال الإمامُ أبو المُظفَّر السَّمعانيُّ في "قواطعِ الأدلة" (5/13): كلُّ ما كانَ من أصولِ الدِّينِ, فالأدلةُ عليهِ ظاهرةٌ, والمُخالفُ فيهِ مكَابرٌ,-والقَولُ بِتضلِيلِهِ واجبٌ؟!, والبراءةُ منهُ شرعٌ!!-.اهـ
قلتُ: لأنَ ذلكَ من النَّصيحةِ, وبيانِ الحقِّ الذي يجبُ بيانُه وجوباً كفائياً, وقد قال سبحانهُ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾, وقال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النصيحةُ».
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾, وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾.
والمقصودُ من بيانِ الباطلِ والتَّحذيرُ منه, ببيانِ حالِ أهلِه, والتَّحذير منهُم, ليتَّضحَ أمرُهم, كي يُجتَنبوا, ويُحذروا, كما قال سبحانهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
ولذا قال ابنُ قدامةَ في "الرَّد على ابنِ عقيلٍ الحنبليِّ" (ص/20): ولكن وجب بيانُ حالِ هذا الرَّجلِ, حينَ اغترَّ بمقالتِه قومٌ, واقتدى ببدعتِه طائفةٌ, وشكَّكَهم في اعتقادُهم حسنَ ظنِّهم فيه, -واعتقادهُم أنه من جملةِ دعاةِ السنة؟!!, فَوَجَبَ حِينئذٍ كشفُ حَالهِ, وإزالةِ حسنِ ظنِّهم فيهِ!!-, ليزولَ اغترارُهم, وينحَسمَ الدَّاءُ بحسمِ سببِه, -فإنَّ الشَّيءَ يزولُ من حيثُ ثبتَ!!-.اهـ
قالَ العلامةُ التَّفهني في تقريظ كتابِ "الرَّدِّ الوافر" (ص/56) فيمَن ثبتَ عنهُ كلامٌ مصادمٌ للشريعةِ, ولم يتب بعدَ النُّصحِ والبيانِ, قال: فإنْ تابَ, وإلا رتَّبنا عليهِ ما تَقتضيهِ الشَّريعةِ المُحمَّديةِ.اهـ
قال الشاطبيُّ في "الاعتصام" (1/243): ولمَّا ثبتَ ذمُّها –يعني: الأهواءُ والبدعُ- ثبتَ ذمُّ صاحِبِها, لأنَّها ليسَت مذمُومةً من حيث تصوُّرها فقط, بل من حيثُ اتَّصفَ بها المُتَّصفُ, فهو –إذن- المذمُومُ على الحقيقَةِ.اهـ
وعلى هذا مضَى سلفُ الأُمَّةِ وأهلُ الحقِّ تجاهَ المُخالفين لقواعدِ الشريعةِ وأصولها في كلِّ زمانٍ, كما قالَ ابنُ عمرَ رضي الله عنه, حينَ قيلَ لهُ: إن قوماً يقولون: لا قدرَ, فقال: أخبروهم أني بريءٌ منهم, وأنهم برءاءُ منِّي. رواه مسلم برقم (1).
وكما فعلَ الحسنُ البصريُّ بواصلِ بن عطاءٍ, حيثَ قال: الفاسقُ لا مؤمنٌ ولا كافرٌ, وطردَهُ الحسنُ من مجلسهِ, كما في "السير" (5/464), و"تاريخ الإسلام" (ص/558), حوادث (121-140).
وكذا فعل ابنُ عونٍ بعمروِ بن عبيدٍ حينَ انضمَّ إلى واصلِ بن عطاءٍ, وأزالَهُ واصلٌ عن مذهبِ السنةِ, وقد كانَ يُجالسُ الحسنَ, كما في "السير" (5/464), و"تاريخ الإسلام" (ص/558), حوادث (121..).
ونقلَ عن عبدالوهابِ الخفافِ (ص/240) أنهُ قال: مررتُ بعمروِ بن عبيدٍ, وهو وحدَهُ, فقلتُ: مالك؟. فقال: نهى ابنُ عونٍ الناسَ عنَّا فانتَهوا.
وكانَ حسينُ بن عليِّ الكرابيسيُّ كما قالَ المروزيُّ, كما في "شرح علل الترمذي" لابن رجبٍ (2/806), كانَ يذبُّ عن السنةِ, ويُظهرُ نصرة أحمدٍ.
وكانَ فقيهَ بغدادٍ, ومن بحورِ العلمِ,تدلُّ تصانيفُه على تبَحُّرهِ, كما في "السير" (12/69-80), و"تاريخ الإسلام" (ص/242), حوادث (241..).
فلمَّا أظهرَ مسألةَ اللفظِ تكلَّمَ فيه أحمدُ, وبدَّعهُ, وحذَّرَ منهُ, وكشفَ عن سترِه, فتجنَّب الناسُ الأخذَ عنهُ, وسقطَ, كما قال محمدُ بن عبدالله الشافعيُّ, حتى قالَ ابنُ معينٍ: ينطلُ حسينٌ, ويرتَفعُ أحمدُ, كما في "الكامل" (2/241), و(2/432), و"تاريخ بغداد" (8/64 و 65 و 66 و 64 و 67).
قال الخطيبُ البغدادي: وحديثُ الكربيسيِّ يعزُّ جداً, وذلكَ أنَّ الإمامَ أحمد كانَ يتكلَّمُ فيه بسببِ اللفظِ, وكان هو أيضاً يتكلَّمُ فيه, فتجنَّبَ الأخذَ عنهُ لهذا السببُ.
وكذا فعل أهلُ الحديثِ بداودَ بن عليِّ الأصبهاني, لما قال: القرآن مُحدثٌ, حتى أبى أحمدُ أن يدخلَ عليه, كما رواهُ الخطيبُ في "تاريخ بغداد" بإسنادٍ صحيحٍ (8/373).
قال الذهبيُّ في "السير" (13/101): قامَ على داودَ خلقٌ من أهل الحديثِ, أنكروا قولهُ وبدَّعوهُ.اهـ
وذكرَ الخطيبُ في "تاريخ بغدادَ" (14/282), بإسنادهِ عن أحمدَ أنهُ سئلَ عن يعقوبَ بن شيبةَ, فقال: مُبتدعٌ صاحبُ هوى.اهـ
قال الخطيبُ: وصفهُ أحمدُ بذلكَ, لأنهُ كانَ يذهبُ إلى الوقف في القرآن.اهـ
ويعقوبُ بنُ شيبةَ من الثِّقاتِ في الحديثِ, ولم يمنعْ ذلكَ أحمد من الحُكم عليه بُمقتضَى رأيهِ, وانظر فيما سبقَ ذكرهُ من الأمثلةِ في فصلِ الكلامِ على اكتفاءِ السلفِ بُمخالفةِ أصلٍ في التَّضليلِ, والحكم على المُخالفِ بالابتداعِ.
ومن مُنطلقِ النُّصحِ والحفاظِ على الشريعةِ من التَّبديلِ والتَّحريفِ, ذهبَ ابنُ المباركِ, وأحمدُ بن حنبلَ, والحميديَّ, وغيرُهم, أن مَن غلطَ في حديثٍ, وبُيِّنَ لهُ غلطُهُ, فلم يرجعْ عنهُ, وأصرَّ على روايتِه ذلكَ الحديثِ, سقطتْ رواياتُه, ولم يُكتبْ عنهُ.
ذكرهُ ابنُ الصلاحِ في "علوم الحديث" (ص/236), وقالَ عقبهُ: وهو غيرُ مُستنكرٍ, إذا ظهرَ أنَّ ذلكَ منهُ على جهةِ العنادِ ونحوه.اهـ
قالَ ابنُ حبانَ في "المجروحين" (1/78): ومن كانَ هكذا, كانَ كذاباً بعلمٍ صحيحٍ, ومن صحَّ عليهِ الكذب استحقَّ التركَ.اهـ
قالَ ابنُ رجبٍ في "الفرقِ بين النصيحةِ والتَّعيير", كما في "مجموعةِ رسائله" (2/403): ولا فرقَ بين الطعنِ في رواةِ الحديثِ, وألفاظِ الحديث, والتَّمييزِ بينَ من تُقبلُ روايتُه منهم, ومن لا تقبلُ, -وبينَ تبيين خطأَ من أخطأ في فهمِ معاني الكتابِ والسنةِ, وتأوَّلَ شيئاً منها على غيرِ تأويلِه, وتمسَّكَ بما لا يُتمسَّك به, ليُحذرَ من الاقتداءِ به فيما أخطأَ فيه!!-.اهـ
قال شيخُ الإسلامِ في رسالةِ "الغيبة", كما في "مجموعةِ الرسائل" (2/280): فإذا كانَ أقوامٌ منافقون يبتدعونَ بدعاً تُخالفُ الكتابَ, ويُلبسونها على الناسِ,- ولم تُبيَّن للناس!!-, فسدَ أمرُ الكتابِ, وبُدِّلَ الدِّين, كما فسد دينُ أهل الكتابِ قبلنا, بما وقعَ فيهِ من التَّبديلِ, الذي لم يُنكرْ على أهلهِ, وإذا أقوامٌ ليسوا منافقينَ, -لكنَّهم سمَّاعونَ للمُنافقين؟!-, قد التبسَ عليهِم أمرُهم, حتى ظنُّوا قولَهم حقاً, وهوَ مخالفٌ للكتابِ, وصاروا دعاةً إلى بدعِ المنافقين, -فلا بدُّ –أيضاً-من بيانِ حالِ هؤلاءِ؟!!-, بل الفتنةُ بحالِ هؤلاءِ أعظمُ, فإنَّ فيهم إيماناً يوجبُ موالاتِهم, وقد دخلوا في بدعٍ من بدعِ المُنافقين, التي تُفسدُ الدينَ, فلا بدَّ من التَّحذيرِ من تلكَ البدع, وإن اقتضى ذلك-ذكرُهم وتعيينُهم!!-, بل ولو لم يَكُن قد تَلقَّوا تلكَ البدعةِ عن مُنافقٍ, لكِن قالُوها ظانِّين أنها هدى, وأنَّها خيرٌ, وأنَّها دينٌ, ولم يكنِ كذلك –لَوجبَ بيانُ حالِها!!!-, ولهذا -وجبَ بيانُ حالِ من يغلطُ في الحديثِ والرِّوايةِ, ومَن يغلطُ في الرَّأيِ والفُتيا؟!!-.اهـ
فهذا هوَ منهجُ الحقِّ, وطريقُ السلفِ, وسبيلُ أهل الحقِّ تجاهَ من خالفَ أصلاً, أو أصولاً من أصولِ الشريعةِ, وخرجَ عن الحقِّ, وتمادى في وعاندَ, لما في ذلكَ من المصلحةِ العظيمةِ في حفظِ الشريعةِ, والذبِّ عن أصولِها.
بل لما فيه من مصلحةِ المحذَّرِ منه, والموضَّحِ حالُه, من قلَّةِ الأوزارِ , لأنَّ التَّحذيرَ منهُ, وتبيينَ حالِه, يُقلِّلُ من أتباعِه, فتخفُّ أوزارهُ.
ولذا قال يوسفُ بن أسباط, لما قيلَ له: تتكلَّمُ في النَّاسِ, قال: أنا خيرٌ لهؤلاءِ من آباءِهم وأمهاتِهم, أنا أنهَى الناسَ عن اتِّباعِهم.
وقد ذكرَ العلامةُ البُقاعيُّ في "مصرع التصوفِ" (ص/267) أن بيانَ حالِ أهل الباطلِ, وكشفَ أستارِهم, إمَّا لنفعِ الدِّينِ, أو المسلمينَ, أو صاحبِ الباطلِ نفسه.
وياللهِ كم تَجاهلَ هذا الأصلَ الشَّرعيَّ وأهملَه من ناسٍ, واستَبدلوهُ بالطُّرقِ الخلفيَّةِ التي يطُولُ بسطُها, كـ(لا نترُكُ الرَّجلُ حتى يترُكَنا), و(لا أحكمُ حتى أقفَ بنفسِي), و (لا بدَّ من حكمٍ ثالثٍ), و (لا يُقبلُ الجرحُ المفسَّرُ حتى يقبَلَهُ فلانٌ وفلانٌ), وغير ذلك من الطُّرقِ الخَلفيَّة التي يلهجُ بها أصحابُها لقصدِ التَّملصِ عن إحقاقِ الحقِّ, والمرواغةِ في التزامِهِ, ويلهجونَ بالسَّلفيَّةِ, وهم عن العملِ بأصولِها وثوابتِها بمعزلٍ, فلا بالحقِّ أخذوا, ولا لهُ نصروا, ولا للباطلِ تركُوا, ولا له كسروا, ولا مَن يُحامونَ عنُه وأنفسَهم نفَعوا, بل بِهم تزدادٌ الفتنُ تفاقماً, ويزدادُ بِمواقِفِهم الخرقُ اتِّساعاً, وهذهِ هي نتائج الإخلالِ والتَّقصيرِ في التزامِ منهجِ الشريعةِ المطهَّرةِ وثوابتِها المشتملةِ على المقاصدِ العظيمةِ, ذاتِ المصالحِ الدينيَّةِ, كـ(امتناعِ تأخيرِ البيانِ عَن وقتِ الحاجةِ).
المصدر ;"ضوابطُ الحُكم بالابتداع ", وذيلَهِ "ضرُورة التَّأهل في الحكمُ به وبالتَّكفيرِ والتَّفسيقِ والردِّ على أهل الأهواءِ"([1]),
لشيخ سعيد بن دعاس رحمه الله
([1]) كذا كانَ عنوانهُ ثُمَّ غُيرَ إلى "ضَرورةُ التَّأهُّل في الحُكم عَلى المُخالفِ بِمَا يستَحقُّ والردِّ عَلى أهلِ الأهواءِ"
تعليق