• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

خمسة عشر حكمة في هجر المبتدعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خمسة عشر حكمة في هجر المبتدعة

    خمسة عشر حكمة
    في هجر المبتدعة



    كتبه الفقير إلى الله:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي
    بصنعاء حرسها الله


    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة مؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
    فقد أرسل إلينا بعض الإخوة الأفاضل يسألنا عن قول الشيخ الألباني رحمه الله في مسألة هجر أهل الأهواء والتحذير منهم حيث قال رحمه الله: في العصر الحاضر ليس من الحكمة أبدا أن نقاطع الناس لسبب انحرافهم، سواء كان هذا الانحراف فكريا عقيدة أو كان انحرافا سلوكيا، وإنما علينا أن نصبر في مصاحبتنا لهؤلاء، وألا نضلل ولا نكفر، لأن هذا التضليل وهذا التكفير لا يفيدنا شيئا، وإنما علينا بالتذكير كما قال عز وجل: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]. ("سلسلة الهدى والنور"/(8) الوجه الثاني).
    وأرسل إلينا أخ آخر نقلاً عما نشره أحد أعيان السروريين –الدكتور فيراندا الإندونيسي- عن الشيخ الألباني رحمه الله حيث:
    سئل رحمه الله : هل صحيح ما نسمعه إن هجر المبتدع في هذا الزمان لا يطبق؟
    قال الشيخ : هو يريد أن يقول لا يحسن أن يطبق هل صحيح لا يطبق ولا يطبق، لأن المبتدعة والفساق والفجار هم الغالبون لكن هو يريد أن يقول لا يحسن أن يطبق، وهو كأن السائل يعنيني أول من يعنيني فأقول: لا ، هو كذلك، لا يحسن أن يطبق، وقد قلت هذا صراحة آنفا حينما ضربت المثل الشامي: ( أنت مسَكِرْ، أنا مبطِلْ )، نعم. تفضل .
    قال السائل : لكن مثلا يعني إذا وجدت بيئة الغالب في هذه البيئة أهل السنة، وثم وجدت بعض النوابت ابتدعوا في دين الله عزوجل؛ فهنا يعني يطبق أم لا يطبق؟.
    قال الشيخ : نعم هنا وجدت فيها الجماعة نفسه ؟.
    قال السائل : نعم في هذه البيئة التي يسودها يعني حق، وظهر الباطل أو ظهرت البدع، في هذه الحالة ما أدري ما قولكم ؟.
    قال الشيخ : يجب هنا استعمال الحكمة، هل الفئة الظاهرة القوية، هل إذا قاطعت الفئة المنحرفة عن الجماعة يعود الكلام السابق، هل ذلك ينفع الطائفة المتمسكة بالحق أم يضرها هذا من جهتهم ثم هل ينفع المقاطعين والمهجورين من الطائفة المنصورة أم يضرهم؟، هذا سبق الجواب في ذلك.
    يعني لا ينبغي أن نأخذ مثل هذه المور بالحماس والعاطفة، وإنما بالروِّيَةَ والأناة والحكمة، نحن مثلا هنا شذ واحد من هؤلاء خالف الجماعة، آآ يا غِيرَةَ الله هذا قاطعوه!، لا ارفقوا به، انصحوه، ارشدوه، ...إلخ، صاحبوه بده، فإذا يُؤسَ منه أولا ثم خُشي أن تسريَ عدواه إلى زيد وبكر ثانيا، حينئذ يقاطع إذا غلب على الرأي أن المقاطعة هي العلاج، وكما يقال: آخر الدواء الكي.
    غيره. بصورة عامة لا أنصح اليوم استعمال علاج المقاطعة أبدا، لأنه يضر أكثر مما ينفع وأكبر دليل الفتنة القائمة الآن في الحجاز، كلهم تجمعهم دعوة التوحيد ودعوة الكتاب والسنة، لكن لأن لبعضهم نشاطا خاصًّا إما في السياسة وإما في بعض الأفكار التي لا تعرف من قبل عن أحد من أهل العلم وقد يكون خطأ وقد يكون صوابا، فلا نتحمل أي شيء نسمعه من جديد وبخاصة إذا كان أمرا نكرا فيما يبدو لنا بادي الرأي رأسا مِنْحَاربُ، هذا خطأ يا أخي!، هذا خطأ؛ يعني تريد صديقا لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان، نحن نتمنى الإخوان المسلمين يكونوا معنا فقط على التوحيد حتى نكون معهم هم موش راضيين معنا حتى في العقيدة!، وبيقولوا إثارة الخلافات هذه يفرق الصف يفرق الجمع..إلخ، يا هذون الإخوان اللي انقسم عنهم جماعة وهم انقسموا عن جماعة الله أعلم هؤلاء معنا على طول الخط في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، لكن جاؤوا بشيء جديد فعلا بعضه خطأ وبعضه صواب، فلماذا ننشر بين بعضنا البعض الفرقة والتحزب والتعصب، بيما كنا كتلة صرنا كتلتين، صرنا كتلتين صاروا ثلاثة، صاروا سفريين، صاروا سروريين، ...إلخ، الله أكبر!، وما فرق بينهم شيء يستحق التفريق ما فيه خلاف في الأمور العظائم التي لا يمكن يتصور أن السلفيين يختلفون فيها، نحن نعلم جميعا أن الصحابة اختلفوا في بعض المسائل لكن المنهج كان واحدا، ولذلك فإذا أنت تصورت أن جماعة من أهل السنة والجماعة ومن الطائفة المنصورة شذ منهم أفراد نأخذهم بالرفق واللين ونحاول أن نحتفظ بهم مع الجماعة ولا نقاطعهم ولا نهجرهم، إلا إذا خشينا منهم خشية وهذه لا تظهر فورا يعني مجرد ما واحد أظهر رأي نشز فيه وشرد عن الجماعة، لا ينبغي فورا أن نقاطعه وأن نهجره، وإنما نتريث حتى لعل الله عزوجل يهدي قلبه أو يتبين لنا أن فصله هو الأولى.
    انتهى النقل من الأخ.
    وأحال النقل إلى "سلسلة الهوى والنور" أشرطة برقم: (511)، و(735)، و(666)، و(661).
    وذكر الأخ أن الحزبيين جعلوا هذه الفتاوى تحت عنوان: "الأغلاط الشائعة في قضايا الهجر" تعييراً لأهل السنة.
    وقد استغلّ بعض الحزبيين هذا الكلام في الدفاع عن الإخوان المسلمين وسفر الحوالي. وقد قرأت أيضاً بعض أقوال الشيخ الألباني رحمه الله فيه الحثّ على عدم الكلام في سلمان العودة وغير ذلك. فلعل هذه القتاوى كانت في بداية الأمر حيث خفيت على بعض العلماء أباطيل هؤلاء المبتدعة. ولكن البينات قد قامت، والرسائل قد نشرت في براهين انحرافات هؤلاء الحزبيين، ونحن نمشي على قاعدة أمئة الإسلام رحمهم الله.
    قال الإمام ابن القطان: فإنه ليس من لم يحفظ حجة على من حفظ. (كما في "عون المعبود"/1/ص 160/كتاب الطهارة/تخليل اللحية).
    وقال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله: ومن علم حجّة على من جهل. ("الروض الباسم"/1 / ص 142).
    وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومن علم حجة على من لم يعلم. ("فتح الباري" / تحت حديث (3585)).
    والحزبيون قد استغلوا فتاوى الشيخ الألباني رحمه الله هذه كعادة أعداء الدين قبلهم. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقد جرت قاعدة أهل البدع في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة الواحدة عن عالم من العلماء، ويبالغون في إشهارها، وإذاعتها فيما بينهم، ويجعلونها حجة لبدعتهم، ويضربون بها وجه من أنكر عليهم كما تجده في كتب الروافض من الروايات لكلمات وقعت من علماء الإسلام فيما يتعلق بما شجر بين الصحابة، وفي المناقب والمثالب، فإنهم يطيرون عند ذلك فرحا، ويجعلونه من أعظم الذخائر والغنائم اهـ. ("أدب الطلب" /ص35 /ص دار الكتب العلمية).
    وهذا نفس طريقة محمد بن عبد الله الريمي الملقب بـ: "الإمام" في كتابه "الإبانة" الطبعة الأولى والثانية حيث ذكر بعض ما يوافق هواه من أقوال العلماء يعير بها أهل السنة ويطعن في أعراضهم. وقد تم بتوفيق الله وحده ردّي عليه في كتاب "القطوف الدانية في كشف أباطيل "الإبانة" الطبعة الثانية (وبيان موافقتها لأفكار علي الحلبي الجانية)".
    وللشيخ الألباني رحمه الله عذره، وعلينا بيان الحق وكشف الدخان، ونقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله: شيخ الإسلام ابن تيمية حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك اهـ. ("مدارج السالكين" /2 / 32/دار الحديث).
    وقد كان عبد الجبار كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع، فلما عثر على خطأه قال: هذا الرجل كبير، ولكن الحق أكبر منه، اهـ. (نقله إلكيا الهراس، كما ذكره الشوكاني رحمه الله "إرشاد الفحول" /2 / ص813/مؤسسة الريان).
    وسأذكر خمسة عشر حكمة وفائدة في هجر المعاندين خلافاً لمن زعم أن فائدة الهجر محصور على علاج المعاندين فقط. وقبل ذلك سأسلك بعض تمهيدات مهمة دالة على خطأ من قال: (في العصر الحاضر ليس من الحكمة أبدا أن نقاطع الناس لسبب انحرافهم).
    فأقول بتوفيق الله وحده:

    الباب الأول: كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

    إن الشيخ الألباني رحمه الله عالم من علماء السنة في هذا الزمن، ولكنه كغيره ممن ليس بنبي أنه غير معصوم. والشيخ الألباني رحمه الله نفسه قال في رده على أحد المقلدين: ... ذلك لأنه يقدّس هذا القول نظراً لأنه صدر عن عالم من علماء المسلمين، وهذا العالم لا يتكلم بهوى أو جهل. وأنا أقول معه: لا يتكلم بهوى أو جهل. ولكن هل هو معصوم في اجتهاده الذي ابتعد فيه عن الجهل والهوى؟! ("التصفية والتربية"/ص21).
    فلا ينبغي تقليد العلماء على خطئهم، وإنما الحق موافقة الدليل، وهو اتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
    الشيخ الألباني رحمه الله نفسه يحثنا على اتباع الدليل لا تقليد العلماء مهما عظم قدرهم. وقد ساق في بداية كتاب "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" عدداً من أقوال العلماء فقال:
    1 - أبو حنيفة رحمه الله
    فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله. وقد روي عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها :
    1 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( ابن عابدين في " الحاشية " /1 / 63 ).
    2 - ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ) . ( ابن عابدين في " حاشيته على البحر الرائق "/ 6 / 293 ).
    وفي رواية : ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ). زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ).
    وفي أخرى : ( ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد ).
    3 - ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي ) . ( الفلاني في "الإيقاظ"/ ص 50 ).
    2 - مالك بن أنس رحمه الله.
    وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال :
    1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) . ( ابن عبد البر في "الجامع"/ 2 / 32 ).
    2 - ( ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) . ( ابن عبد البر في "الجامع"/ 2 / 91 ).
    3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خفّ الناس. فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع . ( مقدمة "الجرح والتعديل" /لابن أبي حاتم /ص 31 - 32 ).
    3 - الشافعي رحمه الله
    وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها :
    1 - ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي ) . ( "تاريخ دمشق" /لابن عساكر /15 / 1 / 3 ).
    2 - ( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) . ( الفلاني /ص 68 ).
    3 - ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت ) . وفي رواية: ( فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) . ( النووي في "المجموع"/ 1 / 63 ).
    4 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( النووي/1 / 63 ).
    5 - ( أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون : كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً ) . (الخطيب في "الاحتجاج بالشافعي"/ 8 /1 ).
    6 - ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في "الحلية"/ 9 /ص 107).
    7 - ( إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب ) . ( ابن عساكر بسند صحيح/ 15 / 10 / 1 ).
    8 - ( كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) . ( ابن عساكر بسند صحيح/ 15 / 9 / 2 ).
    9 - ( كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني ) . ( ابن أبي حاتم/ 93 - 94 ).
    4 - أحمد بن حنبل رحمه الله
    وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها حتى ( كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي ) ولذلك قال :
    1 - ( لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ) . ( ابن القيم في "إعلام الموقعين" /2 / 302 ).
    وفي رواية : ( لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير )
    وقال مرة : ( الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير ) . ( أبو داود في "مسائل الإمام أحمد"/ ص 276 - 277 ).
    2 - ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) . ( ابن عبد البر في "الجامع"/ 2 / 149 ).
    3 - ( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) . ( ابن الجوزي في "المناقب"/ص 182 ).
    تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مبايناً لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول : ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾. وقال : ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾.
    قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق. فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع. ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه.
    (انتهى النقل من كتاب الشيخ الألباني رحمه الله "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"/ص46-54).
    ولهذا نقول كما قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
    قال الإمام الحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب رحمه الله في تفسير هذه الآية: حجة بينة في نفي التقليد؛ لأن الهاء في (دونه) لا تخلو: إما أن تكون راجعة على الرب أو على التنزيل، وقد نهى عن اتباع غيره كما ترى. ("نكت القرآن الدالة على البيان"/1/ص407/دار ابن عفان).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في معنى الآية: فأمر باتباع المنزل منه خاصة واعلم أن من اتبع غيره فقد ابتع من دونه أولياء. ("إعلام الموقعين"/1/ص 48).
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).
    وقال الإمام الوادعي رحمه الله: اسمعوا اسمعوا فتوى أكبر واحد عندي تخالف الدليل لا قيمة لها. وفتوى أصغر منكم و معه دليل على العين والرأس حتى لا تخوفني بفتوى فلان ولا فلان. بل أنا خصم فلان ما كان الذي يخرج فتاوى زائغة فأنا خصمه. ("غارة الأشرطة"/1/ص46/مكتبة صنعاء الأثرية).

    الباب الثاني: تعريف الهجر

    الهجر لغة: الترك والبعد والمفارقة.
    قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: الهجر والهجران مفارقة الانسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب، قال تعالى: ﴿واهجروهن في المضاجع﴾ كناية عن عدم قربهن، وقوله تعالى: ﴿إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾ فهذا هجر بالقلب أو بالقلب واللسان. وقوله: ﴿واهجرهم هجرا جميلا﴾ يحتمل الثلاثة ومدعو إلى أن يتحرى أي الثلاثة إن أمكنه مع تحرى المجاملة، وكذا قوله تعالى: ﴿واهجرني مليا﴾ وقوله تعالى: ﴿والرجز فاهجر﴾ فحث على المفارقة بالوجوه كلها.
    والمهاجرة في الاصل مصارمة الغير ومتاركته، من قوله عز وجل: ﴿والذين هاجروا وجاهدوا﴾ وقوله: ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم﴾ وقوله: ﴿ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله﴾ . ﴿فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله﴾ فالظاهر منه الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمن هاجر من مكة إلى المدينة، وقيل: مقتضى ذلك هجران الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا، وتركها ورفضها. وقوله: ﴿إنى مهاجر إلى ربي﴾ أي تارك لقومي وذاهب إليه.
    ("المفردات في غريب القرآن"/للأصفهاني/ص514-515/ط. المكتبة التوفيقية).
    وقال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله: فنظرنا في موارد " هـ ج ر " في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة : ضد الوصل .
    ما لا ينبغي من القول .
    مجانبة الشيء ، ومنه الهجرة .
    هذيان المريض .
    انتصاف النهار .
    الشاب الحسن .
    الحبل الذي يشد في حقو البعير ثم يشد في أحد رسغيه .
    ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو: البعد عن الشيء. فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصحبة ، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب ، ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه ، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام ، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف . والشاب الحسن قد بعد عن العاب ، والحبل الذي يشد به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه . وإذا ثبت هذا ، وكان مرجع الجميع إلى البعد.
    ("أحكام القرآن"/ لابن العربي/2/ص 339).
    بهذا البيان فهمنا إن شاء الله معنى الهجر في الشرع.

    الباب الثالث: تحريم هجر الأخ فوق الحد الشرعي

    إن الله تعالى قد أمر عباده بالتآخي والتحابّ والتعاون، مع مجانبة أسباب الضغائن والفرقة والتباغض. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 9-12].
    فأمرنا الله عز وجل من فوق عرشه بالإصلاح، ونصرة المظلوم، والرجوع إلى شريعة الله، والعدل، والأخوة، والتقوى، والاحترام وعدم سخرية الإخوة، وعدم اللمز، ولا التنابز بالألقاب، واجتناب الظنون العارية عن الدليل القوي، وعدم التجسس، وعدم الغيبة.
    وأمرنا بإفشاء السلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم». (أخرجه مسلم (54)).
    ووعد المتسابقين في ذلك بعظيم الفضائل. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إن أولى الناس بالله [ تعالى ] من بدأهم بالسلام». (أخرجه أبو داود (5197) وغيره بسند صحيح).
    قال المناوي رحمه الله: (إن أولى الناس بالله) أي من أخصهم برحمته وغفرانه والقرب منه في جنانه من الولي القرب ( من بدأهم بالسلام ) أي أقربهم من الله بالطاعة من بدأ أخاه المسلم بالسلام عند ملاقاته لأنه السابق إلى ذكر الله والسلام تحية المسلمين وسنة المرسلين. قال في "الأذكار" : وينبغي لكل أحد من المتلاقيين أن يحرص على أن يبتدىء بالسلام لهذا الحديث. ("فيض القدير" /رقم (2248)).
    وأمرنا برد التحية بمثلها أو أحسن منها. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86].
    بل أمرنا الله باختيار حسن الكلام مع الإخوة فقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». (أخرجه البخاري (6018) ومسلم (47)).
    فإذا حصل شيء من مشاكل بين الإخوة التي هي من مقتضى البشرية، لم يحل لهم التهاجر فوق ثلاثة أيام.
    عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». (أخرجه البخاري (6077) ومسلم (2560)).
    قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال، وإباحتها في الثلاث الأول بنص الحديث، والثاني بمفهومه. قالوا: وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة ليذهب ذلك العارض. وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم. ودليل الخطاب قوله صلى الله عليه و سلم: «يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا». وفي رواية: «فيصد هذا ويصد هذا» هو بضم الصاد. ومعنى يصد: يعرض، أي: يوليه عرضه بضم العين وهو جانبه. والصد بضم الصاد وهو أيضا الجانب والناحية. قوله صلى الله عليه و سلم: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» أي: هو أفضلهما. وفيه دليل لمذهب الشافعي ومالك ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة ويرفع الإثم فيها ويزيله. وقال أحمد وابن القاسم المالكي: إن كان يؤذيه لم يقطع السلام هجرته. قال أصحابنا: ولو كاتبه أو راسله عند غيبته عنه هل يزول إثم الهجرة؟ وفيه وجهان أحدهما: لا يزول لأنه لم يكلمه. وأصحهما يزول لزوال الوحشة والله اعلم. قوله صلى الله عليه و سلم: «لا يحل لمسلم» قد يحتج به من يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشرع، والأصح أنهم مخاطبون بها، وإنما قيد بالمسلم لأنه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به. ("شرح النووي على مسلم"/16/ص117-118).
    وتوعد من جاوز الحدّ بالخسارة.
    عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا. إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا». (أخرجه مسلم (2565)).
    قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وفيه تعظيم ذنب المهاجرة والعداوة والشحناء، لأهل الإيمان وهم الذين يأمنهم الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم المصدقون بوعد الله ووعيده المجتنبون لكبائر الإثم والفواحش. والعبد المسلم من وصفنا حاله ومن سلم المسلمون من لسانه ويده، فهؤلاء لا يحل لأحد أن يهجرهم ولا أن يبغضهم، بل محبتهم دين وموالاتهم زيادة في الإيمان واليقين. وفي هذا الحديث دليل على أن الذنوب بين العباد إذا تساقطوها وغفرها بعضهم لبعض أو خرج بعضهم لبعض عما لزمه منها سقطت المطالبة من الله - عز و جل - بدليل قوله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث حتى يصطلحا فإذا اصطلحا غفر لهما. ("الاستذكار"/8/ص294).
    وقال القرطبي رحمه الله: ومقصود هذا الحديث: التحذير من الإصرار على بغض المسلم ومقاطعته ، وتحريم استدامة هجرته ومشاحنته ، والأمر بمواصلته ، ومكارمته . ("المفهم"/21/ص85).
    ثم إن الإنسان لا يسلم من الأخطاء والزلات والذنوب والسيئات، فعلى كل مسلم أن ينصح أخاه ليرجع إلى الحق والصواب، ولا يتركه في خطوات الشيطان لأنها تنتهي بصاحبها إلى البوار. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].


    الباب الرابع: شرعية التدرج في زجر مرتكب الباطل

    ثم اعلم أن أهل السنة والجماعة جميعا يؤمنون بشرعية الرفق. قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران : 159]، وقال سبحانه: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه : 43 ، 44]، وقال جل ذكره: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة : 83]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل : 125]، وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء : 53]، وقال جل وعلا: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت : 34 ، 35]
    وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه ». (أخرجه مسلم /(2594)/دار السلام).
    أهل السنة يؤمنون بذلك ويحثون الناس عليه.
    ويعلمون أن التدرج في النصائح مهمّ، كما أن التدرج في دواء المريض مهمّ.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأما المناظرة فتقسم إلى محمودة ومذمومة والمحمودة نوعان والمذمومة نوعان وبيان ذلك أن المناظر إما أن يكون عالماً بالحق، وإما أن يكون طالباً له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له وهذا الثالث هو المذموم وأما الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته التي تحمد أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق أو تقطعه أو تكسره إن كان معاندا غير طالب للحق ولا متبع له أو توقفه وتبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه على الحق وقصده الحق . قال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل: 125).
    فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إما أن يكون طالبا للحق راغبا فيه محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال، وإما أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن.
    فلمناظرة المبطل فائدتان، أحدهما: أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق. الثانية: أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج.
    (انتهى من "الصواعق المرسلة"/2/ص157-158).
    وعن أبي صالح السمان رحمه الله قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره. فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى. فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد. ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان». (أخرجه البخاري (509) ومسلم (505)).
    هذا دليل على إنكار المنكر مع التدرج. قال أصحاب الشافعي : يدفعه دفع الصائل بالأسهل فالأسهل ، ويزيد بحسب الحاجة ، وإن أدى إلى قتله فمات منه فلا ضمان فيه كالصائل . ("فتح الباري"/لابن رجب/3/ص 335).
    هكذا إذا رأيت شخص تعاطى معصية فانهه عنها بالأسهل فالأسهل، فإن عاند الحق بعض وضوح البينات فاتركه، وقد قال الله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ [النجم: 29، 30].
    وعن سعيد ابن جبير: أن قريباً لعبدالله بن مغفل خذف قال: فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الخذف وقال: «إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» قال: فعاد فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنه ثم تخذف لا أكلمك أبدا. (أخرجه البخاري (5479) ومسلم (1954)).
    هذا هو الحق، وهذه هي الحكمة: وضع الشيء موضع، وإعطاء كل أحد ما يستحقه.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلاً وصواباً. وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها. فمن وضع العمامة على الرأس والنعل في الرجل والكحل في العين والزبالة في الكناسة فقد وضع الشيء موضعه، ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما. ("شفاء العليل"/ص 180).
    فطريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، فمن اتبعها فهو أسلم وأعلم وأحكم، في أي عصر كان، وليس كما قال القائل: (في العصر الحاضر ليس من الحكمة أبدا أن نقاطع الناس لسبب انحرافهم).
    قال الإمام مالك رحمه الله: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. (كما في "المبسوط" لإسماعيل بن إسحاق/نقله القاضي عياض رحمه الله في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"/2/ص88).
    وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في شأن سبيل السلف رحمهم الله: ومن تعدى سبيلهم عامداً ضلّ ، ومن تعداه مجتهداً زلّ. ("جامع بيان العلم وفضله"/3/ص434).
    وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ومن سلك غير طريق سلفه أفضت به إلى تلفه. ومن مال عن السنة فقد انحرف عن طريق الجنة. ("تحريم النظر في كتب الكلام"/لابن قدامة/ص 71).
    فإذا حصل فتن واختلاف، كل يرجع إلى الكتاب والسنة على فهم صدر هذه الأمة، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور.
    وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن جلوس على بساط : «إنها ستكون فتنة» قالوا: كيف نفعل؟ قال : فرد يده إلى البساط فأمسك به فقال : «يفعلون هكذا». قال : وذكر لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : «إنها ستكون فتنة»، ولم يسمعه كثير من الناس. فقال معاذ بن جبل : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : وما قال ؟ قال : يقول : «إنها ستكون فتنة». قالوا: فكيف بنا يا رسول الله ؟ وكيف نصنع ؟ قال : «ترجعون إلى أمركم الأول». (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" برقم (69) والطحاوي في "بيان مشكل الأثر" برقم (221)/سنده صحيح).
    فأهل السنة يتدرجون في إلقاء النصائح راجين رجوع المخطئ إلى الحق، ليس كما يظنه بعض الناس.
    قال الإمام ابن النحاس رحمه الله: فإن لم يرجع بالوعظ والنصح والتذكير، وعلم منه الإصرار على المعصية ، والاستهزاء وقلة المبالاة، والتصريح بعدم الرجوع، فيغلظ له الكلام ويخشن عليه ويسبّه من غير فحش، مثل أن يقول له: يا فاسق، يا جاهل، يا أحمق، يا من لا يخاف الله، يا ظالم نفسه، يا من ليس له مروءة، ونحو هذا من الكلام، ويراعي الصدق في ذلك، فإن مثل هذا الكلام ليس عليه فيه شيء إذ هو صدق في الحقيقة. وليحذر أن يسترسل به الغضب إلى الخروج إلى الكلام بما لا يجوز له مما هو كذب في نفس الأمر، أو باطل أو فاحش ونحو هذا. واعلم أن هنا دقيقة عظيمة مهمة –قلّ من ينتبه لها- وهو أنه يجب أن يكون قصده بتغليظ الكلام وتخشينه رجوع العاصي عن تلك المعصية لا الانتصار نفسه، ... إلخ. ("تنبيه الغافلين"/ص52-53).
    وقال رحمه الله: فإذا كان الفاعل يقدم على الفعل مع علمه أنه منكر، أو بعد تعريفه أنه منكر كالذي يواظب على الغيبة، أو أكل المكس أو الربا أو الرشوة مع علمه أنه حرام، ولكن لا يعلم رتبة تحريمه ولا ما جاء فيه من الوعيد والتهديد، فهذا ينبغي أن يوعظ ويخوف بالأخبار الواردة في تلك المعصية، ويتدرج الكلام معه تدريجاً بشفقة ولطف من غير تعنيف ولا غضب ولا ازدراء، ولكن ينظر إليه بعين الرحمة، ... إلخ. ("تنبيه الغافلين"/ص50).
    فإذا جانب الرجل الحق، لا تنبغي لنا مقاطعته مباشرة بدون تنبيه، فليس من الحكمة هجر كل من انحرف بلا نصيحة ولا تنبيه. فنحن مع الشيخ الألباني رحمه الله في هذا.
    ولكن السروريين ومن نحا نحوهم لم يريدوا هذا، بل هم يقصدون عدم الهجر تماماً ونفي التحذير جملة من المبتدعة المصريين على الباطل المعاندين للحق بعد إقامة الحجج، وهم يرومون إسكات أهل السنة عن أباطيلهم وإفسادهم للأمة فلا أحد ينذر الناس من شرور جنود الشيطان.
    فكلامنا في صميم هذا الكتاب هو موقف أهل السنة ممن قد إقيمت عليهم الحجة فعاند الحق وأصر على الباطل، لا على من لم تبلغهم النصائح.


    الباب الخامس: من أدلة هجر أهل الأهواء والتحذير منهم

    فقد دل الكتاب والسنة على التحذير من المبطلين وهجرهم. قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه﴾ [آل عمران/7].
    عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». (أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665)).
    وقال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].
    قال ابن العربي رحمه الله: وهذا دليل على أن مجالسة أهل المنكر لا تحل. ("أحكام القرآن"/لابن العربي/3/ص433).
    وقال القرطبي رحمه الله: ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. ("الجامع لأحكام القرآن"/7/ص12).
    وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غيوة تبوك: ... ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. (أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769)).
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجرانهم لما خاف منهم النفاق. ("جامع العلوم والحكم"/الحديث الخامس والثلاثون).
    وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: فقول عبادة: (لا أساكنك بأرض أنت بها) وقول أبي الدرداء على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم برأيه وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي، وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه ولم يسمع منه ولم يطعه، وخاف أن يضل غيره، وليس هذا من الهجرة المكروهة. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث حتى تاب الله عليه؟ وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه. وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة. ("التمهيد"/4 /ص86-87).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء . أحدهما : أن يكون الرجل مظهرا للفجور، مثل : الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر، وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(). رواه مسلم . وفي "المسند" و"السنن" عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال : أيها الناس، إنكم تقرؤون القرآن وتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ [ المائدة : 105 ] وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(). فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك . فهذا معنى قولهم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا، فإن هذا يستر عليه، لكن ينصح سرا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة .
    النوع الثانى : أن يستشار الرجل فى مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك، فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قالت له فاطمة بنت قيس : قد خطبنى أبو جهم ومعاوية، فقال لها : «أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له»(). فبين النبي صلى الله عليه وسلم الخاطبين للمرأة . فهذا حجة لقول الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر ! اذكروه بما فيه يحذره الناس، فإن النصح فى الدين أعظم من النصح فى الدنيا، فإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم نصح المرأة فى دنياها، فالنصيحة فى الدين أعظم .
    وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه، بين أمره له لتتقى معاشرته. وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله . وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان : مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى»()، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفى المسلمين ضرره فى دينهم ودنياهم، ويسلك فى هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه . ("مجموع الفتاوى"/28/ص219-221).
    فالأدلة واضحة، والحكم المبني عليها محكم صالح إلى قيام الساعة، ومنهج السلف مناسب لهذه الأمة إلى يوم القيامة.
    قال فضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله: يزعم بعض الناس أنَّ منهج أهل السّنة والجماعة لم يعد مناسبًا لهذا العصر، مستدلّين بأنّ الضّوابط الشرعيّة التي يراها أهل السنة والجماعة لا يمكن أن تتحقَّق اليوم . الذي يرى أن منهج السلف الصالح لم يعد صالحًا لهذا الزَّمان؛ هذا يعتبر ضالاً مضلاً؛ لأن منهج السلف الصالح هو المنهج الذي أمرنا الله باتباعه حتى تقوم الساعة : يقول صلى الله عليه وسلم : «فإنه مَن يعش منكم؛ فسوف يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ»() ، وهذا خطاب للأمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يدلّ على أنه لا بدّ من السّير على منهج السّلف، وأن منهج السّلف صالحٌ لكلّ زمان ومكان .
    والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [ التوبة : 100 . ] : ﴿اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾: يشملُ الأمة إلى أن تقوم الساعة؛ فالواجب عليها أن تتابع منهج السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والإمام مالك بن أنس يقول : لا يُصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها.
    فالذي يريد أن يعزل الأمة عن ما فيها، ويعزل الأمة عن السّلف الصّالح؛ يريد الشّرّ بالمسلمين، ويريد تغيير هذا الإسلام، ويريد إحداث البدع والمخالفات؛ هذا يجب رفضُهُ ويجب قطع حجَّتِه والتّحذير من شرّه؛ لأنه لا بدّ من التمسُّك بمنهج السّلف والاقتداء بالسّلف، ولا بدّ من السّير على منهج السّلف، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا .
    فالذي يريد قطع خلف الأمة عن سلفها مفسد في الأرض، يجب أن يُرفَضَ قوله، وأن يردّ قوله، وأن يحذر منه، والذين عرف عنهم هذا القول السيئ هم الشيعة ومَن وافقهم من المضلِّلين؛ فلا عبرة بهم.
    (انتهى من "فتاوى الشيخ الفوزان"/1/ص213-214).

    الباب السادس: شرعية التحذير من أهل الأهواء باقية إلى يوم القيامة

    مما يقوّي أن شرعية التحذير من المعاندين وهجرانهم باقية إلى يوم القيامة: أقوال أئمة الدين في كل زمان الدالة على ما دلت عليه الأدلة السابقة. منها ما يلي:
    عن سليمان بن يسار، أن رجلا من بني تميم يقال له: صبيغ بن عسل قدم المدينة، وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث له، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ، فقال عمر: وأنا عمر عبد الله، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي. ("الإبانة الكبرى" /لابن بطة/2/ص 309).
    وفي رواية: ثم كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا أن لا تجالسوه. قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه. ("الإبانة الكبرى"/لابن بطة /1/ص 350).
    القصة ثابتة.
    قال الإمام الآجري رحمه الله بعد روايتها: فإن قال قائل : فمن يسأل عن تفسير: ﴿والذاريات ذروا فالحاملات وقرا﴾ استحق الضرب ، والتنكيل به والهجرة؟ قيل له : لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة ، ولكن لما تأدى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون ، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه ، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به ، وتطلب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به ، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه ، سأل عمر الله تعالى أن يمكنه منه ، حتى ينكل به ، وحتى : يحذر غيره ؛ لأنه راع يجب عليه تفقد رعيته في هذا وفي غيره ، فأمكنه الله تعالى منه. ("الشريعة"/للآجري/1/ص166).
    وعن ابن عباس قال : لا تجالس أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. ("الشريعة"/للآجري/رقم (130)/حسن).
    وعن يحيى بن يعمر رحمه الله في شأن القدرية قال : ... قال ابن عمر: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم ذكر حديث جبريل عليه السلام. (أخرجه مسلم (8)).
    وعن سعيد ابن جبير أن قريباً لعبدالله بن مغفل خذف قال: فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الخذف وقال: «إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» قال: فعاد فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عنه ثم تخذف لا أكلمك أبدا. (أخرجه البخاري (5479) ومسلم (1954)).
    قال أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله: وقول عبدالله للخاذف بعد التحذير : ( لا أُكلِّمك أبدًا ) ؛ دليلٌ على هجران من خالف الشرع على علمٍ تأديبًا لهم، وزجرًا، حتى يرجعوا. والله تعالى أعلم. ("المفهم"/16/ص141).
    وقال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث، فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه. وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأدب. وفيه تغيير المنكر. ("فتح الباري"/9/ص608).
    وعن أبي قلابة رحمه الله قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم. (أخرجه الآجري رحمه الله/ "الـشريعة" /باب ذم الجدال والخصومات في الدين (ص57)/دار الكتب العلمية).
    فمن عمل باطلاً سرّاً ينصح سرّاً ولا يجوز بثّها. وإذا عملها جهاراً فهو الذي جنى على نفسه. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». (أخرجه البخاري (2447) ومسلم (2580)).
    الشاهد هنا قوله: «ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».
    قال الإمام النووي رحمه الله: وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالاذى والفساد فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت. أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة. وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه. ("المنهاج"/16 /ص351/دار المعرفة).
    وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: فقد استثنى من هذا الباب –باب تحريم الغيبة- من لا غيبة فيه من الفساق المعلنين المجاهرين وأهل البدع المضلين. ("الاستذكار"/8/ص563).
    وقال أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: قال لي عمي وسألته يعني أحمد بن حنبل عن الكرابيسي فقال: مبتدع. ("تاريخ بغداد"/8 /ص66).
    وقال أيضاً أبو مزاحم موسى بن عبيد الله: قال لي عمي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: أمر المتوكل بمسألة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء. قال أبو مزاحم فسأله عمي فأجابه فذكر جماعة ثم قال: وسألته عن يعقوب بن شيبة فقال: مبتدع صاحب هوى. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: إنما وصفه أحمد بذلك لأنه كان يذهب إلى الوقف في القرآن. ("تاريخ بغداد"/14 /ص281).
    وقال الإمام أحمد رحمه الله في شأن الحارث المحاسبي: لا يغرّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سـوء ذاك لا يعرفه إلا مـن خبره، لا تكلمـه، ولا كرامة لـه، كل من حدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلـس إليـه؟! لا، ولا كـرامة ولا نُعْمَى عـين، وجعل يقول: ذاك، ذاك. ("طبقات الحنابلة"/1/ص 234 ).
    وقال الإمام البغوي رحمه الله: فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء البدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتاً، فلا يسلم عليه إذا لقيه ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته ويراجع الحق. ("شرح السنة" /للبغوي/1/ص224/ط. المكتب الإسلامي).
    وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات: ... وترك المراء والجدال في الدين، وترك كل ما أحدثه المحدثون اهـ. ("العقيدة القيروانية"/مقدمة الرسالة/ص13/دار العقيدة).
    وقال الإمام الصابوني رحمه الله: جملة من آداب أصحاب الحديث: ... ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ... إلخ. ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث"/ ص107/ط. دار المنهاج).
    وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء اهـ. ("الإبانة" /باب في إبانة قول أهل الحق والسنة/ص53/مكتبة صنعاء).
    وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة اهـ. ("لمعة الاعتقاد"/شرح ابن العثيمين/ص97/دار الآثار).
    وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: وقال بعضهم : إن من الناس من يولع بالخلاف أبدا حتى إنه يرى أن أفضل الأمور أن لا يوافق أحدا ولا يجامعه على رأي ولا يواتيه على محبة ومن كان هذا عادته فإنه لا يبصر الحق ولا ينصره ولا يعتقده دينا ومذهبا إنما يتعصب لرأيه وينتقم لنفسه ويسعى في مرضاتها حتى إنك لو رمت أن ترضاه وتوخيت أن توافقه على الرأي الذي يدعوك إليه تعمد لخلافك فيه ولم يرض به حتى ينتقل إلى نقيض قوله الأول فإن عدت في ذلك إلى وفاته عاد إلى خلافك قال أبو سليمان فمن كان بهذه الحال فعليك بمباعدته والنفار عن قربه فإن رضاه غاية لا تدرك ومدى شأوه لا يلحق. ("العزلة"/للخطابي/ص 149).
    فتحذير السلف من أعيان المبتدعة كثير، وهذا هو منهج السلف، فمن اختار غيره ضل السبيل. وقد قال الإمام محمد بن سيرين رحمه الله: كانوا يرون أنهم على الطريق ما داموا على الأثر. ("جامع بيان العلم وفضله"/لابن عبد البر رحمه الله/1/ص 783/سنده صحيح).
    وهذا من أصول أهل السنة والجماعة.
    قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء، والجدال، والخصومات في الدين اهـ ("أصول السنة للإمام أحمد"/شرح الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/ص7/ط. دار الإمام أحمد).
    والسنة هي الإسلام، فمن تعمد مخالفة أصول هذا الدين فقد ضلّ. قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: كل ما كان من أصول الدين فالأدلة عليها ظاهرة باهرة والمخالف فيه معاند مكابر والقول بتضليله واجب والبراءة منه شَرْعٌ. ("قواطع الأدلة" /5/ص13).
    وعلى هذا سلك الأئمة جيلا بعد حيل.
    قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: وقال القاضي أبو الحسين في "التمام": لا تختلف الرواية في وجوب هجران أهل البدع وفساق الملة. وقال في "الآداب": أطلق كما ترى ، وظاهره أنه لا فرق بين المجاهر وغيره في المبتدع والفاسق. وقال القاضي في "الأمر بالمعروف": لا فرق بين ذي الرحم والأجنبي وأرحامه لم يجز هجره وإن كان غيره فهل يجوز هجره ؟ على روايتين ، وقال ولده أبو الحسين أيضا ، قال في "الآداب": وكلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في مواضع، وهو أولى ، انتهى . قلت : وهو الصواب. ("الفروع"/لابن مفلح /3 /ص190-191).
    وقال رحمه الله: ونقل حنبل : إذا علم من الرجل أنه مقيم على معصية لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع ، وإلا كيف يبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرا عليه ، ولا جفوة من صديق . ("الفروع"/لابن مفلح /3 /ص192).
    قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: ونقل المروذي –يعني عن الإمام أحمد-: يكون في سقف البيت الذهب يجانب صاحبه ؟ يجفى صاحبه. وقد اشتهرت الرواية عنه في هجره من أجاب في المحنة إلى أن مات ، وقيل : يجب أن ارتدع به وإلا كان مستحباً ، وقيل : يجب هجره مطلقاً إلا من السلام بعد ثلاثة أيام وقيل : ترك السلام على من جهر بالمعاصي حتى يتوب منها فرض كفاية ، ويكره لبقية الناس تركه ، وظاهر ما نقل عن أحمد ترك الكلام والسلام مطلقا .
    قال أحمد في رواية الفضل، وقيل له : ينبغي لأحد أن لا يكلم أحداً ؟ فقال : نعم إذا عرفت من أحد نفاقاً فلا تكلمه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على الثلاثة الذين خلفوا فأمر الناس أن لا يكلموهم. قلت : يا أبا عبد الله كيف يصنع بأهل الأهواء؟ قال: أما الجهمية والرافضة فلا ، قيل له : فالمرجئة قال : هؤلاء أسهل إلا المخاصم منهم فلا تكلمه. ونقل الميموني نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا بالمدينة حين خاف عليهم النفاق ، وهكذا كل من خفنا عليه . وقال في رواية القاسم بن محمد: أنه اتهمهم بالنفاق ، وكذا من اتهم بالكفر لا بأس أن يترك كلامه . ("الآداب الشرعية" /ص289).
    -ثم ذكر آثاراً كثيرة جدا في هذا الباب، ثم قال:-
    وكلام الشيخ موفق الدين السابق يقتضي أن لا فرق بين الداعية إلى البدعة وغيره ، وظاهره أنه إجماع السلف ، وذكر غيره في عيادة المبتدع الداعية روايتين ، وترك العيادة من الهجر. واعتبر الشيخ تقي الدين المصلحة ، وذكر أيضا أن المستتر بالمنكر ينكر عليه ، ويستر عليه ، فإن لم ينته فعل ما ينكف به إذا كان أنفع في الدين ، وإن المظهر للمنكر يجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك .
    ("الآداب الشرعية" /ص294).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر،... إلخ. ("مجموع الفتاوى"/24 /ص174-175).
    وقال العلامة أبو الطيب صديق بن حسن خان القنوجي رحمه الله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة. وكل محدثة في الدين بدعة. وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم في أصول الدين وفروعه، ... إلخ ("قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" /تحقيق شيخنا أبي عمرو الحجوري حفظه الله/ ص178/ط. مكتبة صنعاء الأثرية).
    وقال المناوي رحمه الله: فإن هجرة أهل الأهواء والبدع واجبة على مرّ الأوقات ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق. ("مرقاة المفاتيح"/14/ص326-327).
    وهو القول الراجح لأئمة هذا العصر.
    قال فضيلة الشيخ النجمي رحمه الله: أن من أهل السنة في هذا العصر من يكون ديدنه وشغله الشاغل تتبع الأخطاء والبحث عنها سواء كانت في المؤلفات أو الأشرطة، ثم التحذير ممن حصل منه شيء من ذلك. وأقول: إن هذا منقبة، وليست مذمة، فلقد كانت حماية السنة منقبة عند السلف. نعم، عند الشباب السلفي غيرة إذا وجدوا مخالفة للسنة في مؤلف أو في شريط، أو رأوا من أهل السنة من يمشي مع المبتدعة بعد النصح أنكروا ذلك ونصحوه أو طلبوا من بعض المشايخ نصحه، فإذا نصح ولم ينتصح هجروه، وهذه منقبة لهم، وليست مذمة لهم. ("الفتاوى الجلية"/1/232-234/دار المنهاج).

    الباب السابع: نقل الإجماع على هجران المبتدعة والتحذير منهم

    إنّ تواتر أقوال السلف في شرعية هجر المعاندين للحق يشعر أنها محل الإجماع، كما حكاه غير واحد من الأئمة رحهم الله.
    قال الإمام ابن بطة رحمه الله: ... مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة – إلى قوله:- ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئا مما ذكرناه وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه ونصره وذب عنه وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة. ("الـشرح والإبانة" /لابن بطة العنكبري/ص65/دار الآثار).
    وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمـن الصابوني - رحمه الله - حاكياً مذهب السلف أهل الحديث: واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث" /ص 114/دار المنهاج).
    وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري منهم، وهو الرافض والخوارج والمرجئة والقدرية، وترك الاختلاط بهم لما روي عن النبي –رضي الله عنه- في ذلك، وما أمر به من الإعراض عنهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام : 68] إلخ. ("رسالة إلى أهل الثغر"/ص307-309/مكتبة العلوم والحكم).
    وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث الغيبة: تباح الغيبة لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب، ... الرابع: تحذير المسلمين من الشر وذلك من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع بل واجب صوناً للشريعة. ("المنهاج"/ 16 / ص 379/مكتبة المعارف).
    فإذا كان هجر أهل الأهواء محل إجماع السلف لا يحل الخروج عنه. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا قال : ﴿ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ [ النساء : 115 ] . قال العلماء : من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه. ("مجموع الفتاوى"/7/ص173).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. ("مجموع الفتاوى/20/ص10).
    وقال رحمه الله: والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه –إلى قوله:- وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره. ("مجموع الفتاوى"/19/ص270).
    وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: الإجماع على ضربين: أحدهما: إجماع الخاصة والعامة، وهو مثل: إجماعهم على القبلة أنها الكعبة، وعلى صوم رمضان، ووجوب الحج، والوضوء، والصلوات وعددها وأوقاتها، وفرض الزكاة، وأشباه ذلك.
    والضرب الآخر: هو إجماع الخاصة دون العامة، مثل ما اجتمع عليه العلماء من أن الوطء مفسد للحج، وكذلك الوطء في الصوم مفسد للصوم، وأن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وأن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وأن لا وصية لوارث، وأن لا يقتل السيد بعبده، وأشباه ذلك. فمن جحد الإجماع الأول استتيب، فإن تاب وإلا قتل، ومن رد الإجماع الآخر فهو جاهل يعلم ذلك، فإذا علمه ثم رده بعد العلم، قيل له: أنت رجل معاند للحق وأهله. ("الفقيه والمتفقه"/1/ص 434/مكتبة التوعية الإسلامية).


    الباب الثامن: من حِكَم ومصالح تحذير أهل الأهواء وهجرهم

    اعلم أن مصلحة هجر المعاندين لا تنحصر على كونه دواء للمهجور كما ظنه كثير من الناس. بل هناك حِكم أخرى ومقاصد أخرى لشرعية الهجر مهمة، كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله.
    فالفائدة الأولى للهجر: ترديع المنحرف حتى ينزع عن انحرافه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، فإنه يستحق أن يهجر، ولا يسلم عليه تعزيراً له على ذلك، حتى يتوب . والله سبحانه أعلم . ("مجموع الفتاوى"/23/ص252).
    وقال الإمام ابن مفلح رحمه الله: يسنّ هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية، قال أحمد في رواية حنبل : إذا علم أنه مقيم على معصية وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع ، وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرا ولا جفوة من صديق ؟ ("الآداب الشرعية" /ص289).
    وقال السندي رحمه الله: وكذا إذا كان الباعث أمراً دينياً فليهجره حتى ينزع من فعله وعقده ذلك، فقد أذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هجران الثلاثة الذين تخلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله. ("حاشية السندي على ابن ماجه"/1 /ص38).
    وقال شمس الحق آبادي رحمه الله: فإن هجرة أهل الأهواء والبدع واجبة على مرّ الأوقات ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق. ("عون المعبود"/13/ص174).
    والفائدة الثانية لشرعية الهجر: العقوبة. لأن الذنب له عقوبة شرعية، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم﴾ أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ﴿نكالا من الله﴾ أي: تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك ﴿والله عزيز﴾ أي: في انتقامه ﴿حكيم﴾ أي: في أمره ونهيه وشرعه وقدره. ("تفسير القرآن العظيم"/3 /ص110).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزاً. والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام. ("منهاج السنة النبوية"/5/ص122).
    وهي ردٌّ على كثير من الناس الذين يزعمون حصر شرعية الهجرة على الدواء لا غير. فهناك فرق بين العقوبة والدواء، مع أنه قد يتضمن بعضه بعضاً.
    وقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله) هذه الفائدة الثالثة لشرعية الهجر، وهي: ردع المنحرفين أمثاله لينكفّ عن ذلك الفعل. وقد لا يكون الرجل تلميذاً لهذا المنحرف ولكن عنده انحراف مثل انحرافه، فإذا رأى ما أصاب قرينه من العقوبة الشرعية ارتدع بإذن الله. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 65، 66]
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم. ("الجامع لأحكام القرآن"/1/ص443).
    وقال رحمه الله: ﴿وما خلفها﴾ لمن يعمل مثل تلك الذنوب. ("الجامع لأحكام القرآن" /1/ص443).
    والفائدة الرابعة: موعظة للمتقين الأبرياء لئلا يفعلوا فعل هذا المنحرف. والدليل الآية السابقة. قال الإمام البغوي رحمه الله: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم. ("معالم التنزيل" /ص105).
    والفائدة الخامسة: لا بد من إظهار هجره والتحذير منه ليعلم الناس أنه صاحب الانحراف أو الجناية فلا يقربوا منه لئلا تجري عليهم سموم هذا الرجل فيتبعوه، فيغتر المنحرف بكثرة من اتبعه، فيظن أنه على الحق فلا يتوب. قال القاضي أبو يوسف رحمه الله: ولا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحدًا من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته، مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبة هذا. (نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"/16/ص475).
    والفائدة السادسة: لئلا تكثر ذنوب الجاني بكثرة من اتبعه في الباطل. قال أبو صالح الفراء رحمه الله: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه - يعنى الحسن بن حي. قلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة ؟ فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من أمهاتهم وآبائهم، أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضرّ عليهم. ("الضعفاء"/1 /ص232/دار الكتب العلمية).
    والفائدة السابعة: فائدة ترجع إلى الهاجر العالم بشبهات هذا المنحرف، وهي: لئلا تتعداه تلك الشبهات فتفسد دينه بعد أن كان صالحاً. والآثار في ذلك معروفة. وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد ( به ) على نفسه مضرة في دينه أو دنياه. فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده. وربّ صرم جميل خير من مخالطة مؤذية. ("التمهيد"/6 /ص127).
    عن أسماء بن خارجة رحمه الله يحدث قال : دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء ، فقالا : يا أبا بكر نحدثك بحديث ؟ قال : لا قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل ؟ قال : لا ، لتقومن عني أو لأقومن اهـ. ("الشريعـة"/ ذم الجدال والخصومة/ رقم (114)/ دار الكتاب العربي/وصححه شيخنا أبو عمرو الحجوري حفظه الله).
    وعن مفضل بن مهلهل رحمه الله قال: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته، وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدو مجلسه ، ثم يدخل عليك بدعته ، فلعلها تلزم قلبك ، فمتى تخرج من قلبك اهـ. ("الإبانة الكبرى"/للإمام ابن بطة رحمه الله/رقم (399)/ط. الفاروق الحديثية/ بسند حسن).
    وقال الإمام البربهاري رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون . ("طبقات الحنابلة"/2/ص 44/ترجمة الإمام حسن بن علي البربهاري/دار المعرفة).
    وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات ». (أخرجه أبو داود" رقم (4311) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم ( 1019)).
    قال الإمام ابن بطة رحمه الله: فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: (أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه)، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار، والردّ عليهم ، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم اهـ. ("الإبانة الكبرى" /تحت رقم (480)).
    وبهذا البيان السلفي ظهر قصر نظر من جعل هجر المبتدعة كدواء المريض فقط فإذا لم ينجع غُيّر بدواء آخر فلا يجوز هجرهم. أفلا يرون أن المرض مرضاً معدياً لا يجوز للأصحاء مقاربته، سواء نجع الدواء أو لم ينجع؟
    وعن أبي هريرة يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لا عدوى» .ويحدث مع ذلك: «لا يورد الممرض على المصح». (أخرجه مسلم (2221)).
    وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل مبتلي سكن في دار بين قوم أصحاء، فقال بعضهم : لا يمكننا مجاورتك، ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء، فهل يجوز إخراجه ؟
    فأجاب : نعم لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يورد ممرض على مصح» فنهى صاحب الإبل المرض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح، مع قوله : «لا عدوي ولا طيرة» . وكذلك روي أنه لما قدم مجذوم ليبايعه، أرسل إليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة . ("مجموع الفتاوى/24 /ص284-285).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فصل في هديه صلى الله عليه و سلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها. ثبت في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم : «ارجع فقد بايعناك». ("زاد المعاد"/4/ص134).
    وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعته يقول لعبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن هؤلاء عليكن». (أخرجه البخاري (4324) ومسلم (2180)).
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن يرجع عن ذلك أو يتوب. ("فتح الباري"/10 /ص334).
    ثم عضوا من أعضاء الجسم إذا مرض ولم ينجع الدواء لم يقل الطبيب الماهر: (نخليه مع بقية الجسم) فيتعدى المرض على جميع الأعضاء واحداً بعد واحد حتى يهلك الجسم. بل الطبيب الماهر العاقل عند يأسه من شفاء العضو يقول: (لا بد من بتره لسلامة بقية الجسم).
    هذا أمر معروف في الطب والزراعة وغيرهما من شئون الدين والدنيا.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى أثمرت أشجارها، فأقبل عليها يفصل أوصالها، ويقطع أغصانها، لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها، فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل بقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك. ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يترك الماء عليها دائما، وإن كان ذلك أخضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقى عنها كثيرا منها لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه. فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقى عنها كثيرا من زينتها. وذلك عين مصلحتها. فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.
    وكذلك الأب الشفيق على ولده العالم بمصلحته إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاء في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه. كان ذلك رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه لعلمه إن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه.
    (انتهى النقل من "الفوائد"/ص 92).
    وكذلك هذا المبتدع، هو في مجتمع المسلمين كالجسد الواحد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر ». أخرجه البخارى (6011/دار الكتب العلمية) ومسلم (2586/دار ابن الجوزي).
    لما أصاب هذا العضو مرض واشتكى تداعى له سائر الجسد بما يصلح له في دوائه وعلاجه. فإذا استعصى المرض، ولم يوجد له دواء، ويخشى على بقية الأعضاء، ولم يوجد سبيل إلا بترُه بُتِر رحمةً لصحة بقية الجسد، ولم يقل أحد من العقلاء: (نرحم هذا المسكين، ونبقيه مع بقية الأعضاء الصحيحة، حتى نَهلِك كلُّنا جميعاً).
    فسلامة جمهور المسلمين أقدم وأولى بالاهتمام من بقاء المبتدع المعاند للحق المصر على الباطل.
    والفائدة الثامنة: فائدة ترجع إلى الهاجر العالم بشبهات هذا المنحرف، وهي: لئلا يساء به ظنّ أهل السنة أنه من زمرة المنحرفين أيضاً لأن من أَكثر مجالسة قوم ينسب إليهم. قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].
    قال الإمام محمد بن أحمد القرطبي رحمه الله: فدلّ بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عزوجل: ﴿إنكم إذا مثلهم﴾. فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
    وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية ﴿إنكم إذا مثلهم﴾() أي إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، كما قال: * فكل قرين بالمقارن يقتدي *
    وقد تقدم. وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى.
    ("الجامع لأحكام القرآن"/5 /ص418).
    وقال أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله: المقربون بالمحبوب محبوب، والمقربون بالمكروه المبغوض مبغوض. ("المفهم"/تحت رقم (2883)/ط. دار ابن كثير)
    هذا من شؤم مقاربة أهل الباطل، أنه يجري عليه حكم أهل الباطل حكماً ظاهراً. قال محمد المبارك فوري رحمه الله: وما قارب الشيء يعطي حكمه. ("تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي"/4 /396).
    والفائدة التاسعة: فائدة ترجع إلى الهاجر العالم بشبهات هذا المبتدع، وهي: لئلا تصيبه اللعنة لأن المبتدع ملعون، ومؤويه ملعون، فيخشى على جالسه أن يكون له نصيب من اللعنة. عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير المنار». (أخرجه مسلم (1978)).
    قال الفضيل رحمه الله: لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/إسناده حسن إن شاء الله).
    وكذلك غضب الله ينزل على المبطل ومن خالطهم ولم ينكر عليهم. قال أبو القاسم هبة اللَه بن الحسين بن منصور الطبري الفقيه الشافعي: وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإِنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له، فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم، فيعم الجميع، نعوذ بالله من سخطه. (نقله الإمام ابن القيم في "أحكام أهل الذمة"/ص359).
    والفائدة العاشرة: فائدة ترجع إلى الهاجر العالم بشبهات هذا المبتدع، وهي: لئلا تفوت عنه الحكمة عقوبةً من الله. قال الفضيل بن عياض رحمه الله : إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، قال: وقال الفضيل: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، قال: وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه، قال : وقال الفضيل : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/إسناده حسن إن شاء الله).
    ذلك لأن من تعمد مجالسة المعاندين فقد صاحَب من لا يستحق المصاحبة، فقد وضع الشيء غير موضعها فعوقب بحرمان الحكمة. وما هي الحكمة؟
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالحكمة إذاً : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي. ("مدارج السالكين"/2/ص479).
    والفائدة الحادية عشرة: فائدة ترجع إلى الهاجر ، وهي: لئلا تشتغل نفسه بصاحب الباطل فتفوت عنه فرصة الازدياد في العلم لأن من اشتغل بباطل فات عنه الاشتغال بالحق، وكذلك العكس. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن الإنسان لا يسكت البتة : فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغ ولا بد من أحدهما فهي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز و جل سكنه محبة المخلوقين ولا بد وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد فاختر لنفسك إحدى الخطتين وأنزلهها في إحدى المنزلتين. ("الوابل الصيب"/ص 111).
    والفائدة الثانية عشرة: سلامة الهاجر من سوء أخلاق المنحرف ومكره، لأن هذا المنحرف قد يتتبع زلات السني ليضرّه بها. عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة». (أخرجه البخاري (5534) ومسلم (2628)).
    وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: والذي عندي أن من خشي من مجالسته ومكالمته الضرر في الدين أو في الدنيا والزيادة في العداوة والبغضاء فهجرانه والبعد عنه خير من قربه لأنه يحفظ عليك زلاتك ويماريك في صوابك، ولا تسلم من سوء عاقبة خلطته. ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية. ("الاستذكار"/8 /ص290).
    وقال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث النهى عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما. ("فتح الباري"/4/ص324).
    وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ الله إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التوبة: 83].
    قال أبو الحسن الخازن رحمه الله: وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته، لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات . ("لباب التأويل"/3 /ص319).
    والفائدة الثالثة عشرة: إظهار عزّ الدين. قال شيخ الإسلام رحمه الله: كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تإلىف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح . ("مجموع الفتاوى"/28 /ص206).
    والفائدة الرابعة عشرة: دليل قوة الإيمان وغيرة في الدين. فالهجر الشرعي دليل على الغضب لله، وهو علامة قوة الإيمان والغيرة. قاله العلامة ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلاً عن أن تتكلم ، ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل معاشر ومجاور فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر يزيد، وحريم الشرع ينتهك ، فلا إنكار ولا منكر ، ولا مفارقة لمرتكب ذلك ولا هجران له . وهذا غاية برد القلب وسكون النفس وما كان ذلك في قلب قط فيه شيء من إيمان؛ لأن الغيرة أقلّ شواهد المحبة والاعتقاد. (نقله الإمام ابن مفلح رحمه الله في "الآداب الشرعية" /ص178).
    والفائدة الخامسة عشرة: لئلا تحصل المودة مع المشاقين لله ولرسوله، لأن مودتهم لا تحل. قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ الآية. [المجادلة/22].
    هذه الآية تدل على أن مودة أعداء الله ذنب قد يخرج صاحبه من الإسلام، وقد ينقص إيمانه فقط، على حسب تلك المودة الزائغة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً. ("مجموع الفتاوى" /7/ص 522-523).
    وقال تقي الدين أبو بكر بن محمد الدمشقي الشافعي رحمه الله: فقد نفى الله تعالى الوجدان ممن آمن، فدلّ على أن من وادّدهم ليس بمؤمن، وقد عدا بعض العلماء ذلك إلى مواددة الفسقة من المسلمين، فحرم مجالسة الفساق على سبيل المؤانسة، وقد صرح الرافعي والنووي بذلك في كتاب الشهادات. ("كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار"/2/ص71).
    قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: إذا أحب الرجل أخاه في الله عز وجل ثم أحدث حدثا في الإسلام فلم يبغضه عليه فلم يحبه في الله عز وجل. (أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"/1 /ص90 /ط. دار الأمم/سنده صحيح).
    ذلك لأن المبتدع يستحق المقت، فمن لم يمقته ولم يبغض عليه بعد علمه بإصراره على بدعته فقد قدم محبته على محبة الله، فكفى بهذا إثماً وكفى بهذا كذباً في ادعائه المحبة لله.
    فمن أجل أهمية إزالة محبة المبتدع عن قلوب المؤمنين نهوا عن قربه. ذلك لأن أن أهل الأهواء لا يألون جهداً في إمالة نفسك بجميع الطرق، والشيطان يلقي إليك محبتهم بإظهار محاسنهم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن أنواع مكايده ومكره : أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره وطلاقة وجهه وحسن كلامه فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق وطلاقة الوجه. ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم ولا يريهم طلاقة وجهه ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض. ("إغاثة اللهفان" /ص120).
    فمجانبتهم أمر حتم لئلا تقع هذه المحبة الباطلة. قال ابن خويز منداد المالكي رحمه الله: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. ("الجامع لأحكام القرآن"/للقرطبي/7/ص13).
    ففوائد شرعية الهجر كثيرة، فإذا فاتت عنا فائدة من فوائدها لمانع من الموانع، فبقية الفوائد لا بدّ من مراعاتها، وألا يتساهل في ترك شرعية الهجر لمطاوعة ضعف قلوب المميعين أو لمراعاة شعور المنحرفين.
    لا شك أن بداية الدعوة إلى الإسلام والسنة ليست بالهجر، بل بتأليف القلوب وإظهار محاسن الحق وتعريف الناس الدين الحق. وقد كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يبدأ دعوته بالمشي في أسواق المشركين يدعوهم إلى الإسلام، ويظهر حسن الخلق، ولم يبدأها بالهجر. فلا شك أن الأحوال معتبرة، ويجب على الإنسان أن يتحرى متابعة طريق السلف وهم أعرف الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وأعرف بمقاصد الشريعة. ولا يجوز للأباء ترك أولادهم يختلطون بالمبتدعة وإدخالهم في مدارس أهل الأهواء. فلو فرض أننا لا نستطيع تطبيق شرعية الهجر في بقعة ما، فشرعية صيانة قلوبنا وقلوب أولادنا عن إفساد أهل الانحراف باقية في كل مكان وزمان إلى قيام الساعة.
    فلا تقتصر أنظاركم على علاج المبتدعة المعاندين، بل راعوا صحة عقيدة أولادكم وسلامة دينهم من تسري أدواء أهل الأهواء. وإذا رحمتم المبتدعة، فأولادكم أحق بها منهم.
    واعلم أن الرجل عندنا لا يحكم عليه بأنه مبتدع إلا بعد مراحل النصائح فأصرّ على انحرافه حتى يتبين لنا أنه لا يريد الرجوع، فيقال حينئذ أنه مبتدع. فكيف يقال بعد هذه المراحل كلها نقول: (إذا لم يخالط ولم يُنصَح ولم يبيَّن له الحق فكيف يعرف أنه على الخطأ فيتوب؟)؟ قد مضى أوانه، فما بقي إلا أن يقال فيه ما قاله السلف الصالح: عن أيوب رحمه الله قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظروا إلى ما يتحول؛ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله، «يمرقون من الإسلام لا يعودون فيه» ("البدع" /لابن وضاح /رقم 149 /والأثر حسن).
    وقال عبد الله بن القاسم: ما كان عبد على هوى فتركه إلا إلى ما هو شر منه. قال: فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا، فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه». ("البدع والنهي عنها"/لابن وضاح/1/ص 153).
    فالأثر صحيح. أسد هو ابن موسى ثقة، وضمرة هو أبو عبد الله بن ربيعة الفلسطيني، ثقة. وابن شوذب هو عبد الله بن أحمد بن عمر بن شوذب، ثقة.
    وكذلك الإمام أحمد رحمه الله. عن الفضل بن زياد، قال: قلت لأبي عبد الله: إن الشراك بلغني عنه أنه قد تاب ورجع. قال: كذب، لا يتوب هؤلاء، كما قال أيوب: إذا مرق أحدهم لم يعد فيه، أو نحو هذا. ("الإبانة الكبرى" /لابن بطة /رقم 2418).
    ذكر العلامة الشاطبي رحمه الله حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة» ثم قال رحمه الله: فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها أنه لا توبة لصاحب البدعة عن بدعته. فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شرّ منها كما في حديث أيوب أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصرّ عليها بعدُ كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز. ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه: «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الإصرار. ومن هنالك قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره. ("الاعتصام" /ص 95).
    وقال العلامة القرافي رحمه الله: والشرع إنما يبني أحكامه على الغالب. ("أنوار البروق في أنواع الفروق"/7 /ص460).
    فإذا لم يتوب المبتدعة لتغلغل الأهواء في قلوبهم فهل نقول: (قد فشل دواء الهجر، فهلمّوا إلى مجالستهم وسماع أقوالهم وتظلمهم)؟ هذا كلام باطل من قائله كائناً من كان. بل التائبون من بدعهم بعد الهجر قليل بالنسبة إلى المعاندين، فهل نرجع إلى معاشرتهم وتمكينهم لإظهار أقوالهم في أسماع أبناء أهل السنة؟ هذا خلاف منهج السلف. فقد كان السلف يهجرون أهل الأهواء أمثال بشر المريسي، وحسين الكرابيسي، وحارث المحاسبي، ومقاتل بن سليمان، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، ومعبد الجهني، وغيرهم. فهل هم يتوبون؟ كلا! فهل بعد ذلك تراجع السلف عن هجرهم إياهم؟ كلا! هناك مقاصد أخر للهجر لا بد من مراعاتها، منها: سلامة قلوب المسلمين من سموم أهل البدع. فإن لم يُشفَى المبتدعة من مرضهم فعلى الأقلّ ألا يَمرَض المصحُّ بسبب تعدي مرض المبتدعة المرضى، فسلامة العامة مقدمة على سلامة الأفراد، ولا سيما قد كنا في شبه اليأس من شفاء هؤلاء أهل الأهواء. فمصالح هجر المبتدعة كثيرة لا مصلحة واحدة، كما مر بنا ذكر بعضها.
    قال المناوي رحمه الله: ومذهب الشافعي أن هجر المسلم فوق ثلاث حرام إلا لمصلحة، كإصلاح دين الهاجر، أو المهجور، أو لنحو فسقه أو بدعته. ("فيض القدير"/6 /ص234).
    إن لم يتب، فبقية مقاصد الشرع تقتضي مواصلة الهجر من أجل سلامة بقية الناس المتكاثرة. فنعم، نراعي المصلحة، ومصالح الأمة العامة هي المصلحة العظمى وهي مقدمة على مصلحة هذا المهجور المعاند.
    وإذا قال قائل: إن الهجر على حسب الأحوال، كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .
    الجواب –بالله التوفيق-: هذا الكلام جيد، وليس معنى المهادنة جواز إرسال أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر يتلقون العلوم فيها عند الكفار حتى يتمكن الكفار على إفساد عقولهم وأخلاقهم ودينهم كما حصل كثيراً. بل شرعت الهجرة من بلاد الكفر والشرك والتحذير من سماع شبههم صيانة لدين المسلمين لأن الباطل أسرع وصولاً إلى النفس وأقوى تمكناً على القلب إلا لمن رحمه الله. قال حنبل رحمه الله: الخير بالتعود ، والشر طبعي. ("الآداب الشرعية"/3 /ص248).
    ومن أعظم حكمة الهجر والتحذير هو سلامة دين الأمة، لا مراعاة شعور أهل الأهواء المعاندين. فلا بد من تحذير الناس منهم ليهجروهم فيسلم دين الأمة من الفساد، سواء تألم أهل الهوى من ذلك أو، وقد عاندوا الحق وشاقوا الله ورسوله عمدا بعد البيان.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعيين أسماء حملة الباطل مراعاة للمصلحة العظمى وهي سلامة دين المسلمين، فقال: فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدّل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها اهـ. ("مجموع الفتاوى" /28 / ص 233/إحالة/دار الوفاء).
    فطريقة السلف هو معيار الحق، وآراء الخلف ليست صحيحة إذا خالفت منهج السلف.
    قال الإمام مالك رحمه الله: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. (كما في "المبسوط" لإسماعيل بن إسحاق/نقله القاضي عياض رحمه الله في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"/2/ص88).
    وقد ثبت أن الإمام الأوزاعي رحمه الله قال: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك بالقول اهـ. ("الـشريعة" /للآجري /ص67/دار الكتاب العربي/صحيح).
    وفي رواية الهروي رحمه الله: قال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها بالقول، فإن الأمر ينجلي حين ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم. ("أحاديث في ذم الكلام وأهله" /رقم (317)).


    الباب التاسع: بعض تجريحات الشيخ الألباني رحمه الله لبعض الأعيان

    إن الشيخ الألباني رحمه الله أيضاً قد تكلم وشنّع وضلّل في بعض الأشخاص إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك، فليس كما يشعره بعض السروريين في إغلاق باب التجريح عن دعاة العصريين تماماً.
    قال الشيخ الألباني رحمه الله في ردّه على حسان عبد المنان: ... تقليداً منه للمتعصب الحاقد الشيخ حبيب الأعظمي ثم الغماري الصغير: السقاف! "فيا عجباً لوبْر تدلى علينا من قَدوم ضال " يتعالى على هؤلاء الحفاظ، ويخطئهم وهو كما قيل: "ليس في العير، ولا في النفير"، وما ذلك منه إلا تشوفاً وحباً للظهور، متجاهلاً قول العلماء: "حب الظهور يقصم الظهور". وذاك- والله- منتهى العجب والغرور! كيف لا؛ وهذا أستاذه ومعلمه- الذي يسبح بحمده! ويتمسح به ويداهنه، ويتفاخر بموافقته إياه في عشرات الأحاديث - لم يسعه إلا أن يصرح بصحة الحديث في تعليقه على "صحيح ابن حبان/ الإحسان " (1/178- 179)، و"السير" (3/420 و 17/283)، ولو وجد سبيلاً- هو الآخر- للمخالفة لم يقصر!! فما أشبهه بذلك الضالّ السقاف الذي يضلل أئمة السلف، ويخالف الحفاظ ؛... إلخ. ("الجامع الميسر لمؤلفات الألباني"/9/ص8).


    الباب العاشر: نهجر الناس كلهم؟!

    لعل قائلا يقول: إذا طبقنا منهج السلف هجرنا الناس كلهم!؟
    الجواب بتوفيق الله وحده: هذا الكلام يشعر اليأس من رحمة الله على الناس وكأن جمهور الناس معاندون للحق فيستحقون كلهم الهجر. وهذا ليس بصواب. فمحبو الخير كثير، والحمد لله، والمستجيبون للحق والنصح كثير. والتائبون من الزلات كثير. كيف يقال إن تطبيق منهج السلف يستلزم مقاطعة جميع الناس؟!
    ولو فرض أن الناس جلهم انحرفوا عن الصواب، وأصرّوا على الباطل، وعاندوا الحق بعد إقامة الحجة، لا يصلح أن نخالطهم ونعرض ديننا ودين أبنائنا على الهلاك والفساد بهذه المخالطة تحت ستار: المناصحة. هذا خلاف الدليل، وكفى بمخالفة الدليل فساداً. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 105].
    فنحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما ينبغي، وكما ذكر في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إذا أبى أكثر الناس إلا عناداً، فحينئذ أمرنا الله بتركهم والإقبال على شئون أنفسنا، ولم يأمرنا بمخالطتهم المؤدية إلى فساد الدين.
    عن عمرو بن جارية اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال أية آية ؟ قلت قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يارسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال: «بل أجر خمسين منكم». (أخرجه أبو داود (4341) والترمذي (3058) وابن ماجه (4014) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، حسن بشواهده).
    قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: فعقلنا بهذا الحديث أن معنى قول أبي بكر رضي الله عنه : إن الناس يضعون هذه الآية في غير موضعها، يريد بها سيعملونها في غير زمنها ، وأن زمنها الذي يستعمل فيه هو الزمن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة بما وصفه به ونعوذ بالله عز وجل منه ، وأن ما قبله من الأزمنة فإن فرض الله عز وجل فيه على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تعود الأمور إلى ما أمر الله عز وجل أن يكون الناس عليه من امتثال ما أمرهم الله به عز وجل والانتهاء عن ما نهاهم عنه ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى من الأمر بالمعروف ومن النهي عن المنكر ومن التحذير من عواقب ترك ذلك سوى ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب. ("مشكل الآثار"/للطحاوي /3 /ص174).
    عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «كيف بكم وبزمان» أو «يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا» وشبك بين أصابعه. فقالوا: كيف بنا يارسول الله ؟ قال: «تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم». (أخرجه الإمام أحمد (6508) وأبو داود (4342) وابن ماجه (3957)، وغيرهم بسند صحيح. وأصل الحديث عند البخاري (480)).
    فإذا كثر المعاندون للحق بعد إقامة الحججة، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم، لا بمخالطتهم.
    عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله صفهم لنا. فقال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». (أخرجه البخاري (3606) ومسلم (1847)).
    هذه كلها من أدلة هجر المبطلين. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من آراء الرجال. ومنهج السلف أحب إلينا من أقوال الخلف المخالف للحق. هذا هو الفهم الصحيح في المسألة.
    والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
    صنعاء، 5 جمادى الأخيرة 1435 هـ.

  • #2
    جزاك الله خيرا يا أبا فيروز ونفع الله بك
    نسأل الله أن يجعل ماتقوم به في ميزان حسناتك

    تعليق

    يعمل...
    X