بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين - وبعد:
فمن المعلوم ما يجتازه المسلمون في عصرنا الحاضر من محن قاسية بسبب تيار الحضارة الغربية المسمومة وما يحمل إلينا من أخلاق وعادات يتنافى كثير منها مع أحكام ديننا فكان يجب على المسلمين عامة والعلماء منهم خاصة أن يقفوا من هذا التيار الخبيث موقف الدفاع عن دينهم ودحض شبهات المشبهين - ولكن يا للأسف نجد بعض مثقفينا وحملة الأقلام منا بدلا من أن يقفوا هذا الموقف المشرف راحوا يروجون لكثير من هذه الأباطيل الوافدة ويلتمسون المسوغات ولو على حساب الدين. فصاروا يبحثون عن الأقوال الشاذة وأغلاط المجتهدين ليقيموا منها مستنداً لهم فيما يفعلون.
ومن هذا الصنف صاحب كتاب الحلال والحرام فقد ضمن كتابه هذا كثيرا من هذا النوع. وكنت قد نبهت على سقطاته في هذه الرسالة التي أقدمها للقراء في طبعتها الثانية
- وقد سبقني إلى الرد عليه فضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز فكتب في ذلك رسالة قيمة طبعت منذ عدة سنوات. نقلنا منها جملا طيبة في هذا الرد وكذلك نجد دار الاعتصام عندما قامت بنشر الكتاب المذكور في طبعته الثامنة تفضلت مشكورة فأبدت تعقيبات وملاحظات عليه أرفقتها في آخره تبلغ أربعة عشر تعقيبا - وهي تعقيبات قيمة جزى الله من قام بها خير الجزاء - لأن هذا مما يقتضيه واجب النصيحة.
وفي الختام أتقدم بوافر الشكر لله سبحانه ثم لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي قامت بنشر هذه الرسالة ضمن ما تنشر من كتب التراث النافع والبحوث القيمة - وفق الله القائمين عليها لما فيه نصر الإسلام ونفع المسلمين وأثابهم خير الثواب - والحمد لله رب العالمين - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
27ربيع الثاني سنة 1396 ه
تنبيه:
اعلم أن أرقام الصفحات التي أشرنا إلى وقوع الأخطاء فيها من كتاب الحلال والحرام هي على حسب الطبعة الثانية للكتاب عام 1382 هـ من منشورات المكتب الإسلامي بدمشق على نفقة آل ثاني وقد طبع الكتاب بعد ذلك عدة مرات وتوسع المؤلف في تلك الأخطاء توسعا لم يكن موجودا في الطبعة المشار إليها فاقتضى التنبيه والله الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد فقد اطلعت على كتاب قد ألفه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وسماه: (الحلال والحرام في الإسلام) تناول فيه كثيرا من المسائل الفقهية في أحكام المعاملات والأطعمة وغيرها فوجدته قد أخطأ في مواضع كثيرة منه. كما في موضوع موادة بعض الكفار. وموضوع لبس الحرير للرجال. وموضوع التصوير. وموضوع حكم كشف المرأة لوجهها ويديها بحضرة الرجال الأجانب. وموضوع الغناء والموسيقى. وموضوع حلق اللحية والأخذ منها. وموضوع الذكاة. وموضوع اللعب بالشطرنج. وموضوع السينما. فاقتضى واجب النصيحة وحب التعاون على البر والتقوى أن ننبه على تلك الأخطاء. لعل المؤلف يعيد النظر في ذلك الكتاب ويصحح هذه الأخطاء على مقتضى الدليل حتى تتم الفائدة بكتابه ويحصل على الأجر والثواب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا: ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).
وبعد تسجيل ملاحظاتي وجدت الأستاذ الشيخ عبد الحميد طهماز قد سبقني إلى التعقيب على ذلك الكتاب بنبذة جيدة سماها (نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام) جاء في مقدمتها بعد كلام ذكره في بيان اجتهاد الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها وما لهؤلاء الأئمة من جهود طيبة جاء فيها قوله: (ولا مناص لكل باحث في أحكام الشريعة الإسلامية من الرجوع إلى آرائهم وأقوالهم وإن كل من سولت له نفسه مخالفة أقوالهم والخروج على آرائهم وقع في الخلط والخبط والتناقض والتهافت لأنه ما أحاط بالأدلة إحاطتهم ولا فهم النصوص فهمهم وهم أقرب منه إلى عصور الخير والصفاء تلقيا وفهما. وكان عليه قبل أن يخالفهم أن يدرس أدلة أقوالهم ليجد أنهم رحمهم الله تعالى ما خرجوا عن الكتاب وما خالفوا السنة بل صدروا عنهما في كل أقوالهم وآرائهم وبين أيدينا مثال عملي لهذا وهو كتاب الحلال والحرام في الإسلام فقد خرج مؤلفه الشيخ يوسف القرضاوي عن آراء الأئمة في كثير من مسائله إلى أقوال شاذة أو ضعيفة الثبوت أو منحولة مدسوسة على قائلها. وليته قبل أن يسجلها في كتابه وازن بينها وبين الأقوال المعتمدة عند الأئمة وقارن بين أدلة هذه وأدلة تلك ولو فعل هذا لظهر له ضعفها وشذوذها وبالتالي ما ثبتها في كتابه كرأي معتمد يفتي به جمهور المسلمين وأجيالهم اللاحقة أقول هذا لأنني على يقين من حسن نيته وصفاء طويته فما ذكر هذه الأقوال الشاذة إلا بدافع إظهار الإسلام بمظهر اليسر والمرونة. وليس يسر الإسلام ومرونته في مجاراة أهواء الناس وميولهم. إنما يسر الإسلام في مرونة نصوصه وسهولة تكاليفه التي يستطيع القيام بها أي إنسان في أي زمان ومكان. أما أن نلجأ إلى الأقوال الشاذة والضعيفة والمنحولة فنخرق أسوار الشريعة ونتجاوز حدودها فلا يجوز لنا أبدا سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوء نية.
ولقد قرر المؤلف بنفسه هذا عندما قرر المبادئ التالية:
النية الحسنة لا تبرر الحرام. التحايل على الحرام حرام. ما أدى إلى الحرام فهو حرام. في الحلال ما يغني عن الحرام. وكما أخذ المؤلف على المقلدين الذين يسارعون إلى إطلاق كلمة حرام بدون أن يكون معهم دليل ولا شبه دليل , نأخذ عليه إسراعه إلى الأقوال الضعيفة والشاذة وتسجيلها في كتابه كأنها آراء معتبرة ومحققة يجوز الأخذ بها والعمل بمقتضاها. اهـ. وقد أجاد فضيلة الشيخ عبد الحميد في هذا الرد وفي هذه الكلمة الضافية التي تعطي فكرة واضحة عن نهج المؤلف القرضاوي في كتابه فجزاه الله خيرا على هذا الصنيع.
وإليك بيان الأخطاء التي لاحظناها على المؤلف مع الرد عليها:
1- تجويزه خلو التكاليف والشعائر الدينية والحلال والحرام من الحكمة والعلل المعقولة :
قال في ص 21 ما نصه: (من حق الله تعالى كخالق للناس منعم عليهم بنعم لا تحصى أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا. فهذا حق ربوبيته لهم ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة - الخ ما قال.
ووجه الخطأ في هذا الكلام أن المؤلف جوز أن يشرع الله لعباده وأن يكلفهم لا لحكمة في ذلك بل لمجرد ربوبيته لهم وعبوديتهم له. وهذا باطل لأنه يلزم عليه تجويز خلو شرع الله من الحكمة وأن يأمر وينهى لا لحكمة وهو من تجويز العبث على الله تعالى الله عن ذلك:.. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يحلل ويحرم ويأمر وينهى لمصلحة يعلمها هو لا لمجرد أمر ونهي وتحليل وتحريم خال عن ذلك لمجرد ربوبيته وقهره فقط.
2-موادة غير المسلمين :
قال المؤلف في صفحة 47: (وقد شرعت لنا موادتهم - أي أهل الكتاب - بمواكلتهم ومعاهدتهم وحسن معاشرتهم) وفي صفحة (247) أورد المؤلف تساؤلا فقال: كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء. ثم أجاب عن هذا السؤال بأن هذه الآيات التي تنهى عن موادة الكفار ليست على إطلاقها ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لتناقضت الآيات والنصوص الأخرى التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا - إلى أن قال: إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام محاربين للمسلمين -. ا هـ.
وتعقيبنا على فضيلة المؤلف من وجهين:
الأول: أن الآيات التي ذكر فيها مواصلة بعض الكفار بالبر والإحسان - من سورة الممتحنة قد قال عنها بعض المفسرين إنها منسوخة - قال الإمام القرطبي في تفسيره: (هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم قال ابن زيد: كان هذا أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ - قال قتادة: نسختها {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهي الصلح فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى - ا هـ.
وذكر ابن جرير رحمه الله قولا آخر في الآية وهو: (أن الآية خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا).
فعلى هذين القولين: إن الآية منسوخة أو خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا - لا يبقى إشكال بينها وبين الآيات التي تحرم موادة الكفار عموما.
الوجه الثاني :
أن نقول: وعلى القول بأن آية الممتحنة محكمة أو غير خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا ليس فيها ما زعمه المؤلف من إباحة موادة أحد من الكفار وإنما فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار ومعاملتهم بالبر والإحسان من باب المكافأة على صنيعهم وهذا لا يستلزم مودتهم في القلوب - قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5-233): ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل والله أعلم. ا هـ. ومثله قال الشوكاني في نيل الأوطار (6-4) وبهذا إن شاء الله يزول الإشكال الذي أورده المؤلف (1)
3-حكم تناول التبغ (الدخان) :
في صحيفة (62) بعد ذكر المؤلف تحريم كل ما يقتل أو يضر قال: ووفقا لهذا المبدأ نقول: إن تناول التبغ (الدخان) ما دام قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين. وفي صحيفة (93) قال تحت عنوان: الزراعة المحرمة: ومثل ذلك التبغ - الدخان - إن قلنا تناوله حرام فزراعته حرام وإن قلنا مكروه فمكروهة.
والجواب: أن نقول: ما هذا التناقض من المؤلف والتردد في حكم الدخان الذي قد ثبت ضرره على متعاطيه بالتجربة وبشهادة المختصين من الأطباء وإقرار كثير ممن يتعاطونه بعظيم ضرره فمنهم من تخلص من وطأته وتركه ومنهم من بقي تحت وطأته على مضض. وما كان كذلك فلا شك في تحريمه على الجميع لا في حق من قرر له طبيب مختص.
والمؤلف في أول كتابه يقرر أن التحريم يتبع الخبث والضرر. ويقول أيضا: الحرام حرام على الجميع فما باله هنا خص تحريم الدخان بمن قرر ضرره عليه طبيب مختص وبالنسبة لشخص معين.
ذكر نموذج من فتاوى العلماء في حكم الدخان
ونحن ننقل هنا نموذجا من فتاوى العلماء رحمهم الله في حكم تناول الدخان. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله:
(وقد سئلت عن حكم التنباك الذي أولع بشربه كثير من الجهال والسفهاء مما يعلم كل تحريمنا إياه نحن ومشائخنا ومشائخ مشائخنا ومشائخهم وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها حتى يومنا هذا - إلى أن قال: وتحريمه بالنقل الصحيح والعقل الصريح وكلام الأطباء المعتبرين. ثم ذكر الأدلة من النقل على تحريمه. وذكر من حرمه من علماء المذاهب الأربعة ثم قال: وأما العقل الصريح فلما علم بالتواتر والتجربة والمشاهدة ما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وسمعه وعقله وقد شوهد موت وغشي وأمرا ض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام - إلى أن قال: وأما كلام الأطباء فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة أشياء ومتفقون على ضررها - أحدها النتن - الثاني الغبار - الثالث الدخان وكتبهم طافحة بذلك) -. ا هـ باختصار.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في جواب له عن حكم الدخان: (أما الدخان شربه والاتجار به والإعانة على ذلك فهو حرام لا يحل لمسلم تعاطيه شربا واستعمالا واتجارا وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا. كما يجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب. وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم داخل في لفظها العام وفي معناها وذلك لمضاره الدينية والبدنية والمالية التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه فكيف إذا اجتمعت. ثم أحذ يفصل مضاره ثم قال والميزان الحقيقي هو ما دلت عليه أصول الشرع وقواعده وقد دلت على تحريم الدخان لما يترتب عليه من المفاسد والمضار المتنوعة وكل أمر فيه ضرر على العبد في دينه أو بدنه أو ماله من غير نفع فهو محرم فكيف إذا تنوعت المفاسد وتجمعت أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا تركه والتحذير منه ونصيحة من يقبل النصيحة) - ا هـ.
وقال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية صفحة (486):
وأما التنباك والدخان فهما من فصيلة واحدة تقريبا ولهما من السلطان على معتادهما ما يعجب له الإنسان كل العجب وأي سلطان أقوى من أن معتاد الدخان كما رأينا إذا لم يكن معه هذا البلاء ويشعر بالحاجة إليه يمد يده لأي امرئ يلقاه متكففا طالبا منه ولو نفسا واحدا - هذا شيء نحكيه عن رؤية عيان لا عن نقل سمعناه عن أحد وقد يكون هذا المتكفف من ذوي المقامات الرفيعة ولكن قوة هذا الكيف وشدته ترغمه على أن يتنازل عن وقاره ومقامه السامي إلى حيث يمد يده يستجدي (سيجارة) أو على الأقل نفسا منها.
والدخان ضار للبدن قطعا ثم له شيء من التأثير على العقل. أما أنه ضار فقد فرغ منه الحكماء. وأنا أحكي للقارئ ما كان لي منه وهو الحكم بعد ذلك: كنت أمشي يوما مع أحد طلبة العلم فعرج على بائع دخان اشترى منه سيجارتين أشعل إحداهما وأقسم علي يمينا غليظا أن آخذها منه وأستعملها - حلف ذلك اليمين لما امتنعت أولا عن أخذها وإفهامه أني لم أتعاط الدخان في حياتي فرحمة به وبحرمه التي يتعلق بها اليمين تناولت السيجارة وأخذت أجذب في دخانها وأنفخه من فمي دون أن يتجاوز الفم للداخل رأى هو ذلك فقال ابتلع ما تجذبه فإن قسمي على هذا. لم أمانع وفعلت ما قال نفسا واحدا والله ما زدت عليه وإذاً دارت الأرض حولي دورة تشبه دورة المغزل فبادرت إلى الجلوس على الأرض وظننت بنفسي أني انتهيت وظننت بصاحبي الظنون وبكل تعب وصلت إلى بيتي وأنا راكب وهو معي يحافظ علي وبعد ذلك مكثت إلى آخر اليوم التالي تقريبا حتى أحسست بخفة ما كنت أجده. فحكيت هذا لكثير من الناس أستكشف ما كان مخبوءا لي في السيجارة فأخبروني أن الدخان يعمل هذا العمل في كل من لم يعتده. فقلت إذا كان نفس واحد فعل بي كل هذا فماذا تفعله الأنفاس التي لا تعد كل يوم يجتذبها معتاد الدخان خصوصا المكثر منه ؛ وهل يؤثر الدخان على كل بدن. يراجع الطب في ذلك وأنا أعلم أنهم قالوا فيه ما قالوا من المضار وكان لبعضهم فيه تشديد عظيم حتى كان لا يداوي من لم يتركه. أما أن له تأثيرا على العقل فيدلك عليه أن شاربه إذا نزل به مكدر يفزع إلى شربه ويكثر منه فيتسلى ويخفف عنه ما كان من ألم الحزن ولولا أنه يحصل منه شيء من التغطية على العقل ما حصل ذلك التسلي الذي يشعر بأن السبب الذي من أجله كان الحزن ذهل عنه العقل بعض الذهول حتى خف حزنه هذا معنى لا يحتاج لطول تفكير فيه. انتهى.
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني في شرب الدخان تسعة وتسعين مرضا وبيّنها واحدا واحدا في رسالة سماها (مصائب الدخان)
ذكر نموذج من أقوال الأطباء في مضار الدخان
وبعد أن نقلنا جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الدخان يحسن أن ننقل أيضا جملة من أقوال الأطباء في بيان أضراره وما يسببه من الأمراض الخطيرة.
للدكتور الألماني: هربرت ويلسن كتاب عنوانه: (كيف تبطل التدخين) كتب على غلافه هذه العبارة: إذا قرأت هذا الكتاب ولم تترك التدخين فإن ثمنه سيعاد لك.. قال في هذا الكتاب بعد أن ذكر إحصائيات عن الإصابة بسرطان الرئة بسبب تعاطي الدخان ما نصه: (ومما لا يمكن تصديقه أن شخصا يتمتع بعقل صحيح ويطلع على هذه الإحصاءات يستمر في التدخين. ولكن الظاهر أن عادة التدخين تكاد تكون من حيث مضارها مثل عادة شرب الخمر) ا هـ.
وقال أيضا في صفحة (47): وقد وجد الأطباء الثلاثة أرب. وميز. وبرجر. في التجارب التي أجروها على المدخنين أن التدخين يسبب تقلص الأوعية الدموية في الأطراف. وفوق ذلك وجدوا أن تدخين سيكارة واحدة أو سيكارتين كاف لأن يخفض حرارة الجلد في أطراف الأصابع. ا هـ.
وقال في صفحة (52) من الكتاب المذكور بعد أن ذكر معلومات عن تأثير التدخين على الأوعية الدموية ما نصه: (فيظهر من المعلومات المذكورة أعلاه أن كل مصاب بمرض السكري إذا استمر في التدخين معرض للفالج أو لفقدان عضو من أعضاء جسده ومن الحقائق الطبية العلمية التي لا تدحض أن للتدخين علاقة مباشرة بالضرر الذي يلحق الدورة الدموية كما أنه السبب الأساسي في مرض سرطان الرئة وعنصر هام في مرض شريان القلب التاجي. ا هـ.
وقال أيضا في صحيفة (62-64) في مبحث التدخين ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية ما نصه: (وقد أوضح بجلاء عدد كبير ممن يوثق بهم من الباحثين الطبيين أن للتدخين تأثيرا ظاهرا في نبضات القلب وضغط الدم. فقد دلت الأبحاث التي قام بها مستشفى مايو المشهور أنه في الأشخاص الذين ضغط دمهم طبيعي يرتفع على معدل (21) درجة عند انقباض القلب وفي الأشخاص الذين ضغط دمهم عال يرتفع على معدل (31) درجة عند انقباض القلب وذلك بعد تدخين سيكارتين فقط - إلى أن قال: يزعم بعض المدخنين المدمنين أنهم يفضلون أن يعيشوا خمسين سنة برفقة السيكارة لا سبعين سنة بدونها. ولكنهم ينسون عندما يصرخون بهذا القول الطائش أنه قد تعتريهم أمراض مؤلمة قتالة كمرض برجر أو سرطان الرئة أو الشريان التاجي فيهصر غصن حياتهم دون إنذار قبل أن يبلغوا من العمر وما يغفل عنه مدمنو النيكوتين (مادة سامة في الدخان) هؤلاء أنه قد تصيبهم أمراض وإن كانت لا تذهب بهم بل تقعدهم عن العمل فيخلقون المشاكل لذويهم وعيالهم ونسائهم لأنه متى قعد رب البيت عن العمل أصبحت العائلة بجملتها عالة على غيرها ففي حالات كثيرة أصبح المصابون بمرض برجر أو الشريان التاجي عاجزين عن العمل معتمدين في معيشتهم على الصدقة والإحسان. ا هـ.
وقال في صحيفة (65): في ختام تلك المباحث ما نصه: (عزيزي القارئ لا بد أنك وعيت كل ما مر في الفصول السابقة وعرفت ما قاله علماء الطب في التدخين وأضراره والأمراض التي يخلفها فماذا أنت فاعل؟ أظنك فاعل ما فيه الخير لنفسك وستقلع عن التدخين والآن أعطني يدك ولا تدعها ترتجف ولتكن يدا قوية لأسلمك الأسلحة - الأسلحة ستنقذك من التدخين إن عرفت كيف تستعملها كما سنعلمك) ثم ذكر هذه الأسلحة في بقية الكتاب.
وهناك كتاب آخر اسمه (الدخينة [الدخينة: السيجارة] في نظر طبيب) لمؤلفه الدكتور: دانيال هـ. كرس اختصاصي للأمراض العصبية في مصح ومستشفى مدينة وشنتون. د. ك. جاء في صحيفة (26-30) تحت عنوان تأثير التبغ على المدخن من هذا الكتاب ما نصه: (إن جسم المدخن وإن كان يمتص هذه السموم بالتدريج وبكميات قليلة إلا أنه يتأثر بها تأثرا بليغا ولا شك أن التدخين يضعف حاستي الشم والذوق (وآلام الحلق) وفقد الصوت والبحة التي يشكوها المدخن هي من الحالات المعروفة التي تتسبب عن فتك هذه السموم بالأغشية الرقيقة الملتفة حول الأوتار الصوتية. ولا مراء في أن التبغ يؤذي البصر بدليل ما يشكوه مدمنو التدخين من اختلال النظر وعدم القدرة على تمييز الألوان وعجزهم بنوع خاص عن تبين اللون الأحمر واللون الأخضر وتضعف أعصاب بواصرهم من تصاعد غاز الأمونيا عليها فيتراءى لهم أن نقطا سوداء تظهر أمام عيونهم ويقول (سير باركلي موينهان) وهو علم بين جراحي انكلترا المعروفين: (إن للتدخين اليد الطولى في إحداث قروح المعدة فهو يؤثر في غدد المعدة تأثيرا بليغا ويزيد إفرازها للعصارة التي تحتوي على حامض (الهيدروكلوريك) وهذه الزيادة لا تدعو إلى تقرح المعدة فقط بل تمنع شفاءها في حالة حدوثها. ومن أفعاله أيضا إحداث قروح في العفج (أي المصران الاثنى عشري) ويأبى كثير من الأطباء في العالم معالجة أية حالة من حالات القروح المعوية والمعدية إلا إذا امتنع المصاب بها عن التدخين. هذا وقد تحقق الأطباء منذ عهد بعيد أن للتبغ علاقة قوية بمرض السل ويلاحظ من السجلات الطبية أن دم مدمني التدخين تكون مقاومته لفتكات جراثيم السل أضعف من مقاومة غيرهم وأن شفاءهم يتوقف إلى حد عظيم على هجر التبغ هجرا تاما. ونقول بالإجمال إن جميع الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي هي أكثر انتشارا بين المدخنين - إلى أن قال: ويجمع الثقات المتضلعون من علم وظائف الأعضاء أن التبغ سم قتال للقلب ويقولون إن الذبحة الصدرية (وجع يكون في الحلق والصدر) والقطع (البهر وانقطاع النفس) يصيبان المدخنين أكثر مما يصيبان غيرهم - إلى أن يقول: ولا شك في أن التأثير السيئ الذي يحدثه التبغ في القلب والشرايين هو من أقوى العوامل التي دعت إلى استفحال أمراض القلب والأوعية الدموية وتفاقمها تفاقما ذريعا في هذه الأيام وقد كثرت شهادات الوفيات التي نقرأ فيها هذه الكلمات: (السكتة القلبية) أو (فلس القلب وهبوطه) وكان يجب أن نقرأ فيها (السكتة القلبية) أو (فلس القلب الناشئ عن إدمان النيكوتين) ولرب معترض يقول: إذا كان التبغ مميتا قتالا فلم لا يموت المدخنون سريعا - إنهم لا يموتون سريعا لأن الأعضاء تجد وتكافح للتخلص من السموم المتغلغلة في الجسم على الولاء كفاحا جريئا وأكبر دليل على أضرار التبغ ما يظهر بعد تدخين اللفافة الأولى فإنها تحدث الصداع والغشيان والقيء ولكن إذا تشبث الإنسان بعادة التدخين وتمادى في تعاطيه صار لجسمه طاقة على احتمال مفعوله الضار على أن هذه الطاقة لا تكفل للجسم المناعة والتحرز من النيكوتين الذي يواصل نفث سمومه الخفية ويسعى سعيه الحثيث للضرر بالحياة ولا بد أن يأتي الوقت الذي تقف فيه تلك الإطاقة عند حدها الأخير فيعروها الوهن وينتهي ذلك الكفاح الطويل الجاهد ويحاول الجسم الكليل العاني أن يتذرع بحول مصطنع لمواجهة موقفه العصيب وكأني بالطبيعة تنظر إليه إذ ذاك آسفة وتقول هو ذا المدخن يستسلم للأوهام والخيالات فلنتركه لحال سبيله - ثم يواصل الكلام إلى أن يقول: (فإن المدخن الذي لا يستطيع أن يبصر بالعين المجردة فداحة الأضرار اليومية التي يلحقها التبغ بالقلب والأوعية الدموية والكلى والكبد والمعدة والدماغ ولا يموت على الفور بعد تدخين لفافة صغيرة يحس أنه ينهض ويرتقي بذلك النشاط الوقتي الذي يبعثه إليه التدخين. على أن التبغ إن كان يقضي على الحياة ببطء إلا أن قضاءه عليها مبرم محتوم لا مفر منه والمدخن يسرف في العبث بصحته وينتحر بيده على مهل - ولكن يوم الحشر العظيم ينتظره ولا بد أن يقدم فيها حسابا عما جنت يداه. ومتى بلغ التبغ مداه من الإضرار بكثير من الأعضاء الحيوية كالقلب والكبد والكلى يقف الطب موقف الحائر الآسف لاستعصاء الداء على الدواء ويعلم أن مثل هذه الحالات لا يرجى لها شفاء ولا يجد الآسي (الطبيب) من ثم سبيلا إلى مهادنة أخطارها وتلطيف ويلاتها إلا بإرشاده إلى اتباع النصيحة القائلة: (حد عن الشر. وافعل الخير. اطلب السلامة واسع وراءها) والإلحاح عليه بالإقلاع عن عادة التدخين كي يتاح لأعضائه البالية أن تسير به بضع أعوام أخرى إلى أن قال في صحيفة (43): إن الدكتور (أ. س. كلنتون) الطبيب المباشر لطائفة من مدارس البنين (بفرانسيسكو) يقول: (لقد كثر ما قيل عن شرور الدخينة وآفاتها إلا أن نصف الحقيقة لم يقرر في كل ما قيل فإن تعاطي الدخينة يوهن الأخلاق ويضعف الإرادة ويهدم الصحة ويخدر الأعصاب بعد أن ينشطها وينبهها ويعد الأحداث لمرض السل ويقلل من مقاومتهم له ويبتليهم بتضخم القلب ويرسلهم إلى مستشفى المجاذيب وكثيرا ما طلب مني أن أصف علاجا لأحداث مصابين بخفقان القلب وشدة وجيبه وكان تسعة أعشار هذه الحالات ناجما عن عادة التدخين فهي حلقة متصلة الأطراف قوامها البؤس ومصيرها المستشفيات والملاجئ والسجون. وأنا أقرر الحقيقة التي يعرفها كل طبيب ومعلم) اهـ المقصود منه.
وبعد: فهذه مقتطفات من كلام الأطباء في أضرار الدخان طبيا سقناها بعد كلام العلماء في بيان حكم تعاطيه شرعا فهل يليق بمنصف بعد هذا أن يتردد في تحريمه والمنع منه اللهم إلا مكابر لا عبرة به ولا بقوله.
4- تحريم الحرير على الرجال :
في صحيفة (65) قال المؤلف: (الذهب والحرير الخالص حرام على الرجال - وكرر هذه العبارة مرة أخرى في نفس الصفحة - فتقييده الحرير بالخالص يفهم منه أن الحرير غير الخالص وهو المشوب مع غيره لا يحرم عنده مطلقا. وهذا منه خطأ واضح وإجمال لا بد من تفصيله ، ذلك أن الحرير غير الخالص لا يخلو من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الحرير هو الغالب فهذا حكمه حكم الحرير الخالص في التحريم على الرجال.
الحالة الثانية: أن يكون الحرير مغلوبا مع غيره فهذا مباح للرجال عند الجمهور تعليقا للحكم بالغالب. واختار ابن دقيق العيد والشوكاني تحريمه في هذه الحالة كالحالة الأولى إلا إذا كان الحرير قدر أربع أصابع فما دون.
قال الحافظ في الفتح (10-294) وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير أغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر. قال ابن دقيق العيد: هو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1-94): وقد عرفت مما سلف الأحاديث الواردة في تحريم الحرير سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص وسواء وجد ذلك مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو مفرقا كما في الثوب المشوب وحديث ابن عباس (يعني حديث: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز - قال ابن عباس أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا) لا يصلح لتخصيص تلك العمومات ولا لتقييد تلك الإطلاقات لما عرفت. ولا مستمسك للجمهور القائلين بحل الثوب إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم فانظر أيها المنصف هل يصلح جسرا تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به على فرض تجرده عن المعارضات. فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد حفظ الله به في هذه المسألة أمة نبيه عن الإجماع على خطأ. اهـ.
5- حكم إعفاء اللحية :
ثم بحث المؤلف في موضوع إعفاء اللحية في صفحة (81) من الطبعة الرابعة لكتابه ووقع منه أخطاء في هذا الموضوع إليك بيانها:
الخطأ الأول: قوله (وليس المراد بإعفائها ألا يأخذ منها شيئا أصلا فذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا يتأذى به صاحبها. بل يأخذ من طولها وعرضها كما روي ذلك في حديث عند الترمذي وكما كان يفعل بعض السلف. اهـ.
فقوله: ليس المراد بإعفائها أن لا يأخذ منها شيئا - نقول عنه: بلى والله إن هذا هو المراد بإعفائها الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وقال به الأئمة.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3-194): وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى: (أوفوا) في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك. إلى أن قال فحصل خمس روايات (أعفوا. وأوفوا. وأرخوا. وأرجوا. ووفروا) ومعناها كلها تركها على حالها هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه - اهـ. وقال مثل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار (1-131).
وقول المؤلف: بل يأخذ من طولها وعرضها كما روى ذلك في حديث عند الترمذي. نقول هذا الحديث الذي أشار إليه حديث لا تقوم به حجة لأنه ضعيف جدا وألحقه بعض العلماء بالموضوعات - قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون لا أعلم له حديث منكرا إلا هذا - اهـ.
وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة - اهـ كلام الحافظ وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1-131) ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) وقال غريب قال سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول: عمر بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث ولا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث انتهى. وقال في التقريب إنه متروك - قال الشوكاني: فعلى هذا أنها لا تقوم بالحديث حجة [ببعض اختصار] اهـ.
وقال النووي في المجموع شرح المهذب وأما حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به. اهـ (1-290)
وقول المؤلف: وكما كان يفعل بعض السلف - نقول الحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا فيما خالفه - قال الشوكاني في نيل الأوطار (1-138) على قول صاحب المنتقى: (وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) قال: وقد استدل بذلك بعض أهل العلم. والروايات المرفوعة ترده - انتهى ونقول أيضا لم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنه كان يأخذ من لحيته بل هم متمسكون بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بإعفاء اللحية. نعم جاء عن ابن عمر كما تقدم أنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته وأخذ ما زاد على القبضة وليس في هذا دلالة على الأخذ من اللحية مطلقا وإنما يفعله ابن عمر إذا أدى نسكا حجا أو عمرة مع حلقه لشعر رأسه أو تقصيره يأخذ ما زاد على القبضة. فنطالب الأستاذ بصحة ما نقله عن السلف المعتبرين من أخذ شيء من لحاهم وأنى له ذلك.
الخطأ الثاني: قول المؤلف: (وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال: قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره. وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره. وقول بالإباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر. ولعل أوسطها وأقربها وأعدلها وهو القول بالكراهة فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للاستحباب.
صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم). اهـ.
نقول: إن ترجيح المؤلف للقول بكراهة حلق اللحية فقط ترجيح باطل لا دليل عليه. والأدلة الصحيحة تقتضي خلافه وتدل على أن الصواب هو القول الأول وهو تحريم حلق اللحية. قال ابن حزم في مراتب الإجماع صحيفة (157) واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز. اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد.
وأما قياس المؤلف الأمر بإعفاء اللحية على الأمر بصبغ الشيب في أن كلا منهما يفيد الاستحباب فهو قياس باطل لأنه قياس مع الفارق إذ الأمر بإعفاء اللحية لم يأت ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب بخلاف الأمر بصبغ الشيب فقد جاء ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب قال النووي في شرح صحيح مسلم: (14-80) وقال القاضي: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه. روي هذا عن عمر وعلي وأُبَيّ وآخرين رضي الله عنهم. وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ، إلى أن قال: قال الطبري الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط قال: واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك. اهـ.
ونقول أيضا ليست العلة في إعفاء اللحية مخالفة الكفار فقط كما في الصبغ بل وكون إعفائها من خصال الفطرة كما في الحديث الصحيح. وأيضا الصحابة والتباعون ومن بعدهم لم يختلفوا في مدلول الأمر بإعفاء اللحية. وقد اختلفوا في مدلول الأمر بصبغ الشيب ، فظهر من هذه الوجوه الفرق بين الأمر بإعفاء اللحية والأمر بصبغ الشيب وبطل قياس المؤلف إعفاء اللحية على صبغ الشيب.
وأما تعليله عدم حلق أحد من السلف للحيته بكونهم لم يكن بهم حاجة إليه وهي عادتهم فهو تعليل ساقط ، يكفي سقوطه عن رده.
ونقول: عدم حلق أحد منهم للحيته يدل على عدم جوازه عندهم. وقد كانوا يعظمون اللحية ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثط أي أمرد لا لحية له فقالت الأنصار: نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجل ، هذا شأن سلفنا الصالح في اللحية وتعظيمها وأنها علامة على كمال الرجولية. وقد قرر العلماء فيمن جنى على لحيته فتساقط شعرها ولم ينبت أن على الجاني دية كاملة كما لو قتله فكيف يقال بعد هذا إن حلقها ليس بحرام؟!.
6- حكم ما أزهقت روحه بطريقة الصعق الكهربائي من الحيوانات المأكولة :
قال المؤلف في صحيفة (48) في مبحث ذبائح أهل الكتاب: (المسألة الثانية هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا بمحدد في الحلق اشترط ذلك أكثر العلماء. والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس بشرط قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة:
وهذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق. وإنما كرره تعالى ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتحوج إلى تطويل القول ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما. فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم. والأكل دون الوطأ في الحل والحرمة) هذا ما قرره ابن العربي ، وقال في موضع ثان: (ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ، أي بغير قصد التذكية ، ميتة حرام).
قال المؤلف القرضاوي: ولا تنافي بين القولين فإن المراد أن ما يرونه مذكى عندهم لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة. وما يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله وهذا هو مذهب المالكية عامة(2)
وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فما داموا يعتبرون هذا حلال مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية. انتهى كلام المؤلف وهو محاولة لإباحة اللحوم المستوردة التي لم يتبع فيها طريقة الذكاة الشرعية.
وجوابنا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن المؤلف تصرف - هداه الله - فيما نقله من كلام ابن العربي فزاد فيه ونقص وغير بعض كلماته ، وهذا عمل يتنافى مع الأمانة العلمية والخشية الإلهية. وبمقابلة ما نقله على أصل كلام ابن العربي يظهر ما ذكرنا وذلك في مواضع:
الأول: قال ابن العربي: (إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا: (إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا) فحذف كلمة (أولادهم) وكلمة (في الصلح) وغير كلمة (ملكا) إلى كلمة (أزواجا).
الموضع الثاني: قال ابن العربي: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس- فالجواب أن هذا ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا: (ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس - أي بغير قصد تذكية - ميتة حرام).
فقارن أيها القارئ بين العبارتين تجد أن المؤلف زاد من عنده كلمة: (أي بغير قصد تذكية) وحذف من كلام ابن العربي من قوله: (بالنص) إلى قوله: (وهو حرام علينا) ولعله فعل هذا ليزيل ما في كلام ابن العربي في الموضعين من التناقض الواضح حتى يبني عليه فتواه بإباحة ما ذبح بالصعق الكهربائي ، وإن كان على غير الذكاة الشرعية.
الوجه الثاني: أن كلام ابن العربي هذا متناقض غاية التناقض ، فتارة يعتبر ما أكله أهل الكتاب وقد ذبح على غير وجه الذكاة ميتة حراما كالخنزير يحرم علينا أكله ، وهذا اعتبار صحيح يتمشى مع الأدلة الشرعية ويدخل فيه ما مات بفتل عنقه دخولا أوليا ، وهو أيضا قد فسر المنخنقة التي حرم الله علينا أكلها بتفسير يشمل ما فتل عنقه حيث قال: (والمنخنقة فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل) فهذا أيضا يبطل الكلمة التي زادها القرضاوي وهي قوله (أي بغير قصد التزكية). ثم ينقض ابن العربي كلامه الأول بكلامه الثاني فيقول إنه يباح لنا ما فتل عنقه النصراني وصار طعاما له ولأحباره ورهبانه ، وإن لم يكن هذا ذكاة عندنا ، فأي قوليه أولى بالاعتبار لا شك أن الأولى بالاعتبار ما وافق الدليل وهو القول الأول وأما القول الثاني فهو خطأ لا يتابع عليه. والمؤلف في أول كتابه يقول: (لم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا معينا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب) فما باله هنا يغيب عن ذهنه هذا القول ويقلد ابن العربي في قول خطأ ، قول متناقض متهافت. ويبني عليه فتواه بإباحة ما تكون تذكيته بالصعق الكهربائي.
الوجه الثالث: قول المؤلف: (والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله) هذا القول يقتضي أنه متى حصل إزهاق روح الحيوان بنية تحليله حصلت الذكاة الشرعية بأي وسيلة كان الإزهاق وفي أي موضع من بدن الحيوان - وهذا خطأ واضح - لأن الذكاة الشرعية لها صفة مخصوصة وآلة مخصوصة وموضع مخصوص - كما بين ذلك العلماء رحمهم الله - (3) قال ابن العربي في تفسير سورة المائدة في بيان الذكاة الشرعية: (وهي في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور عليه - كما تقدم - مقرونا ذلك بنية القصد إليه وذكر الله تعالى - ثم ذكر الخلاف في حكم المذبوح من القفا - ثم قال: وهذا ينبني على أصل نحققه لكم وهو أن الذكاة وإن كان المقصود بها إنهار الدم ولكن فيها ضرب من التعبد والتقرب إلى الله سبحانه لأن الجاهلية كانت تتقرب بذلك لأصنامها وأنصابها وتهل لغير الله فيها وتجعلها قربتها وعبادتها فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له. وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال: (إنما الذكاة في الحلق واللبة) فبين محلها وقال مبينا لفائدتها: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) فإذا أهمل ذلك ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظ التعبد. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني مبينا محل الذكاة: (وأما المحل فالحلق واللبلة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع). اهـ.
الوجه الرابع: أن فتوى المؤلف بحل اللحوم المستوردة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فتوى باطلة لأن هذه الذكاة غير شرعية ولو ذكى مسم بهذه الكيفية ما حلت ذبيحته فغير المسلم من باب أولى لأن هذه الكيفية لا تتوفر فيها الشروط المشترطة في الذكاة.
وهذه الفتوى مبنية على قول ابن العربي الآخر وقد بينا ما فيه من التناقض والبطلان.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في منسكه (2-219) على قول الفقهاء وإن وكل من يصح ذبحه ولو ذميا كتابيا جاز مع الكراهة. قلت: ومراد الأصحاب بجواز توكيل الذمي الكتابي في ذبيحة هدي المسلم أو أضحيته إذا كان الكتابي يذبح الأضحية أو الهدي أو ينحرها في موضعه الشرعي بشروطه المعتبرة. أما إن كان يذبحها بضرب المسامير أو الفئوس في الرأس ونحوه أو الكهرباء كما عليه عمل بعض النصارى في هذا الزمان فإنه لا يصح توكيله ولا تحل ذبيحته بذلك لأن ذبحه للبهيمة على هذه الصفة لا يسمى مذكى ولا تحل بذلك بل حكمها حكم الميتة فهي حرام كما لو فعل ذلك مسلم وأولى ، والله أعلم.
وأما قول المؤلف: (فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية) فيجاب عنه بأنه ليس المراد بطعامهم الذي أباحه الله لنا ما استحلوه هم بل المراد بطعامهم ما أباحه الله لهم. وكلام ابن العربي الذي اعتمده المؤلف هنا يفيد خلاف ما قاله ويؤيد ما ذكرنا لأنه قيد إباحة ما ذبحوه بكونهم يرونه في دينهم ولم يكذبهم الله فيه ويكون طعاما لأحبارهم ورهبانهم ، وهل ما ذبح بالصعق الكهربائي يرون إباحته في دينهم ويأكله أحبارهم ورهبانهم ولم يكذبهم الله فيه ، على المؤلف أن يثبت ذلك.
7- حكم التصوير :
ثم بحث المؤلف موضوع التصوير من صحيفة (72) إلى صحيفة (82) ووقع منه في هذا الموضوع أخطاء كثيرة لا بد من كشفها وبيانها وهي كما يلي:
الخطأ الأول: تقسيمه التصوير إلى محرم وهو التماثيل ومكروه كراهة تنزيه وهو المنقوش والمرسوم في الورق واللوحات والجدران. ومباح وهو التصوير الفوتوغرافي ، فهذا تقسيم باطل ترده الأدلة الصحيحة الواردة في تحريم التصوير وتحريم استعمال الصور مطلقا تماثيل أو غير تماثيل منقوشة أو فوتوغرافية. ومن ادعى التفصيل كالمؤلف فعليه الدليل ونحن نقول لك جملة من أقوال الأئمة في ذلك:
قال العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين (4-403) لما ذكر الكبائر قال: ومنها تصوير صورة الحيوان سواء كان لها ظل أو لم يكن. اهـ.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (14-18) بعد أن ذكر تحريم الصور ما نصه: (ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهو مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع ما في الأحاديث المطلقة في كل صورة. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10-384) بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا: قلت يؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها) - أي طمسها - الحديث وفيه: (من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). اهـ. وقال الحافظ أيضا في فتح الباري (10-390) في أثناء كلامه على حديث عائشة: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة) قال ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم الصور أن تكون الصور لها ظل أو لا. ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة. اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (2-108) في أثناء كلامه على حديث ابن عمر: (الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) وحديث ابن عباس: (كل مصور في النار) قال: الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب بالنار وبأن كل مصور من أهل النار ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح - إلى أن قال: وظاهر قوله (كل مصور) وقوله (بكل صورة صورها) أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم ثم ذكر أحاديث بمعناه ثم قال: فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل - إذ هي كما في كتب اللغة - الشكل - وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا - اهـ.
وبما ذكرنا من الأحاديث وكلام أهل العلم عليها تبطل دعوى المؤلف أنه ليس هناك نص صحيح سليم من المعارضة يدل على حرمة الصور المنقوشة في الثياب والبسط والجدران والمرسومة في لوحات وكذا تبطل دعواه إباحة التصوير الفوتوغرافي ، إذ التصوير الفوتوغرافي أبلغ في المضاهاة من الصور المنقوشة والمرسومة فهو أولى بالتحريم.
قال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية (264-265) ما نصه: (وإني أحب أن تجزم الجزم كله أن التصوير بآلة التصوير (الفوتوغراف) كالتصوير باليد تماما فيحرم على المؤمن تسليطها للتصوير ويحرم عليه تمكين مسلطها لالتقاط صورته بها لأنه بهذا التمكين يعين على فعل محرم غليظ وليس من الصواب في شيء ما ذهب إليه أحد علماء عصرنا هذا من استباحة التصوير بتلك الآلة بحجة أن التصوير ما كان باليد والتصوير بهذه الآلة لا دخل لليد فيه فلا يكون حراما ، وهذا عندي أشبه بمن يرسل أسدا مفترسا فيقتل من يقتل أو يفتح تيارا كهربائيا يعدم كل من مر به أو يضع سما في طعام فيهلك كل من تناول من ذلك الطعام فإذا وجه إليه اتهام بالقتل قال أنا لم أقتل إنما قتل السم والكهرباء والأسد ويردف قوله هذا بحجة: هي أن القتل لا يكون قتلا إلا إذا كان باليد وأنا ما مددت يدي إلى أولئك الموتى فكيف ينسب إلي قتلهم ، والذي يقال لهذا إن القتل أن تزهق الروح بأي وسيلة من وسائل القتل ومن الوسائل القاتلة السم والكهرباء والسبع فعلى من سلطها إثم القتل وإن لم يمد يده. فكذلك التصوير المراد منه إيجاد الصورة والبلاء كله في الصورة ، وحضرة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغضب إلا لوجود الصورة ولم يخبر أن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها الصورة إلا لوجود الصورة. ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين صورة وصورة بل جعل مناط النهي الصورة التي تشبه أي حيوان فإنه الذي له الحياة فيقال لفاعل مشابهه أحيه ، أي انفخ الروح فيه ، أما الشجر وغيره من الجمادات والنباتات فلا يقال فيها ذلك ، على أني أقول: إن هذه الآلة المصورة لا يتضح ما صورته ويحكم عليه بأنه صورة بمجرد توجيهها إلى ما يراد تصويره حتى يقال إنه لا دخل للإنسان فيه بل للمصور بعد ذلك التوجيه أعمال كثيرة حتى تتضح الصورة ولولا تلك الإجراءات ما اتضحت صورة ولا كان تصوير بل له شروط خاصة يستوفيها وقت توجيه آلة التصوير ولولا هذه الشروط لاستحال أن تكون صورة. وإذا كيف لا يكون الإنسان مصورا إذا كان تصويره بسبب تلك الآلة وكيف ينفي عنه حرج التصوير ، إلى أن قال: ولو شئت لقلت أن عذاب المصور بتلك الآلة سيكون أضعاف أضعاف ما يصوره المصور بيده. بل الذي تصوره آلة التصوير في لحظة يمكث المصور بيده سنين في تصويره والعذاب على قدر الإنتاج في التصوير وذلك أنك تفهم أن تصوير صورة واحدة معصية كبرى واحدة فإذا انضم إليها تصوير صورة ثانية كانت معصية ثانية وهكذا كلما كثرت الصور المصورة كلما كثرت آثام المصور وأنت تعلم أن العذاب يكون على قدر الآثام فكلما كثرت كلما اشتد العذاب وطال. وأنت تعرف أن المصورين بالآلة المصورة ينقلون عشرات الآلاف من الصور في مرة واحدة من توجيههم تلك الآلة كالذين يتعرضون لأخذ المجامع العظيمة كمجامع الأعياد ومجامع المشيعين لجنازات الوجهاء من الناس خصوصا إذا كانوا ممتازين. فهؤلاء وأمثالهم من المصورين لا يعلم إلا ربنا ما يستحقونه من عذاب لكثرة ما يصورونه من صور. اهـ. وهو كما ترى من وضوحه في الرد على المؤلف وأمثاله ممن يبيح التصوير الفوتوغرافي.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله في رسالة له: ومن أعظم المنكرات تصوير ذوات الأرواح واتخاذها واستعمالها ولا فرق بين المجسدة وما في الأوراق مما أخذ بالآلة. اهـ.
والمستفاد من مجموع الأحاديث شدة وعيد المصورين بالنار وباللعن وأنهم من أظلم الظالمين. وأن التصوير حرام بجميع أنواعه وعلى أي وجه كان للإتيان بصيغ العموم مثل قوله صلى الله عليه وسلم (كل مصور في النار) وقوله (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح) وقوله (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) فأتى بلفظ (كل) و(من) و(الذين) وكلها من صيغ العموم فأين يذهب من أباح شيئا من أنواع التصوير وقسمه إلى محرم ومكروه ومباح. والله المستعان.
الخطأ الثاني: استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل من الصور بالاستثناء الوارد في حديث زيد بن خالد وحديث أبي طلحة من قوله (إلا رقما في ثوب) وقد أجاب النووي رحمه الله عن هذا الاستدلال في شرحه على صحيح مسلم (14-85) حيث قال: هذا يحتج به من يقول بإباحة ما كان رقما مطلقا وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل له حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن. اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في الجواب المفيد في حكم التصوير: وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف: (إلا رقما في ثوب) فهو استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير وذلك واضح من سياق الحديث والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين وحديث أبي هريرة وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطئان ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار ونحو ذلك لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم ذكرها بألفاظها وحديث أبي هريرة صريح أن مثل هذا الستر مانع من دخول الملائكة حتى يبسط ويقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا ومهما أمكن الجمع بينها بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ كما هو مقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث وقد أمكن الجمع بينها وهنا بما ذكرنا فلله الحمد. اهـ.
الخطأ الثالث: قول المؤلف عن الصور الفوتوغرافية أنها لا تتحقق فيها علة المضاهاة التي نصت عليها بعض الأحاديث ، وهذا لا شك قول باطل ومغالطة واضحة فإن المضاهاة في هذه الصور الفوتوغرافية حاصلة أكثر من حصولها في غيرها من الصور غير الفوتوغرافية وهي تؤخذ غالبا لتطبيقها على الشخص المصور لئلا يحصل اشتباه بينه وبين غيره لأن شبهه وشكله منعكس فيها وهذا هو معنى المضاهاة ، والصورة في اللغة هي الشكل - كما تقدم في كلام الشوكاني - فصارت المضاهاة حاصلة فيها لا محالة.
ونحن نسأل المؤلف ما الذي يخرج الصور الفوتوغرافية من عموم النصوص المانعة من الصور ما دام أنها تسمى صورا لا محالة ويسمى عملها تصويرا ويسمى الذي يعملها مصورا.
الخطأ الرابع: استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل بحديث عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) قال المؤلف فلم يأمرها بقطعه وإنما أمرها بتحويله من مكانه في مواجهة الداخل إلى البيت ، إلى أن قال وبهذا يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر في بيته وجود الستر فيه تمثال ووجود قرام فيه تصاوير. اهـ.
ويجاب عن هذا الاستدلال بما قاله النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (14-87) من أنه محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة. اهـ. ويؤيد ما ذكره الإمام النووي أن مسلما أورد في صدر الباب حديث عائشة الذي فيه تحريم الصورة مطلقا وساق ما بعده ليشير إلى أن العمل على الأول وهذه طريقة مسلم في صحيحه أنه يقدم في الباب ما عليه العمل ويذكر بعده ما فيه علة أو لحقه الترك. (1)
الخطأ الخامس: في هذا الموضوع زعم المؤلف أن تشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصور كان في أول الأمر لقرب عهدهم بالشرك فلما استقرت عقيدة التوحيد رخص في الصور التي لا جسم لها.
ونحن نطالب فضيلة الشيخ المؤلف أن يأتي بدليل على هذا الزعم الذي زعمه. ومن أين له الدليل والأدلة متظافرة على رده وإبطاله حيث تدل على تحريم التصوير وتحريم الصور مطلقا في جميع الأوقات وفي جميع أنواع التصوير.. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (3-256) بحاشية الصنعاني مجيبا على هذا الزعم: (ولقد أبعد غاية البعد من قال إن ذلك محمول على الكراهة وأن التشديد كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده فلا يساويه في التشديد هذا أو معناه وهذا القول عندنا باطل قطعا لأنه قد ورد في الأحاديث الأخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين وأنهم يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: (المشبهون بخلق الله) وهذه علة عامة مستقلة مناسبة ولا تخص زمانا دون زمان وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله. اهـ. قال المحشي الأمير الصنعاني: (أقول لقد صدق وهل بعد اللعن والإخبار بأنه أشد الناس عذابا من مستروح لهذا القائل وقد أصاب الشارح بقوله (إنه قول باطل). اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (12-149-150) مجيبا عن ذلك أيضا: وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله بما فيه التماثيل الملعونة ، إلى أن قال: وكان من حجة أولئك أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ولم يجعلها مناط التحريم هي - فيما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور واللجأ إليها عند الكروب والشدائد وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها. بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلا ظاهر البطلان حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين وفي اجتهادهم واستنباطهم سارقين فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 يحكي مثل قولهم ويرده أبلغ رد وبأقوى حجة ، ثم ساق كلام ابن دقيق العيد الذي نقلناه قريبا ، ثم قال: هذا ما قاله ابن دقيق العيد منذ أكثر من 670 سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون الجاهلون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل. اهـ.
فتبين مما تقدم أن التصوير بجميع أنواعه تماثيل أو غير تماثيل منقوشا باليد أو فوتوغرافيا مأخوذا بالآلة ، كله حرام وأن كل من حاول إباحة شيء منه فمحاولته باطلة وحجته داحضة ، والله المستعان.
8- حكم كشف المرأة لوجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب :
في صفحة (112) قال المؤلف: (وعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها) وفي صفحة (113) لما ذكر نظر المرأة إلى الرجل قال: (ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة ، أي إلى وجهها وكفيها فهو مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة) وفي صفحة (115) بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} قال وهذا التوجيه يتضمن نهي النساء المؤمنات عن كشف الزينة الخفية كزينة الأذن والشعر والعنق والصدر والساق أمام الرجال الأجانب الذين رخص لها أمامهم في إبداء الوجه والكفين {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وفي صفحة (113) استدل المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة وكفيها بحديث عائشة أن أختها أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في لباس رقيق يشف عن جسمها فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) قال وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين وكشفهما.
ثم قال وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وجد الفضل ابن عمه العباس ينظر إلى امرأة أجنبية حسناء ويطيل الالتفات إليها وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه إلى الشق الآخر وقال (رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة). اهـ. حاصل كلامه.
وأقول: إن ما ذكره المؤلف في هذا المبحث يشتمل على أخطاء كثيرة هي:
أولا: تجويزه للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب وتجويزه للرجل الأجنبي أن ينظر إليهما باعتبارهما غير عورة وهذا قول باطل وخطأ واضح ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على أن وجه المرأة وكفيها وجميع بدنها عورة يجب سترها عن الرجال الأجانب ، وإليك ذكر بعض هذه الأدلة:
قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} الآية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) في الكلام على الآيتين ما نصه: (والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين فقال ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب وقال ابن عباس ومن وافقه هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم ، إلى أن قال جامعا بين القولين: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره (3) ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} حجب النساء عن الرجال وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع النساء أن ينظرن ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإلا فهي مما ملكت يمينه فحجبها فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الذي يغطي رأسها وسائر بدنها وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن وفي الصحيح (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين) فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب وكان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين انتهى (4)
وقال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات خاصة وأزواجه وبناته لشرفهن بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب هو الرداء فوق الخمار قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم قال الجوهري الجلباب الملحفة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6-197-200) لما ذكر النقول عن السلف في تفسير الزينة بقسميها ما نصه:
(وقد رأيت في هذه النقول عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا.
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود ومن وافقه أنها ظاهر الثياب لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى ، وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة ما تتزين به وليس من أصل خلقتها أيضا لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع اللابس من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان. وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول. وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ مع تكرار ذلك اللفظ في القرآن فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب يدل على أنه هو المراد في محل النزاع لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ وذكرنا بعض الأمثلة في الترجمة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منهما فبيانه أن قول من قال في معنى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد بالزينة الوجه والكفان مثلا توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول وهي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} وقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} الآية.
وقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} الآية وقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وقوله تعالى عن قوم موسى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} وقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن الكريم وهو المعروف في كلام العرب ، كقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهن خير عواطل
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب. وقال بعضهم هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية. وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم ، والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي ، وقال أيضا في صفحة (584-586) من الكتاب المذكور على قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} الآية ما نصه:
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول وذكرنا أمثلة في الترجمة ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومن أمثلته قول كثير من الناس أن آية الحجاب أعني قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهم وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
وقد تخصص وقد تعمم ** لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة ، وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، إلى أن قال: ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} فقد قال غير واحد من أهل العلم إن معنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} أنهن يسترن بها جميع وجوههن ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها وممن قال به ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم. اهـ. وقال في صفحة (592) أيضا ما نصه: (وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب. ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة. فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى المقصود منه.
وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتاب الحجاب له بعد أن ذكر جملة من أقوال المفسرين على آية الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الآية ما نصه: (ويتضح من هذه الأقوال جميعها أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي قد فهمناه من كلماتها. وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي وكن لا يخرجن سافرات فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ونهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة فنهين عنه في الإحرام ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تعرض الوجوه في موسم الحج عرضا بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة كما يكون جزءا من لباسهن عادة. فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كن يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) ، إلى أن قال: وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم ير في الأمر مجالا للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب وما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم. اهـ.
وقال الشيخ محمد علي الصابوني في روائع البيان (2-384): ومن درس حياة السلف الصالح وما كان عليه النساء الفضليات ، نساء الصحابة والتابعين وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر والتحفظ والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم وما دروا أنها مكيدة دبرها لهم أعداء الدين وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي الذي عمل له الأعداء زمنا طويلا. وإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ. وبما تقدم تعلم أنه لا مستمسك للمؤلف بقوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وأن الآية حجة لنا لا له.
وأما أدلة السنة على وجوب الحجاب: فهناك أحاديث كثيرة تدل على وجوب الحجاب منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (5): وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ، وقال (6) ووجه المرأة في الإحرام فيه قولان في مذهب أحمد وغيره: قيل إنه كرأس الرجل فلا يغطى وقيل كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كبدن الرجل وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو. اهـ.
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه). رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه. قال الشوكاني في نيل الأوطار واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها (يريد حال الإحرام) لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة. اهـ. (7) ومعناه: أنه لا يحرم عليها ستر وجهها حالة إحرامها بحضرة أجانب أو غيرهم وهذا صريح من الإمام الشوكاني أنه يرى وجوب ستر المرأة لوجهها إذ أن الوجه هو موضع الزينة ومحل الافتتان بها ونساء الصحابة يكشفن وجوههن حالة الإحرام فإذا مر بهن الرجال الأجانب سترن وجوههن عنهم. مما يدل على أن المعتاد عندهم هو ستر الوجه.
هذه بعض أدلة الكتاب والسنة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة عن الرجال الأجانب وطرف من كلام أهل العلم عليها ولو تتبعنا كل ما ورد وكل ما قيل في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلدات لكن نكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة.
الجواب عما استدل به المؤلف
1- أما استدلال المؤلف على جواز كشف الوجه واليدين من المرأة بحضرة الرجال بحديث (8) عائشة في قصة دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لها (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) .. فمن العجيب استدلاله بهذا الحديث مع اعترافه هو بضعفه فكيف يعارض به الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم نظر الرجل إلى وجه المرأة الأجنبية ووجوب ستره. وأما قوله: (لكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين عند أمن الفتنة) فنحن نطالبه أن يعين هذه الأحاديث التي ادعى أنها تقويه وأنها صحاح ، كما نطالبه أيضا ببيان الحد الذي تؤمن عنده الفتنة حين النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وهل هناك أحد يأمن على نفسه الفتنة في هذا النظر أليس النظر وسيلة إلى الافتتان. والمؤلف نفسه في أول كتابه قد قرر هذه القاعدة فقال: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام) فلماذا يتناسى ذلك هنا؟. وقد قال أيضا في كتابه في صفحة (110) والنظر رسول الفتنة وبريد الزنا وقديما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثا قال آخر:
نظرة فابتسامة فسلام ** فكلام فموعد فلقاء
فما باله الآن يتساهل في النظر.
قال الشيخ الصابوني في هذا الموضوع في كتابه روائع البيان (2-173) والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئا من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها وأيهما تكون الفتنة أكبر - الوجه أم القدمين - يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الناس أمر الدين فإذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض لئلا يسمع صوت الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر. اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-602) ما نصه: (وبالجملة فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ** ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ** ولكن تأنيث الرجال عجيب
انتهى.
إضافة إلى ذلك نقول إن الفتنة متوقعة من كل رجل ينظر إلى وجه امرأة أجنبية ولا سيما الشابة الجميلة فإن الفتنة بالنظر إليهما أعظم. فيتعين الحجاب منها لهذه الفتنة على جميع النساء.
ونعود إلى بيان درجة الحديث الذي استدل به المؤلف وبيان ما قاله العلماء فيه. قال ابن كثير: قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: قال أبو داود هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها. وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق مولى بني نصر وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم من رواه غير سعيد بن بشير وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة. اهـ. وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-597) وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين:
الأولى: كونه مرسلا لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة كما قاله أبو داود وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة النور.
الجهة الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم قال في التقريب: ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب. ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب. اهـ. قلت: وحديث هذه درجته لا يصح الاستدلال به لا سيما في هذه المسألة الخطيرة.
2- وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها ، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح. قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية. ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه. وقال العلامة ابن القيم في روضة المحبين صفحة (102) وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه. اهـ. (9)
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-600-601) مجيبا عن هذا الاستدلال ما نصه: (وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة وفي بعض روايات الحديث أنها حسناء ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك. بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين. ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها. ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفه أهله ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل وهو لم يقل له إنها كانت كاشفة عن وجهها واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها. إلى أن قال: مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدها وقوامها وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم ولذلك فسر ابن مسعود {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالملاءة فوق الثياب كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب.
قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة ** يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها وعليها ستره من الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور ، إلى أن قال: ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة كما ترى وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها. انتهى.
9- اللعب بالشطرنج :
في صحيفة (217) ذكر المؤلف خلافا في حكم اللعب بالشطرنج واختار هو القول بإباحته وقال الأصل فيما علمناه الإباحة ولم يجئ نص على تحريمه على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر ثم ذكر شروطا لإباحته وهي:
1- أن لا تؤخر بسببه الصلاة عن وقتها.
2- أن لا يخالطه قمار.
3- وأن يحفظ اللاعب لسانه من الكلام الفاحش.
والجواب أن هذه الشروط التي ذكرها المؤلف من النادر توافرها في لاعب الشطرنج ولو سلمنا جدلا توافرها فإباحة اللعب بالشطرنج حينئذ وسيلة إلى الدخول في المحرم والوقوع في المحظور وضياع هذه الشروط ، فيلزم القول بتحريمه مطلقا وقد نص كثير من العلماء على تحريم اللعب بالشطرنج والتحذير منه (1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام طويل في هذا الموضوع يبتدئ من صحيفة (216 حتى صفحة 245) من المجلد الثاني والثلاثين من مجموع الفتاوى نقتطف منه ما يلي:
قال رحمه الله: (وإذا قدر خلوها من ذلك كله (يريد الشغل عن الواجبات وفعل المحرمات) فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) شبههم بالعاكفين على الأصنام كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شارب الخمر كعابد وثن) والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة. والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه تحريمها. وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها للخبر واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد - إلى أن قال الشيخ - وهكذا نقل عنه (يعني الشافعي) غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم - إلى أن قال - لكن المنقول عن الشافعي فظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض ولهذا قال: أكرهها للخبر فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده وهذا مما احتج به الجمهور عليه وأنه إذا حرم النرد ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب وهي تفعل بالنفوس فعل حميا الكئوس فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها. فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة. وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل فهكذا القول في الشطرنج - إلى أن قال الشيخ رحمه الله - والنرد والشطرنج ونحوهما من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصى وليس فيها مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك. وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية. والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أبي ذر أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم) وقد بين سبحانه في هذه الآية أن المتقي يدفع عنه المضرة وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب. وكل ما يتغذى به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق. والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما وإن كانت تفيده مقدارا من السرور فما تعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك كما جرب ذلك من جربه وهكذا سائر المحرمات.
ثم قال رحمه الله في موضع آخر: لما ذكر الحكم في حالة خلو اللعب بالشطرنج عن العوض وترك الواجبات وفعل المحرمات. قال: وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء كمالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وكثير من أصحاب الشافعي أنه حرام. وقال هؤلاء إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال بل كرهه. وقيل إنه قال: لم يتبين لي تحريمه ، والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي ذكر إجماع الصحابة على المنع منه عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وأبي موسى وعائشة رضي الله عنهم. ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط. والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بغير أسانيد. اهـ. المقصود من كلام الشيخ رحمه الله.
فانظر إلى قوله عن الشطرنج: (ليس فيه مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ويجتلب المفاسد غنية.. الخ)
وقابله بقول فضيلة المؤلف عنه [أي الشطرنج]: (على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر) ووازن بين القولين بإنصاف يظهر لك أي القولين أولى بالصواب.
وانظر أيضا إلى قول الشيخ تقي الدين: (والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث ذكر إجماع الصحابة على المنع منه - أي الشطرنج - ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط). ثم قابله بقول فضيلة المؤلف: (أما الصحابة رضي الله عنهم فإنه اختلفوا في شأنه) ثم ذكر أن ابن عباس وأبا هريرة قالا بإباحته يا ترى من أولى بمعرفة أقوال الصحابة ، شيخ الإسلام ابن تيمية والبيهقي أم فضيلة المؤلف ، والله المستعان.
وقال القرطبي في تفسيره (7-339): قال ابن العربي المالكي في قبسه (وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها - أي الشطرنج - وما كان ذلك قط وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون إنها تشحذ الذهن والعيان يكذبهم ما تبحر فيها قط رجل له ذهن). اهـ. فهذا ابن العربي ينفي نفيا جازما أن يكون أحدا من الصحابة أو التابعين لعب بالشطرنج ويحلف على ذلك وينقل ذلك عنه القرطبي مقررا له (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32-241): روى البيهقي بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول الشطرنج ميسر العجم. وروى بإسناده عن علي أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها ، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال أما والله لغير هذا خلقتم أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم. وعن مالك قال بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم فأحرقها (3) وعن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال: هو شر من النرد. وعن أبي موسى الأشعري قال: لا يعلب بالشطرنج إلا خاطئ. وعن عائشة أنها كانت تكره الكيل [لعله: الكل] وإن لم يقامر عليها. وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها - فهذه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك. ثم روى البيهقي أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال دعونا من هذه المجوسية- قال البيهقي روينا كراهة اللعب بها عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم ومالك بن أنس قلت: والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم بل صرحوا بأنها شر من النرد والنرد حرام وإن لم يكن فيها عوض انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
10- حكم سماع الغناء والموسيقى :
بحث المؤلف موضوع الغناء والموسيقى ابتداء من صحيفة (218) حتى صحيفة (221) وقد جانب الصواب في عدة مسائل:
منها قوله: (ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان الغناء وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم. ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة واستحبه في المناسبات السارة إشاعة للسرور وترويحا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود). اهـ.
والملاحظ على هذه الجملة عدة أمور:
الأمر الأول: وصفه الغناء بأنه تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان وهو يريد بوصفه بهذه الأوصاف تحسينه للناس وترغيبهم في استماعه - فنقول له: ليس الضابط في إباحة الشيء وحسنه مجرد كونه يحصل به راحة للنفوس وطرب للقلوب دون نظر إلى ما يترتب عليه من المفاسد وما يجر إليه من المضار ، وأكثر النفوس تميل إلى الباطل وتستريح إليه أفنقول إنه حلال ، كلا ، قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين (1-491): فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيها الأحكام الخمسة تكون في الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وإن لذته لا ينكرها من له طبع سليم وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد وهل خلت غالب المحرمات من اللذات وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها وإن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع. اهـ.
وقال العلامة ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين - أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله سبحانه والقيام بخدمته ، والثاني: أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا في المتجددات ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل فلذلك يحث على الزنا فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس ولهذا جاء في الحديث: (الغناء رقية الزنا). اهـ.
الأمر الثاني مما يلاحظ على المؤلف: قوله عن الغناء: (وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم) فقد تخيل المؤلف خلو الغناء من هذه المفاسد وبنى على هذا التخيل الحكم بإباحته ونسب ذلك إلى الإسلام. وهذا من المجازفة في القول ومن القول على الله بلا علم - لأن الواقع خلافه ، فاٍلإسلام ما أباح الغناء بل حرمه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآيات ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (4) ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء - إلى أن قال - ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكهم وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن وكلاهما لهو الحديث ولهذا قال ابن عباس: لهو الحديث الباطل والغناء - فمن الصحابة من ذكر هذا ومنهم من ذكر الآخر ومنهم من جمعهما والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل. وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه - إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم استبدال لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنيين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. اهـ. من إغاثة اللهفان (1-258-259).
ومن أدلة السنة على تحريم الغناء قوله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولن ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) رواه البخاري محتجا به - قال ابن القيم: وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة - ثم ساقها - رحمه الله (5) فكيف يزعم المؤلف مع هذا كله أن الإسلام أباح الغناء
ذكر طرف من أقوال العلماء في تحريم الغناء
ونذكر جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الغناء:
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره (14-55-56) عن الإمام مالك أنه قال في الغناء إنما يفعله عندنا الفساق. قال وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا - إلى أن قال: قال أبو الطيب الطبري: وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة - إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال: وأما مذهب الشافعي فقال الغناء مكروه ويشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته - ثم ذكر القرطبي نقلا عن ابن الجوزي: أن الإمام أحمد سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا فقال لا تباع إلا أنها ساذجة. قال أبو الفرج: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل الأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم عندي خمر لأيتام فقال أرقها فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى - قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالسواد الأعظم) (ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية).
قلت: ما إباحه إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري من الغناء ليس هو كالغناء المعهود المثير للنفوس والباعث على الشوق والغرام المهلب لها من وصف الخد والعينين ورشاقة الشفتين. تقعد المغنية أمام المذياع فتؤدي غناها بصوت رخيم يبعث على الوجد والأنات. يسمع صوتها من بعد ومن قرب فحاشا هذين المذكورين أن يبيحا مثل هذا الغناء الذي هو في غاية الانحطاط ومنتهى الرذالة.
ثم قال القرطبي: قال أبو الفرج وقال القفال من أصحابنا لا تقبل شهادة المغني والرقاص. قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك وقد مضى في الأنعام عند قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وحسبك. اهـ كلام القرطبي وما ذكره في سورة الأنعام هو قوله (7-3) قال أبو عمر بن عبد البر في الكافي: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء وعلى الزمر واللعب الباطل كله. أهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (30-215) في أثناء كلام له على ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر براع معه زمارة فسد أذنيه.
قال: الوجه السادس أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء والنوح فقال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة والمغنية كره ذلك الشعبي والنخعي ومالك وقال أبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد: لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح وبه نقول.
وقال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (1-245) في ذكر أقوال العلماء في الغناء نقلا عما ذكره أبو بكر الطرطوشي في كتابه (تحريم السماع) قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب وسئل مالك رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق - قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه قال ابن القيم: قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه - قالوا ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض - وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله. إلى أن قال ابن القيم وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. اهـ فهذا حكم الغناء كما تراه وكما يدل على منعه الكتاب والسنة والإجماع إلا من شذ فلا يهولنك ما عليه كثير من الناس اليوم من استباحتهم له وتساهلهم في سماعه ونسبة من أنكره إلى الجمود والتحجر وصيرورته كالمضغة في الأفواه البذيئة فليقولوا ما شاءوا فهذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم نكن ندعهما لقول قائل ولا إرضاء أحد من الناس كائنا من كان.
وأما قول المؤلف: (ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة) فمعناه إباحة شيء من المعازف والمزامير والملاهي التي جاء الحديث الصحيح بتحريمها كلها والوعيد لمن استباحها في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) الحديث - والمعازف جمع معزفة ويقال معزف بكسر الميم وفتح الزاي فيهما قال الجوهري: المعازف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني وقد عزف عزفا.. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11-576): مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام. ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير - والمعازف هي الملاهي كما ذكر أهل اللغة جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها أي يصوت بها ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا. ا هـ.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1-277-278): فصل في بيان تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق الأحاديث في ذلك: عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال: (باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) إلى أن قال ابن القيم: ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز - إلى أن قال: وقال ابن ماجه في سننه حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير) وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد. ا هـ فتبين أنه لا يباح شيء من آلات اللهو لا موسيقى ولا غيرها والله أعلم.
وقول المؤلف عن الغناء: إنه استحبه الإسلام في المناسبات الخ...
لا ندري من أين أخذ هذا الاستحباب والإطلاق وغاية ما في الأمر الرخصة بإنشاد شيء من الشعر للنساء والجواري خاصة في مناسبات معينة - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (11-565): (ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ولما كان الغناء والضرب بالدف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر رضي الله عنه: (أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضا بوجهه عنهما مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط فقال: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام) ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري في الأعياد كما في الحديث: (ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة) وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها. وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار. ا هـ.
الجواب عن الشبه التي تعلق بها المؤلف لإباحة الغناء
ثم نقل المؤلف: عن الغزالي أنه ذكر في كتاب الإحياء أحاديث غناء الجاريتين ولعب الحبشة في مسجده صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (دونكم يا بني أرفدة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: تشتهين أن تنظري ووقوفه حتى تمل هي وتسأم ولعبها بالبنات هي مع صواحبها - ثم قال فهذه الأحاديث كلها في الصحيحن وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام - الخ ما نقل.
والمؤلف موافق للغزالي في استدلاله بهذه الأحاديث على إباحة الغناء مطلقا لأنه ساق كلامه مستشهدا به ومقررا له ، ولا يخفى أن هذه الأحاديث لا تدل بوجه من الوجوه على إباحة الغناء وإليك بيان ذلك:
أما حديث لعب الحبشة فليس فيه ذكر الغناء أصلا إنما فيه أنهم كانوا يلعبون بحرابهم ودرقهم وذلك جائز بل قد يكون مستحبا لما فيه من التدريب على استعمال آلات الحرب والتمرن على الجهاد.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (6-184) فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد. ا هـ.
وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه: (باب الحراب والدرق يوم العيد)
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2-304) واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب. ا هـ.
هذا ما فهمه هؤلاء الأئمة الأجلاء من حديث لعب الحبشة وهو الذي دل عليه الحديث لا ما فهمه الغزالي والمؤلف. والله أعلم
وأما حديث غناء الجاريتين فلا دلالة فيه أيضا على إباحة الغناء لأنه يدل على وقوع إنشاد شيء من الشعر العربي في وصف الحرب من جاريتين صغيرتين في يوم عيد - قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين (1-493): وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا ؟ والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا استماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام. ا هـ.
وقال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس صفحة (217): والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن عائشة كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب إليها الجواري فيلعبن معها - ثم ذكر بسنده عن أحمد بن حنبل أنه سئل أي شيء هذا الغناء قال غناء الركب: أتيناكم أتيناكم ثم قال ابن الجوزي في صفحة (229) من الكتاب المذكور: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت في الإنشاد وترجيع ومثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم أوليس قد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد. وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف على مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال. والخد والقد والاعتدال. فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إلى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن حد الآدمية - إلى أن قال: وقد أجاب أبو الطيب الطبري عن هذا الحديث بجواب آخر - فأخبرنا أبو القاسم الجريري عنه أنه قال: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله إنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها. ا هـ.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم (6-182) قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة وهذا لا يهيج الجواري على شر ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه إنما هو رفع الصوت بالإنشاد ولهذا قالت وليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل كما قيل الغناء فيه الزنا وليستا أيضا ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبا والعرب تسمي الإنشاد غناء. ا هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2-442-443): واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب (يعني حديث غناء الجاريتين) على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها: (وليستا بمغنيتين) فنفت عنهما بطريق المعنى ما أثبته لهما اللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه الأعراب النَّصْب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا. وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح ، قال القرطبي: قولها (ليستا بمغنيتين) أي ليستا ممن يعرف بالغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن - إلى أن قال: وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل - والله أعلم. ا هـ.
فاتضح من هذه النقول عن هؤلاء الأئمة في معنى هذا الحديث أنه لا يدل بوجه من الوجوه على ما ادعاه الغزالي والمؤلف القرضاوي من إباحة الغناء مطلقا والله أعلم.
وقول المؤلف: وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم استمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأسا. هذا دعوى منه ونحن نطالبه بإبراز الأسانيد الصحيحة إلى هؤلاء الصحابة والتابعين بإثبات ما نسبه إليهم (6) وأن هذا الغناء المنسوب إليهم استماعه هو من جنس ما يغني هؤلاء من إلهاب النفوس الباعث على الوجد والغرام والمشتمل على أوصاف المحاسن من النساء وأنى له ذلك ومجرد الدعوى لا يثبت به حكم
والدعاوى إذا لم يقيموا بينات ** عليها أهلها أدعياء
اعتراض المؤلف على أدلة تحريم الغناء والجواب عنه
يلاحظ على المؤلف في هذا الموضوع قوله عن أدلة تحريم الغناء: (وأما ما ورد فيه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه).
ونجيب عن قوله هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن نقول إن أدلة تحريم الغناء ليست مقصورة على الأحاديث فقط بل هناك أدلة على تحريمه من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية وقد تقدم الكلام عليها. ومنها قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} الآية عن مجاهد قال: استزل منهم من استطعت. قال وصوته الغناء والباطل. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك. فكل متكلم في غير طاعة الله أو مصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان. وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو من خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (قال رجله كل رجل مشت في معصية الله. ا هـ) (7)
ومنها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال عكرمة عن ابن عباس السمود الغناء في لغة حمير يقال اسمدي لنا أي غني وقال عكرمة كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية وقال ابن كثير رحمه الله وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال: الغناء - هي يمانية - اسمد لنا غن لنا وكذا قال عكرمة. ا هـ إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن نقول للمؤلف من هم فقهاء الحديث وعلماؤه الذين طعنوا في الأحاديث الواردة في تحريم الغناء سمهم لنا هل هم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأمثالهم من أئمة الجرح والتعديل أم هم ناس غير هؤلاء ممن يبيح الغناء (8)
الوجه الثالث: أن نقول للمؤلف إن الأحاديث الواردة في تحريم الغناء ليست مثخنة بالجراح كما زعمت بل منها ما هو في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله. ومنها الحسن ومنها الضعيف وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الغناء والملاهي (9)
زعم المؤلف أن العلماء ما حرموا الغناء إلا لاقترانه بمحرمات والجواب عنه
ثم قال المؤلف: وقد اقترن الغناء والموسيقى بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما جعل كثيرا من العلماء يحرمونه أو يكرهونه.. الخ ما قال.
وجوابنا عن ذلك أن نقول: ليس تحريم العلماء للغناء من أجل اقترانه بهذه الأشياء فقط بل إن تحريمهم له من أجل الأدلة على تحريمه في نفسه ولو لم يقترن بهذه الأشياء التي ذكرتها. فهذا الذي قاله المؤلف ادعاء منه على العلماء أنهم ما حرموه إلا من أجل ذلك وهو ادعاء مردود. ثم قال: (ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شراب أو تخالطه خلاعة أو فجور فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذب الشديد حين قال (10) : (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير).
والجواب عن هذه الجملة كالجواب عن الجملة التي قبلها: إن الغناء حرام ولو لم يقترن به محرم آخر. كما أن شرب الخمر المذكور في الحديث الذي ساقه المؤلف حرام ولو لم يكن معه غناء. قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار (8-107) مجيبا على هذه الدعوى ما نصه: (ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث (يريد حديث: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) لا يحرم إلا عند شراب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأيضا يلزم مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف. ا هـ.
اعتراضه على تفسير لهو الحديث بالغناء والجواب عنه
ثم قال فضيلة المؤلف: قال بعضهم: (إن الغناء من لهو الحديث المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وقال ابن حزم إن الآية ذكرت صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله هزوا لكان كافرا فهذا هو الذي ذم الله عز وجل. وما ذم سبحانه قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح به نفسه لا ليضل عن سبيل الله)
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن قول المؤلف: (وقال بعضهم إن الغناء من لهو الحديث) بهذه الصيغة يفيد التقليل من شأن هذا القول وتضعيفه وتجاهل من قال به من أكابر الصحابة والتابعين كابن عباس وابن عمر وابن مسعود ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي. كما يأتي بيانه وهذا خطأ بين.
قال القرطبي في تفسيره: (ولهو الحديث): الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. إلى أن قال: قال ابن عطية وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي. ثم قال القرطبي قلت: هذا أعلى ما قيل في هذه الآية وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال: سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} فقال الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وعن ابن عمر أنه الغناء وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب. وقاله مجاهد وزاد أن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن: (لهو الحديث): المعازف والغناء. ثم ذكر القرطبي الأقوال الأخرى في تفسير الآية ثم قال: قلت: القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب للحديث المرفوع وقول الصحابة والتابعين فيه. ا هـ.
الوجه الثاني: أن نقول وبما تقدم من ذكر من فسر {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالغناء من أجلاء الصحابة والتابعين يحصل الجواب عما نقله المؤلف عن ابن حزم من تفسيره الآية بما يخالف ذلك فيقال من هو ابن حزم وما تفسيره بجانب هؤلاء وتفسيرهم حتى يقابله بهم - نقول هذا مع إجلالنا لابن حزم واعترافنا بمكانته العلمية - لكن لا نتابعه على خطأ ولا نقدم قوله على قول من هو أجل منه لا سيما من الصحابة والتابعين. قال العلامة ابن القيم: ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء , إلى أن قال: قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل هو عند الشيخين حديث مسند وقال في موضع آخر من كتابه هو عندنا في حكم المرفوع ، وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة وقد شاهدوا التفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ا هـ من إغاثة اللهفان. وبه وبما قبله من القول تعلم أن تفسير {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالباطل دخل الغناء دخولا أوليا فيه كما لا يخفى والله أعلم.
هل يكون الغناء مقويا على طاعة الله ؟
ثم نقل المؤلف عن ابن حزم أنه قال: (فمن نوى بالغناء عونا على معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها وقعوده على باب داره متفرجا وصبغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك) ا هـ.
والجواب: أن هذا الكلام من ابن حزم مبني على مذهبه أن الغناء حلال له حكم سائر المباحات وقد علمنا أن هذا مذهب باطل ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم الغناء واستماعه فلا يلتفت إليه. وعده استماع الغناء مما يتقوى به على طاعة الله وأنه من الحق هو من قلب الحقائق والمغالطة الواضحة لأن الغناء على العكس مما ذكر يصد عن طاعة الله ويضل عن سبيل الله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ولهو الحديث هو الغناء كما تقدم بيانه فقوله هذا مصادم للآية الكريمة والاستماع الذي يستعان به على طاعة الله هو الاستماع إلى القرآن الكريم. قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين: (1-485) والمقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة إدراكا وفهما وتدبرا وإجابة. وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم وأمر به أولياءه فهو هذا السماع وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء وسماع المراشد لا سماع القصائد وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنيين والمطربين - إلى أن قال: ويا لله العجب أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه - إلى أن قال: فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أن يتقرب إلى الله ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه مقيت عنده يمقت قائله والراضي به وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يا لله إن هذا القلب مخسوف به منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره فبلاه بقراءة الشيطان كما في معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا (إن الشيطان قال يا رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لي كتابا قال كتابك الوشم قال اجعل لي مؤذنا قال مؤذنك المزمار قال اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لي مصائد قال مصائدك النساء قال اجعل لي طعاما قال طعامك ما لم يذكر عليه اسمي) والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11- ابتداء من صفحة 557) ما نصه: فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم فهو سماع آيات الله تعالى وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم والمعرفة.
إلى أن قال: وبهذا السماع أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وعلى أهله أثنى كما قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} إلى أن قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} إلى أن قال رحمه الله: (وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر والعشاء وغير ذلك وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ويستدعيه منهم. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن. إلى أن قال: وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إلى أن قال: وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الذكية يطول شرحها ووصفها وله آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد وهذا مذكور في القرآن ثم قال وبالجملة فهذا السماع هو أصل الإيمان. ثم قال: وبالجملة فقد عرف من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقديد والدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعة واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي. إلى أن قال: ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به [يعني الغناء] لا يحن إلى سماع القرآن ولا يفرح به ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات بل إذا سمع القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المشروب. ثم قال رحمه الله في موضع آخر: فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف بل قد يصد عن ذلك ويعطي ما لا يحبه الله ورسوله أو ما يبغضه الله ورسوله لم يأمر الله به ولا رسوله ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها. وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حدث به وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) وإذا وجد فيه منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك لا من الكتاب ولا من السنة لم يلتفت إليه. اهـ المقصود من كلامه رحمه الله.
وأما قول ابن حزم عن الغناء: ومن لم ينو طاعة (أي بسماع الغناء) ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه وجلوسه على بابه وصبغه لثوبه..
فنجيب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق لأنه قياس محرم على مباح وقياس ما فيه مضره على ما لا ضرر فيه - إلى غير ذلك من الفوارق فهو قياس باطل - والعجب أن ابن حزم لا يقول بالقياس وينكره فكيف يقيس هنا هذا القياس الفاسد.
11- حكم دخول دول السينما
في صفحة (223) أبدى المؤلف رأيه في حكم دخول السينما فقال بعد مقدمة قدمها (وهكذا نرى في السينما فهي حلال طيب بل قد تستحب وتطلب إذا توفرت لها الشروط الآتية. ثم ذكر شروطا حاصلها:
1- أن تنزه موضوعاتها التي تعرض فيها عن المجون والفسق وكل ما ينافي عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه.
2- أن لا تشغل عن واجب ديني أو دنيوي كالصلوات الخمس.
3- أن يتجنب مرتادها الملاصقة والاختلاط المثيرين بين الرجال والنساء الأجنبيات عنهم منعا للفتنة ودرأ للشبهة.
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن نقول: بعيد كل البعد أو قد يكون مستحيلا في السينما أن تتوفر هذه الشروط التي ذكرها المؤلف وخلوها من هذه المحاذير لأنها لو خلت من هذه الأشياء وتمحضت للتوجيه النافع - على حد زعم المؤلف - لم يحصل الإقبال عليها من الناس ولم يكثر مرتادوها - ومهمة القائمين عليها استجلاب الناس إليها بشتى الوسائل ليحصلوا منهم على الكسب المادي لأنها أداة كسب في الغالب.
الوجه الثاني: لو فرضنا خلوها من هذه المحاذير - فإنها لا تخلو من عرض الصور المتحركة ومشاهدتها - ولا شك أن التصوير لذوات الأرواح واستعمال الصور المحرمة محرم. وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول الكعبة حتى محى ما فيها من الصور وامتنع صلى الله عليه وسلم من دخول بيت عائشة رضي الله عنه من أجل نمرقة فيها تصاوير. وامتنع من دخول بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رأى فيه تصاوير - فدل ذلك على أنه لا يجوز مشاهدة الصور في البيت ولا في السينما ولا في غيرها ولا دخول مكان تعرض فيه.
وكشاهد على ما ذكرنا من أنه لا يمكن خلو السينما من المحاذير والشرور وأنها أداة شر. ننقل لك جملة من أقوال من عرفوا تلك الأضرار في السينما فحذروا منها:
قال في كتاب النهضة الإصلاحية صحيفة (357) وهو يعدد جملة من المنكرات قال: ومنها وقوع نظر النساء على الصور المتحركة - السينما - ذلك أن تلك الشاشة البيضاء كما يسمونها لا تخلو أبدا من مناظر فاجرة تمثل الفسق والغرام والهيام المفرط الذي جاوز الحد ومعروف أن النفوس مجبولة على التقليد ولها من الإحساس ما يتحرك ويهيج إذا رأى المحرم المهيج. وأي مهيج أقوى وأشد من هاتيك المناظر المتعمدة المقصودة للتهييج وكيف لا تسارع المرأة ناقصة العقل والدين كل المسارعة إلى تقليد ما ترى على الشاشة البيضاء من ترام في الأحضان وتضام وعناق وتقبيل وما يتلو ذلك. إن من لا يقول إن المرأة تتأثر بهذه المناظر تأثرا خطرا يكون مريض العقل فاقد الإحساس عادم التقدير لا أتردد أنا في ذلك ولقد هيئت الفرص أن أتكلم في هذه النقطة مع سيدات ممن تعودن الذهاب إلى حيث الصور المتحركة فلم يترددن في موافقتي على أن تلك المناظر تؤثر عليهن كل التأثير ولقد أخبرتني سيدة رأت في تلك الشاشة صورة حرب فيها كر وفر وتصادم وهجوم وطعن وضرب وإطلاق نيران وما إلى ذلك من فنون الحروب المهلكة تقول لي وزوجها الذي يرغمها إلى الذهاب إلى تلك المناظر يسمع: إني لم أقم من ذلك المكان بعد رؤية هاتيك الصور إلا وكلي رعب وفزع لا يتصل مني عضو بالآخر من شدة ما نزل من التأثر وهي تريد أن تقول لي بتلك الحكاية إن كل منظر مؤذ يؤثر في موضوعه فإذا كان على الشاشة صور غرامية أثرت في النفوس للحد الذي يفهمه من يعرف قوة الطبيعة الحيوانية في الإنسان. ا هـ.
وجاء في مجلة الأزهر (26-442) ما نصه: (وبحث مشكلة السينما في مصر متشعب النواحي فقد تبحث باعتبارها فنا من الفنون أو صناعة من الصناعات أو أداة ووسيلة حيوية لتوجيه الشعب وتثقيفه وإرشاده وهي الناحية التي سنعرض لها هنا لنتبين إلى أي مدى استطاعت السينما أن تحقق هذه الوظائف القومية في المجتمع المصري وإن من يتبع الأفلام المصرية ويشاهد منها الكثير والكثير وهي وفيرة العدد ليخرج بحقيقة واحدة لا يستطيع عنها حولا وإن أكثر من المشاهدة والتدقيق وتعب في الفحص والاختبار. هذه الحقيقة الوحيدة هي أن هذه الأفلام قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الأهداف المذكورة وعجزت عجزا تاما عن أداء الوظائف الحيوية في خدمة الإرشاد العام في المجتمع المصري مؤثرة عناصر التجارة على عنصر التوجيه ومطرحة لعنصر الفن وضاربة الصفح إلا عن ابتزاز الأموال. ا هـ.
وجاء في صحيفة (517) من المجلد (26) من تلك المجلة أيضا: (يندر أن يجد المدمن على مشاهدة الأفلام فيلما يخلو من قبلات حتى لقد أصبحت من لوازم هذه الأفلام - إذا جلست في دار الخيالة تشاهد واحدا منها فلا بد أن تكون موطنا نفسك على أن تشهد منها الكثير والكثير بمناسبة وبغير مناسبة. بل إن الكثير من المراهقين والشبان والفتيات ليدخلون دور الخيالة ليشهدوا هذه الطبعات التي يحلمون بها ويشتاقون إلى ذوق أمثالها وهنا بيت الداء ومبعث انتشاره. ا هـ.
هذه شهادات ممن خبروا أضرار السينما وواقعها وما تجر على مشاهدها من أضرار وخسارة في الأخلاق والسلوك وأنها لا يمكن بحال خلوها من تلك المفاسد وأن القائمين عليها لا ينظرون في صالح الناس وإنما ينظرون إلى ما يمكنهم من ابتزاز الأموال. وبالجملة فلا خير فيها بوجه من الوجوه وإن زعم من زعم أنها أداة إصلاح وتوجيه.
خاتمة
وأخيرا نقول: ليت فضيلة المؤلف التزم ما قرره في أول كتابه من قواعد كقوله: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام) (اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام) (النية الحسنة لا تبرر الحرام) ليته التزم مقتضى هذه القواعد فأخلى كتابه من هذه الفتاوى التي خالف فيها الصواب وقلد في غالبها الأقوال الشاذة التي لا تستند إلى دليل. ليته جعل كتابه مشتملا على ما هو مفيد ونافع.
قال الأستاذ عبد الحميد طهماز في رده على المؤلف: ليت المؤلف وقف عند المبدأ الذي قرره في أول الكتاب أن الحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يكون منه التفات إلى مثل هذه الآراء الضعيفة في ثبوتها. اهـ. قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم وزلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
وقال المحقق العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين: (1-10-11) ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات. فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات. فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب. فقال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفا وجلالة. إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقف بين يدي الله. ا هـ.
وإذ كان المؤلف قد بسط القول في جانب تحريم الحلال وحمل على الذين يحرمون من غير دليل وجب عليه أيضا أن لا ينسى خطورة الجانب الثاني وهو تحليل الحرام فهو لا يقل أهمية عن الجانب الأول والواقعون فيه أكثر والله تعالى قد نهى عن الجانبين على حد سواء فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومعلوم أن من قواعد الشريعة (اتقاء الشبهات خشية الوقوع في المحرمات). و(إذا تنازع حظر وإباحة غلب جانب الحظر) مما يدل على خطورة الوقوع في الحرام.
هذا وأسأل الله لنا وللمؤلف ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة: (رتبت هذه القائمة على حسب أسبقية ذكرها في الكتاب).
ـ القرآن الكريم
ـ نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام
ـ الفتح الباري
ـ النهضة الإصلاحية للشيخ مصطفى الحمامي
ـ مصائب الدخان للأستاذ محمد عبد الغفار
كيف تبطل التدخين للدكتور هربرت ويلسن
ـ الدخينة في نظر طبيب الدكتور دانيال. هـ. كرس
ـ نيل الأوطار للشوكاني
ـ شرح صحيح مسلم بشرح النووي
ـ المجموع شرح المهذب للنووي
ـ تفسير ابن العربي
ـ إعلام الموقعين لابن القيم
ـ الجواب المفيد في حكم التصوير لابن باز
ـ شرح العمدة لابن دقيق العيد
ـ مسند الإمام أحمد
ـ مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية
ـ أضواء البيان لمحمد أمين الشنقيطي
ـ الحجاب لأبي الأعلى المودودي
ـ روائع البيان للشيخ محمد الصابوني
ـ روضة المحبين لابن القيم
ـ تفسير القرطبي
ـ مدارج السالكين لابن القيم
ـ إغاثة اللهفان
ـ تلبيس إبليس
ـ منهاج السنة لابن تيمية
ـ مجلد مجلة الأزهر (26)
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين - وبعد:
فمن المعلوم ما يجتازه المسلمون في عصرنا الحاضر من محن قاسية بسبب تيار الحضارة الغربية المسمومة وما يحمل إلينا من أخلاق وعادات يتنافى كثير منها مع أحكام ديننا فكان يجب على المسلمين عامة والعلماء منهم خاصة أن يقفوا من هذا التيار الخبيث موقف الدفاع عن دينهم ودحض شبهات المشبهين - ولكن يا للأسف نجد بعض مثقفينا وحملة الأقلام منا بدلا من أن يقفوا هذا الموقف المشرف راحوا يروجون لكثير من هذه الأباطيل الوافدة ويلتمسون المسوغات ولو على حساب الدين. فصاروا يبحثون عن الأقوال الشاذة وأغلاط المجتهدين ليقيموا منها مستنداً لهم فيما يفعلون.
ومن هذا الصنف صاحب كتاب الحلال والحرام فقد ضمن كتابه هذا كثيرا من هذا النوع. وكنت قد نبهت على سقطاته في هذه الرسالة التي أقدمها للقراء في طبعتها الثانية
- وقد سبقني إلى الرد عليه فضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز فكتب في ذلك رسالة قيمة طبعت منذ عدة سنوات. نقلنا منها جملا طيبة في هذا الرد وكذلك نجد دار الاعتصام عندما قامت بنشر الكتاب المذكور في طبعته الثامنة تفضلت مشكورة فأبدت تعقيبات وملاحظات عليه أرفقتها في آخره تبلغ أربعة عشر تعقيبا - وهي تعقيبات قيمة جزى الله من قام بها خير الجزاء - لأن هذا مما يقتضيه واجب النصيحة.
وفي الختام أتقدم بوافر الشكر لله سبحانه ثم لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي قامت بنشر هذه الرسالة ضمن ما تنشر من كتب التراث النافع والبحوث القيمة - وفق الله القائمين عليها لما فيه نصر الإسلام ونفع المسلمين وأثابهم خير الثواب - والحمد لله رب العالمين - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
27ربيع الثاني سنة 1396 ه
تنبيه:
اعلم أن أرقام الصفحات التي أشرنا إلى وقوع الأخطاء فيها من كتاب الحلال والحرام هي على حسب الطبعة الثانية للكتاب عام 1382 هـ من منشورات المكتب الإسلامي بدمشق على نفقة آل ثاني وقد طبع الكتاب بعد ذلك عدة مرات وتوسع المؤلف في تلك الأخطاء توسعا لم يكن موجودا في الطبعة المشار إليها فاقتضى التنبيه والله الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد فقد اطلعت على كتاب قد ألفه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وسماه: (الحلال والحرام في الإسلام) تناول فيه كثيرا من المسائل الفقهية في أحكام المعاملات والأطعمة وغيرها فوجدته قد أخطأ في مواضع كثيرة منه. كما في موضوع موادة بعض الكفار. وموضوع لبس الحرير للرجال. وموضوع التصوير. وموضوع حكم كشف المرأة لوجهها ويديها بحضرة الرجال الأجانب. وموضوع الغناء والموسيقى. وموضوع حلق اللحية والأخذ منها. وموضوع الذكاة. وموضوع اللعب بالشطرنج. وموضوع السينما. فاقتضى واجب النصيحة وحب التعاون على البر والتقوى أن ننبه على تلك الأخطاء. لعل المؤلف يعيد النظر في ذلك الكتاب ويصحح هذه الأخطاء على مقتضى الدليل حتى تتم الفائدة بكتابه ويحصل على الأجر والثواب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا: ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).
وبعد تسجيل ملاحظاتي وجدت الأستاذ الشيخ عبد الحميد طهماز قد سبقني إلى التعقيب على ذلك الكتاب بنبذة جيدة سماها (نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام) جاء في مقدمتها بعد كلام ذكره في بيان اجتهاد الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها وما لهؤلاء الأئمة من جهود طيبة جاء فيها قوله: (ولا مناص لكل باحث في أحكام الشريعة الإسلامية من الرجوع إلى آرائهم وأقوالهم وإن كل من سولت له نفسه مخالفة أقوالهم والخروج على آرائهم وقع في الخلط والخبط والتناقض والتهافت لأنه ما أحاط بالأدلة إحاطتهم ولا فهم النصوص فهمهم وهم أقرب منه إلى عصور الخير والصفاء تلقيا وفهما. وكان عليه قبل أن يخالفهم أن يدرس أدلة أقوالهم ليجد أنهم رحمهم الله تعالى ما خرجوا عن الكتاب وما خالفوا السنة بل صدروا عنهما في كل أقوالهم وآرائهم وبين أيدينا مثال عملي لهذا وهو كتاب الحلال والحرام في الإسلام فقد خرج مؤلفه الشيخ يوسف القرضاوي عن آراء الأئمة في كثير من مسائله إلى أقوال شاذة أو ضعيفة الثبوت أو منحولة مدسوسة على قائلها. وليته قبل أن يسجلها في كتابه وازن بينها وبين الأقوال المعتمدة عند الأئمة وقارن بين أدلة هذه وأدلة تلك ولو فعل هذا لظهر له ضعفها وشذوذها وبالتالي ما ثبتها في كتابه كرأي معتمد يفتي به جمهور المسلمين وأجيالهم اللاحقة أقول هذا لأنني على يقين من حسن نيته وصفاء طويته فما ذكر هذه الأقوال الشاذة إلا بدافع إظهار الإسلام بمظهر اليسر والمرونة. وليس يسر الإسلام ومرونته في مجاراة أهواء الناس وميولهم. إنما يسر الإسلام في مرونة نصوصه وسهولة تكاليفه التي يستطيع القيام بها أي إنسان في أي زمان ومكان. أما أن نلجأ إلى الأقوال الشاذة والضعيفة والمنحولة فنخرق أسوار الشريعة ونتجاوز حدودها فلا يجوز لنا أبدا سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوء نية.
ولقد قرر المؤلف بنفسه هذا عندما قرر المبادئ التالية:
النية الحسنة لا تبرر الحرام. التحايل على الحرام حرام. ما أدى إلى الحرام فهو حرام. في الحلال ما يغني عن الحرام. وكما أخذ المؤلف على المقلدين الذين يسارعون إلى إطلاق كلمة حرام بدون أن يكون معهم دليل ولا شبه دليل , نأخذ عليه إسراعه إلى الأقوال الضعيفة والشاذة وتسجيلها في كتابه كأنها آراء معتبرة ومحققة يجوز الأخذ بها والعمل بمقتضاها. اهـ. وقد أجاد فضيلة الشيخ عبد الحميد في هذا الرد وفي هذه الكلمة الضافية التي تعطي فكرة واضحة عن نهج المؤلف القرضاوي في كتابه فجزاه الله خيرا على هذا الصنيع.
وإليك بيان الأخطاء التي لاحظناها على المؤلف مع الرد عليها:
1- تجويزه خلو التكاليف والشعائر الدينية والحلال والحرام من الحكمة والعلل المعقولة :
قال في ص 21 ما نصه: (من حق الله تعالى كخالق للناس منعم عليهم بنعم لا تحصى أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا. فهذا حق ربوبيته لهم ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة - الخ ما قال.
ووجه الخطأ في هذا الكلام أن المؤلف جوز أن يشرع الله لعباده وأن يكلفهم لا لحكمة في ذلك بل لمجرد ربوبيته لهم وعبوديتهم له. وهذا باطل لأنه يلزم عليه تجويز خلو شرع الله من الحكمة وأن يأمر وينهى لا لحكمة وهو من تجويز العبث على الله تعالى الله عن ذلك:.. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يحلل ويحرم ويأمر وينهى لمصلحة يعلمها هو لا لمجرد أمر ونهي وتحليل وتحريم خال عن ذلك لمجرد ربوبيته وقهره فقط.
2-موادة غير المسلمين :
قال المؤلف في صفحة 47: (وقد شرعت لنا موادتهم - أي أهل الكتاب - بمواكلتهم ومعاهدتهم وحسن معاشرتهم) وفي صفحة (247) أورد المؤلف تساؤلا فقال: كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء. ثم أجاب عن هذا السؤال بأن هذه الآيات التي تنهى عن موادة الكفار ليست على إطلاقها ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لتناقضت الآيات والنصوص الأخرى التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا - إلى أن قال: إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام محاربين للمسلمين -. ا هـ.
وتعقيبنا على فضيلة المؤلف من وجهين:
الأول: أن الآيات التي ذكر فيها مواصلة بعض الكفار بالبر والإحسان - من سورة الممتحنة قد قال عنها بعض المفسرين إنها منسوخة - قال الإمام القرطبي في تفسيره: (هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم قال ابن زيد: كان هذا أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ - قال قتادة: نسختها {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهي الصلح فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى - ا هـ.
وذكر ابن جرير رحمه الله قولا آخر في الآية وهو: (أن الآية خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا).
فعلى هذين القولين: إن الآية منسوخة أو خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا - لا يبقى إشكال بينها وبين الآيات التي تحرم موادة الكفار عموما.
الوجه الثاني :
أن نقول: وعلى القول بأن آية الممتحنة محكمة أو غير خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا ليس فيها ما زعمه المؤلف من إباحة موادة أحد من الكفار وإنما فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار ومعاملتهم بالبر والإحسان من باب المكافأة على صنيعهم وهذا لا يستلزم مودتهم في القلوب - قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5-233): ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل والله أعلم. ا هـ. ومثله قال الشوكاني في نيل الأوطار (6-4) وبهذا إن شاء الله يزول الإشكال الذي أورده المؤلف (1)
3-حكم تناول التبغ (الدخان) :
في صحيفة (62) بعد ذكر المؤلف تحريم كل ما يقتل أو يضر قال: ووفقا لهذا المبدأ نقول: إن تناول التبغ (الدخان) ما دام قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين. وفي صحيفة (93) قال تحت عنوان: الزراعة المحرمة: ومثل ذلك التبغ - الدخان - إن قلنا تناوله حرام فزراعته حرام وإن قلنا مكروه فمكروهة.
والجواب: أن نقول: ما هذا التناقض من المؤلف والتردد في حكم الدخان الذي قد ثبت ضرره على متعاطيه بالتجربة وبشهادة المختصين من الأطباء وإقرار كثير ممن يتعاطونه بعظيم ضرره فمنهم من تخلص من وطأته وتركه ومنهم من بقي تحت وطأته على مضض. وما كان كذلك فلا شك في تحريمه على الجميع لا في حق من قرر له طبيب مختص.
والمؤلف في أول كتابه يقرر أن التحريم يتبع الخبث والضرر. ويقول أيضا: الحرام حرام على الجميع فما باله هنا خص تحريم الدخان بمن قرر ضرره عليه طبيب مختص وبالنسبة لشخص معين.
ذكر نموذج من فتاوى العلماء في حكم الدخان
ونحن ننقل هنا نموذجا من فتاوى العلماء رحمهم الله في حكم تناول الدخان. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله:
(وقد سئلت عن حكم التنباك الذي أولع بشربه كثير من الجهال والسفهاء مما يعلم كل تحريمنا إياه نحن ومشائخنا ومشائخ مشائخنا ومشائخهم وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها حتى يومنا هذا - إلى أن قال: وتحريمه بالنقل الصحيح والعقل الصريح وكلام الأطباء المعتبرين. ثم ذكر الأدلة من النقل على تحريمه. وذكر من حرمه من علماء المذاهب الأربعة ثم قال: وأما العقل الصريح فلما علم بالتواتر والتجربة والمشاهدة ما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وسمعه وعقله وقد شوهد موت وغشي وأمرا ض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام - إلى أن قال: وأما كلام الأطباء فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة أشياء ومتفقون على ضررها - أحدها النتن - الثاني الغبار - الثالث الدخان وكتبهم طافحة بذلك) -. ا هـ باختصار.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في جواب له عن حكم الدخان: (أما الدخان شربه والاتجار به والإعانة على ذلك فهو حرام لا يحل لمسلم تعاطيه شربا واستعمالا واتجارا وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا. كما يجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب. وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم داخل في لفظها العام وفي معناها وذلك لمضاره الدينية والبدنية والمالية التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه فكيف إذا اجتمعت. ثم أحذ يفصل مضاره ثم قال والميزان الحقيقي هو ما دلت عليه أصول الشرع وقواعده وقد دلت على تحريم الدخان لما يترتب عليه من المفاسد والمضار المتنوعة وكل أمر فيه ضرر على العبد في دينه أو بدنه أو ماله من غير نفع فهو محرم فكيف إذا تنوعت المفاسد وتجمعت أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا تركه والتحذير منه ونصيحة من يقبل النصيحة) - ا هـ.
وقال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية صفحة (486):
وأما التنباك والدخان فهما من فصيلة واحدة تقريبا ولهما من السلطان على معتادهما ما يعجب له الإنسان كل العجب وأي سلطان أقوى من أن معتاد الدخان كما رأينا إذا لم يكن معه هذا البلاء ويشعر بالحاجة إليه يمد يده لأي امرئ يلقاه متكففا طالبا منه ولو نفسا واحدا - هذا شيء نحكيه عن رؤية عيان لا عن نقل سمعناه عن أحد وقد يكون هذا المتكفف من ذوي المقامات الرفيعة ولكن قوة هذا الكيف وشدته ترغمه على أن يتنازل عن وقاره ومقامه السامي إلى حيث يمد يده يستجدي (سيجارة) أو على الأقل نفسا منها.
والدخان ضار للبدن قطعا ثم له شيء من التأثير على العقل. أما أنه ضار فقد فرغ منه الحكماء. وأنا أحكي للقارئ ما كان لي منه وهو الحكم بعد ذلك: كنت أمشي يوما مع أحد طلبة العلم فعرج على بائع دخان اشترى منه سيجارتين أشعل إحداهما وأقسم علي يمينا غليظا أن آخذها منه وأستعملها - حلف ذلك اليمين لما امتنعت أولا عن أخذها وإفهامه أني لم أتعاط الدخان في حياتي فرحمة به وبحرمه التي يتعلق بها اليمين تناولت السيجارة وأخذت أجذب في دخانها وأنفخه من فمي دون أن يتجاوز الفم للداخل رأى هو ذلك فقال ابتلع ما تجذبه فإن قسمي على هذا. لم أمانع وفعلت ما قال نفسا واحدا والله ما زدت عليه وإذاً دارت الأرض حولي دورة تشبه دورة المغزل فبادرت إلى الجلوس على الأرض وظننت بنفسي أني انتهيت وظننت بصاحبي الظنون وبكل تعب وصلت إلى بيتي وأنا راكب وهو معي يحافظ علي وبعد ذلك مكثت إلى آخر اليوم التالي تقريبا حتى أحسست بخفة ما كنت أجده. فحكيت هذا لكثير من الناس أستكشف ما كان مخبوءا لي في السيجارة فأخبروني أن الدخان يعمل هذا العمل في كل من لم يعتده. فقلت إذا كان نفس واحد فعل بي كل هذا فماذا تفعله الأنفاس التي لا تعد كل يوم يجتذبها معتاد الدخان خصوصا المكثر منه ؛ وهل يؤثر الدخان على كل بدن. يراجع الطب في ذلك وأنا أعلم أنهم قالوا فيه ما قالوا من المضار وكان لبعضهم فيه تشديد عظيم حتى كان لا يداوي من لم يتركه. أما أن له تأثيرا على العقل فيدلك عليه أن شاربه إذا نزل به مكدر يفزع إلى شربه ويكثر منه فيتسلى ويخفف عنه ما كان من ألم الحزن ولولا أنه يحصل منه شيء من التغطية على العقل ما حصل ذلك التسلي الذي يشعر بأن السبب الذي من أجله كان الحزن ذهل عنه العقل بعض الذهول حتى خف حزنه هذا معنى لا يحتاج لطول تفكير فيه. انتهى.
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني في شرب الدخان تسعة وتسعين مرضا وبيّنها واحدا واحدا في رسالة سماها (مصائب الدخان)
ذكر نموذج من أقوال الأطباء في مضار الدخان
وبعد أن نقلنا جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الدخان يحسن أن ننقل أيضا جملة من أقوال الأطباء في بيان أضراره وما يسببه من الأمراض الخطيرة.
للدكتور الألماني: هربرت ويلسن كتاب عنوانه: (كيف تبطل التدخين) كتب على غلافه هذه العبارة: إذا قرأت هذا الكتاب ولم تترك التدخين فإن ثمنه سيعاد لك.. قال في هذا الكتاب بعد أن ذكر إحصائيات عن الإصابة بسرطان الرئة بسبب تعاطي الدخان ما نصه: (ومما لا يمكن تصديقه أن شخصا يتمتع بعقل صحيح ويطلع على هذه الإحصاءات يستمر في التدخين. ولكن الظاهر أن عادة التدخين تكاد تكون من حيث مضارها مثل عادة شرب الخمر) ا هـ.
وقال أيضا في صفحة (47): وقد وجد الأطباء الثلاثة أرب. وميز. وبرجر. في التجارب التي أجروها على المدخنين أن التدخين يسبب تقلص الأوعية الدموية في الأطراف. وفوق ذلك وجدوا أن تدخين سيكارة واحدة أو سيكارتين كاف لأن يخفض حرارة الجلد في أطراف الأصابع. ا هـ.
وقال في صفحة (52) من الكتاب المذكور بعد أن ذكر معلومات عن تأثير التدخين على الأوعية الدموية ما نصه: (فيظهر من المعلومات المذكورة أعلاه أن كل مصاب بمرض السكري إذا استمر في التدخين معرض للفالج أو لفقدان عضو من أعضاء جسده ومن الحقائق الطبية العلمية التي لا تدحض أن للتدخين علاقة مباشرة بالضرر الذي يلحق الدورة الدموية كما أنه السبب الأساسي في مرض سرطان الرئة وعنصر هام في مرض شريان القلب التاجي. ا هـ.
وقال أيضا في صحيفة (62-64) في مبحث التدخين ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية ما نصه: (وقد أوضح بجلاء عدد كبير ممن يوثق بهم من الباحثين الطبيين أن للتدخين تأثيرا ظاهرا في نبضات القلب وضغط الدم. فقد دلت الأبحاث التي قام بها مستشفى مايو المشهور أنه في الأشخاص الذين ضغط دمهم طبيعي يرتفع على معدل (21) درجة عند انقباض القلب وفي الأشخاص الذين ضغط دمهم عال يرتفع على معدل (31) درجة عند انقباض القلب وذلك بعد تدخين سيكارتين فقط - إلى أن قال: يزعم بعض المدخنين المدمنين أنهم يفضلون أن يعيشوا خمسين سنة برفقة السيكارة لا سبعين سنة بدونها. ولكنهم ينسون عندما يصرخون بهذا القول الطائش أنه قد تعتريهم أمراض مؤلمة قتالة كمرض برجر أو سرطان الرئة أو الشريان التاجي فيهصر غصن حياتهم دون إنذار قبل أن يبلغوا من العمر وما يغفل عنه مدمنو النيكوتين (مادة سامة في الدخان) هؤلاء أنه قد تصيبهم أمراض وإن كانت لا تذهب بهم بل تقعدهم عن العمل فيخلقون المشاكل لذويهم وعيالهم ونسائهم لأنه متى قعد رب البيت عن العمل أصبحت العائلة بجملتها عالة على غيرها ففي حالات كثيرة أصبح المصابون بمرض برجر أو الشريان التاجي عاجزين عن العمل معتمدين في معيشتهم على الصدقة والإحسان. ا هـ.
وقال في صحيفة (65): في ختام تلك المباحث ما نصه: (عزيزي القارئ لا بد أنك وعيت كل ما مر في الفصول السابقة وعرفت ما قاله علماء الطب في التدخين وأضراره والأمراض التي يخلفها فماذا أنت فاعل؟ أظنك فاعل ما فيه الخير لنفسك وستقلع عن التدخين والآن أعطني يدك ولا تدعها ترتجف ولتكن يدا قوية لأسلمك الأسلحة - الأسلحة ستنقذك من التدخين إن عرفت كيف تستعملها كما سنعلمك) ثم ذكر هذه الأسلحة في بقية الكتاب.
وهناك كتاب آخر اسمه (الدخينة [الدخينة: السيجارة] في نظر طبيب) لمؤلفه الدكتور: دانيال هـ. كرس اختصاصي للأمراض العصبية في مصح ومستشفى مدينة وشنتون. د. ك. جاء في صحيفة (26-30) تحت عنوان تأثير التبغ على المدخن من هذا الكتاب ما نصه: (إن جسم المدخن وإن كان يمتص هذه السموم بالتدريج وبكميات قليلة إلا أنه يتأثر بها تأثرا بليغا ولا شك أن التدخين يضعف حاستي الشم والذوق (وآلام الحلق) وفقد الصوت والبحة التي يشكوها المدخن هي من الحالات المعروفة التي تتسبب عن فتك هذه السموم بالأغشية الرقيقة الملتفة حول الأوتار الصوتية. ولا مراء في أن التبغ يؤذي البصر بدليل ما يشكوه مدمنو التدخين من اختلال النظر وعدم القدرة على تمييز الألوان وعجزهم بنوع خاص عن تبين اللون الأحمر واللون الأخضر وتضعف أعصاب بواصرهم من تصاعد غاز الأمونيا عليها فيتراءى لهم أن نقطا سوداء تظهر أمام عيونهم ويقول (سير باركلي موينهان) وهو علم بين جراحي انكلترا المعروفين: (إن للتدخين اليد الطولى في إحداث قروح المعدة فهو يؤثر في غدد المعدة تأثيرا بليغا ويزيد إفرازها للعصارة التي تحتوي على حامض (الهيدروكلوريك) وهذه الزيادة لا تدعو إلى تقرح المعدة فقط بل تمنع شفاءها في حالة حدوثها. ومن أفعاله أيضا إحداث قروح في العفج (أي المصران الاثنى عشري) ويأبى كثير من الأطباء في العالم معالجة أية حالة من حالات القروح المعوية والمعدية إلا إذا امتنع المصاب بها عن التدخين. هذا وقد تحقق الأطباء منذ عهد بعيد أن للتبغ علاقة قوية بمرض السل ويلاحظ من السجلات الطبية أن دم مدمني التدخين تكون مقاومته لفتكات جراثيم السل أضعف من مقاومة غيرهم وأن شفاءهم يتوقف إلى حد عظيم على هجر التبغ هجرا تاما. ونقول بالإجمال إن جميع الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي هي أكثر انتشارا بين المدخنين - إلى أن قال: ويجمع الثقات المتضلعون من علم وظائف الأعضاء أن التبغ سم قتال للقلب ويقولون إن الذبحة الصدرية (وجع يكون في الحلق والصدر) والقطع (البهر وانقطاع النفس) يصيبان المدخنين أكثر مما يصيبان غيرهم - إلى أن يقول: ولا شك في أن التأثير السيئ الذي يحدثه التبغ في القلب والشرايين هو من أقوى العوامل التي دعت إلى استفحال أمراض القلب والأوعية الدموية وتفاقمها تفاقما ذريعا في هذه الأيام وقد كثرت شهادات الوفيات التي نقرأ فيها هذه الكلمات: (السكتة القلبية) أو (فلس القلب وهبوطه) وكان يجب أن نقرأ فيها (السكتة القلبية) أو (فلس القلب الناشئ عن إدمان النيكوتين) ولرب معترض يقول: إذا كان التبغ مميتا قتالا فلم لا يموت المدخنون سريعا - إنهم لا يموتون سريعا لأن الأعضاء تجد وتكافح للتخلص من السموم المتغلغلة في الجسم على الولاء كفاحا جريئا وأكبر دليل على أضرار التبغ ما يظهر بعد تدخين اللفافة الأولى فإنها تحدث الصداع والغشيان والقيء ولكن إذا تشبث الإنسان بعادة التدخين وتمادى في تعاطيه صار لجسمه طاقة على احتمال مفعوله الضار على أن هذه الطاقة لا تكفل للجسم المناعة والتحرز من النيكوتين الذي يواصل نفث سمومه الخفية ويسعى سعيه الحثيث للضرر بالحياة ولا بد أن يأتي الوقت الذي تقف فيه تلك الإطاقة عند حدها الأخير فيعروها الوهن وينتهي ذلك الكفاح الطويل الجاهد ويحاول الجسم الكليل العاني أن يتذرع بحول مصطنع لمواجهة موقفه العصيب وكأني بالطبيعة تنظر إليه إذ ذاك آسفة وتقول هو ذا المدخن يستسلم للأوهام والخيالات فلنتركه لحال سبيله - ثم يواصل الكلام إلى أن يقول: (فإن المدخن الذي لا يستطيع أن يبصر بالعين المجردة فداحة الأضرار اليومية التي يلحقها التبغ بالقلب والأوعية الدموية والكلى والكبد والمعدة والدماغ ولا يموت على الفور بعد تدخين لفافة صغيرة يحس أنه ينهض ويرتقي بذلك النشاط الوقتي الذي يبعثه إليه التدخين. على أن التبغ إن كان يقضي على الحياة ببطء إلا أن قضاءه عليها مبرم محتوم لا مفر منه والمدخن يسرف في العبث بصحته وينتحر بيده على مهل - ولكن يوم الحشر العظيم ينتظره ولا بد أن يقدم فيها حسابا عما جنت يداه. ومتى بلغ التبغ مداه من الإضرار بكثير من الأعضاء الحيوية كالقلب والكبد والكلى يقف الطب موقف الحائر الآسف لاستعصاء الداء على الدواء ويعلم أن مثل هذه الحالات لا يرجى لها شفاء ولا يجد الآسي (الطبيب) من ثم سبيلا إلى مهادنة أخطارها وتلطيف ويلاتها إلا بإرشاده إلى اتباع النصيحة القائلة: (حد عن الشر. وافعل الخير. اطلب السلامة واسع وراءها) والإلحاح عليه بالإقلاع عن عادة التدخين كي يتاح لأعضائه البالية أن تسير به بضع أعوام أخرى إلى أن قال في صحيفة (43): إن الدكتور (أ. س. كلنتون) الطبيب المباشر لطائفة من مدارس البنين (بفرانسيسكو) يقول: (لقد كثر ما قيل عن شرور الدخينة وآفاتها إلا أن نصف الحقيقة لم يقرر في كل ما قيل فإن تعاطي الدخينة يوهن الأخلاق ويضعف الإرادة ويهدم الصحة ويخدر الأعصاب بعد أن ينشطها وينبهها ويعد الأحداث لمرض السل ويقلل من مقاومتهم له ويبتليهم بتضخم القلب ويرسلهم إلى مستشفى المجاذيب وكثيرا ما طلب مني أن أصف علاجا لأحداث مصابين بخفقان القلب وشدة وجيبه وكان تسعة أعشار هذه الحالات ناجما عن عادة التدخين فهي حلقة متصلة الأطراف قوامها البؤس ومصيرها المستشفيات والملاجئ والسجون. وأنا أقرر الحقيقة التي يعرفها كل طبيب ومعلم) اهـ المقصود منه.
وبعد: فهذه مقتطفات من كلام الأطباء في أضرار الدخان طبيا سقناها بعد كلام العلماء في بيان حكم تعاطيه شرعا فهل يليق بمنصف بعد هذا أن يتردد في تحريمه والمنع منه اللهم إلا مكابر لا عبرة به ولا بقوله.
4- تحريم الحرير على الرجال :
في صحيفة (65) قال المؤلف: (الذهب والحرير الخالص حرام على الرجال - وكرر هذه العبارة مرة أخرى في نفس الصفحة - فتقييده الحرير بالخالص يفهم منه أن الحرير غير الخالص وهو المشوب مع غيره لا يحرم عنده مطلقا. وهذا منه خطأ واضح وإجمال لا بد من تفصيله ، ذلك أن الحرير غير الخالص لا يخلو من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الحرير هو الغالب فهذا حكمه حكم الحرير الخالص في التحريم على الرجال.
الحالة الثانية: أن يكون الحرير مغلوبا مع غيره فهذا مباح للرجال عند الجمهور تعليقا للحكم بالغالب. واختار ابن دقيق العيد والشوكاني تحريمه في هذه الحالة كالحالة الأولى إلا إذا كان الحرير قدر أربع أصابع فما دون.
قال الحافظ في الفتح (10-294) وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير أغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر. قال ابن دقيق العيد: هو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1-94): وقد عرفت مما سلف الأحاديث الواردة في تحريم الحرير سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص وسواء وجد ذلك مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو مفرقا كما في الثوب المشوب وحديث ابن عباس (يعني حديث: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز - قال ابن عباس أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا) لا يصلح لتخصيص تلك العمومات ولا لتقييد تلك الإطلاقات لما عرفت. ولا مستمسك للجمهور القائلين بحل الثوب إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم فانظر أيها المنصف هل يصلح جسرا تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به على فرض تجرده عن المعارضات. فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد حفظ الله به في هذه المسألة أمة نبيه عن الإجماع على خطأ. اهـ.
5- حكم إعفاء اللحية :
ثم بحث المؤلف في موضوع إعفاء اللحية في صفحة (81) من الطبعة الرابعة لكتابه ووقع منه أخطاء في هذا الموضوع إليك بيانها:
الخطأ الأول: قوله (وليس المراد بإعفائها ألا يأخذ منها شيئا أصلا فذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا يتأذى به صاحبها. بل يأخذ من طولها وعرضها كما روي ذلك في حديث عند الترمذي وكما كان يفعل بعض السلف. اهـ.
فقوله: ليس المراد بإعفائها أن لا يأخذ منها شيئا - نقول عنه: بلى والله إن هذا هو المراد بإعفائها الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وقال به الأئمة.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3-194): وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى: (أوفوا) في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك. إلى أن قال فحصل خمس روايات (أعفوا. وأوفوا. وأرخوا. وأرجوا. ووفروا) ومعناها كلها تركها على حالها هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه - اهـ. وقال مثل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار (1-131).
وقول المؤلف: بل يأخذ من طولها وعرضها كما روى ذلك في حديث عند الترمذي. نقول هذا الحديث الذي أشار إليه حديث لا تقوم به حجة لأنه ضعيف جدا وألحقه بعض العلماء بالموضوعات - قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون لا أعلم له حديث منكرا إلا هذا - اهـ.
وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة - اهـ كلام الحافظ وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1-131) ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) وقال غريب قال سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول: عمر بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث ولا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث انتهى. وقال في التقريب إنه متروك - قال الشوكاني: فعلى هذا أنها لا تقوم بالحديث حجة [ببعض اختصار] اهـ.
وقال النووي في المجموع شرح المهذب وأما حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به. اهـ (1-290)
وقول المؤلف: وكما كان يفعل بعض السلف - نقول الحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا فيما خالفه - قال الشوكاني في نيل الأوطار (1-138) على قول صاحب المنتقى: (وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) قال: وقد استدل بذلك بعض أهل العلم. والروايات المرفوعة ترده - انتهى ونقول أيضا لم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنه كان يأخذ من لحيته بل هم متمسكون بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بإعفاء اللحية. نعم جاء عن ابن عمر كما تقدم أنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته وأخذ ما زاد على القبضة وليس في هذا دلالة على الأخذ من اللحية مطلقا وإنما يفعله ابن عمر إذا أدى نسكا حجا أو عمرة مع حلقه لشعر رأسه أو تقصيره يأخذ ما زاد على القبضة. فنطالب الأستاذ بصحة ما نقله عن السلف المعتبرين من أخذ شيء من لحاهم وأنى له ذلك.
الخطأ الثاني: قول المؤلف: (وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال: قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره. وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره. وقول بالإباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر. ولعل أوسطها وأقربها وأعدلها وهو القول بالكراهة فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للاستحباب.
صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم). اهـ.
نقول: إن ترجيح المؤلف للقول بكراهة حلق اللحية فقط ترجيح باطل لا دليل عليه. والأدلة الصحيحة تقتضي خلافه وتدل على أن الصواب هو القول الأول وهو تحريم حلق اللحية. قال ابن حزم في مراتب الإجماع صحيفة (157) واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز. اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد.
وأما قياس المؤلف الأمر بإعفاء اللحية على الأمر بصبغ الشيب في أن كلا منهما يفيد الاستحباب فهو قياس باطل لأنه قياس مع الفارق إذ الأمر بإعفاء اللحية لم يأت ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب بخلاف الأمر بصبغ الشيب فقد جاء ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب قال النووي في شرح صحيح مسلم: (14-80) وقال القاضي: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه. روي هذا عن عمر وعلي وأُبَيّ وآخرين رضي الله عنهم. وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ، إلى أن قال: قال الطبري الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط قال: واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك. اهـ.
ونقول أيضا ليست العلة في إعفاء اللحية مخالفة الكفار فقط كما في الصبغ بل وكون إعفائها من خصال الفطرة كما في الحديث الصحيح. وأيضا الصحابة والتباعون ومن بعدهم لم يختلفوا في مدلول الأمر بإعفاء اللحية. وقد اختلفوا في مدلول الأمر بصبغ الشيب ، فظهر من هذه الوجوه الفرق بين الأمر بإعفاء اللحية والأمر بصبغ الشيب وبطل قياس المؤلف إعفاء اللحية على صبغ الشيب.
وأما تعليله عدم حلق أحد من السلف للحيته بكونهم لم يكن بهم حاجة إليه وهي عادتهم فهو تعليل ساقط ، يكفي سقوطه عن رده.
ونقول: عدم حلق أحد منهم للحيته يدل على عدم جوازه عندهم. وقد كانوا يعظمون اللحية ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثط أي أمرد لا لحية له فقالت الأنصار: نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجل ، هذا شأن سلفنا الصالح في اللحية وتعظيمها وأنها علامة على كمال الرجولية. وقد قرر العلماء فيمن جنى على لحيته فتساقط شعرها ولم ينبت أن على الجاني دية كاملة كما لو قتله فكيف يقال بعد هذا إن حلقها ليس بحرام؟!.
6- حكم ما أزهقت روحه بطريقة الصعق الكهربائي من الحيوانات المأكولة :
قال المؤلف في صحيفة (48) في مبحث ذبائح أهل الكتاب: (المسألة الثانية هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا بمحدد في الحلق اشترط ذلك أكثر العلماء. والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس بشرط قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة:
وهذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق. وإنما كرره تعالى ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتحوج إلى تطويل القول ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما. فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم. والأكل دون الوطأ في الحل والحرمة) هذا ما قرره ابن العربي ، وقال في موضع ثان: (ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ، أي بغير قصد التذكية ، ميتة حرام).
قال المؤلف القرضاوي: ولا تنافي بين القولين فإن المراد أن ما يرونه مذكى عندهم لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة. وما يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله وهذا هو مذهب المالكية عامة(2)
وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فما داموا يعتبرون هذا حلال مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية. انتهى كلام المؤلف وهو محاولة لإباحة اللحوم المستوردة التي لم يتبع فيها طريقة الذكاة الشرعية.
وجوابنا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن المؤلف تصرف - هداه الله - فيما نقله من كلام ابن العربي فزاد فيه ونقص وغير بعض كلماته ، وهذا عمل يتنافى مع الأمانة العلمية والخشية الإلهية. وبمقابلة ما نقله على أصل كلام ابن العربي يظهر ما ذكرنا وذلك في مواضع:
الأول: قال ابن العربي: (إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا: (إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا) فحذف كلمة (أولادهم) وكلمة (في الصلح) وغير كلمة (ملكا) إلى كلمة (أزواجا).
الموضع الثاني: قال ابن العربي: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس- فالجواب أن هذا ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا: (ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس - أي بغير قصد تذكية - ميتة حرام).
فقارن أيها القارئ بين العبارتين تجد أن المؤلف زاد من عنده كلمة: (أي بغير قصد تذكية) وحذف من كلام ابن العربي من قوله: (بالنص) إلى قوله: (وهو حرام علينا) ولعله فعل هذا ليزيل ما في كلام ابن العربي في الموضعين من التناقض الواضح حتى يبني عليه فتواه بإباحة ما ذبح بالصعق الكهربائي ، وإن كان على غير الذكاة الشرعية.
الوجه الثاني: أن كلام ابن العربي هذا متناقض غاية التناقض ، فتارة يعتبر ما أكله أهل الكتاب وقد ذبح على غير وجه الذكاة ميتة حراما كالخنزير يحرم علينا أكله ، وهذا اعتبار صحيح يتمشى مع الأدلة الشرعية ويدخل فيه ما مات بفتل عنقه دخولا أوليا ، وهو أيضا قد فسر المنخنقة التي حرم الله علينا أكلها بتفسير يشمل ما فتل عنقه حيث قال: (والمنخنقة فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل) فهذا أيضا يبطل الكلمة التي زادها القرضاوي وهي قوله (أي بغير قصد التزكية). ثم ينقض ابن العربي كلامه الأول بكلامه الثاني فيقول إنه يباح لنا ما فتل عنقه النصراني وصار طعاما له ولأحباره ورهبانه ، وإن لم يكن هذا ذكاة عندنا ، فأي قوليه أولى بالاعتبار لا شك أن الأولى بالاعتبار ما وافق الدليل وهو القول الأول وأما القول الثاني فهو خطأ لا يتابع عليه. والمؤلف في أول كتابه يقول: (لم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا معينا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب) فما باله هنا يغيب عن ذهنه هذا القول ويقلد ابن العربي في قول خطأ ، قول متناقض متهافت. ويبني عليه فتواه بإباحة ما تكون تذكيته بالصعق الكهربائي.
الوجه الثالث: قول المؤلف: (والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله) هذا القول يقتضي أنه متى حصل إزهاق روح الحيوان بنية تحليله حصلت الذكاة الشرعية بأي وسيلة كان الإزهاق وفي أي موضع من بدن الحيوان - وهذا خطأ واضح - لأن الذكاة الشرعية لها صفة مخصوصة وآلة مخصوصة وموضع مخصوص - كما بين ذلك العلماء رحمهم الله - (3) قال ابن العربي في تفسير سورة المائدة في بيان الذكاة الشرعية: (وهي في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور عليه - كما تقدم - مقرونا ذلك بنية القصد إليه وذكر الله تعالى - ثم ذكر الخلاف في حكم المذبوح من القفا - ثم قال: وهذا ينبني على أصل نحققه لكم وهو أن الذكاة وإن كان المقصود بها إنهار الدم ولكن فيها ضرب من التعبد والتقرب إلى الله سبحانه لأن الجاهلية كانت تتقرب بذلك لأصنامها وأنصابها وتهل لغير الله فيها وتجعلها قربتها وعبادتها فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له. وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال: (إنما الذكاة في الحلق واللبة) فبين محلها وقال مبينا لفائدتها: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) فإذا أهمل ذلك ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظ التعبد. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني مبينا محل الذكاة: (وأما المحل فالحلق واللبلة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع). اهـ.
الوجه الرابع: أن فتوى المؤلف بحل اللحوم المستوردة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فتوى باطلة لأن هذه الذكاة غير شرعية ولو ذكى مسم بهذه الكيفية ما حلت ذبيحته فغير المسلم من باب أولى لأن هذه الكيفية لا تتوفر فيها الشروط المشترطة في الذكاة.
وهذه الفتوى مبنية على قول ابن العربي الآخر وقد بينا ما فيه من التناقض والبطلان.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في منسكه (2-219) على قول الفقهاء وإن وكل من يصح ذبحه ولو ذميا كتابيا جاز مع الكراهة. قلت: ومراد الأصحاب بجواز توكيل الذمي الكتابي في ذبيحة هدي المسلم أو أضحيته إذا كان الكتابي يذبح الأضحية أو الهدي أو ينحرها في موضعه الشرعي بشروطه المعتبرة. أما إن كان يذبحها بضرب المسامير أو الفئوس في الرأس ونحوه أو الكهرباء كما عليه عمل بعض النصارى في هذا الزمان فإنه لا يصح توكيله ولا تحل ذبيحته بذلك لأن ذبحه للبهيمة على هذه الصفة لا يسمى مذكى ولا تحل بذلك بل حكمها حكم الميتة فهي حرام كما لو فعل ذلك مسلم وأولى ، والله أعلم.
وأما قول المؤلف: (فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية) فيجاب عنه بأنه ليس المراد بطعامهم الذي أباحه الله لنا ما استحلوه هم بل المراد بطعامهم ما أباحه الله لهم. وكلام ابن العربي الذي اعتمده المؤلف هنا يفيد خلاف ما قاله ويؤيد ما ذكرنا لأنه قيد إباحة ما ذبحوه بكونهم يرونه في دينهم ولم يكذبهم الله فيه ويكون طعاما لأحبارهم ورهبانهم ، وهل ما ذبح بالصعق الكهربائي يرون إباحته في دينهم ويأكله أحبارهم ورهبانهم ولم يكذبهم الله فيه ، على المؤلف أن يثبت ذلك.
7- حكم التصوير :
ثم بحث المؤلف موضوع التصوير من صحيفة (72) إلى صحيفة (82) ووقع منه في هذا الموضوع أخطاء كثيرة لا بد من كشفها وبيانها وهي كما يلي:
الخطأ الأول: تقسيمه التصوير إلى محرم وهو التماثيل ومكروه كراهة تنزيه وهو المنقوش والمرسوم في الورق واللوحات والجدران. ومباح وهو التصوير الفوتوغرافي ، فهذا تقسيم باطل ترده الأدلة الصحيحة الواردة في تحريم التصوير وتحريم استعمال الصور مطلقا تماثيل أو غير تماثيل منقوشة أو فوتوغرافية. ومن ادعى التفصيل كالمؤلف فعليه الدليل ونحن نقول لك جملة من أقوال الأئمة في ذلك:
قال العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين (4-403) لما ذكر الكبائر قال: ومنها تصوير صورة الحيوان سواء كان لها ظل أو لم يكن. اهـ.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (14-18) بعد أن ذكر تحريم الصور ما نصه: (ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهو مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع ما في الأحاديث المطلقة في كل صورة. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10-384) بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا: قلت يؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها) - أي طمسها - الحديث وفيه: (من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). اهـ. وقال الحافظ أيضا في فتح الباري (10-390) في أثناء كلامه على حديث عائشة: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة) قال ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم الصور أن تكون الصور لها ظل أو لا. ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة. اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (2-108) في أثناء كلامه على حديث ابن عمر: (الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) وحديث ابن عباس: (كل مصور في النار) قال: الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب بالنار وبأن كل مصور من أهل النار ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح - إلى أن قال: وظاهر قوله (كل مصور) وقوله (بكل صورة صورها) أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم ثم ذكر أحاديث بمعناه ثم قال: فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل - إذ هي كما في كتب اللغة - الشكل - وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا - اهـ.
وبما ذكرنا من الأحاديث وكلام أهل العلم عليها تبطل دعوى المؤلف أنه ليس هناك نص صحيح سليم من المعارضة يدل على حرمة الصور المنقوشة في الثياب والبسط والجدران والمرسومة في لوحات وكذا تبطل دعواه إباحة التصوير الفوتوغرافي ، إذ التصوير الفوتوغرافي أبلغ في المضاهاة من الصور المنقوشة والمرسومة فهو أولى بالتحريم.
قال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية (264-265) ما نصه: (وإني أحب أن تجزم الجزم كله أن التصوير بآلة التصوير (الفوتوغراف) كالتصوير باليد تماما فيحرم على المؤمن تسليطها للتصوير ويحرم عليه تمكين مسلطها لالتقاط صورته بها لأنه بهذا التمكين يعين على فعل محرم غليظ وليس من الصواب في شيء ما ذهب إليه أحد علماء عصرنا هذا من استباحة التصوير بتلك الآلة بحجة أن التصوير ما كان باليد والتصوير بهذه الآلة لا دخل لليد فيه فلا يكون حراما ، وهذا عندي أشبه بمن يرسل أسدا مفترسا فيقتل من يقتل أو يفتح تيارا كهربائيا يعدم كل من مر به أو يضع سما في طعام فيهلك كل من تناول من ذلك الطعام فإذا وجه إليه اتهام بالقتل قال أنا لم أقتل إنما قتل السم والكهرباء والأسد ويردف قوله هذا بحجة: هي أن القتل لا يكون قتلا إلا إذا كان باليد وأنا ما مددت يدي إلى أولئك الموتى فكيف ينسب إلي قتلهم ، والذي يقال لهذا إن القتل أن تزهق الروح بأي وسيلة من وسائل القتل ومن الوسائل القاتلة السم والكهرباء والسبع فعلى من سلطها إثم القتل وإن لم يمد يده. فكذلك التصوير المراد منه إيجاد الصورة والبلاء كله في الصورة ، وحضرة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغضب إلا لوجود الصورة ولم يخبر أن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها الصورة إلا لوجود الصورة. ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين صورة وصورة بل جعل مناط النهي الصورة التي تشبه أي حيوان فإنه الذي له الحياة فيقال لفاعل مشابهه أحيه ، أي انفخ الروح فيه ، أما الشجر وغيره من الجمادات والنباتات فلا يقال فيها ذلك ، على أني أقول: إن هذه الآلة المصورة لا يتضح ما صورته ويحكم عليه بأنه صورة بمجرد توجيهها إلى ما يراد تصويره حتى يقال إنه لا دخل للإنسان فيه بل للمصور بعد ذلك التوجيه أعمال كثيرة حتى تتضح الصورة ولولا تلك الإجراءات ما اتضحت صورة ولا كان تصوير بل له شروط خاصة يستوفيها وقت توجيه آلة التصوير ولولا هذه الشروط لاستحال أن تكون صورة. وإذا كيف لا يكون الإنسان مصورا إذا كان تصويره بسبب تلك الآلة وكيف ينفي عنه حرج التصوير ، إلى أن قال: ولو شئت لقلت أن عذاب المصور بتلك الآلة سيكون أضعاف أضعاف ما يصوره المصور بيده. بل الذي تصوره آلة التصوير في لحظة يمكث المصور بيده سنين في تصويره والعذاب على قدر الإنتاج في التصوير وذلك أنك تفهم أن تصوير صورة واحدة معصية كبرى واحدة فإذا انضم إليها تصوير صورة ثانية كانت معصية ثانية وهكذا كلما كثرت الصور المصورة كلما كثرت آثام المصور وأنت تعلم أن العذاب يكون على قدر الآثام فكلما كثرت كلما اشتد العذاب وطال. وأنت تعرف أن المصورين بالآلة المصورة ينقلون عشرات الآلاف من الصور في مرة واحدة من توجيههم تلك الآلة كالذين يتعرضون لأخذ المجامع العظيمة كمجامع الأعياد ومجامع المشيعين لجنازات الوجهاء من الناس خصوصا إذا كانوا ممتازين. فهؤلاء وأمثالهم من المصورين لا يعلم إلا ربنا ما يستحقونه من عذاب لكثرة ما يصورونه من صور. اهـ. وهو كما ترى من وضوحه في الرد على المؤلف وأمثاله ممن يبيح التصوير الفوتوغرافي.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله في رسالة له: ومن أعظم المنكرات تصوير ذوات الأرواح واتخاذها واستعمالها ولا فرق بين المجسدة وما في الأوراق مما أخذ بالآلة. اهـ.
والمستفاد من مجموع الأحاديث شدة وعيد المصورين بالنار وباللعن وأنهم من أظلم الظالمين. وأن التصوير حرام بجميع أنواعه وعلى أي وجه كان للإتيان بصيغ العموم مثل قوله صلى الله عليه وسلم (كل مصور في النار) وقوله (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح) وقوله (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة) فأتى بلفظ (كل) و(من) و(الذين) وكلها من صيغ العموم فأين يذهب من أباح شيئا من أنواع التصوير وقسمه إلى محرم ومكروه ومباح. والله المستعان.
الخطأ الثاني: استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل من الصور بالاستثناء الوارد في حديث زيد بن خالد وحديث أبي طلحة من قوله (إلا رقما في ثوب) وقد أجاب النووي رحمه الله عن هذا الاستدلال في شرحه على صحيح مسلم (14-85) حيث قال: هذا يحتج به من يقول بإباحة ما كان رقما مطلقا وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل له حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن. اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في الجواب المفيد في حكم التصوير: وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف: (إلا رقما في ثوب) فهو استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير وذلك واضح من سياق الحديث والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين وحديث أبي هريرة وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطئان ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار ونحو ذلك لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم ذكرها بألفاظها وحديث أبي هريرة صريح أن مثل هذا الستر مانع من دخول الملائكة حتى يبسط ويقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا ومهما أمكن الجمع بينها بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ كما هو مقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث وقد أمكن الجمع بينها وهنا بما ذكرنا فلله الحمد. اهـ.
الخطأ الثالث: قول المؤلف عن الصور الفوتوغرافية أنها لا تتحقق فيها علة المضاهاة التي نصت عليها بعض الأحاديث ، وهذا لا شك قول باطل ومغالطة واضحة فإن المضاهاة في هذه الصور الفوتوغرافية حاصلة أكثر من حصولها في غيرها من الصور غير الفوتوغرافية وهي تؤخذ غالبا لتطبيقها على الشخص المصور لئلا يحصل اشتباه بينه وبين غيره لأن شبهه وشكله منعكس فيها وهذا هو معنى المضاهاة ، والصورة في اللغة هي الشكل - كما تقدم في كلام الشوكاني - فصارت المضاهاة حاصلة فيها لا محالة.
ونحن نسأل المؤلف ما الذي يخرج الصور الفوتوغرافية من عموم النصوص المانعة من الصور ما دام أنها تسمى صورا لا محالة ويسمى عملها تصويرا ويسمى الذي يعملها مصورا.
الخطأ الرابع: استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل بحديث عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) قال المؤلف فلم يأمرها بقطعه وإنما أمرها بتحويله من مكانه في مواجهة الداخل إلى البيت ، إلى أن قال وبهذا يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر في بيته وجود الستر فيه تمثال ووجود قرام فيه تصاوير. اهـ.
ويجاب عن هذا الاستدلال بما قاله النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (14-87) من أنه محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة. اهـ. ويؤيد ما ذكره الإمام النووي أن مسلما أورد في صدر الباب حديث عائشة الذي فيه تحريم الصورة مطلقا وساق ما بعده ليشير إلى أن العمل على الأول وهذه طريقة مسلم في صحيحه أنه يقدم في الباب ما عليه العمل ويذكر بعده ما فيه علة أو لحقه الترك. (1)
الخطأ الخامس: في هذا الموضوع زعم المؤلف أن تشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصور كان في أول الأمر لقرب عهدهم بالشرك فلما استقرت عقيدة التوحيد رخص في الصور التي لا جسم لها.
ونحن نطالب فضيلة الشيخ المؤلف أن يأتي بدليل على هذا الزعم الذي زعمه. ومن أين له الدليل والأدلة متظافرة على رده وإبطاله حيث تدل على تحريم التصوير وتحريم الصور مطلقا في جميع الأوقات وفي جميع أنواع التصوير.. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (3-256) بحاشية الصنعاني مجيبا على هذا الزعم: (ولقد أبعد غاية البعد من قال إن ذلك محمول على الكراهة وأن التشديد كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده فلا يساويه في التشديد هذا أو معناه وهذا القول عندنا باطل قطعا لأنه قد ورد في الأحاديث الأخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين وأنهم يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: (المشبهون بخلق الله) وهذه علة عامة مستقلة مناسبة ولا تخص زمانا دون زمان وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله. اهـ. قال المحشي الأمير الصنعاني: (أقول لقد صدق وهل بعد اللعن والإخبار بأنه أشد الناس عذابا من مستروح لهذا القائل وقد أصاب الشارح بقوله (إنه قول باطل). اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (12-149-150) مجيبا عن ذلك أيضا: وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله بما فيه التماثيل الملعونة ، إلى أن قال: وكان من حجة أولئك أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ولم يجعلها مناط التحريم هي - فيما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور واللجأ إليها عند الكروب والشدائد وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها. بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلا ظاهر البطلان حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين وفي اجتهادهم واستنباطهم سارقين فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 يحكي مثل قولهم ويرده أبلغ رد وبأقوى حجة ، ثم ساق كلام ابن دقيق العيد الذي نقلناه قريبا ، ثم قال: هذا ما قاله ابن دقيق العيد منذ أكثر من 670 سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون الجاهلون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل. اهـ.
فتبين مما تقدم أن التصوير بجميع أنواعه تماثيل أو غير تماثيل منقوشا باليد أو فوتوغرافيا مأخوذا بالآلة ، كله حرام وأن كل من حاول إباحة شيء منه فمحاولته باطلة وحجته داحضة ، والله المستعان.
8- حكم كشف المرأة لوجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب :
في صفحة (112) قال المؤلف: (وعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها) وفي صفحة (113) لما ذكر نظر المرأة إلى الرجل قال: (ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة ، أي إلى وجهها وكفيها فهو مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة) وفي صفحة (115) بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} قال وهذا التوجيه يتضمن نهي النساء المؤمنات عن كشف الزينة الخفية كزينة الأذن والشعر والعنق والصدر والساق أمام الرجال الأجانب الذين رخص لها أمامهم في إبداء الوجه والكفين {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وفي صفحة (113) استدل المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة وكفيها بحديث عائشة أن أختها أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في لباس رقيق يشف عن جسمها فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) قال وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين وكشفهما.
ثم قال وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وجد الفضل ابن عمه العباس ينظر إلى امرأة أجنبية حسناء ويطيل الالتفات إليها وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه إلى الشق الآخر وقال (رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة). اهـ. حاصل كلامه.
وأقول: إن ما ذكره المؤلف في هذا المبحث يشتمل على أخطاء كثيرة هي:
أولا: تجويزه للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب وتجويزه للرجل الأجنبي أن ينظر إليهما باعتبارهما غير عورة وهذا قول باطل وخطأ واضح ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على أن وجه المرأة وكفيها وجميع بدنها عورة يجب سترها عن الرجال الأجانب ، وإليك ذكر بعض هذه الأدلة:
قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} الآية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) في الكلام على الآيتين ما نصه: (والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين فقال ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب وقال ابن عباس ومن وافقه هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم ، إلى أن قال جامعا بين القولين: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره (3) ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} حجب النساء عن الرجال وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع النساء أن ينظرن ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإلا فهي مما ملكت يمينه فحجبها فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الذي يغطي رأسها وسائر بدنها وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن وفي الصحيح (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين) فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب وكان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين انتهى (4)
وقال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات خاصة وأزواجه وبناته لشرفهن بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب هو الرداء فوق الخمار قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم قال الجوهري الجلباب الملحفة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. اهـ.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6-197-200) لما ذكر النقول عن السلف في تفسير الزينة بقسميها ما نصه:
(وقد رأيت في هذه النقول عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا.
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود ومن وافقه أنها ظاهر الثياب لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى ، وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة ما تتزين به وليس من أصل خلقتها أيضا لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع اللابس من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان. وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول. وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ مع تكرار ذلك اللفظ في القرآن فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب يدل على أنه هو المراد في محل النزاع لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ وذكرنا بعض الأمثلة في الترجمة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منهما فبيانه أن قول من قال في معنى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد بالزينة الوجه والكفان مثلا توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول وهي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} وقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} الآية.
وقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} الآية وقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وقوله تعالى عن قوم موسى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} وقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن الكريم وهو المعروف في كلام العرب ، كقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهن خير عواطل
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب. وقال بعضهم هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية. وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم ، والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي ، وقال أيضا في صفحة (584-586) من الكتاب المذكور على قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} الآية ما نصه:
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول وذكرنا أمثلة في الترجمة ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومن أمثلته قول كثير من الناس أن آية الحجاب أعني قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهم وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
وقد تخصص وقد تعمم ** لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة ، وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، إلى أن قال: ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} فقد قال غير واحد من أهل العلم إن معنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} أنهن يسترن بها جميع وجوههن ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها وممن قال به ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم. اهـ. وقال في صفحة (592) أيضا ما نصه: (وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب. ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة. فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى المقصود منه.
وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتاب الحجاب له بعد أن ذكر جملة من أقوال المفسرين على آية الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الآية ما نصه: (ويتضح من هذه الأقوال جميعها أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي قد فهمناه من كلماتها. وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي وكن لا يخرجن سافرات فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ونهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة فنهين عنه في الإحرام ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تعرض الوجوه في موسم الحج عرضا بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة كما يكون جزءا من لباسهن عادة. فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كن يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) ، إلى أن قال: وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم ير في الأمر مجالا للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب وما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم. اهـ.
وقال الشيخ محمد علي الصابوني في روائع البيان (2-384): ومن درس حياة السلف الصالح وما كان عليه النساء الفضليات ، نساء الصحابة والتابعين وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر والتحفظ والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم وما دروا أنها مكيدة دبرها لهم أعداء الدين وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي الذي عمل له الأعداء زمنا طويلا. وإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ. وبما تقدم تعلم أنه لا مستمسك للمؤلف بقوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وأن الآية حجة لنا لا له.
وأما أدلة السنة على وجوب الحجاب: فهناك أحاديث كثيرة تدل على وجوب الحجاب منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (5): وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ، وقال (6) ووجه المرأة في الإحرام فيه قولان في مذهب أحمد وغيره: قيل إنه كرأس الرجل فلا يغطى وقيل كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كبدن الرجل وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو. اهـ.
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه). رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه. قال الشوكاني في نيل الأوطار واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها (يريد حال الإحرام) لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة. اهـ. (7) ومعناه: أنه لا يحرم عليها ستر وجهها حالة إحرامها بحضرة أجانب أو غيرهم وهذا صريح من الإمام الشوكاني أنه يرى وجوب ستر المرأة لوجهها إذ أن الوجه هو موضع الزينة ومحل الافتتان بها ونساء الصحابة يكشفن وجوههن حالة الإحرام فإذا مر بهن الرجال الأجانب سترن وجوههن عنهم. مما يدل على أن المعتاد عندهم هو ستر الوجه.
هذه بعض أدلة الكتاب والسنة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة عن الرجال الأجانب وطرف من كلام أهل العلم عليها ولو تتبعنا كل ما ورد وكل ما قيل في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلدات لكن نكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة.
الجواب عما استدل به المؤلف
1- أما استدلال المؤلف على جواز كشف الوجه واليدين من المرأة بحضرة الرجال بحديث (8) عائشة في قصة دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لها (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) .. فمن العجيب استدلاله بهذا الحديث مع اعترافه هو بضعفه فكيف يعارض به الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم نظر الرجل إلى وجه المرأة الأجنبية ووجوب ستره. وأما قوله: (لكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين عند أمن الفتنة) فنحن نطالبه أن يعين هذه الأحاديث التي ادعى أنها تقويه وأنها صحاح ، كما نطالبه أيضا ببيان الحد الذي تؤمن عنده الفتنة حين النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وهل هناك أحد يأمن على نفسه الفتنة في هذا النظر أليس النظر وسيلة إلى الافتتان. والمؤلف نفسه في أول كتابه قد قرر هذه القاعدة فقال: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام) فلماذا يتناسى ذلك هنا؟. وقد قال أيضا في كتابه في صفحة (110) والنظر رسول الفتنة وبريد الزنا وقديما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثا قال آخر:
نظرة فابتسامة فسلام ** فكلام فموعد فلقاء
فما باله الآن يتساهل في النظر.
قال الشيخ الصابوني في هذا الموضوع في كتابه روائع البيان (2-173) والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئا من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها وأيهما تكون الفتنة أكبر - الوجه أم القدمين - يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الناس أمر الدين فإذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض لئلا يسمع صوت الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر. اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-602) ما نصه: (وبالجملة فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ** ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ** ولكن تأنيث الرجال عجيب
انتهى.
إضافة إلى ذلك نقول إن الفتنة متوقعة من كل رجل ينظر إلى وجه امرأة أجنبية ولا سيما الشابة الجميلة فإن الفتنة بالنظر إليهما أعظم. فيتعين الحجاب منها لهذه الفتنة على جميع النساء.
ونعود إلى بيان درجة الحديث الذي استدل به المؤلف وبيان ما قاله العلماء فيه. قال ابن كثير: قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: قال أبو داود هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها. وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق مولى بني نصر وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم من رواه غير سعيد بن بشير وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة. اهـ. وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-597) وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين:
الأولى: كونه مرسلا لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة كما قاله أبو داود وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة النور.
الجهة الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم قال في التقريب: ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب. ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب. اهـ. قلت: وحديث هذه درجته لا يصح الاستدلال به لا سيما في هذه المسألة الخطيرة.
2- وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها ، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح. قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية. ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه. وقال العلامة ابن القيم في روضة المحبين صفحة (102) وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه. اهـ. (9)
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6-600-601) مجيبا عن هذا الاستدلال ما نصه: (وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة وفي بعض روايات الحديث أنها حسناء ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك. بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين. ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها. ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفه أهله ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل وهو لم يقل له إنها كانت كاشفة عن وجهها واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها. إلى أن قال: مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدها وقوامها وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم ولذلك فسر ابن مسعود {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالملاءة فوق الثياب كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب.
قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة ** يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها وعليها ستره من الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور ، إلى أن قال: ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة كما ترى وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها. انتهى.
9- اللعب بالشطرنج :
في صحيفة (217) ذكر المؤلف خلافا في حكم اللعب بالشطرنج واختار هو القول بإباحته وقال الأصل فيما علمناه الإباحة ولم يجئ نص على تحريمه على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر ثم ذكر شروطا لإباحته وهي:
1- أن لا تؤخر بسببه الصلاة عن وقتها.
2- أن لا يخالطه قمار.
3- وأن يحفظ اللاعب لسانه من الكلام الفاحش.
والجواب أن هذه الشروط التي ذكرها المؤلف من النادر توافرها في لاعب الشطرنج ولو سلمنا جدلا توافرها فإباحة اللعب بالشطرنج حينئذ وسيلة إلى الدخول في المحرم والوقوع في المحظور وضياع هذه الشروط ، فيلزم القول بتحريمه مطلقا وقد نص كثير من العلماء على تحريم اللعب بالشطرنج والتحذير منه (1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام طويل في هذا الموضوع يبتدئ من صحيفة (216 حتى صفحة 245) من المجلد الثاني والثلاثين من مجموع الفتاوى نقتطف منه ما يلي:
قال رحمه الله: (وإذا قدر خلوها من ذلك كله (يريد الشغل عن الواجبات وفعل المحرمات) فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) شبههم بالعاكفين على الأصنام كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شارب الخمر كعابد وثن) والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة. والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه تحريمها. وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها للخبر واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد - إلى أن قال الشيخ - وهكذا نقل عنه (يعني الشافعي) غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم - إلى أن قال - لكن المنقول عن الشافعي فظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض ولهذا قال: أكرهها للخبر فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده وهذا مما احتج به الجمهور عليه وأنه إذا حرم النرد ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب وهي تفعل بالنفوس فعل حميا الكئوس فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة. وقليلها يدعو إلى كثيرها. فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة. وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل فهكذا القول في الشطرنج - إلى أن قال الشيخ رحمه الله - والنرد والشطرنج ونحوهما من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصى وليس فيها مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك. وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية. والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أبي ذر أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم) وقد بين سبحانه في هذه الآية أن المتقي يدفع عنه المضرة وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب. وكل ما يتغذى به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق. والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما وإن كانت تفيده مقدارا من السرور فما تعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك كما جرب ذلك من جربه وهكذا سائر المحرمات.
ثم قال رحمه الله في موضع آخر: لما ذكر الحكم في حالة خلو اللعب بالشطرنج عن العوض وترك الواجبات وفعل المحرمات. قال: وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء كمالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وكثير من أصحاب الشافعي أنه حرام. وقال هؤلاء إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال بل كرهه. وقيل إنه قال: لم يتبين لي تحريمه ، والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي ذكر إجماع الصحابة على المنع منه عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وأبي موسى وعائشة رضي الله عنهم. ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط. والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بغير أسانيد. اهـ. المقصود من كلام الشيخ رحمه الله.
فانظر إلى قوله عن الشطرنج: (ليس فيه مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ويجتلب المفاسد غنية.. الخ)
وقابله بقول فضيلة المؤلف عنه [أي الشطرنج]: (على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر) ووازن بين القولين بإنصاف يظهر لك أي القولين أولى بالصواب.
وانظر أيضا إلى قول الشيخ تقي الدين: (والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث ذكر إجماع الصحابة على المنع منه - أي الشطرنج - ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط). ثم قابله بقول فضيلة المؤلف: (أما الصحابة رضي الله عنهم فإنه اختلفوا في شأنه) ثم ذكر أن ابن عباس وأبا هريرة قالا بإباحته يا ترى من أولى بمعرفة أقوال الصحابة ، شيخ الإسلام ابن تيمية والبيهقي أم فضيلة المؤلف ، والله المستعان.
وقال القرطبي في تفسيره (7-339): قال ابن العربي المالكي في قبسه (وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها - أي الشطرنج - وما كان ذلك قط وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون إنها تشحذ الذهن والعيان يكذبهم ما تبحر فيها قط رجل له ذهن). اهـ. فهذا ابن العربي ينفي نفيا جازما أن يكون أحدا من الصحابة أو التابعين لعب بالشطرنج ويحلف على ذلك وينقل ذلك عنه القرطبي مقررا له (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32-241): روى البيهقي بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول الشطرنج ميسر العجم. وروى بإسناده عن علي أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها ، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال أما والله لغير هذا خلقتم أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم. وعن مالك قال بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم فأحرقها (3) وعن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال: هو شر من النرد. وعن أبي موسى الأشعري قال: لا يعلب بالشطرنج إلا خاطئ. وعن عائشة أنها كانت تكره الكيل [لعله: الكل] وإن لم يقامر عليها. وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها - فهذه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك. ثم روى البيهقي أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال دعونا من هذه المجوسية- قال البيهقي روينا كراهة اللعب بها عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم ومالك بن أنس قلت: والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم بل صرحوا بأنها شر من النرد والنرد حرام وإن لم يكن فيها عوض انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
10- حكم سماع الغناء والموسيقى :
بحث المؤلف موضوع الغناء والموسيقى ابتداء من صحيفة (218) حتى صحيفة (221) وقد جانب الصواب في عدة مسائل:
منها قوله: (ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان الغناء وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم. ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة واستحبه في المناسبات السارة إشاعة للسرور وترويحا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود). اهـ.
والملاحظ على هذه الجملة عدة أمور:
الأمر الأول: وصفه الغناء بأنه تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان وهو يريد بوصفه بهذه الأوصاف تحسينه للناس وترغيبهم في استماعه - فنقول له: ليس الضابط في إباحة الشيء وحسنه مجرد كونه يحصل به راحة للنفوس وطرب للقلوب دون نظر إلى ما يترتب عليه من المفاسد وما يجر إليه من المضار ، وأكثر النفوس تميل إلى الباطل وتستريح إليه أفنقول إنه حلال ، كلا ، قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين (1-491): فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيها الأحكام الخمسة تكون في الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وإن لذته لا ينكرها من له طبع سليم وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد وهل خلت غالب المحرمات من اللذات وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها وإن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع. اهـ.
وقال العلامة ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين - أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله سبحانه والقيام بخدمته ، والثاني: أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا في المتجددات ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل فلذلك يحث على الزنا فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس ولهذا جاء في الحديث: (الغناء رقية الزنا). اهـ.
الأمر الثاني مما يلاحظ على المؤلف: قوله عن الغناء: (وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم) فقد تخيل المؤلف خلو الغناء من هذه المفاسد وبنى على هذا التخيل الحكم بإباحته ونسب ذلك إلى الإسلام. وهذا من المجازفة في القول ومن القول على الله بلا علم - لأن الواقع خلافه ، فاٍلإسلام ما أباح الغناء بل حرمه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآيات ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (4) ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء - إلى أن قال - ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكهم وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن وكلاهما لهو الحديث ولهذا قال ابن عباس: لهو الحديث الباطل والغناء - فمن الصحابة من ذكر هذا ومنهم من ذكر الآخر ومنهم من جمعهما والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل. وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه - إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم استبدال لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنيين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. اهـ. من إغاثة اللهفان (1-258-259).
ومن أدلة السنة على تحريم الغناء قوله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولن ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) رواه البخاري محتجا به - قال ابن القيم: وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة - ثم ساقها - رحمه الله (5) فكيف يزعم المؤلف مع هذا كله أن الإسلام أباح الغناء
ذكر طرف من أقوال العلماء في تحريم الغناء
ونذكر جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الغناء:
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره (14-55-56) عن الإمام مالك أنه قال في الغناء إنما يفعله عندنا الفساق. قال وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا - إلى أن قال: قال أبو الطيب الطبري: وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة - إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال: وأما مذهب الشافعي فقال الغناء مكروه ويشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته - ثم ذكر القرطبي نقلا عن ابن الجوزي: أن الإمام أحمد سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا فقال لا تباع إلا أنها ساذجة. قال أبو الفرج: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل الأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم عندي خمر لأيتام فقال أرقها فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى - قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالسواد الأعظم) (ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية).
قلت: ما إباحه إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري من الغناء ليس هو كالغناء المعهود المثير للنفوس والباعث على الشوق والغرام المهلب لها من وصف الخد والعينين ورشاقة الشفتين. تقعد المغنية أمام المذياع فتؤدي غناها بصوت رخيم يبعث على الوجد والأنات. يسمع صوتها من بعد ومن قرب فحاشا هذين المذكورين أن يبيحا مثل هذا الغناء الذي هو في غاية الانحطاط ومنتهى الرذالة.
ثم قال القرطبي: قال أبو الفرج وقال القفال من أصحابنا لا تقبل شهادة المغني والرقاص. قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك وقد مضى في الأنعام عند قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وحسبك. اهـ كلام القرطبي وما ذكره في سورة الأنعام هو قوله (7-3) قال أبو عمر بن عبد البر في الكافي: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء وعلى الزمر واللعب الباطل كله. أهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (30-215) في أثناء كلام له على ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر براع معه زمارة فسد أذنيه.
قال: الوجه السادس أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء والنوح فقال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة والمغنية كره ذلك الشعبي والنخعي ومالك وقال أبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد: لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح وبه نقول.
وقال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (1-245) في ذكر أقوال العلماء في الغناء نقلا عما ذكره أبو بكر الطرطوشي في كتابه (تحريم السماع) قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب وسئل مالك رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق - قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه قال ابن القيم: قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه - قالوا ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض - وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله. إلى أن قال ابن القيم وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. اهـ فهذا حكم الغناء كما تراه وكما يدل على منعه الكتاب والسنة والإجماع إلا من شذ فلا يهولنك ما عليه كثير من الناس اليوم من استباحتهم له وتساهلهم في سماعه ونسبة من أنكره إلى الجمود والتحجر وصيرورته كالمضغة في الأفواه البذيئة فليقولوا ما شاءوا فهذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم نكن ندعهما لقول قائل ولا إرضاء أحد من الناس كائنا من كان.
وأما قول المؤلف: (ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة) فمعناه إباحة شيء من المعازف والمزامير والملاهي التي جاء الحديث الصحيح بتحريمها كلها والوعيد لمن استباحها في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) الحديث - والمعازف جمع معزفة ويقال معزف بكسر الميم وفتح الزاي فيهما قال الجوهري: المعازف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني وقد عزف عزفا.. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11-576): مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام. ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير - والمعازف هي الملاهي كما ذكر أهل اللغة جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها أي يصوت بها ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا. ا هـ.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1-277-278): فصل في بيان تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق الأحاديث في ذلك: عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال: (باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) إلى أن قال ابن القيم: ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز - إلى أن قال: وقال ابن ماجه في سننه حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير) وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد. ا هـ فتبين أنه لا يباح شيء من آلات اللهو لا موسيقى ولا غيرها والله أعلم.
وقول المؤلف عن الغناء: إنه استحبه الإسلام في المناسبات الخ...
لا ندري من أين أخذ هذا الاستحباب والإطلاق وغاية ما في الأمر الرخصة بإنشاد شيء من الشعر للنساء والجواري خاصة في مناسبات معينة - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (11-565): (ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ولما كان الغناء والضرب بالدف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر رضي الله عنه: (أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضا بوجهه عنهما مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط فقال: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام) ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري في الأعياد كما في الحديث: (ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة) وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها. وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار. ا هـ.
الجواب عن الشبه التي تعلق بها المؤلف لإباحة الغناء
ثم نقل المؤلف: عن الغزالي أنه ذكر في كتاب الإحياء أحاديث غناء الجاريتين ولعب الحبشة في مسجده صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (دونكم يا بني أرفدة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: تشتهين أن تنظري ووقوفه حتى تمل هي وتسأم ولعبها بالبنات هي مع صواحبها - ثم قال فهذه الأحاديث كلها في الصحيحن وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام - الخ ما نقل.
والمؤلف موافق للغزالي في استدلاله بهذه الأحاديث على إباحة الغناء مطلقا لأنه ساق كلامه مستشهدا به ومقررا له ، ولا يخفى أن هذه الأحاديث لا تدل بوجه من الوجوه على إباحة الغناء وإليك بيان ذلك:
أما حديث لعب الحبشة فليس فيه ذكر الغناء أصلا إنما فيه أنهم كانوا يلعبون بحرابهم ودرقهم وذلك جائز بل قد يكون مستحبا لما فيه من التدريب على استعمال آلات الحرب والتمرن على الجهاد.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (6-184) فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد. ا هـ.
وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه: (باب الحراب والدرق يوم العيد)
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2-304) واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب. ا هـ.
هذا ما فهمه هؤلاء الأئمة الأجلاء من حديث لعب الحبشة وهو الذي دل عليه الحديث لا ما فهمه الغزالي والمؤلف. والله أعلم
وأما حديث غناء الجاريتين فلا دلالة فيه أيضا على إباحة الغناء لأنه يدل على وقوع إنشاد شيء من الشعر العربي في وصف الحرب من جاريتين صغيرتين في يوم عيد - قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين (1-493): وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا ؟ والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا استماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام. ا هـ.
وقال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس صفحة (217): والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن عائشة كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب إليها الجواري فيلعبن معها - ثم ذكر بسنده عن أحمد بن حنبل أنه سئل أي شيء هذا الغناء قال غناء الركب: أتيناكم أتيناكم ثم قال ابن الجوزي في صفحة (229) من الكتاب المذكور: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت في الإنشاد وترجيع ومثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم أوليس قد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد. وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف على مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال. والخد والقد والاعتدال. فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إلى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن حد الآدمية - إلى أن قال: وقد أجاب أبو الطيب الطبري عن هذا الحديث بجواب آخر - فأخبرنا أبو القاسم الجريري عنه أنه قال: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله إنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها. ا هـ.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم (6-182) قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة وهذا لا يهيج الجواري على شر ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه إنما هو رفع الصوت بالإنشاد ولهذا قالت وليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل كما قيل الغناء فيه الزنا وليستا أيضا ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبا والعرب تسمي الإنشاد غناء. ا هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2-442-443): واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب (يعني حديث غناء الجاريتين) على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها: (وليستا بمغنيتين) فنفت عنهما بطريق المعنى ما أثبته لهما اللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه الأعراب النَّصْب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا. وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح ، قال القرطبي: قولها (ليستا بمغنيتين) أي ليستا ممن يعرف بالغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن - إلى أن قال: وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل - والله أعلم. ا هـ.
فاتضح من هذه النقول عن هؤلاء الأئمة في معنى هذا الحديث أنه لا يدل بوجه من الوجوه على ما ادعاه الغزالي والمؤلف القرضاوي من إباحة الغناء مطلقا والله أعلم.
وقول المؤلف: وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم استمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأسا. هذا دعوى منه ونحن نطالبه بإبراز الأسانيد الصحيحة إلى هؤلاء الصحابة والتابعين بإثبات ما نسبه إليهم (6) وأن هذا الغناء المنسوب إليهم استماعه هو من جنس ما يغني هؤلاء من إلهاب النفوس الباعث على الوجد والغرام والمشتمل على أوصاف المحاسن من النساء وأنى له ذلك ومجرد الدعوى لا يثبت به حكم
والدعاوى إذا لم يقيموا بينات ** عليها أهلها أدعياء
اعتراض المؤلف على أدلة تحريم الغناء والجواب عنه
يلاحظ على المؤلف في هذا الموضوع قوله عن أدلة تحريم الغناء: (وأما ما ورد فيه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه).
ونجيب عن قوله هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن نقول إن أدلة تحريم الغناء ليست مقصورة على الأحاديث فقط بل هناك أدلة على تحريمه من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية وقد تقدم الكلام عليها. ومنها قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} الآية عن مجاهد قال: استزل منهم من استطعت. قال وصوته الغناء والباطل. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك. فكل متكلم في غير طاعة الله أو مصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان. وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو من خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (قال رجله كل رجل مشت في معصية الله. ا هـ) (7)
ومنها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال عكرمة عن ابن عباس السمود الغناء في لغة حمير يقال اسمدي لنا أي غني وقال عكرمة كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية وقال ابن كثير رحمه الله وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال: الغناء - هي يمانية - اسمد لنا غن لنا وكذا قال عكرمة. ا هـ إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن نقول للمؤلف من هم فقهاء الحديث وعلماؤه الذين طعنوا في الأحاديث الواردة في تحريم الغناء سمهم لنا هل هم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأمثالهم من أئمة الجرح والتعديل أم هم ناس غير هؤلاء ممن يبيح الغناء (8)
الوجه الثالث: أن نقول للمؤلف إن الأحاديث الواردة في تحريم الغناء ليست مثخنة بالجراح كما زعمت بل منها ما هو في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله. ومنها الحسن ومنها الضعيف وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الغناء والملاهي (9)
زعم المؤلف أن العلماء ما حرموا الغناء إلا لاقترانه بمحرمات والجواب عنه
ثم قال المؤلف: وقد اقترن الغناء والموسيقى بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما جعل كثيرا من العلماء يحرمونه أو يكرهونه.. الخ ما قال.
وجوابنا عن ذلك أن نقول: ليس تحريم العلماء للغناء من أجل اقترانه بهذه الأشياء فقط بل إن تحريمهم له من أجل الأدلة على تحريمه في نفسه ولو لم يقترن بهذه الأشياء التي ذكرتها. فهذا الذي قاله المؤلف ادعاء منه على العلماء أنهم ما حرموه إلا من أجل ذلك وهو ادعاء مردود. ثم قال: (ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شراب أو تخالطه خلاعة أو فجور فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذب الشديد حين قال (10) : (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير).
والجواب عن هذه الجملة كالجواب عن الجملة التي قبلها: إن الغناء حرام ولو لم يقترن به محرم آخر. كما أن شرب الخمر المذكور في الحديث الذي ساقه المؤلف حرام ولو لم يكن معه غناء. قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار (8-107) مجيبا على هذه الدعوى ما نصه: (ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث (يريد حديث: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) لا يحرم إلا عند شراب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأيضا يلزم مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف. ا هـ.
اعتراضه على تفسير لهو الحديث بالغناء والجواب عنه
ثم قال فضيلة المؤلف: قال بعضهم: (إن الغناء من لهو الحديث المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وقال ابن حزم إن الآية ذكرت صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله هزوا لكان كافرا فهذا هو الذي ذم الله عز وجل. وما ذم سبحانه قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح به نفسه لا ليضل عن سبيل الله)
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن قول المؤلف: (وقال بعضهم إن الغناء من لهو الحديث) بهذه الصيغة يفيد التقليل من شأن هذا القول وتضعيفه وتجاهل من قال به من أكابر الصحابة والتابعين كابن عباس وابن عمر وابن مسعود ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي. كما يأتي بيانه وهذا خطأ بين.
قال القرطبي في تفسيره: (ولهو الحديث): الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. إلى أن قال: قال ابن عطية وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي. ثم قال القرطبي قلت: هذا أعلى ما قيل في هذه الآية وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال: سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} فقال الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وعن ابن عمر أنه الغناء وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب. وقاله مجاهد وزاد أن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن: (لهو الحديث): المعازف والغناء. ثم ذكر القرطبي الأقوال الأخرى في تفسير الآية ثم قال: قلت: القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب للحديث المرفوع وقول الصحابة والتابعين فيه. ا هـ.
الوجه الثاني: أن نقول وبما تقدم من ذكر من فسر {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالغناء من أجلاء الصحابة والتابعين يحصل الجواب عما نقله المؤلف عن ابن حزم من تفسيره الآية بما يخالف ذلك فيقال من هو ابن حزم وما تفسيره بجانب هؤلاء وتفسيرهم حتى يقابله بهم - نقول هذا مع إجلالنا لابن حزم واعترافنا بمكانته العلمية - لكن لا نتابعه على خطأ ولا نقدم قوله على قول من هو أجل منه لا سيما من الصحابة والتابعين. قال العلامة ابن القيم: ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء , إلى أن قال: قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل هو عند الشيخين حديث مسند وقال في موضع آخر من كتابه هو عندنا في حكم المرفوع ، وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة وقد شاهدوا التفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ا هـ من إغاثة اللهفان. وبه وبما قبله من القول تعلم أن تفسير {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالباطل دخل الغناء دخولا أوليا فيه كما لا يخفى والله أعلم.
هل يكون الغناء مقويا على طاعة الله ؟
ثم نقل المؤلف عن ابن حزم أنه قال: (فمن نوى بالغناء عونا على معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها وقعوده على باب داره متفرجا وصبغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك) ا هـ.
والجواب: أن هذا الكلام من ابن حزم مبني على مذهبه أن الغناء حلال له حكم سائر المباحات وقد علمنا أن هذا مذهب باطل ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم الغناء واستماعه فلا يلتفت إليه. وعده استماع الغناء مما يتقوى به على طاعة الله وأنه من الحق هو من قلب الحقائق والمغالطة الواضحة لأن الغناء على العكس مما ذكر يصد عن طاعة الله ويضل عن سبيل الله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ولهو الحديث هو الغناء كما تقدم بيانه فقوله هذا مصادم للآية الكريمة والاستماع الذي يستعان به على طاعة الله هو الاستماع إلى القرآن الكريم. قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين: (1-485) والمقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة إدراكا وفهما وتدبرا وإجابة. وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم وأمر به أولياءه فهو هذا السماع وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء وسماع المراشد لا سماع القصائد وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنيين والمطربين - إلى أن قال: ويا لله العجب أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه - إلى أن قال: فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أن يتقرب إلى الله ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه مقيت عنده يمقت قائله والراضي به وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يا لله إن هذا القلب مخسوف به منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره فبلاه بقراءة الشيطان كما في معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا (إن الشيطان قال يا رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لي كتابا قال كتابك الوشم قال اجعل لي مؤذنا قال مؤذنك المزمار قال اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لي مصائد قال مصائدك النساء قال اجعل لي طعاما قال طعامك ما لم يذكر عليه اسمي) والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11- ابتداء من صفحة 557) ما نصه: فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم فهو سماع آيات الله تعالى وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم والمعرفة.
إلى أن قال: وبهذا السماع أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وعلى أهله أثنى كما قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} إلى أن قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} إلى أن قال رحمه الله: (وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر والعشاء وغير ذلك وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ويستدعيه منهم. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن. إلى أن قال: وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إلى أن قال: وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الذكية يطول شرحها ووصفها وله آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد وهذا مذكور في القرآن ثم قال وبالجملة فهذا السماع هو أصل الإيمان. ثم قال: وبالجملة فقد عرف من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقديد والدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعة واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي. إلى أن قال: ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به [يعني الغناء] لا يحن إلى سماع القرآن ولا يفرح به ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات بل إذا سمع القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المشروب. ثم قال رحمه الله في موضع آخر: فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف بل قد يصد عن ذلك ويعطي ما لا يحبه الله ورسوله أو ما يبغضه الله ورسوله لم يأمر الله به ولا رسوله ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها. وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حدث به وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) وإذا وجد فيه منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك لا من الكتاب ولا من السنة لم يلتفت إليه. اهـ المقصود من كلامه رحمه الله.
وأما قول ابن حزم عن الغناء: ومن لم ينو طاعة (أي بسماع الغناء) ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه وجلوسه على بابه وصبغه لثوبه..
فنجيب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق لأنه قياس محرم على مباح وقياس ما فيه مضره على ما لا ضرر فيه - إلى غير ذلك من الفوارق فهو قياس باطل - والعجب أن ابن حزم لا يقول بالقياس وينكره فكيف يقيس هنا هذا القياس الفاسد.
11- حكم دخول دول السينما
في صفحة (223) أبدى المؤلف رأيه في حكم دخول السينما فقال بعد مقدمة قدمها (وهكذا نرى في السينما فهي حلال طيب بل قد تستحب وتطلب إذا توفرت لها الشروط الآتية. ثم ذكر شروطا حاصلها:
1- أن تنزه موضوعاتها التي تعرض فيها عن المجون والفسق وكل ما ينافي عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه.
2- أن لا تشغل عن واجب ديني أو دنيوي كالصلوات الخمس.
3- أن يتجنب مرتادها الملاصقة والاختلاط المثيرين بين الرجال والنساء الأجنبيات عنهم منعا للفتنة ودرأ للشبهة.
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن نقول: بعيد كل البعد أو قد يكون مستحيلا في السينما أن تتوفر هذه الشروط التي ذكرها المؤلف وخلوها من هذه المحاذير لأنها لو خلت من هذه الأشياء وتمحضت للتوجيه النافع - على حد زعم المؤلف - لم يحصل الإقبال عليها من الناس ولم يكثر مرتادوها - ومهمة القائمين عليها استجلاب الناس إليها بشتى الوسائل ليحصلوا منهم على الكسب المادي لأنها أداة كسب في الغالب.
الوجه الثاني: لو فرضنا خلوها من هذه المحاذير - فإنها لا تخلو من عرض الصور المتحركة ومشاهدتها - ولا شك أن التصوير لذوات الأرواح واستعمال الصور المحرمة محرم. وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول الكعبة حتى محى ما فيها من الصور وامتنع صلى الله عليه وسلم من دخول بيت عائشة رضي الله عنه من أجل نمرقة فيها تصاوير. وامتنع من دخول بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رأى فيه تصاوير - فدل ذلك على أنه لا يجوز مشاهدة الصور في البيت ولا في السينما ولا في غيرها ولا دخول مكان تعرض فيه.
وكشاهد على ما ذكرنا من أنه لا يمكن خلو السينما من المحاذير والشرور وأنها أداة شر. ننقل لك جملة من أقوال من عرفوا تلك الأضرار في السينما فحذروا منها:
قال في كتاب النهضة الإصلاحية صحيفة (357) وهو يعدد جملة من المنكرات قال: ومنها وقوع نظر النساء على الصور المتحركة - السينما - ذلك أن تلك الشاشة البيضاء كما يسمونها لا تخلو أبدا من مناظر فاجرة تمثل الفسق والغرام والهيام المفرط الذي جاوز الحد ومعروف أن النفوس مجبولة على التقليد ولها من الإحساس ما يتحرك ويهيج إذا رأى المحرم المهيج. وأي مهيج أقوى وأشد من هاتيك المناظر المتعمدة المقصودة للتهييج وكيف لا تسارع المرأة ناقصة العقل والدين كل المسارعة إلى تقليد ما ترى على الشاشة البيضاء من ترام في الأحضان وتضام وعناق وتقبيل وما يتلو ذلك. إن من لا يقول إن المرأة تتأثر بهذه المناظر تأثرا خطرا يكون مريض العقل فاقد الإحساس عادم التقدير لا أتردد أنا في ذلك ولقد هيئت الفرص أن أتكلم في هذه النقطة مع سيدات ممن تعودن الذهاب إلى حيث الصور المتحركة فلم يترددن في موافقتي على أن تلك المناظر تؤثر عليهن كل التأثير ولقد أخبرتني سيدة رأت في تلك الشاشة صورة حرب فيها كر وفر وتصادم وهجوم وطعن وضرب وإطلاق نيران وما إلى ذلك من فنون الحروب المهلكة تقول لي وزوجها الذي يرغمها إلى الذهاب إلى تلك المناظر يسمع: إني لم أقم من ذلك المكان بعد رؤية هاتيك الصور إلا وكلي رعب وفزع لا يتصل مني عضو بالآخر من شدة ما نزل من التأثر وهي تريد أن تقول لي بتلك الحكاية إن كل منظر مؤذ يؤثر في موضوعه فإذا كان على الشاشة صور غرامية أثرت في النفوس للحد الذي يفهمه من يعرف قوة الطبيعة الحيوانية في الإنسان. ا هـ.
وجاء في مجلة الأزهر (26-442) ما نصه: (وبحث مشكلة السينما في مصر متشعب النواحي فقد تبحث باعتبارها فنا من الفنون أو صناعة من الصناعات أو أداة ووسيلة حيوية لتوجيه الشعب وتثقيفه وإرشاده وهي الناحية التي سنعرض لها هنا لنتبين إلى أي مدى استطاعت السينما أن تحقق هذه الوظائف القومية في المجتمع المصري وإن من يتبع الأفلام المصرية ويشاهد منها الكثير والكثير وهي وفيرة العدد ليخرج بحقيقة واحدة لا يستطيع عنها حولا وإن أكثر من المشاهدة والتدقيق وتعب في الفحص والاختبار. هذه الحقيقة الوحيدة هي أن هذه الأفلام قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الأهداف المذكورة وعجزت عجزا تاما عن أداء الوظائف الحيوية في خدمة الإرشاد العام في المجتمع المصري مؤثرة عناصر التجارة على عنصر التوجيه ومطرحة لعنصر الفن وضاربة الصفح إلا عن ابتزاز الأموال. ا هـ.
وجاء في صحيفة (517) من المجلد (26) من تلك المجلة أيضا: (يندر أن يجد المدمن على مشاهدة الأفلام فيلما يخلو من قبلات حتى لقد أصبحت من لوازم هذه الأفلام - إذا جلست في دار الخيالة تشاهد واحدا منها فلا بد أن تكون موطنا نفسك على أن تشهد منها الكثير والكثير بمناسبة وبغير مناسبة. بل إن الكثير من المراهقين والشبان والفتيات ليدخلون دور الخيالة ليشهدوا هذه الطبعات التي يحلمون بها ويشتاقون إلى ذوق أمثالها وهنا بيت الداء ومبعث انتشاره. ا هـ.
هذه شهادات ممن خبروا أضرار السينما وواقعها وما تجر على مشاهدها من أضرار وخسارة في الأخلاق والسلوك وأنها لا يمكن بحال خلوها من تلك المفاسد وأن القائمين عليها لا ينظرون في صالح الناس وإنما ينظرون إلى ما يمكنهم من ابتزاز الأموال. وبالجملة فلا خير فيها بوجه من الوجوه وإن زعم من زعم أنها أداة إصلاح وتوجيه.
خاتمة
وأخيرا نقول: ليت فضيلة المؤلف التزم ما قرره في أول كتابه من قواعد كقوله: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام) (اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام) (النية الحسنة لا تبرر الحرام) ليته التزم مقتضى هذه القواعد فأخلى كتابه من هذه الفتاوى التي خالف فيها الصواب وقلد في غالبها الأقوال الشاذة التي لا تستند إلى دليل. ليته جعل كتابه مشتملا على ما هو مفيد ونافع.
قال الأستاذ عبد الحميد طهماز في رده على المؤلف: ليت المؤلف وقف عند المبدأ الذي قرره في أول الكتاب أن الحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يكون منه التفات إلى مثل هذه الآراء الضعيفة في ثبوتها. اهـ. قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم وزلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
وقال المحقق العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين: (1-10-11) ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات. فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات. فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب. فقال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفا وجلالة. إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقف بين يدي الله. ا هـ.
وإذ كان المؤلف قد بسط القول في جانب تحريم الحلال وحمل على الذين يحرمون من غير دليل وجب عليه أيضا أن لا ينسى خطورة الجانب الثاني وهو تحليل الحرام فهو لا يقل أهمية عن الجانب الأول والواقعون فيه أكثر والله تعالى قد نهى عن الجانبين على حد سواء فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومعلوم أن من قواعد الشريعة (اتقاء الشبهات خشية الوقوع في المحرمات). و(إذا تنازع حظر وإباحة غلب جانب الحظر) مما يدل على خطورة الوقوع في الحرام.
هذا وأسأل الله لنا وللمؤلف ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة: (رتبت هذه القائمة على حسب أسبقية ذكرها في الكتاب).
ـ القرآن الكريم
ـ نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام
ـ الفتح الباري
ـ النهضة الإصلاحية للشيخ مصطفى الحمامي
ـ مصائب الدخان للأستاذ محمد عبد الغفار
كيف تبطل التدخين للدكتور هربرت ويلسن
ـ الدخينة في نظر طبيب الدكتور دانيال. هـ. كرس
ـ نيل الأوطار للشوكاني
ـ شرح صحيح مسلم بشرح النووي
ـ المجموع شرح المهذب للنووي
ـ تفسير ابن العربي
ـ إعلام الموقعين لابن القيم
ـ الجواب المفيد في حكم التصوير لابن باز
ـ شرح العمدة لابن دقيق العيد
ـ مسند الإمام أحمد
ـ مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية
ـ أضواء البيان لمحمد أمين الشنقيطي
ـ الحجاب لأبي الأعلى المودودي
ـ روائع البيان للشيخ محمد الصابوني
ـ روضة المحبين لابن القيم
ـ تفسير القرطبي
ـ مدارج السالكين لابن القيم
ـ إغاثة اللهفان
ـ تلبيس إبليس
ـ منهاج السنة لابن تيمية
ـ مجلد مجلة الأزهر (26)