السيل الحثيث
في بيان جواز جرح من يستحق الجرح
بلفظة"خبيث"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد فهذا موضوع مختصر حول كلمة "خبيث" هل يجوز إطلاقها على المسلم المستحق لها؟؟ ، وقد كان استشكل بعض الإخوة في ذلك فقالوا لا تطلق على المسلم مطلقاً!! وإنما تطلق على الكافر فقط!!! ، مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" قالت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِى . وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِى».
فأحببت أن أبيّن وجه الصواب في المسألة في هذه الوريقات فأقول:
الصحيح أن هذه الكلمة يجوز إطلاقها على المسلم المستحق لها ، كألفاظ الجرح بلا فرق ، فهي– بلا شك - من ألفاظ الجرح ، ومعلوم أن ألفاظ الجرح تطلق على من وُجد المقتضى فيه، ويدل على أنها من ألفاظ الجرح استعمال السلف والأئمة لها في الجرح كما سيأتي ذكره قريباً ، أما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها فيكون من عدة أوجه:
الوجه الأول:
أن هذا النهي من باب الأدب وليس للتحريم كما يوهمه صنيع من استدل به على عدم جواز إطلاق كلمة "خبيث" على من استحق أن يطلق فيه هذه الكلمة .
قال ابن بطال في "شرح البخارى"(9 / 336):(وليس قوله عليه السلام [لا يقولن أحدكم خبثت نفسى] على معنى الأيحاء والحتم ، وإنما هو من باب الأدب فقد قال فيالذي يعقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد وينام عن صلاة : ( أصبح خبيث النفس كسلان ) وقد نطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى : ( ومثل كلمة خبيئة كشجرة خبيثة) .اهـ
وقال السندي رحمه الله في "حاشيته على البخارى" (4 / 38):(والنهي محمول على الأدب).اهـ
وقال الحافظ في "الفتح"(1 / 110):(وقوله [لا يقل أحد خبثت نفسي] كره الإسم فقط).اهـ
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله كما في "الفتح"(10 / 564):(النهي عن ذلك للندب ، والأمر بقوله لقست للندب أيضا فإن عبر بما يؤدي معناه كفى ولكن ترك الأولى).اهـ
وبوب له الإمام النووي في "شرح مسلم": ( باب كراهة قول الانسان خبثت نفسي ).
الوجه الثاني- وهو يؤكد الوجه الأول -:
أن لفظة "خبثت" ولفظة "لقست" بمعنى واحد:
قال القاسم بن سلام في "غريب الحديث"(3 / 334):(لا يقولنَّ أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل : لَقِسَتْ نفسي ; فالمعنى فيهما واحد ولكنه كره قبح اللفظ في خبثت).أهـ
وقال الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الاثار" (1 / 321):(وكان مَحْبُوبًا له أَنْ يَقُولَ مَكَانَ ذلك لَقِسَتْ نَفْسِي وَإِنَّ مَعْنَاهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ وهو الشَّرَاسَةُ وَشِدَّةُ الْخُلُقِ كَذَلِكَ مَعْنَاهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَمِمَّنْ حَكَى ذلك عنه منهم أبو عُبَيْدٍ حَكَى ذلك لنا عنه عَلِيُّ بن عبد الْعَزِيزِ وقال فِيمَا حَكَاهُ لنا عنه في ذلك وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه في صِفَةِ الزُّبَيْرِ إنَّهُ وَعْقَةٌ لَقِسٌ يَعْنِي هذا الْمَعْنَى وَلَمَّا كان مَعْنَى الْخَبِيثِ وَمَعْنَى اللَّقِسِ الذي ذَكَرْنَا وَاحِدًا كان أَوْلاَهُمَا بِمَنْ يُرِيدُ وَصْفَ نَفْسِهِ بِالْمَعْنَى الذي يَرْجِعَانِ إلَيْهِ أَحْسَنَهُمَا وهو ما أَمَرَهُ النبي عليه السلام بِهِ في حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَسَهْلٍ حتى يَكُونَ من نَفْسِهِ ما يَسْتَحِقُّ له أَنْ يُوصَفَ بِالْخُبْثِ).اهـ
وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (15 / 8):(قال أبو عبيد وجميع أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم لقست وخبثت بمعنى واحد وانما كره لفظ الخبث لبشاعة الاسم وعلمهم الأدب في الألفاظ واستعمال حسنها وهجران خبيثها قالوا ومعنى لقست غثت وقال بن الاعرابي معناه ضاقت).أهـ
وقال الحافظ في "الفتح"(10 / 564):(فقال الخطابي تبعا لأبي عبيد لقست وخبثت بمعنى واحد وإنما كره صلى الله عليه و سلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن وقال غيره معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة وهو يرجع أيضا إلى معنى خبثت وقيل معناه ساء خلقها وقيل مالت به إلى الدعة).اهـ
وقال العظيم آبادي في "عون المعبود"(13 / 222):([ولكن ليقل لقست نفسي] قال في القاموس لقست نفسه إلى الشيء كفرح نازعته إليه ومنه غثت وخبث وإنما كره صلى الله عليه و سلم لفظ خبثت لقبحه ولئلا ينسب الخبيث إلى نفسه).اهـ
وقال العلامة العثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين"(1 / 2072):(ولقست بمعنى خبثت ولكنها في اللفظ تخالفها فهي أهون منها وأيسر وفي هذا الحديث دليل على اجتناب الألفاظ المكروهة وإبدالها بألفاظ غير مكروهة وإن كان المعنى واحدا لأن اللفظ قد يكون سببا للمعنى).اهـ
الوجه الثالث:
أن هذا النهي في حديث عائشة نهي للإنسان أن يقول هذه الكلمة عن نفسه ، ومسألتنا فيما يقال عن الآخرين لذا قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (15 / 8):(فإن قيل فقد قال صلى الله عليه و سلم في الذي ينام عن الصلاة فأصبح خبيث النفس كسلان قال القاضي وغيره جوابه أن النبي صلى الله عليه و سلم مخبر هناك عن صفة غيره وعن شخص مبهم مذموم الحال لا يمتنع اطلاق هذا اللفظ عليه والله أعلم).اهـ
وقال في "المصدر السابق " (6 / 67): (وليس في هذا الحديث – يعني قوله وإلا أصبح خبيث النفس كسلان - مخالفة لقوله صلى الله عليه و سلم لا يقل أحدكم خبثت نفسي فان ذلك نهى للإنسان أن يقول هذا اللفظ عن نفسه وهذا إخبار عن صفة غيره).
وبمثل ذلك قال السيوطي في "الديباج على مسلم" (2 / 383).
وتبعهما على ذلك ابن علان الشافعي في "دليل الفالحين"(6 / 493).
وقال الحافظ في "الفتح"(3 / 27):(وقال أيضا: زعم قوم أن هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه و سلم [لا يقولن أحدكم خبثت نفسي] وليس كذلك لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة وهذا الحديث وقع ذما لفعله ولكل من الحديثين وجه.وقال الباجي ليس بين الحديثين اختلاف لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس لكون الخبث بمعنى فساد الدين ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا.
قلت: تقرير الاشكال أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف صلى الله عليه وسلم هذا المرء بهذه الصفة فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التاسي ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير).اهـ
وارتضى جواب الحافظ المباركفوري في "مرعاة المفاتيح " (4 / 212).
وقال العيني في "شرح أبي داود" (5 / 214):(فإن قيل: قد ثبت في الحديث: " لا يقل أحدكم خبثت نفسي " فكيف وقد جاء في هذا الحديث: " خبيث النفس " ؟ قلت: ذاك نهي للإنسان أن يقول هذه اللفظة عن نفسه ، وهذا إخبار عن صفة غيره فلا مخالفة).اهـ
الوجه الرابع:
ومما يدل على جواز جرح من يستحق الجرح بـ"خبيث" عملُ السلف والأئمةبذلك – وهذا (بيت القصيد ،ودرة التاج , وواسطة القلادة )-حيث أطلقوا ذلك على أناس من المسلمين وعلى أناس من الجهمية والرافضة:
قال الحافظ كما في"مرعاة المفاتيح" (4 / 509):(فيه جواز التغليظ على من ارتكب حراماً عند من قال به أو مكروها عند غيره ؛لأن إظهار خلاف ما داوم عليه الصلاة والسلام على رؤس الأشهاد ينبىء عن خبث أيّ خبث ).اهـ
الخلاصة:
يتبين مما سبق إيضاحه جواز إطلاق كلمة "خبيث" على من يستحق ذلك ، شأن ألفاظ الجرح تماماً ، فإنه يجوز أن يقال في الرجل "كذاب" إن كان يستحق أن يقال فيه ذلك وهلم جرا ، أما حديث عائشة المتقدم الذي استدل به من قال بعدم جواز إطلاق هذه الكلمة على المسلمين!! المستحقين لها:
فأولاً: النهي فيه للتأديب فقط وليس للكراهة.
ثانياً: اللفظ الذي نُهي عنه في الحديث واللفظ الذي أُمرنا أن نقول بدلاً عنه معناهما واحد.
ثالثاً: أن حديث عائشة في أن يقول الرجل ذلك عن نفسه بخلاف مسألتنا فهي أن يقال "خبيث" في الآخرين ، ويوضحه الوجه الآتي.
رابعاً : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذي ينام عن الصلاة "أصبح خبيث النفس كسلان". ويوضحه الوجه الآتي.
خامساً: ويدل على جواز جرح الرجل بـ"خبيث" عمل السلف والأئمة ، فليس فيهم من فهم من حديث عائشة ما فهمه من ذهب إلى عدم جواز إطلاقها على مستحقها والله أعلم.
هذا ما يسر الله سبحانه من هذه المسألة ، فما أصبت فيه كبد الحق والحقيقة فمن الله وحده ، وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكتب:
أبو محمد السعدي
سعيد بن حسن الصومالي الإسحاقي
20 – جمادى الأولى – 1435هـ
في مسجد الفاروق – إب
في بيان جواز جرح من يستحق الجرح
بلفظة"خبيث"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد فهذا موضوع مختصر حول كلمة "خبيث" هل يجوز إطلاقها على المسلم المستحق لها؟؟ ، وقد كان استشكل بعض الإخوة في ذلك فقالوا لا تطلق على المسلم مطلقاً!! وإنما تطلق على الكافر فقط!!! ، مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" قالت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِى . وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِى».
فأحببت أن أبيّن وجه الصواب في المسألة في هذه الوريقات فأقول:
الصحيح أن هذه الكلمة يجوز إطلاقها على المسلم المستحق لها ، كألفاظ الجرح بلا فرق ، فهي– بلا شك - من ألفاظ الجرح ، ومعلوم أن ألفاظ الجرح تطلق على من وُجد المقتضى فيه، ويدل على أنها من ألفاظ الجرح استعمال السلف والأئمة لها في الجرح كما سيأتي ذكره قريباً ، أما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها فيكون من عدة أوجه:
الوجه الأول:
أن هذا النهي من باب الأدب وليس للتحريم كما يوهمه صنيع من استدل به على عدم جواز إطلاق كلمة "خبيث" على من استحق أن يطلق فيه هذه الكلمة .
قال ابن بطال في "شرح البخارى"(9 / 336):(وليس قوله عليه السلام [لا يقولن أحدكم خبثت نفسى] على معنى الأيحاء والحتم ، وإنما هو من باب الأدب فقد قال فيالذي يعقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد وينام عن صلاة : ( أصبح خبيث النفس كسلان ) وقد نطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى : ( ومثل كلمة خبيئة كشجرة خبيثة) .اهـ
وقال السندي رحمه الله في "حاشيته على البخارى" (4 / 38):(والنهي محمول على الأدب).اهـ
وقال الحافظ في "الفتح"(1 / 110):(وقوله [لا يقل أحد خبثت نفسي] كره الإسم فقط).اهـ
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله كما في "الفتح"(10 / 564):(النهي عن ذلك للندب ، والأمر بقوله لقست للندب أيضا فإن عبر بما يؤدي معناه كفى ولكن ترك الأولى).اهـ
وبوب له الإمام النووي في "شرح مسلم": ( باب كراهة قول الانسان خبثت نفسي ).
الوجه الثاني- وهو يؤكد الوجه الأول -:
أن لفظة "خبثت" ولفظة "لقست" بمعنى واحد:
قال القاسم بن سلام في "غريب الحديث"(3 / 334):(لا يقولنَّ أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل : لَقِسَتْ نفسي ; فالمعنى فيهما واحد ولكنه كره قبح اللفظ في خبثت).أهـ
وقال الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الاثار" (1 / 321):(وكان مَحْبُوبًا له أَنْ يَقُولَ مَكَانَ ذلك لَقِسَتْ نَفْسِي وَإِنَّ مَعْنَاهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ وهو الشَّرَاسَةُ وَشِدَّةُ الْخُلُقِ كَذَلِكَ مَعْنَاهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَمِمَّنْ حَكَى ذلك عنه منهم أبو عُبَيْدٍ حَكَى ذلك لنا عنه عَلِيُّ بن عبد الْعَزِيزِ وقال فِيمَا حَكَاهُ لنا عنه في ذلك وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه في صِفَةِ الزُّبَيْرِ إنَّهُ وَعْقَةٌ لَقِسٌ يَعْنِي هذا الْمَعْنَى وَلَمَّا كان مَعْنَى الْخَبِيثِ وَمَعْنَى اللَّقِسِ الذي ذَكَرْنَا وَاحِدًا كان أَوْلاَهُمَا بِمَنْ يُرِيدُ وَصْفَ نَفْسِهِ بِالْمَعْنَى الذي يَرْجِعَانِ إلَيْهِ أَحْسَنَهُمَا وهو ما أَمَرَهُ النبي عليه السلام بِهِ في حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَسَهْلٍ حتى يَكُونَ من نَفْسِهِ ما يَسْتَحِقُّ له أَنْ يُوصَفَ بِالْخُبْثِ).اهـ
وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (15 / 8):(قال أبو عبيد وجميع أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم لقست وخبثت بمعنى واحد وانما كره لفظ الخبث لبشاعة الاسم وعلمهم الأدب في الألفاظ واستعمال حسنها وهجران خبيثها قالوا ومعنى لقست غثت وقال بن الاعرابي معناه ضاقت).أهـ
وقال الحافظ في "الفتح"(10 / 564):(فقال الخطابي تبعا لأبي عبيد لقست وخبثت بمعنى واحد وإنما كره صلى الله عليه و سلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن وقال غيره معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة وهو يرجع أيضا إلى معنى خبثت وقيل معناه ساء خلقها وقيل مالت به إلى الدعة).اهـ
وقال العظيم آبادي في "عون المعبود"(13 / 222):([ولكن ليقل لقست نفسي] قال في القاموس لقست نفسه إلى الشيء كفرح نازعته إليه ومنه غثت وخبث وإنما كره صلى الله عليه و سلم لفظ خبثت لقبحه ولئلا ينسب الخبيث إلى نفسه).اهـ
وقال العلامة العثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين"(1 / 2072):(ولقست بمعنى خبثت ولكنها في اللفظ تخالفها فهي أهون منها وأيسر وفي هذا الحديث دليل على اجتناب الألفاظ المكروهة وإبدالها بألفاظ غير مكروهة وإن كان المعنى واحدا لأن اللفظ قد يكون سببا للمعنى).اهـ
الوجه الثالث:
أن هذا النهي في حديث عائشة نهي للإنسان أن يقول هذه الكلمة عن نفسه ، ومسألتنا فيما يقال عن الآخرين لذا قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (15 / 8):(فإن قيل فقد قال صلى الله عليه و سلم في الذي ينام عن الصلاة فأصبح خبيث النفس كسلان قال القاضي وغيره جوابه أن النبي صلى الله عليه و سلم مخبر هناك عن صفة غيره وعن شخص مبهم مذموم الحال لا يمتنع اطلاق هذا اللفظ عليه والله أعلم).اهـ
وقال في "المصدر السابق " (6 / 67): (وليس في هذا الحديث – يعني قوله وإلا أصبح خبيث النفس كسلان - مخالفة لقوله صلى الله عليه و سلم لا يقل أحدكم خبثت نفسي فان ذلك نهى للإنسان أن يقول هذا اللفظ عن نفسه وهذا إخبار عن صفة غيره).
وبمثل ذلك قال السيوطي في "الديباج على مسلم" (2 / 383).
وتبعهما على ذلك ابن علان الشافعي في "دليل الفالحين"(6 / 493).
وقال الحافظ في "الفتح"(3 / 27):(وقال أيضا: زعم قوم أن هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه و سلم [لا يقولن أحدكم خبثت نفسي] وليس كذلك لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة وهذا الحديث وقع ذما لفعله ولكل من الحديثين وجه.وقال الباجي ليس بين الحديثين اختلاف لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس لكون الخبث بمعنى فساد الدين ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا.
قلت: تقرير الاشكال أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف صلى الله عليه وسلم هذا المرء بهذه الصفة فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التاسي ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير).اهـ
وارتضى جواب الحافظ المباركفوري في "مرعاة المفاتيح " (4 / 212).
وقال العيني في "شرح أبي داود" (5 / 214):(فإن قيل: قد ثبت في الحديث: " لا يقل أحدكم خبثت نفسي " فكيف وقد جاء في هذا الحديث: " خبيث النفس " ؟ قلت: ذاك نهي للإنسان أن يقول هذه اللفظة عن نفسه ، وهذا إخبار عن صفة غيره فلا مخالفة).اهـ
الوجه الرابع:
ومما يدل على جواز جرح من يستحق الجرح بـ"خبيث" عملُ السلف والأئمةبذلك – وهذا (بيت القصيد ،ودرة التاج , وواسطة القلادة )-حيث أطلقوا ذلك على أناس من المسلمين وعلى أناس من الجهمية والرافضة:
- ففي صحيح مسلم (864) أن الصحابي الجليل كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا فَقَالَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا).اهـ
قال الحافظ كما في"مرعاة المفاتيح" (4 / 509):(فيه جواز التغليظ على من ارتكب حراماً عند من قال به أو مكروها عند غيره ؛لأن إظهار خلاف ما داوم عليه الصلاة والسلام على رؤس الأشهاد ينبىء عن خبث أيّ خبث ).اهـ
- وأقوال الأئمة كثيرة في هذا الباب ومن تتبع كتب التراجم وجدها بحراً لا ساحل له فمن الأئمة الذين استعملوا هذا اللفظ:
- إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل فمن أقواله:
- قال في (محمد بن زياد اليشكري) كما في "تهذيب التهذيب"(9 / 151):كذاب خبيث أعور يضع الحديث.
- وقال في (يونس بن خباب) كما في "تهذيب التهذيب"(11 / 385):كان خبيث الرأى.
- وقال في (عيسى بن مسلم الصفار الاحمري) كما في "تهذيب التهذيب" (8 / 207):كان خبيث القول في الارجاء.
- ومنهم الإمام يحيى بن معين فمن أقواله:
- قال في (إسمعيل بن مجالد ) كما في "الجرح والتعديل" (6 / 99): ليس بشئ كذاب رجل سوء خبيث.
- وقال في (إسحاق بن نجيح الملطي الازدي) كما في "تهذيب التهذيب"(1 / 221):كذاب عدو الله رجل سوء خبيث.
- وقال في (عامر بن صالح ) كما في "تهذيب التهذيب"(5 / 62):كذاب خبيث عدو الله.
- وقال في(عباس بن الفضل البصري) كما في "تهذيب التهذيب"(5 / 112):كذاب خبيث.
- وقال في(عبدالله بن عبد القدوس التميمي) كما في "تهذيب التهذيب" (5 / 265):ليس بشئ رافضي خبيث.
- وقال في( عبدالرحيم بن زيد بن الحواري ) كما في "تهذيب التهذيب" (6 / 274): كذاب خبيث.
- وقال في (عبد العزيز بن أبان ) كما في "تهذيب التهذيب" (6 / 294):كذاب خبيث يضع الحديث.
- وقال في ( علي بن ظبيان بن هلال ) كما في "تهذيب التهذيب"(7 / 300): كذاب خبيث ليس بثقة.
- وقال في (عمر بن اسماعيل بن مجالد ) كما في "تهذيب التهذيب" (7 / 375): ليس بشئ كذاب خبيث رجل سوء.
- وقال في (عمر بن هارون البلخي) كما في "تهذيب التهذيب" (7 / 443): كذاب خبيث ليس حديثه بشيء.
- وقال في (القاسم بن محمد بن المعمري) كما في "تهذيب التهذيب" (8 / 301): كذاب خبيث.
- وقال في (محمد بن الحسن بن زبالة) كما في "تهذيب التهذيب" (9 / 101):كذاب خبيث لم يكن بثقة ولا مأمون يسرق.
- وقال في (أبي سعد الصاغاني) كما في "تهذيب التهذيب"(9 / 427): جهمي خبيث.
- وقال في (يوسف بن خالد بن عمير السمتي) كما في "تهذيب التهذيب" (11 / 362):كذاب خبيث عدو الله تعالى رجل سوء.
- الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني:
- قال في (عمرو بن ثابت) كما في "تهذيب التهذيب" (8 / 9):رافضي خبيث.
- الإمام يعقوب بن سفيان:
- قال في (تليد بن سليمان المحاربي ) كما في "تهذيب التهذيب" (1 / 447): رافضي خبيث.
- الإمام أبو جعفر محمد بن عمر العقيلى:
- قال في (عبد الله بن داهر الرازي ) في "الضعفاء"(2 / 250):رافضي خبيث.
- وقال في (عبد السلام بن صالح الهروي) كما في "تهذيب التهذيب"(6 / 286):رافضي خبيث.
- الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني:
- قال في (عمر بن إبراهيم بن خالد) كما في "الميزان" (5 / 217): كذاب خبيث.
- الإمام أبو عبد الله محمد بن عبدالله الحاكم:
- قال في ( أحمد بن عبد الله بن خالد الجويباري ) كما في "لسان الميزان" (1 / 193): هو كذاب خبيث.
- وقال في (محمد بن تميم السعدي) كما في "لسان الميزان" (5 / 98): هو كذاب خبيث.
- الإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني:
- قال في ( مأمون بن أحمد السلمي ) في "المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم" (1 / 83): خبيث وضاع.
- الإمام علي بن هبة الله بن ماكولا:
- قال في (دريح بن عبد الله البجلي) في "الإكمال" (3 / 378): شاعر خبيث.
- وقال (بشر بن منقذ الأعور الشني) في "الإكمال" (7 / 230): شاعر خبيث
- الإمام محمد ناصر الدين الألباني:
- قال في وهب بن عبد الرحمن القرشي في "الضعيفة" (12 / 498):كذاب وضاع خبيث ، مشهور عند العلماء بذلك.اهـ
- وفي مواضع كثيرة-زهاء مائة أو أزيد- يقول في الرجل : كذاب خبيث كما قال ابن معين ، ومواضع أخرى ينقل كلام ابن معين بنفسه مقراً له ، تركنا نقلها خوف الإطالة والله المستعان.
الخلاصة:
يتبين مما سبق إيضاحه جواز إطلاق كلمة "خبيث" على من يستحق ذلك ، شأن ألفاظ الجرح تماماً ، فإنه يجوز أن يقال في الرجل "كذاب" إن كان يستحق أن يقال فيه ذلك وهلم جرا ، أما حديث عائشة المتقدم الذي استدل به من قال بعدم جواز إطلاق هذه الكلمة على المسلمين!! المستحقين لها:
فأولاً: النهي فيه للتأديب فقط وليس للكراهة.
ثانياً: اللفظ الذي نُهي عنه في الحديث واللفظ الذي أُمرنا أن نقول بدلاً عنه معناهما واحد.
ثالثاً: أن حديث عائشة في أن يقول الرجل ذلك عن نفسه بخلاف مسألتنا فهي أن يقال "خبيث" في الآخرين ، ويوضحه الوجه الآتي.
رابعاً : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذي ينام عن الصلاة "أصبح خبيث النفس كسلان". ويوضحه الوجه الآتي.
خامساً: ويدل على جواز جرح الرجل بـ"خبيث" عمل السلف والأئمة ، فليس فيهم من فهم من حديث عائشة ما فهمه من ذهب إلى عدم جواز إطلاقها على مستحقها والله أعلم.
هذا ما يسر الله سبحانه من هذه المسألة ، فما أصبت فيه كبد الحق والحقيقة فمن الله وحده ، وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكتب:
أبو محمد السعدي
سعيد بن حسن الصومالي الإسحاقي
20 – جمادى الأولى – 1435هـ
في مسجد الفاروق – إب
تعليق