كيفية التعامل مع ولي الأمر في
ضوء الكتاب والسنة
تأليف أبي يوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذه الرسالة المختصرة سميتها "كيفية التعامل مع ولي الأمر في ضوء الكتاب والسنة" كتبتها نصيحة لإخواني المسلمين، وذلك لما رأيت الحاجة إليها في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه الفتن، وبالأخص الخروج على ولاة الأمور، وقد علم القاصي والداني ما في الخروج من سفك دماء ونهب أموال وانتهاك أعراض إلى غير ذلك، والواقع أكبر شاهد، ما هو حاصل في بلاد المسلمين في اليمن وسوريا وتونس ومصر وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين.
هذا ما يسر الله لي جمعه، ونسأل الله تعالى أن ينفع بهاالإسلام والمسلمين ، وأن يجعلها خالصة لوجه الكريم وزلفى لديه إلى جنات النعيم وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه :أبو يوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
عافاه الله ومن عليه بالصحة والعافية
بماذا تحصل الخلافة لولي الأمر
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(156):
"وتحصل الخلافة بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: النص عليه من الخليفة السابق، كما في خلافة عمر بن الخطاب فإنها بنص من أبي بكر رضي الله عنه.
الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد سواء كانوا معينين من الخليفة السابق كما في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإنها باجتماع من أهل الحل والعقد المعينين من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أم غير معينين كما في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أحد الأقوال، وكما في خلافة علي رضي الله عنه.
الثالث: القهر والغلبة كما في خلافة عبدالملك بن مروان حين قتل ابن الزبير وتمت الخلافة له".([1])
وجوب السمع والطاعة لولي الأمر
قال الله تعالى
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: 59]
عن ابن عباس رضي الله عنهماقال: نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. رواه البخاري (4584)، ومسلم (1834)
وعن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمر عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها فجمعوا حطباً، فأوقدوا ناراً، فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف»
وفي رواية: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا ..."
رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (35/16):
"فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد؛ وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله. ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم؛ وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق".
وقال أيضاً (28/170): "أولو الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس".
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله كما في "بدائع التفسير" (2/29/30):
"والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم، والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه".
وقال أيضاً في "إعلام الموقعين" (3/541) دار ابن الجوزي:
"إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به؛ فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق، أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول، لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله؛ فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول، والأمراء منفذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله".
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير" (1/618):
"أمر الناس بطاعتهم هاهنا، وطاعة الله عز وجل هي: امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي: فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر: هم الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر: هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك، وروي عن مجاهد: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، والراجح: القول الأول".
وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (12/464):
"المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف والفقهاء وغيرهم، وقيل: هم العلماء، وقيل: الأمراء والعلماء".
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" (5/150):
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة , لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة".
وقال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/530):
"والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء".
وقال ابن العربي رحمه الله في "أحكام القرآن" (1/452):
"والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء".
وقال السعدي رحمه الله في "تفسيره" (1/362):
"أمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(7):
"فهذه الآية نص في وجوب طاعة ولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تبين أن هذه الطاعة لازمة، وهي فريضة في المعروف".
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في "شرح رياض الصالحين" (2/346):
"ذكر أهل العلم أنهم قسمان: العلماء والأمراء.
أما العلماء فهم ولاة أمور المسلمين في بيان الشرع، وتعليم الشرع، وهداية الخلق إلى الحق، فهم ولاة أمور في هذا الجانب، وأما الأمراء فهم ولاة الأمور في ضبط الأمن وحماية الشريعة وإلزام الناس بها، فصار لهم وجهة لهؤلاء وجهة.
والأصل: العلماء؛ لأن العلماء هم الذين يبينون الشرع ويقولون للأمراء هذا شرع الله فاعملوا به، ويلزمُ الأمراءُ بذلك، لكن الأمراء إذا علموا الشرع ولا طريق لهم إلى علم الشرع إلا عن طريق العلماء؛ نفذوه على الخلق.
والعلماء يؤثرون على من في قلبه إيمان ودين؛ لأن الذي في قلبه إيمان ودين ينصاع للعلماء ويأخذ بتوجيهاتهم وأمرهم.
والأمراء ينصاع لهم من خاف من سطوتهم وكان عنده ضعف إيمان، يخاف من الأمير أكثر مما يخاف من العالم، أو يخاف بعضهم أكثر مما يخاف من الله والعياذ بالله.
فلذلك كان لابد للأمة الإسلامية من علماء وأمراء، وكان واجباً على الأمة الإسلامية أن يطيعوا العلماء وأن يطيعوا الأمراء، ولكن طاعة هؤلاء وهؤلاء تابعة لطاعة الله؛ لقوله تعالى:: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يقل أطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن طاعة ولاة الأمر تابعة لا مستقلة، أما طاعة الله ورسوله فيهي مستقلة، ولهذا أعاد فيها الفعل فقال: أطيعوا وأطيعوا، أما طاعة ولاة الأمور فإنها تابعة ليست مستقلة.
وعلى هذا فإذا أمر ولاة الأمور بمعصية الله؛ فإنه لا سمع لهم ولا طاعة؛ لأن ولاة الأمور فوقهم ولي الأمر الأعلى جل وعلا وهو الله، فإذا أمروا بمخالفته فلا سمع لهم ولا طاعة"
أدلة وجوب طاعة ولي الأمر من السنة الصحيحة
1- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835)
2- عن عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» رواه البخاري (8200)، ومسلم (1709)
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه :عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842)
4- عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» رواه البخاري (3603)، ومسلم (1843)
5- عن أنس بن مالك عن أسيد بن حضير رضي الله عنهم، أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ قال: «ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» رواه البخاري (3792)، ومسلم (1845)
6- عن حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847)
7- قال حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم»، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» رواه مسلم (1847)
8- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» رواه البخاري (6530)، (7053)، ومسلم (1849)
9- عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك» رواه البخاري (693)
10- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك» رواه مسلم (1836)
11- عن أبي ذر، قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدع الأطراف» رواه مسلم (1837)
12- عن أم حصين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم (1838)
13- عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة» رواه البخاري (7144)، ومسلم (1840)
14- عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً، وأمر عليهم رجلا، فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين قولاً حسناً، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» رواه البخاري (4340)، ومسلم (1840)
15- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه» رواه البخاري (2957) ومسلم (1841)
16- عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " رواه مسلم (1844)
17- عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم» رواه مسلم (1846)
18- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني» رواه مسلم (1848)، وبنحوه عن جندب رواه مسلم (1850)
19- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» رواه مسلم (1851)
20- عن عرفجة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (1852)
21- عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم (1853)
22- عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» رواه مسلم (1854)
23- وعن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة» (1855)
قلت: الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وإنما اكتفيت بذكر هذه الأحاديث اليسيرة
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة
عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم سيرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمورفإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها و، عضوا عليها بالنواجذ»
رواه أبو داود رقم (4607)، وابن ماجة (43)، والترمذي (2676)، وأحمد (4/126)
الحديث صححه الألباني في "ظلال الجنة" برقم (27)، وفي تحقيقه على السنن، وقال الوادعي في "الصحيح المسند" رقم (921): هذا حديث حسن.
وعن أبي ذررضي الله عنه قال: «إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف، وأن أصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة» رواه مسلم (1837)
عليك بالجماعة وإياك والفرقة
عن أسامة بن شريك رضي الله عنه:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله على الجماعة" رواه الطبراني والديلمي وابن أبي عاصم رقم (81) قال الألباني: صحيح بشواهده.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب" رواه أحمد وابن أبي عاصم في "السنة" وحسنه الألباني في "السنة" لابن أبي عاصم رقم (93، 895)
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية"
رواه أحمد (2/133)، ومسلم (1848)، وابن أبي عاصم (90، 901، 1064)، والنسائي، وصححه الألباني
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"
رواه أحمد والترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وصححه الألباني في "السنة" لابن أبي عاصم رقم (88)
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصياً"
رواه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي عاصم في "السنة" وصححه الألباني في "الصحيحة" (541)
والأحاديث في هذه الباب كثيرة
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/42):
"والبدعة مقرونة بالفرقة؛ كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة؛ كما يقال: أهل البدعة والفرقة"
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك" أخرجه اللالكائي (2/109)، وصححه الألباني في "المشكاة" (1/61)
شروط السمع والطاعة لولي الأمر
إن طاعة ولي الأمر واجبة بشروط وهي:
الشرط الأول: أن يكون في مقدور الإنسان، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم" رواه البخاري (6776)، ومسلم (1867)
الشرط الثاني: ألا يكون الأمر معصية، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أُمر بمعصية فلا سمع وطاعة"
رواه البخاري (6725)، ومسلم (1839)
قال العلامة ابن بازرحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(9):
"ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يُطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة"([2])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية"([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"([4])
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/348):
"فالواجب على الإنسان أن يمتثل لأمر ولاة الأمور إلا فيما كان فيه معصية الله. فلو قالوا لنا مثلاً: لا تخرجوا إلى المساجد لا تصلوا الجمعة، لا تصلوا الجمعة والجماعة، قلنا لهم: لا سمع ولا طاعة. ولو قالوا: اظلموا الناس في شيء قلنا: لا سمع ولا طاعة. كل شيء أمر الله به أو نهى عنه فإنه لا سمع ولا طاعة لهم فيه أبداً.
كذلك لو قالوا مثلاً: احلقوا اللحى- مثل بعض الدول يأمرون رعيهتم بحلق اللحى ولا سيما جنودهم الذين عندهم- لو قالوا: احلقوا اللحى قلنا: لا سمع لكم ولا طاعة. وهم آثمون في قولهم لجنودهم مثلاً: احلقوا اللحى، وهم بذلك آثمون مضادون لله ورسوله، منابذون لله ورسوله.
كذلك لو قالوا مثلاً: انزلوا ثيابكم إلى أسفل من الكعبين، فإننا نقول: لا، لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذا مما حرمه الله وتوعد عليه، فإذا أمرتمونا بمعصية فإننا لا نسمع لكم ولا نطيع؛ لأن لنا ولكم ربا حكمه فوق حكمنا وحكمكم"
قلت: والشرط الثاني باتفاق أهل العلم
قال الإمام محمد بن حزم رحمه في "مراتب الإجماع" ص(142):
"واتفقوا أن الإمام الواجبة إمامته، فإن طاعته في كل ما أمر ما لم يكن معصية فرض"
وقال صديق حسن خان في "عقيدة أهل الأثر" رحمه الله:
"وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه"
قلت: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل"([5])
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "منهاج السنة" (3/387):
"إنهم (أي أهل السنة والجماعة) لا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماماً عادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق".
طاعة الأمير من طاعته صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجراً وإن قال بغيره فإن عليه منه". رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث: وجوب طاعة ولاة الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة؛ لما في الافتراق من الفساد". اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/356):
" ففي هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعته من طاعة الله. قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) (النساء: 80) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالوحي؛ إلا بالشرع الذي شرعه الله تعالى له ولأمته، فإذا أمر بشيء؛ فهو شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
الأمير إذا أطاعه الإنسان فقد أطاع الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في أكثر من حديث، وأمر بطاعة ولي الأمر، وقال: "وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" وقال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" . وقال: "على المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه".
والأحاديث في هذا كثيرة، فقد أمر بطاعة ولي الأمر، فإذا أطعت ولي الأمر فقد أطعت الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا أطعت الرسول فقد أطعت الله.
وهذا الحديث وما سبقه وما لم يذكره المؤلف كلها تدل على وجوب طاعة ولاة الأمور إلا في معصية الله، لما في طاعتهم من الخير والأمن والاستقرار وعدم الفوضى وعدم اتباع الهوى. أما إذا عصي ولاة الأمور في أمر تلزم طاعتهم فيه؛ فإنه تحصل الفوضى، ويحصل إعجاب كل ذي رأي برأيه، ويزول الأمن، وتفسد الأمور، وتكثر الفتن، فلهذا يجب علينا نحن أن نسمع ونطيع لولاة أمورنا إلا إذا أمرونا بمعصية؛ فإذا أمرونا بمعصية الله فربنا وربهم الله له الحكم، ولا نطيعهم فيها؛ بل نقول لهم: أنتم يجب عليكم أن تتجنبوا معصية الله، فكيف تأمروننا بها؟ فلا نسمع لكم ولا نطيع.
وقد سبق لنا أن قلنا: إن ما أمر به ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الله قد أمر به، مثل أن يأمرونا بإقامة الجماعة في المساجد، وأن يأمرونا بفعل الخير وترك المنكر، وما أشبه ذلك، فهذا واجب من وجهين: أولاً: أنه واجب أصلاً. الثاني: أنه أمر به ولاة الأمور.
القسم الثاني: أن يأمرونا بمعصية الله، فهذا لا يجوز لنا طاعتهم فيها مهما كان، مثل أن يقولوا: لا تصلوا جماعة، احلقوا لِحاكم، أنزلوا ثيابكم إلى أسفل، اظلموا المسلمين بأخذ المال أو الضرب أو ما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ لا يطاع ولا يحل لنا طاعتهم فيه، لكن علينا أن نناصحهم وأن نقول: اتقوا الله، هذا أمر لا يجوز، لا يحل لكم أن تأمروا عباد الله بمعصية الله.
القسم الثالث: أن يأمرونا بأمر ليس فيه أمر من الله ورسوله بذاته، وليس فيه نهي بذاته، فيجب علينا طاعتهم فيه؛ كالأنظمة التي يستنونها وهي لا تخالف الشرع، فإن الواجب علينا طاعتهم فيهما واتباع هذه الأنظمة وهذا التقسيم، فإذا فعل الناس ذلك؛ فإنهم سيجدون الأمن والاستقرار والراحة والطمأنينة، ويحبون ولاة أمورهم، ويحبهم ولاة أمورهم".
وقال عمر بن الخطاب لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة".
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/62)
حاجة الناس إلى ولي أمر يسمعون ويطيعون له
قد عُلم من دين الإسلام أن لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
وأن الخروج على ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد([6]).
قال الحسن البصري رحمه الله كما في "جامع العلوم والحكم" (2/117) ط: مؤسسة الرسالة: "والله لا يستقيم الدِّين إلاَّ بولاة، وإنْ جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون"
وقال ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم" (2/1179): "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم".
تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه بعزو أو غيره معصية ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريق السلف الصالح وأئمة الدين([7]).
حاجة ولي الأمر إلى بطانة صالحة
عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله تعالى "
رواه البخاري (7198)
وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه»
رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم، وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" (302)، وصحيح أبي داود (2544)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/363):
"وفي حديث عائشة الذي ساقه المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه" وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: "أن الله ما بعث من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة خير تأمره بالخير وتحثه عليه، وبطانة سوء تدله على السوء وتأمره به، قال: والمعصوم من عصمه الله" وهذا شيء مشاهد، تجد الأمراء بعضهم يكون صالحاً في نفسه حريصاً على الخير لكن يقيض الله له قرناء سوء - والعياذ بالله - فيصدونه عما يريد من الخير، ويزينون له السوء ويبغضونه لعباد الله، وتجد بعض الأمراء يكون في نفسه غير الصالح، لكن عنده بطانة خير تدله على الخير وتحثه عليه وتدله على ما يوجب المحبة بينه وبين رعيته حتى يستقيم وتصلح حاله، والمعصوم من عصمه الله، إذا كان هذا في الأمراء ففتش نفسك أنت، فأنت بنفسك إذا رأيت من أصحابك أنهم يدلونك على الخير ويعينونك عليه، وإذا نسيت ذكروك، وإذا جهلت علموك فاستمسك بحجزهم وعض عليهم بالنواجذ.
وإذا رأيت من أصحابك من هو مهمل في حقك ولا يبالي هل هلكت أم بقيت، بل ربما يسعى لهلاكك فاحذره؛ فإنه السم الناقع - والعياذ بالله - لا تقرب هؤلاء، بل ابتعد عنهم فر منهم فرارك من الأسد، والإنسان الموفق هو الذي لا يكون بليداً كالحجر، بل يكون ذكياً كالزجاجة؛ فإنها صلبة، ولكن يرى ما وراءها من صفاء، فيكون عنده قوة وصلابة، لكن عنده يقظة بحيث يعرف، وكأنما يرى بالغيب ما ينفعه مما يضره فيحرص على ما ينفعه ويتجنب ما يضره، نسأل الله لنا وللمسلمين التوفيق".
أفضل الجهاد كلمة حق عند ولي أمر جائر
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل إن سلطان جائر"
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (491)([8])
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (1/534):
"فللسطان بطانتان: بطانة السوء، وبطانة الخير.
بطانة السوء: تنظر ماذا يريد السلطان، ثم تزينه له وتقول: هذا هو الحق، هذا هو الطيب، وأحسنت وأفدت، ولو كان - والعياذ بالله - من أجور ما يكون، تفعل ذلك مداهنة للسلاطين وطلباً للدنيا.
أما بطانة الحق: فإنها تنظر ما يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتدل الحاكم عليه، هذه هي الباطنة الحسنة.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، هذه - والعياذ بالله- ضد الجهاد.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، تكون بأن ينظر المتكلم ماذا يريد السلطان فيتكلم به عنده ويزينه له.
وقول كلمة الحق عند سلطان جائر من أعظم الجهاد. وقال: " عند سلطان جائر" لأن السلطان العادل، كلمة الحق عنده لا تضر قائلها؛ لأنه يقبل، أما الجائر فقد ينتقم من صاحبها ويؤذيه.
فالآن عندنا أربع أحوال:
1- كلمة حق عند سلطان عادل، وهذه سهلة.
2- كلمة باطل عند سلطان عادل، وهذه خطيرة؛ لأنك قد تفتن السلطان العادل بكلمتك، بما تزينه له من الزخارف.
3- كلمة حق عند سلطان جائر، وهذه أفضل الجهاد.
4- كلمة باطل عند سلطان جائر، وهذه أقبح ما يكون.
فهذه أقسام أربعة، لكن أفضلها كلمة الحق عند السلطان الجائر.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يقول الحق ظاهراً وباطناً على نفسه وعلى غيره".
محبة ولي الأمر وتوقيره واحترامه وعدم إهانته
إن ولي الأمر رجل بذل نفسه ووقته لرعاية مصالح أمته، وتوفير سبل الراحة لهم، ودفع المخاطر والسوء عنهم بإذن الله.
فالواجب علينا تقديره واحترامه، بل ومحبته لِما يقوم به من الأعمال الشاقة، والمسؤولية الكاملة.
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة» رواه مسلم (1855)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/354):
"فما داموا يصلون فإننا لا ننابذهم، بل نسمع ونطيع ونقوم بالحق الذي علينا، وهم عليهم ما حُمِّلوا".
ومن أجل السلطان أكرمه الله يوم القيامة، ومن لم يجله أهانه الله يوم القيامة.
فعن زياد بن كسيب العدوي، قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله»
رواه الترمذي (2224)، وأحمد (20450)، والبخاري في "التاريخ" (31/366)، وغيرهم، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (2296)، وفي السنة لابن أبي عاصم (1018)
فتأملوا كيف أن أبا بكرة رضي الله عنه اعتبر الكلام في ولي الأمر والقدح فيه من إهانته.
وعلق الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" (14/508) على هذه القصة بقوله: أبو بلال هذا خارجي، ومن جهله عد ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق.
وقال المباركفوري رحمه الله في "تحفة الأحوذي" (6/394):
"(من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله) أي من أهان من أعزه الله وألبسه خلعة السلطنة أهانه الله، "وفي الأرض" متعلق بسلطان الله تعلقها في قوله تعالى: "إنا جعلناك خليفة في الأرض" والإضافة في سلطان الله إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ... إلخ
وفي "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (11/331):
"(من أهان سلطان الله في الأرض) أي أذله حاكماً بأن آذاه أو عصاه أهانه الله".
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من دخل على السلطان يريد توقيره فهم ضامن على الله كما قال معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله: من عاد مريضاً، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازياً في سبيل الله، أو دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس".
رواه أحمد في "المسند" (5/241)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1021)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (476)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خصال ست ما من مُسلم يموتُ في واحدة منْهن إلا كان ضامناً على الله أن يدْخِلَه الجنّة: رجل خرج مجاهداً، فإن مات في وجْهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل تبع جنازة، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل عاد مريضاً، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لصلاته، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل أتى إماماً، لا يأتيه إلا ليعزِّره ويوقره، فإن مات في وجهه ذلك؛ كان ضامناً على الله".
رواه الطبراني في الأوسط (4/142)رقم (2822)وصححه الألباني في الصحيحة (7/2)(1148)
ولقد كان السلف يقدرون الأمير ويحترمونه كما قال مغيرة رحمه الله: "كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير".
أخرجه الدارمي في "السنن" (1/393) رقم (422)
وقال السعدي رحمه الله في "نور البصائر والألباب" (66):
"من إجلال الله إجلال السلطان المقسط، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". أهـ
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»
رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (21199)
وقال ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد" (3/176):
"عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه فقال: "أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يده أكان خطأ أم واقعاً موقعه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يربي ولده تربية خاصة والسلطان يربي العالم تربية عامة فهو بالإكرام أولى"
مشروعية الدعاء لولي الأمر با لصلاح
صلاح ولي الأمر مطلب لكل مسلم غيور على دينه؛ إذ صلاهم صلاح للعباد والبلاد كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته: "اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ما استقامت لهم ولاتهم وهداتهم"
أخرجه البيهقي في "السنن"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/292)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/185)، وقال السخاوي في "تخريج أحاديث العادلين من الولاة": وسنده صحيح.
وقال القاسم بن مخيمرة: "إنما زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم، فإذا فسد سلطانكم فسد زمانكم"
وذكر ابن المنير المالكي رحمه الله في "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" (4/106): أنه نقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم، فقيل له: أتدعو له وهو ظالم؟
فقال: إي والله، أدعو له، إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله. اهـ
وعن أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الواعظ الزاهد أنه قال بعد روايته لحديث تميم الداري مرفوعاً: "الدين النصيحة" قال: "فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة فيزدادوا شراً ويزداد البلاء على المسلمين، ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر فيرتفع البلاء عن المؤمنين ..." اهـ
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (13/99)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله رحمه الله في "شرح السنة" ص(113، 114)
"وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله". اهـ
وقال أيضاً: "أُمرنا ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن ظلموا، وإن جاروا؛ لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"
وقال أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في "اعتقاد أهل السنة ص(50):
"ويرون الدعاء لهم بالصلاح والعطف إلى العدل" اهـ
وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" ص(92): "ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية" أهـ
وقال ابن القيم رحمه الله في "اجتماع الجيوش" (84):
"ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح".
وقال الآجري رحمه الله في "الشريعة" (1/371):
"قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى، عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين وصلى معهم الجمعة والعيدين , فإن أمروه بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته وكف لسانه ويده، ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله" اهـ
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله في "متن الطحاوية":
"وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
وقال أبو بكر المروذي رحمه الله، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، وذكر الخليفة المتوكل، رحمه الله فقال: "إني لأدعو له بالصلاح والعافية، وقال: لئن حدث به حدث لتنظرن ما يحل بالإسلام"
أخرجه الخلال في "السنة" (16)، و"مسائل أحمد في العقيدة" (2/3)
وقال الإمام أحمد مُملياً ابنه عبد الله: "وإني أسأل الله عز وجل أن يطيل بقاء أمير وأن يثبته وأن يمده منه بمعونة، إنه على كل شيء قدير".
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (1/104)، و"سير أعلام النبلاء" (11/287)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/391):
أن الفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل([9]) وغيرهما كانوا يقولون: "لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان".
وكان سفيان الثوري رحمه الله يدعو للسلطان.
أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/97) وأنشد ابن عبدالبر رحمه الله في جامع بيان العلم (1/184) عن أحمد بن عمر بن عبدالله أنه أنشد لنفسه:
نسأل الله صلاحاً للولاة الرؤسا
فصلاح الدين والدنيا صلاح الأمراء
فبهم يلتئم الشمل على بُعد التناء
وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله عن الأمير:إنه مؤمر عليك مثلك ،فإن اهتدى فاحمد الله ،وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ،ولاتخالفه فتضل.أخرجه الخلال في السنة (1/86)
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله :لو أن لي دعوة مستجابة ماصيرتها إلا في الإمام :قيل وكيف ذلك ياأبا علي قال :متى صيرتها في نفسي لم تجزني ،ومتى صيرتها في الإمام يعني عمت _فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد ...فقبل ابن المبارك جبهته ،وقال يامعلم الخير،
من يحسن هذا غيرك .أخرجه أبو نعيم في حليةالأولياء (8/91)وفي فضيلة العادلين (171،رقم 48)وأخرجه ابن عساكر (48/445)
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :,وإني لأدعو له أي للأميربالتسديد ،والتوفيق في الليل والنهار ،والتأييد وأرى له ذلك واجباٌ عليا )أخرجه الخلال في السنة (1/83)والبدية (10/352) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله في "نور البصائر والألباب" ص(66):
"والدعاء لله بصلاحهم؛ فإن الدعاء لهم دعاء للرعية كلها، كما أن إرشادهم إلى مصلحة ومشروع خيري نافع شامل".
وقال الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله في "الدين النصيحة":
"من النصح أتدعو لهم بالتوفيق والسداد" اهـ
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(18):
"من متقضى البيعة: النصح لولي الأمر، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة".
النصيحة لولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً
النصيحة لولي الأمر سراً أصل من أصول المنهج السلفي الذي خالفه أهل الأهواء والبدع كالخوارج؛ إذ الأصل في النصح لولي الأمر الإسرار بالنصيحة، وعدم العن بها يدل عليها ما رواه أحمد في "المسند" رقم (14909)، وابن أبي عاصم في "السنة (911)، وابن عدي في "الكامل" (4/393)، والحاكم (3/290)، والطبراني في "الكبير" (17/367)، وقال الهيثمي في "المجمع": رجاله ثقات وإسناده متصل. وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (1098)
قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه»
فتأمل أخي المسلم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في نصح ولي الأمر بدون علانية؛ لأجل أن تكون نصيحتك أدعى للقبول.
ولله در الشافعي إذ يقول:
تعهّدني بنصحك في انفرادى ... وجنّبني النّصيحة في الجماعه
فإنّ النّصح بين النّاس نوع ... من التّوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تغضب إذا لم تعط طاعه([10])
وقال مسعر بن كدام رحمه الله: رحم الله من أهدى لي عيوبي في ستر بين وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع". "بهجة المجالس" (1/417) لابن عبد البر
وسئل مالك بن أنس رحمه الله: أيأتي الرجل إلى السلطان فيعظه وينصح له ويندبه إلى الخير؟ فقال: إذا رجا أن يسمع منه وإلا فليس ذلك عليه"
ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (21/285)
وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: "آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، قال: ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك وقال: إن كنت لا بد فاعلا ففيما بينك وبينه"
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف (113) رقم (76)، والبيهقي في "الشعب" (13/273) رقم (7185، 7186)، وأخرجه حنبل بن إسحاق في "محنة الإمام أحمد" ص(84) وإسناده صحيح.
فتدبروا موقف هذا الصحابي الجليل حبر الأمة، وترجمان القرآن، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المسألة العظيمة حيث أمره بالسرية في النصح.
ويدل لذلك ما رواه البخاري (849) في بدء الخلق باب: 10 رقم (3267)، والفتن 17 رقم (7098)، ومسلم (4/2290) رقم (2989)، (849)
وعن الأعمش سمعت أبا وائل، قال: قيل لأسامة: ألا تكلم هذا؟ قال: قد كلمته ما دون أن أفتح باباً أكون أول من يفتحه، وما أنا بالذي أقول لرجل، بعد أن يكون أميراً على رجلين: أنت خير ... الحديث.
وفي لفظ مسلم: "ألا تدخل على عثمان فتكلمه".
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (14/554، 850):
"قال المهلب: أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان، وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه وكان يستعمله فقال أسامة: قد كلمته سراً دون أن أفتح باباً أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً ولو كان أميراً بل ينصح له في السر جهده".
وقال القاصي عياض كما في "الفتح":
"مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك بل يتلطف به وينصحه سراً، فذلك أجدر بالقبول. اهـ
وقال الألباني في تعليقه على "مختصر صحيح مسلم" (335):
"يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأن في الإنكار جهاراً ما يخشى عاقبته، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً؛ إذ نشأ عنه قتله. اهـ
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
وقال الفضيل رحمه الله: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.
وقالت أم الدرداء رضي الله عنها: "من وعظه أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه". أخرجه الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ص(39)
وجاء في "ترتيب المدارك" (2/95) عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه قوله: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل على ذي سلطان، يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأن العالم إنما يدخل يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل".
وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". رواه مسلم (1/74)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم". رواه مسلم (1715)
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "
رواه أحمد وابن ماجة والحاكم عن جبير بن مطعم، وعند أبي داود وابن ماجة عن زيد بن ثابت، والترمذي عن أبن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6766)، والوادعي في "الصحيح المسند" (351)
قال الخطابي في "معالم السنن" (7/247):
"والنصيحة لأئمة المسلمين أن يطيعهم في الحق، وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا".
وقال النووي في "شرح مسلم" (2/38):
"وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم".
وقال ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط" ص(224):
"معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتنبيههم وتذكيرهم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك".
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/222): "وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل".
وقال السعدي في "الرياض الناضرة" ص(41):
"وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية كبيرة أو صغيرة ، فهؤلاء لما كانت مهمتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم ، ووجوب طاعتهم في المعروف ، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم ، وبذل ما يستطيعه الإنسان من نصيحتهم ، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب مرتبته ، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح ، فإن صلاحهم صلاح للرعية وللأمور ، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإن في ذلك شراً وضرراً وفساداً كبيراً ومن رأى منهم مالا يحل فعليه أن ينبههم سرا لا علنا بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود ، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد وبالأخص ولاة الأمور ، فتنبههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصد ق والإخلاص.
واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس، فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أخرى معروفة".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله ص(18):
"من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر , ومن النصح : الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة; لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له: أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير, ويذكره إذا نسي, ويعينه إذا ذكر, هذه من أسباب توفيق الله له.
فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه, وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر, وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز; لأن المقصود من الولايات كلها: تحقيق المصالح الشرعية, ودرء المفاسد, فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته وما هو منكر لا يجوز له .
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى إيضاحا كاملا في كتاب "الحسبة" فليراجع; لعظم الفائدة".
الرفق في نصيحة ولي الأمر
قال ابن الجوزي رحمه الله: "الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، لأن المقصود إزالة المنكر وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يتعرض للسلطان؛ فإن سيفه مسلول وعصاه، فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم؛ فإنهم كانوا يهابون العلماء فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب". "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/197)
وقيل لمالك بن أنس: إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون ويجورون، فقال: يرحمك الله، فأين التكلم بالحق". أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح" (1/30)
وقال أئمة الدعوة النجدية: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين".
وقال ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(13):
"فالواجب على الغيورين لله، وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا حدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور بالكلام الطيب والحكمة والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة .."
من الخطأ ظن بعض الناس أن ولي الأمر إذا نصح بأمر لا بد من فعله
ولا يلزم من نصح الإمام أن يقبل النصيحة ويعمل بها.
قال ابن أبي العز الدمشقي في "شرح العقيدة الطحاوية" ص(511):
"وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد ، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية".
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "لا يلزم إذا قدمت النصيحة لولي الأمر أن يقبل كل ما فيها؛ لأنه قد يخالف رأيه رأياً، في مسائل الاجتهاد هذه واحدة، وربما يركب رأسه ويخالف الحق، هل هو معصوم؟ ما هو معصوم. اهـ
"الوقيعة في أعراض العلماء والأمراء"
ليس من هدي السلف التشهير بعيوب ولي الأمر على المنابر
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرار" (4/556):
"ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله".
وقال النحاس رحمه الله في "تنبيه الغافلين" ص(64):
"يختار الكلام مع السلطان في الخلوة لا الكلام معه على رؤوس الأشهاد".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إذا أتيت الأمير المؤمر فلا تأته على رؤوس الناس".
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15/74)، وسعيد بن منصور في "سننه" (4/1660) وهذا لفظه.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(22):
"ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع".
وقال الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله في "الدين النصيحة":
"التشهير بهم وبيان أخطائهم وهفواتهم وتقصيرهم في الخطب المنبرية، وفي المحاضرات وعلى صفحات الجرائد والصحف، هذا خطأ بدأ يقع فيه كثير من المحاضرين والخطباء والكتاب، وهذا أسلوب غير معروف وغير معهود عند سلف هذه الأمة، وعند أئمة المسلمين من قبل. اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمر والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك أعمالهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة× فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة، إنما يزيد البلاء بلاءً، ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها". "وجوب طاعة السلطان" للعريني ص(23)
وقال أيضاً في "شرح رياض الصالحين" (2/354):
"سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله".
وقال أيضاً في كتاب "حقوق الراعي والرعية" ص(11):
"ومن حقوق الرعاة على رعيتهم: أن يناصحوهم ويرشدوهم، وألا يجعلوا من خطأهم إذا أخطأوا سلماً للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس؛ فإن ذلك يوجب التنفير عنهم وكراهيتهم وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقاً، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم.
ومن الواجب على كل ناصح وخصوصاً من ينصح ولاة الأمر أن يستعمل الحكمة في نصيحته ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة" اهـ
وقال العلامة النجمي رحمه الله في "المورد العذب الزلال" ص(28):
"ولا يتكلمون فيه أي (الإمام) في المحافل والمجتمعات وعلى رءوس المنابر، ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شيء من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة".
وسئل أيضاً كما في "الفتاوى الجلية" (1/19):
س: هل ورد في الكتاب والسنة الإنكار العلني على الولاة من فوق المنابر؟
الجواب: الحقية أن الإنكار العلني على الولاة أمر محدث، ولم يكن من أصول السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي، ولا ينزع يداً من طاعة"([11]) هكذا يوق النبي صلى الله عليه وسلم، إذن فلا يجوز الإنكار العلني على المنابر؛ لأن الأضرار التي تترتب عليه أكثر من فائدته ..."
وقال العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(162):
"النصيحة التي يجهر بها أمام الناس، أو على المنابر؛ لأن هذه الطريقة تثير الشر، وتحدث العداوة بين ولاة الأمور والرعية، ليست النصيحة أن الإنسان يتكلم في أخطاء ولاة الأمور على منبر، أو على كرسي أمامَ الناس؛ هذا لا يخدم المصلحة، وإنما يزيد الشر شراً.
إنما النصيحة أن تتصل بولاة الأمور شخصياً، أو كتابياً، أو عن طريق بعض الذين يتصلون بهم، وتبلغهم نصيحتك سراً فيما بينك وبينهم .
وليس من النصيحة أيضاً: أننا نكتب نصيحة وندور بها على الناس، أو على كل أحد ليوقعوا عليها، ونقول : هذه نصيحة . لا، هذه فضيحة؛ هذه تعتبر من الأمور التي تسبب الشرور، وتُفرِح الأعداء، ويتدخل فيها أصحاب الأهواء".
وقال أيضاً ص(195):
"لا شك أن الولاة - كغيرهم من البشر - ليسوا معصومين من
الخطأ، ومناصحتهم واجبة، ولكن تناولهم في المجالس وعلى المنابر يُعتبر من الغيبة المحرمة؛ وهو منكر أشد من المنكر الذي يحصل من الولاة لأنه غيبة، ولما يلزم عليه من زرع الفتنة وتفريق الكلمة والتأثير على سير الدعوة.
فالواجب إيصال النصيحة لهم بالطرق المأمونة، لا بالتشهير والإشاعة".
أداء العبادات مع ولاة الأمور سواء كانوا فجاراً أو أبراراً من صلاة وزكاة وحج وجهاد
وهذا الأصل العظيم من أصول أهل السنة والجماعة
قال ابن بطة رحمه الله في "الإبانة عن أصول الديانة" (11/31):
"ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "العقيدة الواسطية" ص(136):
"ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات".
وقال ابن قدامة رحمه الله في "لمعة الاعتقاد":
" ونرى الحج والجهاد ماضيان مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(175):
"والحج والجهاد مع الأئمة ماضيان نافذان، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، سواء كانوا أبراراً او فجاراً؛ لأن مخالفتهم في ذلك توجب شق عصا المسلمين والتمرد عليهم".
وقال الإمام الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص(88):
"ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً.
وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة رحمهما الله في "عقيدتهما" ص(181):
" أدركنا العلماء في جميع الأمصار- حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً- فكان مذهبهم: نقيم فرض الحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، والجهاد ماضٍ منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين، لا يبطله شيء والحج كذلك. اهـ
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله كما في "شرح الطحاوية" (507):
"ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم".
وقال أيضاً: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقصهما".
وقال صديق حسن خان رحمه الله في "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر":
"والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار مذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل أخر الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والفطر والأضحى والحج مع السلاطين وملوك الإسلام وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقياء، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا".
قلت: وهذه عقيدة أهل السنة أداء بعض العبادات خلف ولاة الأمور كانوا أبراراً أو فجاراً، وإليك بعض الآثار:
1- وفي صحيح البخاري رحمه الله رقم (695): أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما حُصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة، وهذا صلى بالناس إمام فتنة([12]) فقال: "يا ابن أخي الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم".
2- وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/84، 2) عن عمير بن هانئ قال: شهدت ابن عمر والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء" وسنده صحيح.
وأخر البيهقي (3/122) عن نافع ان ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج بمنى، فصلى مع الحجاج".
رواه ابن سعد في "الطبقات" (4/120) عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمن الفتنة لا يأتي أميراً إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله".
وأخرج عن سيف المازني قال: كان ابن يقول: لا أقاتل في الفتنة وأصلي واراء من غلب". وسند صحيح
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط وكان يشرب الخمر حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة".
انظر "صحيح مسلم"، وابن عساكر في "تاريخه" (63/241) وسنده حسن.
4- وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/378) عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: "كانوا يصلون خلف الأمراء ما كانوا".
5- وفي "مصنف ابن أبي شيبة" أيضاً (2/379) عن إبراهيم ابن أبي حفصة قال: قلت لعي بن حسين: إن أبي حمزة الثمالي – وكان فيه غلو- يقول: لا نصلي خلف الأئمة ولا نناكح إلا من يرى مثل رأينا، فقال علي بن حسين: "بل نصلي خلفهم ونناكحهم بالسنة".
6- وأنكر سفيان الثوري على الحسن بن حيّ ترْكه صلاة الجمعة خلف الأئمة".
انظر "السير" (7/363)
بل ذكر عند بشر بن الحارث عبد الرحمن بن عثمان الصوفي فقال: سمعت حفص بن غياث يقول: هؤلاء يرون السيف -أحسبه عنى ابن حي وأصحابه. ثم قال بشر: هات من لم ير السيف من أهل زمانك كلهم إلا قليل، ولا يرون الصلاة أيضا. ثم قال: كان زائدة يجلس في المسجد، يحذر الناس من ابن حي، وأصحابه. قال: وكانوا يرون السيف" انظر "السير" (7/364)
7- وصلى ابن عمر خلف نجدة الحروري، رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" ص(283)
8- وصلى الحسن والحسين خلف مروان، رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/378)
9- وجاء في معتقد الإمام سفيان الثوري رحمه الله الذي رواه عنه شعيب بن حرب: "يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف بر وفاجر" قال شعيب لسفيان: يا أبا عبد الله الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة ...".
وأخرج أيضاً (1/161) في اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل الجمعة الذي رواه عنه عبدوس بن مالك العطار أنه قال: "وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولي جائزة تامة ركعتين، من أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم.
فالسنة أن تصلي معهم ركعتين، من أعادها فهو مبتدع، وتدين بأنها تامة، ولا يكن في صدرك من ذلك شك". اهـ
وانظر "المسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل" (2/6،7)
وأكثر السلف على أن دفع زكاة المواشي إلى السلطان، ذكره عنهم أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي في عقيدتهما ص(179)
وأخرج ابن أبي شيبة رضي الله عنه في مصنفه عن ابن عمر قال: "ادفعوا زكاة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن برَّ فلنفسه ومن أثم فعليها".
الصبر على جور الأئمة من أصول السلفية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179):
"الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة والجماعة".
وقال أيضاً كما في "مجموع الفتاوى" (4/444):
"مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر".
هذا حق لأن الأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم يجلب من المصالح ويدرأ من المفاسد ما يكون به صلاح العباد والبلاد.
وقال أيضاً رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179-180):
"وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال؛ لما فيه من ظلم وجور كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه؛ فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي في مواضع كثيرة كقوله: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} وقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} وقوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}
وقال أيضاً رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179):
"وأصل ذلك العلم؛ فإنه لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم. فصار الدين كله العلم والعدل؛ وضد ذلك الظلم والجهل. قال الله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} ولما كان ظلوما جهولا - وذلك يقع من الرعاة تارة ومن الرعية تارة ومن غيرهم تارة - كان من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم كما هو من أصول أهل السنة والجماعة".
وقال الحسن البصري رحمه الله كما في "آداب الحسن البصري" لابن الجوزي ص(119-120):
اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقمة الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإقلاع عن الذنوب.
إن نقم الله متى لقيت بالسيوف كانت هي أقطع، ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول: اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنباً أحدث الله في سلطانكم عقوبة، ولقد حدثت أن قائلاً قال الحجاج: إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فقال: أجل؛ إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا، وتركوا من شرائع نبيهم عليه السلام ما تركوا". اهـ
وقد ورد أحاديث تأمر بالصبر على الأئمة ومنها:
عن ابن عبس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكره فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية"([13]).
رواه البخاري (7053)، ومسلم (1849، 56):
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين (2/354):
"يعني ليس ميتة الإسلام والعياذ بالله، وهذا يحتمل معنيين:
الأول: يحتمل أنه يموت ميتة جاهلية بمعنى أنه يزاغ قلبه والعياذ بالله، حتى تكون هذه المعصية سبباً لردته.
الثاني: ويحتمل المعنى الآخر أنه يموت ميتة جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية ليس لهم إمام وليس لهم أمير؛ بل لهم رؤساء وزعماء لكن ليس لهم ولاية كولاية الإسلام، فيكون هذا مات ميتة جاهلية.
والحاصل أن الواجب أن نسمع ونطيع لولاة الأمر إلا في حال واحدة فإننا لا نطيعهم؛ إذا أمرونا بمعصية الخالق فإننا لا نطيعهم. لو قالوا: احلقوا لحاكم قلنا: لا سمع ولا طاعة، ولو قالوا: نزلوا ثيابكم أو سراويلكم إلى أسفل الكعبين، قلنا لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذه معصية. لو قالوا: لا تقيموا الصلاة جماعة، قلنا: لا سمع ولا طاعة. لو قالوا: لا تصوموا رمضان، قلنا: لا سمع ولا طاعة، كل معصية لا نطيعهم فيها مهما كان، أما إذا أمروا بشيء ليس معصية وجب علينا أن نطيع.
ثانياً: لا يجوز لنا أن ننابذ ولاة الأمور.
ثالثاً: لا يجوز لنا أن نتكلم بين العامة فيما يثير الضغائن على ولاة الأمور، وفيما يسبب البغضاء لهم؛ لأن في هذا مفسدة كبيرة. قد يتراءى للإنسان أن هذه غيرة، وأن هذا صدع بالحق؛ والصدع بالحق لا يكون من وراء حجاب، الصدع بالحق أن يكون ولي الأمر أمامك وتقول له: أنت فعلت كذا وهذا لا يجوز، تركت هذا، وهذا واجب.
أما أن تتحدث من وراء حجاب في سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله.
وكل هذه أمور يجب أن نتفطن لها، ويجب أن نسير فيها على ما سار عليه أهل السنة والجماعة، من أراد أن يعرف ذلك فليقرأ كتب السنة المؤلفة في هذا؛ يجد كيف يعظم أئمة أهل العلم من هذه الأمة، كيف يعظمون ولاة الأمور، وكيف يقومون بما أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام من ترك المنابذة، ومن السمع والطاعة في غير المعصية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتاب العقيدة الواسطية- وهي عقيدة مختصرة ولكن حجمها كبير جداً في المعنى- ذكر أن من هدي أهل السنة والجماعة وطريقتهم، أنهم يدينون بالولاء لولاة الأمور، وأنهم يرون إقامة الحج والجهاد والأعياد والجمع مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً، حتى لو كان ولي الأمر فاجراً فإن أهل السنة والجماعة يرون إقامة الجهاد معه وإقامة الحج وإقامة الجمع وإقامة الأعياد.
إلا إذا رأينا كفراً بواحاً صريحاً عندنا فيه من الله برهانٌ والعياذ بالله فهنا يجب علينا ما استطعنا أن نزيل هذا الحاكم، وأن نستبدله بخير منه، أما مجرد المعاصي والاستئثار وغيرها؛ فإن أهل السنة والجماعة يرون أن ولي الأمر له الولاية حتى مع هذه الأمور كلها، وأن له السمع والطاعة، وأنه لا تجوز منابذته ولا إيغار الصدور عليه، ولا غير ذلك مما يكون فسادة أعظم وأعظم.
والشر ليس يُدفع بالشر؛ ادفع بالشر الخير، أما أن تدفع الشر بشر، فإن كان مثله فلا فائدة، وإن كان أشر منه كما هو الغالب في مثل هذه الأمور، فإن ذلك مفسدة كبيرة. نسأل الله أن يهدي ولاة أمورنا وأن يهدي رعيتنا لما يلزمها، وأن يوفق الجميع للقيام بما يجب عليه".
وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس ابن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم"([14]).
رواه البخاري (7068)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم الحوض".
رواه البخاري (3792)، ومسلم (1845)
قال ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/350):
"يقول للأنصار ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة: ستلقون بعدي أثرة من ذاك الوقت والولاة يستأثرون على الرعية، ومع هذا يقول: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". فليس استئثار ولاة الأمور بما يستأثرون به مانعاً من السمع والطاعة لهم، الواجب السمع والطاعة في كل ما أمروا به ما لم يأمروا بمعصية، وقد سبق لنا أن ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما أمر الله به فهذا يجب طاعتهم فيه لوجهين: لأمر الله به، ولأمرهم به.
والثاني: ما حرم الله فلا يجوز السمع والطاعة لهم حتى لو أمروه.
والثالث: ما ليس فيه أمر ولا نهي من الله فتجب علينا طاعتهم فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع من طاعتهم إلا إذا أمروا المعصية.
نسأل الله أن يصلحنا جميعاً رعية ورعاة وأن يهب لنا منه رحمه إنه هو الوهاب".
وقال أبو بكر الآجري رحمه الله في "الشريعة" (82)
" ... ومن صبر على جور الأئمة وحيف الأمراء ولم يخرج عليهم بالسيف ودعا للولاة بالصلاح ... كان على الطريق المستقيم إن شاء الله تعالى".
وقال الحسن بن إسماعيل الربعي رحمه الله: قال لي أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر لله عز وجل تحت المحنة: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عد أو جور".
"مناقب الإمام أحمد" (176) لابن الجوزي رحمه الله
إمام جائر خير من فتنة قائمة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (28/391):
"ويقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك".
وقال عمرو بن العاص لابنه رضي الله عنهما كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/176):
"يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عدل خير من مطر وبل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".
تحريم منازعة ولي الأمر
قال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في "المورد العذب الزلال" ص(26):
تحريم المنازعة لهم أي ولاة الأمر، وهي تكون بأمور منها:
أ- إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب- إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ت- اختلاق مثالب وعيوب لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
ث- ذم العلماء وأنها معهم بالمداهنة وبيع الذمم.
ج- استعمال ما من شأنه التهييج عليهم، والإشارة ضدهم. وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان".
تحريم سب ولي الأمر
الوقيعة في عرض ولي الأمر والاشتغال بسبه وذكر عيبه خطيئة كبيرة وجريمة شنيعة، نهى عنها الشرع المطهر وذم فاعلها، وهي نواة الخروج على ولاة الأمور الذي هو أصل فساد الدين والدنيا معاً.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا؛ فإن الأمر قريب"([15]).
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (474) رقم (1015) قال الألباني في "ظلال الجنة" (474): إسناده جيد. وأخرجه البيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" (13/186، 202) من طريق قيس بن وهب بلفظ: "أمرنا أكابرنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ألا نسب أمراؤنا ...إلخ. وإسناده جيد
ففي هذه الأثر اتفاق أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الوقيعة في الأمراء بالسب.
وقال أبو مجلز: "سب الإمام الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين".
أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (1/78) وسنده حسن.
"ولم يكن سفيان الثوري يسب الأمراء".
أخرجه ابن أبي حاتم وسند صحيح.
قال عمر البكالي: "إذا كانت عليكم أمراء يأمرونك بالصلاة والزكاة، حلت لكم الصلاة خلفهم، وحرم عليكم سبهم". هذا لفظ أبي نعيم
أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" (1/203)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/2027)، قال الحافظ في "الإصابة" (7/152): وسنده صحيح.
وكان من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم وكان ذا فقه.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن أول نفاق المرء طعنه على إمامه".
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/48) ط: زغلول، وابن عبد البر في "التمهيد (21/287)
وقال أيضاً: "إياكم ولعن الولاة، فإن لعنهم الحالقة، وبغضهم العاقرة. قيل: يا أبا الدرداء، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: اصبروا، فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت".
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة (2/488) (1016) وهو ضعيف، ولكن معناه صحيح، ويستأنس به لوجود الأحاديث والآثار الصحيحة التي في معناه.
وعن عون السهمي قال: أتيت أبا أمامة فقال: "لا تسبوا الحجاج؛ فإنه عليك أمير، وليس عليّ بأمير".
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/18)
قوله: "وليس عليّ بأمير" لأن أبا أمامة في الشام، والحجاج والٍ في العراق.
وقال عبد الله بن المبارك: "من استخف بالعلماء ذهب آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته"
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/444)، والتبريزي في "النصيحة" (97).
وعن أبي جمرة الضبي قال: لما بلغني تحريف البيت خرجت إلى مكة، واختلف إلى ابن عباس حتى عرفني واستأنس بي، فسببت الحجاج عند بن عباس فقال: "لا تكن عوناً للشيطان". أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/104)
وعن عبد الله بن عكيم قال: "لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان، فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟ فيقول: إني أَعُد ذكر مساويه عوناً على دمه".
أحرجه ابن سعد في "الطبقات" (6/115)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (12/47)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (12/231، 232) وسنده صحيح.
وعن الزبرقان قال: كنت عند أبي وائل شقيق بن سلمة فجعلت أسب الحجاج وأذكر مساويه قال: "لا تسبه، وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي فغفر له".
أخرجه هناد السري في "الزهد" (2/464)، و"الحلية" لأبي نعيم (4/102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/190)، والسير (4/102)
وعن زائدة بن قدامة قال: قلت لمنصور بن المعتمر: إذا كنت صائماً أنال من السلطان؟ قال: لا، قلت: فأنال من أصحاب الأهواء؟ قال: نعم.
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت وآداب اللسان" (145)
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: "ما سب قوم أميرهم إلا حُرموا خيره".
أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (1/405)، وابن عبد البر في "التمهيد" (21/287)
وعن معاذ بن جبل قال: "الأمير من أمر الله عز ووجل، فمن طعن في الأمير فإنما يطعن في أمر الله عز وجل". أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (1/404)
وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: "إياكم والطعن على الأئمة، فإن الطعن عليهم هي الحالقة حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إن الطاعنين هم الخائبون وشرار الناس".
أخرجه ابن زنجويه في الأموال "1/80)
وقال معروف الكرخي رحمه الله: "من لعن إمامه حرم عدله".
"طبقات الحنابلة" (1/386)، و"السير" (9/342)
وذكر ابن الجوزي في "مناقب الكرخي وأخباره" ص(132)
وعن خالد بن عبد الله ال القسري خطب يوم أن كان والياً على مكة فقال: "إني والله ما أُتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم".
ذكره ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" (6/299)، حوادث سنة إحدى وتسعين.
ففي هذه الآثار وما جاء في معناه دليل جلي وحجة قوية على المنع الشديد والنهي الأكيد عن سب الأمراء وذكر معايبهم.
فليقف المسلم حيث وقف القوم، فهم خير الناس بشهادة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.
وقال العلامة السعدي رحمه الله في "الرياض الناضرة" ص(41):
"واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم؛ فإن ذلك شراً وفساداً كبيراً".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "فتاوى العلماء الأكابر" ص(65):
سب الأمراء على المنابر ليس من العلاج، والعلاج الدعاء لهم بالهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة، هذا هو العلاج؛ لأن سبهم لا يزيدهم إلا شراً ولا يزيدهم خيراً، سبهم ليس من المصلحة ليس من الإسلام". اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/355):
"سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله".
الخروج على ولي الأمر من سنن فارس والروم
فعن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: "جاءني رجل من الأنصار في خلافة عثمان فكلمني، فإذا هو يأمرني في كلامه بأن أعيب على عثمان، فتكلم كلاما طويلا وهو امرؤ في لسانه ثقل، ولم يكن يقضي كلامه في سريح، فلما قضى كلامه، قلت: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق، ولا جاء في الكبائر شيئا، ولكن هو هذا المال، فإن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه أولي قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون لهم أميرا إلا قتلوه، قال: ففاضت عيناه بأربع من الدمع، ثم قال: اللهم لا نريد ذلك".
أخرجه الخلال في "السنة" رقم (546) وسنده صحيح
أقوال أئمتنا وعلمائنا في تحريم الخروج على ولي الأمر
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (35/12):
"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم: بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ومن سيرة غيرهم".
وقال أيضاً في "منهاج السنة (3/391):
"قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أموراً منكرة، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف، كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم".
وقال أيضاً في "منهاج السنة" (4/529):
"وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمل لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم".
وقال أيضاً كما في "منهاج السنة" (3/391) ط: دار المعارف
"ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم; لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
وقال أيضاً كما في "مجموع الفتاوى" (14/472):
"لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه". اهـ
2- وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (3/307):
"نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال: «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» سداً لذريعة الفتنة".
3- وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يأمر بكف الدماء وينكر الخروج إنكاراً شديداً. أخرجه الخلال في "السنة" (1/131)
وقال الإمام أحمد أيضاً: "ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"
وقال ابن حجر في "الفتح (1/225):
"وكان الإمام أحمد يكره تحديث الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان".
وقال أبو الحارث الصائغ أحمد بن محمد رحمه الله: سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد، وهم قوم بالخروج، فقلت: "يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم، فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: سبحان الله، الدماء، الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يُسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه، يعني أيام الفتنة، قلت: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به "
أخرجه الخلال في "السنة" (89)
وقال حنبل رحمه الله: "اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، أبو بكر بن عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاءوا إلى أبي عبد الله، فاستأذنت لهم، فقالوا: يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك، فقال لهم أبو عبد الله: " فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته، ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: «عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر"
أخرجه الخلال في "السنة (96)، و"مسائل أحمد في العقيدة" (2/5)
4- وقال الإمام النووي رحمه في "شرح مسلم" (12/229)
"وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه".
5- ونقل ابن حجر في "فتح الباري" _13/7) عن ابن بطال قال: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح".
6- وقال الإمام الطحاوي في "المتن" ص(72):
"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
7- وقال الإمام أبو حاتم الرازي وأبو زرعة رحمهما الله: "ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة".
8- وقال الإمام البخاري رحمه الله: "لا ننازع الأمر أهله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولي الأمر، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" ثم أكد في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم"
انظر "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (1/176)
9- وقال الأشعري رحمه الله في رسالته أهل الثغر الإجماع الخامس والأربعين:
"وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئاً من أمورهم عن رضى أو غلبة وامتدت طاعته من بر وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويحج معهم البيت، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويصلى خلفهم الجمع والأعياد".
10- وقال الإمام البربهاري رحمه الله في "شرح السنة" (76):
"لا يحل قتال السلطان والخروج عليه وإن جاروا، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "اصبر، وإن كان عبداً حبشياً"، وقوله للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". وليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدين والدنيا".
11- وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص(294):
"ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف".
12- وقال ابن قدامة رحمه الله في "لمعة الاعتقاد" ص(156):
"ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين".
13- وقال الإمام الآجري في "الشريعة" ص(28):
"فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان الإمام أو جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج".
وقال أيضاً في "الشريعة" (1/72):
"باب في السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة".
14- وقال الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرار (4/556):
"لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
15- وقال صديق حسن خان القنوجي رحمه الله في "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر":
"والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمر الناس، ولا ينزع يدًا من طاعته ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ولا يخرج على السلطان، يسمع ويطيع، ولا ينكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة، ولا يمنعه حقه".
16- وقال أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في "اعتقاد أئمة الحديث" ص(75):
"ولا يرون الخروج بالسيف عليهم، ولا القتال في الفتنة".
17- وقال حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في "أعلام السنة المنثورة" ص(189):
"وترك الخروج بالسيف عليهم مالم يظهر كفراً بواحاً، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق".
18- وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله وقد قيل به متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة، ولا يسب أصحاب النبي، ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذب بالقدر، ولا يشك في الإيمان، ولا يماري في الدين، ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسح على الخفين، ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل".
"شرح السنة" للالكائي (1/205) ولم يذكر العاشرة.
19- وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(41):
"لقد حذر السلف من مغبة الخروج على الولاة وإن جاروا وظلموا ما أقاموا فينا الصلاة ويبتدرون النصيحة، وما ينتظر هذا الذي خرج على السلاطين وسل سيفه وزعزع الأمن إلا أن ينام تحت أزيز الرصاص، وطارق مجهول، نسأل الله الأمن والأمان".
20- وقال العلامة الألباني رحمه في "السلسلة الصحيحة" (4/457) في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]:
"في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام، ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام، فتقع فتن كثيرة، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته، والواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة، والأحكام العاطلة، والآراء الكاسدة المخالفة للسنة، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى. والله المستعان".
وقال أيضاً كما في "فتاوى العلماء الأكابر" (96):
"... الخروج لا يجوز إطلاقاً، لذلك نحن هؤلاء الخارجين أو الداعين إلى الخروج".
21- وقال العلامة حمود التويجري رحمه الله في كتاب "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين ص(294):
"لا يجوز الخروج على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا، وإن الخارج عليهم لينازعهم الملك يجب قتله".
22- وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(158):
"والخروج على الإمام محرم، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان. متفق عليه".
23- وسئل العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "تحفة المجيب" ص(207):
السؤال: هل الخروج ضد الحكام مسموح؟
الجواب: الخروج ضد الحكام بلية من البلايا التي ابتلى بها المسلمون من زمن قديم، وأهل السنة بحمد الله لا يرون الخروج على الحاكم المسلم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه". ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الآخر منهما". وعبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: دعانا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.
فالخروج على الحاكم يعتبر فتنة، فبسببه تسفك الدماء ويضعف المسلمون، حتى لو كان الحاكم كافرًا فلا بد أن يكون لدى المسلمين القدرة على مواجهته، حتى لا تسفك دماء المسلمين، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]
فتاريخ أهل السنة من زمن قديم لا يجيزون الخروج على الحاكم المسلم، وفي هذا الزمن الخروج على الحاكم الكافر لا بد أن يكون بشروط، فإذا كان جاهلاً لا بد أن يعلم، وألا يؤدي المنكر إلى ما هو أنكر منه، ولا تسفك دماء المسلمين.
الخروج ليس مقتصراً على السيف
إننا نرى بعض الدعاة اليوم لا يرون الخروج على الحكام بالسيف ولكن بالتهييج والتشهير والكلام من على المنابر وذكر مثالبهم وتصيد لعثراتهم وغير ذلك، مما يثير العامة على الولاة، وهذا العمل مخالف لمنهج السلف الصالح، إنه فعل أهل البدع، بل صنيع فرقة من فرق الخوراج، فقد قال الحافظ بن حجر رحمه الله في "هدي الساري" ص(283) في مقدمة "فتح الباري": وهم فرقة تسمى القعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك".
فقد سئل العلامة ابن باز رحمه الله كما في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(20):
س: هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟
الجواب: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير. أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل، فيذكر الزنا ويذكر الخمر ويذكر الربا من دون ذكر من فعله فذلك واجب؛ لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكماً ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه قال بعض الناس لأسامة بن زيد: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم، إني أكلمه فيما بين وبينه دون أن أفتح أمراً لا أحب أن يكون أول من افتتحته"([16])
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علناً عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه.
وقد روى عياض بن غنم الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذلك، وإلا فقد أدى الذي عليه"([17])
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم".
وقال العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(162):
"ليست النصيحة أن الإنسان يتكلم في أخطاء ولاة الأمور على منبر أو على كرسي أمام الناس، هذا لا يخدم المصلحة، وإنما يزيد الشر شراً.
وقال العلامة النجمي رحمه الله كما في "المورد العذب الزلال" ص(22):
"ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين: خروج بالقول، وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر؛ لأن ذلك يعد ذلك عصياناً لهم وتمرد عليهم وإغراء بالخروج عليهم وزرعاً لعد الثقة فيهم وتهييجاً للناس عليهم، وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له".
شروط الخروج على ولي الأمر
لا يجوز الخروج ولي الأمر إلا بشروط، ومنها:
1- ظهور الكفر البواح
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان".
رواه البخاري (7055)، ومسلم (1709)
قال الشوكاني رحمه الله في "رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين" (32):
"إن من لوازم الملك غالباً وجود الظلم والجور، وهذا في حد ذاته سبب مشروع يدفع العلماء إلى المشاركة في أمر الحكم للتخفيف في غلواء الحاكم والحد من طغيانه، ثم يطاع فيما هو طاعة لله، ويعصى فيما هو معصية لله، ولكن لا ينبغي الخروج عليه إلا أن يكون كفراً بواحاً".
وقال أيضاً في "السيل الجرار" (4/511):
"قد تواترت الأحاديث في النهي عن الخروج على الأئمة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أو يتركوا الصلاة، فإذا لم يظهر من الإمام الأول أحد الأمرين لم يجز الخروج عليه وإن بلغ في الظلم أي مبلغ، لكنه يجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر".
2- القدرة على إزالته، ولا يترتب عليها شر كبير منه، وهذا الشرط مجمع عليه عند المسلمين كافة.
3- أن لا يؤدي الخروج عليه إلى أن يخلفه حاكم مثله أو أظلم منه.
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "الفتاوى" (8/204):
"أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرا أكثر فليس لهم الخروج؛ رعاية للمصالح العامة.
والقاعدة الشرعية المجمع عليها: (أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه). أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين".
4- اعتماد الخارجين على أنفسهم من قوة ومال وسلاح وغيره.
قال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم ص(14):
"لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين:
أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان.
والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شر أكبر منه، وبدون ذلك لا يجوز.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الصحوة الإسلامية ص(126):
"... فليعلم أن الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط، بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان" متفق عليه.
الشرط الأول: "أن تروا" بمعنى أن تعلموا علماً يقينياً بأن السلطة ارتكبت كفراً.
الشرط الثاني: أن يكون الذي ارتكبته السلطة كفراً، فأما الفسق فلا يجوز الخروج عليهم بسببه مهما عظم.
الشرط الثالث: "بواحاً" أي معلناً صريحاً لا يحتمل التأويل.
الشرط الرابع: "عندكم فيه من الله برهان" أي: مبني على برهان قاطع من دلالة الكتاب والسنة أو إجماع الأمة، فهذه أربعة شروط.
والشرط الخامس: يؤخذ من الأصول العامة من الدين الإسلامي، وهو قدرة هؤلاء المعارضين على إسقاط السلطة؛ لأنه إذا لم يكن لديهم القدرة انقلب الأمر عليهم لا لهم، فصار الضرر أكبر بكثير من الضرر المترتب على السكوت على هذه الولاية، حتى تقوى الجبهة الأخرى المطالبة لدين الإسلام، فهذه الشروط الخمسة لا بد منها لإسقاط الحكم العلماني في البلاد ..."
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "صعقة الزلزال لنسف أباطيل الرفض والاعتزال" (2/286) بعد أن ساق جملة من الأحاديث على تحريم الخروج على أئمة المسلمين، إلى أن قال:
"ولا ننصح بالخروج على الحاكم حتى ولو رأينا كفراً بواحاً، بل لا يجوز الخروج إلا بشروط"
الأول: أن تكون قوة المسلمين مقاربة أو مكافئة لقوة([18]) العدوة والكافر؛ فإن قال قائل: فإن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66} [الأنفال: 66]
فالجواب: إن وجد مجاهدون عندهم من الإيمان والصدق والعزيمة ربع ما عند من نزلت فيهم الآيات فلا بأس بذلك.
الثاني: يكون عندهم استغناء ذاتي فلا يطلبون العون من أمريكا وغيرها من الدول الكافرة أو العميلة للدول الكافرة، وكذا لا يردون القضايا إلى الأمن ولا إلى الأمم المتحدة؛ فإنه لا يرجى من الدول الكافرة أو العميلة أن تنصر دين الإسلام.
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
الثالث: أن يؤمن التلبيس على عوام المسلمين مع الحاكم الكافر فيرجع القتال بين المسلمين أنفسهم، ويترتب على هذا أنه يجب توعية الشعوب قبل دعوتها إلى الجهاد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقم بالجهاد حتى أذن له ربه فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ولا بد قبل الخروج إلى الجهاد وفي أثناء الجهاد أن يستفتى العلماء الأفاضل الراسخون في العلم".
وقال تلميذه البار الشيخ البطل المجاهد يحيى بن علي الحجوري حفظه الله وأيده:
"الخروج على ولاة الأمور من أمر الجاهلية التي يجب على المسلمين البعد عنها، وأن من خالف ذلك لم يجن على نفسه وعلى غيره إلا الويلات والفتن، وفي التاريخ من ذلك أوضح العبر، فقد جرب المسلمون الخروج على ولاة الأمور فلم يروا منه إلا الشر والفتن، فقد خرج الخوارج على خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه صحاب جليل ومن المبشرين بالجنة، استحلوا دمه وقتلوه وهو يقرأ القرآن، وهكذا خرج الخوارج على خليفة المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، صحابي جليل ومن المبشرين بالجنة، واستحلوا دمه وقتلوه وهو خارج لصلاة الفجر، وهكذا سلسلة طويلة من خروج الخوارج علة ولاة أمور المسلمين وإثارتهم للفتن، فالخوارج فرقة من فرق الضلال، فهم رأس الفساد ورأس البدعة ورأس الشقاق فهم فرقوا كلمة المسلمين وأضعفوا جانب المسلمين.
فلهذا لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم أحداً خرج على ولاة الأمور وأحدث فتنة وقتالاً ونزع الطاعة وفارق الجماعة، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه كائناً من كان" رواه مسلم من حديث عرفجة الأشجعي رضي الله عنه.
ففي ذلك بيان أن الإسلام يراعي المصالح العامة ولا يجوز دفع الشر بشر أكبر منه بإجماع المسلمين، والقاعدة الشرعية تقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ولهذا يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة أمورنا والدعوة لهم بالخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبر فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه([19]).
عواقب الخروج على ولي الأمر
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في :منهاج السنة" (3/391):
"لا يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته. اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/4):
"إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسوغ إنكاره".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(10):
"الخروج على ولاة الأمور يسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصر المظلوم وتختل السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير".
وقال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في "المورد العذب" ص(22):
"وإنما حرم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الخروج على والولاة المسلمين، لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البريئة، ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف، بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إشارة الفتنة، لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين، بل هو من الصعوبة بمكان، لذلك فقد اشتد تحذير المشرع صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، ففي "صحيح مسلم" رقم (1851) عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية".
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" رواه البخاري (6530)، (7053)، ومسلم (1849)
وفي "صحيح مسلم" أيضاً رقم (1847) عن أبي إدريس الخولاني سمعت حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» وأخرجه البخري (3606)
وذكر عدة أحاديث.
فنقول يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة أمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم قيما لم يكن معصية لله تعالى.
ما يجب على ولي الأمر تجاه الرعية
حفظ البلاد من الأعداء، وتأمين السبل، ونشر الأمن والاستقرار في البلاد، وغير ذلك من الواجبات الجسيمة، والحقوق الكثيرة للرعية على ولاتهم مما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وألزمهم القيام بها ورعايتها للسير بالرعايا والبلاد نحو الرقي والعزة والسعادة في الدنيا والأخذ بأسباب الفوز والنجاة في الآخرة، هذا وقد بين الفقهاء رحمهم الله الواجبات على ولاة أمور المسلمين من الخلفاء والملوك والسلاطين بالتفصيل، وأوضحوها أحسن إيضاح بل وصنفوا فيها مصنفات خاصة، وهي ما يعرف بكتب الأحكام السلطانية، وبكتب السياسة الشرعية.
وثد بينوا رحمهم الله أنه يلزم الإمام من أمور الرعية إجمالاً عشرة أمور: ذكرها أبو يعلى في كتابه "الأحكام السلطانية" ص(28) وهي:
أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة. فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من الزلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين.
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا مع غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال لا تقديم فيه ولا تأخير.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح. وقد قال الله تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". اهـ
فعلى ولاة أمور المسلمين: أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وأهليهم وما لوا، وأن يكونوا قدوة صالحة لرعاياهم، حتى يسيروا على نهجه، ويقلدوه في صالح أعماله، فإنه إذا استقامت الولاة استقامت الرعية، وإذا فسدت الولاة كثر الفساد في الرعية، كما قيل: "الناس على دين ملوكهم".
وباستقراء التاريخ الإسلامي نجد أنه كان الخلفاء والملوك صالحين مستقيمين في أنفسهم انعكس ذلك على الرعية بالخير والاستقامة، والعكس بالعكس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "السياسة الشرعية" ص(40):
"وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه؛ هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك"
ومما روي في ذلك: أن سعد بن أبي وقاص لما دخل قصر كسرى بعد انتصاره على الفرس في وقعة القادسية أخذا ما في القصر، وأرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وصلت إلى عمر أخذ يقلبها ويقول: "إن قوماً أدوا هذا لأمناء" فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لقد حففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت" ثم قسم عمر ذلك في المسلمين([20]).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن الناس لا يزالون مستقيمين ما استقامت لهم أمتهم وهداتهم"([21])
وقال أيضاً: "الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا"([22]).
وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم ما ذكره سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم لأهله فقال: "لا أعمن أحداً وقع في شيء منا نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة"([23])
فعلى ولاة أمر المسمين أن يحذروا من مخالفة شرع الله، ومن مغبة التقصير والإخلال فيما أوجب الله عليهم في أنفسهم، ومما أوجب عليهم من رعاية أمور الدولة، والاهتمام بحقوق الرعية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التهديد البليغ، والوعيد الشديد لمن ولي أمور المسلمين فلم يحطهم برعايته ولم ينصح لهم في ولايته ولم يقم بما أوجب الله عليه من حقوق وواجبات([24]).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة" ص(27):
"فحقوق الرعية على الولاة : أن يقوموا بالأمانة التي حملها الله إياها وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة وذلك بإتباع سبيل المؤمنين، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيها السعادة لهم ولرعيتهم ومن تحت أيديهم، وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم والارتباط بينهم والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم؛ فإن من اتقى الله اتقاه الناس، ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه؛ لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء.
ما يجب على الرعية تجاه ولي الأمر
حقوق ولاة الأمور على الرعية وعظيم ما لهم من حقوق وواجبات، اهتم أهل السنة والجماعة بإيضاحها وبيانها والتأكيد على رعايتها، والقيام بها، فمن مظاهر هذه الاهتمام: أنهم نصوا على هذه الحقوق في كتب العقائد والتوحيد، وبينوا أم مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الأمر هو مقتضى دا دل عليه الكتاب والسنة، من وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور، إلا أن يأمروا بمعصية فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لهم؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ويرون النصح والدعاء لهم وإعانتهم على الحق وتحريم الخروج عليهم ونزع الطاعة من أيديهم، سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين أم كانوا من أئمة الجور والظلم، ما دام أنهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام؛ فإن الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع ما فيه من ضرر فإنه أخف ضرراً وأيسر خطراً من ضرر الخروج عليهم؛ ولهذا جاء الأمر من الشارع بوجوب السمع والطاعة وتحريم الخروج على الأئمة والولاة، وإن جاروا وظلموا إلا أن يرتكبوا كفراً بواحاً.
كما نص أهل السنة والجماعة على أن حقوق ولاة الأمور على الرعية إجلالهم وتوقيرهم وتعظيمهم في النفوس؛ لأن ذلك أوقع في هيبتهم حتى يحذرهم أهل الفسق والفجور.
كما حذر أهل السنة والجماعة من والوقيعة في أعراض الأئمة والتنقص لهم والدعاء عليهم؛ لأن هذه الأمور من أسباب وجود الضغائن والأحقاد بين الولاة والرعية، ومن أسباب نشوء الفتن والنزاع بين صفوف الأمة.
والواجب على المسلم أن يسعى جهده في الإصلاح بين المؤمنين، كان من أهل الدين والدعوة أو كان ممن له تأثير على قومه ومجتمعه، فإن الواجب عليه في ذلك أكبر والمسؤولية عليه أعظم في الحرص على جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم والعمل على حصول الألفة والمحبة بين الولاة والرعية؛ لما فيه من نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فهذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في حقوق ولاة الأمور على الرعية.([25])
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة" ص(28):
"وأما حقوق الولاة على الرعية فهي: النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم ، وتذكيرهم إذا غفلوا والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق ، وامتثال أمرهم في غير معصية الله ، لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه ، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) الآية .وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". متفق عليه
وقال عبد الله بن عمرو : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "الصلاة جامعة" فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجئ فتنة يرقق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم .
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثم سأله مرة ثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". رواه مسلم
ومن حقوق الولاة على الرعية: مساعدة الرعية لولاتهم من مهماتهم، بحيث يكونون عوناً لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع؛ حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسئولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب".
بعض شبهات المتظاهرين المهمة
الشبهة الأولى: حديث ابن عباس قال: سألت عمر رضي الله عنه، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت: الله لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالت أختي: هو في دار الأرقم بن الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابه ثم نثره نثرة فما تمالك أن وقع على ركبته فقال: «ما أنت بمنته يا عمر؟» قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، قال: فقلت: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم»، قال: فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق، وفرق الله بي الحق والباطل"
رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/40)، والبزار (3/169) وإسناده ضعيف جداً، في سنده إسحاق بن عبد الله وهو ابن أبي فروة، قال البخاري: تركوه، وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه، وكذبه بعضهم. وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (6531)
الشبهة الثانية: حديث أبي هريرة عند أبي داود (5153)
قال الألباني: حسن صحيح، قصة الرجل الذي جاء يشكو جاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الرد عليها:
سئل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في "شرح سنن أبي داود" (29/215):
السؤال: حديث أبي هريرة في الرجل الذي جاء يشكو جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اطرح متاعك في الطريق" استدل به بعض الناس على جواز المظاهرات، فهل هذا صحيح؟
الجواب: هؤلاء يتشبثون بخيوط العنكبوت كما يقال، ويبحثون عن شيء يبنون عليه باطلهم، المظاهرات من قبيل الفوضى، وهذا الرجل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك حتى إن جاره يتأثر بسبب ذلك.
ثم أيضاً في هذا الزمان لا يقال: إن كل من يشتكي جاره يكون مصيباً، قد يكون هذا الذي يشتكي جاره هو الأظلم، بخلاف هذا الذي أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مظلوم.
في هذا الزمان بعض الجيران يحصل بينه وبين جاره شيء، وكل واحد يقول: إنه يؤذيني، وقد يكون هذا الذي خرج وأظهر متاعه أسوأ من ذلك الذي لم يخرج متاعه، فلا يقال إن الحديث على إطلاقه في كل جار؛ لأن أحوال الناس تتفاوت وتتغير".
قلت: 1- الذي أمره هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
2- أنه صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يخرج، ولم يخرج معه نساءه وأطفاله.
3- أنه صلى الله عليه وسلم لم يجوز له الخروج عليه أو عن طاعته.
ولما قام يخطب وعليه ثوبان فقال: اسمعوا وأطيعوا فقال أحد الصحابة: لا سمع ولا طاعة فقال: لمه؟ فأجاب الصحابي: أعطيت الناس ثوباً واحداً ولك ثوبان.
فقال الخليفة الراشد: يا عبد الله بن عمر أليس هذا الثوب الآخر ثوبك أعطيتنيه؟ فقال عبد الله: بلى، فقال الصحابي: الآن نسمع ونطيع.
هذا الأثر ذكره في بعض كتب التواريخ والسير بلا أسناد، وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (1/203) وفيه انقطاع.
قلت: هناك شبه أخرى، إنما ذكرت هذه الشبة التي يدندن بها المتظاهرون.
الشبهة الثالثة: استدلالهم بأثر.
قال أبو بكر رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (11/336) وهو ضعيف فيه رجل مبهم بين معمر بن راشد وبين أبي بكر.
وجاء عند عبد الرزاق (11/336) و"طبقات ابن سعد" (3/212) من طريق الحسن البصري عن أبي بكر الصديق خطب فقال: "فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني".
وهذا إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين الحسن البصري وبين أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن الحسن إنما ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
الشبهة الرابعة:
أثر: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني، فأجاب رجل ممن كان حاضراً: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا، فقال: الحمد الله الذي جعل في أمة محمد من إذا اعوججت قومني بسيوفهم. قلت :الأثر لايصح
فتاوى العلماء في تحريم المظاهرات
قال اللجنة الدائمة (15/384):
"ننصحك وكل مسلم ومسلمة بالابتعاد عن هذه المظاهرات الغوغائية التي لا تحترم مالا ولا نفسا ولا عرضا، ولا تمت إلى الإسلام بصلة، ليسلم للمسلم دينه ودنياه، ويأمن على نفسه وعرضه وماله. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (6/447):
"ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شراً عظيماً على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم.
ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها، أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالنصيحة مني لكل داع إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه، وفي خطبته، وفي مكاتباته، وفي جميع تصرفاته حول الدعوة، يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة، وهم الأئمة، وقد صبروا، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وصبر هود، وصبر صالح، وصبر شعيب، وصبر إبراهيم، وصبر لوط، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم".
وسئل العلامة ابن باز أيضاً كما في "الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية" ص181):
س: هل المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها يعتبر شهيداً أو في سبيل الله؟
ج: لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج، ولكن أرى أنه من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور ومن اسباب ظلم بعض الناس والتعدي على بعض الناس بغير حق، ولكن الأسباب الشرعية: المكاتبة والنصيحة والدعوة إلى الخير بالطرق الشرعية، وقد شرحها أهل العلم وشرحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإحسان بالمكاتبة والمشافهة مع الأمير ومع السلطان، والاتصال به ومناصحته والمكاتبة له دون التشهير على المنابر بأنه فعل كذا وصار منه كذا، والله المستعان". اهـ
وسئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في "الجواب الأبهر" ص(75):
س: هل تعتبر المظاهرات وسيلة من وسائل الدعوة المشروعة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن المظاهرات أمر حادث لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة رضي الله عنه ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمراً ممنوعاً؛ حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها، ويحصل فيه أيضاَ اختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشيوخ وما أشبه من المفاسد والمنكرات.
وأما مسألة الضغط على الحكومة فيعني إن كانت مسلمة فيكفيها واعظاً كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير ما يعرض على المسلم، وإن كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء المتظاهرين وسوف تجاملهم ظاهراً، وهي ما هي عليه من الشر في الباطن.
لذلك نرى أن المظاهرات أمر منكر، وأما قولهم: إن هذه المظاهرات سلمية فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية، وأنصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف، فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار وأثنى على الذين اتبعوهم بإحسان".
وقال أيضاً في "لقاءات الباب المفتوح" (179-18)
" عليك باتباع السلف، إن كان هذا موجوداً عند السلف فهو خير، وإن لم يكن موجوداً فهو شر، ولا شك أن المظاهرات شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء؛ إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان؛ لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن.
وإذن بعض الحكام بها ما هي إلا دعاية، وإلا لو رجعت إلى ما في قلبه لكان يكرهها أشد كراهة، لكن يتظاهر بأنه كما يقول: ديمقراطي وأنه قد فتح باب الحرية للناس، وهذا ليس من طريقة السلف".
وقال العلامة الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة" عند حديث رقم (6531):
"ولعل ذلك كان السبب أو من أسباب استدلال بعض إخواننا الدعاة على شرعية (المظاهرات) المعروفة اليوم، وأنها كانت من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة! ولا تزال بعض الجماعات الإسلامية تتظاهر بها، غافلين عن كونها من عادات الكفار وأساليبهم التي تتناسب مع زعمهم أن الحكم للشعب، وتتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال أيضاً رحمه الله في "شرح وتعليق العقيدة الطحاوية" (69):
"وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلاح على الحكام. بواسطة الانقلابات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة ..."
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "قمع المعاند" (394):
"إن التمثيليات والمظاهرات وكثير من الأشياء العصرية جاءتنا من قبل أعداء الإسلام".
وقال أيضاً في "غارة الأشرطة" (1/412): المظاهرات تقليد لأعداءالإسلام وكذلك الإضراب . وقال أيضا: (2/152)
"المظاهرات طاغوتية في شوارع صنعاء، فوالله لقد أهانوا الإسلام.
وقال أيضاً في "ذم المسألة" ص(32) في المقدمة:
"ثمرة تلك المظاهرات التي يقلدون فيها أعداء الإسلام .."
وقال العلامة المجاهد البطل يحيى بن علي الحجوري حفظه الله وأيده:
"إن هذه المظاهرات ليس لها أصل في ديننا البتة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون ولم يُفتِ بها أحد من أهل العلم الموثوق بعلمهم في هذا العصر، وهي من التشبه بالكافرين وهي أصل دعوة الخوارج الذين يخرجون على ولاة الأمور ويسفكون الدماء ويكفرون المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه([26]).
وقال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في المورد العذب الزلال ص(228) ط: دار الفرقان في معرض ملاحظاته على جماعة الإخوان المسلمين:
الملاحظة الثالثة: تنظيم المسيرات والمظاهرات، والإسلام لا يعترف بهذا الصنيع ولا يقره بل هو محدث من عمل الكفار، وقد انتقل من عندهم إلينا، أفكلما عمل الكفار عملاً جاريناهم فيه وتابعناهم عليه، إن الإسلام لا ينتصر بالمسيرات والتظاهرات .."
وسئل العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(231):
س: هل من وسائل الدعوة القيام بالمظاهرات لحل مشاكل ومآسي الأمة الإسلامية ؟ .
الجواب: ديننا ليس دين فوضى، ديننا دين انضباط، دين نظام، ودين سكينة. والمظاهرات ليست من أعمال المسلمين وما كان المسلمون يعرفونها، ودين الإسلام دين هدوء ودين رحمة لا فوضى فيه ولا تشويش ولا إثارة فتن، هذا هو دين الإسلام.
والحقوق يتوصل إليها دون هذه الطريقة، بالمطالبة الشرعية، والطرق الشرعية، هذه المظاهرات تحدث فتناً كثيرة، تحدث سفك دماء، وتحدث تخريب أموال، فلا تجوز هذه الأمور".
قلت: فهذه فتاوى العلماء وغيرهم في تحريم المظاهرات، وأنها لا تجوز وأنها تشبه بالكفار.
نصيحة من إمام جليل
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/379):
"كما أوصي العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يجتنبوا المسيرات والمظاهرات بين المسلمين، والفتنة بين الحكام والمحكومين". اهـ
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى :
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقال الله تعالى :
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وقال تعالى :
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]
وقال تعالى واصفاً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]
بعض الناس يستدل بهذه الآية على عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أقول لك رداً على شبهتك عن أبي يكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105]، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب»
رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1973) .ينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمور :1-العلم 2-الرفق 3-الحلم والصبر ,قال شيخ الإسلام رحمه الله في رسالتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص42:فلابد من هذه الثلاثة العلم ،والرفق والصبر ،العلم قبل الأمر والنهي ،والرفق معه ،والصبربعده ,
((الخاتمة ))
إلى هنا و أكتفي بهذا القدر القليل الذي يسرالله لي جمعه في هذه الرسالة ،والتذكير بها في ((كيفية التعامل مع ولي الأمر في ضوء الكتاب والسنة ))فنسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين ،وأن يوفق المسلمين وولاة أمورهم للتمسك بدينهم ،والبصيرة فيه وأن يعز دينه ويعلي كلمته ،وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه :أبويوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
عافاه الله ومن عليه بالصحة ورزقه العلم النافع والعمل الصالح
بتاريخ 27جمادى أولى 1434هجرية على صاحبها الصلاة والسلام .
المحتويات
المقدمة 2
بماذا تحصل الخلافة لولي الأمر. 3
وجوب السمع والطاعة لولي الأمر. 4
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة 11
عليك بالجماعة وإياك والفرقة 12
شروط السمع والطاعة لولي الأمر. 13
حاجة الناس إلى ولي أمر يسمعون ويطيعون له 17
حاجة ولي الأمر إلى بطانة صالحة 18
محبة ولي الأمر وتوقيره واحترامه وعدم إهانته 20
النصيحة لوي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً 26
الرفق في نصيحة ولي الأمر. 30
من الخطأ ظن بعض الناس أن ولي الأمر إذا نصح بأمر لا بد من فعله 31
ليس من هدي السلف التشهير بعيوب ولي الأمر على المنابر. 32
أداء العبادات مع ولاة الأمور سواء كانوا فجاراً أو أبراراً من صلاة وزكاة وحج وجهاد 35
الصبر على جور الأئمة من أصول السلفية 38
إمام جائر خير من فتنة قائمة 43
تحريم منازعة ولي الأمر. 43
الخروج على ولي الأمر من سنن فارس والروم. 47
الخروج ليس مقتصراً على السيف.. 55
شروط الخروج على ولي الأمر. 57
عواقب الخروج على ولي الأمر. 61
ما يجب على ولي الأمر تجاه الرعية 63
ما يجب على الرعية تجاه ولي الأمر. 66
فتاوى العلماء في تحريم المظاهرات.. 70
نصيحة من إمام جليل. 75
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 75
([1]) قلت: وهذا بالإجماع.
قال الإمام أحمد رحمه الله في العقيدة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: "... ومن غلب عليهم يعني الولاة – بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً " "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ص(23)، وفي "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/241-246)
واحتج الإمام أحمد بما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "... وأصلي وراء من غلب"
وقال الشافعي كما رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/448): عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يُسمى خليفة ويجمع الناس عليه فهو خليفة" اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح (13/7): "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء" اهـ
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اله كما في "الدرر السنية" (7/239): "الأئمة مجموع من كل مذهب أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء ..." اهـ
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله كما في "مجموع الرسائل والمسائل النجدية" (3/168): "وأهل العلم ... متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفراً بواحاً، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم" اهـ
([2]) أخرجه مسلم (1885) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه
([3]) أخرجه مسلم (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
([4]) أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
([5]) الحديث جاء عن ثلاثة من الصحابة:
1- عن علي رضي الله عنه، رواه أحمد (1/94، 129) وهو صحيح.
2- وعن الحكم بن عمرو الغفاري، وعمران بن حصين، رواه أحمد (5/66) وهو صحيح.
وصححه الألباني في "الصحيحة" (179-180)
([6]) من "نصيحة مهمة في ثلاث قضايا للأئمة" نجد ص(41)
([7]) من "نصيحة مهمة في ثلاث قضايا للأئمة" نجد ص(49)
([8]) وقد جاء عن طارق بن شهاب البجلي الأحمسي رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر" رواه النسائي (4209)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1100)
والغرز: هو ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، قيل: لا يختص بجلد وخشب.
([9]) قول الإمام أحمد رحمه الله: أخرجه حنبل بن إسحاق في "محنة الإمام أحمد" ص(74)، والخلال في "السنة" رقم (14)
([10]) التعليق على "الفرق بين النصيحة والتعيير" لابن رجب ص(39)، وانظر الديوان المنسوب للشافعي ص(79)
([11]) أخرجه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
([12]) هو كنانة بن بش أحد الخوارج على عثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه سيف بن عمر في كتاب "الفتوح" كما في "فتح الباري" (2/189)
([13]) قال الحافظ في "الفتح" (13/7): والمراد بالميتة الجاهلية حالة الموت كموت أهل الجاهلية، على ضلال وليس له إمام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً".
([14]) قلت: انظر إلى فقه هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه لم يقل لهم: اخرجوا عليه، ومع هذا الحجاج مجرم سفاك للدماء، وهو مسلم عاصي، وهذا الذي عليه أهل السنة.
([15]) قال المناوي في "فيض القدير" (6/499): جعل الله السلطان معونة لخلقه، فيصان منصبه عن السب والامتهان؛ ليكون احترامه سبباً لامتداد فيء الله ودوام معونة خلقه، وقد حذر السلف من الدعاء عليه؛ فإنه يزداد شراً ويزداد البلاء على المسلمين".
([16]) أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989)
([17]) أخرجه أحمد في "المسند" (14909)، وابن أبي عاصم في "السنة" وغيرهما، وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (1096)
([18]) فهذا لأمر مهم، فإن الحماقة والسفه أن يخرج الخارج بسكين وعصا أما المدفع والدبابة وغير ذلك من أنواع الأسلحة الحديثة.
([19]) نقلاً من مطوية "نصيحة وإنذار باجتناب الفتن والدمار"
([20]) انظر: "مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه" لابن الجوزي ص(91)، "عيون الأخبار" لابن قتيبة (1/52، 53)
([21]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/292)، والبيهقي (8/62)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/185) وسنده صحيح.
([22]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/292)
([23]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/289)
([24]) كتاب "الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية" (13-16) للشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله.
([25]) كتاب "الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية" ص(26-28) للشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله.
([26]) نقلاً من مطوية "نصيحة وإنذار باجتناب الفتن والدمار"
ضوء الكتاب والسنة
تأليف أبي يوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذه الرسالة المختصرة سميتها "كيفية التعامل مع ولي الأمر في ضوء الكتاب والسنة" كتبتها نصيحة لإخواني المسلمين، وذلك لما رأيت الحاجة إليها في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه الفتن، وبالأخص الخروج على ولاة الأمور، وقد علم القاصي والداني ما في الخروج من سفك دماء ونهب أموال وانتهاك أعراض إلى غير ذلك، والواقع أكبر شاهد، ما هو حاصل في بلاد المسلمين في اليمن وسوريا وتونس ومصر وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين.
هذا ما يسر الله لي جمعه، ونسأل الله تعالى أن ينفع بهاالإسلام والمسلمين ، وأن يجعلها خالصة لوجه الكريم وزلفى لديه إلى جنات النعيم وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه :أبو يوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
عافاه الله ومن عليه بالصحة والعافية
بماذا تحصل الخلافة لولي الأمر
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(156):
"وتحصل الخلافة بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: النص عليه من الخليفة السابق، كما في خلافة عمر بن الخطاب فإنها بنص من أبي بكر رضي الله عنه.
الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد سواء كانوا معينين من الخليفة السابق كما في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإنها باجتماع من أهل الحل والعقد المعينين من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أم غير معينين كما في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أحد الأقوال، وكما في خلافة علي رضي الله عنه.
الثالث: القهر والغلبة كما في خلافة عبدالملك بن مروان حين قتل ابن الزبير وتمت الخلافة له".([1])
وجوب السمع والطاعة لولي الأمر
قال الله تعالى
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: 59]
عن ابن عباس رضي الله عنهماقال: نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. رواه البخاري (4584)، ومسلم (1834)
وعن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمر عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها فجمعوا حطباً، فأوقدوا ناراً، فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف»
وفي رواية: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا ..."
رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (35/16):
"فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد؛ وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله. ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم؛ وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق".
وقال أيضاً (28/170): "أولو الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس".
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله كما في "بدائع التفسير" (2/29/30):
"والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فان العلماء ولاته حفظا وبياناً وذباً عنه ورداً على من الحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعاً لهم، والأمراء ولاته قياماً وعناية وجهاداً وإلزاماً للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه".
وقال أيضاً في "إعلام الموقعين" (3/541) دار ابن الجوزي:
"إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به؛ فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق، أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول، لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله؛ فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول، والأمراء منفذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله".
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير" (1/618):
"أمر الناس بطاعتهم هاهنا، وطاعة الله عز وجل هي: امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي: فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر: هم الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر: هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك، وروي عن مجاهد: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، والراجح: القول الأول".
وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (12/464):
"المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف والفقهاء وغيرهم، وقيل: هم العلماء، وقيل: الأمراء والعلماء".
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" (5/150):
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة , لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة".
وقال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/530):
"والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء".
وقال ابن العربي رحمه الله في "أحكام القرآن" (1/452):
"والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء".
وقال السعدي رحمه الله في "تفسيره" (1/362):
"أمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(7):
"فهذه الآية نص في وجوب طاعة ولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تبين أن هذه الطاعة لازمة، وهي فريضة في المعروف".
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في "شرح رياض الصالحين" (2/346):
"ذكر أهل العلم أنهم قسمان: العلماء والأمراء.
أما العلماء فهم ولاة أمور المسلمين في بيان الشرع، وتعليم الشرع، وهداية الخلق إلى الحق، فهم ولاة أمور في هذا الجانب، وأما الأمراء فهم ولاة الأمور في ضبط الأمن وحماية الشريعة وإلزام الناس بها، فصار لهم وجهة لهؤلاء وجهة.
والأصل: العلماء؛ لأن العلماء هم الذين يبينون الشرع ويقولون للأمراء هذا شرع الله فاعملوا به، ويلزمُ الأمراءُ بذلك، لكن الأمراء إذا علموا الشرع ولا طريق لهم إلى علم الشرع إلا عن طريق العلماء؛ نفذوه على الخلق.
والعلماء يؤثرون على من في قلبه إيمان ودين؛ لأن الذي في قلبه إيمان ودين ينصاع للعلماء ويأخذ بتوجيهاتهم وأمرهم.
والأمراء ينصاع لهم من خاف من سطوتهم وكان عنده ضعف إيمان، يخاف من الأمير أكثر مما يخاف من العالم، أو يخاف بعضهم أكثر مما يخاف من الله والعياذ بالله.
فلذلك كان لابد للأمة الإسلامية من علماء وأمراء، وكان واجباً على الأمة الإسلامية أن يطيعوا العلماء وأن يطيعوا الأمراء، ولكن طاعة هؤلاء وهؤلاء تابعة لطاعة الله؛ لقوله تعالى:: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يقل أطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن طاعة ولاة الأمر تابعة لا مستقلة، أما طاعة الله ورسوله فيهي مستقلة، ولهذا أعاد فيها الفعل فقال: أطيعوا وأطيعوا، أما طاعة ولاة الأمور فإنها تابعة ليست مستقلة.
وعلى هذا فإذا أمر ولاة الأمور بمعصية الله؛ فإنه لا سمع لهم ولا طاعة؛ لأن ولاة الأمور فوقهم ولي الأمر الأعلى جل وعلا وهو الله، فإذا أمروا بمخالفته فلا سمع لهم ولا طاعة"
أدلة وجوب طاعة ولي الأمر من السنة الصحيحة
1- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835)
2- عن عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» رواه البخاري (8200)، ومسلم (1709)
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه :عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842)
4- عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» رواه البخاري (3603)، ومسلم (1843)
5- عن أنس بن مالك عن أسيد بن حضير رضي الله عنهم، أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ قال: «ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» رواه البخاري (3792)، ومسلم (1845)
6- عن حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847)
7- قال حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم»، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» رواه مسلم (1847)
8- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» رواه البخاري (6530)، (7053)، ومسلم (1849)
9- عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك» رواه البخاري (693)
10- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك» رواه مسلم (1836)
11- عن أبي ذر، قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدع الأطراف» رواه مسلم (1837)
12- عن أم حصين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم (1838)
13- عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة» رواه البخاري (7144)، ومسلم (1840)
14- عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً، وأمر عليهم رجلا، فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين قولاً حسناً، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» رواه البخاري (4340)، ومسلم (1840)
15- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه» رواه البخاري (2957) ومسلم (1841)
16- عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " رواه مسلم (1844)
17- عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم» رواه مسلم (1846)
18- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني» رواه مسلم (1848)، وبنحوه عن جندب رواه مسلم (1850)
19- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» رواه مسلم (1851)
20- عن عرفجة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (1852)
21- عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم (1853)
22- عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» رواه مسلم (1854)
23- وعن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة» (1855)
قلت: الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وإنما اكتفيت بذكر هذه الأحاديث اليسيرة
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة
عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم سيرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمورفإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها و، عضوا عليها بالنواجذ»
رواه أبو داود رقم (4607)، وابن ماجة (43)، والترمذي (2676)، وأحمد (4/126)
الحديث صححه الألباني في "ظلال الجنة" برقم (27)، وفي تحقيقه على السنن، وقال الوادعي في "الصحيح المسند" رقم (921): هذا حديث حسن.
وعن أبي ذررضي الله عنه قال: «إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف، وأن أصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة» رواه مسلم (1837)
عليك بالجماعة وإياك والفرقة
عن أسامة بن شريك رضي الله عنه:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله على الجماعة" رواه الطبراني والديلمي وابن أبي عاصم رقم (81) قال الألباني: صحيح بشواهده.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب" رواه أحمد وابن أبي عاصم في "السنة" وحسنه الألباني في "السنة" لابن أبي عاصم رقم (93، 895)
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية"
رواه أحمد (2/133)، ومسلم (1848)، وابن أبي عاصم (90، 901، 1064)، والنسائي، وصححه الألباني
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"
رواه أحمد والترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وصححه الألباني في "السنة" لابن أبي عاصم رقم (88)
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصياً"
رواه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي عاصم في "السنة" وصححه الألباني في "الصحيحة" (541)
والأحاديث في هذه الباب كثيرة
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/42):
"والبدعة مقرونة بالفرقة؛ كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة؛ كما يقال: أهل البدعة والفرقة"
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك" أخرجه اللالكائي (2/109)، وصححه الألباني في "المشكاة" (1/61)
شروط السمع والطاعة لولي الأمر
إن طاعة ولي الأمر واجبة بشروط وهي:
الشرط الأول: أن يكون في مقدور الإنسان، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم" رواه البخاري (6776)، ومسلم (1867)
الشرط الثاني: ألا يكون الأمر معصية، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أُمر بمعصية فلا سمع وطاعة"
رواه البخاري (6725)، ومسلم (1839)
قال العلامة ابن بازرحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(9):
"ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يُطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة"([2])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية"([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"([4])
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/348):
"فالواجب على الإنسان أن يمتثل لأمر ولاة الأمور إلا فيما كان فيه معصية الله. فلو قالوا لنا مثلاً: لا تخرجوا إلى المساجد لا تصلوا الجمعة، لا تصلوا الجمعة والجماعة، قلنا لهم: لا سمع ولا طاعة. ولو قالوا: اظلموا الناس في شيء قلنا: لا سمع ولا طاعة. كل شيء أمر الله به أو نهى عنه فإنه لا سمع ولا طاعة لهم فيه أبداً.
كذلك لو قالوا مثلاً: احلقوا اللحى- مثل بعض الدول يأمرون رعيهتم بحلق اللحى ولا سيما جنودهم الذين عندهم- لو قالوا: احلقوا اللحى قلنا: لا سمع لكم ولا طاعة. وهم آثمون في قولهم لجنودهم مثلاً: احلقوا اللحى، وهم بذلك آثمون مضادون لله ورسوله، منابذون لله ورسوله.
كذلك لو قالوا مثلاً: انزلوا ثيابكم إلى أسفل من الكعبين، فإننا نقول: لا، لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذا مما حرمه الله وتوعد عليه، فإذا أمرتمونا بمعصية فإننا لا نسمع لكم ولا نطيع؛ لأن لنا ولكم ربا حكمه فوق حكمنا وحكمكم"
قلت: والشرط الثاني باتفاق أهل العلم
قال الإمام محمد بن حزم رحمه في "مراتب الإجماع" ص(142):
"واتفقوا أن الإمام الواجبة إمامته، فإن طاعته في كل ما أمر ما لم يكن معصية فرض"
وقال صديق حسن خان في "عقيدة أهل الأثر" رحمه الله:
"وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه"
قلت: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل"([5])
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "منهاج السنة" (3/387):
"إنهم (أي أهل السنة والجماعة) لا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماماً عادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق".
طاعة الأمير من طاعته صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجراً وإن قال بغيره فإن عليه منه". رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث: وجوب طاعة ولاة الأمور، وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة؛ لما في الافتراق من الفساد". اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/356):
" ففي هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعته من طاعة الله. قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) (النساء: 80) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالوحي؛ إلا بالشرع الذي شرعه الله تعالى له ولأمته، فإذا أمر بشيء؛ فهو شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
الأمير إذا أطاعه الإنسان فقد أطاع الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في أكثر من حديث، وأمر بطاعة ولي الأمر، وقال: "وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" وقال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" . وقال: "على المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه".
والأحاديث في هذا كثيرة، فقد أمر بطاعة ولي الأمر، فإذا أطعت ولي الأمر فقد أطعت الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا أطعت الرسول فقد أطعت الله.
وهذا الحديث وما سبقه وما لم يذكره المؤلف كلها تدل على وجوب طاعة ولاة الأمور إلا في معصية الله، لما في طاعتهم من الخير والأمن والاستقرار وعدم الفوضى وعدم اتباع الهوى. أما إذا عصي ولاة الأمور في أمر تلزم طاعتهم فيه؛ فإنه تحصل الفوضى، ويحصل إعجاب كل ذي رأي برأيه، ويزول الأمن، وتفسد الأمور، وتكثر الفتن، فلهذا يجب علينا نحن أن نسمع ونطيع لولاة أمورنا إلا إذا أمرونا بمعصية؛ فإذا أمرونا بمعصية الله فربنا وربهم الله له الحكم، ولا نطيعهم فيها؛ بل نقول لهم: أنتم يجب عليكم أن تتجنبوا معصية الله، فكيف تأمروننا بها؟ فلا نسمع لكم ولا نطيع.
وقد سبق لنا أن قلنا: إن ما أمر به ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الله قد أمر به، مثل أن يأمرونا بإقامة الجماعة في المساجد، وأن يأمرونا بفعل الخير وترك المنكر، وما أشبه ذلك، فهذا واجب من وجهين: أولاً: أنه واجب أصلاً. الثاني: أنه أمر به ولاة الأمور.
القسم الثاني: أن يأمرونا بمعصية الله، فهذا لا يجوز لنا طاعتهم فيها مهما كان، مثل أن يقولوا: لا تصلوا جماعة، احلقوا لِحاكم، أنزلوا ثيابكم إلى أسفل، اظلموا المسلمين بأخذ المال أو الضرب أو ما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ لا يطاع ولا يحل لنا طاعتهم فيه، لكن علينا أن نناصحهم وأن نقول: اتقوا الله، هذا أمر لا يجوز، لا يحل لكم أن تأمروا عباد الله بمعصية الله.
القسم الثالث: أن يأمرونا بأمر ليس فيه أمر من الله ورسوله بذاته، وليس فيه نهي بذاته، فيجب علينا طاعتهم فيه؛ كالأنظمة التي يستنونها وهي لا تخالف الشرع، فإن الواجب علينا طاعتهم فيهما واتباع هذه الأنظمة وهذا التقسيم، فإذا فعل الناس ذلك؛ فإنهم سيجدون الأمن والاستقرار والراحة والطمأنينة، ويحبون ولاة أمورهم، ويحبهم ولاة أمورهم".
وقال عمر بن الخطاب لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة".
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/62)
حاجة الناس إلى ولي أمر يسمعون ويطيعون له
قد عُلم من دين الإسلام أن لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
وأن الخروج على ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد([6]).
قال الحسن البصري رحمه الله كما في "جامع العلوم والحكم" (2/117) ط: مؤسسة الرسالة: "والله لا يستقيم الدِّين إلاَّ بولاة، وإنْ جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون"
وقال ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم" (2/1179): "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم".
تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه بعزو أو غيره معصية ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريق السلف الصالح وأئمة الدين([7]).
حاجة ولي الأمر إلى بطانة صالحة
عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله تعالى "
رواه البخاري (7198)
وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه»
رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم، وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" (302)، وصحيح أبي داود (2544)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/363):
"وفي حديث عائشة الذي ساقه المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه" وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: "أن الله ما بعث من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة خير تأمره بالخير وتحثه عليه، وبطانة سوء تدله على السوء وتأمره به، قال: والمعصوم من عصمه الله" وهذا شيء مشاهد، تجد الأمراء بعضهم يكون صالحاً في نفسه حريصاً على الخير لكن يقيض الله له قرناء سوء - والعياذ بالله - فيصدونه عما يريد من الخير، ويزينون له السوء ويبغضونه لعباد الله، وتجد بعض الأمراء يكون في نفسه غير الصالح، لكن عنده بطانة خير تدله على الخير وتحثه عليه وتدله على ما يوجب المحبة بينه وبين رعيته حتى يستقيم وتصلح حاله، والمعصوم من عصمه الله، إذا كان هذا في الأمراء ففتش نفسك أنت، فأنت بنفسك إذا رأيت من أصحابك أنهم يدلونك على الخير ويعينونك عليه، وإذا نسيت ذكروك، وإذا جهلت علموك فاستمسك بحجزهم وعض عليهم بالنواجذ.
وإذا رأيت من أصحابك من هو مهمل في حقك ولا يبالي هل هلكت أم بقيت، بل ربما يسعى لهلاكك فاحذره؛ فإنه السم الناقع - والعياذ بالله - لا تقرب هؤلاء، بل ابتعد عنهم فر منهم فرارك من الأسد، والإنسان الموفق هو الذي لا يكون بليداً كالحجر، بل يكون ذكياً كالزجاجة؛ فإنها صلبة، ولكن يرى ما وراءها من صفاء، فيكون عنده قوة وصلابة، لكن عنده يقظة بحيث يعرف، وكأنما يرى بالغيب ما ينفعه مما يضره فيحرص على ما ينفعه ويتجنب ما يضره، نسأل الله لنا وللمسلمين التوفيق".
أفضل الجهاد كلمة حق عند ولي أمر جائر
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل إن سلطان جائر"
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (491)([8])
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (1/534):
"فللسطان بطانتان: بطانة السوء، وبطانة الخير.
بطانة السوء: تنظر ماذا يريد السلطان، ثم تزينه له وتقول: هذا هو الحق، هذا هو الطيب، وأحسنت وأفدت، ولو كان - والعياذ بالله - من أجور ما يكون، تفعل ذلك مداهنة للسلاطين وطلباً للدنيا.
أما بطانة الحق: فإنها تنظر ما يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتدل الحاكم عليه، هذه هي الباطنة الحسنة.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، هذه - والعياذ بالله- ضد الجهاد.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، تكون بأن ينظر المتكلم ماذا يريد السلطان فيتكلم به عنده ويزينه له.
وقول كلمة الحق عند سلطان جائر من أعظم الجهاد. وقال: " عند سلطان جائر" لأن السلطان العادل، كلمة الحق عنده لا تضر قائلها؛ لأنه يقبل، أما الجائر فقد ينتقم من صاحبها ويؤذيه.
فالآن عندنا أربع أحوال:
1- كلمة حق عند سلطان عادل، وهذه سهلة.
2- كلمة باطل عند سلطان عادل، وهذه خطيرة؛ لأنك قد تفتن السلطان العادل بكلمتك، بما تزينه له من الزخارف.
3- كلمة حق عند سلطان جائر، وهذه أفضل الجهاد.
4- كلمة باطل عند سلطان جائر، وهذه أقبح ما يكون.
فهذه أقسام أربعة، لكن أفضلها كلمة الحق عند السلطان الجائر.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يقول الحق ظاهراً وباطناً على نفسه وعلى غيره".
محبة ولي الأمر وتوقيره واحترامه وعدم إهانته
إن ولي الأمر رجل بذل نفسه ووقته لرعاية مصالح أمته، وتوفير سبل الراحة لهم، ودفع المخاطر والسوء عنهم بإذن الله.
فالواجب علينا تقديره واحترامه، بل ومحبته لِما يقوم به من الأعمال الشاقة، والمسؤولية الكاملة.
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة» رواه مسلم (1855)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/354):
"فما داموا يصلون فإننا لا ننابذهم، بل نسمع ونطيع ونقوم بالحق الذي علينا، وهم عليهم ما حُمِّلوا".
ومن أجل السلطان أكرمه الله يوم القيامة، ومن لم يجله أهانه الله يوم القيامة.
فعن زياد بن كسيب العدوي، قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله»
رواه الترمذي (2224)، وأحمد (20450)، والبخاري في "التاريخ" (31/366)، وغيرهم، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (2296)، وفي السنة لابن أبي عاصم (1018)
فتأملوا كيف أن أبا بكرة رضي الله عنه اعتبر الكلام في ولي الأمر والقدح فيه من إهانته.
وعلق الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" (14/508) على هذه القصة بقوله: أبو بلال هذا خارجي، ومن جهله عد ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق.
وقال المباركفوري رحمه الله في "تحفة الأحوذي" (6/394):
"(من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله) أي من أهان من أعزه الله وألبسه خلعة السلطنة أهانه الله، "وفي الأرض" متعلق بسلطان الله تعلقها في قوله تعالى: "إنا جعلناك خليفة في الأرض" والإضافة في سلطان الله إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ... إلخ
وفي "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (11/331):
"(من أهان سلطان الله في الأرض) أي أذله حاكماً بأن آذاه أو عصاه أهانه الله".
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من دخل على السلطان يريد توقيره فهم ضامن على الله كما قال معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله: من عاد مريضاً، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازياً في سبيل الله، أو دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس".
رواه أحمد في "المسند" (5/241)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1021)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (476)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خصال ست ما من مُسلم يموتُ في واحدة منْهن إلا كان ضامناً على الله أن يدْخِلَه الجنّة: رجل خرج مجاهداً، فإن مات في وجْهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل تبع جنازة، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل عاد مريضاً، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لصلاته، فإن مات في وجهه؛ كان ضامناً على الله، ورجل أتى إماماً، لا يأتيه إلا ليعزِّره ويوقره، فإن مات في وجهه ذلك؛ كان ضامناً على الله".
رواه الطبراني في الأوسط (4/142)رقم (2822)وصححه الألباني في الصحيحة (7/2)(1148)
ولقد كان السلف يقدرون الأمير ويحترمونه كما قال مغيرة رحمه الله: "كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير".
أخرجه الدارمي في "السنن" (1/393) رقم (422)
وقال السعدي رحمه الله في "نور البصائر والألباب" (66):
"من إجلال الله إجلال السلطان المقسط، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". أهـ
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»
رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (21199)
وقال ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد" (3/176):
"عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه فقال: "أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يده أكان خطأ أم واقعاً موقعه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يربي ولده تربية خاصة والسلطان يربي العالم تربية عامة فهو بالإكرام أولى"
مشروعية الدعاء لولي الأمر با لصلاح
صلاح ولي الأمر مطلب لكل مسلم غيور على دينه؛ إذ صلاهم صلاح للعباد والبلاد كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته: "اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ما استقامت لهم ولاتهم وهداتهم"
أخرجه البيهقي في "السنن"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/292)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/185)، وقال السخاوي في "تخريج أحاديث العادلين من الولاة": وسنده صحيح.
وقال القاسم بن مخيمرة: "إنما زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم، فإذا فسد سلطانكم فسد زمانكم"
وذكر ابن المنير المالكي رحمه الله في "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" (4/106): أنه نقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم، فقيل له: أتدعو له وهو ظالم؟
فقال: إي والله، أدعو له، إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله. اهـ
وعن أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الواعظ الزاهد أنه قال بعد روايته لحديث تميم الداري مرفوعاً: "الدين النصيحة" قال: "فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة فيزدادوا شراً ويزداد البلاء على المسلمين، ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر فيرتفع البلاء عن المؤمنين ..." اهـ
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (13/99)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله رحمه الله في "شرح السنة" ص(113، 114)
"وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله". اهـ
وقال أيضاً: "أُمرنا ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن ظلموا، وإن جاروا؛ لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"
وقال أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في "اعتقاد أهل السنة ص(50):
"ويرون الدعاء لهم بالصلاح والعطف إلى العدل" اهـ
وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" ص(92): "ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية" أهـ
وقال ابن القيم رحمه الله في "اجتماع الجيوش" (84):
"ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح".
وقال الآجري رحمه الله في "الشريعة" (1/371):
"قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى، عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين وصلى معهم الجمعة والعيدين , فإن أمروه بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته وكف لسانه ويده، ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله" اهـ
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله في "متن الطحاوية":
"وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
وقال أبو بكر المروذي رحمه الله، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، وذكر الخليفة المتوكل، رحمه الله فقال: "إني لأدعو له بالصلاح والعافية، وقال: لئن حدث به حدث لتنظرن ما يحل بالإسلام"
أخرجه الخلال في "السنة" (16)، و"مسائل أحمد في العقيدة" (2/3)
وقال الإمام أحمد مُملياً ابنه عبد الله: "وإني أسأل الله عز وجل أن يطيل بقاء أمير وأن يثبته وأن يمده منه بمعونة، إنه على كل شيء قدير".
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (1/104)، و"سير أعلام النبلاء" (11/287)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/391):
أن الفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل([9]) وغيرهما كانوا يقولون: "لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان".
وكان سفيان الثوري رحمه الله يدعو للسلطان.
أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/97) وأنشد ابن عبدالبر رحمه الله في جامع بيان العلم (1/184) عن أحمد بن عمر بن عبدالله أنه أنشد لنفسه:
نسأل الله صلاحاً للولاة الرؤسا
فصلاح الدين والدنيا صلاح الأمراء
فبهم يلتئم الشمل على بُعد التناء
وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله عن الأمير:إنه مؤمر عليك مثلك ،فإن اهتدى فاحمد الله ،وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ،ولاتخالفه فتضل.أخرجه الخلال في السنة (1/86)
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله :لو أن لي دعوة مستجابة ماصيرتها إلا في الإمام :قيل وكيف ذلك ياأبا علي قال :متى صيرتها في نفسي لم تجزني ،ومتى صيرتها في الإمام يعني عمت _فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد ...فقبل ابن المبارك جبهته ،وقال يامعلم الخير،
من يحسن هذا غيرك .أخرجه أبو نعيم في حليةالأولياء (8/91)وفي فضيلة العادلين (171،رقم 48)وأخرجه ابن عساكر (48/445)
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :,وإني لأدعو له أي للأميربالتسديد ،والتوفيق في الليل والنهار ،والتأييد وأرى له ذلك واجباٌ عليا )أخرجه الخلال في السنة (1/83)والبدية (10/352) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله في "نور البصائر والألباب" ص(66):
"والدعاء لله بصلاحهم؛ فإن الدعاء لهم دعاء للرعية كلها، كما أن إرشادهم إلى مصلحة ومشروع خيري نافع شامل".
وقال الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله في "الدين النصيحة":
"من النصح أتدعو لهم بالتوفيق والسداد" اهـ
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(18):
"من متقضى البيعة: النصح لولي الأمر، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة".
النصيحة لولي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً
النصيحة لولي الأمر سراً أصل من أصول المنهج السلفي الذي خالفه أهل الأهواء والبدع كالخوارج؛ إذ الأصل في النصح لولي الأمر الإسرار بالنصيحة، وعدم العن بها يدل عليها ما رواه أحمد في "المسند" رقم (14909)، وابن أبي عاصم في "السنة (911)، وابن عدي في "الكامل" (4/393)، والحاكم (3/290)، والطبراني في "الكبير" (17/367)، وقال الهيثمي في "المجمع": رجاله ثقات وإسناده متصل. وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (1098)
قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه»
فتأمل أخي المسلم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في نصح ولي الأمر بدون علانية؛ لأجل أن تكون نصيحتك أدعى للقبول.
ولله در الشافعي إذ يقول:
تعهّدني بنصحك في انفرادى ... وجنّبني النّصيحة في الجماعه
فإنّ النّصح بين النّاس نوع ... من التّوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تغضب إذا لم تعط طاعه([10])
وقال مسعر بن كدام رحمه الله: رحم الله من أهدى لي عيوبي في ستر بين وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع". "بهجة المجالس" (1/417) لابن عبد البر
وسئل مالك بن أنس رحمه الله: أيأتي الرجل إلى السلطان فيعظه وينصح له ويندبه إلى الخير؟ فقال: إذا رجا أن يسمع منه وإلا فليس ذلك عليه"
ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (21/285)
وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: "آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، قال: ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك وقال: إن كنت لا بد فاعلا ففيما بينك وبينه"
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف (113) رقم (76)، والبيهقي في "الشعب" (13/273) رقم (7185، 7186)، وأخرجه حنبل بن إسحاق في "محنة الإمام أحمد" ص(84) وإسناده صحيح.
فتدبروا موقف هذا الصحابي الجليل حبر الأمة، وترجمان القرآن، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المسألة العظيمة حيث أمره بالسرية في النصح.
ويدل لذلك ما رواه البخاري (849) في بدء الخلق باب: 10 رقم (3267)، والفتن 17 رقم (7098)، ومسلم (4/2290) رقم (2989)، (849)
وعن الأعمش سمعت أبا وائل، قال: قيل لأسامة: ألا تكلم هذا؟ قال: قد كلمته ما دون أن أفتح باباً أكون أول من يفتحه، وما أنا بالذي أقول لرجل، بعد أن يكون أميراً على رجلين: أنت خير ... الحديث.
وفي لفظ مسلم: "ألا تدخل على عثمان فتكلمه".
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (14/554، 850):
"قال المهلب: أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان، وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه وكان يستعمله فقال أسامة: قد كلمته سراً دون أن أفتح باباً أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً ولو كان أميراً بل ينصح له في السر جهده".
وقال القاصي عياض كما في "الفتح":
"مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك بل يتلطف به وينصحه سراً، فذلك أجدر بالقبول. اهـ
وقال الألباني في تعليقه على "مختصر صحيح مسلم" (335):
"يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأن في الإنكار جهاراً ما يخشى عاقبته، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً؛ إذ نشأ عنه قتله. اهـ
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
وقال الفضيل رحمه الله: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.
وقالت أم الدرداء رضي الله عنها: "من وعظه أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه". أخرجه الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ص(39)
وجاء في "ترتيب المدارك" (2/95) عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه قوله: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل على ذي سلطان، يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأن العالم إنما يدخل يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل".
وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". رواه مسلم (1/74)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم". رواه مسلم (1715)
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "
رواه أحمد وابن ماجة والحاكم عن جبير بن مطعم، وعند أبي داود وابن ماجة عن زيد بن ثابت، والترمذي عن أبن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6766)، والوادعي في "الصحيح المسند" (351)
قال الخطابي في "معالم السنن" (7/247):
"والنصيحة لأئمة المسلمين أن يطيعهم في الحق، وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا".
وقال النووي في "شرح مسلم" (2/38):
"وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم".
وقال ابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط" ص(224):
"معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتنبيههم وتذكيرهم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك".
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/222): "وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل".
وقال السعدي في "الرياض الناضرة" ص(41):
"وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية كبيرة أو صغيرة ، فهؤلاء لما كانت مهمتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم ، ووجوب طاعتهم في المعروف ، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم ، وبذل ما يستطيعه الإنسان من نصيحتهم ، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب مرتبته ، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح ، فإن صلاحهم صلاح للرعية وللأمور ، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإن في ذلك شراً وضرراً وفساداً كبيراً ومن رأى منهم مالا يحل فعليه أن ينبههم سرا لا علنا بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود ، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد وبالأخص ولاة الأمور ، فتنبههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصد ق والإخلاص.
واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس، فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أخرى معروفة".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله ص(18):
"من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر , ومن النصح : الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة; لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له: أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير, ويذكره إذا نسي, ويعينه إذا ذكر, هذه من أسباب توفيق الله له.
فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه, وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر, وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز; لأن المقصود من الولايات كلها: تحقيق المصالح الشرعية, ودرء المفاسد, فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته وما هو منكر لا يجوز له .
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى إيضاحا كاملا في كتاب "الحسبة" فليراجع; لعظم الفائدة".
الرفق في نصيحة ولي الأمر
قال ابن الجوزي رحمه الله: "الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، لأن المقصود إزالة المنكر وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يتعرض للسلطان؛ فإن سيفه مسلول وعصاه، فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم؛ فإنهم كانوا يهابون العلماء فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب". "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/197)
وقيل لمالك بن أنس: إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون ويجورون، فقال: يرحمك الله، فأين التكلم بالحق". أخرجه ابن أبي حاتم في "الجرح" (1/30)
وقال أئمة الدعوة النجدية: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين".
وقال ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(13):
"فالواجب على الغيورين لله، وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا حدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور بالكلام الطيب والحكمة والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة .."
من الخطأ ظن بعض الناس أن ولي الأمر إذا نصح بأمر لا بد من فعله
ولا يلزم من نصح الإمام أن يقبل النصيحة ويعمل بها.
قال ابن أبي العز الدمشقي في "شرح العقيدة الطحاوية" ص(511):
"وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد ، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية".
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "لا يلزم إذا قدمت النصيحة لولي الأمر أن يقبل كل ما فيها؛ لأنه قد يخالف رأيه رأياً، في مسائل الاجتهاد هذه واحدة، وربما يركب رأسه ويخالف الحق، هل هو معصوم؟ ما هو معصوم. اهـ
"الوقيعة في أعراض العلماء والأمراء"
ليس من هدي السلف التشهير بعيوب ولي الأمر على المنابر
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرار" (4/556):
"ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله".
وقال النحاس رحمه الله في "تنبيه الغافلين" ص(64):
"يختار الكلام مع السلطان في الخلوة لا الكلام معه على رؤوس الأشهاد".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إذا أتيت الأمير المؤمر فلا تأته على رؤوس الناس".
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15/74)، وسعيد بن منصور في "سننه" (4/1660) وهذا لفظه.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(22):
"ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع".
وقال الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله في "الدين النصيحة":
"التشهير بهم وبيان أخطائهم وهفواتهم وتقصيرهم في الخطب المنبرية، وفي المحاضرات وعلى صفحات الجرائد والصحف، هذا خطأ بدأ يقع فيه كثير من المحاضرين والخطباء والكتاب، وهذا أسلوب غير معروف وغير معهود عند سلف هذه الأمة، وعند أئمة المسلمين من قبل. اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمر والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك أعمالهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة× فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة، إنما يزيد البلاء بلاءً، ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها". "وجوب طاعة السلطان" للعريني ص(23)
وقال أيضاً في "شرح رياض الصالحين" (2/354):
"سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله".
وقال أيضاً في كتاب "حقوق الراعي والرعية" ص(11):
"ومن حقوق الرعاة على رعيتهم: أن يناصحوهم ويرشدوهم، وألا يجعلوا من خطأهم إذا أخطأوا سلماً للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس؛ فإن ذلك يوجب التنفير عنهم وكراهيتهم وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقاً، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم.
ومن الواجب على كل ناصح وخصوصاً من ينصح ولاة الأمر أن يستعمل الحكمة في نصيحته ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة" اهـ
وقال العلامة النجمي رحمه الله في "المورد العذب الزلال" ص(28):
"ولا يتكلمون فيه أي (الإمام) في المحافل والمجتمعات وعلى رءوس المنابر، ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شيء من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة".
وسئل أيضاً كما في "الفتاوى الجلية" (1/19):
س: هل ورد في الكتاب والسنة الإنكار العلني على الولاة من فوق المنابر؟
الجواب: الحقية أن الإنكار العلني على الولاة أمر محدث، ولم يكن من أصول السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي، ولا ينزع يداً من طاعة"([11]) هكذا يوق النبي صلى الله عليه وسلم، إذن فلا يجوز الإنكار العلني على المنابر؛ لأن الأضرار التي تترتب عليه أكثر من فائدته ..."
وقال العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(162):
"النصيحة التي يجهر بها أمام الناس، أو على المنابر؛ لأن هذه الطريقة تثير الشر، وتحدث العداوة بين ولاة الأمور والرعية، ليست النصيحة أن الإنسان يتكلم في أخطاء ولاة الأمور على منبر، أو على كرسي أمامَ الناس؛ هذا لا يخدم المصلحة، وإنما يزيد الشر شراً.
إنما النصيحة أن تتصل بولاة الأمور شخصياً، أو كتابياً، أو عن طريق بعض الذين يتصلون بهم، وتبلغهم نصيحتك سراً فيما بينك وبينهم .
وليس من النصيحة أيضاً: أننا نكتب نصيحة وندور بها على الناس، أو على كل أحد ليوقعوا عليها، ونقول : هذه نصيحة . لا، هذه فضيحة؛ هذه تعتبر من الأمور التي تسبب الشرور، وتُفرِح الأعداء، ويتدخل فيها أصحاب الأهواء".
وقال أيضاً ص(195):
"لا شك أن الولاة - كغيرهم من البشر - ليسوا معصومين من
الخطأ، ومناصحتهم واجبة، ولكن تناولهم في المجالس وعلى المنابر يُعتبر من الغيبة المحرمة؛ وهو منكر أشد من المنكر الذي يحصل من الولاة لأنه غيبة، ولما يلزم عليه من زرع الفتنة وتفريق الكلمة والتأثير على سير الدعوة.
فالواجب إيصال النصيحة لهم بالطرق المأمونة، لا بالتشهير والإشاعة".
أداء العبادات مع ولاة الأمور سواء كانوا فجاراً أو أبراراً من صلاة وزكاة وحج وجهاد
وهذا الأصل العظيم من أصول أهل السنة والجماعة
قال ابن بطة رحمه الله في "الإبانة عن أصول الديانة" (11/31):
"ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "العقيدة الواسطية" ص(136):
"ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات".
وقال ابن قدامة رحمه الله في "لمعة الاعتقاد":
" ونرى الحج والجهاد ماضيان مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(175):
"والحج والجهاد مع الأئمة ماضيان نافذان، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، سواء كانوا أبراراً او فجاراً؛ لأن مخالفتهم في ذلك توجب شق عصا المسلمين والتمرد عليهم".
وقال الإمام الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص(88):
"ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً.
وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة رحمهما الله في "عقيدتهما" ص(181):
" أدركنا العلماء في جميع الأمصار- حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً- فكان مذهبهم: نقيم فرض الحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، والجهاد ماضٍ منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين، لا يبطله شيء والحج كذلك. اهـ
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله كما في "شرح الطحاوية" (507):
"ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم".
وقال أيضاً: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقصهما".
وقال صديق حسن خان رحمه الله في "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر":
"والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار مذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل أخر الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والفطر والأضحى والحج مع السلاطين وملوك الإسلام وإن لم يكونوا بررة عدولاً أتقياء، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا".
قلت: وهذه عقيدة أهل السنة أداء بعض العبادات خلف ولاة الأمور كانوا أبراراً أو فجاراً، وإليك بعض الآثار:
1- وفي صحيح البخاري رحمه الله رقم (695): أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما حُصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة، وهذا صلى بالناس إمام فتنة([12]) فقال: "يا ابن أخي الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم".
2- وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/84، 2) عن عمير بن هانئ قال: شهدت ابن عمر والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء" وسنده صحيح.
وأخر البيهقي (3/122) عن نافع ان ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج بمنى، فصلى مع الحجاج".
رواه ابن سعد في "الطبقات" (4/120) عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمن الفتنة لا يأتي أميراً إلا صلى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله".
وأخرج عن سيف المازني قال: كان ابن يقول: لا أقاتل في الفتنة وأصلي واراء من غلب". وسند صحيح
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط وكان يشرب الخمر حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة".
انظر "صحيح مسلم"، وابن عساكر في "تاريخه" (63/241) وسنده حسن.
4- وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/378) عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: "كانوا يصلون خلف الأمراء ما كانوا".
5- وفي "مصنف ابن أبي شيبة" أيضاً (2/379) عن إبراهيم ابن أبي حفصة قال: قلت لعي بن حسين: إن أبي حمزة الثمالي – وكان فيه غلو- يقول: لا نصلي خلف الأئمة ولا نناكح إلا من يرى مثل رأينا، فقال علي بن حسين: "بل نصلي خلفهم ونناكحهم بالسنة".
6- وأنكر سفيان الثوري على الحسن بن حيّ ترْكه صلاة الجمعة خلف الأئمة".
انظر "السير" (7/363)
بل ذكر عند بشر بن الحارث عبد الرحمن بن عثمان الصوفي فقال: سمعت حفص بن غياث يقول: هؤلاء يرون السيف -أحسبه عنى ابن حي وأصحابه. ثم قال بشر: هات من لم ير السيف من أهل زمانك كلهم إلا قليل، ولا يرون الصلاة أيضا. ثم قال: كان زائدة يجلس في المسجد، يحذر الناس من ابن حي، وأصحابه. قال: وكانوا يرون السيف" انظر "السير" (7/364)
7- وصلى ابن عمر خلف نجدة الحروري، رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" ص(283)
8- وصلى الحسن والحسين خلف مروان، رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/378)
9- وجاء في معتقد الإمام سفيان الثوري رحمه الله الذي رواه عنه شعيب بن حرب: "يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف بر وفاجر" قال شعيب لسفيان: يا أبا عبد الله الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة ...".
وأخرج أيضاً (1/161) في اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل الجمعة الذي رواه عنه عبدوس بن مالك العطار أنه قال: "وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولي جائزة تامة ركعتين، من أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم.
فالسنة أن تصلي معهم ركعتين، من أعادها فهو مبتدع، وتدين بأنها تامة، ولا يكن في صدرك من ذلك شك". اهـ
وانظر "المسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل" (2/6،7)
وأكثر السلف على أن دفع زكاة المواشي إلى السلطان، ذكره عنهم أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي في عقيدتهما ص(179)
وأخرج ابن أبي شيبة رضي الله عنه في مصنفه عن ابن عمر قال: "ادفعوا زكاة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن برَّ فلنفسه ومن أثم فعليها".
الصبر على جور الأئمة من أصول السلفية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179):
"الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة والجماعة".
وقال أيضاً كما في "مجموع الفتاوى" (4/444):
"مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر".
هذا حق لأن الأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم يجلب من المصالح ويدرأ من المفاسد ما يكون به صلاح العباد والبلاد.
وقال أيضاً رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179-180):
"وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال؛ لما فيه من ظلم وجور كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه؛ فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي في مواضع كثيرة كقوله: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} وقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} وقوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}
وقال أيضاً رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (28/179):
"وأصل ذلك العلم؛ فإنه لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم. فصار الدين كله العلم والعدل؛ وضد ذلك الظلم والجهل. قال الله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} ولما كان ظلوما جهولا - وذلك يقع من الرعاة تارة ومن الرعية تارة ومن غيرهم تارة - كان من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم كما هو من أصول أهل السنة والجماعة".
وقال الحسن البصري رحمه الله كما في "آداب الحسن البصري" لابن الجوزي ص(119-120):
اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقمة الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإقلاع عن الذنوب.
إن نقم الله متى لقيت بالسيوف كانت هي أقطع، ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول: اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنباً أحدث الله في سلطانكم عقوبة، ولقد حدثت أن قائلاً قال الحجاج: إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فقال: أجل؛ إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا، وتركوا من شرائع نبيهم عليه السلام ما تركوا". اهـ
وقد ورد أحاديث تأمر بالصبر على الأئمة ومنها:
عن ابن عبس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكره فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية"([13]).
رواه البخاري (7053)، ومسلم (1849، 56):
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين (2/354):
"يعني ليس ميتة الإسلام والعياذ بالله، وهذا يحتمل معنيين:
الأول: يحتمل أنه يموت ميتة جاهلية بمعنى أنه يزاغ قلبه والعياذ بالله، حتى تكون هذه المعصية سبباً لردته.
الثاني: ويحتمل المعنى الآخر أنه يموت ميتة جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية ليس لهم إمام وليس لهم أمير؛ بل لهم رؤساء وزعماء لكن ليس لهم ولاية كولاية الإسلام، فيكون هذا مات ميتة جاهلية.
والحاصل أن الواجب أن نسمع ونطيع لولاة الأمر إلا في حال واحدة فإننا لا نطيعهم؛ إذا أمرونا بمعصية الخالق فإننا لا نطيعهم. لو قالوا: احلقوا لحاكم قلنا: لا سمع ولا طاعة، ولو قالوا: نزلوا ثيابكم أو سراويلكم إلى أسفل الكعبين، قلنا لا سمع ولا طاعة؛ لأن هذه معصية. لو قالوا: لا تقيموا الصلاة جماعة، قلنا: لا سمع ولا طاعة. لو قالوا: لا تصوموا رمضان، قلنا: لا سمع ولا طاعة، كل معصية لا نطيعهم فيها مهما كان، أما إذا أمروا بشيء ليس معصية وجب علينا أن نطيع.
ثانياً: لا يجوز لنا أن ننابذ ولاة الأمور.
ثالثاً: لا يجوز لنا أن نتكلم بين العامة فيما يثير الضغائن على ولاة الأمور، وفيما يسبب البغضاء لهم؛ لأن في هذا مفسدة كبيرة. قد يتراءى للإنسان أن هذه غيرة، وأن هذا صدع بالحق؛ والصدع بالحق لا يكون من وراء حجاب، الصدع بالحق أن يكون ولي الأمر أمامك وتقول له: أنت فعلت كذا وهذا لا يجوز، تركت هذا، وهذا واجب.
أما أن تتحدث من وراء حجاب في سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله.
وكل هذه أمور يجب أن نتفطن لها، ويجب أن نسير فيها على ما سار عليه أهل السنة والجماعة، من أراد أن يعرف ذلك فليقرأ كتب السنة المؤلفة في هذا؛ يجد كيف يعظم أئمة أهل العلم من هذه الأمة، كيف يعظمون ولاة الأمور، وكيف يقومون بما أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام من ترك المنابذة، ومن السمع والطاعة في غير المعصية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتاب العقيدة الواسطية- وهي عقيدة مختصرة ولكن حجمها كبير جداً في المعنى- ذكر أن من هدي أهل السنة والجماعة وطريقتهم، أنهم يدينون بالولاء لولاة الأمور، وأنهم يرون إقامة الحج والجهاد والأعياد والجمع مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً، حتى لو كان ولي الأمر فاجراً فإن أهل السنة والجماعة يرون إقامة الجهاد معه وإقامة الحج وإقامة الجمع وإقامة الأعياد.
إلا إذا رأينا كفراً بواحاً صريحاً عندنا فيه من الله برهانٌ والعياذ بالله فهنا يجب علينا ما استطعنا أن نزيل هذا الحاكم، وأن نستبدله بخير منه، أما مجرد المعاصي والاستئثار وغيرها؛ فإن أهل السنة والجماعة يرون أن ولي الأمر له الولاية حتى مع هذه الأمور كلها، وأن له السمع والطاعة، وأنه لا تجوز منابذته ولا إيغار الصدور عليه، ولا غير ذلك مما يكون فسادة أعظم وأعظم.
والشر ليس يُدفع بالشر؛ ادفع بالشر الخير، أما أن تدفع الشر بشر، فإن كان مثله فلا فائدة، وإن كان أشر منه كما هو الغالب في مثل هذه الأمور، فإن ذلك مفسدة كبيرة. نسأل الله أن يهدي ولاة أمورنا وأن يهدي رعيتنا لما يلزمها، وأن يوفق الجميع للقيام بما يجب عليه".
وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس ابن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم"([14]).
رواه البخاري (7068)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم الحوض".
رواه البخاري (3792)، ومسلم (1845)
قال ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/350):
"يقول للأنصار ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة: ستلقون بعدي أثرة من ذاك الوقت والولاة يستأثرون على الرعية، ومع هذا يقول: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". فليس استئثار ولاة الأمور بما يستأثرون به مانعاً من السمع والطاعة لهم، الواجب السمع والطاعة في كل ما أمروا به ما لم يأمروا بمعصية، وقد سبق لنا أن ولاة الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما أمر الله به فهذا يجب طاعتهم فيه لوجهين: لأمر الله به، ولأمرهم به.
والثاني: ما حرم الله فلا يجوز السمع والطاعة لهم حتى لو أمروه.
والثالث: ما ليس فيه أمر ولا نهي من الله فتجب علينا طاعتهم فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع من طاعتهم إلا إذا أمروا المعصية.
نسأل الله أن يصلحنا جميعاً رعية ورعاة وأن يهب لنا منه رحمه إنه هو الوهاب".
وقال أبو بكر الآجري رحمه الله في "الشريعة" (82)
" ... ومن صبر على جور الأئمة وحيف الأمراء ولم يخرج عليهم بالسيف ودعا للولاة بالصلاح ... كان على الطريق المستقيم إن شاء الله تعالى".
وقال الحسن بن إسماعيل الربعي رحمه الله: قال لي أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر لله عز وجل تحت المحنة: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عد أو جور".
"مناقب الإمام أحمد" (176) لابن الجوزي رحمه الله
إمام جائر خير من فتنة قائمة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (28/391):
"ويقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك".
وقال عمرو بن العاص لابنه رضي الله عنهما كما في "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/176):
"يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عدل خير من مطر وبل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".
تحريم منازعة ولي الأمر
قال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في "المورد العذب الزلال" ص(26):
تحريم المنازعة لهم أي ولاة الأمر، وهي تكون بأمور منها:
أ- إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب- إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ت- اختلاق مثالب وعيوب لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
ث- ذم العلماء وأنها معهم بالمداهنة وبيع الذمم.
ج- استعمال ما من شأنه التهييج عليهم، والإشارة ضدهم. وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان".
تحريم سب ولي الأمر
الوقيعة في عرض ولي الأمر والاشتغال بسبه وذكر عيبه خطيئة كبيرة وجريمة شنيعة، نهى عنها الشرع المطهر وذم فاعلها، وهي نواة الخروج على ولاة الأمور الذي هو أصل فساد الدين والدنيا معاً.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا؛ فإن الأمر قريب"([15]).
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (474) رقم (1015) قال الألباني في "ظلال الجنة" (474): إسناده جيد. وأخرجه البيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" (13/186، 202) من طريق قيس بن وهب بلفظ: "أمرنا أكابرنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ألا نسب أمراؤنا ...إلخ. وإسناده جيد
ففي هذه الأثر اتفاق أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الوقيعة في الأمراء بالسب.
وقال أبو مجلز: "سب الإمام الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين".
أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (1/78) وسنده حسن.
"ولم يكن سفيان الثوري يسب الأمراء".
أخرجه ابن أبي حاتم وسند صحيح.
قال عمر البكالي: "إذا كانت عليكم أمراء يأمرونك بالصلاة والزكاة، حلت لكم الصلاة خلفهم، وحرم عليكم سبهم". هذا لفظ أبي نعيم
أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" (1/203)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/2027)، قال الحافظ في "الإصابة" (7/152): وسنده صحيح.
وكان من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم وكان ذا فقه.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن أول نفاق المرء طعنه على إمامه".
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/48) ط: زغلول، وابن عبد البر في "التمهيد (21/287)
وقال أيضاً: "إياكم ولعن الولاة، فإن لعنهم الحالقة، وبغضهم العاقرة. قيل: يا أبا الدرداء، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: اصبروا، فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت".
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة (2/488) (1016) وهو ضعيف، ولكن معناه صحيح، ويستأنس به لوجود الأحاديث والآثار الصحيحة التي في معناه.
وعن عون السهمي قال: أتيت أبا أمامة فقال: "لا تسبوا الحجاج؛ فإنه عليك أمير، وليس عليّ بأمير".
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/18)
قوله: "وليس عليّ بأمير" لأن أبا أمامة في الشام، والحجاج والٍ في العراق.
وقال عبد الله بن المبارك: "من استخف بالعلماء ذهب آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته"
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/444)، والتبريزي في "النصيحة" (97).
وعن أبي جمرة الضبي قال: لما بلغني تحريف البيت خرجت إلى مكة، واختلف إلى ابن عباس حتى عرفني واستأنس بي، فسببت الحجاج عند بن عباس فقال: "لا تكن عوناً للشيطان". أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/104)
وعن عبد الله بن عكيم قال: "لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان، فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟ فيقول: إني أَعُد ذكر مساويه عوناً على دمه".
أحرجه ابن سعد في "الطبقات" (6/115)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (12/47)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (12/231، 232) وسنده صحيح.
وعن الزبرقان قال: كنت عند أبي وائل شقيق بن سلمة فجعلت أسب الحجاج وأذكر مساويه قال: "لا تسبه، وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي فغفر له".
أخرجه هناد السري في "الزهد" (2/464)، و"الحلية" لأبي نعيم (4/102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/190)، والسير (4/102)
وعن زائدة بن قدامة قال: قلت لمنصور بن المعتمر: إذا كنت صائماً أنال من السلطان؟ قال: لا، قلت: فأنال من أصحاب الأهواء؟ قال: نعم.
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت وآداب اللسان" (145)
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: "ما سب قوم أميرهم إلا حُرموا خيره".
أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (1/405)، وابن عبد البر في "التمهيد" (21/287)
وعن معاذ بن جبل قال: "الأمير من أمر الله عز ووجل، فمن طعن في الأمير فإنما يطعن في أمر الله عز وجل". أخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (1/404)
وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: "إياكم والطعن على الأئمة، فإن الطعن عليهم هي الحالقة حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إن الطاعنين هم الخائبون وشرار الناس".
أخرجه ابن زنجويه في الأموال "1/80)
وقال معروف الكرخي رحمه الله: "من لعن إمامه حرم عدله".
"طبقات الحنابلة" (1/386)، و"السير" (9/342)
وذكر ابن الجوزي في "مناقب الكرخي وأخباره" ص(132)
وعن خالد بن عبد الله ال القسري خطب يوم أن كان والياً على مكة فقال: "إني والله ما أُتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم".
ذكره ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" (6/299)، حوادث سنة إحدى وتسعين.
ففي هذه الآثار وما جاء في معناه دليل جلي وحجة قوية على المنع الشديد والنهي الأكيد عن سب الأمراء وذكر معايبهم.
فليقف المسلم حيث وقف القوم، فهم خير الناس بشهادة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.
وقال العلامة السعدي رحمه الله في "الرياض الناضرة" ص(41):
"واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم؛ فإن ذلك شراً وفساداً كبيراً".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "فتاوى العلماء الأكابر" ص(65):
سب الأمراء على المنابر ليس من العلاج، والعلاج الدعاء لهم بالهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة، هذا هو العلاج؛ لأن سبهم لا يزيدهم إلا شراً ولا يزيدهم خيراً، سبهم ليس من المصلحة ليس من الإسلام". اهـ
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح رياض الصالحين" (2/355):
"سب ولي الأمر والتشهير به، فهذا ليس من الصدع بالحق؛ بل هذا من الفساد، هذا مما يوجب إيغار الصدور وكراهة ولاة الأمور والتمرد عليهم، وربما يفضي إلى ما هو أكبر إلى الخروج عليهم ونبذ بيعتهم والعياذ بالله".
الخروج على ولي الأمر من سنن فارس والروم
فعن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: "جاءني رجل من الأنصار في خلافة عثمان فكلمني، فإذا هو يأمرني في كلامه بأن أعيب على عثمان، فتكلم كلاما طويلا وهو امرؤ في لسانه ثقل، ولم يكن يقضي كلامه في سريح، فلما قضى كلامه، قلت: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق، ولا جاء في الكبائر شيئا، ولكن هو هذا المال، فإن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه أولي قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون لهم أميرا إلا قتلوه، قال: ففاضت عيناه بأربع من الدمع، ثم قال: اللهم لا نريد ذلك".
أخرجه الخلال في "السنة" رقم (546) وسنده صحيح
أقوال أئمتنا وعلمائنا في تحريم الخروج على ولي الأمر
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (35/12):
"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم: بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ومن سيرة غيرهم".
وقال أيضاً في "منهاج السنة (3/391):
"قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أموراً منكرة، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف، كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم".
وقال أيضاً في "منهاج السنة" (4/529):
"وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمل لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم".
وقال أيضاً كما في "منهاج السنة" (3/391) ط: دار المعارف
"ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم; لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
وقال أيضاً كما في "مجموع الفتاوى" (14/472):
"لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه". اهـ
2- وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (3/307):
"نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال: «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» سداً لذريعة الفتنة".
3- وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يأمر بكف الدماء وينكر الخروج إنكاراً شديداً. أخرجه الخلال في "السنة" (1/131)
وقال الإمام أحمد أيضاً: "ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"
وقال ابن حجر في "الفتح (1/225):
"وكان الإمام أحمد يكره تحديث الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان".
وقال أبو الحارث الصائغ أحمد بن محمد رحمه الله: سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد، وهم قوم بالخروج، فقلت: "يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم، فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: سبحان الله، الدماء، الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يُسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه، يعني أيام الفتنة، قلت: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به "
أخرجه الخلال في "السنة" (89)
وقال حنبل رحمه الله: "اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، أبو بكر بن عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاءوا إلى أبي عبد الله، فاستأذنت لهم، فقالوا: يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك، فقال لهم أبو عبد الله: " فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته، ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: «عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر"
أخرجه الخلال في "السنة (96)، و"مسائل أحمد في العقيدة" (2/5)
4- وقال الإمام النووي رحمه في "شرح مسلم" (12/229)
"وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه".
5- ونقل ابن حجر في "فتح الباري" _13/7) عن ابن بطال قال: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح".
6- وقال الإمام الطحاوي في "المتن" ص(72):
"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
7- وقال الإمام أبو حاتم الرازي وأبو زرعة رحمهما الله: "ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة".
8- وقال الإمام البخاري رحمه الله: "لا ننازع الأمر أهله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولي الأمر، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" ثم أكد في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم"
انظر "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (1/176)
9- وقال الأشعري رحمه الله في رسالته أهل الثغر الإجماع الخامس والأربعين:
"وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئاً من أمورهم عن رضى أو غلبة وامتدت طاعته من بر وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل، وعلى أن يغزوا معهم العدو، ويحج معهم البيت، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويصلى خلفهم الجمع والأعياد".
10- وقال الإمام البربهاري رحمه الله في "شرح السنة" (76):
"لا يحل قتال السلطان والخروج عليه وإن جاروا، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "اصبر، وإن كان عبداً حبشياً"، وقوله للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". وليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدين والدنيا".
11- وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص(294):
"ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف".
12- وقال ابن قدامة رحمه الله في "لمعة الاعتقاد" ص(156):
"ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين".
13- وقال الإمام الآجري في "الشريعة" ص(28):
"فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان الإمام أو جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج".
وقال أيضاً في "الشريعة" (1/72):
"باب في السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة".
14- وقال الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرار (4/556):
"لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
15- وقال صديق حسن خان القنوجي رحمه الله في "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر":
"والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمر الناس، ولا ينزع يدًا من طاعته ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ولا يخرج على السلطان، يسمع ويطيع، ولا ينكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة، ولا يمنعه حقه".
16- وقال أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في "اعتقاد أئمة الحديث" ص(75):
"ولا يرون الخروج بالسيف عليهم، ولا القتال في الفتنة".
17- وقال حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في "أعلام السنة المنثورة" ص(189):
"وترك الخروج بالسيف عليهم مالم يظهر كفراً بواحاً، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق".
18- وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله وقد قيل به متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة، ولا يسب أصحاب النبي، ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذب بالقدر، ولا يشك في الإيمان، ولا يماري في الدين، ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، ولا يترك المسح على الخفين، ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل".
"شرح السنة" للالكائي (1/205) ولم يذكر العاشرة.
19- وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم" ص(41):
"لقد حذر السلف من مغبة الخروج على الولاة وإن جاروا وظلموا ما أقاموا فينا الصلاة ويبتدرون النصيحة، وما ينتظر هذا الذي خرج على السلاطين وسل سيفه وزعزع الأمن إلا أن ينام تحت أزيز الرصاص، وطارق مجهول، نسأل الله الأمن والأمان".
20- وقال العلامة الألباني رحمه في "السلسلة الصحيحة" (4/457) في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]:
"في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام، ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام، فتقع فتن كثيرة، وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته، والواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة، والأحكام العاطلة، والآراء الكاسدة المخالفة للسنة، وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى. والله المستعان".
وقال أيضاً كما في "فتاوى العلماء الأكابر" (96):
"... الخروج لا يجوز إطلاقاً، لذلك نحن هؤلاء الخارجين أو الداعين إلى الخروج".
21- وقال العلامة حمود التويجري رحمه الله في كتاب "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين ص(294):
"لا يجوز الخروج على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا، وإن الخارج عليهم لينازعهم الملك يجب قتله".
22- وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "شرح لمعة الاعتقاد" ص(158):
"والخروج على الإمام محرم، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان. متفق عليه".
23- وسئل العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "تحفة المجيب" ص(207):
السؤال: هل الخروج ضد الحكام مسموح؟
الجواب: الخروج ضد الحكام بلية من البلايا التي ابتلى بها المسلمون من زمن قديم، وأهل السنة بحمد الله لا يرون الخروج على الحاكم المسلم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه". ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الآخر منهما". وعبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: دعانا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.
فالخروج على الحاكم يعتبر فتنة، فبسببه تسفك الدماء ويضعف المسلمون، حتى لو كان الحاكم كافرًا فلا بد أن يكون لدى المسلمين القدرة على مواجهته، حتى لا تسفك دماء المسلمين، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]
فتاريخ أهل السنة من زمن قديم لا يجيزون الخروج على الحاكم المسلم، وفي هذا الزمن الخروج على الحاكم الكافر لا بد أن يكون بشروط، فإذا كان جاهلاً لا بد أن يعلم، وألا يؤدي المنكر إلى ما هو أنكر منه، ولا تسفك دماء المسلمين.
الخروج ليس مقتصراً على السيف
إننا نرى بعض الدعاة اليوم لا يرون الخروج على الحكام بالسيف ولكن بالتهييج والتشهير والكلام من على المنابر وذكر مثالبهم وتصيد لعثراتهم وغير ذلك، مما يثير العامة على الولاة، وهذا العمل مخالف لمنهج السلف الصالح، إنه فعل أهل البدع، بل صنيع فرقة من فرق الخوراج، فقد قال الحافظ بن حجر رحمه الله في "هدي الساري" ص(283) في مقدمة "فتح الباري": وهم فرقة تسمى القعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك".
فقد سئل العلامة ابن باز رحمه الله كما في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(20):
س: هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟
الجواب: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير. أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل، فيذكر الزنا ويذكر الخمر ويذكر الربا من دون ذكر من فعله فذلك واجب؛ لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكماً ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه قال بعض الناس لأسامة بن زيد: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم، إني أكلمه فيما بين وبينه دون أن أفتح أمراً لا أحب أن يكون أول من افتتحته"([16])
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علناً عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه.
وقد روى عياض بن غنم الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذلك، وإلا فقد أدى الذي عليه"([17])
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم".
وقال العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(162):
"ليست النصيحة أن الإنسان يتكلم في أخطاء ولاة الأمور على منبر أو على كرسي أمام الناس، هذا لا يخدم المصلحة، وإنما يزيد الشر شراً.
وقال العلامة النجمي رحمه الله كما في "المورد العذب الزلال" ص(22):
"ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين: خروج بالقول، وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر؛ لأن ذلك يعد ذلك عصياناً لهم وتمرد عليهم وإغراء بالخروج عليهم وزرعاً لعد الثقة فيهم وتهييجاً للناس عليهم، وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له".
شروط الخروج على ولي الأمر
لا يجوز الخروج ولي الأمر إلا بشروط، ومنها:
1- ظهور الكفر البواح
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان".
رواه البخاري (7055)، ومسلم (1709)
قال الشوكاني رحمه الله في "رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين" (32):
"إن من لوازم الملك غالباً وجود الظلم والجور، وهذا في حد ذاته سبب مشروع يدفع العلماء إلى المشاركة في أمر الحكم للتخفيف في غلواء الحاكم والحد من طغيانه، ثم يطاع فيما هو طاعة لله، ويعصى فيما هو معصية لله، ولكن لا ينبغي الخروج عليه إلا أن يكون كفراً بواحاً".
وقال أيضاً في "السيل الجرار" (4/511):
"قد تواترت الأحاديث في النهي عن الخروج على الأئمة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أو يتركوا الصلاة، فإذا لم يظهر من الإمام الأول أحد الأمرين لم يجز الخروج عليه وإن بلغ في الظلم أي مبلغ، لكنه يجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر".
2- القدرة على إزالته، ولا يترتب عليها شر كبير منه، وهذا الشرط مجمع عليه عند المسلمين كافة.
3- أن لا يؤدي الخروج عليه إلى أن يخلفه حاكم مثله أو أظلم منه.
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "الفتاوى" (8/204):
"أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرا أكثر فليس لهم الخروج؛ رعاية للمصالح العامة.
والقاعدة الشرعية المجمع عليها: (أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه). أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين".
4- اعتماد الخارجين على أنفسهم من قوة ومال وسلاح وغيره.
قال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم ص(14):
"لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين:
أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان.
والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شر أكبر منه، وبدون ذلك لا يجوز.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الصحوة الإسلامية ص(126):
"... فليعلم أن الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط، بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان" متفق عليه.
الشرط الأول: "أن تروا" بمعنى أن تعلموا علماً يقينياً بأن السلطة ارتكبت كفراً.
الشرط الثاني: أن يكون الذي ارتكبته السلطة كفراً، فأما الفسق فلا يجوز الخروج عليهم بسببه مهما عظم.
الشرط الثالث: "بواحاً" أي معلناً صريحاً لا يحتمل التأويل.
الشرط الرابع: "عندكم فيه من الله برهان" أي: مبني على برهان قاطع من دلالة الكتاب والسنة أو إجماع الأمة، فهذه أربعة شروط.
والشرط الخامس: يؤخذ من الأصول العامة من الدين الإسلامي، وهو قدرة هؤلاء المعارضين على إسقاط السلطة؛ لأنه إذا لم يكن لديهم القدرة انقلب الأمر عليهم لا لهم، فصار الضرر أكبر بكثير من الضرر المترتب على السكوت على هذه الولاية، حتى تقوى الجبهة الأخرى المطالبة لدين الإسلام، فهذه الشروط الخمسة لا بد منها لإسقاط الحكم العلماني في البلاد ..."
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "صعقة الزلزال لنسف أباطيل الرفض والاعتزال" (2/286) بعد أن ساق جملة من الأحاديث على تحريم الخروج على أئمة المسلمين، إلى أن قال:
"ولا ننصح بالخروج على الحاكم حتى ولو رأينا كفراً بواحاً، بل لا يجوز الخروج إلا بشروط"
الأول: أن تكون قوة المسلمين مقاربة أو مكافئة لقوة([18]) العدوة والكافر؛ فإن قال قائل: فإن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66} [الأنفال: 66]
فالجواب: إن وجد مجاهدون عندهم من الإيمان والصدق والعزيمة ربع ما عند من نزلت فيهم الآيات فلا بأس بذلك.
الثاني: يكون عندهم استغناء ذاتي فلا يطلبون العون من أمريكا وغيرها من الدول الكافرة أو العميلة للدول الكافرة، وكذا لا يردون القضايا إلى الأمن ولا إلى الأمم المتحدة؛ فإنه لا يرجى من الدول الكافرة أو العميلة أن تنصر دين الإسلام.
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
الثالث: أن يؤمن التلبيس على عوام المسلمين مع الحاكم الكافر فيرجع القتال بين المسلمين أنفسهم، ويترتب على هذا أنه يجب توعية الشعوب قبل دعوتها إلى الجهاد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقم بالجهاد حتى أذن له ربه فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ولا بد قبل الخروج إلى الجهاد وفي أثناء الجهاد أن يستفتى العلماء الأفاضل الراسخون في العلم".
وقال تلميذه البار الشيخ البطل المجاهد يحيى بن علي الحجوري حفظه الله وأيده:
"الخروج على ولاة الأمور من أمر الجاهلية التي يجب على المسلمين البعد عنها، وأن من خالف ذلك لم يجن على نفسه وعلى غيره إلا الويلات والفتن، وفي التاريخ من ذلك أوضح العبر، فقد جرب المسلمون الخروج على ولاة الأمور فلم يروا منه إلا الشر والفتن، فقد خرج الخوارج على خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه صحاب جليل ومن المبشرين بالجنة، استحلوا دمه وقتلوه وهو يقرأ القرآن، وهكذا خرج الخوارج على خليفة المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، صحابي جليل ومن المبشرين بالجنة، واستحلوا دمه وقتلوه وهو خارج لصلاة الفجر، وهكذا سلسلة طويلة من خروج الخوارج علة ولاة أمور المسلمين وإثارتهم للفتن، فالخوارج فرقة من فرق الضلال، فهم رأس الفساد ورأس البدعة ورأس الشقاق فهم فرقوا كلمة المسلمين وأضعفوا جانب المسلمين.
فلهذا لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم أحداً خرج على ولاة الأمور وأحدث فتنة وقتالاً ونزع الطاعة وفارق الجماعة، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه كائناً من كان" رواه مسلم من حديث عرفجة الأشجعي رضي الله عنه.
ففي ذلك بيان أن الإسلام يراعي المصالح العامة ولا يجوز دفع الشر بشر أكبر منه بإجماع المسلمين، والقاعدة الشرعية تقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ولهذا يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة أمورنا والدعوة لهم بالخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبر فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه([19]).
عواقب الخروج على ولي الأمر
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في :منهاج السنة" (3/391):
"لا يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته. اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/4):
"إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسوغ إنكاره".
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" ص(10):
"الخروج على ولاة الأمور يسبب فساداً كبيراً وشراً عظيماً، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصر المظلوم وتختل السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير".
وقال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في "المورد العذب" ص(22):
"وإنما حرم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الخروج على والولاة المسلمين، لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البريئة، ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف، بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إشارة الفتنة، لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين، بل هو من الصعوبة بمكان، لذلك فقد اشتد تحذير المشرع صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، ففي "صحيح مسلم" رقم (1851) عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية".
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" رواه البخاري (6530)، (7053)، ومسلم (1849)
وفي "صحيح مسلم" أيضاً رقم (1847) عن أبي إدريس الخولاني سمعت حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» وأخرجه البخري (3606)
وذكر عدة أحاديث.
فنقول يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة أمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم قيما لم يكن معصية لله تعالى.
ما يجب على ولي الأمر تجاه الرعية
حفظ البلاد من الأعداء، وتأمين السبل، ونشر الأمن والاستقرار في البلاد، وغير ذلك من الواجبات الجسيمة، والحقوق الكثيرة للرعية على ولاتهم مما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وألزمهم القيام بها ورعايتها للسير بالرعايا والبلاد نحو الرقي والعزة والسعادة في الدنيا والأخذ بأسباب الفوز والنجاة في الآخرة، هذا وقد بين الفقهاء رحمهم الله الواجبات على ولاة أمور المسلمين من الخلفاء والملوك والسلاطين بالتفصيل، وأوضحوها أحسن إيضاح بل وصنفوا فيها مصنفات خاصة، وهي ما يعرف بكتب الأحكام السلطانية، وبكتب السياسة الشرعية.
وثد بينوا رحمهم الله أنه يلزم الإمام من أمور الرعية إجمالاً عشرة أمور: ذكرها أبو يعلى في كتابه "الأحكام السلطانية" ص(28) وهي:
أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة. فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من الزلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين.
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا مع غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال لا تقديم فيه ولا تأخير.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح. وقد قال الله تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". اهـ
فعلى ولاة أمور المسلمين: أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وأهليهم وما لوا، وأن يكونوا قدوة صالحة لرعاياهم، حتى يسيروا على نهجه، ويقلدوه في صالح أعماله، فإنه إذا استقامت الولاة استقامت الرعية، وإذا فسدت الولاة كثر الفساد في الرعية، كما قيل: "الناس على دين ملوكهم".
وباستقراء التاريخ الإسلامي نجد أنه كان الخلفاء والملوك صالحين مستقيمين في أنفسهم انعكس ذلك على الرعية بالخير والاستقامة، والعكس بالعكس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "السياسة الشرعية" ص(40):
"وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه؛ هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك"
ومما روي في ذلك: أن سعد بن أبي وقاص لما دخل قصر كسرى بعد انتصاره على الفرس في وقعة القادسية أخذا ما في القصر، وأرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وصلت إلى عمر أخذ يقلبها ويقول: "إن قوماً أدوا هذا لأمناء" فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لقد حففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت" ثم قسم عمر ذلك في المسلمين([20]).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن الناس لا يزالون مستقيمين ما استقامت لهم أمتهم وهداتهم"([21])
وقال أيضاً: "الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا"([22]).
وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم ما ذكره سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم لأهله فقال: "لا أعمن أحداً وقع في شيء منا نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة"([23])
فعلى ولاة أمر المسمين أن يحذروا من مخالفة شرع الله، ومن مغبة التقصير والإخلال فيما أوجب الله عليهم في أنفسهم، ومما أوجب عليهم من رعاية أمور الدولة، والاهتمام بحقوق الرعية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التهديد البليغ، والوعيد الشديد لمن ولي أمور المسلمين فلم يحطهم برعايته ولم ينصح لهم في ولايته ولم يقم بما أوجب الله عليه من حقوق وواجبات([24]).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة" ص(27):
"فحقوق الرعية على الولاة : أن يقوموا بالأمانة التي حملها الله إياها وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة وذلك بإتباع سبيل المؤمنين، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيها السعادة لهم ولرعيتهم ومن تحت أيديهم، وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم والارتباط بينهم والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم؛ فإن من اتقى الله اتقاه الناس، ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه؛ لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء.
ما يجب على الرعية تجاه ولي الأمر
حقوق ولاة الأمور على الرعية وعظيم ما لهم من حقوق وواجبات، اهتم أهل السنة والجماعة بإيضاحها وبيانها والتأكيد على رعايتها، والقيام بها، فمن مظاهر هذه الاهتمام: أنهم نصوا على هذه الحقوق في كتب العقائد والتوحيد، وبينوا أم مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الأمر هو مقتضى دا دل عليه الكتاب والسنة، من وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور، إلا أن يأمروا بمعصية فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لهم؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ويرون النصح والدعاء لهم وإعانتهم على الحق وتحريم الخروج عليهم ونزع الطاعة من أيديهم، سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين أم كانوا من أئمة الجور والظلم، ما دام أنهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام؛ فإن الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع ما فيه من ضرر فإنه أخف ضرراً وأيسر خطراً من ضرر الخروج عليهم؛ ولهذا جاء الأمر من الشارع بوجوب السمع والطاعة وتحريم الخروج على الأئمة والولاة، وإن جاروا وظلموا إلا أن يرتكبوا كفراً بواحاً.
كما نص أهل السنة والجماعة على أن حقوق ولاة الأمور على الرعية إجلالهم وتوقيرهم وتعظيمهم في النفوس؛ لأن ذلك أوقع في هيبتهم حتى يحذرهم أهل الفسق والفجور.
كما حذر أهل السنة والجماعة من والوقيعة في أعراض الأئمة والتنقص لهم والدعاء عليهم؛ لأن هذه الأمور من أسباب وجود الضغائن والأحقاد بين الولاة والرعية، ومن أسباب نشوء الفتن والنزاع بين صفوف الأمة.
والواجب على المسلم أن يسعى جهده في الإصلاح بين المؤمنين، كان من أهل الدين والدعوة أو كان ممن له تأثير على قومه ومجتمعه، فإن الواجب عليه في ذلك أكبر والمسؤولية عليه أعظم في الحرص على جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم والعمل على حصول الألفة والمحبة بين الولاة والرعية؛ لما فيه من نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فهذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في حقوق ولاة الأمور على الرعية.([25])
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة" ص(28):
"وأما حقوق الولاة على الرعية فهي: النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم ، وتذكيرهم إذا غفلوا والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق ، وامتثال أمرهم في غير معصية الله ، لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه ، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) الآية .وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". متفق عليه
وقال عبد الله بن عمرو : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "الصلاة جامعة" فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجئ فتنة يرقق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاءه آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم .
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثم سأله مرة ثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". رواه مسلم
ومن حقوق الولاة على الرعية: مساعدة الرعية لولاتهم من مهماتهم، بحيث يكونون عوناً لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع؛ حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسئولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب".
بعض شبهات المتظاهرين المهمة
الشبهة الأولى: حديث ابن عباس قال: سألت عمر رضي الله عنه، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت: الله لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالت أختي: هو في دار الأرقم بن الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابه ثم نثره نثرة فما تمالك أن وقع على ركبته فقال: «ما أنت بمنته يا عمر؟» قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، قال: فقلت: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم»، قال: فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق، وفرق الله بي الحق والباطل"
رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/40)، والبزار (3/169) وإسناده ضعيف جداً، في سنده إسحاق بن عبد الله وهو ابن أبي فروة، قال البخاري: تركوه، وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه، وكذبه بعضهم. وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (6531)
الشبهة الثانية: حديث أبي هريرة عند أبي داود (5153)
قال الألباني: حسن صحيح، قصة الرجل الذي جاء يشكو جاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الرد عليها:
سئل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في "شرح سنن أبي داود" (29/215):
السؤال: حديث أبي هريرة في الرجل الذي جاء يشكو جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اطرح متاعك في الطريق" استدل به بعض الناس على جواز المظاهرات، فهل هذا صحيح؟
الجواب: هؤلاء يتشبثون بخيوط العنكبوت كما يقال، ويبحثون عن شيء يبنون عليه باطلهم، المظاهرات من قبيل الفوضى، وهذا الرجل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك حتى إن جاره يتأثر بسبب ذلك.
ثم أيضاً في هذا الزمان لا يقال: إن كل من يشتكي جاره يكون مصيباً، قد يكون هذا الذي يشتكي جاره هو الأظلم، بخلاف هذا الذي أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مظلوم.
في هذا الزمان بعض الجيران يحصل بينه وبين جاره شيء، وكل واحد يقول: إنه يؤذيني، وقد يكون هذا الذي خرج وأظهر متاعه أسوأ من ذلك الذي لم يخرج متاعه، فلا يقال إن الحديث على إطلاقه في كل جار؛ لأن أحوال الناس تتفاوت وتتغير".
قلت: 1- الذي أمره هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
2- أنه صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يخرج، ولم يخرج معه نساءه وأطفاله.
3- أنه صلى الله عليه وسلم لم يجوز له الخروج عليه أو عن طاعته.
ولما قام يخطب وعليه ثوبان فقال: اسمعوا وأطيعوا فقال أحد الصحابة: لا سمع ولا طاعة فقال: لمه؟ فأجاب الصحابي: أعطيت الناس ثوباً واحداً ولك ثوبان.
فقال الخليفة الراشد: يا عبد الله بن عمر أليس هذا الثوب الآخر ثوبك أعطيتنيه؟ فقال عبد الله: بلى، فقال الصحابي: الآن نسمع ونطيع.
هذا الأثر ذكره في بعض كتب التواريخ والسير بلا أسناد، وذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (1/203) وفيه انقطاع.
قلت: هناك شبه أخرى، إنما ذكرت هذه الشبة التي يدندن بها المتظاهرون.
الشبهة الثالثة: استدلالهم بأثر.
قال أبو بكر رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (11/336) وهو ضعيف فيه رجل مبهم بين معمر بن راشد وبين أبي بكر.
وجاء عند عبد الرزاق (11/336) و"طبقات ابن سعد" (3/212) من طريق الحسن البصري عن أبي بكر الصديق خطب فقال: "فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني".
وهذا إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين الحسن البصري وبين أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن الحسن إنما ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
الشبهة الرابعة:
أثر: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني، فأجاب رجل ممن كان حاضراً: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا، فقال: الحمد الله الذي جعل في أمة محمد من إذا اعوججت قومني بسيوفهم. قلت :الأثر لايصح
فتاوى العلماء في تحريم المظاهرات
قال اللجنة الدائمة (15/384):
"ننصحك وكل مسلم ومسلمة بالابتعاد عن هذه المظاهرات الغوغائية التي لا تحترم مالا ولا نفسا ولا عرضا، ولا تمت إلى الإسلام بصلة، ليسلم للمسلم دينه ودنياه، ويأمن على نفسه وعرضه وماله. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (6/447):
"ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شراً عظيماً على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم.
ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها، أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالنصيحة مني لكل داع إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه، وفي خطبته، وفي مكاتباته، وفي جميع تصرفاته حول الدعوة، يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة، وهم الأئمة، وقد صبروا، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وصبر هود، وصبر صالح، وصبر شعيب، وصبر إبراهيم، وصبر لوط، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم".
وسئل العلامة ابن باز أيضاً كما في "الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية" ص181):
س: هل المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها يعتبر شهيداً أو في سبيل الله؟
ج: لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج، ولكن أرى أنه من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور ومن اسباب ظلم بعض الناس والتعدي على بعض الناس بغير حق، ولكن الأسباب الشرعية: المكاتبة والنصيحة والدعوة إلى الخير بالطرق الشرعية، وقد شرحها أهل العلم وشرحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإحسان بالمكاتبة والمشافهة مع الأمير ومع السلطان، والاتصال به ومناصحته والمكاتبة له دون التشهير على المنابر بأنه فعل كذا وصار منه كذا، والله المستعان". اهـ
وسئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في "الجواب الأبهر" ص(75):
س: هل تعتبر المظاهرات وسيلة من وسائل الدعوة المشروعة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن المظاهرات أمر حادث لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة رضي الله عنه ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمراً ممنوعاً؛ حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها، ويحصل فيه أيضاَ اختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشيوخ وما أشبه من المفاسد والمنكرات.
وأما مسألة الضغط على الحكومة فيعني إن كانت مسلمة فيكفيها واعظاً كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير ما يعرض على المسلم، وإن كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء المتظاهرين وسوف تجاملهم ظاهراً، وهي ما هي عليه من الشر في الباطن.
لذلك نرى أن المظاهرات أمر منكر، وأما قولهم: إن هذه المظاهرات سلمية فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية، وأنصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف، فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار وأثنى على الذين اتبعوهم بإحسان".
وقال أيضاً في "لقاءات الباب المفتوح" (179-18)
" عليك باتباع السلف، إن كان هذا موجوداً عند السلف فهو خير، وإن لم يكن موجوداً فهو شر، ولا شك أن المظاهرات شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء؛ إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان؛ لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن.
وإذن بعض الحكام بها ما هي إلا دعاية، وإلا لو رجعت إلى ما في قلبه لكان يكرهها أشد كراهة، لكن يتظاهر بأنه كما يقول: ديمقراطي وأنه قد فتح باب الحرية للناس، وهذا ليس من طريقة السلف".
وقال العلامة الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة" عند حديث رقم (6531):
"ولعل ذلك كان السبب أو من أسباب استدلال بعض إخواننا الدعاة على شرعية (المظاهرات) المعروفة اليوم، وأنها كانت من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة! ولا تزال بعض الجماعات الإسلامية تتظاهر بها، غافلين عن كونها من عادات الكفار وأساليبهم التي تتناسب مع زعمهم أن الحكم للشعب، وتتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال أيضاً رحمه الله في "شرح وتعليق العقيدة الطحاوية" (69):
"وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلاح على الحكام. بواسطة الانقلابات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة ..."
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في "قمع المعاند" (394):
"إن التمثيليات والمظاهرات وكثير من الأشياء العصرية جاءتنا من قبل أعداء الإسلام".
وقال أيضاً في "غارة الأشرطة" (1/412): المظاهرات تقليد لأعداءالإسلام وكذلك الإضراب . وقال أيضا: (2/152)
"المظاهرات طاغوتية في شوارع صنعاء، فوالله لقد أهانوا الإسلام.
وقال أيضاً في "ذم المسألة" ص(32) في المقدمة:
"ثمرة تلك المظاهرات التي يقلدون فيها أعداء الإسلام .."
وقال العلامة المجاهد البطل يحيى بن علي الحجوري حفظه الله وأيده:
"إن هذه المظاهرات ليس لها أصل في ديننا البتة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون ولم يُفتِ بها أحد من أهل العلم الموثوق بعلمهم في هذا العصر، وهي من التشبه بالكافرين وهي أصل دعوة الخوارج الذين يخرجون على ولاة الأمور ويسفكون الدماء ويكفرون المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه([26]).
وقال العلامة أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في المورد العذب الزلال ص(228) ط: دار الفرقان في معرض ملاحظاته على جماعة الإخوان المسلمين:
الملاحظة الثالثة: تنظيم المسيرات والمظاهرات، والإسلام لا يعترف بهذا الصنيع ولا يقره بل هو محدث من عمل الكفار، وقد انتقل من عندهم إلينا، أفكلما عمل الكفار عملاً جاريناهم فيه وتابعناهم عليه، إن الإسلام لا ينتصر بالمسيرات والتظاهرات .."
وسئل العلامة صالح الفوزان حفظه الله كما في "الأجوبة المفيدة" ص(231):
س: هل من وسائل الدعوة القيام بالمظاهرات لحل مشاكل ومآسي الأمة الإسلامية ؟ .
الجواب: ديننا ليس دين فوضى، ديننا دين انضباط، دين نظام، ودين سكينة. والمظاهرات ليست من أعمال المسلمين وما كان المسلمون يعرفونها، ودين الإسلام دين هدوء ودين رحمة لا فوضى فيه ولا تشويش ولا إثارة فتن، هذا هو دين الإسلام.
والحقوق يتوصل إليها دون هذه الطريقة، بالمطالبة الشرعية، والطرق الشرعية، هذه المظاهرات تحدث فتناً كثيرة، تحدث سفك دماء، وتحدث تخريب أموال، فلا تجوز هذه الأمور".
قلت: فهذه فتاوى العلماء وغيرهم في تحريم المظاهرات، وأنها لا تجوز وأنها تشبه بالكفار.
نصيحة من إمام جليل
قال العلامة ابن باز رحمه الله كما في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/379):
"كما أوصي العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يجتنبوا المسيرات والمظاهرات بين المسلمين، والفتنة بين الحكام والمحكومين". اهـ
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى :
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقال الله تعالى :
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وقال تعالى :
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]
وقال تعالى واصفاً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78، 79]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]
بعض الناس يستدل بهذه الآية على عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أقول لك رداً على شبهتك عن أبي يكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105]، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب»
رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1973) .ينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمور :1-العلم 2-الرفق 3-الحلم والصبر ,قال شيخ الإسلام رحمه الله في رسالتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص42:فلابد من هذه الثلاثة العلم ،والرفق والصبر ،العلم قبل الأمر والنهي ،والرفق معه ،والصبربعده ,
((الخاتمة ))
إلى هنا و أكتفي بهذا القدر القليل الذي يسرالله لي جمعه في هذه الرسالة ،والتذكير بها في ((كيفية التعامل مع ولي الأمر في ضوء الكتاب والسنة ))فنسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين ،وأن يوفق المسلمين وولاة أمورهم للتمسك بدينهم ،والبصيرة فيه وأن يعز دينه ويعلي كلمته ،وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه :أبويوسف حميد بن علي بن حمود الجمالي
عافاه الله ومن عليه بالصحة ورزقه العلم النافع والعمل الصالح
بتاريخ 27جمادى أولى 1434هجرية على صاحبها الصلاة والسلام .
المحتويات
المقدمة 2
بماذا تحصل الخلافة لولي الأمر. 3
وجوب السمع والطاعة لولي الأمر. 4
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة 11
عليك بالجماعة وإياك والفرقة 12
شروط السمع والطاعة لولي الأمر. 13
حاجة الناس إلى ولي أمر يسمعون ويطيعون له 17
حاجة ولي الأمر إلى بطانة صالحة 18
محبة ولي الأمر وتوقيره واحترامه وعدم إهانته 20
النصيحة لوي الأمر فيما بينه وبين الناصح سراً 26
الرفق في نصيحة ولي الأمر. 30
من الخطأ ظن بعض الناس أن ولي الأمر إذا نصح بأمر لا بد من فعله 31
ليس من هدي السلف التشهير بعيوب ولي الأمر على المنابر. 32
أداء العبادات مع ولاة الأمور سواء كانوا فجاراً أو أبراراً من صلاة وزكاة وحج وجهاد 35
الصبر على جور الأئمة من أصول السلفية 38
إمام جائر خير من فتنة قائمة 43
تحريم منازعة ولي الأمر. 43
الخروج على ولي الأمر من سنن فارس والروم. 47
الخروج ليس مقتصراً على السيف.. 55
شروط الخروج على ولي الأمر. 57
عواقب الخروج على ولي الأمر. 61
ما يجب على ولي الأمر تجاه الرعية 63
ما يجب على الرعية تجاه ولي الأمر. 66
فتاوى العلماء في تحريم المظاهرات.. 70
نصيحة من إمام جليل. 75
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 75
([1]) قلت: وهذا بالإجماع.
قال الإمام أحمد رحمه الله في العقيدة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: "... ومن غلب عليهم يعني الولاة – بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً " "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ص(23)، وفي "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/241-246)
واحتج الإمام أحمد بما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "... وأصلي وراء من غلب"
وقال الشافعي كما رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/448): عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يُسمى خليفة ويجمع الناس عليه فهو خليفة" اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح (13/7): "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء" اهـ
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اله كما في "الدرر السنية" (7/239): "الأئمة مجموع من كل مذهب أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء ..." اهـ
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله كما في "مجموع الرسائل والمسائل النجدية" (3/168): "وأهل العلم ... متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفراً بواحاً، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم" اهـ
([2]) أخرجه مسلم (1885) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه
([3]) أخرجه مسلم (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
([4]) أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
([5]) الحديث جاء عن ثلاثة من الصحابة:
1- عن علي رضي الله عنه، رواه أحمد (1/94، 129) وهو صحيح.
2- وعن الحكم بن عمرو الغفاري، وعمران بن حصين، رواه أحمد (5/66) وهو صحيح.
وصححه الألباني في "الصحيحة" (179-180)
([6]) من "نصيحة مهمة في ثلاث قضايا للأئمة" نجد ص(41)
([7]) من "نصيحة مهمة في ثلاث قضايا للأئمة" نجد ص(49)
([8]) وقد جاء عن طارق بن شهاب البجلي الأحمسي رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر" رواه النسائي (4209)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1100)
والغرز: هو ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، قيل: لا يختص بجلد وخشب.
([9]) قول الإمام أحمد رحمه الله: أخرجه حنبل بن إسحاق في "محنة الإمام أحمد" ص(74)، والخلال في "السنة" رقم (14)
([10]) التعليق على "الفرق بين النصيحة والتعيير" لابن رجب ص(39)، وانظر الديوان المنسوب للشافعي ص(79)
([11]) أخرجه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
([12]) هو كنانة بن بش أحد الخوارج على عثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه سيف بن عمر في كتاب "الفتوح" كما في "فتح الباري" (2/189)
([13]) قال الحافظ في "الفتح" (13/7): والمراد بالميتة الجاهلية حالة الموت كموت أهل الجاهلية، على ضلال وليس له إمام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً".
([14]) قلت: انظر إلى فقه هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه لم يقل لهم: اخرجوا عليه، ومع هذا الحجاج مجرم سفاك للدماء، وهو مسلم عاصي، وهذا الذي عليه أهل السنة.
([15]) قال المناوي في "فيض القدير" (6/499): جعل الله السلطان معونة لخلقه، فيصان منصبه عن السب والامتهان؛ ليكون احترامه سبباً لامتداد فيء الله ودوام معونة خلقه، وقد حذر السلف من الدعاء عليه؛ فإنه يزداد شراً ويزداد البلاء على المسلمين".
([16]) أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989)
([17]) أخرجه أحمد في "المسند" (14909)، وابن أبي عاصم في "السنة" وغيرهما، وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (1096)
([18]) فهذا لأمر مهم، فإن الحماقة والسفه أن يخرج الخارج بسكين وعصا أما المدفع والدبابة وغير ذلك من أنواع الأسلحة الحديثة.
([19]) نقلاً من مطوية "نصيحة وإنذار باجتناب الفتن والدمار"
([20]) انظر: "مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه" لابن الجوزي ص(91)، "عيون الأخبار" لابن قتيبة (1/52، 53)
([21]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/292)، والبيهقي (8/62)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/185) وسنده صحيح.
([22]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/292)
([23]) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/289)
([24]) كتاب "الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية" (13-16) للشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله.
([25]) كتاب "الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية" ص(26-28) للشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله.
([26]) نقلاً من مطوية "نصيحة وإنذار باجتناب الفتن والدمار"
تعليق