النصح الأمين
لمن يتصفح مواقع الحزبيين
كتبه:
أم حاتم بنت علي الجزائرية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل اللهم وسلم وبارك على محمد الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فإن من أصول أهل السنة والجماعة المستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم -كما لا يخفى على كل سلفي أدرك صفاء هذا المنهج وخلوصه من التميعات والتناقضات-: هجرانُ أهل البدع بترك مكالمتهم أو مجالستهم أوالإصغاء إلى حديثهم أو النظر في كتبهم.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153، 154].
وقال الله تعالى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)} [هود:113].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان:72].
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم» ([1]).
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
وعن الحسن البصري وابن سيرين -رحمهما الله تعالى- قالا: "لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم" ([2]).
وعن أبي قلابة رحمه الله قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون "([3])
وعن ثابت بن عجلان ، قال : « أدركت أنس بن مالك ، وابن المسيب ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوسا ، ومجاهدا ، وعبد الله بن أبي مليكة ، والزهري ، ومكحولا ، والقاسم أبا عبد الرحمن ، وعطاء الخراساني ، وثابتا البناني ، والحكم بن عتيبة ، وأيوب السختياني ، وحمادا ، ومحمد بن سيرين ، وأبا عامر - وكان قد أدرك أبا بكر الصديق- ، ويزيد الرقاشي ، وسليمان بن موسى ، كلهم يأمرونني بالجماعة، وينهونني عن أصحاب الأهواء ([4]).
وقال مفضل بن مهلهل: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته فحذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدو مجلسه ثم يُدخل عليك بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك؟! ([5])
وعن سلام بن أبي مطيع أن رجلا من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، قال أيوب وجعل يشير بإصبعيه: ولا نصف كلمة، ولا نصف كلمة([6]).
وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: "لا تسلم على أهل الأهواء، ولا تجالسهم إلا أن تغلظ عليهم القول ولا يعاد مريضهم ولا تحدث عنهم الأحاديث"([7]).
وهكذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله قال عنه البيهقي : "وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه شديدا على أهل البدع مجاهرا ببغضهم وهجرهم " ([8]) .
والآثار عن السلف في التحذير من البدع وأهلها، و هجرهم، و التبرؤ منهم كثيرة جدا، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.
إذا تقرر هذا؛ فيالله العجب من بعض السلفيين الذين عرفوا هذا المنهج المبارك ووالوا وعادوا عليه ثم يستزلهم الشيطان إلى الدخول إلى مواقع الحزبيين في الشبكات العنكبوتية لا حبًّا لهم ورغبةً فيما عندهم وإنما لمجرد النظر فيما استجدّ من أخبارهم! وربما نقلوا ذلك لغيرهم! وفي هذا أقول وبالله التوفيق:
أولا:إن هذا –والله- مدخل شيطاني وبيل، وهو مصادم لما تقدم من وجوب هجران أهل البدع والأهواء وترك الإصغاء إلى حديثهم والنظر في كتبهم؛ فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة، وقد جاء عن الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- أنه قال: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.
قال الذهبي معلقا: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.اهـ سير أعلام النبلاء [7 /261].
فليت شعري كيف غفل عن هذا بعض السلفيين الذين يتصفحون مواقع الحزبيين؟! وكيف أمنوا على أنفسهم الفتنة ولم يأمنها من هو أرسخ منهم علما وفقها، وأعظم ورعا وتقوى لله عز وجل؟!
عن معمر بن راشد قال كنت عند ابن طاوس وعنده ابن له إذ أتاه رجل من المبتدعة فتكلم بشيء فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد ولا تسمع من قوله شيئا؛ فإن القلب ضعيف.([9])
وللناس عبر –وأي عبر- في قصص مشهورة لعلماء وقعوا في البدعة بسبب مخالطتهم لأهلالأهواء؛ فمن ذلك:
* عمران بن حطان (ت: 84 هـ) :
قال عنه الذهبي في ترجمته: ".. من أعيان العلماء، لكنه من رؤوس الخوارج.
... حدث سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، قال: تزوج عمران خارجية وقال: سأردها، قال: فصرفته إلى مذهبها".اهـ سير أعلام النبلاء [4 /214].
* عبد الرزاق بن همام الصنعاني([10]) -رحمه الله-(ت:211هـ) :
قال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-في ترجمته: "قال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: سمعت ابن معين يقول: سمعت من عبد الرزاق كلاماً يوماً استدللت به على ما ذكر عنه من المذهب، يعني التشيع. فقلت له: إن أستاذيك اللذين أخذت عنهم ثقات كلهم أصحاب سنة: معمر، ومالك، وابن جريج، وسفيان، والأوزاعي. فعمّن أخذت هذا المذهب؟ فقال: قدم علينا جعفر بن سليمان الضبعي، فرأيته فاضلاً حسن الهدي، فأخذت هذا عنه".اهـ !
* أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله- (ت:461هـ) :
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله وهو يذكر بعض حوادث سنة (461هـ) في موسوعته "البداية والنهاية" (12/120):"وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء بن عقيل، وهو من كبرائهم، بتردده إلى أبي علي بن الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال، وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه تخرج معها، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة وتأذى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثم اصطلحوا فيما بينهم، بعد اختصام كبير".اهـ
قلت: فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟! ونحن نرى في زماننا هذا نماذج كثيرة من الذين فُتنوا بسبب مخالطة أهل البدع ومنهم علماء ـ نسأل الله أن يردهم إلى الحق ردا جميلا ـ فبعدما كانوا يحذرون من أهل الأهواء والتميع والضلال، ويقررون وجوب هجرهم والتحذير منهم انقلبوا على أعقابهم، صاروا يتساهلون مع بعض المبتدعة، بل يدافعون عنهم ويزكونهم ويطعنون الطعون الشديدة فيمن يتكلم فيهم نصحا، ويصفونهم بالحدادية ويحذرون منهم! نسأل الله السلامة والعافية.
فالحذر الحذر من التواني في التّميز عن أهل الأهواء، ولا يغترنّ أحد بما يعلمه من نفسه من الثبات على المنهج السلفي وبغض البدع وأهلها أن يُقامر بدينه؛ فيتساهل في الاطلاع على ما عند الحزبيين في الشبكات العنكبوتية أو غيرها! قائلا بلسان حاله: "آخذ الحق وأترك الباطل"! سبحان الله! أين أنت من مواقف أئمة السلف من كتب أهل البدع؟! هل قالوا: خذ الحق منها واترك الباطل؟! أم أنهم شدّدوا في النهي عن قراءتها وأمروا بإتلافها؟!
وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف والأئمة ما يغني عن التماس الحق! من كتب ومقالات أهل البدع المشوبة بالطامات والمحدثات :
قال الله عزوجل :{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌٍِ} [البقرة:61].
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي» رواه أحمد وغيره.
وقال الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم، أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله ﷺ أحدث؛ تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؛ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! لا والله، ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم».
وقيل للأوزاعي : إن رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي : هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل.اهـ «الإبانة الكبرى لابن بطة» (1 / 443).
******
لاسيما وأن أهل البدع أهل خبث ومكر؛فترى كثيرا ممن يكتب في منتدياتهم إذا أراد بثَّ أصل فاسد في الناس تترَّس ببعض أهل العلم؛ فينقل كلاماً له يزعم أنه مختصر وهو في الواقع:
- مبتورٌ بترًا فاحشًا.
- أو محرف قد دسّ فيه عبارات مكذوبة.
- أو أنه خطأ من ذلك العالم.
فإذا قرأه من لا يفقه هذه الأمور تزعزع وأصبح في شك مريب ! وربما زاغ وانحرف والتحق بركب أهل الأهواء! نسأل الله العافية.
* ومن هذا القبيل قراءة ما نشرته بعض المواقع الحزبية أو التمييعية خلال مأساة دماج من المواساة لأهل السنة وإبداء الاهتمام لأمرهم والتوجع لهم؛ فإن الاطلاع على ذلك فيه خطر كبير على عقيدة الولاء والبراء عند السلفي؛ فربما تحركت مشاعره اتجاه أصحاب الموقع ومن يكتب فيه، وجعل الشيطان يسول له أنهم أهل خير، ويهوّن عليه من شأن بدعهم التي أفسدت البلاد والعباد، وربما تمادى الأمر ببعض الناس حتى صار يظن أن الولاء و البراء قد انحصر في دماج؛ فمن أثنى عليها فهو الصديق بغضّ النظر عن بدعه وضلالاته، ومن ذمها فهو العدو! ثم يستمر الشيطان في استدراجه وجعله يكثر من النظر في تلك المواقع، ويخفى المكر ودقيق الشر حتى يوقعه في حبائل فتنتهم يحاول الخلاص فلا يقدر، ويطمع في الانفصال عمّا انتابه من الشكوك فلا يستطيع وربما أشرب شبهاتهم في قلبه وصار منهم نسأل الله العافية.
فالله الله في السلامة فإنه لا يعادلها شيء. ومن تساهل، واتبع هواه فزاغ فلا يلومنّ إلا نفسه .قال الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وَ الله لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (5) } [الصف: 5].
* وبمناسبة ذكر مأساة قلعة أهل السنة في دماج ـ نسأل الله أن يرحم موتاهم ويتقبلهم في الشهداء ويشفي جرحاهم ومرضاهم ويكشف الكرب عن كل مكروب منهم ويعوضهم خيرا في الدنيا والآخرة وينصرهم نصرا عزيزا عمن ظلمهم ـ يجدر التنبيه على أن كثيرا من الناس أيام الحرب جعلوا ديدنهم تتبع الأخبار، وتوسعوا في ذلك توسعا كبيرا حتى صار البعض منهم يتصفح المواقع الإخبارية المليئة بصور ذوات الأرواح! المعروف أهلها بعدم تحري الصحة ولا الصدق في نقل الأخبار وإنما همهم بث ما يوافق وجهاتهم السياسية ولو بتضخيم الأحداث أو التهوين من شأنها بحسب أهوائهم، وبث الإشاعات، ونشر والبلابل والقلاقل في الناس...
فعجبا والله للذين يتتبعون ما ينشره أولئك! والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية[الحجرات: 6]والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"([11]).
فسبحان الله ! أين امتثال مثل هذه النصوص البينة من أولئك الذين أوغلوا في تتبع الأخبار وإشاعتها؟! وما هذا التساهل في قراءة الصحف والمجلات على النت أو غيره ؟! مالكم تجاهلتم تغليظ الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم تصوير ذوات الأرواح؟!
صحيح أن المؤمن يهمه تفقد أحوال إخوانه لغرض نصرتهم ومواساتهم والاطمئنان عليهم لكن الغلو في تتبع الأخبار ولو كانت صحيحة وإشاعتها، وجعل ذلك ديدنا وشغلا شاغلا - لمن لم يتعين عليه الأمر- أمر مذموم منهي عنه لما فيه من مفاسد منها:
- نشر ما يضر المؤمنين إذاعته وإشاعته مما المصلحة في عدم نشره. لكونه من أسرار الحرب وخططها مما ينبغي عدم إطلاع العدو عليه، أوغير ذلك.
في حين أوجب الله عز وجل رد ذلك إلى أهل العلم والرأي والاستنباط.
قال الله تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) } [النساء: 83، 84].
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية الكريمة:" هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
... وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟
ثم قال تعالى: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم".اهـ ([12]).
-
- التشاغل بذلك عما هو أهم في حقك أيها العبد:
فلو عمرت الأوقات التي قضيتها في تتبع الأخبار بالباقيات الصالحات من علم نافع وعمل صالح ودعاء لإخوانك لكان خيرا لك ولهم.
وربما تدرّجت في مراتب الكمال وإصلاح أعمال القلب حتى بلغت منزلة من لو أقسم على الله لأبره فتنفع نفسك والمؤمنين بالدعاء لهم ؛فأنت على خير في كل حال أما تتبع الأخبار فهو اتباع لهوى النفس وتفريط وإضاعة. نسأل الله أن يلهمنا الرشد والسداد.
قال العلامة يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى- ضمن خطبة له أيام الحصار والحرب بتاريخ27ذي الحجة 1434هـ :"...مددا لإخوانكم وإسعافا لمن يستحق ذلك ونصرة ودعاء ودعاء ودعاء، الدعاء هو العبادة لا تغفلوا عنه، إياكم والتشاغل بالحديث ،وبماذا فعلت جبهة كذا ،وماذا فعل فلان،وماذا صنع فلان، وماذا قال من تواصل معك .هذا كله لا ينفع إنما لله سبحانه وتعالى الأمر من قبل {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196]"اهـ المراد.
إن النظر في مواقع الحزبيين تكثيرٌ لسوادهم، وتوقيرٌ لهم:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في «الاعتصام» (1/200) : (فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم، إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء. وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الإسلام بعينه).اهـ
قلت: إن من مقاصد هجر أهل البدع والأهواء إضافة إلى وقاية الهاجر من حبائل فتنتهم زجرُهم عن بدعهم لعلهم يتوبون منها ،وتنفير الناس من أن يسلكوا سبيلهم. ودخول السلفيين مواقع الحزبيين يتنافى وذلك؛ فإن فيه تكثيرا لسوادهم بزيادة أعداد المتصفحين لمواقعهم، وهذا يُنعشهم ويفرحهم ،ويغرر الناس بهم . بدلا من تركهم يموتون كمدا.
* كما أن تتبع طعوناتهم ، والمبالغة في الانشغال بما يرد عليها - ولا سيما من المبتدئين - يجعلهم ينْتَفِخون بمتابعة أهل الحق لما ينشرونه من الضلال، فيزدادون اغترارا بأنفسهم إلا من شاء الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولكن يعلم أنّ الضّلال لا حدّ له، وأنّ العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حدّ معقول... والقول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنّما المطلوب معرفة الحقّ والعمل به". ([13])
فالله الله في تطبيق منهج السلف في أهل الأهواء.والحذر الحذر من التهاون في ذلك. قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) } [الأنفال: 20 - 25].
النظر في مواقع الحزبيين مضيعة للوقت، وطالب العلم والسنة حريص على وقته، مسئول عنه:
إن العمر نعمة عظيمة وهبها الله تعالى لعباده من أجل إقامة توحيده الذي خلقهم له قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62].
والعمر قصير جدا ،مشوب بالمحن والآفات ،مبهم الأطوار والمراحل ، مباغت بالموت، محاسب عليه صاحبه يوم القيامة ؛فحري بالعبد المؤمن أن يقصّر أمله فيه ،ويزهد في كل ما لايعنيه،ويغتنم ساعاته بالأعمال الصالحات الأهم منها فالمهم قبل أن تفاجئه المدلهمات ،ويحول الموت بينه وبين التزود من الحسنات فيندم على ما ضيّع ولات ساعة مندم!
قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} [الزمر: 54 – 58] .
وعن أبي برزة الأسلميّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعن عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وعن مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفيمَ أَنْفَقَهُ، وعن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ). رواه الترمذي وغيره، وهو في "السلسلة الصحيحة" (2/666).
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:" بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ".أخرجه مسلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). أخرجه البخاري.
فالبدار البدار إلى محاسبة النفس، فما فات يستدرك بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي ، وما يستقبل -بإذن الله -بالعزم على الاجتهاد في ابتغاء مرضاة الله والتزود للممات.
والحذر الحذر من الانشغال بما يصدّ عن ذكر الله ويورث الغفلة وقسوة القلب من المحرمات والمكروهات وما الاشتغال بغيره أولى.
ومما لا شك فيه أن تحصيل العلم لا بد له من التفرغ والحزم والجد في التّلقي والحفظ والمذاكرةِ ، وإنفاق الساعات في تصفح الشبكات العنكبوتية ولو كانت لأهل الحق يتنافى وذلك؛ فإن العلم كثير والعمر قصير والصوارف كثيرة فينبغي أخذ الأهم فالمهم من العلوم. إذ أن الإنترنت لا تخرج طلاب علم وعلماء وإنما ينال بمجالسة أهل العلم والهدى حتى يتصل السند بالوحي.
ثم اعلم أن العلوم تتفاضل في نفسها وتتفاضل في حق كل عبد بحسب ما يحتاجه منها؛ وقضاؤك الساعات في الاطلاع على ما ينشر وإن كان علما نافعا وحسنةً وقربةً، قد يفوّت عليك ما هو في حقك أولى أو أوجب. وتفريطك هذا قد يكون:
- من جراء جهلك بمراتب الأعمال وبالفاضل والمفضول منها.
- أو من علمك بذلك ولكن يغلبك هوى نفسك وتطلّعها لمعرفة ما استجد على الساحة فتؤثر الأدنى على الأعلى .
ففي الحالة الأولى تنصح بقراءة ما دوّنه أهل العلم حول مراتب الأعمال وما ينبغي تقديمه منها وما ينبغي تأخيره ،ومن أحسن ما اطلعت عليه في ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين" حول الميزان الصحيح لأفضلية العبادة حيث قال بعد أن ذكر أقوالا في هذا الباب أن الميزان الصحيح أن تعبد الله في كل وقت بما هو أحب إليه في ذلك الوقت:
"فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب .
والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم([14])أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبد الله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلةعمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم ،وإن رأيت العبّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقا القائم بهما صدقا "اهـ باختصار .
هذا عن مراتب الأعمال، أما عن مراتب العلوم فليرجع لمعرفتها إلى كتب آداب الطلب. وبالله التوفيق.
* أما عمن يطيل الجلوس أمام شاشة الحاسوب -لا جهلا منه بالفاضل والمفضول من العلوم في حقه وإنما اتباعا للهوى في إيثار علوم على غيرها- فعلاجه الجد والحزم في ترك هذه الإضاعة وعدم الاستجابة لأهواء النفس، والاستعانة بالله على الصبر على طلب العلم على أصوله وهجر الخمول والكسل واغتنام الأمن والصحة والفراغ التي لا تثبت، ولا سيما في هذا الزمن الذي اشتدت فيه غربة السنة ومعاناة أهلها.
* واعلم أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم ولو بإشغالهم بقربات تفوّت عليهم ما هو أعظم أجرا وأرفع درجة عند الله .وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أن الشيطان يتدرج في إغواء بني آدم وله معه سبع عقبات بعضها أصعب من بعض لا ينجو منه في عقبة إلا وحاول إيقاعه في غيرها:
فأول العقبات: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على:
العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله: من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى كما قال بعضهم تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هذا الضرب فإن سمحت به نصب له أهل البدع الحبائل وبغوه الغوائل وقالوا مبتدع محدث.
فإذا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه على:
العقبة الثالثة: وهي عقبة الكبائر فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوّف به وفتح له باب الإرجاء وقال له الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: "لا يضر مع التوحيد ذنب كما لا ينفع مع الشرك حسنة". والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه لمناقضتها الدين ودفعها لما بعث الله به رسوله وصاحبها لا يتوب منها ولا يرجع عنها بل يدعو الخلق إليها ولتضمنها القول على الله بلا علم ومعاداة صريح السنة ومعاداة أهلها والاجتهاد على إطفاء نور السنة وتولية من عزله الله ورسوله وعزل من ولاه الله ورسوله واعتبار مارده الله ورسوله ورد ما اعتبره وموالاة من عاداه ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب ومعارضة الحق بالباطل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا والباطل حقا والإلحاد في دين الله وتعمية الحق على القلوب وطلب العوج لصراط الله المستقيم وفتح باب تبديل الدين جملة.
فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر والعميان ضالون في ظلمة العمى 24:40 {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه على:
العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر فكال له منها بالقُفْزان وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم أو ما علمت بأنها تكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات ولا يزال يهوّن عليه أمرها حتى يصر عليها فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالا منه فالإصرار على الذنب أقبح منه ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقد قال صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب ثم ضرب لذلك مثلا بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود حتى جمعوا حطبا كثيرا فأوقدوا نارا وأنضجوا خبزتهم فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه".
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه على:
العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات وعن الاجتهاد في التزود لمعاده ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات ولكنه جاهل بالسعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها وقلة المقام على الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري وقدر ما يعوض به التجار فبخل بأوقاته وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح طلبه العدو على:
العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحا لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح وبالمحبوب لله عن الأحب إليه وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرءوسها وسيدها ومسودها فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا ورئيسا ومرءوسا وذروة وما دونها كما في الحديث الصحيح "سيد الاستغفار: أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" الحديث. وفي الحديث الآخر "الجهاد ذروة سنام الأمر" وفي الأثر الآخر إن الأعمال تفاخرت فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن" ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولى العلم السائرين على جادة التوفيق قد أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كل ذي حق حقه.
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها.
ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وظاهر عليه بجنده وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها([15])فإنه كلما جدّ في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به فهو في هذه العقبة قد لبس لَأْمة الحرب وأخذ في محاربة العدو لله وبالله فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمى عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه.
أحدها: قوله :{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدو الله وعدوه. والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه : {وَمَثَلُهُمْ فِي الْاِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له فموافقته فيها من كمال العبودية وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال : "إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان" وفي رواية "ترغيما للشيطان" وسماها "المرغمتين".
فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين والخيلاء والتبختر عند صدقة السر حيث لا يراه إلا الله لما في ذلك من إرغام العدو وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل.
وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول.
وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى".اهـ
* ثم اعلم أن ما يسمى بالإنترنت لا ينبغي التساهل في إدخاله إلى البيوت لما فيه من تعريض من فيها للانحراف والهلاك؛ فإن كان ولا بد فينبغي وجوبا حجب الصور المحرمة والمواقع الانحلالية، وإلا فلا يجوز استخدامه، لأن ما لا يتم ترك المحرم إلا به فهو محرم؛ فسد الذرائع مطلوب ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.هذا مع ما في النت -وغيرها من وسائل الاتصال بعامة- من أضرار صحية على من يبالغ في استعمالها.
وختاما أقول: صدق الإمام ابن بطّة رحمه الله إذ قال: (...فكّرتُ في السبب الذي أخرج أقواما من السنة والجماعة، واضطرّهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق على بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عمّا لا يغني ولا يضرُّ العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه. والآخر: مجالسة من لا تُؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته) «الإبانة» (1/390). قال ابن بطة رحمة الله عليه: (ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونَهم ويسبونَهم - يعني المبتدعة - فجالسوهم على سبيل الإنكار، والرد عليهم؛ فما زالت بِهم المباسطة وخفي المكر؛ ودقيق الكفر حتى صَبوا إليهم([16])).اهـ
وقال الإمام الوادعي -رحمه الله تعالى- بأن دعوة أهل السنة باليمن إنما نجحت بعد توفيق الله تعالى بالتّميّز.اهـ
فترك هذا الأصل الأصيل منذر بالانحدار والانهيار.
فالله الله في منهج السلف عضوا عليه بالنواجذ واصبروا وصابروا فإن العاقبة للمتقين.قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 28، 29].
روى ابن عساكر بسنده إلى الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغتر بكثرة الهالكين ([17]).
وكفى بالله أنيسا وصاحبا ورفيقا ووليا ومعينا على سلوك سبيل {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69].
والحمد لله والفضل كله له وحده أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه:
أم حاتم بنت علي الجزائرية
الاثنين 2 جمادى الأول 1435هـ
([1]) صحيح مسلم (8 /56).
([2])سنن الدارمي (1 /121) .
([3])سنن الدارمي (1 /120).
([4]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1/133) .
([5]) الإبانة لابن بطة (2/444) .
([6]) الإبانة لابن بطة (2/447) .
([7]) الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص (125) .
([8]) " مناقب الشافعي " (1/469) .
([9]) مصنف عبدالرزاق (11/125).
([10]) تاريخ الإسلام (5/263).
([11]) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني في الصحيحة(2025).
([12]) تيسير الكريم الرحمن [ص 190].
([13]) انظر: "الفتاوى2/357-358"، و"الدّرء8/51" لشيخ الإسلام رحمه الله.
([14]) أي ما كان قد ذكره من أقوال الناس المرجوحة في أفضل العبادات وأنفعها.
([15]) إلا بالتقوى والصبر والتوكل على الله قال الله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 120].(أم حاتم)
([16])فحذار حذار حذار من مجادلة المبتدعة .ومن علمتموه فُتن ممن كان على السنة فخلوه وما اختار لنفسه ،ولاتعرضوا أنفسكم للهلكة بمناظرته لاتصيبنكم أدواؤه التي تتجارى به كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. (أم حاتم)
([17]) تبين كذب المفتري(ص:331).
تعليق